المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تفسير أيسر التفاسير**** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )


الصفحات : 1 2 [3] 4 5 6 7 8

ابوالوليد المسلم
16-04-2021, 07:38 PM
وجوب القتال تحت راية إمام واحد واتباع أوامره
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! وهنا مناسبة كبيرة: أمرنا الله تعالى أن نقاتل في سبيله هيا نقاتل، كيف نقاتل؟ يجب أن نطيع ربنا بما أمرنا به، كيف نقاتل؟ من نقاتل؟الجواب: نقاتل تحت راية إمام بايعته أمة الإسلام، نقاتل تحت إمام رباني بايعته أمة الإسلام، هذا الإمام تحمل المسئولية، وأصبح أهلاً لها فهو بحسب قدرته، وبحسب قدرة الكافر الذي يريد أن يغزو داره، وينشر رحمة الله في بلاده، فإن رأى أنه قادر بجيشه الرباني الإيماني الإسلامي حينئذ ماذا يصنع؟ أرشدنا الله عز وجل إلى كيفية الجهاد، وهو من أخريات ما نزل، اسمعوا من سورة التوبة المدنية، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123] لا الفاجرين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [التوبة:123] لبيك اللهم لبيك، قَاتِلُوا [التوبة:123]، من؟ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]، لم الذين يلوننا؟ لأنهم أقرب إلينا، وأولى بالمعروف ممن هم بعيدون عنا، فلنقاتل الأمم والشعوب التي تلي بلادنا، فإذا دخلت هذه الأمة يصبح وجودنا وراءها هم الذين يلوننا، وهكذا حتى ننتظم هذه الأرض بدعوة الله عز وجل، وهناك مثل ضربناه عشرات المرات، انظر تأمل: بركة واسعة مملوءة بالماء خذ حصاة حجر وارمها في وسطها؛ فإن البقعة التي وقعت فيها الحجر على قدرها، ثم تأخذ في الاتساع إلى أن يصل الاضطراب إلى أطراف البركة، هذا مراد الله من هذه الآية: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ [التوبة:123] تلينا إيطاليا فرغنا منها دخلت في رحمة الله وحدودنا ألمانيا، دخلت ألمانيا وحدودنا يوغسلافيا، قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123] شدة، لا يحل أبداً للمسلمين أن يكونوا أضعف من عدوهم الكافر، بل يجب أن يكونوا أقوى وأقدر؛ لأن الكافر ضائع هابط كالميت، والمؤمنون أحياء والله عز وجل يرشدهم ويهديهم إلى السبيل القويم، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ [الأنفال:60].إذاً: حتى لا يلتبس على السامعين والسامعات، نحن مأمورون بأن نقاتل الليلة وإلا لا؟ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:74] كيف نقاتل؟الجواب: لا بد من بيعة إمام مسلم، بيعة كيف تتم؟ نعم لا إقليمية ولا عنصرية ولا قبلية ولا وطنية، المؤمنون أمرهم واحد، المسلم أخو المسلم، بايعناك يا إمام المسلمين لا يحل لمؤمن أن يقول كلمة سوء تشير إلى عدم الطاعة أو الخروج عن إمام المسلمين، وإذا نفخك إبليس وانتفخت فاستعذ بالله منه وانزل حتى تطمئن، أنت ما أطعت إمام المسلمين لذاته أنت أطعته لله هو الذي أمرك، فإذا وجد الإمام -كما قلنا- يطبق هذه الآية الكريمة: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ [التوبة:123] كيف؟ إن كانت لنا سبل تحمل الرجال والسلاح نرسيها على الشاطئ المقابل له، إن كانت جيوشنا تمشي على أرجلها أو تركب على خيولها كذلك ننزل بحدود هذه الدولة أو هذه الأمة أو هذا الإقليم الكافر، وتجري سفارة بيننا وبينهم، وهي سفارة ذات ثلاثة بنود: يا أهل هذا الإقليم! جئناكم بسم الله ربنا وربكم لننقذكم مما أنتم فيه من الخبث والشر والفساد والظلم والطغيان كفار -هذا في الدنيا- ولننقذكم من عذاب الآخرة التي أنتم سائرون إليها ليل نهار، فادخلوا في رحمة الله، قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، واعبدوا الله بما بين الله ورسوله فتزدهر بلادكم وتستنير ويختفي الظلم والخبث والشر والفساد والجهل والباطل بكل أنواعه، والله العظيم، فإن قالوا: مرحباً تفضلوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، أمست تلك البلاد أو أصبحت وهي جزء من الخلافة الإسلامية، ويأخذ رجالنا في تعليم الرجال والنساء والأطفال، التعليم الحقيقي الذي ينتج زكاة النفس، وتهذيب الروح، ورفع الآداب والأخلاق.فإن رفضوا قالوا: لا نستبدل بديننا ديناً آخر، قلنا لهم: إذاً اسمحوا لنا أن ندخل معلمين مربين مهذبين، بمعاهدة بيننا وبينكم أنتم في ذمتنا، ونحن نحمي بلادكم، ونصون أموالكم وأعراضكم ووجودكم، ولا ترفعوا سلاحاً أبداً نحن الحماة، فإن قالوا: تفضلوا أصبح هذا الإقليم في ذمة المسلمين لا يؤذى فيه عبد ولا يظلم آخر، لا رجل ولا امرأة ولا طفل، فإذا غزاهم عدو نحن الذين نقاتل هذا العدو، ونقول لهم: الزموا أماكنكم نحن المسئولون عن حفظ دمائكم وأعراضكم وأموالكم، فما هي إلا أيام أو أشهر أو أعوام إلا ويأخذ أهل البلاد يدخلون في رحمة الله يوماً بعد يوم؛ لأنهم يشاهدون الأنوار، وقد عاشوا في الظلام وشاهدوا آثاره من الشر والخبث والفساد؛ لأن أولئك المؤمنون الذين نزلوا في ديارهم تصور كيف يكونون كـأبي هريرة كـمعاذ بن جبل كفلان، لا ينطق إلا بالمعروف، ولا يتناول إلا بالمعروف، ولا يقول إلا المعروف، فيعشقونهم ويحبونهم ويدخلون في قلوبهم، لا يلبثون أن يدخلوا في رحمة الله.فإن رفضوا، وقالوا: لا نقبل إلا بالسيف هو الذي يحكم بيننا وبينكم، هنا وجب القتال، جيوشنا متهيئة والإنجادات متصلة، إذاً فلنقاتل في سبيل الله، فإن انتصرنا وفزنا فالجنة، وإن انهزمنا لذنوبنا نصحح خطأنا ونعود مرة أخرى لقتال هذا الكافر.أتدرون ما الخطأ؟ اسمعوا: أين كسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين شج وجهه؟ أين دخل المغفر في رأسه؟ أين استشهد عمه حمزة رضي الله عنه؟ في معركة أحد، ما سبب هذه الهزيمة، اقرءوا كلام الله عز وجل: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، كيف ننهزم وننكسر؟ هو أي: الانهزام والانكسار من عند أنفسكم.ماذا فعلوا: شربوا الخمر، خرجوا على الإمام، تركوا الصلاة؟ كل ما في الأمر لما انهزم المشركون رآهم الرماة الذين وضعهم القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم على جبل الرماة وقال لهم: لا تبرحوا أماكنكم انتصرنا أو انهزمنا، لكن وساوس إبليس لما شاهدوا المشركين مهزومين فارين يتركون أموالهم وغنائمهم وما معهم وأخذ المسلمون يجمعون الغنائم، قالوا: لم نبق نحن، انتهت المعركة، قال قائدهم عبد الله : أمرنا رسول الله ألا نبرح أماكننا، قالوا: فسر الموقف، أمرنا بالثبات من أجل الانتصار وإلا لا؟ وقد انتصرنا، ما الفائدة في بقائنا؟ هذا يسمى تأويلاً وإلا لا؟ وباطل، فهبطوا ولم يبق إلا عدد قليل قتل وكانت الهزيمة، واقرءوا: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153] الآيات، معصية.ولطيفة: تغمد الله الشيخ رشيد رضا برحمته ذكرها في تفسيره المنار: قال: يقول شيخي محمد عبده : رأيتني في المدينة والرسول صلى الله عليه وسلم على بغلته والجيش الإسلامي وراءه وهو يقول: لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة على النصر، عائد من أحد مع الهزيمة التي أصابتهم وهو يقول: لو خيرت، أي: لو خيرني ربي بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة، لماذا؟ لأنهم لو انتصروا مع الخروج عن طاعة الرسول يقولون: نحن أولياء الله، نقاتل في سبيل الله، كيف ننهزم؟ وحينئذ لا ينتصرون في معركة إذا استباحوا ما حرم الله معتمدين على كونهم أولياء الله ومع رسول الله، عرفتم؟ ذنب واحد.. خطيئة واحدة أرتهم ما يدبره الله لأوليائه.إذاً: ماذا نصنع الآن؟ يا عباد الله كيف نقاتل؟ هيا نسلم قلوبنا ووجوهنا لله ونقبل في صدق على الله، وينمسح تماماً من قلوبنا العنصريات والقبليات والشهوات والأهواء والماديات، ونقبل على الله، أربعين يوماً لا أقول عاماً وأمة الإسلام أمرها واحد، عرفت الطريق، وقالوا: بايعناك يا إمام المسلمين، ولا يتخلف واحد، انتهت الأطماع والشهوات والدنيا والتكالب عليها، وإذا بهم أمة واحدة، حينئذ بحسب قدرة إمام المسلمين يطبق قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123].
حكم القتال الدائر بين المسلمين في أفغانستان والجزائر
أين أخي؟ أين ضيفي الليلة الجزائري؟ يبكي، منذ أسبوعين قتلت أسرته بكاملها رجالاً ونساء وأطفالاً في الديار الجزائرية، الرجل في عمر خمس وسبعين سنة، والمرأة حوالي خمس وستين، وأطفالهم بعض الأطفال في عامين ونصف، أهذا قتال في سبيل الله؟ أبكاني وآلمني أكثر بعدما انتشرت دعوة الإسلام بفضل الله عز وجل، وبسبب جماعة التبليغ الهندية، وأصبحت فرنسا فيها قرابة الثلاثة آلاف مسجد، وانتشر الإسلام في كل أوروبا بالدعوة الهادئة الربانية السليمة، يقول الرجل: أصبحنا في فرنسا لا نقول: نحن مسلمون، يقولون له: مسلم! نحن المسيحيون ما نقتل النساء، ما نذبح الأطفال، وأنتم تقتلون وتذبحون النساء والأطفال، حتى العابدات والرهبانيات، وإننا لننتظر غضبة في أوروبا فيلقون بكل المسلمين في البحر، ويبعدونهم من ديارهم، ما سبب هذه المحنة؟سببها الجهل، أمة أعرضت عن كتاب الله، أعرضت عن هدي رسول الله، ابتعدت عن النور فعاشت في الظلام فأخذ الرجل يقول: الجهاد، كيف نجاهد؟ نجاهد هؤلاء الحكام الكفار، وانتشرت تلك المحنة المسماة بالتكفير والهجرة، وغذاها ونماها وزاد في ظلامها المجوس واليهود والنصارى من وراء الظلام، ومددنا أعناقنا وأصبح هيجان على من؟ على المسلمين، على قتال المسلمين، ونسوا وأبوا أن يفهموا أن المسلمَين إذا التقيا بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار، نسوا أن من كفَّر مؤمناً فقد كفر، جهلوا أن الحاكم إذا لم يحكم بالشريعة ولم يقل هي باطلة ولا لا تنفع ولكن قال: ما عرفنا، هكذا وجدنا الحكم، فعلنا. تكفيره يكفر من كفره، لا يكفر مؤمن إلا إذا صاحب قوله اعتقاده، لو قال: أنا لا أؤمن بالإسلام ولا بشرائعه ودينه فهذا كفر، وقل: إنه كافر، أما وهو يشهد أن لا إله إلا الله ويقيم الصلاة ويصوم رمضان وتقول كافر، وإذا أنكرت أنت وقلت: كيف؟ قال: أنت الكافر، وسادت هذه الفكرة، الحكام كفار، والعلماء داهنهم وسكتوا كفار، والأمة ما رفعت السلاح وقاتلت وهي راضية فهي كافرة، ولم يبق إيمان ولا إسلام إلا جماعة التكفير، وانتشرت في العالم الإسلامي واستباحت سفك الدماء وقتل الأرواح وإزهاقها.إذاً: ما المخرج؟ إن أردتم أن يعبد الله عز وجل: ادعوا عباده إلى عبادته، لا تطلعوا إلى الكراسي وإلى الحكم والسيادة تحت شعار يعبد الله، أمامكم أمم في حاجة إلى من يلقنها لا إله إلا الله، وقد قلت لكم: دعوة أولئك الهنود جزاهم الله خيراً نشرت الإسلام في أوروبا وفي أمريكا بالاغتيالات.. بالتفجير.. بالسب والشتم، بماذا؟ بالابتسامة والكلمة الطيبة، ادعوا إلى الله ليعبد، لا الحاكمية، وزغرد إبليس في آذانهم، واحتل قلوبهم، وأصبحوا لا يرون مسلماً، العلماء يقول لهم أعداء الإسلام: هؤلاء ماذا؟ علماء السلاطين، العالم الفلاني عميل.. ذنب، يعمل لكذا، والأمة هابطة تربي ذلك الكلام وتفرح به، وأخذنا في المحنة فظهرت أول ما ظهرت في الأفغان بكينا وصرخنا وجمعنا الأموال، وقلنا: الجهاد، ونستغفر الله، وعرضنا عليهم أن يبايعوا إمامهم، وأن يلتفوا حول رايته ليذوب فيها كل مؤمن ومؤمنة، فيقاتلون بسم الله وتحت راية لا إله إلا الله، رفضوا، كل جماعة وكل حزب تقاتل باسمها، وتجمع الأموال لها، وتعذب المؤمنون، وقتل من الشرق والغرب الشبان والرجال، وانتهت على الحرب الدائرة الآن، ما سببها؟التكفير، والفهم السيئ، والجهل الهابط، حرام أن تقاتلوا بدون إمامة، الإمام تبايعونه بنسائكم ورجالكم، تمشون وراءه إن قال: احبسوا فاحبسوا، إن قال: تقدموا تقدموا.هذه آية من الآيات وإلا لا؟ وهم عنها عميان لا يبصرون، صم لا يسمعون، بكم لا ينطقون، وهاهم يثيرونها من بلد إلى بلد، وانتهت إلى الديار الجزائرية، لقد هلك من النساء والأطفال والرجال قرابة الستين ألفاً خلال أربع سنوات، هذه حروب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين أو ما يقاربها القتلى من الجانبين من الكافرين والمؤمنين ألفان وخمسمائة قتيل ما بينهم امرأة ولا طفل، وهذه الستون ألفاً في أربع سنوات لا تسأل عن أعداد النساء والأطفال فيها، ومن القتلى رهبانيتين مسيحيتين يقتلان، بأي إيمان أو إسلام تقتل المرأة والمسيحية؟ من أين لك أن تقتل الأطفال وتمزق أكباد أمهاتهم وآبائهم؟ هذا هو الإسلام؟ أصبح الآن الكفار يسخرون من الإسلام، من دفعهم إلى هذا؟ بل نرغبهم فيه ونحببه إليهم ونقدمه لهم طاهراً منيراً أصبحوا يرعبون، مسلم يذبح هذا.والكلمة الأخيرة أقولها ويا حبذا لو يغتالوني ويقتلونني، والله لا أسعد لي من ذلك، أقول: لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة في أي الديار أن يسمع كلمة من هذا النوع، لا طعن ولا سب ولا نقد أبداً، لا يسمعون من مؤمن ولا مؤمنة كلمة تؤيد موقفهم أو تشجعهم على باطلهم ومنكرهم، ومن جاءه منهم من يسأل ويريد أن يعرف الحقيقة يجب أن تعرفه أن هذا ظلم وجهل وكفر وفسق وخروج عن طاعة الله ورسوله، وصاحبه خالد في جهنم، يجب على كل مؤمن ومؤمنة في أي بلد من العالم الإسلامي أو خارج العالم الإسلامي ألا يقف إلى جنب هؤلاء الخوارج الكفرة المجرمون.. أن يقف إلى جنبهم ولو بكلمة واحدة، حتى يتوب من يتوب ويرجع من يرجع إلى الصواب ويبكي ويندم طول حياته عن الدماء التي أراقها والأرواح التي أزهقها ولو بكلمته، الذي ضرب بالمسدس أو فجر كذا كالذي وافقه وساعده بكلمة.هل سمعتم يا عباد الله؟ أو تقولون: الشيخ عميل وذنب وكذا؟ يجب أن ننتزع هذه الأوصاف الهابطة من أوساط الهابطين والضلال والكافرين والمجرمين، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة في مملكة النور وهداية المسلمين أو خارجها من ديارنا أن يؤيد هذا الباطل بكلمة، ومن أيده بكلمة فهو مساهم مشارك في كل الأرواح التي تزهق والدماء التي تسيل، ولو اجتمع -كما قال عمر - أهل صنعاء على واحد لقتلتهم عليه.مرة ثانية: حاصروهم ضيقوا الجو عليهم.. اخنقوهم بألا تذكروهم بخير، وألا تلتفوا إليهم، لا في الجزائر ولا في المدينة ولا في باكستان ولا في إستانبول ولا في أي بلد، ما هكذا الدعوة إلى الله، ما هكذا القتال في سبيل الله، ولنقبل في صدق على دعوة الله، ما أحوج المسلمين في ديارهم، هيا نصلح أمر المسلمين قبل أن نصلح أمر الكافرين، ديار المسلمين علاها الفسق والفجور والظلم والخبث والشر والفساد، ونريد أن ننقل الإسلام إلى إيطاليا، هيا نصلح أولاً ديارنا.. نطهر ديارنا فإذا لاحت أنوارنا ورآها العالم، والعالم الآن كأنه بلد واحد، والله ليقبلون على الإسلام بأنفسهم بدون ما خوف ولا تهديد، في حاجة إلى أن يكملوا ويسعدوا، ملت الأمم البشرية هذه الحضارة الهابطة فلنريهم هذا هو الإسلام صدق وفهم.. إخاء.. تعاون.. مودة.. محبة.. طهر.. صفاء.. تلاقي على ذكر الله. معاشر المستمعين! سمعتم هذه الكلمة: لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة في أي ديار العالم يقول كلمة تؤيد هذه الفئات الهابطة التي أشعلت النار وما زالت تشعلها حتى في الحرمين والعياذ بالله تعالى.اللهم إنا نبرأ إليك من صنيعهم، اللهم إنا نبرأ إليك من صنيعهم، اللهم إنا نبرأ إليك من صنيعهم، واللهم لا تجعلنا أبداً ممن يميل حتى بقلبه إليهم، واللهم تب عليهم وعلينا معهم.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)

ابوالوليد المسلم
16-04-2021, 07:43 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (41)
الحلقة (264)
تفسير سورة النساء (46)


بعد أن أمر الله عز وجل عباده المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم ويستعدوا لملاقاة عدوهم، أمرهم بعدها بأن يقاتلوا في سبيله سبحانه، بأن يقدموا أموالهم وأرواحهم طلباً لمرضاته سبحانه، فيقاتلون من لا يؤمن بالله ولا بلقائه بعد أن يدعوهم إلى الإيمان به والتوبة إليه، وقد بين الله لهؤلاء المؤمنين المجاهدين ما ينتظر الواحد منهم من الأجر العظيم والثواب الجزيل في الدنيا والآخرة.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).اللهم حقق رجاءنا، وأعطنا ما طلبناك مولانا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك!وها نحن مع سورة النساء المدنية المباركة، ومع هذه الآيات الثلاث التي مررنا بها بالأمس، ولم نعطها حقها من الدراسة، فنعيد تلاوتها ودراستها مرة أخرى، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:74-76].
شرح الكلمات
مفردات هذه الآيات الثلاث:ما المراد بسبيل الله في قوله تعالى: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:74]؟[ سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:74] الطريق ] الموصل بالسالكين[ الموصلة ] بهم [ إلى إعلاء كلمة الله ] بمعنى:[ بأن يعبد وحده، ولا يضطهد مسلم في دينه ولا من أجل دينه ].هذه هي سبيل الله. فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:74]، ما سبيل الله؟ قال أهل التفسير: سبيل الله الطريق الموصلة بالسائرين عليها السالكين فيها، تصل بهم إلى أي غاية؟ قال: إلى إعلاء كلمة الله، كيف تعلو كلمة الله؟ ما معنى: إعلاء كلمة الله؟الجواب: بأن يعبد الله وحده، لا يعبد عيسى ولا العزير ولا الأوثان ولا الأصنام ولا النار ولا الكواكب ولا الشهوات ولا الأهواء، ولكن يعبد الله تعالى وحده، ما معنى: يعبد وحده؟ يعظم.. يكبر.. يطاع.. يحب.. يذل له.. يطرح بين يديه.. تتعلق به القلوب.. لا تلتفت إلى سواه.. يطاع فيما يأمر به وفيما ينهى عنه، مع حبه غاية الحب وغاية التعظيم، نقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمته، ومن أجل ألا يضطهد مسلم في دينه ولا من أجل دينه أيضاً.[ يَشْرُونَ [النساء:74] ].ما معنى: (يشرون)؟ بالأمس فسرناها.معناها:[ يبيعون؛ إذ يطلق الشراء على البيع ].شرى فلان السيارة الفلانية بمعنى: اشتراها، وشرى فلان السيارة بمعنى: باعها، يجوز استعمال شرى في البيع والشراء، أما اشترى بالافتعال والزيادة فمعناه: أخذ وأعطى.وهنا لطيفة أشرنا إليها بالأمس: لم التعبير بيشرون هنا؟ ليحتمل معنيين:المعنى الأول: أولئك الذين كانوا يهربون من الجهاد، سبق الحديث عنهم وإلا لا؟ إذا فاز المجاهدون بالغنيمة تأسفوا وتحسروا: يا ليتنا كنا معهم، وإذا كانت الأخرى فرحوا: ما خرجنا.. نجونا، فدعاهم الله: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:74] أولئك الذين شأنهم كذا وكذا، أولئك الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النساء:74] يبيعون الآخرة بالدنيا، يشرون هنا بمعنى: يشترون الحياة الدنيا بالآخرة؛ لأنهم سلموا الآخرة وتركوها ولم يعملوا لها، ويعملون لدنياهم، معنى هذا أنهم باعوا الآخرة بالدنيا، وهذا صالح، والمعنى الأول وهو العام: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:74] من هم؟ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النساء:74] يبيعونها رخيصة لا قيمة لها، ويأخذون الآخرة بدلاً عنها، هذا السر في التعبير بيشرون لا يشترون، لو قال: يشترون وجه واحد، والقرآن حمال وجوه.قال: [ يَشْرُونَ [النساء:74] يبيعون إذ يطلق الشراء على البيع أيضاً. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ [النساء:75] ] من هم المستضعفون؟قال: [ المستضعف الذي قام به عجز ] بدني أو مالي أو قبلي [ فاستضعفه غيره فآذاه لضعفه ].والمراد من هؤلاء المؤمنون في مكة والنساء والأطفال، المؤمنون محاصرون مضايق عليهم لا يسمح لهم أن يقول أحدهم لا إله إلا الله، والنساء عاجزات والأطفال كذلك، وكان عبد الله بن عباس عندما تقرأ هذه الآية يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين في مكة.قال: [ الْقَرْيَةِ [النساء:75] ].ما معنى: (القرية)؟ في اصطلاح الجغرافيين المعاصرين القرية: بنيات معدودة ذات ألف نسمة وألفين، وفي الإسلام القرية الحاضرة العاصمة المدينة الكبرى، مشتق من التقري الذي هو التجمع، نأخذ بتعاليم القرآن أو تعاليم الجغرافيين اليهود والنصارى؟قال: [ القرية في عرف القرآن: المدينة الكبيرة والجامعة، والمراد بها هنا مكة ].المراد منها في هذه الآية مكة إذ قال تعالى: رَبَّنَا [النساء:75] أي: يا ربنا، أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا [النساء:75] قبل فتح مكة هي مكة.قال: [ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ [النساء:76] ]. ما معنى: (في سبيل الطاغوت)؟[ أي: في نصرة الشرك ومساندة الظلم والعدوان ونشر الفساد ].بين الناس، الشيطان وأولياؤه يقاتلون من أجل أن يشرك بالله في عبادته، ومن أجل مساندة الظلمة، ومن أجل العدوان ونشر الخبث والفساد؛ إذ الشيطان مهمته الشر والفساد.
معنى الآيات
قال: [ معنى الآيتين: بعدما أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم ].قال وقوله الحق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا [النساء:71].[ بعدما أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم وهو الأهبة للقتال ].والاستعداد له.[ أمرهم أن يقاتلوا ].أمرهم أولاً بأخذ الأهبة والاستعداد؛ فأخذوها وتهيئوا للقتال، لا أننا نأخذ الأهبة ونتهيأ ولا نقاتل، ما الفائدة إذاً في هذه الأهبة؟[ فقال: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [النساء:74] أي: يبيعون الدنيا ليفوزوا بالآخرة وهم ] من هم؟[ المؤمنون حقاً ] لا المنافقون ولا المشركون والكافرون، بل المؤمنون حقاً وصدقاً.قال: [ فيقدمون أموالهم وأرواحهم طلباً للفوز بالدار الآخرة، يقاتلون من لا يؤمن بالله ولا بلقائه بعد أن يدعوه إلى الإيمان بربه والتوبة إليه ].وقد بينا هذا وعرفناه: ترسوا سفننا على شاطئ الإقليم الفلاني نراسلهم: إما أن تدخلوا في الإسلام، أو تسمحوا ندخل نحن ننشر الإسلام، أو الحرب والقتال، هذه تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: [ ثم أخبرهم أن من يقاتل استجابة لأمره تعالى فيقتل، أي: يستشهد، أو يغلب ] العدو وينتصر عليه [ وينتصر على كلا الحالين فسوف يؤتيه الله تعالى أجراً عظيماً -ألا- وهو النجاة من النار ودخول الجنة ] دار الأبرار.[ هذا ما دلت عليه الآية الأولى ].وهي قوله تعالى: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:74].[ أما الآية الثانية:فإن الله تعالى بعدما أمر عباده ] أي: المؤمنين [ بالجهاد، واستحثهم على المبادرة وخوض المعركة ].(استحثهم) على ماذا؟ (على المبادرة وخوض المعركة).[ بقوله: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:75] ].أي مانع منعكم؟ كيف لا تقاتلون؟ استفهام تعجبي وإنكاري.[ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:75] ليعبد وحده ويعز أولياؤه ].ليعبد أولاً وحده وليعز أولياءه، ما يبقى استضعاف للمؤمنين وتعذيب لهم.قال: [ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ [النساء:75] الذين يضطهدون من قبل المشركين ويعذبون من أجل دينهم حتى صرخوا وجاروا بالدعاء إلى ربهم قائلين: رَبَّنَا [النساء:75] ] أي: يا ربنا [ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [النساء:75] ] أي: [ يلى أمرنا ويكفينا ما أهمنا، وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [النساء:75] ينصرنا على أعدائنا، أي شيء يمنعكم أيها المؤمنون من قتال في سبيل الله، لُيعبد وحده، وليتخلص المستضعفون من فتنة المشركين لهم من أجل دينهم؟ ].أي شيء يمنعكم؟ لا شيء.[ثم في الآية الثالثة أخبر تعالى عباده المؤمنين حاضاً لهم على جهاد أعدائه وأعدائهم ].أعداء الله وأعداء المؤمنين الكافرون المشركون الظالمون المعتدون.[ بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:76]؛ لأنهم يؤمنون به وبوعده ووعيده ].بوعده لمن؟ لأوليائه بدار السلام، ووعيده لمن؟ لأعدائه بدار البوار النار -والعياذ بالله- هناك فرق بين الوعد والوعيد وإلا لا؟ الوعد بالخير والوعيد بالشر، قاعدة عامة في لغة القرآن.قال: [ لأنهم يؤمنون به وبوعده ووعيده، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ [النساء:76] وهو الكفر والظلم؛ لأنهم لا يؤمنون بالله تعالى ولا بما عنده من نعيم، ولا بما لديه من عذاب ونكال ].أي: في الدار الآخرة.[ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ [النساء:76] ] من هم؟ [ وهم الكفار، ولا ترهبوهم ] لم؟ [ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ [النساء:76] كان وما زال ضَعِيفًا [النساء:76]، فلا يثبت هو وأولياؤه من الكفرة أمام جيش الإيمان أولياء الرحمن ].

يتبع

ابوالوليد المسلم
16-04-2021, 07:43 PM
الفرق بين المقتول في سبيل الله والعائد بالغنيمة
هنا لطيفة:قال: [ ظاهر الآية التسوية ] أي: المساواة [ بين من قتل شهيداً وبين من انتصر ورجع بنفسه ] من المعركة.هناك ظاهرة ينبغي أن نتأملها: ظاهر الآية التسوية بين من قاتل وقتل، وبين من قاتل وانتصر وعاد حتى بالغنيمة، وذلك في قوله: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ [النساء:74] كلاهما على أجر واحد، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:74]، في تسوية بين من قتل وبين من عاد منتصراً؟ هذا الظاهر، والسنة النبوية تفصل وتبين، كل مجمل في القرآن يحتاج إلى بيان رسول الله بينه؛ إذ هي مهمته، أما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، المجمل في القرآن الذي يحتاج إلى بيان وتفصيل معهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: [ وهناك حديثان أحدهما يقتضي التسوية وآخر ينفيها، فالأول ] الذي يقتضي التسوية [ حديث أبي هريرة ] إذ فيه يقول صلى الله عليه وسلم [ ( تضمن الله لمن خرج في سبيله ) ] تضمن من الضمانة، ضمن له [( تضمن الله لمن خرج في سبيله ) ] أي: إلى الجهاد [ ( لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي، وإيماناً بي، وتصديقاً برسولي ) ] ما خرج لأي معنى آخر، لا وطنية.. لا مال.. لا سمعة.. لا شهرة.. لا انتصارات أبداً، خرج هكذا يريد وجه الله ونصرة دينه.مرة ثانية: اسمعوا لفظ الحديث: ( تضمن الله لمن خرج في سبيله ) أي: في سبيل الله، ( لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي، وإيماناً بي، وتصديقاً برسولي ) محمد صلى الله عليه وسلم [ ( فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر وغنيمة ) رواه مسلم ].هذا ضمان الله، ( علي ضامن أن أدخل الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرجه منه نائلاً ما نال من أجر وغنيمة )، هذا الحديث الأول أخرجه مسلم .والثاني يقول: ( وما من غازية ) امرأة غازية، أو جماعة غازية؟ جماعة، ( ما من غازية ) لم الرسول يقول غازية؟ كان يقول: غزاة؛ لأن المرأة ما تغزو، ولا نسمح لها أن تغزو، لا تغزو المرأة أبداً، مهمتها الطهي والفراش وتربية الأولاد من بنين وبنات، ما تقاتل، ضعيفة البنية، رقيقة الشعور والحواس، منزلتها عالية؛ لأنها تنجب عباد الله وإماءه. فالرسول عارف معرفة أن المسلمين ما يفهمون من غازية أن المرأة تغزو، يقول صلى الله عليه وسلم: ( ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة وبقي لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم ) . مرة ثانية: غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة ينتصرون ويأخذون الغنائم كذا وإلا لا؟ إلا تعجلوا ثلثي أجرهم، ثلثي الأجر أخذوه في الغنيمة والثلث الباقي مقابل جهادهم وغزوهم إلا تعجلوا ثلثي الغنيمة، أي: الأجر، ويبقى لهم الثلث الثلثان الأموال التي كسبوها والنصر الذي حصلوا عليه، والثلث الآخر أجر الآخرة. قال: ( وإن لم يصيبوا غنيمة ) خرجوا للغزو وما أصابوا غنيمة ( تم لهم -ماذا؟- أجرهم) كاملاً، وإذا عادوا بشيء من المال ما تم لهم أجرهم كاملاً، كذا وإلا لا؟ والجمع بين الحديث الأول والثاني قال: [ أن من غزى ناوياً الأجر والغنيمة] خرج من بيته ناوي الأجر والغنيمة يريد أجر الدار الآخرة والغنيمة يكسبها، نيته ازدوجت وإلا لا؟ أصبح ينظر بجهتين يريد الأجر ويريد الغنيمة، إذاً [ من غزا ناوياً الأجر والغنيمة، ثم غنم وسلم من القتل نقص أجره في الآخرة؛ فلم تكن درجته كالذي استشهد ولم يغنم، ولكن الذي نوى الأجر دون الغنيمة أيضاً والسبب الفارق قال هو اشتراك النية وعدم خلوصها ]. خلاصة القول: من خرج ناوياً الجهاد في سبيل الله لم يخطر بباله غنيمة ولا مالاً، هذا إن استشهد أو غلب وانتصر أجره كامل تام واف، وإن هو خرج يريد وجه الله عز وجل وما استشهد ولا غنم أجره كامل، غزت الغازية ما انتصرت.. ما مات منهم أحد ولا حصلوا على غنيمة، أجرهم كامل.والذي يخرج من بيته والرمح في يده يريد نصرة الإسلام، ويريد أيضاً الحصول على مغنم، فهذا إن حصل على مغنم له ثلث الأجر فقط، والثلثان أخذهما في الغنيمة.والدعوى من وراء هذا: أن نخلص لله أعمالنا، لا نلتفت إلى أموال العدو صامتة أو ناطقة، ولا نقصدها بقتالنا، ولكن نريد فقط أن ننقذ تلك الأمة من النار، وأن نقودها إلى شواطئ السلامة والنجاة من عذاب الله. ونية أخرى: أننا نريد أن يعبد الله نتملق الله ونتزلفه بأن نأمر عباده بعبادته ليعلي درجتنا ويرفع مقامنا عنده، وكله خير وصلاح. رابعاً: قال [الإجماع على وجوب تخليص الأسرى من المسلمين بالقتال أو بالمال] وأشرنا إلى هذا أمس، إذا أسر مؤمنون قلوا أو كثروا في غزوة غزوناها وجهاد جاهدناه.. لا يحل للمؤمنين أن يتركوا إخوانهم أسرى في أيدي الكفر يعذبون ويعانون من البلاء، يجب أن نغزو تلك البلاد لنستخلصهم، وإن طلبوا منا أموال أخرجنا أموالنا ولو كلها من أجل إنقاذ مؤمن يعبد الله عز وجل. وهذا يدل على كرامة المؤمن. أي نعم، المؤمن الحق بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا لو وضعناه في كفة ميزان -أيام كانوا يزنون بالكفة الآن يزنون بآلات أخرى- ووضعنا كل الكفار وبلايين الكفار في كفة والله لرجحت كفة المؤمن، فلهذا المؤمن عزيز.
هداية الآيات
قال: [هداية الآيات.من هداية الآيات: أولاً: فرضية القتال في سبيل الله] وجوب القتال في سبيل الله [ولأجل إنقاذ المستضعفين من المؤمنين نصرة للحق وإبطالاً للباطل].أية آية دلت على هذا الحكم فرضية القتال؟ أول كلمة فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:74] أليس هذا أمراً؟ [ثانياً: المقاتل في سبيل الله باع دنياه واعتاض عنها بالآخرة ولنعم البيع] ( ربح البيع أبا يحيى ) ، هذه كلمة تغنى بها الرسول صلى الله عليه وسلم ( ربح البيع أبا يحيى )، هذا صهيب الرومي نسبة إلى بلاد الروم.. الشام وما وراءها، هذا كان صائغاً أو حداداً -والعبارات واحدة- في مكة، لما ظهر الإسلام وأرسل رسولنا صلى الله عليه وسلم آمن ودخل في الإسلام، حتى قال المشركون هذا الذي يقول محمد يتلقاه من هذا الرومي، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103] .قالوا: محمد يتلقى هذه العلوم التي يقول بها من الرومي صهيب ، فرد الله عليهم بقوله: هذا البيان العجب كلام الله الذي يلحدون إليه ويميلون أعجمي ما يعرف العربية، وهذا لسان عربي مبين، أين يذهب بعقولهم؟ أسقطهم.فلما أراد أن يهاجر صهيب اعترضه رجالات قريش، والله لن تغادر بلادنا حتى تعطينا كل مالنا عندك أو تدلنا عليه؛ إذ كانوا يدفنون الأموال تحت الجدران وفي الأرض.. أنت ذاهب إلى محمد أين أموالك؟ ما عندنا يا جماعة. لا والله ورجع بهم وكشف عن أمواله وقال لهم: خذوها، وجاء بلا شيء، وما إن شاهده رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعيد، وهو يعرف تلميذه، وإذا به يقول: ( ربح البيع أبا يحيى.. ربح البيع أبا يحيى ) . باع دنياه كلها بالإيمان والإسلام، وهذه آياتنا فيها البيع فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون أي: يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة . قال: [ثانياً: المقاتل في سبيل الله باع دنياه واعتاض عنها الآخرة ولنعم البيع] وإلا لا؟ ولنعم البيع. [ثالثاً: المجاهد يئوب أي: يرجع بأعظم صفقة].أية؟! صفقة أو صفعة؟ سلوا التجار عن الصفقة يعرفونها.قال:[ المجاهد يئوب -يرجع- بأعظم صفقة سواء قتل أو انتصر وغلب ألا وهي الجنة]، المجاهد يئوب ويرجع بأعظم صفقة تجارية سواء قتل أو انتصر وغلب أليس كذلك، هذه الغنيمة ما هي؟ الجنة، الجنة دار السلام اللهم اجعلنا من أهلها. قال:[ رابعاً: لا يمنع المؤمنين من الجهاد خوف أعدائهم] لم؟ قال: [لأن قوتهم من قوة الشيطان]، قوة الكافرين من قوة الشيطان ،[وكيد الشيطان ضعيف] فهم إذاً ضعفاء مهزومون.
دعوة للجهاد في سبيل الله
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!لم لا نقاتل نحن؟ ألسنا مؤمنين؟ ألسنا مخاطبين بقول ربنا: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [النساء:74] . الجواب -وتأملوا وعوا وافهموا-: هو أن الجهاد يفتقر ويحتاج إلى إيمان يقود المسلمين، ولا يصح أن جماعة تخرج تقاتل بدون إمام وإذن لها، والله ما جاز، من شرع هذا وفرضه وقدره؟ ولينا مولانا جل جلاله وعظم سلطانه الذي يريد العز لنا لا الهون والدون. متى نجاهد؟ إذا حمل إمام المسلمين راية لا إله إلا الله، وقال: نغزو البلاد الفلانية لندخلهم في رحمة الله؛ لنوقظهم من الشر والخبث والفساد والكفر والضلال، ثَم انفتح باب الجهاد. أما جهاد بدون إمامة وراية لا إله إلا الله، باطل.. باطل.. باطل، ولا يصح ولا يحل اللهم إذا غزا العدو بلداً من بلاد المسلمين؛ فعلى أهل البلاد نساءً ورجالاً أن يقاتلوا هذا العدو حتى يصدوه ويردوه مهزوماً، وعلى المسلمين أن يواصلوا إمداداتهم فيلقاً بعد فيلق حتى ينقذوا إخوانهم من هذا الكافر الظالم الذي اعتدى عليهم وظلمهم.يبقى إذا جاءت ظروف ما أصبح إمام المسلمين قادر على أن يقاتل! أما عقد الرسول صلح الحديبية عشر سنوات؟! إذاً ماذا يصنعون؟ الآن نحن في هذه الوضعية. أولاً: دولتنا ممزقة مشتتة إلى نيف وأربعين دولة أليس كذلك؟ قولوا: بلى. والواجب أن تكون دولة واحدة، وكل هذه أقاليم وولايات وإمام المسلمين يحمل راية لا إله إلا الله، فها نحن ممزقون.ثانياً: هل نحن الآن أقمنا دين الله في بلادنا حتى نقدم هذا الخير لأوروبا أو اليابان أو الصين أو نضحك على أنفسنا؟ بينوا. سخرية هذه، نريد أن تدخل فرنسا في دين الله لتقيم الصلاة، وتجبو الزكاة، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعبد الرحمن جل جلاله، وتتخلى عن الشرك والصليب، ونحن الشرك والجهل والفسق والظلم والبعد عن الله.. لا زكاة تجبى، لا أمر بمعروف، لا نهي عن منكر، ما نستحي نقول: إيطاليا ادخلي في الإسلام، فهمتم هذا وإلا لا؟ نحن لما نغزو لأجل ماذا؟ لأجل أن نطهر تلك الأرض من الشرك والظلم والخبث، إذاً فلنبدأ أولاً بأرضنا. عيب وسخرية أن نطالب بلجيكا أو ألمانيا: ادخلي في الإسلام ونحن أين مظاهر الإسلام؟! ومن هنا: اذكروا أن الجهاد يبدأ من هنا من ديارنا. أولاً: إذا طابت.. إذا طهرت.. إذا استقامت نقدم الخير للناس، أما ونحن أفقر الناس إليه ماذا نقدم؟ هيا نجاهد نقتل بعضنا بعضاً! أعوذ بالله هذا دمار آخر جننا يعني؟ المؤمن يقتل المؤمن، هذا لا يعقل ولا يقبل ولا شرعه الله، هيا نجاهد أنفسنا لتستقيم على منهج ربنا.. هيا نجاهد أنفسنا وما ننسى تلك الكلمة الخالدة: ( رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ألا وهو جهاد النفوس ) . أهل القرية مسلمين وإلا لا؟ مسلمون يجاهدون أنفسهم، لم يبق شرك ولا ظلم ولا خبث ولا فساد، ويغطيهم ويتجلى في ديارهم الإخاء المودة الرحمة الطهر الصفاء؛ لأن أنوار الله بين أيديهم.. كتابه وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، عام عامين عشرة وإذا المسلمون كلهم أولياء.. كلهم ربانيون، حينئذ ننقل هذا الخير هذا النور إلى أمم يقتلها الظلام ويمزقها الشرك والكفر.الجهاد واجب الآن وهو جهاد النفس، أما جهاد الحكام كفار وكذا و.. و.. هذه كلها صيحات إبليس.. كلمات الشياطين.. نفخة من نفخات أعداء الإسلام، والله لا تصح ولا تقبل ولا يثاب صاحبها أبداً، وكل الدماء التي تراق والأرواح التي تزهق بين المؤمنين هم المسئولون عنها يوم القيامة. لو بذلنا أدنى شيء لتحاببنا وتوالينا ونصرنا دين الله بيننا، وتمضي عشرات السنين في القرية ما يسرق فيها سارق حتى تقطع يده، ولا يزني فيها زان ويعلن عن زناه ثم لا يرجم ولا يقام حد الله عليه. أما أن نرضى بهذا الفسق والفجور والشرك والفساد خمت الدنيا منه، ونقول: نجاهد؟ تجاهد من؟ هذه اذكروها. وقد علمنا أن الإسلام ينتشر في أوروبا في أمريكا بشطريها في اليابان في الصين ينتشر، ولكن بالتي هي أحسن شيئاً فشيئاً.وبسبب دعوة جماعة الهنود، التبليغ الهندي هو الذي نشر تلك الدعوة الربانية، كان أبناء المسلمين العرب بالذات يذهبون يدرسون في أمريكا وفي روسيا وفي غيرها يعودون ملاحدة إلا من رحم الله، الآن بفضل تلك الدعوة يعودون مسلمين صالحين أغلبهم. فرنسا كان فيها مسجد جامع واحد في باريس بنته الحكومة لأنصارها ومن يأتيها، الآن فيها قرابة الثلاثة آلاف مسجد، من بناها؟ من أوجدها؟ أأضحكم وأبكيكم؟ والله ما مطار فرنسا جعلوا فيه مصلى للصلاة؛ لأن تلك الجماعة إذا دخل الوقت وأذنوا في المطار اصطفوا يصلونه. وانتشر الإسلام في ألمانيا مخ أوروبا، وامتلأت بالمساجد والدعوة إلى الله، أما بلجيكا الإسلام يعلم في مدارسها الابتدائية لأولاد المسلمين، ثم لما انفضحنا وانكشفت سوأتنا وعورتنا، وأصبح المسلمون يذبح بعضهم بعضاً ويقتل بعضهم بعضاً الآن ضجة ورجة في أوروبا، ولسان حالهم: هذا هو الإسلام؟! يذبح النساء؟! ويقتل الأطفال؟! وهم في غضب، فإما أن نتلافى الموقف باستعجال وإلا فسوف يطردون كل مسلم ومسلمة وينكلون بهم ويرمون بهم في البحر، والذنب ذنب من؟ ذنبنا نحن.وهنا قلت وكررت القول، وليس هناك من يبلغ أو يتكلم، الشيخ الجزائري في المسجد النبوي كالعجوز يتكلم مع أهل البيت، طالبنا وكتبنا وقلنا: عجلوا أيها المسلمون كونوا لجنة عليا للدعوة الإسلامية ما دام الله أغنانا عن الحرب والجهاد، وفتح لنا أبواب العالم ننشر دعوة الله فيها، كونوا لجنة يساهم فيها كل مؤمن ومؤمنة، ضريبة الجهاد كل إنسان يدفع ريال في العام أو في الشهر، وتلك اللجنة تتولى دعوة الله في العالم الكافر. المراكز الموجودة أو توجد مراكز وتوحد المبدأ والهدف الإيمان والدعوة وتهذب أولئك المهاجرين في أوروبا وفي غيرها، وتهذب أخلاقهم وآدابهم، وتلوح أنوارهم، وإذا بهم يجذبون غيرهم، على أن يوحد الكتاب الذي يدرس، لا مذهبية لا افتراق ولا حزبية ولا عنصرية، مسلم تركي كنت أو باكستاني مصري شرقي غربي من أنت؟ مسلم لا تقل: أنا كذا.. مسلم.يوحد الكتاب الذي يدرس على غرار منهاج المسلم الآن يدرسه كل المسلمين، ما هو حنفي ولا شافعي ولا حنبلي ولا مالكي، وإن لم يخرج عن المذاهب الأربعة، لكن قال الله قال رسوله، يجمع المؤمنين المسلمين على منهج واحد؛ لأن الخلافات في العقائد كالخلافات في العبادات هي سبب الفتنة، وعرف هذا العدو وهو الذي نشرها. إذاً: وتخرج الجامعة والكلية الإسلامية كل عام خمسون أو ستون رجلاً من هذا النوع وينصبونهم في مناصبهم وينتشر الإسلام، والنفقات على سبيل البيان تنفقها اللجنة العليا للإسلام، أئمة المساجد مؤذنوهم معلم الأطفال معلم النساء أجرهم على هذه اللجنة حتى نشعر أننا أدينا واجب الجهاد في سبيل الله، وأي جهاد أعظم من هذا؟ والله جهاد. الآن الكفار يبحثون عن الإسلام، درسوا وعرفوا لكن فقط نحن صرفناهم بظلمنا وخبثنا وانحطاطنا وفسادنا، فعلى الرابطة التي دعونا إلى تكوينها فكانت والحمد لله أن تنهض بهذا الواجب، تجمع علماء من دول إسلامية وتكون لجنة عليا، وتضع خريطة للجاليات الإسلامية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وتضع ميزانية يساهم فيها كل مؤمن. جهاد؟ أي والله جهاد، وتنفق بأدب وبخفاء ولا تبجح ولا تكلم ولا.. خمسة وعشرين سنة تظهر رايات الإسلام في بلاد الكفر، وبذلك نكون أطعنا الله في قوله: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [النساء:74] . هل فهمتم هذا؟ هل تبلغون وتتحدثون به؟ ما نستطيع ما ألفنا هذا. إذاً فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ابوالوليد المسلم
16-04-2021, 07:45 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (42)
الحلقة (265)
تفسير سورة النساء (47)


روي أن بعضاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبوا الإذن لهم بالقتال، فلم يؤذن لهم، لعدم توافر أسباب القتال، فكانوا يؤمرون بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ريثما يأذن الله تعالى لرسوله بقتال المشركين، فلما شرع القتال تردد فريق منهم وطلبوا التأخير، فعاتبهم الله عز وجل على لسان رسوله، مبيناً لهم أن متاع الدنيا قليل، ومهما عاشوا فيها فمصيرهم إلى الموت، وأن الآخرة هي دار المستقر، وهي خير لأهل التقوى والإيمان.
الحث على قراءة القرآن وتدارسه
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأحد من يوم السبت والليالي الثلاث بعدها، ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).فحقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك! وهل تذكرون أن القرآن وحي الله؟ إي والله إذ قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52] القرآن روح؟ أي والله، هل يحيا إنسي ولا جني حياة يرضاها الله تؤهله لجوار الله وهو لا يؤمن بالكتاب القرآن ولا يقرؤه؟الجواب: لا. القرآن نور فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8] هل يمكن لسالك في هذه الحياة طرقاً مختلفة أن يهتدي إلى حاجته وهو في الظلام؟ إذاً: فلا حياة بدون القرآن، ولا هداية والله بدون القرآن، أحببنا أم كرهنا، لا تقل: هانحن أحياء حياة البهائم لا قيمة لها، عرف هذا عدونا أيها المسلمون المكون من ثلاثة أعداء: وهم المجوس واليهود والنصارى، ماذا عرفوا يا شيخ؟ اسألوا، عرفوا أن العرب كانوا أمواتاً، وما إن نزل القرآن وآمنوا به وقرءوه وعملوا به حتى حيوا، وأصبحت هذه الديار بالنسبة إلى الكرة الأرضية كالكواكب في السماء. عزوا وسادوا وقادوا البشرية بسبب ماذا؟ أنتم ما تعرفون، أما الثالوث عرف، قالوا: القرآن، هو الروح التي حيا بها هؤلاء المسلمون في الشرق والغرب، فماذا نصنع إذاً؟ عملوا جهدهم في اجتماعات ولقاءات على مر القرون كيف يبعدون هذا القرآن؟ ما استطاعوا. آخر اجتماع -وتم فيما أذكر بأرض السودان- اجتمع القسس والرهبان وقالوا: نحاول ما استطعنا أن نسقط من القرآن كلمة (قل)؛ لأن كلمة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الأعراف:158] هذا شخص عالي يأمر من دونه، فإذا حذفنا (قل) قلنا هذا القرآن فاضت به روح محمد الصحراوي في الأرض الملتهبة، ففاضت روحه بهذه المعاني، ما هو بوحي الله ولا بتنزيله، وفشلوا ما استطاعوا. (قل) حرفان، وعجزوا، ماذا نصنع؟ قالوا: اصرفوهم عن قراءته وتلاوته والعمل به، ووجدوا الطريقة، قالوا: اسمع واحفظ يا طالب العلم إن كنت تحفظ، قالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر، ومن شك فليراجع حاشية الدسوقي على الحطاب أو الحطاب على الدسوقي في شرح هذه. سمعتم هذه القاعدة وإلا لا؟ أعيدها! قالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ، إذاً وخطؤه كفر، وسادت الفكرة وقادة الأمة وكمموها وألجموها، إذاً: ماذا نصنع بالقرآن؟ اقرءوه على موتاكم، ائت بعشرة طلبة يختمون ختمة، أختك إذا كانت زانية وإلا عاهرة تدخل الجنة، حتى أصبحوا يقرءون القرآن في بيوت البغاء ودور الزنا، وما أصبح المسلمون من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب يعرفون أن القرآن يجتمع عليه ليتدبر وليتأمل، ولتستنتج هداياته وليعمل بها، أبداً. كتب الفقه موجودة، ما نتورط في القرآن ونهلك ونصاب بالذنوب والآثام، اقرءوا القرآن على موتاكم، فإذا مررت بحي من الأحياء .. قرية من القرى، وسمعت القرآن يقرأ علمت أن هناك ميتاً مات، فهمتم هذه وإلا لا؟ وما زلنا إلى الآن نقول: لم ما نقرأ القرآن على موتانا، هل القرآن نزل ليقرأ على الموتى؟ والله ما كان. أما قال تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ [يس:69] من المتكلم؟ الله جل جلاله، عمن يتكلم؟ عن رسوله ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69] لأن الخصوم والأعداء قالوا: شاعر. أين الشعر؟ الرسول شاعر، تعرف التوهيش والتشويش وتلخيط العوام، قالوا: شاعر. فالله قال: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69] ومرة من المرات استشهد صلى الله عليه وسلم ببيت من الشعر وقرأه معكوساً، قال: ستبتدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك من لم تزوده بالأنباء قال: والله إنك لرسول الله، الهاشمي القرشي ما عرف ينشد بيتاً من الشعر وكسره وحطمه، أصل البيت: ستبتدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأنباء من لم تزود فلما ما أصاب الرسول في إنشاد البيت انفعل أبو بكر ، وقال: والله إنك لرسول الله، لأن الله تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس:69] (إن) بمعنى ما، ما هو إلا ذكر وقرآن ومبين، ما هو بشعر أبداً. ثم قال تعالى: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:70] وفي قراءة (لتنذر) يا رسولنا (من كان حياً)، من كان حياً أو ميتاً؟ حياً. وهناك فرق بين هو ميت وحي وإلا لا؟ لتنذر من كان حياً أو من كان ميتاً؟ حياً.إذاً: هل الميت ينذر؟ ينذر ويخوف الحي الذي يعي ويسمع أما الميت فينذر؟! نكذب الله عز وجل؟! نعاكس كلامه؟! لتنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، يقرأ القرآن على الموتى؟ والآن عرفتم ما فعل عدوكم بكم وإلا لا؟ أو ما بلغكم هذا؟
فضل قراءة القرآن وسماعه من الغير
هيا نغيظهم ونصبح نجتمع على القرآن في بيوتنا.. تحت ظلال أشجارنا.. في محلات اجتماعنا، ونتدبره ونتأمله، ونهتدي بهداه، ونسمو بكمالاته الروحية.ما نستطيع؟ ما نقدر؟ من منكم معشر المستمعين قال يوماً لأحد إخوانه: أسمعني شيئاً من القرآن؟ يرفع يده الذي حصل، من منا جلس مجلساً ولو في المسجد قبل الصلاة أو بعدها وقال: يا فلان من فضلك تعال اقرأ علي شيئاً من القرآن، وأنا أتدبر. أنتما طلعت شمسكما في هذه الحلقة، قال: أنا وزميلي ولكن نسبتكما إلى المسلمين واحد إلى مليون، لا .. لا إلى مائة مليون، فهمتم هذه وإلا لا؟ هذا البخاري وغيره يروي أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس يوماً وقال لـعبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه: ( يا ابن أم عبد أسمعني شيئاً من القرآن ) فتعجب عبد الله وقال: ( عليك أنزل وعليك أقرأ؟! قال: بلى إني أحب أن أسمع القرآن من غيري ) وقرأ عبد الله بن مسعود من سورة النساء حتى انتهى إلى ثلاثين أو ما يقارب من ثلاثين آية؛ فنظر فإذا عينا رسول الله تذرفان الدموع، وهو يقول: ( حسبك حسبك حسبك )، غلبه البكاء. عندما انتهى عبد الله إلى قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ [النساء:41-42] الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42].إذً: هيا نجدد ذلك العهد، فقط إذا اجتمعت مع أهلك في البيت قل لابنتك أو لابنك أسمعنا شيئاً من القرآن الليلة، ما نقدر، أي شيء ما تقدر عليه؟! أنت جالس تنتظر في العشاء أو في الغداء وجئت من عملك وبناتك وأولادك حولك، قل: أيكم يسمعنا شيئاً من كتاب الله. هذه سنة رسول الله، فيقرأ القارئ وأنتم تتفكرون وتدبرون ما معنى هذه الآية، فتحتاجون إلى السؤال.. أنا أسال العالم الفلاني، هات التلفون، يا شيخ! ما معنى قول الله تعالى كذا ،وكذا يقول: معناها كذا وكذا، سمعتم يا أهل البيت يا إخواني يا أبنائي، قالوا: سمعنا، معناها كذا وكذا. سنتلقى العلم والمعرفة بأبسط الطرق، لم ما نفعل هذا؟ أمسحورون نحن؟! الجواب: ممكن لأن اليهود هم السحرة الممتازون في العالم، وما يدرينا أنهم سحروا هذه الأمة؟ وصرفوها عن كتاب ربها لتهبط وتتمزق، وقد فعلوا ونجحوا.والآن هذه المقدمة إن شاء الله تستقر في أذهانكم، ممكن تتحدثوا بها، أو ما فيه حاجة؟! من محننا أننا نسمع الحكمة والكلمة المفيدة وتموت في قلوبنا، ولا يتحدث بها أحد، اللهم إلا الحديث الهابط سمعنا الشيخ الفلاني العميل يقول: كذا وكذا، هذا ممن يسبون الرسول.. هذا ممن يقولون كذا هذا موجود. أما أن ننقل الهدى والنور إلى إخواننا في صدق، سمعنا كلام الله كذا وكذا، هذا نخن مصروفون عنه، واحسرتاه! واأسفاه!
تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ...)
هيا الآن مع هذه الآيات الأربع أو الثلاث، وهي طويلة، ونقضي فيها ساعتنا هذه والأخرى غداً إن شاء الله، هيا نتدبر، هيا نتأمل، اسمعوا وأنا أقرأ ولا أجود ولا أغني، بالكلام العادي وتأملوا. قال تعالى من سورة النساء: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النساء:77] لماذا هذا؟ هذا في مكة والمدينة، المتحمسون كانوا يقولون: اسمح لنا نقتل فلاناً.. اسمح لنا نضرب فلاناً.والرسول يقول: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77]، ما أذن لنا في القتال، دعني أغتال أبا جهل ، ما سمح لنا، في المدينة قبل أن يأذن الله بالقتال المتحمسون: هيا يا رسول الله ائذن لنا نقاتل، والرسول يقول: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:77] ما أذن الله بعد. ونزل فيهم هذا القرآن: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77] عن ماذا؟ عن قتال الناس، (كفوا أيديكم) يا شيخ الآن يقتلون المؤمنين، يتحمسون لقتل المؤمنين وإزهاق أرواحهم، يا له من هبوط! ما سبب هذا؟ الجهل، والله ما عرفوا. أَلَمْ تَرَ [النساء:77] هذا الاستفهام للتعجيب وإلا لا؟ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النساء:77] هذا باب مفتوح، بل بابان صل الليل والنهار وأنت مع الله، تنسى الآلام وتنسى الأتعاب وتنسى المخاوف، أنت متخوف تقول: هيا نقاتل حتى نزيل هذا الخوف عنا، ادخل في الصلاة مع الله يعصمك ويحفظك، وكيف وأنت تناجيه وتتحدث معه، إن شئت ليلك كله أو نهارك. هل هناك جناب أعظم من جناب الله؟! هل هناك أمن أعظم من أمن الله وقد اطرحت بين يديه تتكلم معه الساعات العديدة، أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، أنفقوا المال على الفقراء والمساكين، على إخوانكم المهاجرين. قال: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ [النساء:77] كتب بمعنى فرض، وذلك في آية الحج اسمعوا بيانها أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الحج:39-40] الآية. إذاً هيا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء:77] أعوذ بالله! فريق يعلم الله عدده، ومن الحكمة ألا يُعين أصحاب هذه الزلة ليبقى عاماً إلى يوم القيامة، هؤلاء الذين يقتلون المسلمين، ويتحمسون ويغتالون، لو يأتي الجهاد الحق يقوده إمام المسلمين أكثرهم يهرب من هذه، ولا يواجهه لأن القتال ثم لله، وهنا لإظهار الشخصية والشجاعة. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ [النساء:77] أي: الكفار الذين طلبوا بقتالهم يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ [النساء:77] خشية مثل خشية الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء:77] أعظم من خشيتهم لله عز وجل. ثم قال تعالى عنهم: وَقَالُوا رَبَّنَا [النساء:77] أي: يا ربنا، حذفت الياء، لماذا ما قال: (يا ربنا)؟ لأن الله معنا مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] في أعماق البحر، أو في عنان السماء، كيف هذا يا شيخ؟ أين الله بيننا؟ يا بهلول تأمل فيما تقول، إن العوالم كلها بين يدي الله كحبة خردل، أما قرأت قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] أي والله ما قدرناك يا ربنا حق قدرك وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] . تسألني كيف الله معنا؟ نحن بين يديه، أنت أيها الرجل نملة بين يديك أنت محيط بها من كل جانب. الشمس فقط فوقنا وما أبعدها وهي معنا، الشمس تكون في بيتنا الشمس أين كوكبها؟ في السماء الرابعة.إذاً: قال تعالى عنهم: وَقَالُوا رَبَّنَا [النساء:77] أي: يا ربنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ [النساء:77] ما زالت الفرصة غير متاحة، ما زلنا ضعفاء، ما زلنا ما نملك عتاداً ولا سلاحاً لو أخرتنا عام عامين.سبحان الله! هذا يقوله ضعاف الإيمان، والله لقد قالوها، والبشر هم البشر وإلا لا؟ هذا الضعف في الفهوم والأفكار والعقول موجود عندنا لا تعجب أبداً بين المسلمين. لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء:77] عاماً أو عامين حتى يقوى الإسلام ويكثر المسلمون، وأمر رسوله أن يرد عليهم، قال له: قل لهم يا رسولنا: مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77] أكلكم وشربكم ونكاحكم ولباسكم وتمتعكم بالنسبة إلى الجنة ودار النعيم قليل، لا تحزنوا عليها ولا تبكوا، لما أخذنا نستريح جاء الحرب والقتال، الآن فقط عندنا أيام شبعنا واسترحنا، قال: قاتلوا. هذا كلامهم؟ أي نعم. قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى [النساء:77] هذا خاص بأولئك العوام، والله إلى يوم القيامة حتى يرفع القرآن نهائياً، والآخرة خير لمن؟ لمن فجر.. لمن كفر.. لمن فسق.. لمن ظلم.. لمن طغى وتكبر؟! لا، لا، لا.ماذا قال تعالى؟ لِمَنِ اتَّقَى [النساء:77] اتقى من؟ اتقى الله.

يتبع

ابوالوليد المسلم
16-04-2021, 07:45 PM
كيف نتقي الله تعالى
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ .يا شيخ وهل نستطيع أن نتقي الله؟! بالسراديب تحت الأرض والأنفاق نختبئ فيها، أو بالحصون العالية والأسوار، أو بكثرة الجيوش والعتاد الحربي، بهذا يتقى الله؟! لا والله ما يتقى بهذا، وإنما يتقى الله بطاعته وطاعة رسوله فقط. أطعه لا يغضب منك ولا يسخط عليك، أطعه أحبك ورضي عنك، إذاً الله تعالى يتقى بم يا عباد الله؟ رددوها: يتقى بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، لا يتقى بالجبال ولا بالجيوش ولا بالقبائل ولا بالمال ولا بالسحر ولا بالتدجيل، لا يتقى غضبه وعذابه وبلاؤه إلا بطاعته وطاعة رسوله. طاعته في أي شيء؟ في كل ما أمرك أن تعتقده من الاعتقادات، في كل ما أمرك أن تقوله وتتكلم به من الكلام والأقوال، في كل ما أمرك بفعله من الأعمال، وطاعة رسوله مقترنة بطاعته، ولا فرق بينهما؛ إذ قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80] وأختم لك على هذا، ما أطاع إنسان رسول الله إلا أطاع الله عز وجل، كيف؟ لأن الرسول لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر الله به ونهى عنه، أليس مبلغاً عنه؟! مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80] إذاً الحمد لله عرفنا أن الآخرة بنعيمها وسعادتها للمتقين، يكفي إذاً، من الآن نأمل على أن نتقي الله عز وجل، من هم ورثة الجنة يرحمكم الله؟ بنو هاشم؟ المتقون، اقرأ قول الله عز وجل: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، تلك الجنة التي نورِّث من عبادنا من كان تقياً، سواء كان أصفر أبيض حبشي عربي شريفاً وضيعاً غنياً فقيراً، قل ما شئت، فقط أن يكون تقياً. وهذا الخليل إبراهيم نحن عاشرناه يعني؟ كيف نتحدث عنه؟ كيف بلغنا الكلام عنه؟ القرآن الكريم، إبراهيم يقول بعد دعاء طويل عريض: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85] لولا علمه بأن الجنة تورث ما كان يقول: واجعلني من ورثة الجنة. الجنة تورث؟ أي نعم، والميراث بدون سبب أو بسبب؟الآن نحن نتوارث بأي شيء؟ إما بالنسب وإما بالمصاهرة وإما بالولاء، والجنة تورث بأي شيء؟ بتقوى الله عز وجل، المتقون هم الوارثون، ولم عبر بالوراثة؟ ما قال: بالعطاء بالهبة يهبهم الله الجنة يعطيهم مساكنهم فيها. اسمعوا: لما خلق الله دار السلام ودار البوار، وبعبارة أخرى: لما خلق عالم السعادة وعالم الشقاء، عالم السعادة في الملكوت الأعلى وعالم الشقاء في الملكوت الأسفل -كل شيء له علو وسفل وإلا نحن مجانين- لما خلق الجنة والنار خلق لكل منهما عدداً من البشر والجن، ولا يزيد أحد ولا ينقص، وجعلهم يتوارثون، إن شاء الله عمر بن الخطاب ورث أبا جهل ، وأبو جهل ورث عمر بن الخطاب ؛ إذ لكلٍ مكان هنا وهنا، والمتوارثون من الإنس والجن يرث بعضهم بعضاً، فمن دخل الجنة ورث كافراً من الكفار ونزل منزله، وذلك الكافر أيضاً ينزل في المنزل الذي تركه المؤمن ودخل الجنة، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63] ، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [القلم:34] . يا شيخ الجنة هذه صورها لنا؟ادخل بستاناً من بساتين الأغنياء، وانظر إلى تلك الزهور، وتلك الظلال والثمار والمياه الجارية تعطيك صورة من واحد إلى مليار، وإن قلت: أنا أريد أن أسمع عن الله وصفه للجنة أكب على القرآن سبع ليال وأنت تقرأ من الفاتحة إلى الناس تمر بك سور عجيبة بأن هذه الجنة وقصورها ونعيمها، وما فيها من كتاب الله. وإن قلت: أنا أريد وصفاً لرجل ارتادها، قلنا لك: نعم، أول رائد من رواد الملكوت الأعلى من رواد الجنة دار السلام هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اقرأ قول الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] ومن ثم إلى الملكوت الأعلى.وإن قلت: هنا ذكر المسجد فقط ما ذكر طلع أو لم يطلع، اقرأ من سورة النجم: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:13-18] . واضح هذا وإلا لا؟ ولقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل أول ما رآه في غار حراء في صورة إنسان، ثم رآه في أجياد -شارع مكة المعروف- وقد تجلى وغطى السماء بأجنحته الستمائة، وناداه: يا محمد! أنت رسول الله وأنا جبريل، ثم رآه مرة أخرى: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:14-18] . أسمعتم؟ إن المؤمنين أهل القرآن والسنة على نور من ربهم، وكل أصحاب الهراء والكلام الهابط الفارغ مما تمليه الشياطين والأهواء والدنيا والشهوات كلامهم غثاء كغثاء السيل.قال تعالى وقوله الحق: قل يا رسولنا لهؤلاء الضعفة المهزومين قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77] وإن عشت مائة سنة، وأكلت مائة قنطار لحم أو بيض، قليل بالنسبة إلى الآخرة وإلا لا؟ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى [النساء:77] لا تقل لبني هاشم أو بني تميم أو العرب أو العجم، بل: لمن اتقى أبيض كان أو أسود.لو تقول هذا لملايين المسلمين، والله ما يسألك أحد نتقي كيف؟ الشيخ ما له الليلة مجنون مهموم!يعرف أن الجنة لمن اتقى ولا يبالي، لو كان قد وعي وعرف وفهم، والله يقول لك: والله لا تبرح مكانك حتى تعلمنا كيف نتقي نحن؟وهذا كان أيام كنا صاعدين للملكوت الأعلى، أما اليوم أبداً يسمعها ملايين المسلمين ما يسأل كيف نتقي؟ بماذا نتقي؟ وأنتم عرفتم وإلا ما عرفتم؟ بم نتقي الله؟ بالمزامير والأغاني؟ بطاعته وطاعة رسوله، وهل أمرنا بأوامر؟ كم؟ اطلبها من كتابه، أمرنا بإقام الصلاة، بإيتاء الزكاة، بصوم رمضان، بحج بيت الله الحرام، بالجهاد وبالرباط، بصلة الأرحام، بالعدل وبالخير وبالإحسان، بالذكر بالدعاء بالقراءة أوامر. ونهانا عن أشياء أيضاً، ما هي؟الربا.. الزنا.. الغيبة.. النميمة.. الكذب.. الخلاعة.. السفاهة.. البذاء.. السوء.. الحسد.. العجب.. ومنهيات كثيرة، كيف نعرفها يا شيخ؟ هنا تقف حيران كيف نعرفها؟ أما ذهبت لكل واحد علمته؟ ما ذهبت، فما الطريق -يرحمكم الله- إلى أن يصبح كل المؤمنين والمؤمنات عالمين بمحاب الله ومساخطه بأوامره ونواهيه وكيف يؤدونها ويتقربون بها إليه؟الجواب: ما كررناه مئات المرات وإلى الآن لا حراك ولا انتفاضة، الطريق هو أن إمام المسجد في القرية سواء كان في الجبل وإلا في السهل.. إمام مسجد الحي في المدينة يوم الجمعة يستقبل أهل القرية ويقول: معشر المؤمنين! هل نحن مسلمون؟ قالوا: نعم، كيف لا، هيا نتعاهد عهد المؤمنين أننا من الليلة لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا ولد عن حضور صلاة المغرب في هذا المسجد، اللهم إلا مريضاً على فراش المرض ومن يمرضه ويقف إلى جنبه إن فرضنا هذا، أهل القرية كأهل الحي ما إن تدق الساعة السادسة مساءً إلا وذهبوا إلى الوضوء ولبس الثياب الحسنة وترك العمل وأغلق باب الدكان المتجر المقهى المصنع المزرعة، وارم يا فلاح بالمسحاة والمنجل، وتعالوا كلكم إلى بيت ربكم. يملئون المسجد النساء وراء الستائر ومكبرات الصوت تبلغهن الصوت، وأبناؤنا أطفالنا كالملائكة في ثياب بيضاء ليس على رءوسهم برانيط كما تفعلون، كأبناء اليهود والنصارى كالملائكة بيننا، والكل مصغي، والكل مستمع، والكل يبكي بين يدي الله ساعة وربع أو ساعة ونصف ومربينا يعلمنا آية من كتاب الله كآينا هذا ونتغنى بها حتى نحفظها، يحفظها الكبير والصغير والذكر والأنثى آية نور ندخلها قلوبنا. والله لحفظ آية خير من خمسين ألف دينار أقسم بالله! وليسمح لي ربي إذا قارنت بين هذان، بل خير من الدنيا وما فيها، لو عرفنا قيمتها لحفظناها وسارعنا إلى حفظها، لكن ما عرفنا! ريال خير من عشرين آية، هذا شأن الجهل وإلا لا؟ إذاً: ولما نفرغ من حفظ الآية يأخذ المربي المزكي للنفس المعلم يقول: إن ربنا في هذه الآية يأمرنا بكذا، أو ينهانا عن كذا، أو يدعونا إلى كذا، هل فهمتم؟ قالوا: نعم، إذاً الزموه، وغداً يأتون في نفس الوقت.. مظهر من مظاهر الإقبال على الله، يصلون المغرب ويعلمهم حديثاً واحداً من أحاديث الرسول التي بلغت عشرات الآلاف؛ لأن كلامه من يوم أن بعثه الله إلى أن قبضه ثلاثة وعشرين سنة كل كلامه علم وحكمة، لا يقول كلمة باطلة أو لا خير فيها. إذاً: حفظتم الحديث هذا الشريف؟ نعم، الرسول يدعونا في هذا إلى كذا وكذا، أو ينهانا عن كذا وكذا، ملتزمون؟ أي نعم، ويعودون وكلهم ذكر مع الله، ويوم ثاني وثالث ورابع إلى أربعين يوماً كيف تصبح القرية أسألكم بالله؟! أصبحت كتلة من نور، سنة واحدة ما يبقى جاهل ولا جاهلة، الكل عرف فيما يتقى الله، وبم يتق الله، وتجلت أنوار الحب والولاء والصدق والتعاون والإخاء والمودة، واختفت مظاهر الحسد والغش والكبر والعهر والربا والزنا وما إلى ذلك، هل حقيقة يتحقق هذا؟ أيه ورب الكعبة، أليس الطعام يشبع وإلا لا؟ أليس الماء يروي وإلا لا؟ أليست النار تحرق وإلا لا؟ أليس الحديد يقطع وإلا لا؟ هذه سنن لا تتبدل.إذاً: تعلمك الكتاب والحكمة لن يتبدل في تطهير نفسك وتزكية روحك، وإذا زكت الروح وطابت النفس لو تعطيه مليار على أن يكذب والله ما يقبل!عرفتم هذا؟متى نعود؟ لا جهاد ولا مال ولا ولا.. فقط نجتمع في بيت ربنا صدقاً لنتعلم الكتاب والحكمة، هل هناك طريق غير هذا ينجينا ويعود بنا إلى السبيل السوي؟ والله لا طريق، لو قتل بعضكم بعضاً، وأفنى بعضكم بعضاً، أبداً مستحيل إلا هذا المسلك. وكتبنا في هذا رسالة وهي تحت الطبع خاصة بالعلماء وهم المسئولون عن هذا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
23-04-2021, 02:58 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (43)
الحلقة (266)
تفسير سورة النساء (48)



يبين الله عز وجل لعباده أنه ما من مهرب من الموت، فمن كره الجهاد في سبيل الله وقتال الأعداء مخافة الموت والهلكة فليعلم أن الموت آتيه لا محالة، سواء طال به العمر أو قصر، وسواء كان يسكن بيتاً من شعر أو برجاً مشيداً من الحديد والصلب، فالموت شر ومصيبه؛ لكنه لا يكون إلا بقدر الله، ولا يصيب إلا من كتبه الله عليه في وقته ومكانه، فهو سبحانه وتعالى خالق الموت والحياة وهو العزيز الحكيم.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، لهذا ندرس كتاب الله.وها نحن مع سورة النساء المباركة، ومع الآيات الثلاث التي تناولناها الليلة الماضية بالدرس والتفسير وما زلنا معها. هيا أتلوها وأنتم تتدبرون وتتفكرون في معانيها، وما تهدف إليه، وما تدعو له من العقيدة الصحيحة السليمة، والعبادات التي شرعها الله لتزكية النفوس والآداب التي يسمو بها المؤمن عن غيره من سائر الناس، والله عز وجل أسأل أن ينفعنا بما ندرس، وبما نعلم ونعمل. تلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:77-79]. بالأمس عرفنا أن بعض ضعاف الإيمان -وقد يدخل معهم في هذه الحظيرة المنافقون- كانوا يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يأذن لهم في قتال فلان وفلان سواء بالاغتيال أو بدون اغتيال، والرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى أوامره من ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه، فلم يسمح لأحد منهم أن يشفي صدره بقتل فلان أو فلان. ولما وجدت القوة الكافية لمواجهة الكافرين، أنزل الله تعالى قوله من سورة الحج: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:39-40]؛ فأذن للرسول والمؤمنين بالقتال، فأعلن ذلك، وأما أولئك الذين كانوا يريدون أن يقاتلوا لما فرض القتال أحجموا وجبنوا وتأخروا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النساء:77] يكفي إقام الصلاة لتزكية نفوسكم وتهذيب أرواحكم، والزكاة في مساعدة إخوانكم الفقراء من المهاجرين وغيرهم. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ [النساء:77] من كتبه؟ الله، ما معنى (كتبه)؟ فرضه فرضاً مؤكداً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ [النساء:77] من أولئك الذين كانوا يطالبون بالجهاد إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء:77] والعياذ بالله!جماعة منهم يخافون الناس أكثر مما يخافون الله عز وجل، كيف يقاتلون، كيف يجاهدون؟ وزيادة على ذلك وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء:77] حتى يكثر عددنا، وتكثر عدتنا، وما قالوا هذا إلا في فراراً من المعركة وخوفاً من الموت؛ لأن إيمانهم مهزوز ضعيف لا وزن له. لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء:77] كالعام والعامين والثلاثة حتى نتقوى؛ فأمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم: قُلْ [النساء:77] يا رسولنا قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى [النساء:77] ماذا تريدون من التأجيل والتأخير للعام والعامين والثلاثة، تريدون الدنيا؟ متاعها قليل وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:77] أي: مقدار فتيل، والفتيل خيط رقيق أبيض يوجد في نواة التمر، إذا شققت التمرة وجدت النواة في داخلها خيط رقيق جداً وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:77] تعطون أجوركم كاملة عن إيمانكم وصالح أعمالكم.
تفسير قوله تعالى: (أينما تكونوا يدركّم الموت ...)
قال الله تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] أينما تكونوا في رءوس الجبال أو في سهولها.. في الخنادق والأنفاق.. أو لو كنتم في القصور المشيدة بالشيد والجص والحديد لا كوة فيها ولا نافذة، والله ليدركنكم الموت في ذلك المكان. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ [النساء:78] والموت يجري وراءهم، بل كلما هربوا وجدوه أمامهم أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] البروج جمع برج وهو البناية الضخمة العالية، وقصور مشيدة بالشيد. ثم أخبر عنهم بقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78] إذا كان مثلاً في رخاء أو مال أو غنى أو صحة أو انتصار في غزوة من الغزوات، يقولون: من عند الله لا شكر لله، وإنما فقط لا يريدون أن ينسبوا إلى رسول الله شيئاً. هذه القلوب المريضة، وهذه الأرواح التي ما هذبت وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ [النساء:78] مما يحصل بالإنسان من عافية أو غنى أو راحة أو سعادة، يقولون: هذه من عندنا، وما قالوا هذا شكراً لله، لا أبداً، لكن فقط ليقولوا: هو ليس من عندك أنت. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء:78] من يوم ما رأيناك ونحن في هذا الهم، من يوم ما جئتنا ونحن في الفتن والحروب، هكذا يواجهون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سبب ذلك؟ موت القلوب، الجهل وظلماته، ما عرفوا الله حق المعرفة، أيواجهون رسول الله بهذه المواجهة؟! أيتطيرون به؟! لا طيرة في الإسلام أبداً! لأنهم يقولون: هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء:78] إذا جاء قحط وإلا حصار وإلا فقر.. ينسبونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمعوا قوله تعالى وهو يخبر عن تلك الطائفة: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ [النساء:78] والسيئة كل ما يسوء إلى الإنسان؛ مرض فقر تعب خوف ما يسوءك هو السيئة يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء:78] . فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم هذا القول الباطل، فقال له: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78] كل من الحسنة والسيئة من عند الله؛ إذ هو الخالق لكل شيء، والمدبر للحياة كلها (قل: كل) من الحسنة والسيئة (من عند الله)، علمهم وإلا لا؟ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78] .ثم قال تعالى: فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78]، ما حصل؟ ما لهم؟ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78]، وهنا تعرفون من الفقهاء؟ من هم؟هم الذين يقول فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، يعرفه بأسراره، لا مجرد علم سطحي، ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ). فاسمع! يقول تعالى: فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78]، سطحيات فقط، لا يفهمون إلا ظاهر الكلام، أما ما من أجله قيل، أو ما من أجله أمر الإنسان أو نهي لا يفقهون منه شيئاً.
أمثلة للفقه في الدين
هذه اللطيفة عثر بعض طلبة العلم الذين لا يكادون يفقهون حديثاً، على أن جملة: (الصلاة خير من النوم) هذه في الأذان الأول، ولا تقال في الأذان الثاني.. الأذان الأول هو أذان الأكل والشرب والجماع، ولا تقال في الأذان الثاني أذان الإمساك، والدخول في الصيام، وجدوا المملكة من قرون يقولون في الأذان الثاني الأخير: الصلاة خير من النوم، فقالوا: يجب أن نعود إلى السنة، وأن نترك هذا القول في الأذان الأخير، ونقولها في الأذان الأول، وجاءوا إلى الشيخ ابن حميد رحمة الله عليه في مكة، وحاصروه في الكلام، وأخذوا يؤذنون في بعض الأحياء، وظنوا أنهم أحيوا الإسلام، وأعادوا إلى الإسلام مجده، وانتشرت الفكرة، فأخذها الطلاب من هذا النوع، وإلى الآن الفتنة دائرة في بعض البلاد، ونتج عنها ما سمعتم من تلك الفتنة التي أصابت هذه الديار؛ بسبب هذا الفهم الخاطئ، أزهقت الأرواح وحصل الذي حصل.قلنا لهم: هذه الجملة (الصلاة خير من النوم) فيها ذكر الله؟ فيها تسبيح الله؟ آية من آيات الله، ما معنى، جملة: (الصلاة خير من النوم) أيها النائمون؟ فإن اعتاد الناس أن يقولوها في الأذان الأول، يجب أن تبقى في الأذان الأول، لا تفتنوا الناس، وتقولوا: نحولها إلى الأذان الثاني، وإذا وجدت في الأذان الثاني من قرون، حرام أن تحولوها إلى الأذان الأول؛ لما تحدث من بلابل وفتنة وعذاب، لو فقهوا وفهموا علة هذه الكلمة؛ حتى أهل البلاد يعرفون أن هذا الوقت، يتسحرون إن أرادوا الصيام أو يصلون الصبح و.. و..، ما العلامة المميزة الفارقة؟ هي الصلاة خير.. اجعلها في أذانك يا بلال ! فلو فقهوا وعرفوا السر في هذا ما أوجدوا فتنة وناراً وحرباً من أجل هذه الكلمة، فهمتم الفقه أو لا؟ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ [النساء:78]، يفهمون أسرار الكلام ومراميه وما يهدف إليه، يأخذون السطحية في الكلام فقط، ويجادلون، ولا تفهموا أن الحق خلاف هذا، هذا هو الحق، كيف نتفاضل في العلم؟ هل العلماء على مستوى واحد؟ لا. لماذا؟ لأن من لا يفقه أسرار الآية ولا الحديث ولا الشرع الذي شرعه الله يتخبط فيه، فلا بد من الفقه، وهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، ما قال: يعلمه، (يفقهه)، الفقه: معرفة أسرار الشريعة، وأهدافها وما تدعو إليه، وما يريد أن يتحقق بها، وهذا كلام الله، لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78]، سطحيات فقط، لا يعرفون لم أمروا ولا لم نهوا. عرفتم هذه اللطيفة؟بلغني أن بعض الطلاب ما زالوا إلى الآن في بعض الديار يطالبون بأن تعود لفظة: (الصلاة خير من النوم)، في الأذان الأول، أي داعي لهذا؟ ثم مالك في الموطأ، يروي أن بلالاً جاء إلى عمر أيام خلافته وقد تخلف عن صلاة الصبح؛ فناداه: الصلاة خير من النوم يا خليفة رسول الله! فقال عمر : اجعلها في أذانك يا بلال ! هذا الموطأ أصح كتاب بعد كتاب الله؛ ولهذا ينبغي أن نعرف مراد الله من هذه الشريعة، نعرف مراد الرسول من أمره ونهيه، فنفقه، أما أن نأخذ فقط السطحيات في الألفاظ، ونريد أن نفرض فهمنا على الناس، ونطالبهم بما لا يريدون، هذه هي مظاهر الفتن.أزيدكم: الذين يطالبون بالجهاد في البلاد الإسلامية موجودون أو لا؟ جماعات ومنظمات و.. و.. الجهاد.السؤال: لم الجهاد؟ لم شرع الجهاد؟ ما السر؟ ما فقهه؟ الجواب: من أجل أن يعبد الله تعالى وحده بما شرعه، أليس كذلك؟إذاً: هذه الأمة أسلمت، هذا الإقليم دخل في الإسلام، تجاهد من؟ علمهم ما عرفوا كيف يعبدون الله، ما فقهوا ولا فهموا أسرار هذه العبادة، فلهذا تخلوا عنها، ووقفوا مشدوهين، فبدل أن تعلن الجهاد فيهم، أعلن عن نفسك أن تعلمهم، وتفقههم في دين الله.مرة ثانية: هذا الإقليم، اليمن، الشام، العراق، ما شئت، المدينة، أي بلد، دخلوا في الإسلام، يشهدون أن لا إله إلا الله محمداً رسول الله، لما تقول: الجهاد، تريد ماذا؟ تجاهد من؟ مسلمون، مؤمنون، إن قلت: يبيعون الخمر، يرتكبون كذا.. كذا.. وكذا.. إذاً: علمهم كما علمت أنت بأن هذا يغضب الله عليهم، وبأن هذا يعوقهم عن السعادة، ويحول بينهم وبين الكمال، علموهم حتى يعبدوا الله عز وجل، لا أن تهدد فقط بحمل السلاح، وإن قالوا: لم الحكام ما يحكمون بالشريعة؟ الحكام جاءوا من إيطاليا أو من أسبانيا، أليسوا إخوانكم؟ أليس منهم آباؤك وإخوانك وأجدادك؟ أليسوا من دياركم؟ جهلة، ضعفة، قووهم وعلموهم، أما أن تهددوهم وتعلنوا الحرب عليهم، معنى هذا: أنكم تحرقون دياركم وبلادكم، وهذا الكلام تكرر منا من أربعين عاماً، هذا الهيجان، وهذه الحاكمية والمطالبة قولوا لنا: ماذا أنتجت؟ من يجيب؟ هل ظهرت دولة الإسلام في الإقليم الفلاني؟ لا. بل ما زادت الطين إلا بلة، ودائماً أقول: هذا الحاكم لو قال: أنا كافر، ماذا تفعل؟ تطأطئ رأسك؟ أو تسب فقط وتلعن؟ ماذا أنتجت؟ فما دام الحاكم يقول: أنا مسلم، ويصوم ويصلي، لم تشهر كفره وتعلن عنه؟ آلله أمرك بهذا؟والسر في هذا عدم الفقه: عدم البصيرة عدم المعرفة، لا أقل ولا أكثر، تنتشر الدعوة في الإقليم، يتسلطون عليها وتنسف، ولو شئنا لذكرنا أقاليم وبلاد كثيرة، عندما تظهر فيها الدعوة الإسلامية وينتشر الخير ينسفونها، بالتهجم على الحاكم، وإعلان الحرب و.. و.. وبعد ذلك تنسف تلك الدعوة نسفاً، الآن في بلاد كثيرة ما يسمحون للشخص بلحيته، قالوا: هؤلاء هم الذين فتنونا. أنتم مع قوله تعالى: لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78].إذاً: لابد من فقه ومعرفة لأسباب الشريعة وأهدافها وما ترمي إليه، واعمل على هذا النور وهذا الضوء، لا على سطح الآية فقط أو الحديث.

يتبع

ابوالوليد المسلم
23-04-2021, 02:59 AM
تفسير قوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله ...)
قال الله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ [النساء:79]، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمته معه، مَا أَصَابَكَ [النساء:79]، يا رسولنا، فَمِنَ اللَّهِ [النساء:79]، أي والله، هو واهبها ومعطيها وخالقها، هو المسخر لها، والموفق لك أن تأتيها، وتعمل بها. الحسنة من الله، صحة، عافية، رخاء، علم، طهارة روح، زكاة، نفس، كل هذا من الله، إذ هو خلق هذا العبد، أوجد هذه العبادة، وأوجد فيها تأثيرها في قلبك ونفسك، ما من حسنة تصيب عبد الله أو أمة الله إلا والله من الله، لو لا الله ما كانت، لو لا وضع أسبابها منه تعالى ما كانت، فإياك أن تفهم أنك تأتي الحسنة من غير الله، كل الحسنات من الله عز وجل، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ [النساء:79] فهي من الله.وبيان ذلك: زكت نفسك، وطابت أخلاقك، أليس أخذت بالأسباب، وهي عبادة الله عز وجل؟ إذاً: من وهبك هذه الحسنة؟ الله. رزقك الله مالاً وعيشاً رغداً من؟ أليس هو الله؟ أنت خلقت شيئاً؟ أمنت وحفظت في مالك وعرضك وما أوذيت، من حفظك؟ أليس الله؟ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]. على سبيل المثال: لما تقوم تلعن هذا الرجل وتشتمه، وتهدده فإذا به يصفعك أو يقتلك، هذه السيئة من الله أو منك؟ منك. لما تحتسي كأس الخمر فتفقد عقلك، وتأخذ في قول الباطل والمنكر، وقد تضرب أمك أو تذبح ابنك، هذه السيئة من الله؟ أليست منك أنت؟ عصيته وخرجت عن طاعته، وقد حرم هذا المسكر من أجل ألا تؤذي ولا تؤذى، فعصيته وشربت هذا المخدر أو المسكر، هذه السيئة من أين؟ من نفسك، وتأمل! والله لا توجد سيئة تصيب عبد الله أو أمة الله إلا بسبب ذنبه هو الذي تعاطاها. مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، لأن الله ما أمرك بأن تسرق، فإذا سرقت وقطعت يدك، هذه السيئة من الله؟ من نفسك أنت، الله ما أمرك أن تتكبر، فإذا تكبرت وكرهك الناس وبعدوا عنك، هذه السيئة من نفسك أو من الله؟ أما حرم الله الكبر؟ وهكذا.. ما من سيئة تصيب العبد إلا ومن نفسه، وإياك أن تنسبها إلى الله، أبداً حرام عليكم.والحسنة من واهبها سوى الله؟ مثلاً: نهينا عن التخمة، فإذا بك تأكل، هاتوا، صبوا، فامتلأ البطن، وأصابك التخمة ومرضت، هذا من الله؟ لا والله بل من نفسك، ما أذن لك الله في أن تسرف في أكلك وشربك، فلما أسرفت ومرضت من الله؟ خرجت في الليل في البرد الشديد كشفت عن جسمك وأنت تتعنتر في حوشك أو في الشارع فأصابك مرض وزكام، آلله هو الذي أصابك بهذا؟ أما أنت الذي فعلت هذا؟ هل أذن الله لك أن تتعرض للأذى بنفسك، كما لا تشرب السم لا تتعرض للبرد، وأنت قادر على أن تنجو منه. إذاً: وإخوانكم الذين في السجون، من الجماعات المتطاولة التي تطالب بالجهاد، هذه السيئة من الله أيضاً؟ آلله أمرهم أن يجاهروا ويطالبوا الحكام بتحكيم الشريعة وإلا سنعلن الحرب عليك وأنت كافر؟ والله ما قال هذا، ولا جاء في كتاب ولا سنة أبداً، من أنفسنا إذاً، وتفهموا هذه الآية: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النساء:79].. فاحمد الله واثن عليه واشكره ليزدك. وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، من نفسك، إذاً: تب إلى ربك، وابتعد عن المهاوي والمساقط وانج، والله لا يخيبك.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الآن ندرس هذه الآيات في الكتاب الذي بين أيدينا، لنزداد بصيرة ومعرفة لهذه الآيات. ‏
معنى الآيات
قال: [ روي أن بعضاً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم طالبوا بالإذن لهم بالقتال، ولم يؤذن لهم؛ لعدم توفر أسباب القتال، فكانوا يؤمرون بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ريثما -أي: وقت ما- يأذن الله تعالى لرسوله بقتال المشركين، ولما شرع القتال -وفرض وأذن فيه- جبن فريق منهم عن القتال ]، والجبن معروف، الجبن الذي يباع في السوق، أما كان حليباً سائلاً مائعاً ثم تجمد وجبن، فالذي كان يندفع.. الجهاد الجهاد، جبن، فهمتم معنى الجبن؟قال: [ ولما شرع القتال جبن فريق منهم عن القتال وقالوا: لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء:77]، متعللين بعلل واهية، فأنزل الله تعالى فيهم هاتين الآيتين: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77]، أي: عن القتال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النساء:77]، ريثما يأذن الله بالقتال عندما تتوفر إمكانياته، فلما فرض القتال ونزل قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39]، جبنوا ولم يخرجوا للقتال، وقالوا: لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء:77]، يريدون أن يدافعوا الأيام؛ حتى يموتوا ولم يلقوا عدواً خوراً وجبناً، فأمر تعالى الرسول أن يقول لهم: مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:77] فعيشكم في الدنيا مهما طابت لكم الحياة هو قليل: وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى [النساء:77]، الله بفعل أمره وترك نهيه بعد الإيمان به وبرسوله، وسوف تحاسبون على أعمالكم وتجزون بها: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:77] -أي: لا ينقص حسنة- لا ينقص حسنة ولا بزيادة سيئة.هذا ما تضمنته الآية.أما الآية الثانية: فقد قال تعالى لهم ولغيرهم ممن يخشون القتال ويجبنون عن الخروج للجهاد: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ [النساء:78]؛ إذ الموت طالبكم ولا بد أن يدرككم، كما قال تعالى لأمثالهم: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8]]، تفرون هاربين؟ ما يجري وراءكم هو، تجدونه أمامكم.[ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8]، ولو دخلتم حصوناً ما فيها كوة ولا نافذة؛ فإن الموت يدخلها عليكم ويقبض أرواحكم.ولما ذكر تعالى جبنهم وخوفهم ذكر تعالى سوء فهمهم وفساد ذوقهم فقال: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء:78]، يعني: أنه إذا أصابهم خير من غنيمة أو خصب ورخاء قالوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78]، لا شكراً لله، وإنما لا يريدون أن ينسبوا إلى رسول الله شيئاً من خير كان ببركته وحسن قيادته، وإن تصبهم سيئة: فقر أو مرض أو هزيمة، يقولون: هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء:78]، أي: أنت السبب فيها. قال تعالى لرسوله: قل لهم: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78]، كل من الحسنة والسيئة من عند الله، هو الخالق والواضع السنن لوجودها وحصولها، ثم عابهم في نفسياتهم الهابطة، فقال: فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78]. هذا ما دلت عليه الآية الثانية.أما الآية الثالثة والأخيرة في هذا السياق، وهي قوله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] الآية.. فإن الله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم فيخبره بأن الحسنة من الله تعالى، إذ هو الآمر بقولها أو فعلها وموجد أسبابها الموفق للحصول عليها، أما السيئة فمن النفس، إذ هي التي تأمر بها، وتباشرها مخالفة فيها أمر الله أو نهيه، فلذا لا يصح نسبتها إلى الله تعالى.وقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:79]، يسلي به رسوله عما يلاقيه من أذى الناس، وما يصادفه من سوء أخلاق بعضهم؛ كالذين ينسبون إليه السيئة تطيراً به فيخبره بأن مهمته أداء الرسالة، وقد أداها والله شاهد على ذلك، ويجزيك عليه بما أنت أهله، وسيجزي من رد رسالتك وخرج عن طاعتك، وكفى بالله شهيداً ].
هداية الآيات
الآن هداية الآيات، وكل آية تحمل هداية، وأعيد القول: لم سميت الآية آية؟ أولاً: كم آيات القرآن الكريم؟ستة آلاف ومائتان وأربعون آية أو ما يقاربه، كل آية ولو كانت مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64]، أقصر آية في القرآن، مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64]، وأطول آية في كتاب الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [البقرة:282]،والآية معناها العلامة، وتدل على أمرين:الأول: على وجود الله العليم، الحكيم، القوي، القدير، الرءوف، الرحيم.والثاني: على صحة نبوة صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يعقل أبداً أن يوجد كلام بدون متكلم، لا يعقل أن يوجد علم بدون عالم، أليس كذلك؟ فكل آية تدل على وجود الله عز وجل؛ إذ هو الذي تكلم بها وأوحاها وأنزلها. هذا أولاً.ثانياً: الذي نزلت عليه وأوحيت إليه لا يكون إلا رسولاً؟ أليس الرسول الذي تعطيه رسالة كلامية أو كتابية بلغها إلى فلان، كيف ينزل عليه كتابه ولا يكون رسوله؟ مستحيل.والآية في اللغة العربية: العلامة، أعطني آية تدل على بيت فلان؟ تقول له العمود الفلاني كذا.. إذا وجدته هو العلامة على بيت فلان.قال: [ من هداية الآيات:أولاً: قبح الاستعجال -الاستعجال محمود أو قبيح؟ قبيح جد القبح- والجبن -محمود أو لا؟ مذموم- وسوء عاقبتهما ]، كيف تكون؟[ ثانياً: الآخرة خير لمن اتقى -من أين؟- من الدنيا ]، والله العظيم، الآخرة لمن اتقى خير من الدنيا، أو لا؟ الآخرة لمن اتقى الله خير له من الدنيا ولو أعطي الدنيا كلها.[ ثالثاً: لا مفر من الموت ولا مهرب منه بحال من الأحوال ]، ممكن في من يهرب أو يفر؟ مستحيل، لا مفر من الموت ولا مهرب منه؛ لقوله تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].[ ربعاً: الخير والشر كلاهما بتقدير الله عز وجل ]، أما قال تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78]، أي: من الخير والشر.[ خامساً: الحسنة من الله والسيئة من النفس ]، وإليكم الحديث النبوي الشريف، يقول صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده! )، من هو الذي نفس الرسول بيده؟ الله، هذه يمين الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم، ( والذي نفسي بيده! لا يصيب المؤمن من هم ولا حزن ولا نصب، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله عنه من خطاياه ).واسمع قتادة من رجالات التابعين يقول: لا يصيب رجلاً خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر من ذلك.كان السلف الصالح إذا عثرت بغلته أو فرسه راجع نفسه، آه! أذنبت ساعة كذا، قصرت في كذا، لم، والكافر ما يصاب ولا تعثر دابته؟ هذا يريد الله تطهيره وتنقيته، ما يبقى ذاك الوسخ على قلبه، يصبه بمصيبة لتطهيره وتصفيته، وهذا الذي أقسم عليها الرسول وحلف، أليس كذلك؟قال: [ الحسنة من الله والسيئة من النفس؛ إذ الحسنة أمر الله بأسبابها بعد أن أوجدها وأعان عليها، وأبعد الموانع عنها، والسيئة من النفس؛ لأن الله نهى عنها وتوعد على فعلها، ولم يوفق إليها ولم يعن عليها، فهي إذاً: من النفس ].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
23-04-2021, 03:00 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (44)
الحلقة (267)
تفسير سورة النساء (49)


في هذه الآيات جاء التوبيخ من الله عز وجل لمن هم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين الذين لا يطيعون أمره، وإنما يظهرون له أنصياعهم لأوامره وتنفيذهم لتوجيهه، حتى إذا غادروا مجلسه أجمعوا أمرهم على عصيانه، وما ذاك إلا لفرط جهلهم وسوء فهمهم لما يتلى عليهم من كتاب ربهم، ثم إنهم بعد ذلك إن أصابهم الأمر من الأمن أو الخوف سارعوا بإفشائه وإذاعته فزعاً وخوفاً، ولو تركوا هذا الأمر لأهل الشأن والاختصاص لعلموا ما يصلح أن يذاع من هذه الأخبار وما ينبغي أن يكتم، حتى لا يوقعوا الفشل في صفوف جند الله المجاهدين.
فضل الاجتماع في بيوت الله ومدارسة كتابه
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل.وأذكركم بالفضيلة العظيمة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قوله: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).وأخرى: ( أن من صلى المغرب وجلس في بيت الله يذكر الله الملائكة تصلي عليه حتى يخرج من المسجد، ما لم يحدث حدثاً، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه.. حتى يخرج من المسجد بعد صلاة العشاء ).أما الفضيلة العظيمة، ففي قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة ).ومن أراد أن ينظر إليها فليقف ولينظر، هل هناك صخب أو صوت نزاع؟ لا. بل سكينة، لو كنا في سوق أو في بيت أو في مكان لن نكون هكذا أبداً ومستحيل، ( نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة )، أين مظاهر العذاب بيننا؟( وذكرهم الله فيمن عنده )، وهذا شرف ما فوقه شرف، من نحن وما نحن حتى يحدث الله الملائكة عنا، ويقول: عبادي اجتمعوا في بيتي يتلون كتابي ويتدارسونه؟ لو أرادنا أن نحصل على مثل هذا لو ننفق ما في الأرض ممكن؟ غير ممكن.
تفسير قوله تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ...)
ها نحن مع سورة النساء المدنية، ومع هذه الآيات الأربع أيضاً، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتدبروا ما تسمعونه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا * وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:80-83].عجب هذا القرآن، عجب أو لا؟ الجن قالوا: عجب ونحن العرب ما نقول عجب؟! أما قالت الجن، واسمع سورتها: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:1-2]، المتدبر يعرف أنه عجب.
تلازم طاعة الله تعالى وطاعة رسوله
قال الله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، بلاغ رسمي من الله، اسمعوا وعوا، مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ [النساء:80]، من ذكر أو أنثى، من كبير أو صغير، علموه أنه قد أطاع الله، والعكس: من يعص الرسول فقد عصى الله، كيف هذا؟ إي نعم؛ لأن الرسول هو الذي يبلغنا أوامر الله ونواهيه، فالله يوحي إلى رسوله المحطة البشرية التي تتلقى المعارف الإلهية وهو يبلغها عن الله، فمن هنا: من أطاع الرسول فيما بلغه فقد أطاع الله، ومن عصى الرسول فقد عصى الله. مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ [النساء:80]، معشر المؤمنين والمؤمنات! يجب أن نطيع الرسول، الرسول من هو؟ الرسول العظيم، صاحب الرسالة، خاتم الأنبياء، محمد صلى الله عليه وسلم.ثم قال تعالى: وَمَنْ تَوَلَّى [النساء:80]، رفض الطاعة، فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80]، يخاطب رسوله، علمهم أن من يطيعك يا رسولنا فقد أطاع الله؛ حتى لا يترددوا في طاعتك، ومن أعرض عن الطاعة وتولى فلا تضربه ولا تقتله ولا تكرب من أجله ولا تحزن، فإننا ما أرسلناك عليهم حفيظاً، تحملهم إلى الهدى بعصا، مهمتك البلاغ فلا تكرب ولا تحزن.
اطلاع الله تعالى على المخالفين لأوامر نبيه عليه الصلاة والسلام
ثم يقول تعالى عن هؤلاء ضعاف الإيمان، والمنافقين المندسين في جماعة المؤمنين، وتقدم الحديث عنهم في الآيات السابقة، هم الذين إذا أصابتهم حسنة قالوا: من عند الله، وإذا أصابتهم سيئة قالوا: من هذا. متطيرين برسول الله صلى الله عليه وسلمِ، ضعاف الإيمان والمنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان بالكذب، وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:81]، أي: أمرك طاعة يا رسول الله! أمرنا لك طاعة ما نعصيك؛ لأنهم بلغهم قول الله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى [النساء:80]؛ خليه لله، فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:80-81]، إذا أمر النبي، أو أرشد صلى الله عليه وسلم أمته، وهم في مجلسه، يقولون: طاعة، أمرك طاعة، سمعنا وأطعنا. فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ [النساء:81]، خرجوا من المسجد، من حلقة الذكر، من محل المحاضرة والخطبة، (بَرَزُوا): خرجوا؛ لأن من خرج من المسجد برز للشمس والهوى. فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81]، بيتوا، مكروا، دبروا، أنهم لا يقولون ولا يفعلون بما أمرهم، (طَائِفَةٌ)، ما قال: كلهم؛ لأن المرض يختلف، (بَيَّتَ طَائِفَةٌ).. التبييت معروف: المكر والتدبير في الخفاء. بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81]، لن نفعل هذا، لن نضحي بوجودنا، لن.. لن.. وهكذا فيما بينهم. وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ [النساء:81]، والله يكتب ما يبيتونه من المكر، والذي يكتب ملائكته، هو الذي يكتب إذاً، وسيجزيهم بمكرهم وانصرافهم وإعراضهم، لا يظنون أنهم مهملون، يمكرون ويدبرون ضد رسول الله ما شاءوا في الخفاء، فليعلموا أن عين الله تراهم، وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ [النساء:81]، فالذي يتدبر هذه الآيات على الفور يصبح مؤمناً صادقاً. وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81]، أي: تأمر به، وتنهى عنه، أو تدعو إليه. وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ [النساء:81]؛ ليعلموا أنهم ليسوا مهملين، هم تحت رقابة الله عز وجل، الملائكة يكتبون كل كلمة يقولونها.
تثبيت الله لنبيه وأمره له بالتوكل عليه
قال الله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء:81] يا رسولنا. هذه الآيات تفهمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلاقي من العنت والتعب والألم ما لا نقدر قدره، فلولا ربه عز وجل يؤدبه بهذه الآداب لهرب وما استطاع أن يبقى، كيف يهرب؟ أما هرب يونس بن متى؟ ما أطاق، يقولون: نعم، ويخرجون يتآمرون؛ ليبطلوا ذلك القول، كيف يفعل؟إذاً: فصلوا عليه وسلموا.وعلى الدعاة أن يذكروا هذا أيضاً، المحاضر يحاضر وهم يتغامزون والله العظيم، المحاضر يحاضر وهم يبيتون خلاف ما قال، ما سبب هذا؟ ضعف الإيمان، كمية الإيمان خفيفة ما تسيطر على القلب ولا على الحواس والجوارح.إذاً: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء:81]، لك أن تقول: لا تلتفت إليهم، وإلى ما يقولون ويبيتون، أو أعرض عنهم: لا تهش في وجوهم ولا تبش، أعرض عنهم بوجهك، احتقاراً لهم وعدم مبالاة بمواقفهم النفاقية. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [النساء:81]، لا تعرض عنهم فقط، ما تتوكل على الله تخاف، يبيتون لك في الليل ويضربونك، الإعراض عنهم وهم رؤساء أرباب مال وأعوان، فالإعراض عنهم يعرض الرسول لأذيتهم، وهنا طمئنه الله عز وجل، وقال: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:81]، اثبت، أعرض عنهم ولا تبالِ بهم، متوكلاً على الله، والله عز وجل لا يضيعك، وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:81].
تفسير قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)
ثم قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، لو كانوا يتأملونه، ويتدبرونه، يقرءون الآية ويعودنها مرة بعد مرة، يبحثون عن المعاني التي تحملها، وعن الهدى الذي نزلت به، لو تدبروا القرآن لآمنوا حق الإيمان، ولانقادوا تمام الانقياد، ولآثروا حب رسول الله على حب أنفسهم وأموالهم، لو تدبروا القرآن لخرجوا بنتائج عظيمة، وهي جهدهم في هذه الحياة الوسخة الدنية، وإقبالهم على الملكوت الأعلى والدار الآخرة، هذه هي الوصفة الدوائية الطبية، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، ما من إنسان بعقل، يفهم القرآن بلغته، ويتدبرها ويقرأ، إلا وارتفع منسوب إيمانه إلى نسبة عجيبة، إلا وزاد إيمانه فوق العادة، إلا وأخذ يتخلى عن كل رذيلة اتصف بها أو لازمته زمن حياته، لا يخرج إلا بالنتائج الحق، الإيمان الحق، الإقبال على طاعة الله ورسوله، التأدب والأخلاق القرآنية النبوية، فيسمو، فيصبح من أفضل الناس وأكملهم، هذه وصفة طبية أو لا؟فهل إخواننا يتدبرون القرآن؟ الذين يقرءونه على الموتى لا يتدبرونه.سألني أحد الإخوان، قال: في بلادنا يقرءون القرآن على الموتى؟ قلت له: هذه بدعة ما تنفع، وإن كان لا بد وهم يجادلونك، قل لهم: واحد يقرأ ويرتل وأنتم تسمعون وتتدبرون، هذا لا بأس به، يقرأ قارئ يجيد القراءة، وأنتم تتدبرون وتبكون وتدعون لميتكم، فهذا حسن، أما أن نعطي الدينار والدرهم لقراء يقرءون على الميت؛ ليدخل الجنة وينجو من النار، هذه أوهام باطلة. أو نقرأ القرآن على الميت وهو بين أيدينا، لما نفرغ من القراءة نأكل البقلاوة والحلاوة، كيف ميت بين أيدينا ونأكل ونشرب؟! يا شيخ! لقد هبطنا فلا تلمنا، إي نعم، أيام كنا في علياء السماء، ما كان يحدث هذا أبداً، والمؤمنون والمؤمنات دعاهم ربهم إلى أن يتلوا كتاب الله ويتدبرونه، لا أن يقرءوه على الموتى لينجوه من عذاب الله، أو يدخله الجنة دار الأبرار.قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، استفهام إنكار عليهم جهلهم وإعراضهم. وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ [النساء:82]، أي: لو كان القرآن من عند غير الله تعالى، قاله عالم، ساحر، شاعر، إنسان، فيلسوف، أو اجتمع فلاسفة الدنيا كلهم.. وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ [النساء:82]، والله! لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، مائة وأربع عشرة سورة، ستون حزباً، ثلاثون جزءاً، لن تجد فيه اختلافاً قط، لو أن أعلم الناس يكتب كتاباً كهذا، والله لا بد وأن تشاهد الاضطرابات والاختلافات في أقواله، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].إذاً: علمت أن هذا الكلام كلام الله، فآمن بالله، وإن آمنت بالله فآمن برسوله الذي أوحاه إليه، وإذا آمنت بالله ورسوله فأطع الله ورسوله، ولماذا تأمرني بهذه الطاعة؟ الجواب هنا: لأن تكمل وتسعد، من أجل أن تطيب وتطهر، من أجل أن ترتفع، من أجل أن تخلد في دار السلام، من أجل أن تنجو من الذل والهون والدون، وفي الآخرة من عذاب النار، هذه الدعوة لك بالطاعة ليست لله ينتفع بها، فالله في غنى عن عبادتك، وإنما طاعة الله وطاعة الرسول نظام يحفظ الأمن، ويحقق المودة والإخاء، ويرفع الإنسان إلى مستوى البشرية الكامل، ويبرز به عن المهاوي والمساقط، ويجد لذة الحياة وطعمها، وبالتالي ليتهيأ ليخترق السبع السماوات وينزل في الجنة دار الأبرار، الآن فهمتم السر في الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول؛ من أجل إسعادنا وإكمالنا، والله الذي لا إله غيره!، ومن قال: نستطيع أن نكمل ونسعد بدون طاعة الله ورسوله يرفع يده، هاتوا في الإنس والجن والأبيض والأصفر والكافر والمؤمن؟ في من يكمل آداباً وأخلاقاً ويطهر نفساً ويسمو إلى الملكوت الأعلى بدون طاعة الله والرسول؟ مستحيل.ها هي دول الغرب والشرق، روسيا الحمراء، تبجحت وتطاولت، وقالت: لا إله والحياة مادة، و.. و.. وتكالبت، وإذا بها تهبط هبوطاً لا نظير له، الفسق والفجور والخداع والبلاء والشقاء والفقر والعذاب، لا إله إلا الله! أين تلك الصرخات والصيحات والتأجيج؟ وإخواننا من العرب مالوا إليها، وصافحوها، الاشتراكية اشتراكيتنا نوالي من يواليها ونعادي من يعادها، هذا صوت العروبة، أين الاشتراكية؟ مزقت تلك الشعوب، وأهانتها وأذلتها وأفقرتها، وأوجبت لها الخزي والعار في الدنيا والآخرة.خلينا من الشيوعية، الديمقراطية الفرنسية، ماذا يوجد في فرنسا وبريطانيا؟ اللواط، الزنا، الخيانة، القتل أل.. أل.. الهبوط إلى الأرض، أين آثار أنظمتهم وقوانينهم. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، الله.. الله.. لو تدبره مسيحي، يهودي التدبر الحق في صدق ويفهم لغته ومعانيه ما يخرج من مجلسه إلا ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وَلَوْ كَانَ [النساء:82]؛ القرآن، مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، الآن تقرأ من أول الفاتحة إلى سورة الناس لن تجد تعارضاً بين آية وأخرى أبداً.

يتبع

ابوالوليد المسلم
23-04-2021, 03:01 AM
تفسير قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به...)
قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، والكلام أصلاً إخبار من الله للرسول والمؤمنين، يتكلم عن ضعاف الإيمان والمنافين، قال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ [النساء:83]، خرجت سرية تغزوا، بلغهم أن السرية انتصرت وجاءوا بغنائم، ما يسكتون بل يذيعون أكثر من إذاعة لندن، كل البيوت تسمع: غنائم، جابوا كذا.. ونحن حرمنا من أن نعطى منها.. ما في صبر، وإذا جاء خبر سرية، أن السرية الفلانية انهزمت واستشهد من استشهد، ما يصبرون: هه! أما قلنا لكم، كيف كذا.. وكذا.. إذاعة لندن في كل بيت. القرآن فيه إذاعة نعم، اسمع! وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ [النساء:83]، الانتصار والانكسار، ماذا يفعلون؟ أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83]، بالمدينة بكاملها وخارج البلاد.قال تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ [النساء:83]، الحاكم العام، وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ [النساء:83]، منهم، وهم قادة المعركة ومسيروها، لو ردوا هذا الأمر، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ [النساء:83]، والاستنباط: استخراج الشيء من داخله، كاستنباط الماء من الأرض. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83]، اللهم اجعلنا من ذلك القليل، سمعتم هذه؟ هذه عامة، ولولا فضل الله علينا ورحمته لاتبعنا الشيطان فيما يزين، فيما يحسن، فيما يدعو إليه، فيما.. فيما.. وهمه فقط ألا نعبد الله عبادة تزكي أنفسنا، فتهيئنا للسعادة في الدار الآخرة، إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83]، ممن عصمهم الله عز وجل.إذاً: هل يجوز لنا أن نتبع الشيطان؟وهل الشيطان يدعو بأعلى صوته؟ لا. يدعو في القلب، يدعو إلى المخمرة، إلى المزناة، إلى الملهى، إلى الملعب، إلى كذا.. إلى كذا.. بالهواجس والوساوس والخواطر، فمن عرف فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأدبر عنه وأعرض، نجا. ومن أصغى واستمع يقوده إلى أن يقول الباطل، ويفعل المنكر.
ملخص لما تقدم تفسيره من آيات
اسمعوا تلاوة الآيات الأربع مرة ثانية: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، صح أو لا؟ والذي ما يطيع الرسول أطاع الله؟ والذي يعصي الرسول عصى الله أو لا؟ إي نعم؛ لأن الرسول يبلغ عن الله أوامره ونواهيه وما يريده منه لعباده من الآداب والأخلاق والعبادات والأحكام. وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80]، هذا من باب الإحسان إلى نبينا، من باب اللطف به، من باب شد أزره وتقويته على دعوة الله، يقول له مولاه: وَمَنْ تَوَلَّى [النساء:80]، وأعرض وما استجاب، لا آمن ولا استقام فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80]، ما ألزمناك بهدايتهم، ووضعنا السيف في يدك أن اقتلهم إذا لم يؤمنوا، لا أبداً، فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:80-81]، من هؤلاء؟ المنافقون والمرضى، في مجلس الرسول، في الروضة لما يقولون، نفعل كذا.. نقوم بكذا.. يقولون: نعم، سمعنا وأطعنا، أمرنا طاعة، فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ [النساء:81]، خرجوا من المسجد، ماذا يفعلون؟ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81]، أي: بيتوا العزم على ألا يفعلوا ما قاله وأمر به، من اطلع على أسرارهم، وعرف خباياهم؟ الله جل جلاله، من هنا يدخلون في الإيمان ويسلمون، وكم وكم.. من آمن وأسلم بهذه الآيات القرآنية، ما مات الرسول وفي المدينة منافق قط.قال: فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:81]، ما يكفيك أن يكون الوكيل هو الله؟ إذا وكلته في أمر عظيم، هو وحده الذي يكفي. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، عاد إليهم ليربيهم، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، فيعرفون أنه كلام الله، وأن من نزل عليه رسول الله، وأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، للتي هي أحسن، يبشر المؤمنين، ينذر ويخوف الكافرين، فيكتسبون العلوم والمعارف، ويثبت إيمانه ويقوى، ويزداد لهم اليقين، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، يا رسول الله! يا ربنا! إن أمة نبيك ذات الآلاف الملايين، جلهم ما يتدبر القرآن، أكثرنا لا يتدبره أبداً، إن قرأ بسرعة، أبداً لا يسأل عن معنى آية ولا ما فيها، كيف إذاً يزداد إيماننا ويثبت يقيننا وترتفع علومنا إلى مستويات أعلى؟ كيف يتم؟ إذا كان ضعاف الإيمان يدعوهم الرحمن إلى التدبر بالقرآن؛ ليكمل إيمانهم ويثبت يقينهم، نحن أولى بهذا؛ لأن القرآن ما نزل لخمس منافقين في المدينة، نزل للبشرية كلها إلى أن تقوم الساعة، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ [النساء:82]، أي: القرآن، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، فلما اتحد وانصرم، ولم تجد آية تخالف الأخرى، أو تنقض حكم الله فيها دل هذا على أن من أنزله عليم حكيم، ألا وهو الله رب السماوات والأرض، ورب العالمين.ثم قال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83]، وهنا حقيقة، إذا كانت هناك حرب بين المسلمين وأعدائهم ليس من حق العوام، والذين لا صلة لهم بأن يتكلموا فيها، أبداً، ألمانيا كانت تفرض قانوناً: ألا يتكلم واحد في الحرب، عرفت هذا؛ لأن كلام العوام في المقاهي والبيوت وكذا، يهيج ويزد الفتنة، ويكثر الضعف والعياذ بالله، وسنسمع بيان هذا في التفسير إن شاء الله.قال: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ [النساء:83]، لكان ماذا؟ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ [النساء:83]، من الرسول وأولي الأمر، يستنبطون ما هو صالح في صالح الأمة. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [النساء:83]، أيها المؤمنون والمؤمنات! لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
الآن نستمع ما أمكننا أن نسمعه من شرح هذه الآيات، على الأقل آية أو آيتان. ‏
معنى الآيات
قال: [ معنى الآيات في قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ [النساء:80]، إنذار إلى الناس كافة، في أن من لم يطع الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم ما أطاع الله؛ إذ أمر الرسول من أمر الله، ونهي الرسول من نهي الله تعالى، فلا عذر لأحد في عدم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ]، كذا عرفنا؟ آمنا أو لا؟[ وقوله تعالى: وَمَنْ تَوَلَّى [النساء:80]، أي: عن طاعتك فيما تأمر به وتنهى عنه يا رسولنا، فدعه ولا تلتفت إليه؛ إذ لم نرسلك لتحصي عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتجزيهم بها، إن عليك إلا البلاغ، وقد بلغت فأعذرت. وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:81]، أي: ويقول أولئك المنافقون المتطيرون بك السيئو الفهم لما تقول، يقولون: طاعة أي: أمرنا طاعة لك، أي: ليس لنا ما نقول إذا قلت إلا ما تأمر به إذا أمرت، فنحن مطيعون لك -داخل المجلس- فَإِذَا بَرَزُوا [النساء:81]، أي: خرجوا من مجلسك بدل طائفة منهم غير الذي تقول واعتزموه دون الذي وافقوا عليه أمامك، وفي مجلسك، والله يكتب بواسطة ملائكته الكرام الكاتبين ما يبيتونه من الشر والباطل، وعليه: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [النساء:81]، ولا تبالِ بهم: وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:81]، فهو حسبك وكافيك ما يبيتونه من الشر لك ]، يكفيك به.[ وقوله تعالى في الآية الثانية: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، يؤنبهم بإعراضهم وجهلهم وسوء فهمهم؛ إذ لو تدبروا القرآن وهو يتلى عليهم، وسمعوه صباح مساء لعرفوا أن الرسول حق، وأن ما جاء به حق؛ فآمنوا وأسلموا وحسن إسلامهم، وانتهى نفاقهم الذي أفسد قلوبهم وعفن آراءهم؛ إذ تدبر القرآن بالتأمل فيه وتكرار آياته مرة بعد أخرى يهدي إلى معرفة الحق من الباطل، وأقرب ما يفهمونه لو تدبروا أن القرآن كلام الله تعالى وليس كلام بشر؛ إذ لو كان كلام بشر لوجد فيه التناقض والاختلاف والتضاد، ولكنه كلام خالق البشر، فلذا هو متسق الكلم، متآلف الألفاظ والمعاني، محكم الآي، هادٍ إلى الإسعاد والكمال، فهو بذلك كلام الله حقاً ومن شرف بإنزاله عليه رسول حق أيضاً، ولا معنى أبداً للكفر بعد هذا والإصرار عليه، ومنافقة المسلمين فيه، هذا معنى قوله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].وقوله: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا [النساء:83]، وهي الآية الرابعة؛ فإن الله تعالى يخبر عن أولئك المرضى بمرض النفاق، ناعياً عليهم إرجافهم وهزائمهم المعنوية، فيقول: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ [النساء:83]، أي: إذا وصل من سرايا الجهاد خبر نصر أو هزيمة، سارعوا بإفشائه وإذاعته؛ وذلك عائد إلى مرض قلوبهم؛ لأن الخبر -وأطلق عليه لفظ الأمر- لأن حالة الحرب غير حالة السلم، إذا كان بالنصر المعبر عنه بالأمن، فهم يعلنونه حسداً أو طمعاً، وإذا كان بالهزيمة المعبر عنها بالخوف؛ يعلنونه فزعاً وخوفاً؛ لأنهم جبناء كما تقدم وصفهم. قال تعالى في تعليمهم وتعليم غيرهم، ما ينبغي أن يكون عليه المجاهدون في حال الحرب ]، كيف يكونون؟قال: [ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ [النساء:83]، القائد الأعلى، وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ [النساء:83]، وهم أمراء السرايا المجاهدة، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، أي: لاستخرجوا سر الخبر وعرفوا ما يترتب عليه فإن كان نافعاً أذاعوه، وإن كان ضاراً أخفوه.ثم قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [النساء:83]، أيها المؤمنون، لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ [النساء:83]، في قبول تلك -الإرجافات- الإشاعات المغرضة والإذاعات المثبطة إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83]، منكم من ذوي الآراء الصائبة والحصافة العقلية، إذ مثلهم لا تثيرهم الدعاوى، ولا تغيرهم الأراجيف، ككبار الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين].
هداية الآيات
[هداية الآيات:أولاً: وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يطاع لذاته وإنما يطاع لذات الله عز وجل.ثانياً: وجوب تدبر القرآن؛ لتقوية الإيمان.ثالثاً: آية أن القرآن وحي الله وكلامه سلامته من التناقض والتضاد في الألفاظ والمعاني ]، الآية الدالة على أن القرآن كلام الله هو سلامته من التناقض والتضاد في الألفاظ والمعاني.[ ربعاً: تقرير مبدأ أن أخبار الحرب لا تذاع إلا من قبل القيادة العليا؛ حتى لا يقع الاضطراب في صفوف المجاهدين والأمة كذلك.خامساً: أكثر الناس يتأثرون بما يسمعون إلا القليل من ذوي الحصافة العقلية والوعي السياسي ].والله تعالى أسأل أن يجعلنا من صالح عباده.وصلى الله على نبينا محمد.

ابوالوليد المسلم
23-04-2021, 03:02 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (45)
الحلقة (268)
تفسير سورة النساء (5)


المال قوام الحضارة وعصب الحياة، ولذلك شرع الله سبحانه وتعالى أن يحجر على السفيه لمنعه من تبديد أمواله، ومن كان صغيراً يمتحن فإن علم رشده بعد ذلك فيدفع إليه ماله، ومن كان عنده يتيم أو سفيه فيجب عليه حفظه وحفظ ماله، ولا يأكله ويبدده، وإن كان الولي فقيراً فيأكل من مال اليتيم بالمعروف، وإن كان غنياً فيستعفف عن مال اليتيم فهو خير له وأحب إلى الله.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ...) من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر جميعاً بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).وأذكركم أيضاً بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه؛ كان كالمجاهد في سبيل الله ).وأخرى: أن من صلى فريضة في المسجد وجلس ينتظر الأخرى فإن الملائكة تصلي عليهم، تقول: ( اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث ) من صلاة المغرب إلى انتهاء صلاة العشاء والملائكة النورانيون يصلون علينا، ماذا نريد بعد هذا؟! لو كان الأمر إلينا لو أنفقنا ما في الأرض على أن يصلي علينا ملكاً ما استطعنا، ولا أحد يقدر على ذلك، ولكنها منة الله وفضله، الحمد لله! وما أكثر المحرومين من هذا الإنعام والإفضال. أتلو عليكم الآيات الثلاث التي درسناها بالأمس، ثم نستعرض نتائجها من باب تذكير الناسين، وتعليم غير العالمين، ثم ننتقل إلى الآية الآتية أو الآيتين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا * وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:2-4].هذه الآيات الثلاث تحمل هدىً كبيراً، وعلماً ومعرفة، لو ترحل إلى الصين لتعلم هذا وتعود والله ما كان كبير سفر، والله لهي خير من مليون ريال، المليون ريال يفنى أو يوقعك في الفتنة، وهذه تزيد في إيمانك وقوة نورك وبصيرتك.إذاً: الآن تأملوا! أين وجدت هذه الهدايات وكيف أخذناها؟ ‏
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: كل مال حرام فهو خبيث، وكل حلال فهو طيب ] كل مال حرام فهو خبيث عفن منتن، وكل مال حلال فهو طيب، من أين استنبطنا هذا؟ من قوله: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2] لا تعط ليتيمك الرديء وتأخذ الجيد، تعطيه شاة هزيلة وتأخذ شاة سمينة، أو صاع رطب من العجوة وتعطيه صاعاً من البرني مثلاً. هذا اللفظ عام.[ ثانياً: لا يحل للرجل -الفحل- أن يستبدل جيداً من مال يتيمه بمال رديء من ماله؛ كأن يأخذ شاة سمينة ويعطيه هزيلة، أو يأخذ تمراً جيداً ويعطيه رديئاً خسيساً ].من أين أخذنا هذا؟ من قوله: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2].[ ثالثاً: لا يحل خلط مال اليتيم مع مال الوصي -الولي- ويؤكلان جميعاً، لما في ذلك من أكل مال اليتيم ظلماً ]. وأخذنا هذا من قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2] مجموعة معها مخلوطة بها.وهناك مسألة كانت بعد نزول هذه الآية فرجت بعض التفريج، وهي: لما نزل قول الله تعالى من هذه السورة: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] وجف أهل اليتامى، وفصلوا أموال اليتامى عن أموالهم؛ فكانت السيدة تنصب قدراً لطعامها مع أولادها، وتنصب آخر ليتيمها، وتجعل الماء في قربة ليتيمها خاصة به، وهي وأولادها لهم قربة. وهكذا فصلوا أموال اليتامى عن أموالهم خوفاً من هذا الوعيد الإلهي.هذا شأن المؤمنين، لا تعجب! والله لهذا شأن المؤمنين الموقنين!وكانت حيرة، وكان تعباً، فجاءوا يسألون رسول الله؛ لأنه المفزع الوحيد بعد الله، فأنزل الله تعالى من سورة البقرة بعد النساء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220] في الدين. وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220] فأذن لهم أن يخلطوا أموال اليتامى مع أموالهم، على شرط أن تكون أموال اليتامى متوفرة، ولا تنقص، ولا يؤخذ منها شيئاً.وقد ضربت لكم المثل برجل عنده خمسة أولاد، وهو وزوجته سبعة، واليتيم واحد ابن أخيه أو ابن أبيه، هذا اليتيم مكفول، إذا كانوا يخبزون له خبزة خاصة به ويخبزون هم خبزة لأسرتهم، هذه الخبزة تعدل تلك الخبزة وإلا لا؟ انظر ماذا فقد اليتيم، كونه يشاركهم في جزء من سبعة، إذا كانت النفقة سبعة ريالات فاليتيم عليه ريال، أحسن من أن ينفق عليه قدر خاص بلحمه ومرقه يكلف أضعافاً، المهم لا بأس أن تخالطوهم على شرط أن يكون ذلك في صالح اليتيم، والله رقيب. وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220] لا تدعي أنك خلطت ماله بمالك من أجل إصلاحه وأنت تأكله وتضيعه. [ رابعاً: جواز نكاح أكثر من واحدة إلى أربع ].جواز التزوج بأكثر من واحدة إلى أربع، وأما فوق الأربع فلا يجوز، والذي يفعل ذلك يرجم إذا كان على علم؛ لأنه زنى وهو محصن، وإن كان جاهلاً يجلد حتى يعرف الطريق.قال:[ رابعاً: جواز نكاح أكثر من واحدة إلى أربع مع الأمن من الحيف والجور ] أما إذا كان غير واثق في نفسه من أنه سيعدل بين امرأتين أو أكثر فلا يحل له أن يتزوج الثانية.هل في نفوسكم بعض الشك؟ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3] فقط، لم يدافع الله عن النساء هذا الدفاع؟الجواب: لأنه ولي المؤمنين والمؤمنات. ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) أذنت لك في أن تتزوج بوليتي هذه وإذا بك تجور وتحيف وتظلمها إما في طعامها وشرابها، إما في لباسها، إما في سكنها، إما في مبيتها، لا يحل أبداً أن تؤذي مؤمنة.وهل هذا خاص بالنساء فقط؟ هل يجوز أذية مؤمن صعلوك في القرية بنظرة شزرة، بسب، بشتم، بالنيل منه بأدنى نيل من جسمه؟ يرضى الله بهذا؟ أعوذ بالله. ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) ومن يحارب الله ينتصر؟ ينكسر وينهزم. عرفتم هذا؟ هذه امرأة وفي بيته يجب أن يعدل بينها وبين ضرتها سواء الأولى أو الثانية أو الثالثة، والعدل -كما علمتم- ولا تنسوا:أولاً: في المبيت.ثانياً: في الكسوة.ثالثاً: في الطعام والشراب.رابعاً: في الآداب والأخلاق. هذه: يا أم إبراهيم يتبجح، والأخرى: يا سعدية، يجوز هذا؟ هذه يبتسم في وجهها لأنها بنت الأمير أو جامعية، وهذه يكشر في وجهها، يجوز هذا؟ حرام هذا، ما تستطيع لضعف إرادتك وقلة قدرتك وعلمك اكتف بواحدة، واحمد الله على ذلك واشكره، وإن لم تجد بداً طلق هذه وأعطها حقوقها، وقل لها: سامحيني، وائت بأخرى.قال: [ خامساً: وجوب مهور النساء، وحرمة الأكل منها بغير طيب نفس صاحبة المهر، وسواء في ذلك الزوج -وهو المقصود في الآية- أو الأب والأقارب ] مطلقاً. من أين أخذنا هذا؟من قول ربنا: وَآتُوا [النساء:4] بمعنى: أعطوا. النِّسَاءَ [النساء:4] ماذا نعطيهن؟ صَدُقَاتِهِنَّ [النساء:4] الصدُقات: جمع صدقة بمعنى المهر؛ لأنه يدل على صدق النكاح لا العبث والسخرية به. فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ [النساء:4] رضيت الزوجة بأن تعطيك ألف ريال، أو سوار من أسورتها لحاجتك ونفسها طيبة.وقد ذكرنا لطيفة هنا، وهي: على شرط ألا تكون حيية، والحياء في النساء تسعة وتسعين درجة، فإذا عرفت أنها ما أعطتك هذا القدر من مهرها إلا حياء لما جربتها وعرفت من حيائها، لا يجوز أن تأخذه، نفسها ما هي طيبة، فقط ما استطاعت أن تقول: لا.وهذا يطبق علينا جميعاً؛ فإذا عرف بيننا شخص حيي لا يرد سائلاً أبداً لو سأله عمارته أعطاه إياها، هذا ما نطلبه، ما نسأله. لم؟ لأن نفسه ما هي طيبة، فقط لحيائه أعطاك.وأخيراً: أذن الله تعالى للمؤمنين إذا أعطاهم أزواجهم شيئاً من مهورهم بالجواز وإلا لا؟ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ [النساء:4] أي: من المهر. نَفْسًا فَكُلُوهُ [النساء:4] وخذوه.
تفسير قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً ...)
إذاً: الآن مع الآيتين الكريمتين، إليكم تلاوة الآيتين واتلوهما معي.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [النساء:5-6].
أسباب بعد الأمة عن القرآن
عجب هذا القرآن! هل أصحاب هذا القرآن يحتاجون إلى دستور فرنسا؟ إيطاليا؟ أسبانيا؟ أمريكا؟ روسيا؟ ما ندري ما العلة في هجره؟ إنه الجهل، والله ما عرفوا هذا ولا سمعوا به! أكثر المسئولين في العالم الإسلامي الذين يديرون الوزارات والولايات والأحكام أكثرهم -ولا حتى خمسة في المائة- عرفوا هذا الكلام أو سمعوا به، لم؟ لأننا من ألف سنة تقريباً هجرنا القرآن، أبعدناه، إلى أين؟ إلى المقابر، إلى المآتم، من إندونيسيا إلى الدار البيضاء قروناً عديدة ما تجد من يقولك لك: من فضلك! اقرأ عليَّ شيئاً من القرآن، ولكن إذا مات أبوه أو أمه يبحث عنك بالشمعة -كما تقول العامة- ويأتي بك إلى البيت لتقرأ القرآن على أمه التي ماتت لتدخل الجنة. من فعل بكم هذا؟ الثالوث الأسود، ما عرفتموه؟إذاً: لم تنسابون وراءهم، وتجرون جرياً عجيباً كأنكم سكارى أو مسحورون؟قل: يا شيخ! ما عرف هذا إلا هذه المجموعة، أما أمتنا الألف مليون والله ما عرفت هذا!أقول: إنه يريد أن يطفئ هذا النور عليكم، حاولوا بالسلاح ما استطاعوا؛ لأن الله ولي المؤمنين، فقالوا: كيف نصنع؟ قالوا: نرميهم في أودية الفسق والفجور والظلام والشر فيكثر الخبث، وحينئذ يطرحون بين أيدينا.لتصدقوا هذا الكلام اتصلوا بإذاعة لندن، واسألوا بعض المختصين في الماسونية، سيحلفون لكم على أن هذا حقاً عندنا، وأننا نريد إطفاء هذا النور عنهم؛ ليصبحوا في الظلام كغيرهم من العالم الكافر والمؤمن، ولا حيلة لنا إلا بهذا المكر والدس والخديعة.من أراد أن يرد علي إذا أنا ما فهمت أو بربري أتكلم بما لا علم ليَّ يخلو بي ويحدثني فأشرح له موقفه.أقول: هاتك حجرة رسول الله، في أمسية العواصف والغبار والرسول يدخل الحجرة ويخرج ويضرب كفيه: ( ويل للعرب من شر قد اقترب -ثلاث مرات- فاهتزت أم المؤمنين وقالت: أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟! قال: نعم، إذا كثر الخبث ) كيف سادونا وداسونا وامتلكونا من إندونيسيا إلى المغرب لو كنا صالحين والصلاح فينا أكثر من الفساد؟ مستحيل، الطعام يشبع وإلا لا؟ الماء يروي وإلا لا؟ النار تحرق وإلا لا؟ الحديد يقطع وإلا لا؟ هل هذه السنن تبدلت؟إذاً: الفسق والفجور والإثم إذا كثر وعمَّ لا بد من الهبوط والسقوط. كيف يعرف هذا العدو ونحن ما نعرف؟ ويقول: أنا أخي ما يصلي في البيت ويسمع الأغاني وساكت عنه، كيف هذا؟ فهمتم هذه البربرية. هيا .. ماذا نصنع يا شيخ؟أولاً: نطهر بيوتنا، فلا يسمع فيها إلا ذكر الله؛ لأننا جماعة ممتازة، لسنا كاليهود والنصارى، نحن نريد أن نرقى إلى الملكوت الأعلى، وأن نواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، كيف تكون بيوتنا كبيوت المجوس واليهود والنصارى؟ هل يعقل هذا؟ هل نحن نرغب في الملكوت الأعلى، أم نخادع أنفسنا؟ لا يسمع في بيوتنا إلا ذكر الله وما والاه. أما أن تسمع أغاني العواهر، ومزامير الشياطين، وصور الأبالسة، وأولادنا يذوبون، ويتحللون، ونفوسهم تخبث، والآن بلغني مع المغرب: أن دار الملاحظة مسئول فيها قال: هذه الأيام من يوم ما جاء هذا الدش والأطفال ينصبون علينا بالعشرات يرتكبون أكبر الفواحش!وقد قلت هنا والله شاهد، بالتلفون قالت لي مؤمنة وهي تبكي: ابنها يفعل الفاحشة في أخته، ورجل قال: ماذا أصنع؟ ولدي يفعل الفاحشة في أخيه! وما زالت القلوب ميتة، والله لو كنا مؤمنين أحياء لا يبيت ليلة هذا الدش على سطح مؤمن، وليس هذا تخلف، ولا تأخر عقلي، ولا سوء فهم، ولا ضد حضارة، ولا ولا ... لأننا قلنا: نتحداكم! أعطونا النتائج الطيبة التي تكتسبونها من هذا الدش على سطوحكم؟ هاتوا. كم ريال في الليلة؟ كم نسبة صحتكم وعافيتكم الزائدة؟ ما هي النتائج: تشبعون عن الطعام؟ تزهد نفوسكم في المال؟ تبيتون ركعاً سجداً؟ ما هي النتائج؟ لا شيء إلا الدمار، هكذا نساق كالبهائم إلى المجزرة.والله إن لم نتب توبة صادقة ما بقيت هذه النعمة! لأن ربك تعرفه أين هو يا هذا؟ أين ربكم؟ بالمرصاد، يراقب.يعرف هذا أعداؤنا ونحن ما نعرفه، هم يسألون: كم سارق صار الآن في المملكة؟ هل ظهر فيها زنا وفجور؟ هل حصل فيها كذا وكذا؟ هل نزع النساء الحجاب عن وجوههن؟ هل كذا .. هل كذا؟ بدقة، ونحن كالبهائم.أعطيكم مثالاً حياً: جريدة الشرق الأوسط، لم في كل عدد في الجهة الأخيرة تجد عاهرة بجمالها؟ ما نعرف، اسأل، عن ماذا أسأل؟ هذا الشاب، هذا العزب، هذا المصاب، هذا يشاهدها ما يبكي؟ ما تتحرك غريزته؟ ما يفجر؟ هذه صورة، وكل الجرائد.

يتبع

ابوالوليد المسلم
23-04-2021, 03:02 AM
وسائل عودة الناس إلى دين ربهم
نقول: هذا الدستور الإلهي الرباني المحقق للسعادة في الدارين والكمال والعز والطهر والصفاء يجهل ولا يوجد في المائة واحد يعرف عنه شيئاً، القرآن يقرأ على المقابر في القبور على الموتى.وما زلت أقول وسوف أموت ولا يبقى من يقولها -والله العظيم فيما أعلم-: لا طريق إلى نجاتنا والإبقاء على نورنا وهدايتنا إلا أن نسلك ذلك المسلك النبوي، إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف دولاب العمل، لا دكان مفتوح الباب ولا مقهى ولا مصنع ولا متجر ولا مزرعة ولا حقل، وأهل القرية في قريتهم أو أهل الحي في مدينتهم على الفور يتوضئون ويلبسون أحسن لباسهم، ويأتون بنسائهم وأطفالهم إلى بيت ربهم. هل لهم رب؟ إي ورب الكعبة، من خلقهم؟ من رزقهم؟ من خلق هذا الكون لهم؟ له بيت؟ إي نعم، هو المسجد الجامع. أين يذهبون؟ إلى بيت ربهم، ماذا يريدون؟ يستمطرون رحماته، يطلبون فضله وإحسانه، يهربون من فتن الشياطين وويلات الدنيا إلى بيت ربهم ليتنفسوا الصعداء، ويروحوا على أنفسهم، لينسوا آلام الخبث وما أصابهم، وفوق ذلك ليتعلموا الكتاب والحكمة، ليعلموا فيسموا ويرتفعوا، سنة واحدة تنتهي وتختفي مظاهر الظلم، الخبث، الغش، الخداع، الكذب، الحسد، والله لتنتهي، سُنة الله عز وجل. ويفيض المال، والله ماذا يصنعون به، الذي كان ينفق معاشه خمسة آلاف تزيد عليه والله ما تنقص، ما يبقى محتاج بينهم ولا فقير. لا سرقة ولا غش ولا كذب ولا خداع، هذا ممكن أن يكون؟ والله الذي لا إله غيره! ما صبروا على هذا المجلس بنسائهم وأطفالهم، عام واحد يتعلمون الكتاب والحكمة وكلهم صدق، ما سمعوا حكماً إلا علموه وطبقوه، لم تمض سنة وهم أطهار أتقياء، أولياء لله لو رفعوا أكفهم إلى الله ما ردها خائبة أبداً. هل هناك طريق غير هذا يا شيخ؟ هذا صعب، ما نستطيع. قولوا لي: كيف نغلق دكاكيننا؟ كيف نأتي المسجد؟ هذا أمر صعب، ما نستطيع.إذاً: كيف تستطيعون أن تخترقوا سبع سماوات؟ وإلا تكذبون في إيمانكم ما لكم عمل؟وقلنا أيضاً: الذين اقتدينا بهم حتى في شرب الشاهي أو شرب الحشيشة، هؤلاء إذا دقت الساعة السادسة في أوروبا، في أمريكا، في اليابان؛ يقف العمل، ويذهبون إلى المساجد؟ ما عندهم مساجد، كفار، يذهبون إلى المراقص والملاهي ودور السينما والمعارض يخففون عن أنفسهم آلامها، ونحن ما نستطيع أن نذهب إلى المسجد؟ أموات نحن أم مسحورون؟ أمر عجب هذا! والله لو تحركنا في هذه البلاد هذه الحركة سنة واحدة لتغيرت الحياة تغيراً بكاملها، لكن أين العلماء؟ أين المبلغون؟ لا شيء! ناموا كما هم نائمون حتى تدق الساعة.بالأمس قلت لكم: من أراد أن يفجر أو يفسق في هذه البلاد يرحل، حتى ولو كان هاشمياً من آل البيت، هذا هو الواجب. ما تريد أن تستقيم اخرج، خل البلاد طاهرة، بالطهر تبقى أنوار الله وهدايته وراية لا إله إلا الله، وإن غضب العالم بأسره. عرفوا هذا فنشروا الخلاعة والدعارة والفساد والشر فينا حتى يعجلوا بذبحنا.
معنى قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ...)
الآن الآيتان الجليلتان اسمع قول ربنا جل وعز: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] ما المراد من السفهاء؟ جمع سفيه وإلا لا؟ ما المراد من السفيه؟ هو ناقص العقل الذي لا يحسن التصرف في المال. انتبهتم؟ يكفيه كيلو لحم يأتي بفخذ كامل، يكفيه بريال فول يجيب بثلاثة ريالات، يكفيه في كل فصل ثوب يأتي بعشر ثياب. السفيه الذي ما عنده علم واسع حاذر، وعقل حصيف يعرف أن يضع الريال، فإذا تبين أن امرأتك أو بنتك أو ولدك أو أخاك ما يحسن التصرف في المال يبذره ويفسده فلا تعطه المال. وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5]هي أموالهم سماها أموال؟ نعم، مال ابنك مالك، ومالي أنا المسلم مالك، أمة مشتركة في هذه؛ لأن الأموال قوام الأعمال.
معنى قوله تعالى: (التي جعل الله لكم قياماً)
قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5] الأموال قوام الأعمال، لو تنفذ خزينة الدول ضجت الدنيا وتساقط الناس. هي أموالنا جميعاً وإلا لا؟ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5] والقيام والقوام ما عليه يقوم الشيء، حياتنا تقوم على المال؟ إي نعم، قيام وقوام بمعنى واحد، وقرئ: (قيماً) أيضاً كعوذاً وعياذاً.حياتنا تقوم على المال، فلا يحل أبداً إسراف فيه ولا تبذير ولا تضييع بحال من الأحوال، وإن رأينا من يسرف ويبذر يجب أن يحجر عليه، هذا إذا كان كبير السن ابن العشرين والثلاثين وهو يعبث بالمال يجب أن يحجر عليه بصك من المحكمة فلا يستطيع أن يبيع ولا يشتري إلا في حدود عشرة ريالات وإلا خمسين. عرفتم معنى هذه الآية؟ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5].
معنى قوله تعالى: (وارزقوهم فيها واكسوهم ...)
وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [النساء:5] إذا حجرتم عليهم فليس معنى هذا أنك تجوعه وتعريه، أطعمه واكسه وافرش له الفراش، لكن لا تعطيه المال ينفقه وهو لا يحسن إنفاقه، سواء كانت زوجة وإلا ابن وإلا عم. هذا هو التكافل الاجتماعي.وقوله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [النساء:5] لم ما قال: وارزقوهم منها واكسوهم منها؟ هذه لطيفة لغوية. وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا [النساء:5] المفروض يقول: وارزقوهم منها وإلا لا؟ قال: فِيهَا [النساء:5] معنى هذا: لما تحجر على الزوجة، على الولد، على القريب؛ هذا المال يجب أن تنميه في صناعة، في تجارة، في زراعة حتى تصبح تطعم المحجور عليهم من الفوائد والأرباح، ويبقى أصل المال كما هو، ولما يرشد ويعقل تعطيه المال كاملاً، ما تقول: آه! مع الأسف أكلناه. هذا تدبير من هذا؟ أيستطيع كافر أن يصل إلى هذا المستوى؟ مستحيل، وإن اتخذناهم أئمة لنا نحتج بآرائهم.
معنى قوله تعالى: (وقولوا لهم قولاً معروفاً)
قوله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5] قولوا لهم الكلمة الطيبة، يا ولدي، يا أخي، هذا لصالحك أنت، هذا المال نحفظه لك، يأتي يوم وأنت صاحبه، قل له: بارك الله فيك! نحن ما فعلنا هذا إلا من أجلك ليحفظ مالك يا ولدي. الكلمة الطيبة، القول المعروف، حتى لا يتألم ويبكي من الحجر أو من منعه من التصرف في ماله؛ لأنه قليل العقل والفهم، رأيناه يبذر وينفق. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5] لا يا كلب ويا أعمى ويا جاهل يا فاسق، يا ضال. الجهال يفعلون هذا؟ ما عرفوا. هذه الآية واضحة فإليكموها. وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5] ذكر الرزق وهو عام، والكسوة لأنها ضرورية، وأما الفراش والمأكول فكله واحد.
تفسير قوله تعالى: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح ...)
يقول الله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6] أي: امتحنوهم، اختبروهم، إذا كان عندك ثلاثة، كم بلغ أكبرهم؟ خمسة عشر عاماً، هذا يتهيأ وإلا لا؟ امتحنه، خذ يا إبراهيم الزنبيل، خذ هذه المائة ريال جيب المقاضي، جيب السكر والبقلاوة والزيت. وخله يروح، وانظر كيف يرجع، يرجع بنصف الزنبيل، فين الفلوس؟ ما حصلت على كل ما طلبت. مرة ثانية: خذ يا إبراهيم اشتر لنا نعجة نذبحها، وانظر ماذا يصنع، ممكن يلعب بالمائة ريال وإلا مائتين ويقول لك: ما حصلنا، أو هذه الفلوس ما جابت لنا النعجة. هذا هو الاختبار الامتحان، وأنت تشرف عليه.فإن آنست أي: أبصرت، وسكنت نفسك إلى رشده، وعرفت أنه حكيم، المائة ريال رجع لك منها خمسين ريال، ويشتري تلك المقاضي كلها، حينئذ أعطه المال. وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6] أي: سن البلوغ، سن الزواج. تعرفون سن الزواج وإلا لا؟ البالغ، علامة البنت الحيض، الرجل إنبات الشعر، بلوغ ثمانية عشر عاماً. فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] ادفعوا إليهم أموالهم، اسمع ملحوظة: وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6] صعاليك من جماعتنا لما يعرف أن اليتيم قارب سن الخامسة عشر يأخذ ماله،ويستعجل ويسرف في ذلك المال ليشفي صدره، أو يبادر مبادرة قبل أن يبلغ قبل أن يرشد يستعجل أكل مال اليتيم، عرف هذا الجبار جل جلاله، فقال: وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6] يقول لولده: هات كذا من مال اليتيم، عما قريب سيأخذ أمواله ويشرد عنا، عجلوا. هذا أولاً. وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6] الولي على مال اليتيم إذا كان غنياً لا يحل له أن يأكل تمرة واحدة أبداً، وإذا كان فقيراً يأكل بالمعروف، أكل المعروف حده ماذا؟ إذا يكفيه قرص عيش ما يشتهي قرصين، إذا يكتفي بأكلة في اليوم لم يأكل أربعة أو ثلاثة؟ ومن المعروف أيضاً: أن يستدين من مال اليتيم ويكتبه ديناً عليه حتى يسدده، اللهم إلا إذا كان يقوم بعمل لليتيم، هذا العمل يقوم به آخر، سقاية، زراعة، تجارة، في هذه الحال يصبح موظفاً عند اليتيم، ولا يأخذ إلا بقدر ما يأخذ غيره في نفس العملية.إذا كان غنياً لا يأكل شيئاً، يشتغل مجاناً لوجه الله تعالى، هذا ابن أخيه يتيم في حجره، ما يأخذ أي فلس عن عمله لله، لكن إن كان فقيراً بدل ما يشتغل عند فلان وفلان يضيع هذا، لا بد له أن يشتغل في مال اليتيم وإلا لا؟ يشتغل وليأخذ الراتب بنظيره عند الآخرين، يسأل: الذي يقوم بكذا وكذا كم يعطى؟ قالوا: يعطى ألف ريال؛ يأخذ ألف ريال، أو أقل بقليل.هذا هو الذي أرشد الله تعالى إليه وأمر به في قوله: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6] فليعف، لا يأكل ولا يشرب من مال اليتيم، ويشتغل لوجه الله عز وجل. وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ [النساء:6] هذا الأمر للوجوب وليس للندب أبداً، بلغ السن وهو راشد. تعال يا إبراهيم ، يا عثمان ! هات الحساب، لك مبلغ كذا كذا كذا، لك المصرف الفلاني تفضل، اشهد يا فلان ويا فلان أننا دفعنا إليه ماله، (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ)، واسمعوا: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [النساء:6] إن الرقابة لله، هو الذي يحاسب ويجزي، انتبه أن تخفي شيئاً وتعطيه أمام الشهود كذا وكذا وأنت اختبأت مالاً، تقول: أنا أشهدتهم على ما أعطيته، خف من الله وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [النساء:6].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيتين: أولاً: مشروعية الحجر على السفيه لمصلحته ] وهذا يعم كل سفيه من زوجة وأم وأب وابن؛ فالذي ينفق في غير مرضاة الله، ويبدده في غير ما أذن الله يجب أن يحجر عليه بالمحكمة؛ فإن باع بيعه باطل، أو اشترى فشراؤه فاسد. [ ثانياً: استحباب تنمية الأموال في الأوجه الحلال؛ لقرينة قوله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا [النساء:5] ] ما قال: منها.[ ثالثاً: وجوب اختبار وامتحان السفيه قبل دفع المال إليه؛ إذ لا يدفع إليه المال إلا بعد وجود الرشد ] ضد السفه.[رابعاً: وجوب الإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه ورشده.خامساً: حرمة أكل مال اليتيم والسفيه مطلقاً ] فلا يحل أكلك مال السفيه المحجور عليه، ولا مال اليتيم.[ سادساً: الوالي على اليتيم إن كان غنياً فلا يأكل من مال اليتيم شيئاً، وإن كان فقيراً استقرض ورد عند الوجد واليسار، وإن كان مال اليتيم يحتاج إلى أجير للعمل فيه جاز للولي أن يعمل بأجرة المثل ].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
23-04-2021, 03:04 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (46)
الحلقة (269)
تفسير سورة النساء (50)


أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجاهد في سبيله سبحانه لا يكلف إلا نفسه، وأمره أن يحرض المؤمنين على القتال في سبيل الله، مبيناً له أنه باتخاذ الأسباب سيدفع الله عنه وعن المؤمنين أذى المشركين وشدتهم ونكايتهم؛ فهو سبحانه القادر على ذلك، وهو ذو البأس الشديد، والنكال الأليم بأعداء دينه وأنبيائه وعباده المؤمنين.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك!وها نحن مع سورة النساء المدنية المباركة، وأريد أن ألفت النظر: من منكم يجيبني عن هذا السؤال أيها الدارسون والمستمعون، وهو: الحسنة التي يوفق لها عبد الله أو أمة الله، مصدرها ما هو؟ من أين أتت؟الحسنة: وهو ما يحسن بك في جسمك، في عقلك، في حالك عامة، في قلبك ونور هدايتك، كأن تقوم آخر الليل تتهجد، هذا الحسنة مصدرها ما هو؟مصدرها الله هو واهبها، وإن أصابتك سيئة في بدنك، في مالك، في عقلك، في روحك، بغشيانك ذنباً من الذنوب، وارتكابك معصية مصدر هذه ما هو؟النفس، ما دليل ذلك من الكتاب والكريم؟قوله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، الحسنات مطلقة الله واهبها فيحمد ويشكر عليها، ما تجد حسنة في نفسك إلا وتقول: الحمد لله، وإن وجدت سيئة ولو كانت مرضاً في بدنك، حاش لله أنه أراد هذا منك، أنت خالفت سننه في خلقه، فمثلاً تحملت ما لا تطيق من العمل فمرضت، فلا ينسب هذا إلى الله. غشيت ذنباً من الذنوب، تقول الله! الله حرمه ونهاك عنه ووعدك في غيره الخير، كيف ننسبه إلى الله؟! هذه الآية: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].لما حصلت الهزيمة في أحد لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل منهم سبعون بطلاً وأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشج وجهه، وكسرت رباعيته، ودخل المغفر في رأسه، هذه السيئة من أين؟من أنفسهم؛ لأنهم ما وفوا بما عهد إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المقام في مكانهم كيفما كانت الحال، لما شهدوا هزيمة المشركين، أكبوا يأخذون الغنائم، فوجد قائد المشركين فرصة فأحاط بهم، وكان الذي كان.خلاصة القول: إذا وجدت حسنة في نفسك احمد الله، الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.. وإن وجدت شيئاً مؤذي: أستغفر الله.. أستغفر الله.. أستغفر الله.
تفسير قوله تعالى: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ...)
والآن مع هذه الآيات الثلاث، هيا نتغنى بها وأنتم تتلونها بألسنتكم وتتدبرون معانيها.قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا * مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا * وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا [النساء:84-86]، المحاسب، المجازي.
أمر الله تعالى لنبيه بالجهاد في سبيله
قوله جل ذكره: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84]، من المخاطب هنا؟الرسول عليه السلام. من يخاطبه بهذا؟الله. أين الله؟ على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه، ونحن بين يديه، والله لا يغيب عنه من أمرنا شيء، الله تعالى يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:84]، أي: بناءً على ما سبق من أنه لما فرض الجهاد كانت طائفة تتململ، وأخرى تعتذر، وأخرى تطالب بتأخير القتال، ولما يدعون يقولون: أطعنا، وإذا خرجوا بيتوا خلاف ذلك، ماذا تفعل إذا يا رسولنا؟ فقاتل وحدك، فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84]، هذه الجملة دلت دلالة قطعية أنه لا يوجد أشجع من رسول الله قط في الأرض، لا أبيض ولا أصفر، لا علي ولا خالد بن الوليد ، عرفتم؟كيف فهمنا هذا يا شيخ؟ أيكلفه الله بأن يقاتل وحده؟ لولا علمه تعالى بشجاعته يكلفه وحده؟ ويدل لذلك واقع الحياة، يقول الأبطال: كنا إذا حمي الوطيس نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، علي وعمر وخالد وفلان وفلان.. إذا اشتدت المعركة نجيء وراء الرسول نلوذ به، هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:84]، أبنائي هل عرفنا سبيل الله قبل اليوم؟ ما هو سبيل الله هذا؟من يقوم ويبين لنا؟ أو مع الأسف نسينا؟ أي طريق: هل الكعبة أو طريق الشام؟ سبيل الله: هي أن يعبد وحده في الأرض، وليسعد العابدون في دنياهم وفي أخراهم.وهذا الذي نقوله في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، (الصراط) الطريق، (المستقيم) لا اعوجاج فيه، ونحن سائرون، عن يميننا الواجبات ننهض بها، وعن شمالنا المنهيات نتجنبها.. وإلى متى؟ إلى ساعة الوفاة عند باب الجنة.سبيل الله: الطريق الموصلة إلى رضاه، سبيل الله الطريق الموصلة إلى جواره، ما هي؟ أن يعبد وحده، تلك العبادة تزكي النفس وتطهرها، حينئذٍ العابدون في سبيل الله، وهل إذا قاتلنا من أجل تحرير البلاد يعتبر هذا سبيل الله؟ تحرير الوطن، ماذا تقولون؟أوسع لكم دائرة العلم: إذا نحن مسلمون صادقون، وهاجمنا العدو الكافر المشرك، حينئذٍ قتالنا سبيل الله تلون:أولا: دفع هذا الظالم، وإخراجه وإبعاده عن ديارنا.ثانياً: قتال هذا الكافر لكفره، نريد أن نهزمه ليدخل في الإسلام؛ فهو سبيل الله.إذاً: أما أن يكون قتالنا فقط من أجل المال أو السلطة أو الرياسة، أو التحرر والاستقلال، ولم نرد بهذا أن يعبد الله وحده فليس في سبيل الله؛ لأننا إذا قاتلنا ودافعنا العدو عن المؤمنين والمؤمنات مكناهم من عبادة الله. إذاً: هو سبيل الله عز وجل.ونأسف أننا جاهدنا بريطانيا وإيطاليا وأسبانيا وفرنسا وبلجيكا و.. و.. ولما تحررنا ودفعنا العدو خارج البلاد أغمضنا أعيننا وسكرنا في حب الدنيا، ولم نقم الصلاة، ولم نجبِ الزكاة، ولم نأمر بمعروف، ولم ننه عن منكر، ولم نقم حداً من حدود الله، ولم نقم بدعوة إلى الله داخل بلادنا أو خارجها.إذاً: فقتالنا ما كان خالصاً لله، بل لتحرير الوطن! هذه الحقيقة، ذكرناكم بها وإن مضت؛ لأننا مع قول ربنا، فَقَاتِلْ [النساء:84] يا رسولنا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84]، ما سبيل الله؟ أن يعبد الله وحده.
أركان الدولة الإسلامية
قال الله تعالى: لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:84]، التحريض: الحث، والترغيب: معاشر المؤمنين! إنا خارجون إلى غزاة كذا، سرية كذا، أما إلزام لا.. لا.وهذا يبقى إلى اليوم، والحمد لله ألف مرة أن السلطان عبد العزيز ودولته باقية، ونحن نحطم فيها من كل جانب انتبهتم؟ التجنيد عندهم إجباري، لماذا؟ أوروبا عندها التجنيد إجبارياً، المسلمون المقلدون إجبارياً، إذا بلغت الثامنة عشرة يجب أن تتجند، لماذا السعودية وهي دولة القرآن ما تفرض على المواطنين الجهاد، أجيبوا؟ لهذه الآية الكريمة: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:84] على القتال.من يرغب في التجنيد.. في التعليم، فليتفضل، أما إلزامياً ما في؟ لهذه الآية الكريمة، فهمتم هذه أو لا؟تأمل! تجد الدنيا كلها تفرض التجنيد على مواطنيها، إلا المملكة ما أوجبت، ترغب تفضل سجل وادخل، أما إلزاماً لا، ما علمناه وما وجد، من أين جاءهم هذا؟ لأن عبد العزيز لما أقام الدولة أقامها على مبادئ الإسلام الصحيحة، الأركان الأربعة، إذا سقط ركن سقطت، وقواعد الإسلام خمسة، إذا سقطت قاعدة، بقي إسلام؟ أركان الإيمان كم؟ ستة، إذا سقط ركن بقي إيمان؟ هبط كل شيء.إذاً: أركان الدولة الإسلامية، وهذا الكلام نردده من ثلاثة وأربعين عاماً في هذا المسجد، والزوار والحجاج والمستمعون و.. و.. إلخ، وأنا أقول: يجب على الإقليم الإسلامي إذا استقل عن الدولة الكافرة أن تقام فيه الدولة على أربعة أركان: ذكرها الله تعالى، وبينها في قوله اسمع: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] أي: استقلوا.. حكموا أو لا؟ قبل أن يحكموا كيف يكلفون؟ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] ماذا فعلوا؟ فرفشوا.. غنوا؟ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41]، أقاموها قياماً حقاً، لا يمكن أن يبقى مسلم في ديارنا لا يصلي.في الجند أمره واضح، لا يمكن لعسكري أن يترك الصلاة؛ لأنهم بين يدي رقابة قاداتهم وولي أمرهم، المواطنون أيما مواطن من ذكر أو أنثى ترفع به دعوى إلى الهيئة ما يصلي، يجلبونه وينتزعونه ويصلي، فإن قال: لا أصلي، ثلاثة أيام ويقطع رأسه؛ إذ لا حق له في الحياة، سبحان الله! والله لا حق له في الحياة، كيف يأكل الطعام ويشرب الماء ويتنفس الهواء وهو لا يعبد الله، بأي حق؟ يقتل.ثانياً: وَآتَوُا الزَّكَاةَ [الحج:41] يا صاحب الغنم! إذا ملكت أربعيناً رأس تأتينا بجدي أو خروف.يا صاحب الإبل! إذا ملكت خمساً تعطينا نعجة.. عشراً تعطينا نعجتين.. خمس عشرة ثلاث نعاج.. عشرين أربع نعاج.. خمساً وعشرين تعطينا ابن الناقة اللبون.يا صاحب البقر! -وإن كان ما عندنا في المملكة أبقار كثيرة- إن ملكت ثلاثين بقرة هات عجل، وصاحب الشعير كصاحب التمر، كصاحب الذهب والفضة، الزكاة قاعدة الإسلام الثالثة؟إذاً: فجبيت الزكاة جباية حقة، والله يأخذون صاع الشعير، وصاع التمر.ثالثاً: وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، لا بد من هيئات جماعات مستقلة في كل قرية، في كل حي، مهمتها إذا شاهدت معروفاً متروكاً تقول لصاحبه: افعل هذا، كيف تتركه، شاهدت مرتكب منكر: يا عبد الله! لا يصح هذا، افعل هذا، اترك هذا: وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]. وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، كم ركناً أقيمت عليه الدولة الإسلامية؟ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، استقل لنا نيف وأربعون إقليماً من إندونيسيا إلى موريتانيا ما بغلنا أن إقليماً واحداً أجبر المواطنين على إقام الصلاة، بلغكم هذا أنتم؟ ولا جبوا الزكاة، ولكن عوضوا عنها بالضرائب، لِم هذا؟ الضريبة لا بأس، والزكاة خل الزكاة، لا إله إلا الله، يا للعورة ما أفضحنا. الضرائب! حتى على النافذة، والزكاة لا ما نطالب بها، خل الناس أحرار، اتركهم يكفروا.

يتبع

ابوالوليد المسلم
23-04-2021, 03:05 AM
موانع عبادة الله وحده
والشاهد عندنا: أما بلغ المؤمنين والمسلمين هذا القرآن؟ أي مانع يمنعهم أن يجبروا مواطنيهم على إقام الصلاة، ما الذي ينقصهم؟ ما الذي يصيبهم؟ ما المانع أن يجبوا الزكاة جباية رسمية، والضرائب عند الضرورة عند الحاجة إليها؟ لِم ما يوجد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ رجال صالحون ذي مهمتهم، الجواب: لا.. لا، وبعد: كيف حالنا لما استقللنا؟ هبطنا أبعد هبوط، في بعض البلاد والله العظيم لعهد استعمار أوروبا لها أفضل منها الآن.فهمتم هذه اللغة أو لا؟ لِم يا شيخ تتكلم بهذا الموضوع؟ نحن مع قول ربنا: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:84] لِم؟ ليعبد الله وحد، كيف ما نعبده ولا نأمر المواطنين بعبادته، المفروض أن ندعو الكفار ونقاتلهم ليعبدوا الله، فإذا بنا نحن ما نعبد الله، أعوذ بالله!والسبب: الثالوث الأسود.. المجوس واليهود والنصارى، هم الذين عرفوا كيف يطفئون أنوار الله في الأرض حتى لا تسود وتنتشر، فالقرآن الكريم يقرأ على من؟ على الموتى! السنة النبوية للبركة، فعم الجهل فجهل الحاكم والمحكوم ولا يلامون، ما عرف، كيف تطالبه أن يحكم الكتاب وهو ما يدري؟ونواصل دراستنا جميعاً لقول الله تعالى: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:84]، المؤمنين الصادقين في إيمانهم: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:84] و(عسى) تفيد من الله التحقيق: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ ماذا عنا؟ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:84]، أعداؤنا وخصومنا الذين يقاتلوننا، ويريدون إنهاء وجودنا وديننا. وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا [النساء:84] (البأس) القوة، (والتنكيل) هو العذاب والتعذيب الذي يصبح نكالاً لغيره، من رآه ما يفعل فعله.انتهت هذه الآية الكريمة، اسمعوا تلاوتها: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:84] على ماذا؟ على القتال وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:84]، ومعنى هذا: الاستعداد، القوة يجب على الدولة الإسلامية أن تكون قوية، وأن تعد العدد والعتاد الحربي بأعلى صورة، من أجل: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:84]، لا يحل أبداً للدولة المسلمة أن تهمل جانب القوة أبداً، واقرءوا: وَأَعِدُّوا لَهُمْ [الأنفال:60] فعل أمر أو لا؟ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ [الأنفال:60] ابذلوا كل طاقاتكم، فإذا عجزتم: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]، أيام كانت الخيل والفرسان، الآن النفاثات في المطارات الخاصة، هذا أمر الله هل استجبنا له؟ ما استجبنا.إذاً: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84] يا رسولنا وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:84] شدتهم وحربهم وعداءهم لنا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا [النساء:84] منهم كلهم وَأَشَدُّ تَنكِيلًا [النساء:84].وقد حدث، ونكل بهم الله وانهزموا، في خمس وعشرين سنة فقط وراية الإسلام من أقصى الشرق إلى الغرب، ما مات رسول الله والجزيرة فيها من يعبد غير الله، حارب الرسول عشر سنوات الجزيرة كلها طابت وطهرت، وخلال خمس وعشرين سنة أخرى من خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وصل الإسلام إلى أقصى الشرق وأقصى الغرب.
تفسير قوله تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ...)
يقول الله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85]، النصيب معروف: الحظ، الربع الخمس السدس، والكفل كذلك، الكفل والنصيب واحد، الكفل النصيب مكفول لك، مضمون، نصيب مضمون، ماذا يريد تعالى منا؟ اسمع.. اسمع، وهو يخاطب من؟ أمة الإسلام: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً [النساء:85] منا يا عباد الله، ما هي الشفاعة الحسنة؟ هنا ابدأ بالجهاد، من ينضم إلى صفوف المجاهدين الذين حرضهم الرسول على الجهاد، والذي أيضاً يرغب الآخرين ويحبب إليهم الجهاد، هذا شافع أو لا؟ شفاعته حسنة أو سيئة؟ حسنة، والذي يثبط: اجلسوا ما فائدة هذا القتال؟ ماذا تريدون؟ خلوهم، هذه الشفاعة سيئة أو حسنة؟ سيئة. مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:85]، حرضتني أنا على الجهاد ومشيت، أنت تأخذ من أجري شيئاً، حرضت فلاناً على القعود ولا يخرج مع الرسول ويقاتل أثمت أو لا؟ هو قعد، قعوده أيضاً تنال منه قسطاً.وهذه الآية عامة، أيما مؤمن يشفع لأخيه في استرجاع حق ضاع منه، أو ظلم أصيب به، فضممت صوتك إلى صوته، ووجهك إلى وجهه إلا وكان لك نصيب من هذه الشفاعة، وأيما مؤمن يأتي إلى جنب آخر يساعد على الباطل، على أخذ أموال الناس وحقهم، إلا وهو شريك في هذا الإثم، في هذه السيئة. قاعدة عامة إلى يوم القيامة. مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً [النساء:85] الشفاعة الحسنة تكون فيما أذن الله فيه، فيما أمر الله به، فيما أباحه للناس، والشفاعة السيئة تكون فيما حرم الله، فيما نهى الله عنه، فيما هو ضار غير نافع، هذا وعد من الله أو لا؟ هو الذي يعطي: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85]، لم سميت هذه شفاعة؟في عرفنا الوتر الفرد، والشفع ركعتان، فإذا كنت وحدك فأنت وتر فرد، فإذا انضم إليك أخاك ليساعدك أصبحتما شفعاً، وقد قدمنا ذلك في الحديث عن الزوج، الرجل يقال فيه زوج أو لا؟ كيف زوج وهو فرد، ما يقال فيه زوج إلا إذا تزوج، فهي المرأة زوج أو لا؟ وهو زوج، هذا طلقها تقول هي زوج؟والرجل يقال فيه ذكر، وهذه أنثى، لكن عند الاجتماع كل واحد زوج الثاني، أي جعله زوجاً بعدما كان فرداً.كذلك الشفاعة: أنت خرجت تطالب بحقك وحدك، جاءك من ساعدك أو شهد معك أو قال كذا، أصبحت مع واحد آخر أو لا؟ شفع أو لا؟ شفع، من يضم وجهه إلى وجه أخيه يطالب بحق، أو يدفع خطراً عنه، هذا هو الشفيع والشافع، وهذا المسلك والطريق هو الشفاعة: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً [النساء:85] الحسنة الطيبة الصالحة كيف نعرفها؟ ما أذن الله فيه، والسيئة ما حرمه الله ولم يأذن فيه.فلان ذهب ليشفع له عند المسئول بأن يفتح مخمرة! هذه شفاعة طيبة هذه؟!فلان ذهب ليشفع عند الأمير ليفتح أستوديو للصور، شفاعة سيئة أو حسنة؟ سيئة.شفع لأن يفتح مكتبة يبيع فيها الكتاب، حسنة أو سيئة؟ هذا هو.. شفع شفاعة ليفتح دكان حلاقة ليحلق وجوه الرجال، سيئة أو حسنة؟ سيئة.على كل عرفنا الآن، وإياي وإياكم أن تشفعوا لمؤمن من المؤمنين في سيئة فتتحملون كفلاً منها، وتؤذون أخاكم وتضرونه، انصحوا له قولوا: هذا باطل، لا يجوز هذا العمل أبداً، كيف نشفع لك حتى يتحقق لك. مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:85]، قال: (نصيب) على قدر هذه الحسنة، شفعت له: أنجيته من سجن أو عذاب، أكثر من شفعت له ليعطى خمسون ريالاً مثلاً، بحسب الشفاعة. وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا [النساء:85]، أي: عليماً حفيظاً مقتدراً، المقيت: من الوقت، والوقت المراقب فيه، الراعي له الحافظ له هو الله، فهو على كل شيء حفيظاً ومقتدراً قادراً ومراقباً، فكل شفاعاتنا في الخير أو الشر لا تخفى عن الله عز وجل، وسوف يجزي كما وعد، نصيب للشافعة الحسنة وكفل للشفاعة السيئة، لو كان الله يغيب عنه حالنا ما يدري عما نقومه في ظلام الليل، بالأمس ما فضحهم أو لا؟ إذا كانوا عندك قالوا طاعة، وإذا خرجوا بيتوا خلاف الذي قالوه أمامك، من علمهم وأخبر بحالهم؟
تفسير قوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ...)
قال الله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ [النساء:86]، وهي: السلام عليكم، ما هي تحية أهل الجنة؟السلام.. تشكون فيها؟ تحية أهل الجنة باللغة الإنجليزية.. بالفرنسية (بنسوار) ؟ والله لا توجد تحية في دار السلام إلا تحية: السلام عليكم: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24]، السلام عليكم، هذه تحية أهل الجنة، وتحية أهل الإسلام، حتى لو كنت فرنسياً إيطالياً وأسلمت لا بد وأن تقول: السلام عليكم. وَإِذَا حُيِّيتُمْ [النساء:86] أي: حياكم مؤمن من المؤمنين أو كافر أيضاً، ماذا تقولون؟ كان اليهود يمكرون برسول الله والمؤمنين، يقولون: (السام عليكم)، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وعليكم، قالت عائشة : ( أما سمعت ما قالوا يا رسول الله؟! قال: السام، قال: وأنا قلت: وعليكم ). أو فيه من لا يموت.إذاً: السلام: الحياة، ومن أسماء الله تعالى: السلام، وإذا قلت لأحد: السلام عليكم، معناه: أنك أعطيته أماناً كاملاً، وإذا سلم عليك آخر معناه: أعطاك الأمن الكامل، لا يأخذ منك ولا يؤذيك، هذه تحية أهل الجنة، وهبنها الله وعشنا عليها، إذا حييت ماذا تقول؟ السلام عليكم.وقوله: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، إن شئت قلت: وعليكم السلام، رددتها كما هي، وإن قلت: ورحمة الله وبركاته، زدت أو لا؟ أكثر من الأولى.وهكذا.. أول السلام لا تقل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما تركت لهم شيئاً، قل: السلام عليكم، الرد: إن اكتفى بقوله: وعليكم السلام، كفاه ذلك، وأدى الواجب ولا إثم عليه وعنده عشر حسنات، وإن زاد (ورحمة الله) زاد عشر حسنات، وإن زاد (وبركاته) زاد عشر حسنات، فالذي يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فاز بثلاثين حسنة.أيام كنا في داخل المسجد، قلنا: هيا نعد، أيام كنا نمشي على أرجلنا في الشوارع، كل من نلقى: السلام عليكم.. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، نصل قريباً من البيت ثلاثمائة حسنة.. مائتين وخمسين، مائة وأربعين.هيا أحصوها، إذاً: (السلام عليكم) بعشر حسنات، (ورحمة الله) بعشر (وبركاته) بعشر.والسنة: أن الكبير هو الذي يبتدئ السلام بالنسبة إلى الصغير، فليسلم الكبير على الصغير، وليسلم الماشي على القاعد، ويسلم الراكب على الماشي، هذا راكب على بعيره أو سيارته هو الذي يبدأ بالسلام، هذا ماشي وهذا جالس، الماشي هو الذي يسلم على هذا الجالس، القائم هو الذي يسلم على القاعد، ذي تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفها المؤمنون والمؤمنات.وهل يسلم الرجل على الفتاة المرأة التي تحيض وتلد؟ لا يصح أن تسلم على امرأة تحيض وتلد، إلا إذا عجزت وشاخت وكانت من قواعد النساء، وعلامة أنها من القواعد كاشفة عن وجهها، قال تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا [النور:60]، انتهينا: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ [النور:60] فيكشفن وجوههن: غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60].إذاً: يسلم الصغير على الكبير، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم على الصغار على الأطفال.. الأطفال الصغار ما يعرفون، نحن نعلمهم، نسلم عليهم: السلام عليكم.. إذا ما عرف، قل له قل: وعليكم السلام.أما السلام بالإشارة، فلا، ما هو صحيح، وإنما لما يكون بعيد عنك تقول له: السلام عليكم، إذا ما تشير بيدك ما يعرف أنك سلمت عليه، والرد كذلك، إذا ما تقول: وعليكم السلام هو ما يسمع الصوت، لكن إذا أشرت فهم أنك رددت أو لا، أما أن نكتفي بالإشارة هذا خطأ ولا يقوله مؤمن، اليد فقط تُعلم أنك قلت وقال، سلمت وسلم.إذاً: هل نسلم على الكفار؟ المسألة هذه فيها بحث عجيب عظيم، خلاصة ما أقول: إذا كنتم في أمن واستقرار ما في حرب ولا خوف، يسلم المؤمن على الكافر ولا حرج، وإذا كانت حالة حرب فلا سلام؛ لأنك إذا قلت: السلام عليكم، أمنته، ولا حق لك أن تؤمنه ونحن في حرب معهم، أما إذا كان استقرار وأمن لا بأس إذا سلمت.أولاً: السلام سنة، والرد واجب، فهذه السنة إذا ما سلمت ما تأثم، إن سلمت أثبت، وإن لم تسلم وكرهت هذا الشخص أو نحو ذلك لا مانع، لكن إذا سلم هو يجب أن ترد.ولا يسلم على من في الصلاة، ومن سُلم عليه فليشر بيده أو برأسه فقط ولا يتكلم.ولا يسلم على من في المرحاض يقضي حاجته، وإذا سلم عليه لا يرد.أقول: لا يسلم على من يتغوط أو يتبول، وإذا سلم عليه لا يرد، ويسقط الواجب عنه.لا يسلم على المرأة في الشارع إن كانت من غير محارمه.في الصلاة يشير بيديه أو برأسه علمنا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والموضوع يحتاج إلى بحث أوسع فإلى جالسة ثانية إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
23-04-2021, 03:07 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (47)
الحلقة (270)
تفسير سورة النساء (51)


إن الله عز وجل مستحق العبادة وحده سبحانه؛ لأنه خالق الخلق أجمعين، وموجد الموجودات والأكوان، ومنزل الأرزاق على عباده، فأمر كل هذه المخلوقات بيده سبحانه، ومردها ومصيرها إليه، لا مرية في ذلك ولا شك ولا ريب، فيجازي المحسن من عباده بإحسانه، ويعاقب الكافر منهم على فسوقه وكفرانه.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.ومعنا في هذه الليلة آية واحدة، وسوف نتغنى بها ونحفظها ونشرحها إن شاء الله تعالى، وقبل ذلك نذكر الآية التي فيها الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة، إذ الآية إذا كانت تحمل هدى، أو تحمل حكماً فينبغي أن نحفظها، وليس شرطاً أن نحفظ سورة النساء كلها، ولا الآيات قبلها ولا بعدها، لكن الآية التي تحمل هدى، أو تحمل حكماً، أو تحمل بيان حكم من أحكام الله تعالى، فينبغي أن نحفظها، وإلا فما الفائدة في اجتماعنا هذا؟!
فضل الشفاعة في الخير وقبح الشفاعة في الشر
وهذه الآية هي قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:85] أي: من أجرها، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85]، أي: نصيب من ذلك الإثم الذي باء به صاحبها.والشفاعة الحسنة هي ما كانت تدعو إلى خير، أو ما كانت تحقق خيراً، كأن توجد فضيلة، أو تنقذ مؤمناً، أو ترحم ضعيفاً، والشفاعة السيئة ما كانت تشجع على الباطل وتزيد في المنكر، وتفسد القلوب، وتفسد العقول، وتأخذ أموال الناس بالباطل. مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85]، وقد نزلت هذه الآية في سياق أن بعض المرضى يثبطون عن الجهاد، ويقولون لإخوانهم: لا تخرجوا، فالحر والبرد ينتظركم، فهؤلاء شفعوا شفاعة سيئة، والذين يشجعون إخوانهم على الخروج في سبيل الله أو على الجهاد، فهذه شفاعة حسنة، واللفظ عام وإلى يوم القيامة، فمن يضم صوته إلى صوت أخيه ليدفعه إلى الخير ويحمله على فضائل الأعمال فإنه يثاب كما يثاب ذاك، بل وله نصيب من الخير الذي عمله، والذي يشجع على الباطل والمنكر وإيجاد الشر والمحن والفتن والغيبة والنميمة، والله له كفل من ذلك، أحب أم كره، فهذا هو قضاء الله وحكمه عز وجل في قوله: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا [النساء:85]، أي: حاسباً محاسباً مجازياً مقتدراً لا يخفى عليه شيء، ولا تفهم أنك لا تُعطى، إذ ممكن أنك لا تعطى الثواب كما يعطاه الأول؛ لأنك عبد الله الذي واعد بهذا الجزاء والعطاء، وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا [النساء:85]، أي: حسيباً قادراً حفيظاً له ويجزي به. وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا [النساء:85]، أي: حسيباً مجازياً قادراً مقتدراً، والمقيت من الوقت، أي: العليم بما يحدث وما يجري، والحافظ له فلا ينساه المجزي به، فمن منكم حفظ هذه الحكمة وادخرها في جيبه كعشرة ريالات؟ والله إنها لخير من مليون ريالاً، وللعامي أن يرجع إلى البيت ويقول: الليلة تعلمنا هدى وحكمة، وذلك من قول الله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85]، فتقول أم أولاده: ما معنى (الكفل)؟ فأقول: النصيب، فهاتوا لنا من حفظ هذه الآية؟ لسنا بمستعدين يا شيخ! ولهذا تمضي الأعوام ونحن هابطون، فهل عرفتم حالنا أم لا؟وبالأمس دعونا تلك الدعوة الواجبة، فقيل لي: إن فلاناً يتململ وفلاناً متضايق، وفلاناً ليس براض! فإلى هذا الحد نهبط؟! ندعو لمؤمن بالشفاء فما يستريح؟! أعوذ بالله! أي جهل أعظم من هذا؟! وأي هبوط أكثر من هذا؟! إلى متى ونحن لا نفقه ولا نفهم ولا نعي ولا نبصر؟! فلا إله إلا الله! ولذلك إذا دعونا لمؤمن وشفاه الله فلك أجر ونصيب، إذ هي شفاعة حسنة، فضموا صوتكم إلى صوت الداعي تلقون مثله. مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85]، فلو أن فلاناً أراد أن يفتح استوديو للتصوير، فإن ساعدته بجاهك العريض أو بنفوذك، وشجعته على أن يفتح دكاناً للتصوير، ووالله عليه وزر عظيم، وأنت والله عليك كفل منه، أو لو أن فلاناً أراد أن يبني مسجداً، أو أراد أن يذكر إخواناً له بكلمة، فشجعته فلك نصيب من ذلك الأجر، فهل ممكن ألا ننسى هذه الآية؟ من يقولها من إخواننا العوام؟ هذه أم الفضل أم عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين قالت: صليت المغرب وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد، فقرأ بالمرسلات عرفاً، فحفظتها، مرة واحدة سمعتها فحفظتها!وقد قلنا: إن لنا أبناء وبنات يسمعن الأغاني فيحسن حفظها والنغم والجرس الذي بها، بينما يصلي أحدنا وراء إمام أربعين سنة وهو يسمع الإمام يقرأ الفاتحة في الصبح وفي المغرب وفي العشاء ولا يحفظها! فكيف حالنا؟ هذه هي.
تأكيد سنية التحية ووجوب ردّها بأحسن أو بمثل
وأما الآية الثانية فهي تتكلم عن تحية أهل الجنة دار السلام في الملكوت الأعلى، ألا وهي: السلام عليكم، وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24]، فهذه التحية التي هي تحية أهل الجنة، هل عندنا منها نصيب؟ ما هي؟ هي: السلام عليكم، قال الله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا [النساء:86]، فهل ممكن أن نحفظ هذه أو أنها صعبة أيضاً؟ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا [النساء:86]، فيجزيكم بذلك؟ و(حييتم) بمعنى: قيل لكم: السلام عليكم، فلماذا ترد الخير؟ للأسف لا نعرف أبداً الشكر، فهذا القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم والمربي والمعلم يقول: ( من صنع إليكم معروفاً )، بالتنكير، ولو كأس ماء، ( فكافئوه )، قالها وطبقها، فقد ناوله يهودي كأساً من اللبن فدعا له بالخير.فهل عرف المسلمون هذا؟ يأكل معك غدءك أو عشاءك ويسبك! فإلى أين هبطنا يا عباد الله؟ ( من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه )، لكن (شكراً) التي أعطتنا إياها بريطانيا أو (thank you) ترجمتها لا تكفي، إذ الشكر لله، وإنما قل: جزاك الله خيراً، أو بارك الله فيك وفيما آتاك، أو زادك الله من فضله، وادع له حتى ترى أنك قد كافأته، أما شكراً ترجمة (thank you) بالإنجليزي، و(ميرسي) بالفرنسي، فما لها علاقة بالإسلام أبداً.فإن قيل: يا شيخ! لا تلمنا لأننا ما تعلمنا، ولمَ لا نتعلم؟ من منعنا من العلم؟ من حرمنا من العلم؟ والجواب: لا أحد والله العظيم، والله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فكل من لا يعلم يجب عليه أن يسأل حتى يتعلم ولو طول عمره، وهذا إن كنا صادقين في إيماننا بلقاء الله والنزول في دار السلام مع مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، أما إن كان إيماننا صوري تقليدي ولا يعرف وراءه شيئاً فلا لوم؛ لأن هذا ميت، فهل تكلف الأموات أن يقولوا ويعملوا؟ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا [النساء:86]، ما هو الأحسن منها؟ أن تقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فإن عجزت وبخلت فقلت: وعليكم السلام، فقد أذن الله لك في ذلك، وذلك إذا لم ترد أن تطيل الوقفة أو النظرة، ولهذا فالتحية الأولى: السلام عليكم من آداب الإسلام وسننه ومظاهر الكمال فيه، إذ يلقى المؤمن أخاه فيقول: السلام عليكم، وأما رد التحية فهي واجبة، وإن لم تفعل فأنت آثم، ويجب أن تتوب وتستغفر الله، وألا تعود لهذه المعصية، بل حتى ولو كانت التحية من يهودي فقل: وعليكم، إذ كيف لا ترد معروفاً؟! ميت أنت أم ماذا؟ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا [النساء:86]، وحسيباً كـ(مقيتاً)، أي: عليماً ويجزي بالمعروف الإحسان.
بعض الأحكام المتعلقة بالسلام
وهنا قد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلي: أولاً: ليسلم الكبير على الصغير، سواء كان كبيراً في السن أو في الشرف أو في العلو، فإن كنت أنت الشريف والعالي والسامي فابدأ بالسلام؛ خشية أن تصاب بالكبر، فيقوم من دونك فيسلم عليك، وأنت يا كبير السن، ويا ذا الشيبة، ويا صاحب الكهولة، إذا وجدت من دونك فابدأهم بالسلام؛ لأنك أعلم وأعرف منهم، وقد عشت خمسين عاماً وهم في الثمانية عشرة أو في العشرين سنة، فمن يبدأ بالسلام؟ الكبير حساً ومعنىً. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يسلم على الصبيان وهم يلعبون، ولذلك فالكبير في الجاه أو في المنصب، لا يسكت حتى يُسلم عليه؛ لأنه يُخشى أن يصاب بالكبر، وإنما هو الذي يبادر بالسلام، وذلك ليحسن موقفه مع إخوانه حتى لا يقولون: تكبر علينا، فهل فهمتم سرها أو لا؟ فهذا هو الفقه، ( فليسلم الكبير على الصغير )، أي: منزلة وسناً.( وليسلم الماشي على القاعد )، فإذا كنت ماشياً وإخوانك جالسون، أو دخلت عليهم مجلساً وهم جالسون، فأنت الذي تبدأ بالسلام: السلام عليكم، لِم؟ سر ذلك أن القائم ممكن أن يكون في يده أو في جيبه مسدس فيفزعهم، فكيف يطمئنهم؟ أول ما يدخل يقول: السلام عليكم، أما الجالس لو قام ليأتي بالعصا فبعيده عليه، وعليه فالماشي إذا مر بمن هو جالس فهو الذي يبدأ بالسلام ليطمئنه ويؤمنه؛ لأن (السلام عليكم) معناها الأمان لكم.وليسلم القليل على الكثير، فمثلاً نحن ثلاثة نمشي أو مررنا بعشرة ماشين، فالقليل هو الذي يسلم على الكثير، فإذا دخلت على جماعة فقل: السلام عليكم، ولماذا يبدأ القليل بالسلام؟ حتى لا تكلف عشرين واحداً من أجلك، فأنت ابدأ فقل: السلام عليكم، فأنتم اثنان أو ثلاثة أسهل من أن يسلم أربعين واحداً جالسين أو ماشيين؛ لأن الذي يسن هذه السنن، ويضع هذه التعاليم الربانية هو أستاذ الحكمة ومعلمها في دنيا البشر، ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.ولا يسلمن أحدكم على امرأة غير متجلاة من قواعد النساء، أي: إذا مررت بمؤمنة فلا تسلم عليها، وإنما غض بصرك وامشِ، إلا أن تكون متجلاة في سن السبعين أو الثمانين وكاشفة عن وجهها فلا بأس، أما محتجبة محترمة فلا تفتنها بالسلام، ولا تحملها أن ترد عليك، لِم يا هذا؟ لأننا نتقي الفتنة، فلا نريد أن نقع في الإثم، إذ نحن لا نسلم إلا لأجل الحسنات، فإذا كان العكس فحرام ولا يجوز.ومعنى هذا أنه لا يجوز لنسائنا المؤمنات أن يرفعن أصواتهن أمام الفحول من الرجال، فلا تتكلم المؤمنة ذات الحجاب إلا للضرورة، وليكن كلامها أيضاً معدوداً محدوداً، أما أنها تقف في التلفاز وتتكلم وتتبجح فما هي بالمؤمنة ولا بالمسلمة بحق، أو تتكلم في الإذاعة فيسمع صوتها الأبيض والأسود، فهل مات الرجال؟! قطعوا ألسنتهم؟! ما وجدنا من يعلن هذا الإعلان إلا امرأة؟! يجوز للضرورة، لكن أما والرجال حولها في الإذاعة بالمئات وهي تتكلم! لا يجوز ذلك أبداً؛ لأننا من أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد نهينا عن ذلك، أما اليهود والنصارى والبلاشفة الحمر فهذا شأنهم. لعلي بالغت؟ كم وكم من أمور تحدث من النساء مخالفة لشرع الله تعالى، والله يقول: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32]، أي: يا نساء النبي! وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32]، فإذا قرعت الباب وقلت: أين إبراهيم؟ فلا تزيد المرأة عن كلمة: (غير موجود)، وذلك إذا كان غير موجود، أو كان في السوق، فتقول: في السوق، أو كان في المسجد، فتقول: في المسجد، أو تقول: لا أدري إذا كانت لا تعرف، وزيادة كلمة عن ذلك خروج عن الآداب الإسلامية، وقد بينا هذا لمؤمنات المدينة وانتفعن بها، فكانت المرأة في المدينة إذا قرع الباب يقلن: (مييين)! فقلنا: هذه الإمالة لا تصح، وإنما مَنْ؟ فيقول الطارق: إبراهيم، أين زوجك؟ فترد المرأة: زوجي! تعني أبا أحمد؟ أظنه في المسجد، لا لا، عفواً قد يكون في طريقه إلى هنا! كل هذا حرام لا يجوز.فإن قيل: يا شيخ! أنت تقول: حرام هذا؟! نعم، فولينا وسيدنا ومالكنا أيها العبيد! ويا أيتها الإماء! هو الذي علمنا هذا، وهو أعرف بما يسمينا ويرفعنا أو يهبطنا وينزلنا، والحمد لله ما أصبحت المدنية تقول: (ميين)، وإنما (مَنْ؟).فهل عرفتم السلام تحية أهل الجنة دار السلام أو لا؟ الحمد لله فقد أعطاناها الله عز وجل، وهي بيننا ونعيش عليها، بينما حرم منها بلايين البشر حرماناً كاملاً، فإذاً: نبدأ بالسلام، وإذا رد أخونا فليقل: وعليكم السلام ورحمة الله، وإن زاد: وبركاته أفضل، وإن اكتفى بـ(وعليكم السلام) فقد أجاز الله له ذلك. وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، فالأحسن أنك تقول: وعليكم السلام ورحمة الله، وإن زدت: وبركاته زادك الله عشر حسنات، وإن اكتفيت بـ(وعليكم السلام) فقد برأت ذمتك وأخذت عشر حسنات. وبعضهم سأل فقال: ما حكم زيادة (ومغفرته) التي وردت في الموطأ أصح كتاب بعد القرآن الكريم قبل ظهور البخاري ومسلم؟ فأقول: وردت في حديث ضعيف لا قيمة له، ولذا فنكتفي: بـ(رحمة الله وبركاته).وإن قيل: ياشيخ! بعض الناس يقول: هلا هلا! فأقول: هؤلاء هم البدو، إذ ما علمناهم ولا جالسناهم، ولذلك إذا قال لك أحدهم: هلا هلا، فقل له: أولاً: قل: وعليكم السلام، ثم رحب بي، لكن للأسف ما علمناهم، فمن منكم ذهب إلى خيامهم وجلس معهم يبكي بين يديهم ويعلمهم؟ لا أحد.ولذا فأقول: من قال لك: يا هلا، فإن كان في مستواك فقل له: يا أخي! وإن كان دونك فقل له: يا بني! وإن كان أكبر منك فقل له: يا أبتاه! قل: وعليكم السلام، ثم قل لي: يا هلا هلا، أما أن تسكت عن ذلك فقد أقررته على هذا الباطل، والمسئول أنت، فلو كان كل واحد منا يسلم على أخ من الغافلين فيقول لك: يا هلا، فقل له: جزاك الله خيراً، قل: وعليكم السلام ورحمة الله.

يتبع

ابوالوليد المسلم
23-04-2021, 03:07 AM
تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة...)
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87].
وجوب توحيد الله تعالى في عبادته
هيا نتغنى بهذه الآية: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، فاحفظها الليلة يا ابن عمي ويا ابن أخي، وصل بها في النوافل، وذلك حتى ترسخ في ذهنك، وهي تكفي لأن تصلي بها العشاء والظهر، وهي آية من أجل الآيات. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87] لا أحد، اللَّهُ [النساء:87]، من هو (الله)؟ أتريد أن تعرفه بذاته؟ ما تستطيع، ما تقدر، ولكن تعرفه بصفاته وأسمائه وأفعاله، وهذا الاسم الجليل العظيم لا يسمى به كائن سوى الله تعالى، ولو أن امرءاً سمى ولده (الله) لحكم بكفره ويستتاب أو يقتل، ولو أن متعنتراً من جهال المسلمين أو من معاندة اليهود والنصارى سمى ولده: الله، ويناديه بـ(يا ألله)، إن كان كافراً ازداد في كفره ويقتل، وإن كان مسلماً يستتاب ثلاث ليالٍ وهو محبوس في دار الهيئة، يرجع أو لا؟ يتوب أو لا؟ يستغفر أو لا؟ فإن أصر قطع رأسه. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [النساء:87]، ما معنى (لا إله إلا هو)؟ أي: لا معبود بحق إلا هو، إذ لا يوجد في الملكوت الأعلى ولا في الملكوت الأسفل، ولا في غير هذه الملكوت من يعبد بحق قط إلا الله تعالى، فمن أين لنا بهذا؟ سمعنا الناس يقولون فقلنا! وهل يكفي هذا؟ لا يكفي، فأنت تشهد بين يديه: أشهد أن لا إله إلا الله، فعلى أي شيء أقمت شهادتك؟ ما علمك الذي علمته وشهدت بمقتضاه أنه لا إله إلا الله؟ الله الذي لا إله إلا هو، أي: لا معبود بحق إلا هو، فكل من عبِد فهو عبادة باطلة؛ لأنه ظلم وأخذها بدون موجب ولا مقتضي ولا حق، إذ العبادة استحقها الله بموجب أعظم الموجبات ومقتضى أسمى المقتضيات.مرة أخرى: الله الذي لا إله إلا هو، أي: لا معبود في الكائنات يعبد بحق إلا هو، فإن قيل: لمَ؟ فالجواب: استحق الله العبادة واستوجبها وأصبحت لازمة له؛ لأنه خالق الخلائق، وموجد الموجودات، ومكون المكونات، فأنت عبد فاعبد خالقك، فمن يلومك؟! وأنت عبد فاعبد رازقك، فمن يلومك؟! وأنت عبد فاعبد من مصيرك إليه ومرجعك إليه، فمن يلومك؟! أما أن تعبد من لا يملك لك شيئاً، فبأي حق؟! أيخلقك الله ويرزقك ويحفظ حياتك من رحم أمك إلى أن يتوفاك ولا تعبده وتعبد غيره؟ أي ظلم أبشع من هذا الظلم؟ وأي ظلم أفظع من هذا الظلم؟ والله لا ظلم أشد من هذا الظلم، إذ الشرك بالله ظلم، فهذا لقمان الحكيم النوبي السوداني يعلم ولده فيقول له: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فما هو الظلم؟الآن لو أخذت النظارة من عينيك يا فلان، فأكون بذلك قد ظلمتك، أو يقوم فلان فيبعدك من المجلس يا فلان، فيكون بذلك قد ظلمك، أو يدخل أحدكم يديه في أذنيه ويغني، فيكون بذلك قد ظلم، إذ ليس هذا مكاناً للغناء، أو يفتح سرواله ويبول عند السارية، وعليه فالظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وهو درجات، فكونك تسب فلاناً ظلم، وكونك تذبحه أعظم الظلم.إذاً: الشرك بالله تعالى ظلم عظيم؛ لأن الذي خلق ورزق وأدار الكون والحياة كلها لا تعبده وتعبد غيره من مخلوقاته ممن صنع وخلق وأوجد! سواء كان الشمس أو القمر أو ملك من الملائكة أو نبي من الأنبياء أو صالح من الصلحاء، فضلاً عن التماثيل والأصنام والأحجار والقبور والمزارات والأشجار، فكيف تُقبل عليها بقلبك ووجهك وتعبدها ولو بكلمة أو انحناء برأسك لحظة؟!
الإيمان بالبعث والجزاء
اللَّهُ [النساء:87]، الذي، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [النساء:87]، لم قلنا: الذي؟ تفسير؛ لأن (الله لا إله إلا هو) ليس هو الخبر، فـ(الله) مبتدأ، والخبر جملة: لَيَجْمَعَنَّكُمْ [النساء:87]، اللَّهُ [النساء:87]، الذي، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [النساء:87]، ما له؟ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [النساء:87]، فأحببنا أن يفهم المؤمنون والمؤمنات أن الله استحق العبادة ووجبت له دون غيره؛ لأنه خالق الكون كله، ورازق ذاك الرزق كله، ومردنا ومصيرنا إليه، وجزاؤنا عليه بالخير أو بغير ذلك، فكيف نعبد غيره؟!بعض الجاهلين يفهم أن العبادة هي أن يركع للصنم أو للحجر أو يعلقه في عنقه، وهذا غير صحيح، إذ لا يصح أن تعبد أي كائن من الكائنات بأي نوع من العبادات، فالله يعبد الانحناء بالركوع، والآن نشاهد أمة كاملة راكعة، لمَ ركعتم؟ عبدنا الله عز وجل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا [الحج:77]، أمرنا فركعنا، فإذا جئت من هو أعلى منك وركعت له فقد أشركت، فيا عقلاء تأملوا! إذا أشركت هذا المخلوق فيما هو لله فقد أعطيته قسطاً منه، فهذا هو الشرك، يقال: السيارة بيننا شركة، والدار بيننا شركة، وهكذا الشرك بيننا، وهذا الانحناء وهذا الركوع خاص بالله تعالى.وأدنى شيء الحلف، فالذي يحلف بإنسان أو بمخلوق أو بكائن سوى الله تعالى، والله لقد أشرك في عبادة الله تعالى؛ لأن الأكبر هو الله، ولا يقسم ولا يحلف إلا بأكبر لا بكبير، ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، قالها أبو القاسم معلماً ومحلماً، فلا نحلف أبداً لا بأم ولا بأب ولا بأخ، وقد ذهب الناس للأسف إلى أن يحلفوا بكل شيء إلا الله، وسبب ذلك كله هو الجهل، وأننا أيضاً لا نبلغ ما تعلمناه، فنسمع الليلة كلمة تساوي الملايين وندفنها في قبورنا ولا نتحدث بها أبداً، بينما لو كانت كلمة سوء فإنها تنتشر من بيت إلى بيت.لعل الشيخ واهم؟! لقد شخنا في هذه الأمة وعاشرناها سبعين سنة، فهذه هي أحوالنا وهذه هي أوضاعنا، فكيف تسمع هدى وما تنقله؟! عند باب المسجد تقول: سمعت كذا وكذا حتى يستقر ذلك الحكم في ذهنك وفي نفسك وتقوى على العمل به، أما أن نسمع ولا نبلغ فوالله إنها لمصيبة.فهل عرفتم الشرك؟ الذي يقف الآن أمام الحجرة: يا رسول الله! المدد، يا رسول الله! الغوث، إني في كذا، والله لولا الشُرَط والبوليس المحيط بالحجرة لركع الناس وسجدوا، وأقسم بالله على ذلك، بل ويضبطونهم وهم يطوفون، وذلك قبل أن يسدوا الطواف كانوا يطوفون بالحجرة! أمة جاهلة هابطة.والرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمح لصاحبه أن يقول له: ما شاء الله وشئت، وإنما قال له منكراً: ( قل: ما شاء الله وحده )، فقد عاش عليه السلام ثلاثاً وعشرين سنة وهو رابط الحزام يدعو إلى الله وتوحيده، ثم يرضى أن يعبد مع الله؟! أعوذ بالله.وهذا المشرك: يا فاطمة! يا حسين! يا عبد القادر! يا سيدي فلان، يا سيدي فلان، نسوا الله نسياناً كاملاً، والذي يموت على هذه الوضعية إن لم يتداركه الله بأن يشهد شهادة حق وهو في سياق الموت، وذلك بأن يقول: لا إله إلا الله ثم يتوفى عنها، وما عرف عبد القادر ولا البدوي، هو في عداد أهل النار والعياذ بالله، ( من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة ).وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
26-04-2021, 03:04 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (48)
الحلقة (271)
تفسير سورة النساء (53)


بين الله عز وجل في هذه الآيات حال المنافقين المنتكسين عن منهج الحق، ووجوب قتلهم حيثما ثقفوا، إلا أنه سبحانه استثنى منهم صنفين؛ الأول قوم يرتبطون بمعاهدات مع قوم بينكم وبينهم ميثاق أمان، فهؤلاء لا يقتلون من أجل أولئك، والثاني قوم لا يريدون قتال المؤمنين ولا قتال قومهم، بل هم يريدون الأمان لأنفسهم، فهؤلاء أيضاً لا يقاتلون، وهذا الحال ينطبق على من كان في خارج جزيرة العرب، أما داخلها فقد نسخ هذا الحكم بآيات سورة براءة، فلا يبقى دينان في جزيرة العرب.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا يا ولينا، إذ ليس لنا من ولي سواك.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة، ومع هذه الآيات الأربع، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا * فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:87-91].فأولاً: أذكركم أن الآية الأولى هي في تحقيق عقيدة الإيمان، بل في تحقيق أعظم أركانها وهو الإيمان بالله رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه، والإيمان بالبعث الآخر، أي: للجزاء على أعمالنا هذه في هذه الدنيا، ثم الجزاء إما دار السلام وإما دار البوار، فاللهم اجعلنا من أهل دار السلام.وأما الآيات الأربع بعد ذلك فهي في غزوة أحد، وتذكرون أن ابن أبي رجع بثلاثمائة من المنافقين وضعاف الإيمان من الطريق، ولا شك أن رجوع هذا الرئيس مع ثلاثمائة قد أوجد هزة عنيفة في قلوب المؤمنين، ولا عجب أن يختلفوا فيهم، فمنهم من يقول: يجب أن نقتلهم ونقاتلهم، ومنهم من يقول: لا؛ رجاء أن يتوبوا، واسمع السياق: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ، أي: طائفتين، وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ، أي: نكسهم بما كسبوا، فبعد الإيمان عادوا إلى الكفر، وبعد الأمن عادوا إلى الخوف، وبعد الآداب والأخلاق عادوا إلى سوء الأخلاق والآداب، وهذا هو الارتكاس، فأركسهم لم؟ بِمَا كَسَبُوا [النساء:88]، فحاشا لله عز وجل أن يركس شخصاً وهو ما فعل ما يستوجب الارتكاس، ولكن بما كسبوا من نفاقهم وكفرهم ومكرهم واحتيالهم وبغضهم لرسول الله وللمؤمنين. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88]، ما يهتدون، ما تستطيعون، إذ من أذله الله لا تستطيع الخليقة كلها أن تهديه؛ لأن فعل الله لا يقاوم، فكيف أراد الله إضلالهم وأنتم تهدونهم؟! ما تستطيعون، ولماذا أراد الله إضلالهم؟ لأنهم استوجبوا ذلك بالاستمرار على الكفر والكيد والمكر والأذى للمؤمنين والمؤمنات.إذاً: غضب الله عليهم فاستوجبوا عذاب الله، فتأملوا قوله تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88]، أي: طريقاً إلى هدايته، والخطاب لرسول الله والمؤمنين.بل وزاد من أحوالهم فقال: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا [النساء:89]، فأطلعهم على ما في قلوبهم، وَدُّوا ، أي: أحبوا أشد الحب، لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، وقد قلت بالأمس وإني على يقين: إن عامة الكفار من المجوس من اليهود والنصارى والمشركين والوثنيين كلهم يودون أن نكون كافرين مثلهم، بل ولا توجد طائفة تقول: لا، هؤلاء على نور وعلى حق، اتركوهم هكذا، أو شجعوهم على هداية الناس، فهذا رمز لهذا المعنى، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً . إذاً: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89]، وقد ذكرنا أن بعضاً منهم كانوا في مكة، وقد كانوا يأتون إلى المدينة يعلنون إسلامهم ويعودون إلى مكة فينافقون ويجارون عبدة الأصنام والأوثان، فقال الله في شأنهم: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ ، أي: من هؤلاء الذين ذهبوا إلى مكة وعادوا، حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89]، وذلك بأموالهم وأهليهم وأولادهم، ويستقيموا معكم في المدينة، أما أن يمسكوا الحبل أو العصا من جانبين أو من وسطه فلا.قال: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ [النساء:89]، وأولياء جمع ولي، فمن وليك؟ الذي تحبه ويحبك، وتنصره وينصرك، فلا تتخذوا منهم أحباء تحبونهم وتنصرونهم أبداً؛ لأنهم كفار منافقون، إلى متى؟ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89]، ويصح أن نقول: يهاجروا في سبيل الله، أي: ينقطعوا عن عبادة الكفر والباطل والشر إلى الإيمان والعمل الصالح، أي: هجرة روحية، فيهجرون الكفر والضلال ويعودون إلى الإيمان والاستقامة، ويصح لفظ الهجرة بهذا المعنى؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( والمهاجر بحق -من هو؟- من هاجر ما نهى الله عنه ورسوله )، أي: أن المهاجر الحقيقي ليس الذي ينتقل من بلد إلى بلد، بل الذي يهجر ويتجنب ما يغضب الله ورسوله من الذنوب والآثام.قال: حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا ، عن الإيمان، إذاً فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:89]، وهذا توجيه الله عز وجل للرسول والمؤمنين إزاء هؤلاء المنافقين، سواء في المدينة أو خارج المدينة.
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق...)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء:90].ثم قال تعالى مستثنياً: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90]، فمثلاً قبيلة من القبائل أو جماعة من الجماعات مرتبطة بميثاق أو بعقد مع قبيلة أخرى، وتلك القبيلة بيننا وبينهم عهد وميثاق، فهؤلاء لا ننقض عهدنا وميثاقنا معهم من أجل أولئك، وإنما نتركهم فلا نقاتلهم.وتأملوا: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90]، يصلونهم بماذا؟ بمعاهدة، فمثلاً: خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبني بكر مع قريش، فإذا كانت جماعة مع خزاعة فلا ننصر عليهم لا نقاتلهم، إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ، وهذا أولاً، أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ، أي: ضاقت، أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ [النساء:90]، أي: جاءوكم وصدورهم ضاقت ما استطاعوا أن يقاتلونكم ولا أن يقاتلوا قومهم، إذ إن قومهم لا يريدون أن يسلموا ويدخلوا في الإسلام، وأنتم ما تريدون أن يبقوا في الكفر، فضاقت بهم الحال، فماذا تصنعون معهم؟قال: أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ، اتركوهم، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ إذاً: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ، وهم كفار، وألقوا إليكم السلم، أي: وهو عدم الحرب، فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء:90]، فلا تقاتلوهم، فهؤلاء مضطرون، فقومهم حاربوهم وأنتم كذلك، وصدورهم ضيقة، فإذا ما حاربوكم لا تحاربوهم، ثم يمن الله عليهم فيقول: ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم، إذاً: فإن اعتزلوكم ولم يقاتلوكم فاتركوهم، ولا تنس أن هذا كله قد نسخ بأن الجزيرة لا يجتمع فيها دينان، فقد نسخ بآيات آخر ما نزل من سورة التوبة، فقال تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]، ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قد أصبحت على الباب، فيموت الرسول ولم يبق في الجزيرة شرك ولا كفر؛ لأنها قبة الإسلام وبيضته، لكن هذه التعاليم يستخدمها أئمة المسلمين في خارج الجزيرة مع الأمم والشعوب، ولهم في ذلك حق، إذ إن هذا تعليم إلهي رباني.قال: وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء:90]، أي: لتقتلوهم أو تقاتلوهم، وهؤلاء ما يريدون أن يقاتلوكم ولا يقاتلوا قومهم، فماذا يصنعون؟ هم في كرب وفي ضيق، إذاً اتركوهم فلا تقاتلوهم.
تفسير قوله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم...)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:91].ثم قال تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ [النساء:91]، أي: يريدون أن يمسكوا العصا من الوسط، كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ [النساء:91]، أي: إلى الكفر والشرك، أُرْكِسُوا فِيهَا [النساء:91]، فاسمعوا، فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [النساء:91]، أي: تمكنتم منهم، وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:91]، وهذه جماعة أخرى. سَتَجِدُونَ آخَرِينَ [النساء:91]، أي: غير الأولين، كيف حالهم؟ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ [النساء:91]، في وقت واحد، كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ [النساء:91]، أي: فتنة الشرك والكفر، أُرْكِسُوا فِيهَا [النساء:91]، وهؤلاء، فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [النساء:91]، أي: بمعاهدة أننا لا نحاربكم ولا تحاربونا، وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ [النساء:91]، بالفعل؛ لأنه قد يعاهدون ويخونون، فهؤلاء، فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [النساء:91]، حتى ولو كانوا في الكعبة، إذاً: وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:91].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معاشر المستمعين! ومع شرح هذه الآيات الأربع أو الثلاث، وذلك زيادة في الفهم والعلم إن شاء الله. ‏
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولنا ولكم: [ أما الآيات الأربع الباقية فقد نزلت لسبب معين، وتعالج مسائل حربية معينة، أما السبب الذي نزلت فيه فهو اختلاف المؤمنين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في طائفة من المنافقين أظهروا الإسلام وهم ضليعون في موالاة الكافرين، وقد يكونون في مكة، وقد يكونون في المدينة، فرأى بعض الأصحاب أن من الحزم والعزم الضرب على أيديهم وإنهاء نفاقهم ]، وفعلاً فقد اختلفوا فيهم، قال تعالى مصوراً ذلك: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88].قال: [ ورأى آخرون تركهم والصبر عليهم ما داموا يدعون الإيمان لعلهم بمرور الأيام يتوبون، فلما اختلفوا واشتد الخلاف في شأنهم أنزل الله تعالى هذه الآيات فقال: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88].ومعنى الآية: أي شيء صيركم في شأن المنافقين فئتين؟ والله تعالى قد أركسهم في الكفر بسبب ما كسبوه من الذنوب العظام، أتريدون أيها المسلمون أن تهدوا من أضل الله، وهل يقدر أحد على هداية من أضله الله؟ وكيف، ومن يضلل الله حسب سنته في إضلال البشر لا يوجد له هاد، ولا سبيل لهدايته بحال من الأحوال.ثم أخبر تعالى عن نفسية أولئك المنافقين المختلف فيهم فقال وهي الآية الثالثة: وَدُّوا [النساء:89] ]، أي: في نفوسهم، ثم قال: [ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، أي: أحبوا من قلوبهم كفركم لتكونوا مثلهم، وفيه لازم وهو انتهاء الإسلام ]، أي: يريدون إنهاء الإسلام، وهذا الذي قلت لكم: لا يوجد فريق في البشر من المشركين والوثنيين والكتابيين يريدون بقاء الإسلام أبداً؛ إذ لو وجدت أمة أعجبها الإسلام ورغبت فيه فإنها تدخل فيه، فلماذا تعيش بعيدة عنه؟ فكلهم يريدون ألا إسلام، لماذا؟ ليستووا مع المسلمين في الهبوط والسقوط وفي جهنم والعياذ بالله.قال: [ ومن هنا قال تعالى محرماً موالاتهم إلى أن يهاجروا ]، أي: يعودون إلى العمل الصالح والاستقامة، أو يعودوا إلى المدينة ولا يبقوا في مكة أو خارجها، قال: [ فقال: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ [النساء:89] تعولون عليهم في نصرتكم على إخوانهم في الكفر ]، يعني: يقاتلون معكم، قال: [ وظاهر هذا السياق أن هؤلاء المنافقين هم بمكة ]، وهذا ظاهر الآية، قال: [ وهو كذلك. وقوله تعالى: حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89]؛ لأن الهجرة إلى المدينة تقطع صلاتهم بدار الكفر، فيفتر عزمهم ويراجعوا الصدق في إيمانهم فيؤمنوا، فإن هاجروا ثم تولوا عن الإيمان الصحيح إلى النفاق والكفر فأعلنوا الحرب عليهم، فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:89]؛ لأنهم بارتكاسهم لا خير فيهم ولا يعول عليهم.ثم في الآية الأخيرة يقول: استثنى لهم الرب تعالى صنفين من المنافقين المذكورين ]، أي: استثنى الله تعالى لرسوله والمؤمنين صنفين من أولئك المنافقين المذكورين، قال: [ فلا يأخذونهم أسرى ولا يقاتلونهم:الصنف الأول: الذين ذكرهم تعالى بقوله: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90]، أي: يلجئون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، فبحكم استجارتهم بهم طالبين الأمان منهم، فأمنوهم أنتم حتى لا تنقضوا عهدكم. والصنف الثاني: قوم ضاقت صدورهم بقتالكم وقتال قومهم، فهؤلاء الذين لم يستسيغوا قتالكم ولا قتال قومهم، إن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم فلا تأخذوهم ولا تقتلوهم واصبروا عليهم؛ إذ لو شاء الله تعالى لسلطهم عليكم فلقاتلوكم ]، إذاً فاتركوهم، [ وهذا الصنف هو المعني بقوله تعالى: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ [النساء:90]. فما دام الله تعالى قد كفهم عنكم فكفوا أنتم عنهم، هذا معنى قوله تعالى: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [النساء:90]، أي: المسالمة والمهادنة، فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء:90]، أي: لأخذهم وقتالهم.هذا وهناك صنف آخر: ذكر تعالى حكم معاملته في الآية الخامسة والأخيرة، وهي قوله تعالى: ستجدون قوماً آخرين غير الصنفين السابقين، يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ [النساء:91]، فهم إذاً يلعبون على الحبلين كما يقال، كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ [النساء:91]، أي: إلى الشرك، أُرْكِسُوا فِيهَا [النساء:91]، أي: وقعوا فيها منتكسين؛ إذ هم منافقون، إذا كانوا معكم عبدوا الله وحده، وإذا كانوا مع قومهم عبدوا الأوثان لمجرد دعوة يدعونها يلبون فيرتدون إلى الشرك-والعياذ بالله-وهو معنى قوله تعالى: كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا [النساء:91]، وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [النساء:91]، أي: إن لم يعتزلوا قتالكم، ويلقوا إليكم السلام، وهو الإذعان والانقياد لكم، ويكفوا أيديهم بالفعل عن قتالكم، إذاً: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:91] ]، لا شك في الإذن في قتالهم، ثم قال: [ أي: حجة واضحة على جواز أخذهم وقتلهم حيثما تمكنتم منهم، وعلى أي حال كان، هذا ما دلت عليه الآيات الخمس مع العلم أن الكف عن قتال المشركين قد نسخ بآيات براءة، إلا أن لإمام المسلمين أن يأخذ بهذا النظام عند الحاجة إليه؛ فإنه نظام رباني ما أخذ به أحد وخاب أو خسر أبداً، ولكن خارج جزيرة العرب، إذ لا ينبغي أن يجتمع فيها دينان ].وقد عدنا من حيث بدأنا، إذ هذه الأحداث تمت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نسخ الله تعالى هذا السلم بين المسلمين والمشركين نهائياً، وله إعلان من قبل أعلن في الجزيرة بكاملها: من كان بينه وبين الرسول عهد، شهر أو شهرين أو ثلاثة إلى أربعة أشهر، فننتظر حتى تنقضي الأربعة الأشهر، فإذا انسلخت فالقتال، واسمعوا هذه الآيات المباركة: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:1-2]، أيها المشركون! أي: عندكم أربعة أشهر، فإما أن تدخلوا في الإسلام أو تخرجون من الجزيرة أو تلتحقون بالهند أو بشرق الدنيا أو بغربها، فهذا شأنكم.لكن فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فالجواب: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:5]، فهذه الآية نسخت العفو أو السلم بين الرسول والمؤمنين والمشركين بالجزيرة؛ لأن الإسلام قد انتشر ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أوشكت، إذاً هنا أعلن هذا الإعلان الإلهي وأعلنه حتى في الحج، وهو أن للمشركين فسحة أربعة أشهر، فمن أراد أن يدخل في الإسلام فليتفضل، ومن أراد أن يرحل إلى شرق الدنيا أو إلى غربها فليفعل، أما أن يصر على الشرك والكفر هنا فلا، إذ بمجرد أن تنتهي هذه الأربعة أشهر يقتلون.ويبقى أن هذه الآيات يستعملها إمام المسلمين مع الدول المجاورة، أي: قضية عهود ومواثيق وعدم اعتداء، وكل هذا واسع، أما في الجزيرة فلا يجتمع فيها دينان.

يتبع

ابوالوليد المسلم
26-04-2021, 03:05 AM
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: وجوب توحيد الله تعالى في عبادته ]، وأخذنا هذا من قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [النساء:87]، أي: لا معبود بحق إلا هو، وقد سرحنا النظر والعقل في الملكوت كله، والله لا يوجد من يستحق أن يعبد إلا الله، فمن يدلل على هذا أو يبرهن؟ لا خالق للخلق ولا مكون للكون إلا الله، إذاً فكيف يعبد مخلوق مكون والخالق المكوِّن لا يُعبد؟! بأي عقل هذا؟! سرح النظر في الملكوت كله والله لن تجد من يستحق أن يعبد إلا الله عز وجل، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [النساء:87]، أي: لا معبود بحق يقتضي أن يعبد إلا الله عز وجل، وحق الله علينا لنعبده مقابل خلقنا ووهبنا حياتنا كلها، ووهب لنا الكون كله، ومع ذلك ننكر فضله ولا نطيعه؟! وأخرى أيضاً: هل الله عز وجل في حاجة إلى عبادتنا؟ لا والله، إذاً لم يكلفنا، هذا حرام، وهذا حلال، وقم بكذا، وافعل كذا؟! والجواب: والله لمن أجل إسعاد الإنسان وإكرامه، ولو عرف هذا البشر ما كفر أحد، فاليهود والنصارى والمشركون والمجوس لمَ هم هاربون من عبادة الله تعالى؟ ما فهموا، ولذلك هذا الإسلام من أجلكم لتكملوا آداباً وأخلاقاً وأبداناً وعقولاً، وتسعدوا في حياتكم هذه، وفي الحياة الأبدية الباقية، لكن ما فهموا هذا، والذين ما فهموا هذا ودخلوا في الإسلام يتألمون من هذه الواجبات ويشمئزون وينقبضون، ويقولون: كيف نصوم؟ كيف نصلي؟ لن تكمل ولن تسعد ولن تفضل ولن تشرف إلا بهذه العبادات، فهل يستطيع كائن من كان أن يقول: إن العبادة الفلانية ضارة غير نافعة؟ أو يقول: إن المحرم الفلاني ضار تحريمه، إذ لو أحل لكان أنفع؟ اترك علماء النفس والاجتماع والدنيا كلهم، ما حرم ولا أحل ولا أوجب إلا من أجل إسعاد البشرية وإكمالها، وهو في غنى مطلق عن الخلق، إذ كان ولم يكن شيء غيره.قال: [ وجوب توحيد الله عز وجل ]، في أي شيء؟ باللسان أو بالقول والعمل؟ الجهال عندنا المسبحة في يده: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لما يأخذه النعاس وتسقط المسبحة يقول: يا سيدي عبد القادر! والله قد عايشناهم ولا تقولوا: إن هذا الكلام باطل، فهو يذكر: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، وجزاه الله خيراً، ونعم الذكر هذا، لكن ما فهم معنى لا إله إلا الله، إذ تسقط المسبحة من يده فيقول: يا رسول الله! وقد قلت لكم: إني كنت مع سائق من السلفيين، لكن ما انشرح صدره بعد، فخرجت السيارة عن الطريق فقال: يا رسول الله! يا رسول الله! هل الرسول ينقذك؟ وهل يسمعك ويراك؟ وهل يمد يده إليك؟ لم تلعب يا عبد الله؟ إذ لو وقفت أمام قبر ألف سنة وأنت تدعوه والله ما رد عليك بشيء أبداً، وإن قلت: لا، فامش إلى سيدي البدوي، أو عبد القادر الجيلاني، وادعوه كم عاماً، والله لن تسمع صوته ولن يرد عليك، ولا قضى حاجتك أبداً، مع ما أفرغته على نفسك من غضب الله وسخطه، إذ ما يريد الله لك وأنت عبده أن تضل عاماً كاملاً ولا تعرف الطريق إليه.وقد بينا للصالحين والصالحات أمثلة حية: فلو مررت يا أخي أو يا بني برجل أمام دار خربة، فالباب والسقف موجود لكن ما فيها سكان، إذ إنها متهدمة، فرأيته يقول: يا أهل الدار! إني جائع، يا أهل البيت! أخوكم ظمآن، ومررت به، فأسألكم بالله تقولون: دعه يدعو أو ماذا تقولون؟ تقول: يا بني! يا أخي! ما في الدار أحد أبداً، لكن امش إلى دار فيها سكان، أليس هذا هو؟ والآن يمر إخواننا بالواقفين على الأضرحة والقبور: يا سيدي فلان! يا مولاي فلان! وليس هناك من يقول لهم: يا جماعة أنتم غالطون، إن هؤلاء أموات لا يمدونكم بشيء أبداً، ولا يقدرون عليه، بل ولا يعرفون نداءكم ولا طلبكم، فهل عرفتم معنى التوحيد؟ أي: توحيد الله في العبادة، بحيث لا يعبد معه غيره بأي نوع من أنواع العبادة، فالذي تعبدنا الله به معروف، وقد جاء في الكتاب وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف العبادة. فهل الدعاء عبادة؟ فيه تعب؟ فيه أموال تنفقها؟ سفر تقطعه؟ إذاً كيف أن الدعاء عبادة؟ العبادة: الركوع، والسجود، والطواف، وإنفاق المال، والذكر، أما الدعاء فكيف يكون عبادة؟ أولاً: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الدعاء هو العبادة )، وهذه صيغة حصر، وورد بسند ضعيف: ( الدعاء مخ العبادة )، وهو كذلك؛ لأن الحيوان إذا نزع مخه هل يبقى حياً؟ وكذلك العبادة إذا أخذ منها الدعاء ماتت، وما بقيت صلاة ولا حج ولا جهاد، وإليكم الصورة لتعرفوا أن الدعاء هو العبادة: قم يا إسماعيل وارفع يديك، وأنا الآن أقرأ لكم حاله: هذا العبد فقير ومحتاج ومضطر، وهو في هم وكرب، ما الدليل؟ لولا فقره يمد يديه؟ والله لفقير، والله عز وجل هو الغني، فقد رفع يديه إلى الله، والله فوق سمواته، فهو رفع يديه فوق، ولو كان يعرف أن من يجيب دعاءه ليس بفوق، لنكس يديه إلى الأرض، أو لقال هكذا عن يمينه أو هكذا عن شماله، لكنه عرف أنه لا يجيب دعاءه إلا الله الذي فوق سماواته، فوق عرشه، بائن من خلقه، ولهذا رفع كفيه إليه يطلبه ويسأله حاجاته العاجلة والآجلة، وثانياً: أن هذا الذي رفع يديه يسأل ربه، هل سمعتم صوته؟ لا، إذاً كيف يسمع الله صوته؟ هذا لعلمه أن الله عز وجل لا يخفى عليه من أمر الخليقة شيئاً، فهو يعلم السر وأخفى، فقد أيقن هذا العبد أن الله قد سمعه ويسمعه وهو يناديه ويناجيه، وثالثاً: لو كان هذا العبد يعلم أن الله عز وجل لا يسمعه، فهل سيكلمه؟ لا، لكن هو يدعو: يا رب! يا رب! فمعناه إيمان يقيني أن الله يسمعه، كما لو كان هذا العبد أيضاً يعلم أن هناك من يقضي حاجاته ويعطيه سؤله، والله لما افتقر إلى الله ولا رفع كفيه إليه.وصورة حقيقية أخرى: أنت الآن تقول لأخيك: من فضلك ناولني عصاي، أو ناولني نعلي من فضلك، فهل يجوز هذا أو لا يجوز؟ يجوز، لم؟ لأنه يسمعك ويراك ويقدر على أن يعطيك، أو فلان من فضلك أعطني عشرة ريال نريد أن نتعشى بها، فهل هذا يجوز أو لا؟ نعم يجوز لأنه دعا حياً يسمع ويقدر على أن يعطي، أما دعاء الأموات من عيسى ومريم إلى العزير إلى عبد القادر إلى البدوي إلى رسول الله وفاطمة والحسين، كل هؤلاء كيف يعطونك؟! كيف يسمعون عنك؟! كيف يعرفون حالك يا عبد الله؟! إذاً عليك بالله عز وجل القائل: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].فهل عرفتم أن الدعاء هو العبادة؟ أظهر فقره وربه هو الغني، وسأل ربه لعلمه بأنه يسمع صوته ويقدر على إعطائه، فأغمض عينيه عن الكون والحياة كلها، إذ لم يجد غير الله تعالى يرفع كفيه إليه.ولهذا فإن الدعاء هو العبادة، والحمد لله فهناك يقظة وعودة، وإلا قبل خمسين سنة والله لولا هذه الدولة القرآنية لرأيتم الركع والسجد والطائفين والسائلين بأعلى الأصوات: يا رسول الله! يا أبا فاطمة! يا كذا! وكأنهم ما قرءوا القرآن، وهكذا كانت أمتنا خلال ثلاث أو أربعمائة سنة بهذه الطريقة، تزور ضريح سيدي فلان الخميس أو الاثنين، نساء ورجالاً، بل وينقلون المرضى، ووالله لقد نقلت والدتي ابنتها سعدية وهي مصابة بمرض جنون إلى سيدي عبد الرحمن الأخضري على حمارة أكثر من ثمانية كيلو، ووضعتها في ضريح عبد الرحمن الأخضري للشفاء، وهذا قبل أن تتعلم والدتي من طريقي، وذلك أيام كنا يتامى، أما وقد تعلمت وأصبحت موحدة فإنها ماتت على لا إله إلا الله، فهذه أمور كالشمس، ومن أراد أن يتفضل فليذهب إلى الأضرحة في أي بلد، كالأضرحة الممتازة كسيدي أحمد البدوي، وكسيدي عبد القادر، وسيجد الآن أمماً جاثمة على ركبها تدعو وتسأل.ما سبب ذلك؟ والله إنه الجهل، حتى لو كان مضللين ما يستطيعون أن يضللوا العالمين أبداً، وإنما يضللون الجاهل، أما الذي عرف كيف يضللونه؟! فهيا نقضي على هذا الجهل، فما الطريق؟ وما السلاح الذي نقضي به على الجهل؟ بالأموال؟! والله لا مال ولا سلاح ولا هرج ولا مرج إلا فقط أن نسلم أنفسنا لله تعالى، فنقول: يارب! خذ قلبي ولساني ووجهي لك، وأهل القرية أو أهل مكان ما يجتمعون في بيت ربهم كاجتماعنا هذا، فالنساء وراءنا والرجال أمامنا، وليلة يأخذون آية كليلتنا، وأخرى حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وطول العام وهم كذلك، والله ما تمضي سنون إلا ولا يوجد جاهل ولا جاهلة، وذلك بدون كتابة ولا قلم، فيتعلمون ويعملون، ولا تسأل عن ثمار ذلك ونتائجه الطيبة، فينتهي الحسد والبغض والعداء والشرك والباطل، ويظهر الخير والولاء والصفاء والمحبة.فكم يكلفهم هذا؟ لا شيء، وقد قلنا لهم: إن اليهود والنصارى في أمريكا وأوروبا إذا دقت عندهم الساعة السادسة أوقفوا العمل والله العظيم، وذهبوا إلى دور السينما والمراقص والملاهي، وأنتم يا ربانيون لمَ لا توقفون العمل في السادسة وتأتون إلى بيوت ربكم بنسائكم وأطفالكم، فتتعلمون الهدى، وترتقون إلى سماء الكمالات من طريق قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم؟وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
26-04-2021, 03:06 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (49)
الحلقة (272)
تفسير سورة النساء (54)

لما ذكر الله عز وجل فيما سبق قتال المنافقين متى يجوز ومتى لا يجوز، ناسب أن يذكر بعدها قتل المؤمن الصادق في إيمانه خطأ وعمداً، وبين سبحانه حكم ذلك، فذكر أنه لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا في حال الخطأ، أما في حال العمد فلا يكون ذلك منه ولا يتأتى له وهو مؤمن، ومن فعل ذلك فقد توعده الله عز وجل بوعيد شديد، وهو تعرضه لغضب الله وسخطه ولعنته وتخليده في النار عياذاً بالله.
تفسير قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع هاتين الآيتين الكريمتين من سورة النساء المدنية المباركة، فهيا نتلو هاتين الآيتين ونتأملهما ونتدبرهما، ثم نشرح ونبين، ثم نعزم على أن نعمل، إذ إن هذا هو الطريق، وتلاوة هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:92-93]. وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92]، أي: أن قتل مؤمن لمؤمن آخر جائز في القتل الخطأ، أما مؤمن يقتل مؤمناً متعمداً فلا، إذ ليس هذا من شأنه أو مما يتهيأ له، بينما الخطأ يقع، كأن أراد أن يرمي غزالاً فرمى امرأة، أو أراد أن يضرب حماراً فضرب أخاه. وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92]، أي: اللهم إلا في حال الخطأ، أما عمداً وعدواناً فلا يصدر هذا عن مؤمن، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً [النساء:92]، ماذا عليه؟ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، وتحرير الرقبة المؤمنة لأنه لوث نفسه وإن لم يكن عامداً، ولأن هذا المقتول كان يعبد مولاه، فأنت عندما تقتله فأنت تمنع تلك العبادة وتقطعها، ولأنه لا بد وأنه فرط، إذ لو تنبه واحترز ما كان ليقتل خطأ، لكن وجود غفلة وعدم مبالاة تسبب في هذا القتل، فلهذا لا بد من كفارة، وهذه الكفارة هي تحرير رقبة مؤمنة، أما الرقبة الكافرة فلا تنفع، إذ لو تعتق خمسين يهودياً فلا ينفع، بل لا بد وأن تعتق رقبة مؤمنة، وهذا أيام كانت الرقاب تباع في الأسواق، أما الآن فقد انتهت، لكن قد يدور الزمان كما كان وتوجد. وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء:92]، فعتق الرقبة حق الله، والدية حق أولياء الميت، ومعنى: مسلمة: أي: مؤداة كاملة بدون تباطؤ ولا تراخ، إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء:92]، أي: يتصدقوا بها على القاتل، ويقولون: ما نأخذ دية، أجرنا على الله. فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92]، أي: إن كان هذا المقتول خطأً من قوم عدو لنا، وبيننا وبينهم العداء والحرب، وليس بيننا وبينهم عهد ولا ميثاق وهو مؤمن، فعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة فقط، ولا دية، إذ لا نعطي لهم أموالنا لنعينهم على حربنا وقتالنا، وهذا تدبير ربنا العليم الحكيم. فَإِنْ كَانَ [النساء:92]، أي: المقتول، مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ [النساء:92]، أي: والحال أنه مؤمن، فماذا علينا؟ قال: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [النساء:92]، أي: فتحرير رقبة مؤمنة، أما كافرة فلا تنفع. وهنا الإمام مالك رحمه الله يرى اجزاء الرقبة الصغيرة، سواء كانت بنتاً صغيرة أو ولداً صغيراً، وبعض أهل العلم يقول: لا بد أن يكون بالغاً، والآية عامة، فكون الصغير يجزي فلا بأس. وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:92]، أي: إن قتل مؤمن مؤمناً آخر وهو من دولة أخرى، وبينكم وبينهم معاهدة وسلم وعدم اعتداء، فالحكم تحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله، وحينئذ يجوز أن نعطيهم الدية؛ لأنهم لا يقتلوننا بها أو يشترون بها السلاح لقتالنا، ولما بيننا وبينهم من عهد وميثاق، لكن إن كانت الدولة معادية فلا دية؛ لأن في ذلك إعانة منا لهم بالمال على حربنا، وهذا تشريع العليم الحكيم. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ [النساء:92]، أي: فمن لم يجد الرقبة التي يعتقها، أو ليس عنده مال ليشتري رقبة فيعتقها، فالواجب: فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ [النساء:92]، ويكفيه هذا، أما الدية فعلى العاقلة، والعاقلة هم الأعمام وأبناء الأعمام، أي: الرجال الذكور، فهم الذين يسددون دية القتيل، لكن إن لم يجد القاتل الرقبة فيصوم شهرين متتابعين، كأن يصوم رجب وشعبان، أو شوال وذي القعدة، أو ذي الحجة ومحرم، والمرأة إن حاضت أو نفست فتبني، كأن صامت عشرين يوماً ثم حاضت فتركت الصلاة والصيام سبعة أيام، فتبني على الماضي فتواصل صومها، وكذلك المريض إن صام شهراً ثم مرض عشرة أيام أو عشرين يوماً، ثم شفي من مرضه فيستأنف الصيام فيبني على ما مضى، اللهم إلا المسافر فلا عذر له، وإلا لكان كل واحد يسافر ليستريح من الصيام، فالمسافر يسافر وهو صائم أو يترك سفره نهائياً. تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ [النساء:92]، أي: هذه توبة يتوب الله بها عليه، وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا [النساء:92]، أي: بخلقه، حَكِيمًا [النساء:92]، أي: في تشريعه، فلنسلم لله ولنطأطئ رءوسنا له، ولا حق لأحد أن يعمل على التأويل بالتبديل والتغيير؛ لأن الله أولاً عليم بكل شيء، وثانياً: أنه حكيم في شأنه كله، فلا يشرع أبداً إلا ما فيه صلاح العباد والأمة.
تفسير قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم...)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. يقول تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [النساء:93]، ما جزاؤه؟ قال: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، فهذا الذي يقدم على قتل المؤمن ظلماً وعدواناً ما كان بالمؤمن الحق، ولهذا لا تقل: كيف؟ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، كالكفار.أعود فأقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92]، فنفهم من هذا الأسلوب الرباني أنه ليس والله من شأن المؤمن الحق ولا مما يكون وصفاً له أو مما يتأتى له أن يقتل مؤمناً اللهم إلا في حال الخطأ، وهنا يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، شأنه شأن من مات على الكفر، أو كالكافر، فتأملوا هذه!والذي عليه الجمهور من أمتنا المرحومة: أنه من الجائز أن يقتل المؤمن أخاه المؤمن، لكن هل له توبة والله يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟ كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما إذا سأله السائل: هل لقاتل النفس من توبة يا عبد الله بن عباس؟ فيقول له: قتلتَ أو لم تقتلْ؟ فإن قال: لم أقتل. قال: وأي توبة لقاتل النفس والله يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟! اذهب، وإن قال: قد قتلتُ. فيقول له: وأي مانع يمنعك من أن تتوب وباب الله مفتوح، وهو القائل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]؟! وهذا من الحكمة؛ لأنه لو قال له: لا توبة لك فإنه سيقتله، ولا ننسى ذاك الإسرائيلي الذي كمل المائة بالراهب الذي قال له: لا توبة لك، وإن لم يقتل المفتي فسيقتل غيره؛ لأن القاتل سيقول: ما دمت أنني إلى جهنم إذاً أشفي صدري، فيأخذ في القتل والفجور وما إلى ذلك.إذاً: فمن الرحمة بالقاتل أن يقال له: تب إلى الله عز وجل، أكثر من الدموع والبكاء والصدقات، وأعتق الرقاب ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ويبقى هذا إعلان عن القضاء الإلهي، ثم بعد ذلك إن شاء الله أنفذه وإن شاء ما أنفذه،واسمع إلى صيغة هذا الحكم الإلهي، يقول تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ [النساء:93]، أي: مقابل جريمته: جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، لكن هل الله ملزم بأن ينفذ هذا؟ الوعد ثق بأن الله لا يتخلف وعده، لكن الوعيد قد الله تعالى يرحم عبده، قد يتوب عليه. إذاً: أساساً لا يوجد مؤمن بحق يقتل مؤمناً أبداً؛ لأن الله تعالى قال: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92]، أي: ليس من شأنه أو من وصفه أو مما يتأتى له أو يقع منه اللهم إلا في حال الخطأ فنعم، وهنا يقول في الآية الأخيرة: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ [النساء:93]، أي: مقابل جريمته: جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ [النساء:93]، أي: هيأ له، عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وهو عذاب النار. ونعود إلى كلمة الحبر ابن عباس رضي الله عنه، فإذا جاءك من يسألك: هل لقاتل النفس من توبة؟ فاسأله: هل قتلت أم لا؟ فإن قال: أنا ما قتلت، وإنما أسأل عن الحكم، فقل له: أي توبة تكون له وحكم الله معلن عنه ومفروغ منه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟! وإن قال: أنا قتلت، فقل له: فأي شيء يمنعك من التوبة؟ تب إلى الله عز وجل، وأكثر من الصلاة والدموع والبكاء بين يديه، وأكثر من الصدقات وعتق الرقاب عسى الله عز وجل أن يعفو عنك فهو أرحم الراحمين.

يتبع

ابوالوليد المسلم
26-04-2021, 03:06 AM
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
اسمعوا إلى تفسير هاتين الآيتين مرة أخرى وتأملوا، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92]، أي: في حال الخطأ، إذ إن هذا ممكن وجائز. وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً [النساء:92]، فماذا عليه؟ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، ولا يصح تحرير رقبة كافرة، بل لو أعتق ألف رقبة كافرة فلا ينفع؛ لأن الله نص على الإيمان في الرقبة، والسر في ذلك أن الرقبة المؤمنة إذا أعتقها عبدت الله تعالى، فتحررت من رق العبودية لغير الله، وأصبح وقتها كافياً لأن تعبد الله عز وجل، وأما الرقبة الكافرة لما تعتقها فإنها تزيد في الكفر والمعاصي، فأنت تحرر الرقبة المؤمنة لتتمكن من عبادة الله عز وجل، كما أن الرقبة فيها إحياء روح، إذ إن القاتل قد أمات روحاً، وبعتقه هذه الرقبة المؤمنة فقد أحيا روحاً، وهيئ الفرصة لهذه الروح حتى تعبد الله عز وجل.ثم قال: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء:92]، والدية بيانها كالآتي: إما أن تكون مائة بعير، أو ألف دينار ذهباً، أو اثنا عشر ألف درهم فضة، وهذه هي الدية المطلقة، والعاقلة هي التي تقوم بها لا القاتل وحده، وهذا في حال القتل الخطأ، كأن رمى غزالاً فأصاب إنساناً، فيشاركه أقرباؤه في الدية، والآن ممكن يقومونها بالريالات، وأما القتل شبه العمد كأن يضرب إنساناً بعصا، أو يأخذ حجراً فيضربه بها، فالغالب أن الإنسان لا يموت من الضرب بالعصا أو بالحجر، لكن هذه الحال تستدعي أنه أراد قتله، وهنا تغلظ دية شبه العمد. قال: ومن الغنم ألف شاة، ثم قال: وهل الإبل تخمس أو لا؟ قال: في هذا خلاف، ومذهب الشافعي ومالك أنها تخمس، ووجه تخميسها: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنو لبون ذكوراً، ففي الحكم الأول مائة من الإبل ولو كانت ابن لبون أو من نوع واحد؛ لأن فيها تخفيفاً، لكن ما دام القتل شبه عمد فيجعلونه بهذه الطريقة: عشرون حقة، والحقة هي الناقة الكبيرة التي تلد، وعشرون جذعة دونها في السن، وعشرون بنات مخاض لها سنة فقط أو سنتين، وعشرون ابن لبون، وهذا عند الشافعي ومالك رحمهما الله.قال: ويغلظ دية شبه العمد، بأن يكون أربعون منها في بطونها أولادها، أي: كلها حبالى حاملات، وشبه العمد ما كان بأداة لا تقتل عادة كالعصا ونحوها؛ لحديث: ( إلا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها ).إذاً: فالتخميس عام، وهو ما ذهب إليه الشافعي ومالك ، أي: عشرون من كذا، وعشرون من كذا، وذلك مطلقاً في غير شبه العمد، أما مع شبه العمد وهو القتل بالعصا ونحوها، فهذا الذي تغلظ فيه الدية، وذلك أربعون منها في بطونها أولادها.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
نعود إلى دراسة الآيات في الشرح الذي بين أيدينا. ‏
معنى الآيات
يقول المؤلف: [ لما ذكر تعالى في الآيات السابقة قتال المنافقين متى يجوز ومتى لا يجوز، ناسب-إذاً-ذكر قتل المؤمن الصادق في إيمانه خطأ وعمداً وبيان حكم ذلك، فذكر تعالى في الآية الأولى أنه لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا في حال الخطأ، أما في حال العمد فلا يكون ذلك منه ولا يتأتى له وهو مؤمن؛ لأن الإيمان نور يكشف عن مدى قبح جريمة قتل المؤمن وما وراءها من غضب الله تعالى وعذابه، فلذا لا يقدم على ذلك اللهم إلا في حال الخطأ، فهذا وارد وواقع ] أي: في حال الخطأ.قال: [ وحكم من قتل خطأ: أن يعتق رقبة ذكراً كانت أو أنثى مؤمنة، وأن يدفع الدية لأولياء القتيل إلا أن يتصدقوا بها فلا يطالبوا بها ولا يقبلونها-بالمرة-والدية مائة من الإبل، أو ألف دينار ذهب، أو اثنا عشر ألف درهم فضة، هذا معنى قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء:92]، فإن كان القتيل مؤمناً ولكن من قوم هم عدو للمسلمين محاربين، فالواجب على القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير ] أي: لا دية حتى لا يستعين بها العدو علينا.قال : [ إذ لا تعطى الدية لعدو يستعين بها على حرب المسلمين، وإن كان القتيل من قوم كافرين وهو مؤمن أو كافر-لا فرق بينهما-ولكن بيننا وبين قومه معاهدة، على القاتل تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهله، فمن لم يجد الرقبة ] أي: ما قدر على شرائها أو ليست بموجودة.قال: [ صام شهرين متتابعين، فذلك توبته لقول الله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:92]، عليماً بما يحقق المصلحة لعباده، حكيماً في تشريعه-وتقنينه-فلا يشرع إلا ما كان نافعاً غير ضار، ومحققاً للخير في الحال والمآل ] وهذا شأن العليم الحكيم.قال: [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الثانية فإنها بينت حكم من قتل مؤمناً عمداً عدواناً، وهو أن الكفارة لا تغني عنه شيئاً ] أي: أن الكفارة بالعتق لا تغني عنه شيئاً.قال: [ لما قضى الله تعالى له باللعن والخلود في جهنم، إذ قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93] ] ولهذا قد تعيش في مدينة أو في قرية مائة سنة فلا تجد مؤمناً قد قتل مؤمناً، بل أسر قديمة منذ القرون ما ثبت عنهم أن فرداً منهم قتل مؤمناً، وذلك لعظم هذه التبعة.قال: [ إلا أن الدية أو القصاص لازمان ] أي: إن قتل عمداً فلا بد من الدية والقصاص أيضاً، والقتل الخطأ فيه الدية، فمن باب أولى القتل العمد، إذ فيه القصاص والدية، قال تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة:45]، فالقبيلة أو العائلة تدفع الدية وهو يقتل إلا أن يعفوا أولياء القتيل فهذا شأنهم.قال: [ إلا أن الدية أو القصاص لازمان ما لم يعف أولياء الدم ] أي: إذا عفا أولياء الدم عن القصاص فلهم ذلك، وإن عفوا عن الدية فكذلك، وهنا أذكر السامعين بقول الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143]، يوم القيامة، ومعنى (وسطاً): خياراً عدولاً، وهذه الوسطية لها مثل شائع بين ألسنة العلماء، فاليهود بنو إسرائيل قبل نزول عيسى عليه السلام وقبل نزول الإنجيل؛ كان إذا قتل أحدهم إنساناً فلا دية ولا عفو، بل يجب أن يقتل، فشددوا فشدد الله عليهم، وذلك لغلظ أكبادهم وشدة عنادهم، فأدبهم الله تعالى، ثم جاء عيسى بن مريم عليه السلام في بني إسرائيل ونسخ الكثير من أحكام التوراة بالإنجيل، وفرض الله عليهم أن من قتل لا يقتل ولا يدفع دية، وعلى أهل الميت أن يعفوا عن الدية وعن القاتل، فانظر إلى هذا الإفراط والتفريط عند هؤلاء الناس، فالإفراط عند النصارى، إذ فرطوا فلا دية ولا قتل، والتفريط عند اليهود، ثم جاء المسلمون فخيرهم: إن شئتم خذوا الدية واعفوا، وإن شئتم اقتلوا، فهم مخيرون، فجئنا وسطاً لا إفراط ولا تفريط، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]. فإذا قتل الرجل آخر فأهل الميت بالخيار، فإن شاءوا عفوا عن القاتل لله تعالى، وأعتقوه ليعبد الله وأجرهم على الله.، والدية إن شاءوا أخذوها وإلا فلا. قال: [ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:92]، عليماً بما يحقق المصلحة لعباده، حكيماً في تشريعه، فلا يشرع إلا ما كان نافعاً غير ضار ومحققاً للخير في الحال والمآل ] في الدنيا والآخرة.قال: [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الثانية فإنها بينت حكم من قتل مؤمناً عمداً عدواناً، وهو أن الكفارة لا تغني عنه شيئاً ] أبداً، فلا عتق ولا صيام. قال: [ لما قضى الله تعالى له باللعن والخلود في جهنم، إذ قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، إلا أن الدية أو القصاص لازمان ما لم يعف أولياء الدم، فإن عفوا عن القصاص ورضوا بالدية أعطوها، وإن طالبوا بالقصاص اقتصوا، إذ هذا حقهم، وأما حق الله تعالى فإن القتيل عبده خلقه ليعبده، فمن قتله فالله تعالى رب العبد خصمه، وقد توعده بأشد العقوبات وأفظعها ].أقول: أولياء المقتول بالخيار، إن شاءوا عفوا وإلا فلا، وحق الله تعالى ما هو؟ لنستمع إلى هذه الجملة:قال: [ إلا أن الدية أو القصاص لازمان ما لم يعف أولياء الدم، فإن عفوا عن القصاص ورضوا بالدية أعطوها، وإن طالبوا بالقصاص اقتصوا، إذ هذا حقهم، أما حق الله تعالى فإن القتيل عبده خلقه ليعبده، فمن قتله فالله تعالى رب العبد-هو-خصمه، وقد توعد بأشد العقوبات وأفظعها والعياذ بالله تعالى وذلك حقه، قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93] ] وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن فتناً ستقع، وقال لـعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ( يا عبد الله! كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل )، فإذا اشتعلت نار الفتنة في قرية أو في مدينة أو في إقليم، أو في جماعات، فإن الرسول يختار لك أن تكون المقتول ولا تكون القاتل؛ لما علمنا مما توعد الله به، فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، فذهبت صلاته وجهاده وحجه وعبادته لعشرات السنين.
هداية الآيات
وهنا قال: [ من هداية الآيتين: أولاً: بيان أن المؤمن الحق لا يقع منه القتل العمد للمؤمن ] واستنبطنا هذا من قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92]، إذاً: بيان أن المؤمن الحق الصادق الإيمان لا يقع منه القتل العمد للمؤمن أبداً، أما قتل الكافر في الجهاد فواجب.قال: [ ثانياً: بيان جزاء القتل الخطأ ] ما هو؟ قال: [ وهو تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهله ] وأخذنا هذا من قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء:92].قال: [ ثالثاً: إذا كان القتيل مؤمناً وكان من قوم كافرين محاربين، فالجزاء ] ما هو؟ قال: [ تحرير رقبة ] مؤمنة فقط، ثم قال: [ ولا دية ]؛ لئلا نعينهم بالأموال، ولو نفقه هذه لتخلينا عن كل الكمالات التي نستوردها منهم، سواء في الأكل أو في الشرب أو في اللباس وغيرها، ولو كنا نشتريها من المسلمين فلا بأس، أما نشتريها من اليهود والنصارى والمشركين فنعطيهم أموالنا من أجل ألا شيء إلا للشهوات والأهواء فقد أعناهم، ولو أخذنا بهذه الآية والله ما فعلنا، وهذه الدية ما نعطيهم أبداً، وذلك حتى لا يتقووا بها علينا وهم أعداء لنا. إذاً: هذه الكماليات في الطعام أو في الشراب أو في اللباس أو في المركوب، هذه الزائدة عن الحاجة لا قيمة لها، وبالتالي لا نستوردها من أعدائنا، لكن لو كنا نستوردها من ديار المؤمنين فلا بأس، إذ إنها تقوي إخواننا، أما أن نشتريها من اليهود والنصارى فنعطيهم الأموال من أجل أن نترفه حتى نهبط ونلصق بالأرض فلا.قال: [ رابعاً: إذا كان القتيل من قوم بين المسلمين مثياق، فالواجب الدية وتحرير رقبة ] فمثلاً إيطاليا أو اليونان بيننا وبينهم عهد وسلم وعدم اعتداء، ومات مؤمن هناك فلا بد من الدية وعتق رقبة، لكن لو كانت الحرب معلنة بيننا وبين اليهود مثلاً فلا دية، وهذا مثال، وإلا فاليهود ما بيننا وبينهم حرب، إذ عندنا معاهدات من الأمم المتحدة فيما إذا أعلنت الحرب.قال: [ رابعاً: إذا كان القتيل من قوم بين المسلمين ميثاق، فالواجب الدية وتحرير رقبة ]. قال: [ خامساً: فمن لم يجد الرقبة ] ماذا يصنع؟ قال: [ صام شهرين متتابعين ] وهذا التتابع ضروري، فلو حاضت أو نفست فإنها تبني ولا تستأنف، وكذلك إذا مرض الرجل وقد صام عشرين يوماً، فإنه لما يشفى يبني، مثله مثل الطائف إذا طاف ثلاثة أشواط ثم رعف أو تعب، فذهب بعيداً ليستريح، فإنه يبني ولا يستأنف. قال: [ سادساً وأخيراً: القتل العمد العدوان يجب له أحد شيئين: القصاص أو الدية حسب رغبة أولياء الدم ] أي: أن أولياء الدم مخيرون، فإن شاءوا خذوا الدية، وإن شاءوا خذوا الرجل وقتلوه.قال: [ وإن عفوا فلهم ذلك-أيضاً-وأجرهم على الله تعالى، وعذاب الآخرة وعيد الله إن شاء الله أنجزه، وإن شاء عفا عنه ] وله الحمد والمنة.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
26-04-2021, 03:08 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (50)
الحلقة (273)
تفسير سورة النساء (55)


لقد امتن الله عز وجل على عباده بأن هداهم للإيمان، وأمرهم بتبليغ دينه ونشره في أصقاع الأرض، وشرع لهم في سبيل ذلك الجهاد، وبين لهم آدابه وما يلزمهم عند ملاقاة أعدائهم، من التثبت من حالهم، والتأكد من كفرهم قبل إعمال السيف فيهم، وذلك لاحتمال وجود المؤمنين المستخفين بينهم، فإذا ادعى بعضهم الإيمان فيكف عنه، ولا يطمع فيما عنده من غنيمة ومتاع، لأن ما عند الله من الأجر والثواب أعظم من أي غنيمة مادية ومكسب عاجل.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأحد من يوم السبت والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر جميعاً بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).معاشر المستمعين والمستمعات! ما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة، وها نحن مع هذا النداء الرباني، وتلاوته بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:94].في الدرس السابق للآيات الثلاث التي درسناها، أذكركم بأن المؤمن الحق الصدق لا يتأتى منه قتل امرئ ظلماً وعدواناً أبداً، إذ ليس هذا من شأنه وعادته، والدليل على ذلك قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92] أما عدواناً وعمداً فلا، إذ لا يستطيع ذلك ولا يتأتى له.كما عرفنا أن قتل الخطأ يجب على صاحبه أو فاعله أمران:الأول: عتق رقبة، إذ إنه قتل نفساً فأحيا نفساً أخرى، فهذه بتلك.الثاني: الدية لأولياء المقتول، ومقدارها مائة بعير أو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم، وتقوَّم بحسب الظروف، وتكون على العاقلة، أي: على أقرباء القاتل من أبيه كالأعمام وأبنائهم والإخوان وأولادهم، فيساهمون فيها كل بقدره. كذلك عرفنا أن المقتول إذا كان مؤمناً، وبيننا وبين قومه عداء وحرب، فعلى القاتل العتق فقط، فإن عجز عن العتق صام، ولا تعطى الدية لمن بيننا وبينهم عداء لئلا يتقوون بها علينا.مرة أخرى: يقول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92]، ثم قال: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً [النساء:92]، فماذا عليه؟ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء:92]، أي: إلا إذا تصدقوا وقالوا: ما نأخذ الدية، فلهم ذلك. فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92]، أي: إن كان المقتول من قوم أعداء لنا وهو مؤمن، فماذا يجب على القاتل؟ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، ولا دية. وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:92]، أي: وعهد وسلم وعدم حرب واعتداء، فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء:92]، أي: إن كان بيننا وبين أولئك القوم معاهدة وسلم وعدم اعتداء فلا بد وأن نعطي الدية لأهل المقتول مؤمناً كان أو كافراً، ثم إن عجز القاتل عن العتق، إما لا وجود للأرقاء والعبيد كما هو الحال الآن، أو وجدوا ولكن عجز عن شراء أمة أو عبد، فمن رحمة الله بعباده المؤمنين أنه يصوم القاتل شهرين متتابعين بدلاً من االعتق، إذ قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:92].فهذه هي الكفارة في القتل الخطأ، فعلى المؤمن أن يحتاط ويحترس ويتنبه في أفعاله، ولا يصبح يتخبط فيقتل الناس ويقول: ما تعمدت، بل لا بد من الاحتراس الكامل، فإذا أراد أن يرمي بسهم فقبل أن يرمي به فلا بد وأن ينظر إلى ما حول تلك الجهة التي سيرمي إليها، وكذلك أيما عمل من شأنه أن يوجد مثلاً ضرراً، فقبل ما يقوم به يتنبه وينظر، وهذا ما يسمى بالاحتياط والاحتراس، فلما وقع منه هذا القتل، بم يمحو هذا الإثم؟ بما بين الله تعالى، وذلك بعتق رقبة مؤمنة ودية لأصحاب القتيل، فإن عجز عن الرقبة صام شهرين متتابعين.أما القتل العمد العدوان ظلماً وعدواناً، فهذا يقول الله تعالى فيه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [النساء:93]، أي: يعمد إلى مؤمن فيقتله ظلماً وعدواناً، فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، فإذا ذكرنا الكلمة الأولى-أي: فجزاؤه جهنم خالداً فيها-فنقول: هذا لا يفعله إلا كافر، إذ لو كان مؤمناً ما يقدم على هذا، وحينئذ لا نحتاج إلى تأويل قوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].وقاتل نفسه كقاتل غيره سواءً بسواء، ولا تقل: من قتل نفسه فإنما إثمه ومسئوليته عليه؛ لأن هذه النفس ملك لله تعالى، فكيف يصح قتلها؟ الجزاء واحد.واللطيفة التي حفظناها عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ما ننساها، وهي: أنه إذا سألك مؤمن قائلاً: هل لقاتل النفس من توبة؟ أتقبل توبة من قتل نفساً عدواناً وظلماً؟ فتجيبه بما يلي: هل قتلت؟ فإن قال: نعم، فقل له: وما يمنعك من التوبة؟! ومن يحول بينك وبينها والله تواب رحيم؟! تب يا عبد الله! فيأخذ ذاك المؤمن في البكاء والتوبة والاستغفار، وإن قال: ما قتلت، وإنما فقط أسأل، فقل له: وكيف يتوب من حكم الله عليه بالخلود في جهنم وغضب عليه ولعنه، وهذا المسلك حسن، ومن الخير أن نسلكه، فلا نقنط من رحمة الله تعالى من قتل فيزداد في سفك الدماء والقتل والتدمير، ولا نبيح ذلك ونقول لمن لم يقتل: له التوبة إن قتل، فيقوم أحدنا ويذبح أخاه ويقول: سأتوب إلى الله بعد ذلك. وأهل التوحيد إذا ماتوا على التوحيد ودخلوا النار يعيشون أو يخلدون فيها دهراً ثم يخرجون منها، وصيغة هذا الحكم الإلهي تقول: هذا هو الجزاء، إن شاء الله أنفذه، وإن شاء عفا ولم يؤاخذ القاتل، فيبقى باب الله مفتوحاً للمؤمنين.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ...)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:94].اسمعوا هذا النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:94]، لبيك اللهم لبيك، فهل يناديك سيدك ولا تقول: لبيك؟! هل يناديك مولاك يا عبد الله ولا تبصر ولا تسمع لما يدعوك إليه؟ الجواب: لن يكون هذا أبداً، وقد درسنا هذا واستقر في نفوسنا هذا العلم العظيم وهو: أن نداءات الله عز وجل لعباده المؤمنين في القرآن الكريم بلغت تسعين نداءً. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:94]، ولمَ يناديهم بعنوان الإيمان؟ قال: لأن المؤمنين أحياء، والحي ينادى ليؤمر أو ينهى، أو يبشر أو يحذر أو يعلم لكمال حياته، أما الميت فتناديه؟ هل يسمع النداء؟ وإن فرضنا أنه سمع فهل يقول: لبيك ويطيعك في ما تأمر أو تنهى؟ الجواب: لا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:94]، أي: يا معشر الأحياء! بإيمانهم؛ لأننا علمنا أن الإيمان الحق الصحيح هو بمثابة الروح، والروح إذا دخلت الجسد حيي هذا الجسد، فالعين تبصر، والأذن تسمع، واللسان ينطق، وإذا فارقته فلا الأذن تسمع، ولا العين تبصر، ولا اللسان ينطق، فلهذا يناديهم سيدهم ومولاهم: يا أيها الذين آمنوا.وعلمنا بالاستقراء والتتبع لنداءات الرحمن التسعين أنه لا ينادينا إلا لأمر مما يلي: أولاً: إما ليأمرنا بفعلي أو اعتقادي أو قولي ما من شأنه أن يكملنا ويسعدنا، ووالله الذي لا إله غيره! لا يأمرنا الله ربنا إلا من أجل إكمالنا وإسعادنا.ثانياً: ينادينا لينهانا عن اعتقاد فاسد، أو عن قول باطل، أو عن عمل سيء، أي: لينهانا عما يضر بنا، عما يشقينا ويردينا. ثالثاً: ينادينا ليبشرنا بخبر يسرنا ويزيد في نشاطنا للخيرات والصالحات.رابعاً: ينادينا ليحذرنا فنحذر ونتنبه حتى لا نقع في ما يضرنا ويفسد حياتنا، وهذه أربع.والخامسة: أنه ينادينا ليعلمنا، أما أن ينادينا لغير هذا فلا، تعالى الله عن العبث واللهو والباطل، ولهذا يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت: يا أيها الذين آمنوا! يا عبد الله! يا أمة الله! فأرعها سمعك، فأنت إذا كنت ماشياً وسمعت قارئاً يقرأ: يا أيها الذين آمنوا، فأعطها أذنك؛ لأنك مؤمن فكيف تعرض؟! إذا سمعت قارئاً يقرأ: يا أيها الذين آمنوا، فإنك منادى مأمور أو منهي، محذر أو مبشر أو معلم، فأعطها أذنك.إذاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:94]، نادانا هنا ليعلمنا، فماذا قال؟ قال: إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:94]، ضربنا من؟ إخواننا أو نساءنا؟ ضربنا الأرض بأرجلنا، أي: مشيتم على الأرض في سبيلنا، أما إن مشيتم إلى الباطل أو إلى اللهو فذاك ليس لنا، إذ إن سبيل الله هو الطريق الموصل إلى رضاه وجواره بعد الموت، وهو إيمان بمثابة الروح، ومأمورات وواجبات عن جانب اليمين يجب أن ينهض بها ولا يتخلى عن واحد منها في حدود طاقته البشرية،، ومنهيات عن جانب الشمال لا يلتفت إليها ولا يمس منها شيئاً، والعبد مواصل سيره إلى باب الجنة، وينتهي بانتهاء عمره في هذه الحياة الدنيا. إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:94]، أي: إذا مشيتم على الأرض مجاهدين لغزو قبيلة من القبائل أو بلد من البلاد أيام الجهاد. فَتَبَيَّنُوا [النساء:94]، أي: تثبتوا، فإذا مررنا برجل فقال: السلام عليكم، أو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلا نقول: هذا ما قالها إلا من الخوف على نفسه أو ماله، ثم نقوم بقتله والعياذ بالله. وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [النساء:94]، أي: ولا تقولوا لمن ألقى بالسلام عليكم: لست بمؤمن، وإنما قلتها فقط لتسلم أنت ومالك. تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النساء:94]، أي: تقتلون هذا الذي قال: لا إله إلا الله، أو قال: السلام عليكم، وأفصح عن إيمانه، وتتهمونه بأنه ما قالها إلا من الخوف، فتقتلونه وتأخذون ماله. فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ [النساء:94]، أي: فعند الله مغانم كثيرة يرزقكموها ويعطيكم إياها على الوجه الذي يرضي الله عز وجل ولا يغضبه عليكم. كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء:94]، أي: كذلك كنتم كفاراً مشركين ثم أسلمتم وتاب الله عليكم ودخلتم في رحمته، فاذكروا هذا مع هذا المسكين الذي قتلتموه لأجل ماله. كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء:94]، أي: تخفون إسلامكم في مكة عن إخوانكم حتى لا يقتلوكم، وتجحدون وتتظاهرون بالشرك، فكذلك هذا كان خائفاً من قومه، إذ إنه ما أعلن عن إسلامه، لكن لما شاهدكم وعرفكم قال: السلام عليكم. كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء:94]، إذاً: فَتَبَيَّنُوا [النساء:94] أيها المؤمنون، وتأكدوا من صحة كفره. إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:94]، الوعيد والوعد، إذ كل عمل نقوم به الله مطلع عليه، وهنا الآية قررت هذا المبدأ، فإذا قال أحد: أنا مسلم، فإنه يحرم قتله، وإذا صلى معك فريضة فإنه يحرم قتله، وإذا قال: السلام عليكم، فمعناه أنه أسلم، وبالتالي فلا يحل قتله إلا بالتثبت واليقين.وهذا قد حدث مرة مع المقداد بن الأسود، ومرة مع أسامة بن زيد، فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالدية لأهل القتيل، وذلك أنهم كانوا في طريقهم إلى غزاة جهة تبوك، فمروا بقبيلة أعلنت الحرب عليهم، فقاتلهم المسلمون فهرب منهم من هرب، وبقي هذا الرجل مع غنمه، فلما دنوا منه قال: السلام عليكم، فقالوا: ما قالها إلا تقية يريد أن يحفظ نفسه وماله وإلا فهو كافر كقومه، فقتلوه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للمقداد: هلا شققت عن قلبه وعرفت أنه كافر، ثلاث مرات، وإذا عرفنا هذا فما بال إخوانكم الذين يكفر بعضهم بعضاً؟! إن كلمة: السلام عليكم أبعدته من ساحة الكفر وأدخلته في الإسلام، فلو أن كافراً من النصارى أو اليهود أو غيرهم دخل المسجد فصلى معنا نقول: مسلم ولو ما نطق بالشهادتين، ولو أن كافراً قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، اعتبرناه مسلماً، ويحرم قتله وأذاه بحال من الأحوال.ولنتأمل مرة أخرى قوله تعالى: كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء:94]، أي: كنتم جهَّالاً لا تعرفون شيئاً، ثم علمكم وعرفكم الله عز وجل، وهذا الجهل أيضاً تنسبونه إلى الكفر وتكفِّرونه، إذاً فاذكروا فضل الله عليكم حتى ترحموا هذا العبد.

يتبع

ابوالوليد المسلم
26-04-2021, 03:08 AM
الغرض من الجهاد في سبيل الله هو هداية البشر لا جباية أموالهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:94]، ولنذكر أن سبل الله كثيرة وهي سبيل واحد، فالذي ضرب الأرض يطلب العلم في سبيل الله، والذي ضرب الأرض حاجاً أو معتمراً في سبيل الله، والذي ضرب الأرض برجليه يزور مؤمناً في سبيل الله، إذاً فسبيل الله كل عمل صالح يجلب لك رضا الله ورحمته عليك، لكن المراد به هنا في الآية الخروج للجهاد. فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ [النساء:94]، وفي قراءة سبعية أخرى: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السَّلم، قراءة، والسِّلم والسَّلم والسلام كلها بمعنى واحد، ومعناها: عدم الحرب والاعتداء.وقوله: عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النساء:94]، والعرْض كل البضائع والأدوات والأثاث وغيرها، وأما العَرَض-بفتح العين- فهو الدينار والدرهم وغيرهما من الأمتعة المالية؛ لأنه عارض ويزول كالشيء يعرض لك ثم يزول، وهنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: ( ليس الغنى عن كثرة العرْض، إن الغنى غنى النفس ).( ليس الغنى عن كثرة العرْض )، أي: المال والأغنام وكل المتاع، ( إنما الغنى -في الحقيقة- غنى النفس )، أليس الغني هو ذاك الذي لم يحتج إلى غيره ويحتاج الآخرون إليه؟ إن الغني حقاً وصدقاً هو الذي استغنى عن غيره، فلا يمد يده ولا يطلب حاجة من أحد، ولذلك فكم من صاحب عرْض وهو يسرق ويغش ويظلم ويجمع المال من كل أبواب الحرام، وهذا والله ما هو بغني، وإنما الذي لا يملك ديناراً ولا درهماً ولا يسأل أحداً، ولا يأخذ مال أحد، ولا يسرق ولا يغش ولا يظلم، والله لهذا هو الغنى.( ليس الغنى عن كثرة العرْض، إنما الغنى غنى النفس )، من هو الغني؟ الذي يحتاج إليه غيره ولا يحتاج هو إلى غيره، فالذي لا يشحت ولا يطلب ولا يسرق ومستغني بشاة أو بصاع تمر، هو الغني الحق، والذي يملك الدنانير والدراهم والإبل والأغنام والأموال وهو يأخذ من هذا وذاك، فهذا هو الفقير والله. تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ [النساء:94]، ما هو بمغنم واحد، فاقرعوا باب الله عز وجل واطلبوا الغنى منه تبارك وتعالى.إذاً: فتثبتوا من هذا الرجل حتى تتيقنوا أنه كافر أو مشرك أو ملحد، وعند ذلك فاقتلوه وخذوا منه المال وأنتم في الجهاد، وهذه القضية خاصة في حال الحرب، وأما الذين بيننا وبينهم معاهدة ومسالمة فلا يجوز قتل واحد منهم، أما إذا كنا في حرب مع أمة فحينئذ إذا وجدنا أحداً منهم نتثبت هل هو مؤمن أو لا؟ فإن كان غير مؤمن قتلناه كما نقاتل إخوانه لندخلهم في رحمة الله. كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء:94]، وهذه موعظة إلهية ربانية، وقد جاء في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ [البقرة:282]، وليس بالحيف ولا بالجور، ثم قال تعالى: كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ [البقرة:282]، ما معنى هذا؟ أما كنت جاهلاً لا تعرف الياء ولا الباء؟ من علمك؟ إذاً: فاذكر إفضال الله وإنعامه عليك فاكتب لأخيك إذا قال لك: من فضلك! اكتب بيني وبين فلان. كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ [البقرة:282]، أي: يكتب بحسب العلم الذي علمه، وهذا معنى، والأصل: كما علمه فليشكر نعمة الله عليه وليكتب لإخوانه، كذلك هنا قال: كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء:94]، أي: أما كان إخوانكم في مكة يخفون الإيمان خوفاً من أهل مكة حتى لا يقتلوهم وحتى يهاجروا؟ فكذلك أيضاً هذا كان خائفاً من قومه أن يقتلوه، فكان جاحداً لإسلامه، لكن لما رآكم أعلن عنه. كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء:94]، أي: كفرة ومشركين، ثم تاب الله عليكم وهداكم وعلمكم، فكذلك أخوكم هذا يتوب الله عليه ويهديه ويعلمه، وهذه هي الآداب القرآنية. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء:94]، أي: بنعمة الإيمان والإسلام والعلم والمعرفة. فَتَبَيَّنُوا [النساء:94]، أي: قبل أن تقتلوا. إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:94] كان وما زال، وهذه صفاته الدائمة معه، فهو عليم بكل خير أو غيره، فيا عباد الله! احذروا الله تعالى، ولا تفهم أنك عندما تعمل أو تتكلم وأنت خالٍ ليس معك أحد، والله ما من حركة نتحركها إلا والله يراها ويعلمها، فإذا امتلأ قلب العبد بمراقبة الرب عز عليه بل صعب عليه أن يخرج عن طاعة الله ورسوله، وإذا غفل ونسي وما يدري أن الله معه يسمعه ويراه يقع في المهاوي والمفاسد وهو لا يشعر.
أدوات الحفاظ على زكاة الروح وطهارتها
ولهذا لما ذكر تعالى أدوات الحفاظ على زكاة الروح وطهارتها، قال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، أي: بالليل والنهار، وذلك بالتدبر والتفهم واستنباط المعاني واستخراج الهداية القرآنية، وهذا من أكبر عوامل الإبقاء على نور الإيمان في النفس، وصاحبه لا تزل قدمه ولا يقع في كبيرة من كبائر الذنوب.ثانياً: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، فالذي يقيم الصلاة كما بينها رسول الله، ويؤديها على الوجه الذي بين رسول الله، فيستوفي أركانها بعد شرائطها وفروضها وآدابها، وفي أوقاتها المحددة لا يقع في كبيرة من الكبائر، ولهذا قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].وكثيراً ما أسمعنا المؤمنين والمؤمنات -أربعين سنة- ونحن نقول: هيا بنا نمشي إلى المحافظ أو إلى مدير الشرطة، ونقول له: يا فلان! أعطنا قائمة بالمجرمين الذين سرقوا أو ضربوا أو قتلوا في هذا الشهر، فيعطينا القائمة فنجد مائة جانٍ، والله ما نجد بينهم أكثر من خمسة في المائة من مقيمي الصلاة، وخمسة وتسعين إما تاركون للصلاة أو مصلون غير مقيمين للصلاة، وتكلمنا بهذا في الشرق والغرب، ولذلك فالذي يناجي ربه ويتكلم معه ويجالسه خمس مرات في أربع وعشرين ساعة لا يقوى على أن يزني أو يسرق أو يكذب أو يقول الباطل، إذ إنه مع الله، أما أن يصلي المسلم صلاة لا خشوع فيها ولا ذكر ولا معرفة ولا اطمئنان فصلاته لا تنتج شيئاً؛ لأن الله ما قال: والمصلين، وإنما قال: والمقيمي الصلاة.ثالثاً: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، أي: ولذكر الله أكبر مما تقدم؛ لأن الذي يذكر الله بقلبه ولسانه لا يستطيع أن يمد يده إلى ما لا يحل له، وبالتالي كيف يقع في الجريمة؟! لا يتأتى له ذلك أبداً، إذ إنه لو أراد أن يشتم أو يسب ثم ذكر الله توقف عن ذلك، أو أراد أن يأكل محرماً ثم ذكر الله عز وجل امتنع عن ذلك. إذاً: ذكر الله أكبر حصن لمن أراد أن يتحصن من الوقوع في معاصي الله، ولن يقع في هذه المهاوي إلا التاركون لذكر الله، الناسون المعرضون، على شرط أن يكون الذكر بالقلب واللسان، وأن يكون على علم بالمعاني التي يذكر الله بها. رابعاً وأخيراً: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45] المراقبة لله تعالى، فإذا علمت أن الله يعلم ما تصنع بجوارحك وأيقنت بهذا فوالله ما تستطيع أن تعصي وتخرج عن طاعته. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، أي: من الأعمال الظاهرة والباطنة، فمن عرف هذا وأيقن به ما يستطيع أن يقتل مؤمناً أو يزني بامرأته أو ابنته، أو يسلبه ماله، أو يمزق عرضه، أو يحتقره ويهينه بين المؤمنين. فإن قيل: يا شيخ! ولماذا نشاهد هذا الباطل والفساد والشر والظلم والخبث؟ والجواب: ما علمنا، من علمنا؟ من ربانا؟ أما كان الرسول يربي أصحابه الكرام؟ أما كان الأصحاب يُربَّون؟ ونحن من ربانا؟ من يرفع يده ويقول: أنا تربيت عند الشيخ الفلاني، اليوم نحن نشتم المشايخ ونعيرهم، إذاً: كيف نستطيع أن نستقيم في آدابنا وأخلاقنا ومعارفنا وحياتنا؟ يتربى مع الصعاليك في البيت؟ مع الأولاد في الشارع؟ يحاول لكن ما ينفعه، والله يقول: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، فهيا نعود إلى الله تعالى، فإن قيل: ما نستطيع يا شيخ، قلنا لهم: لماذا؟ قالوا: الدنيا والشهوات والأهواء غلبتنا، فنقول لهم: ونحن طالبناكم بالمال أو بالدماء والجهاد؟ لا أبداً، إذاً يا أهل القرية! يا أهل الحي الفلاني! من غدٍ لا يتخلف منا رجل ولا امرأة عن المسجد، أو في يوم الجمعة يقول خطيب المسجد: يا معشر الأبناء والإخوان! غداً لا يتخلف أحد من رجالنا ونسائنا عن صلاة المغرب في المسجد، فيحضرون جميعاً، النساء في مؤخرة المسجد أمامهن الستارة، والأبناء صفوف كالملائكة، والفحول أمامهم، والمربي أمام الجميع، فيأخذون ليلة آية من كتاب الله تعالى، فيدرسونها ويحفظونها ويفهمون مراد الله منها، ويعزمون على العمل والتطبيق، وليلة بعدها يأخذون حديثاً من أحاديث الرسول المفسرة للقرآن المبينة له، والكل عازم على أن يعمل وأن يطبق، ويوماً بعد يوم والحال كذلك، فوالله لن يبق مظهراً من مظاهر الخبث والظلم والشر والفساد، بل ينتهي كل ذلك بلا عصا ولا هراوة ولا بوليس، وإنما فقط بالعلم واليقين، فهل هناك طريق آخر؟ والله لا طريق إلا هذا، ولهذا نصرخ طول العام: أي قرية قامت بهذا؟ أي حي من أحياء المدن قام بهذا؟ ما بلغنا بعد شيء، فإلى الله شكوانا.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
26-04-2021, 03:10 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (51)
الحلقة (274)
تفسير سورة النساء (56)

إن الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى مرتبة عظيمة ومنزلة رفيعة، وقد نفى الله سبحانه وتعالى أن يستوي في الأجر والمنزلة من يجاهد بنفسه وماله من المؤمنين، ومن يقعد عن الجهاد بخلاً بماله وضناً بنفسه أن يقدمها لله عز وجل، ولكن الله استثنى من الذين لم يجاهدوا أولي الضرر، فجعل لهم أجر المجاهدين رغم قعودهم عنه لصلاح نياتهم ورغبتهم في الجهاد لولا وجود ما يعيقهم، وحتى مع وجود العذر فإن المجاهد يفضل على من لم يجاهد لعذر درجة في الجنة، لما حازه من سبق، وما قدمه من تضحيات.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر جميعاً بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومعنا آيتان كريمتان قبل الشروع في تلاوتهما ثم في تفسيرهما أذكر الناسين بما جاء في الآيتين السابقتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:94].
هداية الآيات
قال المؤلف: [ من هداية الآيتين: أولاً: مشروعية السير في سبيل الله غزواً وجهاداً ] وذكرنا أيضاً أن السير إلى الحج، أو إلى العمرة، أو إلى طلب العلم، أو لزيارة الأرحام وصلتهم، أو لزيارة الصالحين الأحياء لا الأموات، كل هذا يعتبر سيراً في سبيل الله عز وجل، لكن المقصود هنا بـ(في سبيل الله): الغزو والجهاد في سبيل الله.قال: [ ثانياً: وجوب التثبت والتبين في الأمور التي يترتب عليها الخطأ فيها ] أي: ينبغي لنا معشر المستمعين والمستمعات! أن نتثبت ونتبين في الأمور التي إذا وقع فيها خطأ كان الضرر والألم الكبير. ومن أقرب ما أشير إليه: يا سائقي السيارات! تثبّتوا في سياقتكم! وتأملوا واحترسوا؛ لأنكم تحملون أرواحاً، ويمر بين أيديكم أرواحاً، وقتل النفس خطأ قد عرفتم ماذا يترتب عليه؟ الدية وعتق رقبة، فإن عجز صام شهرين متتابعين؛ لأنه ما تحفّظ وما تثبّت وما تبيّن.فعلينا معاشر المؤمنين! أن نتبيّن وأن نتثبت في الأمور كلها، فلا نصدر حكماً إلا على علم، ولا نتحرك حركة إلا على بينة وعلم.قال: [ ثالثاً: ذم الرغبة في الدنيا إذا كانت تتعارض مع تقوى الله عز وجل ] أي: ذم الدنيا من مال وجهاه وسلطان إذا كانت تتعارض مع تقوى الله عز وجل، أما قال تعالى: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ [النساء:94]؟ فهم قتلوا هذا العبد وقد سلّم عليهم ليدلل على أنه مسلم، ولكن لاحت الرغبة في نفوسهم في الغنيمة والمال، فقالوا: ما قال: السلام عليكم إلا تقية فقط لنفسه، فهو حقيقة من قوم كافرين محاربين، لكن من كان معه فقد هرب، وهو ثبت على أنه مسلم، لكن الأصحاب رضي الله عنهم تعرضوا لهذه المحنة، ونزل فيهم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء:94]، أي: أنتم.قال: [ رابعاً: الاتعاظ بحال الغير والاعتبار بالأحداث المماثلة ]، أما كنتم يا أصحاب رسول الله كافرين مشركين؟ من أنعم عليكم بالإيمان والإسلام؟ فكذلك أيضاً هذا مثلكم كافر وقد أنعم الله عليه بالإسلام والإيمان، أما كنتم تخافون من المشركين وترهبونهم ولا تعلنون عن إسلامكم؟ فكذلك هذا أيضاً كان مع قوم كافرين مختفياً، ما استطاع أن يظهر إسلامه، وهذا هو التأديب الإلهي، فيا ليتنا نأخذ به.
تفسير قوله تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ...)
ونعود إلى الآيتين الكريمتين اللتين وصلنا إليهما، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:95-96].يروى أن عبد الله بن أم مكتوم لما نزلت هذه الآية بهذه الصيغة: ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ )، جاء عبد الله بن أم مكتوم -أمير المدينة-ذاك الذي نزل فيه قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس:1-3]، فعاتب الله تعالى رسوله في عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، إذ كان الرسول يتصدى لرجالات قريش في مكة ليدعوهم إلى الإسلام، فجاء هذا المؤمن الأعمى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بصناديد قريش، وقال: يا رسول الله! علني، فعبس الرسول في وجهه، فنزل هذا القرآن الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم، عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1]، ولو قال: عبست وتوليت فقد يغمى على الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لا يطيق ذلك، لكن رحمة الله بأوليائه وصالح عباده جاء بصيغة الماضي فقال: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا.. [عبس:1-11].أريتم هذا؟! انظر إلى الكمال المحمدي، ثم أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء ابن أم مكتوم الأعمى يقف له ويجلسه على فراشه ويقول: ( مرحباً بالذي عاتبني فيه ربي )، فهل فينا من يفعل مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألسنا أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألسنا مأمورين بالتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه؟ فإن قيل: يا شيخ! ما تعلمنا هذا ولا عرفناه، وبالتالي فنحن معذورون، لا والله، لم لا نتعلم ونعمل؟نعود فنقول: لما نزلت هذه الآية بهذه الصيغة: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ...) الآية، أتى عبد الله بن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف وأنا أعمى يا رسول الله؟ فما برح مكانه حتى نزلت: غَيْرَ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95]، استثناء على قراءة النصب، وهي قراءة سبعية، والأصل: ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ )، إذ كيف يستويان؟! هذا ضن بماله وبخل بنفسه، وهذا أنفق ماله وخرج بنفسه، وبالتالي فكيف يستويان؟!(لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُوْلِي الضَّرَرِ)، أو غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ [النساء:95]، فإن قرأنا بالنصب فاستثناء ويصلح حالاً، وإن قرأنا بالرفع فهو نعت للفظ (القاعدون).وأصحاب الضرر هم العميان، والمرضى، والعرج، فالأعرج معذور، والأعمى معذور، والمريض معذور، وابن أم مكتوم رضي الله عنه كان أعمى، وفي آية الفتح يقول الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17]. قال: فلما اشتكى عبد الله بن أم مكتوم وقال: وكيف وأنا أعمى؟ نزل قوله: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95]، فأدخلت بين جملتي: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ )، وهذا يدل دلالة قطعية على أن الله هو الذي ينزل هذا الوحي، وأنه هو الذي يوحي به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الكلام كلام الله عز وجل وليس كلام بشر. لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:95]، وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى رضاه، وذلك بعبادته وحده دون من سواه، بفعل أوامره واجتناب نواهيه، والسير في طريقه إلى آخر نفس للإنسان، وذلك لإقامة دينه وشرعه، ولإبعاد الضرر والأذى والألم عن أوليائه الذين يضطهدون ويعذّبون ويقاتلون.قال: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ [النساء:95]، من أولي الضرر دَرَجَةً [النساء:95]؛ لأنهم قعدوا فهم معذورون، ولهم أجرهم لكن مستواهم دون ذلك، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء:95]، أي: المجاهدون بأموالهم وأنفسهم، والقاعدون للضرر، الكل وعده الله بالجنة، وفسرت الحسنى بالجنة، ولهذا فرح ابن أم مكتوم رضي الله عنه. ثم قال تعالى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ [النساء:95]، و(القاعدين) هنا من غير أولي الضرر، إذ إن القاعدين هنا الذين ضنوا بأموالهم وبخلوا بأنفسهم وما خرجوا في سبيل الله تعالى.
تفسير قوله تعالى: (درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:96]. دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً [النساء:96]، والدرجات: جمع درجة، ولنستمع إلى هذا الخبر، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم: ( من رمى بسهم فله أجره درجة )، فقال رجل: يا رسول الله! وما الدرجة؟ فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( أما إنها ليست بعتبة بابك )، أي: ليست مثل درجة الباب، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( ما بين الدرجتين مائة عام )، أي: ليست رفع رجل فقط، وإنما بين الدرجة والدرجة الأخرى مسافة مائة عام، وقد علمنا سابقاً: أن أهل الجنة يتراءون منازلهم كما نتراءى الكواكب في السماء، وروي أيضاً في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ).

يتبع

ابوالوليد المسلم
26-04-2021, 03:10 AM
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
والآن مع شرح هاتين الآيتين فلنستمع. ‏
معنى الآيات
قال: [ معنى الآيتين: روي أن ابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه لما نزلت هذه الآية بهذه الصيغة: ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ )، أتى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فقال: كيف وأنا أعمى يا رسول الله؟ فما برح مكانه حتى نزلت: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ، فأدخلت بين جملتي: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وجملة: وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ .ومعنى الآية: هو أن الله تعالى ينفي أن يستوي في الأجر والمنزلة عنده تعالى من يجاهد بماله ونفسه ومن لم يجاهد بخلاً بماله وضناً بنفسه ] إذ إنهم لا يستويان.قال: [ واستثنى تعالى أولي الأعذار من مرض ونحوه ]، وقد علمنا مما تتقدم أن الأعذار هي: العرج، والمرض، والعمى، أو كتمريض رجل لوالده مثلاً، كما تأخر علي مرة على النبي صلى الله عليه وسلم لتمريض واحد من الناس بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم.قال: [ واستثنى تعالى أولي الأعذار من مرض ونحوه، فإن لهم أجر المجاهدين وإن لم يجاهدوا، وذلك لحسن نياتهم ]، إذ إن بعضهم والله لما يتأخر يبكي حتى يعود الرسول والمجاهدون من الغزو، فهو عجز وما استطاع أن يوفر له مركوباً ليركبه، أو أنه مريض في بدنه، فيبقى متألماً متحسراً حتى يعود الرسول والمؤمنون إلى المدينة، وفي هذا نستمع إلى هذا الحديث النبوي: روى البخاري تعليقاً وغير واحد من أصحاب السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قفل عائداً من إحدى غزواته -وهي غزوة تبوك- قال لأصحابه: ( إن بالمدينة -هذه-رجالاً ما قطعتم وادياً ولا سرتم مسيراً إلا كانوا معكم، أولئك قوم حبسهم العذر )، إنه إعلان نبوي. فقوله عليه الصلاة والسلام: ( إن بالمدينة رجالاً )، أي: فحولاً عظاماً، ( ما قطعتم وادياً )، أي: في مسيركم، ( ولا سرتم مسيراً )، أي: خلاف الوادي، ( إلا كانوا معكم )، لا بأبدانهم وذواتهم، وإنما كانوا معكم بقلوبهم وبما يحصل من الأجر لهم. وفي سورة التوبة يقول الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:91-92]، ولهذا فإنه في كل زمان ومكان إذا كان المؤمن صادق النية والعزم، لكنه عجز عن القيام بالعمل، فإنه يؤجر على نيته، فمثلاً: قام قائم وقال: اجمعوا لأخيكم مالاً حتى يعود إلى بلده، وأخذ الناس يساعدونه إلا أن أحدهم ما استطاع، إذ إنه ليس في جيبه شيء، فتألم وتحسر عند ذلك، فإنه في الأجر مع الذين أنفقوا سواء، وآخر ما استطاع أن يصوم فتتألم وكله عزم ونية أن لو يقدر على الصوم، فكذلك هو في الأجر سواء مع من صام. قال: [ ومعنى الآية: أن الله تعالى ينفي أن يستوي في الأجر والمنزلة عنده تعالى من يجاهد بماله وبنفسه ومن لم يجاهد بخلاً بماله وضناً بنفسه ]، والبخل والضن بمعنىً واحد.قال: [ واستثنى تعالى أولي الأعذار من مرض ونحوه، فإن لهم أجر المجاهدين وإن لم يجاهدوا، وذلك لحسن نيتهم وعدم استطاعتهم ] لكن لو كانت نيتك حسنة وأنت مستطيع على العمل فإن ذلك لا ينفع، إذ ما دامت النية حسنة إذاً فادفع المال وصم.قال: [ فلذا قال تعالى: وَكُلاً ]، أي: من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم والقاعدين للأعذار، قال [ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى التي هي الجنة ]، وهل الله يخلف وعده؟ والله ما يتخلف.قال: [ وقوله: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً أي: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً [النساء:95] لعذر دَرَجَةً [النساء:95]، وإن كان الجميع لهم الجنة وهي الحسنى ] وفضلهم الله لأنه ليس لهم عذر، وإنما قعدوا فما أنفقوا ولا جاهدوا.قال: [ وقوله تعالى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ لغير عذر أَجْراً عَظِيماً ، وهو الدرجات العالية مع المغفرة للذنوب والرحمة للنفوس، وذلك لأن الله تعالى كان أزلاً وأبداً غفوراً رحيماً، ولذا غفر لهم ورحمهم، اللهم اغفر لنا وارحمنا معهم ] يا رب العالمين!مرة أخيرة: يقول تعالى وهو يعلمنا: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ [النساء:95]، قولوا: نعم لا يستويان. فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ [النساء:95] لعذر، دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء:95]، أي: القادرين والعاجزين.ثم قال تعالى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ [النساء:95]، والقاعدون هنا هم الذين بخلوا وضنوا بأموالهم وهم مؤمنون. وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:95]، لا يقدر قدره إلا الله تعالى، دَرَجَاتٍ مِنْهُ [النساء:96]، أي: درجات عالية يعطيها لهم، إذ إنه مالكها ومعطيها وواهبها والمنعم بها. وَمَغْفِرَةً [النساء:96]، فلا تبقي أثراً للذنب في النفس. وَرَحْمَةً [النساء:96]، وهي دار السلام. وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:96]، فما سألت الله مغفرته إلا غفر لك، ولا سألت رحمته إلا رحمك؛ لأن هذا شأنه دائماً وأبداً، فهو غفور رحيم.
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيتين: أولاً: بيان فضل المجاهدين على غيرهم من المؤمنين الذين لا يجاهدون ] والآن لماذا نحن لا نجاهد؟ والجواب أيها الأحباب: أن الله عز وجل قد كفانا مؤنة الجهاد بتدبيره وهو العليم الحكيم، وما أصبحنا والله في حاجة إلى أن نرسي سفننا الحربية على شاطئ أسبانيا أو إيطاليا أو فرنسا؛ لأن تلك الديار أصبحت مفتوحة الأبواب لنا، فلك أن تأذن فيها وتكبر وتدعو إلى ربك، ولا يصرفك صارف ولا يصدك صاد عن ذلك. فهذه أمريكا فيها ملايين المسلمين وعشرات المراكز والمساجد، وألمانيا فيها عشرات المساجد، والدعوة قائمة فيها، وهذه أيضاً بريطانيا أبواب الدعوة فيها مفتوحة، وكذلك فرنسا فيها ثلاثة آلاف مسجد، وإيطاليا معقل الصليبية فيها العديد من المساجد، إذاً فهيا نجاهد، لكن بم نجاهد؟ والجواب: أن الله قد أراحنا من المدفع والرشاش، وبالتالي فلنجاهد بالعلم والمال، فإن قيل: أي علم يا شيخ! نجاهد به؟ أولاً: نترك حالنا نحن المسلمين، إذ نحن هابطون لاصقون بالأرض من إندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً؛ لأننا كما يعلم الله هبطنا من علياء السماء إلى الأرض وأصبحنا كغيرنا، فملئت ديارنا بالخبث والظلم والشر والفساد والعبث، لكن مع هذا نحن نقول: يجب على المسلمين أن يعودوا إلى الله، أن يتوبوا إلى ربهم، إذ إنهم أحرار، فمن الذي يمنعهم وأغذيتهم وأكسيتهم متوفرة لديهم؟!فإن قيل: كيف نتوب؟ والجواب: نعبد الله وحده بما شرع، وعند ذلك تتجلى فينا حقائق الإيمان من الأخوة والمودة والحب والولاء، وينتهي كل مظهر من مظاهر الشر والخبث والفساد؛ لأن نور الله بيننا، ولأن سنة الرسول قائمة فينا، فنحتاج فقط إلى أن نصدق الله في أننا مسلمون، ونسلم القلوب والوجوه له عز وجل.فهيا نبدأ بالتوبة والرجوع إلى الله، وذلك أن أهل كل حي من أحياء مدينة من المدن يجتمعون كل ليلة ويتلقون الكتاب والحكمة من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، لا يتخلف رجل ولا امرأة إلا لعذر حقيقي، فيجتمعون ليتعلموا وليعرفوا، إذ من المستحيل أن يلتقوا وهم جاهلون، كيف يرغبون في الملكوت الأعلى وقلوبهم مظلمة ونفوسهم مدنسة؟ثم أي شيء يكلف المؤمنين إن عملوا هذا؟ إن اليهود والنصارى والمجوس والمشركين إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا دولاب العمل، وأقبلوا بنسائهم وأطفالهم إلى الملاهي والملاعب ليروحوا عن أنفسهم، ونحن لماذا -إذا مالت الشمس إلى الغروب- لا نحمل نساءنا وأطفالنا إلى بيوت ربنا فنتعلم الكتاب والحكمة، وكلنا عزم على أن ما تعلمناه نعمل به؟ ويبقى الحال هكذا طول العام، فلا يبقى عند ذلك باطل أو شر أو فساد أو ضعف أو نقصان، إذ مستحيل أن يبقى ذلك كله، ونرقى بسلم الكمال إلى الملكوت الأعلى.نعود إلى قضية الجهاد فأقول: ما دام أن الله قد فتح لنا العالم من الصين إلى أمريكا، فيجب أن تكوَّن لجنة عليا تضم من كل إقليم من أقاليم المسلمين عالمين اثنين، هذه اللجنة تضع خارطة لتلك الجماعات والجاليات الإسلامية في كل العالم، وتقدر نفقاتها وكم تتحملها، وتضرب على كل مؤمن ديناراً أو درهماً في العام؛ ليساهم كل مؤمن في الجهاد في سبيل الله، فتكون أضخم وأعظم ميزانية في العالم، إذ إن كل مؤمن يدفع ريالاً واحداً.ثم إن كل مركز أو كل مسجد يبعث إليه بإمام رباني عالم -ويوحدون الكتاب الذي يدرس- فيعلمهم قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا مذهبية ولا حزيبة ولا طرقية ولا وطنية، وإنما مسلمون أمرهم واحد، وفي صمت وعدم تبجح كما هي عادتنا أيام الهبوط. فهذا هو الجهاد يا من يطالبون بالجهاد، أما الجهاد والعنترية وتكفير الحكام والقتال فهذا ظلم.. باطل.. منكر.. حرام.. شر.. فساد، والله لن ينتج إسلاماً، ولن يوجد خيراً قط؛ لأنه على سبيل غير سبيل محمد صلى الله عليه وسلم.إذاً: ميدانان: ميدان الخارج، أي: تكون لجنة عليا فنعطيها قلوبنا وأموالنا، وميدان الداخل، أي: أننا نعطي قلوبنا ووجوهنا لله في صدق، وذلك بأن نجتمع في بيوت ربنا بصدق، سواء في قرانا أو في جبالنا أو في سهولنا، فنتعلم الكتاب والحكمة، ثم العزم على العمل بشرع الله عز وجل، فوالله ما تمضي سنة إلا والأنوار تغمر ديار العالم الإسلامي. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
26-04-2021, 03:11 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (52)
الحلقة (275)
تفسير سورة النساء (57)


توحيد الله عز وجل في العبادة وإقامة شعائر دينه هو الهدف الأسمى والمطلب الأعظم من العباد، والعبد المؤمن مطالب بإقامة هذه الشعائر في بلده وأرضه، فإن لم يستطع وحيل بينه وبين ذلك وجب في حقه الهجرة إلى بلد يستطيع فيه إقامة شعائر دينه، ولا عذر له في عدم الهجرة ما لم يكن من الضعفة أو النساء أو الولدان، الذين لا يقدرون على الهجرة ولا يهتدون إلى مسالكها، فأولئك عفا الله عنهم مكثهم بين ظهراني المشركين.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس بإذن الله كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وقبل الشروع في دراسة آيات جديدة أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات تفسير الآيتين اللتين درسناهما البارحة.يقول تعالى: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ [النساء:95]، رجال دفعوا أموالهم وقدموا أرواحهم رخيصة في سبيل الله، وآخرون بخلوا بالمال وضنوا بالنفس فكيف يستوون؟ لا يستوون أبداً. فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً [النساء:95]، والقاعدون هم أولو الضرر، إذ إنهم قعدوا لعلل قامت بهم، كالعرج والعمى والمرض، فهل يستوون مع المجاهدين؟ لا، ولكن لهم درجة. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء:95]، ما الحسنى يا أبناء الإسلام؟ الجنة، قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى [يونس:26]، وللذين أساءوا جهنم والعياذ بالله، والسر والعلة هو أن من أحسن فقد زكى نفسه وطيبها وطهرها فأصبحت أهلاً للملكوت الأعلى كأرواح الملائكة في الطهر والصفاء، ومن أساء إليها فقد خبثها ودساها ودفنها بأوضار الذنوب والآثام، وهذه النفس خبيثة منتنة كأرواح الشياطين، وهيهات هيهات أن تفتح لها أبواب السماء وتدخل الجنة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، فمستحيل أن يدخل البعير في عين الإبرة، وكذلك صاحب النفس الخبيثة الملطخة بأوضار الذنوب والآثام مستحيل أن تفتح له أبواب السماء، وأن يخترق مسافة سبعة آلاف وخمسمائة عام. إذاً: من الليلة نعزم على ألا يبقى بيننا سارق ولا زان ولا كاذب ولا مراب ولا مشرك ولا ضال، وذلك حتى نسعد ونكمل في الدنيا والآخرة. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، فلا سعادة أعظم من النظر إلى وجه الله الكريم، إذ يرفع الجبار الحجاب عن وجهه فينظرون إليه فتغمرهم فرحة ما عرفوها، اللهم اجعلنا منهم. فهيا إذاً نطهر هذه الأرواح، فلا غل ولا غش ولا كبر ولا حسد ولا شرك ولا رياء ولا نفاق، لكن لا بد من العمل، إذ يقول الله تعالى في سورة النساء: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، فكن أبيضاً أو أسوداً، أعجمياً أو عربياً، ابن النبي الفلاني أو أباه، كل هذا لا قيمة له، وإنما فقط قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].مرة أخرى: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ [النساء:95]، لمرض، دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:95-96].في البارحة قد تهيأنا للجهاد بالنية، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات )، ويقول أيضاً: ( إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم فجاً ولا سرتم مسيراً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر )، فالمسلمون الآن محبوسون بالعذر، إذ إنه ليس هناك خلافة إسلامية تحمل راية لا إله إلا الله، وتدعو إلى الله وتقاتل من أجلها.إذاً: فنحن الآن فقط ننتظر حتى يرفعوا راية لا إله إلا الله، أي: حتى يعلنها إمام المسلمين فيقول: الله أكبر، وعند ذلك يكون قد أتيحت لنا الفرصة، أما الآن فليس هناك فرصة أبداً، لكن لا يوجد الآن بلد في العالم يمنعنا من أن نصلي ونؤذن فيه، يمنعنا من أن نقيم الصلاة فيه، أو ندعو فيه إلى أن نعبد الله وحده، حتى روسيا البلشفية الحمراء تحطمت وانتهت، فلأي شيء نغزو؟!كما ذكرنا كلمة وكررناها كثيراً وما بلغني أن مستمعاً نقلها قط، وهي أنه ما دام أن الله قد فتح لنا الدنيا بتدبيره وهو العليم الحكيم، فيجب أن تكوَّن لجنة عليا من علماء هذه الملة -أهل الكتاب والسنة- يشارك فيها كل بلد إسلامي بعالمين، وتصبح أفراد هذه اللجنة ثمانون عالماً أو نيفاً وثمانون، ويضعون خارطة للكرة الأرضية من البرازيل إلى كذا، ويعرفون الجاليات الإسلامية في كل بلد، فأوروبا شرقها غربها، وأمريكا الشمالية والجنوبية، وكندا، والشرق بكامله، واليابان، والصين، فيعرفون كل جالية أين هي موجودة؟ وكم عدد أفرادها؟ كم مسجداً فيها؟ وما حاجتها؟ وبعد ذلك يعلنون للمسلمين إعلان السر حتى لا يرهبوا أعداء الإسلام: أن على كل مسلم في العالم أن يساهم بدينار واحد، فإذا كان عدد أفراد الدولة الفلانية عشرة ملايين، افرض أن خمسة ملايين من النساء، وبالتالي يؤخذ منهم خمسة ملايين دولار، وكذلك دولة عدد أفرادها مثلاً عشرون مليوناً، فيؤخذ منهم عشرة ملايين، وتصبح ميزانية لا نظير لها، وبحالة من السر والخفاء.ثم إن هذه اللجنة تتولى توزيع الكتاب، وتتولى إرسال المربين والمعلمين والمزكين للأرواح، وتتبنى بناء المسجد، وتوحد المذهب، فلا مذهبية ولا طائفية، وإنما قال الله وقال رسوله، وذلك كعهد رسول الله وأصحابه وأولادهم، فلا حنفي ولا شافعي ولا حنبلي ولا مالكي ولا أباضي ولا زيدي، وإنما فقط مسلم، قال الله وقال الرسول.ولا تعجب فنحن لنا أكثر من أربعين سنة ونحن لا ندرس مذهباً معيناً، وإنما قال الله وقال رسوله، وذلك حتى تنتهي الفرقة نهائياً، فلا إقليمية ولا طائفية ولا وطنية هابطة، وإنما مسلمون فقط، ويأخذ ذلك النور يمتد في تلك الأراضي المظلمة، فوالله ما هو إلا ربع قرن وقد أصبح الإسلام فوق ما نتصور.وإذا استقام المسلمون في الجاليات فسوف ينتقل إلينا من بركتهم ما يجعلنا نستقيم نحن في بلادنا الإسلامية، إذ إننا نستحي ونخجل عندما لا نستقيم كاستقامتهم، فلمَ لا نفعل هذا وقد أراحنا الله من الجهاد بالسيف والرشاش والصاروخ؟!
تفسير قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض ...)
والآن مع هذه الآيات الأربع، يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:97-100].قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، وهؤلاء هم كل من مات ونفسه مدنسة مظلمة متعفنة بأوضار الذنوب والآثام. إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ [النساء:97]، والأصل: تتوفاهم. الْمَلائِكَةُ [النساء:97]، أي: ملك الموت وأعوانه، وذلك حال كونهم ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، أي: أنهم رضوا بالبقاء في ديار الكفر والشرك، فما استطاعوا أن يوحدوا الله وأن يعبدوه، ولا أن يصوموا ولا أن يصلوا؛ لأن المشركين يحيطون بهم من كل جانب، فماتوا وأرواحهم خبيثة منتنة قد ظلموها، فما هاجروا بل رضوا بالبقاء مع الكافرين، فمنعوهم من أن يصلوا أو أن يصوموا، أو يقولوا: لا إله إلا الله، ثم قال تعالى: قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]، والقائل هو ملك الموت وأعوانه، وذلك أن ملك الموت لما يتقدم لأخذ الروح ومعه أعوانه، يستلمها ويعطيهم إياها، ثم يعرجوا بها أو يهبطوا بها، فيتعجب هؤلاء الملائكة من هذه الأرواح الخبيثة المنتنة المتعفنة ويسألون أصحابها: فيم كنتم؟! لماذا أرواحكم خبيثة ومنتنة؟! والجواب: أنهم أفرغوا وصبوا عليها أطناناً من الذنوب والآثام، ولأنهم ما كانوا يعبدون الله عز وجل، إذ إنهم كانوا ممنوعين من المشركين، فيأتيهم التوبيخ والسؤال من الملائكة: لمَ لم تهاجروا إذاً؟ أرضيتم بالبقاء من أجل أموالكم وأهليكم؟ أرضيتم بالبقاء حتى لا ينتصر دين الله وأهله، وحتى تلطخت أرواحكم وأصبحت عفنة منتنة؟ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]؟ وكان جوابهم: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97]، أي: مغلوبين مقهورين، لا نستطيع أن نعبد الله تعالى، إذ إن أعداء الله ما سمحوا لنا، فردت عليهم الملائكة فقالت: قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97]؟ إذ إنهم كانوا يقولون: إن أرض الله ضيقة، ووالله ما هي بضيقة، فلمَ ترضون بالبقاء في ديارٍ تمنعون فيها من أن تعبدوا الله وتزكوا أنفسكم بتلك العبادة؟! وهذا دليل على وجوب الهجرة، وبالتالي فأيما مؤمن أو مؤمنة يجد نفسه في بلد أو في قرية أو في مدينة أو في إقليم لا يستطيع أن يعبد الله تعالى فيه، إلا ووجب عليه الهجرة، ولا يحل له المقام أبداً في بلد لا يمكنه أن يعبد الله تعالى فيها، ولا عذر له عند الله تعالى. قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]، والقائل هو ملك الموت وأعوانه، والاستفهام للتوبيخ، أي: ما لأرواحكم ملطخة منتنة؟! أين كنتم؟ في المراحيض؟! فماذا قالوا؟ قالوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97]، أي: مغلوبين ما استطعنا أن نعبد الله فتطهر نفوسنا، وهذا عذر لم تقبله الملائكة، بل قالوا لهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً [النساء:97]، وهم يقولون: لا، بل ضيقة، أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97]، ثم اسمع إلى الحكم الإلهي: فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97]، أي: أولئك الأشقياء البعداء، فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ [النساء:97]، أي: المكان الذي يؤوون إليه وينزلون فيه، جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ [النساء:97]، جهنم مَصِيرًا [النساء:97].وإن أردت تصويراً قريباً لجهنم فأشعل عود كبريت تلوح لك حرارة جهنم، أو قف في الشمس فقط، وإن أردت نسبة هذا العالم إلى جهنم فأدخل أصبعك في الفرات أو في النيل أو في البحر الأبيض ثم أخرجها، فكم نسبة من الماء علق بأصبعك؟! إن نسبة عالم النار إلى هذا العالم الذي نعيش فيه كنسبة غمس أصبعك في البحر ثم استخراجها منه، ونحن الآن كأننا أجنة في أرحام أمهاتنا، ولما نولد وتخرج الروح نشاهد العالم الثاني.إذاً: فَأُوْلَئِكَ [النساء:97]، أي: البعداء، مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ [النساء:97]، جهنم مَصِيرًا [النساء:97]، أي: يصيرون إليها.قد يقول أحدكم: يا شيخ! والعجزة من النساء والمرضى والشيوخ الكبار لا يقدرون على الهجرة، فكيف يكون حالهم إذاً؟

يتبع

ابوالوليد المسلم
26-04-2021, 03:12 AM
تفسير قوله تعالى: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً)
قال تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء:98].قال ابن عباس: كنت أنا وأمي منهم، ولذلك المرأة لما تسافر كيف تعرف الطريق؟ والمريض وكبير السن ما عنده قدرة على أن يمشي، وكذلك الأطفال الصغار، فاستثنى الله تعالى أصحاب الأعذار بحق، وهم المستضعفون من الرجال والنساء والولدان، لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً [النساء:98]، أي: لا قدرة لهم على التحيّل والانتقال من حال إلى حال، ولا وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء:98]، ولذلك لما هاجر النبي صلى الله من مكة إلى المدينة اتخذ خرّيتاً خاصاً جغرافياً ليدله على الطريق، وحتى يهرب من القبائل التي في تعترضه في طريقه. نعود إلى الهجرة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [النساء:97]، أي: حال كونهم ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، كيف ظلموا أنفسهم؟ يا عبد الله! كانت نفسك طاهرة كأرواح الملائكة، فقد نفخها الملك في رحم أمك وسالت في الجسم وأصبح المخلوق مخلوقاً، ثم بعد خروجه من بطن أمه أخذ هذا الطفل يرضع، ثم أخذ يحبو ويمشي إلى أن يبلغ الحلم، وروحه مضيئة مشرقة طاهرة نقية، ثم يأخذ في أن يصب عليها أنواعاً من الذنوب والآثام والأوساخ، وهو بذلك يكون قد ظلمها. ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]؛ لأنهم بقوا في بلد لا يعبدون الله فيه، بل يعصونه فيه، وهم بذلك قد ظلموا أنفسهم. قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]، والقائل لهم هم الملائكة، وما قالوا لهم: أين كنتم؟ وعند ذلك سيكون جوابهم: كنا في مكة، لكن أين يوجد هذا الظلم وهذا العفن وهذا النتن؟! قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97]، أي: مغلوبين مقهورين، إذ ما أذنوا لنا ولا سمحوا لنا أن نعبد الله، إذاً لم ما خرجتم وهاجرتم؟ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97]، ماذا يقولون؟ يقولون: ضيقة؟! إذاً: فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97]، اللهم إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء:98].
تفسير قوله تعالى: (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً)
قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:99].قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ [النساء:99]، أي: المستضعفين، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ [النساء:99]، وعسى للترجي، ولكن في حق الله تفيد التحقيق، فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:99]، فيا بشراهم.
تفسير قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً...)
ثم قال تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:100].قال تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء:100]، وهذا خبر من أخبار الله الصادقة، وَمَنْ يُهَاجِرْ [النساء:100]، طلباً لرضا الله، يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا [النساء:100]، أي: ما يرغم به أنف أعدائه ويذل أنوفهم. فإن قلت: أنا إذا هاجرت من بلدي تركت بستاني ومتجري ووظيفتي فكيف ذلك؟ والجواب: هاجر واخرج فقط والله يهيئ الله لك ما ترغم به أنف أعدائك، هذا وعد من الله تعالى، وقد حصل هذا والله، فقد كانوا يوزعون الذهب والفضة في الأكياس، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يوزع فضة في الأكياس جاءت له من البحرين، وقد جاء إليه العباس فأعطاه حتى ملأ ثوبه وما استطاع أن يقوم به، فطلب الإعانة من الصحابة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( خلوه )، فنقّص منه.إذاً: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء:100]، أي: في الرزق والحال، وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ [النساء:100]، أي: خرج ومشى مائة كيلو أو خمسين كيلو وهو مريض ثم مات، فأجره وافي كامل كالمهاجرين، وقد حصل هذا لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد خرجوا من مكة مهاجرين بعد اضطهاد وتعذيب، وفي أثناء الطريق ماتوا فندم أو بكى عنهم إخوانهم، فكانت الآية فيصلاً في ذلك، فقال تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100]، أي: وقع وثبت الأجر على الله تعالى، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:100].
وجوب الهجرة عندما يحال بين المؤمن وبين عبادته لربه وإقامته لشعائر دينه
نعود إلى بيان ما هي الهجرة؟ وإلى أين تكون الهجرة؟ فأقول: لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقيم في دار أو في بلد لا يمكنه أن يعبد الله تعالى فيه، حتى ولو كان هذا البلد مكة، إذ قد فرض الله على من قبلنا أن يخرجوا منه، وهذه قاعدة باقية إلى يوم القيامة، فلا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، وتنقطع التوبة ويغلق بابها إذا طلعت الشمس من مغربها، وهي علامة من علامات الساعة الكبرى، وعبد ذلك تقول: لقد آن أوان خراب هذا الكون، فيستيقظ الناس في الصباح فيظنون أن الشمس ستطلع من المشرق، وإذا بها قد طلعت من المغرب، ووالله لقد كان بعض الصحابة ينظرونها يومياً خوفاً من أن القيامة قد قامت.إذاً: الشخص الذي يوجد في بلاد كافر مشرك لا يسمحون له أن يصلي أو أن يصوم أو أن يذكر الله أو أن يتلو كتاب الله أو أن يتجنب ما حرم الله من مأكول أو مشروب أو ملبوس، يجب عليه أن يهاجر، فإن رفض الهجرة وهو قادر عليها ومات فقد سمعتم حكم الله فيه، إذ قال تعالى: فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97]، وإن كان شيخاً كبيراً لا يقوى على المشي، أو امرأة مسكينة لا تعرف الطريق ولا تدري أين تذهب، أو أولاداً صغاراً كذلك، فإن الله قد استثناهم وعفا عنهم فقال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ [النساء:98-99]، رجاهم ورجاء الله لا يخيب. وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:100]، أي: خرج ومشى يوماً أو يومين أو ساعة أو ساعات ثم أدركه الموت فقد وقع أجره على الله، وهو كالمهاجرين سواء بسواء، وهذه من إنعامات وإفضالات الله عز وجل.وهذا الإمام مالك إمام دار الهجرة في المائة الثانية، أدرك ثلاثمائة من التابعين الذين درسوا على أصحاب رسول الله، وأربعمائة من تابعي التابعين، يرى في الموطأ أنه يجب على المؤمن أن يهاجر من بلد إسلامي فيه بدعة، وقد بين هذه البدعة فقال: أن يسب فيها أصحاب رسول الله، وذلك كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، إذ كيف يستطيع أن يعيش في بلد يسب فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيخشى أن يُطبع على قلبه وأن يختم على نفسه فيصبح مثلهم والعياذ بالله، فكيف إذاً ببلاد الكفر مطلقاً حيث لا يتمكن العبد من أن يعبد الله عز وجل؟! يجب الهجرة، فإذا دخلت في الإسلام اليوم أو غد، فهاجر من تلك البلاد حتى تعبد الله عز وجل، وحتى تزكي نفسك وتطهرها فتتأهل للملكوت الأعلى.وهنا استثناء فأقول: إذا كان العبد في البلاد الكافرة حراً في عبادة الله تعالى، فلا يضطهد ولا يكره على الكفر والجرائم والمعاصي فلا بأس له بالإقامة، وليس هناك حاجة إلى أن يهاجر منها، بدليل: أن أصحاب رسول الله هاجروا إلى الحبشة الصليبية المحضة، ونزلوا ضيوفاً على أصحمة رحمه الله تعالى ورضي عنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حتى يتمكنوا من أن يعبدوا الله تعالى؛ لأن الكفار في مكة قد ضايقوهم ومنعوهم من عبادة الله تعالى، إذ إن المقصود والهدف أن تتمكن من أن تعبد الله تعالى، فهو سبحانه وتعالى قد خلقك لهذه العبادة وهي سلم سعادتك إلى الملكوت الأعلى، كما أن علة وجودنا في هذه الحياة أن نعبد ربنا عز وجل، وذلك ليؤهلنا إلى أن ينزلنا في العالم العلوي الجنة.فإذا كنت في بلد بل في عمارة، وما استطعت أن تعبد الله فيها، فيجب أن تخرج من هذه العمارة ما دام أن وجودك يحملك على أن تتأثم وترتكب المعاصي والذنوب، فارحل من هذه العمارة إلى أخرى، إذ إن العبرة ما هي بمساحة الأرض، وإنما العبرة بوجود مكان تعبد الله تعالى فيه.وقد كتبنا رسالة بعنوان: إعلام الأنام بحكم الهجرة في الإسلام، وخلاصتها: أيها المسلمون في بلاد الكفر! هل أنتم مضطهدون مضطرون إليها؟ هل دولكم وإخوانكم ألجئوكم إلى الخروج من البلاد الإسلامية فلجأتم إلى تلك الديار تعبدون الله تعالى؟ فإن قلتم: نعم، قلنا: لا بأس فأنتم في خير، وإن قلتم: لا، ما اضطهدونا ولا عذبونا ولا منعونا أن نصوم ونصلي، لكن خرجنا لطلب الرزق والعيش، قلنا: والله ما يجوز لكم أن تعيشوا بين ظهراني الكفار من أجل القوت، إذاً: وقعنا في مشكلة، فما المخرج منها؟ قلت لهم وبتوفيق من ربي: يا معشر الإخوان! يا أبناء الإسلام! الطريق هي أن تنووا بإقامتكم في ديار الكفر الدعوة إلى الإسلام، فتحولوا نيتكم من طلب العيش إلى نشر دعوة الله تعالى، وأول شيء يجب أن تصححوه هو عقائدكم، وأن تكون لا إله إلا الله محمد رسول الله نوراً تلوح على أسماعكم وأبصاركم وألسنتكم، فلا خرافة ولا ضلالة ولا شرك ولا باطل، وإنما توحيد حقيقي كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دور المسلمين المقيمين في بلاد الغرب في نشر الإسلام والدعوة إليه
ثانياً: أن تتهذب أخلاقكم وآدابكم فتسمون وتعلون على أولئك الكافرين، فيظهر منكم الصدق والأمان والوفاء والطهر حتى يتأثر بكم أولئك الكفار، أما أنكم ناوون البقاء لنشر الإسلام وأنتم تطردون الناس من الإسلام بكذبكم وجرائمكم وتلصصكم وهبوطكم فلا ينفع هذا، بل لا بد وأن تكونوا كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.ثم أخيراً: تدعون إلى الله تعالى بالكلمة الطيبة إذا أمكنكم، ولما يكون لكم المسجد فهو مركز دعوتكم، ويأتي من يريد أن يدخل في الإسلام فيبين له، وبهذه النية فأنتم مرابطون في سبيل الله، ويجري لكم أجركم إلى يوم القيامة، وقد وزعنا هذه الرسالة، لكن ما دام أنه لا توجد لجنة عليا تحتضن مثل هذا، فقلَّ من بلغته أو عمل بها.إذاً: الذين يعيشون في بلاد الكفر ما داموا آمنين على دينهم وأعراضهم وأبدانهم فيجوز لهم البقاء هناك، لكن لا بد وأن يحولوا هجرتهم من أجل المال أو الطعام والشراب إلى هجرة من أجل نشر الإسلام والدعوة إلى الله تعالى بين الناس، وهذه النية لا تتحقق إلا بالمبادئ الآتية:أولاً: لا بد من عقيدة صحيحة سليمة، أما أن توجد جماعات خرافية ضالة تعبد الأولياء، فإن هذا لا قيمة لدينهم ولا لوجودهم، بل لا بد من عقيدة ربانية كعقيدة رسول الله وأصحابه.ثانياً: لا بد من استقامة لتكونوا مقبولين بين الكافرين، بل وأفضل منهم وأسمى وأعلى، فيظهر منكم الصدق والوفاء والشجاعة والكرم والطهر، ولا يبق مظهر من مظاهر الباطل والسوء فيكم، وبهذا تنشرون دعوة الله، ولكم أجر المرابطين في سبيل الله، ولو لم يسلم على يدك واحد طول حياتك، بل يكفيك أنك بينت الإسلام وأظهرته.والخلاصة: أن الهجرة فريضة الله على كل مؤمن إذا وجد نفسه في مكان لا يستطيع أن يعبد الله عز وجل، وبعض الشبان يقولون: نحن منعونا من إعفاء اللحية، فكيف نفعل؟ أقول: اللحية ليست هي الدين الإسلامي كله، وإنما هي سنة من سنن الإسلام، وما منعوكم من إعفاء اللحية إلا لما وجدت الفتن، وذلك كفتنة جهيمان وغيرها، حتى أصبح كل ذي لحية ينسب إلى هؤلاء الذين يعملون الفتن، وقد صدر أمر خادم الحرمين بأن هذا الباب لا يفتح علينا، والجيش السعودي ورجال البوليس بلحى.أقول: أحدثنا شغباً وتعباً للحكومة فأصبحت تتبع أصحاب هذه الفتنة، إذاً: في هذه الفترة إذا حلقت وجهك فلا بأس، وذلك حتى تسلم من الفتنة، ولما تنتهي الفتنة فباب الله مفتوح، فعد إلى سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.والشاهد عندنا: أنهم لا يقولون: نحن نهاجر لأننا في بلادنا الآن قد منعنا من الصلاة في وقتها، لا، إذ إن هذا وقت فتنة، ولما تنتهي السنة والسنتان تعودون إلى ما كنتم حيث لا فتن.فالذين يجب عليهم أن يهاجروا هم الذين يُمنعون من أن يعبدوا الله تعالى ويوحدوه، وهذا هو الحكم الشرعي، ويبقى إذا وجدت نفسك في قرية ما فيها من يعرف الله، ولا كيف يعبد الله تعالى، أو وجدت نفسك في بلد ما فيه من يفرق بين الحلال والحرام، فإنه يجب عليك أن تهاجر إلى بلد تعرف كيف تعبد الله عز وجل، أن تهاجر إلى بلد تتعلم فيه دين الله تعالى، إذ السر في الهجرة هي أن نعبد الله من أجل أن نهيئ أنفسنا للكمال والسعادة في هذه الدار وفي الدار الأخرى، وبالتالي فأيما ظرف أو حال عطّل هذه العبادة فيجب عليك أن نرحل.وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
30-04-2021, 02:15 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (53)
الحلقة (276)
تفسير سورة النساء (58)

رخص الله عز وجل لعباده إذا هم خرجوا في سفر أن يقصروا الصلاة إن خافوا عدوهم، وبعد أن انتشر الإسلام وأمن الناس واضمحل الشرك والكفر بقيت رخصة القصر في سائر السفر، رحمة من الله عز وجل بعباده، فمن خرج في سفر شرع له أن يقصر الصلاة الرباعية كالظهر والعصر والعشاء فيصليها ركعتين ركعتين، وأما الفجر والمغرب فلا قصر فيها.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم لك الحمد على ما أوليت وأعطيت، اللهم لك الحمد على ما أحسنت وأفضلت، فإنا لك شاكرون.
وجوب الهجرة عندما يحال بين العبد وربه والوعيد لمن ترك ذلك
معاشر المستمعين والمستمعات! قبل أن نشرع في آيات جديدة فنتلوها ونأخذ في دراستها، أعيد إلى أذهانكم ما سبق أن درسناه في الليلة الفائتة، قال تعالى -وقوله الحق- بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، كيف ظلموا أنفسهم وقد كانت نورانية كهذه المصابيح؟ ظلموها بأن أفرغوا عليها أطناناً من الذنوب والآثام فتعفنت واسودت، ومثل ذلك أن تأتي إلى مؤمن طاهر نقي فتصب عليه الأوساخ والقاذورات، وأنت بذلك تكون قد ظلمته. قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]، والقائل هو ملك الموت وأعوانه، أي: قالوا لهم: فيم كنتم؟ في مزابل؟ في مراحيض؟ في أي مكان كنتم حتى أصبحتم هكذا؟ فقالوا معتذرين: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97]، أي: قهرونا وغلبونا ومنعونا من أن نذكر الله تعالى، وأن نقف بين يدي الله عز وجل، وأن ننكر الشرك والمشركين، فهذه هي علتهم، فردت عليهم الملائكة فقالت: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97]، فما استطاعوا أن يجادلوا؛ لأن الحجة قد قامت عليهم.فقال تعالى في الحكم عليهم: فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97]، فلماذا كان مستقرهم ومأواهم جهنم؟ لأن أرواحهم خبيثة منتنة عفنة ليست أهلاً لأن تنازل الأبرار وتجالسهم في الملكوت الأعلى، فهل في هذا ظلم؟ لا والله، إذ الآن لو يدخل عليكم رجل ملطخ بالدماء والقيوح والقاذورات والأبوال، فهل تسمحون له أن يجلس بينكم؟ والله ما تسمحون له، إذاً فكيف يُسمح لشخص ملطخ متعفن بأوضار الذنوب والآثام أن يدخل الجنة دار السلام؟!
سقوط الهجرة عن أصحاب الأعذار
وإن قلتم: يا شيخ! ما استطعنا أن نخرج من تلك الديار؛ لأننا مرضى لا نستطيع أن نمشي أو نهرب في الليل، والمرأة تقول: أنا ضعيفة لا أعرف الطريق، ولا أدري أين نذهب؟ والطفل الصغير يقول: يا رب! ما ذنبي، فماذا قال الله تعالى فيهم؟ قال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:98-99]، فهل هناك أوضح من هذا البيان الإلهي؟ لو كنا نجتمع على كتاب الله منذ نعومة أظفارنا، منذ وجود أسلافنا والله ما هبطنا أبداً، ولكن هجرنا كتاب ربنا عز وجل، وصدق الله إذ يقول على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، حولتموه إلى الموتى.إذاً: أولاً: الهجرة واجبة من مكة إلى المدينة وجوباً عينياً لا كفائياً، ثم لما فتح الله مكة على رسول الله والمؤمنين سقطت تلك الهجرة عنهم، فأهل مكة يبقون في مكة، ثم أيما مؤمن وجد نفسه في دار أو في بلد لا يجد فيه من يعرف الله تعالى، ولا الطريق إليه، وجب عليه أن يهاجر إلى بلد آخر ليعرف الله، ويعرف كيف يعبده ويتقرب إليه.ثانياً: إذا وجد المؤمن نفسه في بلد لا يستطيع أن يقيم فيها صلاة، ولا أن يتجنب ما حرم الله، لا من أكل ولا من شرب ولا من ملبوس، فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى مكان آخر ليتمكن من عبادة الله تعالى، إذ الهجرة هي الانتقال من مكان إلى مكان لأجل أن نعبد الله تلك العبادة التي هي علة وجودنا وعلة وجود الكون كله، وهي السلم للوصول إلى الملكوت الأعلى، فإذا تعطلت من أجل فقر أو خوف هاجر يا عبد الله إلى بلد آخر.وكان أول من هاجر في سبيل الله هو الخليل إبراهيم عليه السلام، فاقتدوا بأبيكم، واقرءوا قوله تعالى: وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [العنكبوت:26]، وذلك بعد أن حُكِم عليه بالإعدام، فأججوا النار وأوقدوها أربعين يوماً أو أكثر، وأرادوا أن يلقوه فيها حتى لا تتعلق به قلوب الناس أو يفتنهم عن دينهم الجاهلي الكافر، ولما أرادوا أن يلقوه في النار ما استطاعوا لشدة لهبها وحرها، فوضعوه في منجنيق ودفعوه من بعيد، وقبل أن يصل إلى النار عرض له جبريل فقال له: هل لك حاجة يا إبراهيم؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، والمتصوفة والهابطون في الضلال يقولون: قال إبراهيم: حالي يغني عن سؤالي، ومعنى هذا: إياكم أن تدعو الله عز وجل، إذ إن هذا عيب عليكم، كيف تدعوه وهو يعرف حالك؟! ومعنى هذا أيضاً أنهم هدموا أعظم حصن في الإسلام وهو العبادة، إذ إن الدعاء هو العبادة ومخها، فاستطاعوا أن يحرموا المؤمنين والمؤمنات من دعاء الله حتى يبقوا هابطين، وهذا من تخطيط الثالوث الأسود، والمقلدون يقلدون ويقولون: هذا من وضع الماكرين، فقالوا: ليس هناك حاجة إلى أن تقول: رب أعطني، ارزقني، اعملي لي كذا، هل هو ما يعرف؟ معناها: أنك تقول: رب لا يدري وأنا أبين له! وهذه مقتلة ومذبحة للعقيدة، فالدعاء هو العبادة، قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55]، إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي [الجن:20]، فمن ترك دعاء الله كفر، فهل عرفتم من أين أخذوا هذا؟ إبراهيم قال: أما إليك فلا، أي: أنا أدعو ربي فقط، فقال الله عز وجل: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فانقلبت برداً لولا قوله: وسلاماً، إذ إن البرد يقتل كالنار تقتل، وما أتت النار إلا على قيد في يديه ورجليه، فأحرقته فقط وخرج وقال: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [العنكبوت:26]، فودعهم وتركهم، وهاجر معه ابن أخيه لوطاً وامرأته سارة، فخرجوا تائهين في الأرض، ليس عندهم ما يركبون ولا ما يأكلون، فاتجهوا غرباً تجاه فلسطين.
بيان من هو المهاجر الحق
فهل فيكم من قد هاجر؟ هذا رجل يقول: أنا من المهاجرين، على كل حال الله يعلم ما في نياتنا وقلوبنا، فالذي يهاجر من بلد إلى بلد يريد وجه الله هو المهاجر، لكن أفضل المهاجرين هو من أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( المهاجر )، و(أل) الدالة على عراقة الوصف ومكانة ...، ( المهاجر ) بحق، ( من هجر ما نهى الله ورسوله عنه )، أي: المهاجر بحق وصدق، من هجر، أي: ترك، ما نهى الله تعالى عنه ورسوله من سائر المنهيات والمحرمات، فذلك هو المهاجر بحق، فمن فاتته الهجرة من دار إلى دار فلا تفوته، فاستعن بالله واهجر بقلبك وبسمعك وببصرك كلما نهى الله تعالى عنه ورسوله.واعلموا أنه لا بد من أن تكون القلوب مقبلة على ربها، فصححوا معتقداتكم، وحققوا معنى لا إله إلا الله، فصاحب هذه المنزلة العالية قلبه لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، أما مع دعاء الأموات والاستغاثة بهم والنذور لهم والعكوف على قبورهم والتمسح بأتربة أضرحتهم، فهذا يتنافى منافاة كاملة مع الإيمان بالله ورسوله، إذ لا يصح أبداً أن يكون صاحبها مؤمناً، وقد خدعونا وغرونا وفعلوا بنا العجب، والحمد لله قد صحونا وانتبهنا وعرفنا ألا إله إلا الله معناها: لا ينبغي أن يوجد في الأكوان من نقبل عليه بقلوبنا ووجوهنا إلا الله تعالى، فلو تعطش ألف سنة لا تقل: يا سيدي عبد القادر اروني، ولو تجوع حتى يكاد الجوع أن يقتلك فلا تقل: يا أولياء الله! أنا خادمكم، ولو تصاب بمصائب فلا تفزع فيها إلى غير الله أبداً؛ لأن هذه الفضائل والمقامات السامية لا بد لها من أصل ألا وهو توحيد الله عز وجل.إذاً: المهاجر المؤمن الصادق ذو التوحيد الخالص هو الذي هجر كل ما نهى الله عنه من الكذب والغيبة والنميمة والغش والخداع والعجب والسرقة والفجور والزنا والربا وعقوق الوالدين وأذية الجيران وأذية المؤمنين، بل كل ما نهى الله ورسوله عنه، فهذا هو المهاجر حقاً، فاللهم اجعلنا منهم.

يتبع

ابوالوليد المسلم
30-04-2021, 02:15 AM
فضل الهجرة في سبيل الله تعالى
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء:100]، هذا خبر إلهي، فأبشروا يا عباد الله، من يهاجر في سبيل الله ويترك الدار والبلاد لأنهم ما سمحوا له أن يعبد الرحمن فيها، فليعلم وإن ترك ماله وترك منصبه أن الله سيعوضه الله -والله- خيراً مما ترك بهذا الوعد الإلهي. يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا [النساء:100]، أي: ما يرغم به أنف أعدائه الذين منعوه من عبادة الله تعالى، وَسَعَةً [النساء:100]، أي: وسعة في رزقه الخير الكثير، وقد هاجر المسلمون من مكة فتركوا أموالهم وأوطانهم، وما هي إلا سبع أو ثمان سنوات إلا وهم يوزعون الفضة في الأكياس، فيا من تهجر ما نهى الله عنه ورسوله امنع نساءك وبناتك من السفور، ولا تخاف ولا تشقى ولا تتعب، بل طهر بيتك واهجر منه ما يشابه بيوت الغافلين، من الفيديوهات والتلفازات التي تعرض العواهر وهن يغنين ويرقصن وأهل البيت يشاهدون نساء ورجالاً! بل حتى لو كنت في بلد لا تستطيع أبداً إلا أن يكون في بيتك تلفاز ونساؤك وأطفالك يشاهدون، والله لوجبت عليك الهجرة، وحرام عليك أن تبقى في ذلك البلد، ولو تلتحق برءوس الجبال خير لك، ولكن الحمد لله ليس هناك مؤمن قد أكره على هذا، لا في بلاد الإسلام ولا في بلاد الكفر أبداً، ولكن الجهل وظلمة النفس هي التي أوقعت الناس في هذا.سألني شاب فقال: هل يجوز لبناتنا أن يمارسن الرياضة البدنية؟ فقلت: لا، فقد أعطانا الله رياضة حُرِمها اليهود والنصارى والبلاشفة والعالم الكافر بكامله، هذه الرياضة تؤدى خمس مرات في اليوم والليلة، ألا وهي إقامة الصلاة، فوالله لو أقمنا الصلاة كما أراد الله ورسوله ما احتجنا إلى رياضة بدن قط، لكن أكثرهم لا يصلون، ومن صلى لا يطمئن ولا يستقر، فلو أنك تقف معتدلاً كما يعدلونك أصحاب الرياضة ثم قلت: الله أكبر من كل جوارحك، ثم تأخذ في تلاوة الآيات-وأنت مع الله-فتفصح في بيانها وإخراجها من فمك، ثم تقول: الله أكبر، وتمد ظهرك وصلبك وتقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، وذلك سبع مرات، أو تسع أو إحدى عشرة أو عشرين وأنت في تلك الحال، ثم ترفع باعتدال وتقول: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ثم تقول: الله أكبر، وتمد نفسك على الأرض، وجبهتك وأنفك وأعضاؤك كلها مشدودة وأنت تسبح فتقول: سبحان ربي الأعلى، وتدعو بما شئت من خيري الدنيا والآخرة، ثم ترفع فتقول: الله أكبر، وتجلس جلسة معتدلة وتقول: رب اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني، وتفعل ذلك في صلاتك كلها، والله لا توجد رياضة أنفع من هذه، وأن أتكلم على علم، أمع هذا نقول: هل لبناتنا أن يمارسن الرياضة؟! لو كانت الرياضة ضرورية لبدن المسلم لأنزل الله فيها قرآناً، ولشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الله شرع إقامة الصلاة فقال: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [البقرة:277] ولم يقل: صلوا، فتؤدى خمس مرات كل مرة على الأقل نصف ساعة مع النوافل والقيام في الليل وفي آخره، فهل صاحب هذه الرياضة يحتاج إلى أن يجري في الشارع؟! وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا [النساء:100] إلى من؟ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ [النساء:100] قبل الوصول، كأن مرض في الطريق فمات، فما أجره؟ قال: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100] ويجزيه به، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:100].فهذه الآيات المباركات التي درسناها بالأمس تستقر هذه العلوم في أذهانكم، كما عرفتم أول المهاجرين، وعرفتم المهاجر الحق من هو؟ الذي يهجر ما نهى الله عنه ورسوله، فإن فاتتك الهجرة لكونك آمناً في ديارك، فإن هناك هجرة أخرى أعظم من تلك، ألا وهي أن تهجر ما نهى الله ورسوله عنه من سائر الذنوب والمعاصي.
تفسير قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ...)
والآن مع قول الله عز وجل: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، كانوا وما زالوا إلى يوم القيامة. ‏
جواز قصر الصلاة لمن كان مسافراً
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101]، أي: ضربتم بأرجلكم مسافرين للهجرة أو للجهاد أو للتجارة أو لأي عمل كان. فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [النساء:101]، أي: حرج أو تضييق أو إثم أبداً. أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101]، أي: أن تقصر الطويلة منها، فتصلي الظهر ركعتين، وتصلى العصر ركعتين، والعشاء ركعتين، أما المغرب فوتر لا تنقص، إذ هي وتر النهار، والصبح كما هي. إذاً: هذه الآية تحمل حكماً فقهياً وهو مشروعية قصر الصلاة الرباعية في حال السفر للجهاد أو للعمرة أو للتجارة أو لأي عمل شرعي يحبه الله ويأذن فيه. وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، وهذا الشرط قد زال، فقد تحررت الجزيرة واستقلت البلاد وقامت دولة الإسلام، وما بقي من يخاف، فتمشي من الرياض إلى المدينة، أو من مكة إلى نجران ولا تخاف شيئاً، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعلن عن عفو الله عنه، فشرع قصر الصلاة في السفر، وأنها سنة ثابتة وقائمة إلى يوم القيامة، وليست مستحبة أو فضيلة من الفضائل فقط، بل رحمة الله عز وجل بالمؤمنين، فقد أذن لهم أن يقصروا الرباعية، فبدل أن يصلوا الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات، يصلوها ركعتين ركعتين وإن كنا في أمن كامل.
معنى قوله تعالى: (إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً)
ثم قال تعالى: إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، أي: كانوا وما زالوا عدواً واضحاً بيناً، وأقل ما يحمله على عداوتك أن يراك تسعى لتكمل وتسعد وهو يسعى ليشقى ويهلك، وهو ما يحب لك هذا، والآن بعض الأوروبيين يعرف الإسلام، ولكن شهوته ودنياه ما تتركه يدخل في الإسلام فيتقيد بالصيام والصلاة والأوامر الأخرى، فما يقوى على هذا، ومن ثم يحسد المسلم لأنه يدخل الجنة وهو يدخل النار، وصدق الله العظيم إذ يقول: إِنَّ الْكَافِرِينَ [النساء:101]، أي: المتوغلين في الكفر، كَانُوا [النساء:101] وما زالوا، لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، أي: واضح بين.
بعض الأحكام المتعلقة بالسفر
ونعود إلى بعض الأحكام المتعلقة بالسفر فأقول: هذه الآية تدل على مشروعية القصر، وأن القصر سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن بعض أهل العلم يقول: إن القصر واجب، ويستشهد بحديث: ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ثم زيدت في الحضر وأقرت في السفر )، والحديث روته عائشة وخالفته بعملها، وقال أهل الملة الصحيحة من المذاهب الأربعة: لا وجوب أبداً، وإنما القصر من سنن الإسلام، فلو أتم لما بطلت صلاته ولما لحقه إثم أبداً؛ لأن الذي يقول: إن القصر واجب، لو صليت أربعاً فإنك صلاتك باطلة، فأنت زدت فيها ركعتين، وفي الحقيقة هذه الأقوال الشاذة والبعيدة والمتطرفة نحن بعيدون عنها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا مذهبية ولا تعصب، وإنما مسلمون نطلب الطريق إلى الله عز وجل من كتابه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.إذاً: القصر سنة مؤكدة فلا تتركه يا عبد الله، يقول الرسول: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )، فهل يتصدق عليك مولاك وتقول: أنا لا أقبل؟ هل هذا أدب مع مولاك؟ إنها صدقة تصدق الله بها علينا فلنرضى بها ولنفرح ولنحمد الله على ذلك.ثم إن قوله: ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101]، يعني: مسافرين، فكم هي مسافة القصر؟ من العلماء من يقول: كل سفر يجوز للمؤمن أن يقصر فيه، ومعنى هذا: من خرج من هنا إلى أحد فهو مسافر؛ لأنه تجاوز البلد، وسافر كما تسفر المرأة إذا أبعدت الحجاب عنها، وهذا القول باطل ومردود وإن كان صاحبه من أئمة الإسلام وبصائر الهدى كـابن حزم، إذ السفر الحق هو الذي يرحل فيه الإنسان عن بلده ليجتاز مسافة يوم، أما مسافة عشر دقائق أو ربع ساعة في البستان فليس بسفر هذا، وإن تركت الدار وراءك، والدليل على ذلك: أن أسفار النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت أكثر من يوم وليلة.وبعض الفقهاء من قال: يجوز القصر إن كانت المسافة سبعين ميلاً أو خمسة وثمانين كيلو، والقول الذي قلت به ورجحته وكتبته في المنهاج أنه ثمانية وأربعين كيلو، وهو قول وسط، وديننا دين الوسطية، ومنهم من يقول: مسافة عشرين ميلاً، ومنهم من يقول: ثمانين أو خمسة وسبعين، والدليل على ما ذهبت إليه دليل علمي، ألا وهو أن الميل في لغة العرب ولغة القرآن وعرف علماء الأندلس وأئمة الإسلام ألفا ذراع، وألفا ذراع هو كيلو متر، والكيلو متر فيه ألف متر، والمتر ذراعان، وهنا فإن أوروبا قد أخذت هذا من الإسلام، إذ ما كانوا يعرفون الكيلو متر، وبالتالي فمن سافر مسافة ثمانية وأربعين كيلو فما فوق فهو مسافر وله جواز القصر، فإذا ركبت بعيرك أو حمارك ومشيت فإنك لا تستطيع أن تقطع خمسين كيلو إلا وقد انتهى النهار، ومع هذا إذا قال الرجل: أنا حنفي أو شافعي أو حنبلي أو مالكي لا أقصر، فهذا شأنه ولا نلومه أبداً، وجزاه الله خيراً، وإنما فقط من قال: أنا أقصر إذا خرجت من البلد فلا نقبل ذلك منه؛ لأن هذه ليست مسافة قصر، أما إذا كانت المسافة مسافة قصر فله أن يقصر، ومسافة القصر كما ذكرنا ثمانية وأربعين كيلو، سواء بالحمار أو بالسيارة أو بالطيارة أو بغير ذلك، قال تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]. ثانياً: متى نبتدئ في القصر؟ لما تترك البلد والدور وراءك، فإذا حضرت الصلاة وأنا إنسان مسافر إلى جدة مسافة خمسين كيلو فأقصر، لكن لا تقصر وأنت في البلد، كأن دخل وقت العشاء فنصلي العشاء ركعتين فلا يجوز هذا أبداً حتى تفارق البلد الذي خرجت منه، أما إذا دخلت البلد التي سافرت إليها، كأن سافرت إلى ينبع وأذن المغرب فقلت: سأصلي المغرب والعشاء ونخرج، فيجوز لك ذلك لأنك مسافر، إذ إن ينبع ما هي بلدك، إنما فقط بلدك التي أنت فيها مقيم، فلا تقصر حتى تغادر وتترك بلدك وراءك، والآن نحن نقصر في مطار المدينة إذا حضرت الصلاة؛ لأننا قد تركنا المدينة وراءنا بأميال وهكذا، ثم تبقى تقصر إلى أن تعود إلى بلدك، فإذا دخلت بلدك انتهى القصر وجاء الإتمام والتتميم.ويبقى مسألة وهي: إذا نويت الإقامة بجدة أو بالقاهرة أو بالرياض يومين أو ثلاثة أو أربعة فلك أن تقصر الصلاة، لكن إذا عزمت أن تقيم أكثر من أربعة أيام، كأن عزمت أن تقيم خمسة أيام أو أسبوعاً أو شهراً فلا تقصر؛ لأنك أصبحت مقيماً، فأنت إذا سافرت الآن إلى مدينة بريدة، وأردت أن تقيم خمسة عشر يوماً أو عشرة أيام، فبمجرد ما تدخل المدينة لا تقصر الصلاة؛ لأنك أصبحت من أهلها، أما إذا كنت لا تدري هل سنخرج غداً أو بعد غد؟ ففي هذه الحال تبقى تقصر ولو شهراً، وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصلاة في تبوك عشرين يوماً، فقد خرجوا من المدينة وأخذوا في قصر الصلاة حتى عادوا؛ لأن الرسول ما يرحل ولا يقيم إلا بإذن الله، فهو ينتظر أمر الله عز وجل، فهو لا يدري متى يقول: سافروا أو تقدموا لقتال العدو؟ وهذا الذي عليه الأئمة الجمهور، وهو الوسط. إذاً: إن نوى الإقامة لأكثر من أربعة أيام فإنه يتم الصلاة حتى يستأنف السفر ويقبل خارجاً من بلده، فإن لم يدر متى يخرج غداً بعد غد، فإنه يبقى يقصر ما دام كذلك ولو عاماً.وهنا استغل بعض الطلبة فقلدوا الأباضيين، والأباضي إذا رحل من بلده وترك زوجته وأولاده فهو مسافر، ولو فتح دكاناً أو متجراً عظيماً، فإنه يشتغل لأعوام ويقول: أنا مسافر؛ لأن امرأتي في البلد، وقد أخذ هذا بعض طلاب العلم الذين يدرسون في أمريكا وأوروبا فقالوا: نحن نقصر لأننا لسن من أهل البلد، وقد أخطئوا، وبالتالي يجب أن يراجعوا أمرهم، ثم أي سفر هذا؟!كذلك الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جائز، فلك أنت فيه حر، فلك أن تجمع، ولك ألا تجمع، إذ كونك تصلي الصلاة في وقتها هذا أفضل لك، لكن إذا الضرورة استدعت ذلك، كأنك أصابك التعب أو الإعياء فاجمع ولا تتحرج، فتجمع المغرب والعشاء، والظهر والعصر، إن شئت جمع تقديم فتصلي العصر مع الظهر، أو جمع تأخير فتصلي الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، أو تصلي العشاء مع المغرب فهذا جمع تقديم، والكل واسع، وراعي فيه مصلحة سفرك وحاجتك إلى ذلك، وإن شاء الله سنعود إلى الآية في يوم آخر.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
30-04-2021, 02:17 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (54)
الحلقة (277)
تفسير سورة النساء (59)


الصلاة هي عمود الدين؛ لذلك فإن الله لم يرخص لأحد في ترك الصلاة حتى لو كان مريضاً أو خائفاً، فشرع للمريض صفة صلاة تناسبه، وشرع للخائف صفة صلاة تناسبه، وصلاة الخوف تكون عند ترقب لقاء العدو أو أثناء المعركة، ولها صفات متعددة تصل إلى إحدى عشرة صفة، تتناسب مع الحال التي يكون فيها المؤمنون، وموضعهم من عدوهم، فإذا زال الخوف عاد المسلمون لإقامة صلاة الجماعة كما كانوا يقيمونها أول الأمر.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في هذه الليلة ليلة الأحد من يوم السبت ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا، وأعطنا سؤلنا، وارفع درجاتنا، واجعلنا من عبادك الصالحين.ومعنا هذه الآيات الأربع وقد درسنا الآية الأولى منها، وبقي معنا الآيات الثلاث وهي تتحدث عن مسألة فقهية، فاللهم فقهنا في الدين، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ).فهيا نتلو الآيات ونستمع ونصغي ونتدبر ونتفكر حتى نفهم مراد الله تعالى منها، إذ إننا مأمورون بتدبر القرآن الكريم، فقال مولانا: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وهذا في الحقيقة ذم للمنافقين؛ لأنهم لم يتدبروا القرآن الكريم، أما المؤمنون فإنهم يتدبرون الآيات حتى يفهموا ما يريد الله تعالى منهم فيقدموا مطلوب الله، فأولئك هم المؤمنون الأحياء، فهيا نتلو الآيات الكريمات حتى نفهم مراد الله تعالى منها، فقال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا * وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:101-104]. وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101]، أي: ضربتم بأرجلكم مسافرين، إذ الماشي على الأرض يضربها برجليه. فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [النساء:101]، أي: تضييق وحرج. أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101]، فتصلوا الرباعية كالظهر والعصر والعشاء اثنتين، وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم لـعمر عندما قال: قد زال الخوف يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ). وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، وهذه الآية قد درسناها.وخلاصة ما علمناه من الآية: أن قصر الرباعية في السفر سنة مؤكدة، ولا نقول كما يقول بعض الغلاة: إنها فريضة، ولو أتم أحد فصلاته باطلة، وهذا اتركوه جانباً، ولا نقول: هذه رخصة إن شئت عملت بها وإن شئت تركتها، فأيضاً نترك هذا جانباً؛ لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمتنا ما تركوا القصر قط في المسافات التي يقصر فيها، فالصلاة ذات الأربع الركعات كالظهر والعصر والعشاء تقصر إلى اثنتين اثنتين، وتقرأ في الأولى بالفاتحة وسورة، وفي الثانية كذلك، والمغرب لا تقصر لأنها وتر، والصبح لا تقصر لأنها ركعتان.وأما المسافة التي نقصر فيها فكذلك نترك الغلو أو التطرف كما يقولون، فلا نقول: كل من خرج من بلده كيلو متراً فإنه يقصر، بل لا بد وأن تكون المسافة مسافة يوم وليلة على بعيرك، وأقلها ثمانية وأربعين كيلو متراً، فإذا خرجت من بلدك وكانت المسافة ثمانية وأربعين كيلو أو خمسين كيلو، ثم أذن المؤذن فدخل الوقت فلك أن تقصر حتى ترجع إلى بلدك، فإذا دخلت بلدك فقد انتهى القصر، وإن أقمت في البلد الذي سافرت إليه أكثر من أربعة أيام أو أسبوعاً أو شهراً فيجب أن تتم صلاتك؛ لأنه قد انتهى السفر، لكن إن أقمت فيها يوماً أو يومين أو ثلاثة إلى الأربعة فاقصر، وإن كنت لا تدري متى تخرج منها غداً أو بعد غد، أو حتى يجيء فلان، ما استقريت أبداً على مدة المكث، أو استقريت على البقاء في هذا البلد أكثر من أربعة أيام، فواصل القصر حتى تعود، وهذا الذي عليه أئمة الإسلام: مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وتلامذتهم.وأما الجمع في السفر فللمسافر إذا احتاج إلى الجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء، أن يجمع، وهذا جائز، وليس بسنة يثاب عليها ويأثم على تركها، وإنما يجوز فقط، وينظر المسافر في ذلك إلى مصلحته، فله أن يصلي الظهر والعصر في وقت الظهر أولاً، أو يؤخرها ويصليها في وقت العصر، أو يصلي المغرب والعشاء في وقت المغرب، أو يؤخر المغرب ويصليها مع العشاء. وقد نجمع ليلة المطر، وذلك أيام كان لا أضواء ولا سفلتة للطرقات، وليس عندنا ثياب ولا مدفئات كاليوم، فيؤذن للمغرب فيصلي أهل القرية المغرب والعشاء ثم يعودون ما دام الضوء موجوداً في الشوارع، وهذه رحمة الله بنا، ورخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته.وكذلك المريض الذي يصعب عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها، فله أن يجمع وهو على فراشه، فيصلي الظهر مع العصر جمع تقديم أو تأخير، ويصلي المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير؛ لمرضه وعلته وعدم قدرته على القيام والصلاة. الآية مرة أخرى، قال تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ [النساء:101] وما زالوا، عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، وهنا قال عمر: ( قد انتهى الخوف يا رسول الله؟ فقال: اسكت يا عمر! هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )، فأولاً كان العذر: السفر والخوف، وإذا زال الخوف يبقى هذا كصدقة تفضل الله بها علينا، فنأخذ بصدقة الله ولا نردها أبداً.
تفسير قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ...)
والآن مع الآيات الباقية وهي في صلاة الخوف، قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا * وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:102-104].صلاة الخوف يعني إذا كنت خائفاً كيف تصلي؟ قالت العلماء: إذا كان السيل آت من الغرب إلى الشرق، وإذا دخلت تصلي جاءك السيل فأغرقك وأهلكك، استقبل السيل واترك القبلة، وكذلك عدو ينتظرك ويتربص بك وأنت تعلم أنه يجيء من هذا الطريق، فإذا أردت أن تصلي فاستقبل جهة العدو، وكل هذا حفظاً لأولياء الله عز وجل من أن ينالهم مكروه أو سوء.فهيا بنا إلى صلاة الخوف في حال الحرب، قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، أي: يا رسولنا! والمخاطبون هم أصحابه صلى الله عليه وسلم، وقد شذ أبو يوسف من أئمة المذهب الحنفي فقال: إن صلاة الخوف قد انتهت؛ لأنها لا تكون إلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إن الله قد قال: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، وما دام أن الرسول ليس بيننا إذاً ليس هناك صلاة خوف، فرد عليه أهل العلم أجمعون، وقالوا: فقط أن يكون معنا إمامنا وحامل راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا صلى بنا صلينا وراءه في حال الخوف وفي حال السلم.
صفة صلاة الخوف
فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء:102]، أي: أذن المؤذن للصلاة وأقامها، فماذا نصنع؟ قال: فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102]، أي: اقسم الجيش إلى قسمين، فقد يكونون أربعون أو مائة شخص أو مائتين أو أربعمائة، فاقسمهم إلى نصفين.إذاً: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء:102]، أي: دعوتهم إليها وأقمتها، فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102]، أي: يصفون فيصلون وراءك. وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، أي: ما يضعون الرشاش والمدفع أو السيف أو الرمح، بل يحملونها استعداداً لما قد يحدث.إذاً: وَلْيَأْخُذُوا [النساء:102]، وهذا أمر، يأخذون ماذا؟ أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، وما قال: سيوفهم؛ لعلمه أن يوماً سيأتي ما ينفع فيه السيف. فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102]، أي: فإذا سجدت يا رسولنا ومن معك فليكن أولئك الحاملون للسلاح من ورائكم يحمونكم. مرة أخرى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، ولا يضعونها، بل يصلون وأسلحتهم على أعناقهم وأكتافهم، فَإِذَا سَجَدُوا [النساء:102] أي: الذين معك، فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102]، أي: أولئك الذين هم كالحرس يحمونكم. وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102].ولصلاة الخوف أكثر من إحدى عشرة صورة، وكل ذلك بحسب شدة الخوف ووضع المعركة، وهذه الصورة التي في هذه الآية تقتضي أن يكون العدو غير حاضر، وإنما نتوقع هجومه علينا فقط، وفي هذه الحال يقول إمامنا بعد أن يقيم الصلاة فينا: فلتأت طائفة ولتصل ورائي، فيصفون ويصلون وراء الإمام، والطائفة الأخرى تقف في وجه العدو، والكل سلاحه في يده أو على كتفه، فيصلي بالطائفة الأولى ركعة ويبقى واقفاً وهم يتمون لأنفسهم، ثم يذهبون إلى المعسكر، فيقفون موقف أولئك، ثم يأتي أولئك فيصلي بهم الإمام ركعة ويبقى جالساً ويقومون هم فيصلون الركعة الثانية ويسلم بهم الإمام جميعاً.وخلاصة القول: أن هذا بحسب وضع المعركة، فأحياناً يتطلب منا أن نصلي ونحن على صهوات الخيول، والرجل يجري وهو يصلي، والمهم أن صلاة الجماعة هي منبع الفضائل الإسلامية، ومصدر المودة والإخاء والتعاون، وقوام هذه الملة، فلا تترك حتى في حال الحرب، بل حتى في شدة الخوف، والله ليصلين أحدهم وهو يطارد العدو، وذلك خوفاً من أن يفوته، وأما الهارب فلا تسأل. إذاً: للمسلم في الحرب أن يصلي بالإيماء، أو يصلي على ظهر الخيل بالإيماء والإشارة، وليس شرطاً أن يأتي بالركوع والسجود، وإنما بحسب وضع المعركة، فإن تطلب منا الوضع أن نصلي ونحن نهاجم العدو نصلي بالإيماء والإشارة، إن لم يتطلب منا الوضع لأننا ما أطلقنا الرصاص بعد، والعدو ينتظر متى نغفل حتى ينصب علينا، فنقسم أنفسنا إلى قسمين، فقسم يقفون في وجه العدو، وقسم يصلي ركعة مع الإمام، ثم يتمون لأنفسهم والإمام واقف ينتظر، ثم تذهب حتى تقف في وجه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلون وراء إمامنا الركعة الثانية، ركعتين، ويبقى الإمام جالساً فيصلون الركعة الثانية ويسلم بهم، ولا نقول: كيف هذا؟ هذا تشريع الله وقد أذن الله فيه ولا حرج.واسمعوا إلى الآيات مرة أخرى، يقول تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، وقد أبطلنا قول من قال: ليس هناك صلاة خوف إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم! وتسعة وتسعون في المائة قالوا: صلاة الخوف تصح وراء إمامنا في المعركة، ولا نحتاج إلى رسول الله في كل مكان، والمهم أن هذا القول لا التفات إليه، وأما قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، فلأنه يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن ينزل وهو يشرع ويبين، والإنسان الذي قال بهذا القول مهما كان قد تزل قدمه، إذ قد يخطئ البشر، لكن ما نأخذ بأخطاء شخص ونترك صواب مائة، فدائماً كن مع جماعة المسلمين، أما أن يشذ شاذ فنجري وراءه فإننا سنهلك، ثم ما الداعي إلى ذلك؟ وهل هو أفضل أم أمة كاملة أفضل؟ ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بالجماعة ). وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102]، أي: الآخرون الذين يحمونكم، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى [النساء:102]، هي نفسها، لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102].ثم قال تعالى: وَدَّ [النساء:102]، من؟ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:102]، ومعنى: (ود): أي: أحب، وهي تعني أكثر من كلمة الحب. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ [النساء:102]، يخبر الله تعالى عما في قلوبهم، إذ هو خالق القلوب وعالم بحركاتها. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102]، فإذا مالوا عليهم وهم يصلون أكلوهم. وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [النساء:102]، وتصلوا؛ لأنه إذا كان هناك مطر وشخص مريض ما يقوى على حمل سلاحه فله أن يضع سيفه بين يديه ولا حرج، وهذه رخصة ثانية.يقول تعالى: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:102]، أي: لا إثم ولا حرج، إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [النساء:102]، وهذه رخصة، وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، أي: يجب أن تأخذوا حذركم من عدوكم. إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102]، أي: إن الله قد هيأ للكافرين عذاباً مهيناً يهينهم ويكسر أنوفهم ويذلهم بأيديكم أيها المؤمنون.

يتبع

ابوالوليد المسلم
30-04-2021, 02:17 AM
تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فاذكروا الله...)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103].إذاً: خلقنا للذكر فقط، فقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، سواء كنا في الصلاة أو في الجهاد، فإذا اطمأننا، فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وهذا اللفظ يدخل فيه كل مؤمن ومؤمنة، فإذا فرغ من الصلاة فيذكر الله عز وجل وإن كان يمشي، وإن كان يقود سيارته، بل يقود طيارته وهو يذكر الله، إذ إن ذكر الله غذاء روحي يزيد في طاقة إيمانك، ويزيد في طاقة صبرك، ويزيد في طاقة كمالك، ويدخل فيه الدعاء وأنواع الذكر؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وهذا اللفظ أيضاً يدل على أنه إذا اشتدت المعركة نصلي على أي حال، فلك أن تصلي وأنت جالس والرشاش في يدك؛ لأنك إن قمت ضربك الآخر برصاصة، بل ممكن أن تنام على جنبك حتى تتقي الرصاصة، وثم أنت تذكر الله وتصلي. فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ [النساء:103]، وزال الخوف والإعياء والمرض، فإذا اطمأننتم ماذا تصنعون؟ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: أقيموها كما تقام في حال الأمن والصحة والعافية، وأتموها على الوجه الذي نزل به جبريل وعلم رسول الله كيف يصلي، فيقوم ويقرأ ويطمئن في الركوع وفي السجود وفي الجلوس. فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ [النساء:103]، يعني: زال الخوف وسكنتم فأقيموا الصلاة، وإن قلت: لم يا الله؟ والجواب: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: كتاب مؤقت، صلاة مؤقتة، فلا تستطيع أن تصلي أي صلاة في غير وقتها، إذ إن الصلاة مؤقتة بأوقاتها المحددة من قبل ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه، فلا تصح صلاة قبل وقتها أبداً إلا ما أذن فيه عز وجل، وذلك كالجمع بين الصلاتين للمسافر والمريض كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، وقد نزل جبريل فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح عند الكعبة في أول وقتها، ثم جاء الظهر فصلى بالرسول عند الكعبة في أول وقتها، وجاء كذلك في العصر وفي المغرب وفي العشاء، ثم جاء اليوم الثاني فصلى به جميع الصلوات في آخر الوقت، ثم قال له: ما بين هذين وقت، أي: ما بين صلاتنا أمس وصلاتنا اليوم وقت، فمثلاً: يؤذن للظهر على الساعة الثانية عشرة وربع، وهو في اليوم الثاني جاءه في الثالثة فصلى به، والعصر في الثالثة والربع، فهذه الربع الساعة ما بين هذين وقت، وهكذا صلى العصر عند الساعة الثالثة والربع، وفي اليوم الثاني الخامسة والربع صلى العصر، وقال: ما بين هذين وقتين، إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].
تفسير قوله تعالى: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم...)
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104].ثم قال تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: يا أولياء الله! يا جيش الرحمن! لا تهنوا ولا تضعفوا، والوهن هو الضعف والانهزام والخور. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: في طلب العدو وأنتم تجاهدون. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، لجراحات أو تعب أو مرض أصابكم. فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ [النساء:104]، أي: هم، فإذا تألمنا نحن للتعب وللجوع وللمرض وللحرب الدائرة من ساعات طويلة، فالعدو هو أولى بهذا الألم. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، وشيء آخر: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، فرق ما بينكم وبينهم، فأنتم ترجون المغفرة والعزة والنصر وهم آيسون من هذا لا يرجونه؛ لأنهم كفار لا يؤمنون بالله ولا بلقائه. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104]، فاقبلوا إرشاداته وتوجيهاته بل وأوامره؛ لأنه عليم بما يقنن ويشرِّع، حكيم لا يضع الشيء إلا في موضعه، فلو جاء من يقول: لا داعي لصلاة الخوف! والله ما نقبل كلامه؛ لأن المشرع ما كان جاهلاً فأخطأ، ولا كان أحمقاً ما يدري الأول من الآخر فوضع أشياء وهي خطأ، إنه عليم بخفايا الأمور وظواهرها، عليم بما بين أيدينا وما خلفنا، عليم بما في صدورنا، حكيم في كل شرعه وعمله، فلا يضع الشيء إلا في موضعه، والحكمة ما عرفناها إلا منه، إذ هو واهبها ومعطيها.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
هيا نتلو عليكم الآيات مرة أخرى، يقول تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، وقد زال الخوف وبقيت هذه الرخصة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله عمر: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )، فبقيت هذه السنة إلى يوم القيامة.ثم قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] أي: للصلاة، وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا [النساء:102]، أي: الآخرون من ورائكم يحمونكم، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى [النساء:102]، أي: بعد صلاة الركعتين، لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [النساء:102]، أيها القائد صلى الله عليه وسلم، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] فهذه هي صلاة الخوف. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102]، فماذا يتركون لهم لو مالوا عليهم ميلة واحدة؟ يأكلونهم، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [النساء:102]، وقد تقدم أنه يصلي والسلاح، لكن إذا كانت حالة مطر شديد أو كان الرجل مريضاً ما يقوى على حمل السلاح والصلاة به، فقد أذن له الشرع بأن يضع سلاحه بين يديه، وهذه رخصة من الله تعالى، ولكن وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، لم؟ قال: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102]، ومعنى هذا: أنكم منتصرون أعزاء، وأما عدوكم فقد هيأ الله له الذل والهون والدون؛ لأنهم كفروا به، إذ إنه يطعمهم ويسقيهم وهم يجهلونه ولا يسألون عنه، ولا يحمدونه ولا يشكرونه.ثم قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، ماذا نصنع؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وهذه عامة إلى يوم القيامة، إذ لا يوجد مؤمن منا يقول عند الانتهاء من صلاته: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم يخرج ولا يذكر الله أبداً! أعوذ بالله، ولذلك إن كان هناك وقت متسع فيجلس على الأقل فيقول: استغفر الله ثلاث مرات، ثم يقول: ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام )، ثم يقول: ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )، ثلاث مرات، ثم يقول: سبحان الله ثلاث وثلاثين، والحمد لله ثلاث وثلاثين، والله أكبر ثلاث وثلاثين، ثم يختم المائة فيقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له، الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ثم يقرأ آية الكرسي، والمواظبة عليها ضمان له بالجنة بإذن الله، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو الله ويسأله حاجاته، وإن كان مضطراً أن يخرج فليس هناك ما يمنعه أن يسبح الله وهو يمشي أو وهو على دابته، فهل فهم الصالحون هذا أو لا؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، حتى الصلاة أيضاً تتضمن هذه الآية، فإذا لم يستطع أن يصلي وهو قائم فيصلي وهو قاعد، أو ما استطاع أن يصلي وهو قاعد فيصلي على جنب، أو ما استطاع أن يصلي على جنبه فيصلي وهو مستلقٍ ويومئ برأسه أو بعينيه.وقوله: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ [النساء:103]، وما زالت عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النساء:103]، أي: المؤمنين الصادقين، كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: محدد الوقت، فالكتب تأكيد والوقت معين.ثم قال عز وجل: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: لا تضعفوا في طلب العدو أيها المجاهدون، ونخشى أن يسمع التائهون والضائعون فيقولون: الشيخ يقول: المجاهدون، نعم، المجاهدون الذين قادهم إمام بايعته الأمة فقادهم إلى دار الكفر ليدعو أهلها إلى الدخول في الإسلام، أو ليفتحوا المجال لتعليم تلك الأمة وإنقاذها من الكفر والخبث والشر والفساد، فإن أبوا إلا القتال فالقتال، وذلكم هو الجهاد، أما عصابات تتعنتر وتخرج عن الإمام وتلتحق بالجبال وتختبئ ويقولون: هذا جهاد! فبئس الجهاد، ووالله ما هو بالجهاد، إنما هي الفتنة العمياء والضلال المبين، وممكن واحد من الجالسين يقوم يتعنتر ويبين لنا، دلونا ماذا أنتجت تلك الطفرات؟ هل أوجدت دولة إسلامية؟! من إندونيسيا إلى بريطانيا ثلاثة وأربعين دولة ما استطاعت دولة واحدة أن تقيم الصلاة فقط أبداً، أو أن تجبوا الزكاة، أو أن تشكل فيها لجنة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل ذلك لأن الأمة هابطة جاهلة لاصقة بالأرض. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي قوم؟ الكفرة المشركون الذين يحاربونكم. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، فهم أيضاً يألمون، إذ إنهم بشر مثلكم، وبالتالي ما داموا يألمون وأنتم تألمون فأنتم أولى بالثبات والوقوف في وجوههم. فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، وهذا هو الفضل العظيم، فنحن نرجو إذا متنا أن نموت شهداء نبيت في دار السلام، وهم يبيتون في جهنم، وإذا انتصرنا نشرنا العدل والخير والطهر والصفا، وهم إذا انتصروا نشروا الخلاعة والدعارة والكفر والشر والفساد.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
30-04-2021, 02:18 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (55)
الحلقة (278)
تفسير سورة النساء (6)

لقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال، بحجة أنهما لا يركبان فرساً ولا ينكيان عدواً، لكن لما جاء الإسلام ونزل الكتاب بين أن المرأة والطفل لهما حق في الميراث، وفي هذه الآيات يوجه الله عز وجل المؤمنين إلى أنهم إذا حضروا احتضار أحدهم فلا يسمحوا له أن يحيف في الوصية، بأن يوصي لوارث، أو يوصي بأكثر من الثلث، أو يريد حرمان الورثة بأي وجه من الوجوه.
الخلاف في كون البسملة آية في كل سور القرآن إلا سورة براءة
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك!وها نحن مع سورة النساء المدنية، وسبقتها سورة آل عمران المدنية، وسبقتها سورة البقرة المدنية، وسبقتها سورة الفاتحة المكية المدنية، نزلت بمكة ونزلت بالمدينة، فمرة نزلت بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، وأخرى بدونها، فمن هنا من رأى نزولها بـ: بسم الله الرحمن الرحيم جعلها آية من آياتها السبع، وفرض قراءتها في كل قراءة، ومن رأى نزولها مرة ثانية بدونها رأى آياتها سبع آيات بدون بسم الله الرحمن الرحيم.والمذهب الجامع والطريق السديد: هو أننا لا ننكر على من لم يقرأها، ولا ننهى من قرأها، ونحن إن كنا أئمة نصلي بالناس نفتتح الفاتحة بـ: بسم الله الرحمن الرحيم سراً، ولا نجهر بها؛ حتى لا يتألم من يرى عدم قراءتها، ونقرأ بها لما ثبت من أنها نزلت بها. وبسم الله الرحمن الرحيم فاتحة كل سورة من كتاب الله، وليست بواجبة، وإنما الوجوب في آية من سورة النمل، فتلك بالإجماع آية من سورة النمل.لعلكم ما اطمأنت نفوسكم إلى هذا البيان، لا حرج، كل ما في الأمر أننا نهبط إلى أن تجتمع كلمتنا، ولا نختلف بيننا، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه:( صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووراء أبي بكر ووراء عمر فكانوا يفتتحون القراءة بـ: الحمد لله رب العالمين ) هل هناك من هو أعلم من أنس برسول الله وهو سيده ومولاه وأبي بكر وعمر ؟ هذا حديث في الصحيحين وفي الموطأ.فمن هنا الذي يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] أعظم أجراً، فمن هنا أخذاً بالحديث الصحيح ما نجهر بها، إذ من الجائز أنهم كانوا يسرونها سراً، ويرفعون أصواتهم بـ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] للفرق بين البسملة وبين آية من سورة الفاتحة.ومن رأى كالإمام الشافعي أنها آية: ألزم تلامذته ونفسه بأن يجهروا بها ويقرءوها.قلنا: لكم ذلك، فأنتم ما عصيتم الله! وأنتم طالبون رضا الله بسملوا، وما بقي بيننا خلاف.ومن قال: كيف تسقطون آية من كتاب الله؟ هذا كفر. قلنا: لا! لا تقل هذا يا عبد الله! السورة نزلت مرتين، قرأها جبريل على رسول رب العالمين فمرة بسمل، ومرة لم يبسمل، فقلنا: ليست آية، وإنما هي افتتاح السورة كما افتتحت بها عامة سور القرآن إلا براءة؛ لأنها إعلان حرب، ما يحسن ذكر بسم الله الرحمن الرحيم مع ذكر الضرب بالسيف!إذاً: بسم الله الرحمن الرحيم موجودة في كل سور القرآن، وهذا المصحف أمامكم اللهم إلا سورة براءة، ما السر؟ إعلان الحرب: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:1-3] الآيات، فلم يحسن أن تفتتح بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، التي تحمل راية الرحمة.الحمد لله، العلم ما يؤخذ في ليلة واحدة، الله يعلم أننا ظالمون،لم؟ كيف نفتتح آية بها الأحكام الكثيرة ونريد أن نفهمها ونحفظها في يوم واحد؟ ما هو صحيح، والله ما نحن بمستقيمين في هذا الباب، تعودنا أن حكماً واحداً يتقرر ويتكرر؛ حتى يصبح من الضروريات للعبد الذي يطلبه، وبذلك يستقر في نفسه، ويقوى على تطبيقه، والدعوة إليه.عرفتم خطأنا؟ هيا نستغفر الله إذاً، اللهم اغفر لنا وتب علينا، اللهم اغفر لنا وتب علينا!
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً...) من كتاب أيسر التفاسير
والآن أذكركم بالآيتين الكريمتين اللتين درسناهما بالأمس، ونستعرض هداياتهما، هل نحن علمنا؟ حفظنا؟ هل في نفوسنا شك فنحتاج إلى بيان؟! ثم ننتقل إلى ثلاث آيات أخرى.تلاوة الآيتين بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لا نقول: بسم الرحمن الرحيم، وإن قلناها لا بأس، فإذا كانت أول السورة فمن السنة أن نفتتحها بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، ونقدم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أيضاً، وإن كانت الآيات في أثناء السور وداخلها فالطريق السليم المعهود عن السلف الصالح أن نفتتحها بـ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أي: نتحصن بالله؛ حتى لا يفسد علينا قراءتنا، ولا يرمي ألواناً من الشك والاضطراب في نفوسنا؛ لأنه بالمرصاد، لا يريد أن نسعد ولا أن نكمل ولا أن نتعلم.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [النساء:5-6].
هداية الآيات
هاتان الآيتان تحملان هدايات.. تحملان أحكاماً شرعية؛ لأن السورة مدنية، حيث كان القانون تتوالى أحكامه يومياً لمدة عشر سنوات.قال: [ من هداية الآيات: أولاً: مشروعية الحجر على السفيه لمصلحته ] وقد يكون السفيه امرأة، وقد يكون رجلاً، من السفيه؟ الذي ما يحسن التصرف في المال، يسرف فيه، يكثر من إنفاقه، حتى يفتقر ويصبح عالة على المجتمع.وما معنى الحجر؟ حجرة على رأسه؟! ما الحجر؟ كأن تضعه في حجرك، لا تسمح له أن يتصرف، حجرت عليه؛ لأنه يتصرف تصرف السفهاء بالمال، وهذا المال مال الأمة، (أموالكم)، والمال قوام الأعمال، وقد قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5] لا بالتشنيع والتنفير والسب والشتم: يا أحمق! يا سفيه! لا. حرام هذا. لم إخوانكم ما يحجرون على سفهائهم؟ للجهل. ما عرفوا، وإلا فالأسرة إذا ظهر فيها فرد مبذر ينفق في المعاصي.. يبدد في المال يجب أن يصدر حكم من المحكمة على هذا الشخص حيث لا يشترى منه إذا أراد أن يبيع، ولا يباع له إذا أراد أن يشتري؛ لأنه محجور عليه، فهو يتصرف في حدود المعروف فقط، حتى إذا زال السفه وحل محله الرشد والبصيرة والمعرفة أعطوه ماله يبيع ويشتري.لم نفعل هذا؟ حفاظاً عليه أولاً، وحفاظاً على مال الأمة التي تعيش عليه.هل تعرفون التصرف الباطل؟ أعطيكم مثالاً: يا شيخ! اشتر سيارة، هذه التي معك كم سنة تستخدم؟ والسائق يتململ ويتبجح هذه ما تمشي يا شيخ! ما دامت هذه السيارة تحملك، وتأتي ببضائعك إلى بيتك لم تستبدلها؟ تبيعها بعشرة أو عشرين وتشتري أخرى بتسعين؟ أيجوز هذا؟ هذا مثل من الأمثلة.هذا الحذاء صالح نافع طيب، قالوا: بدله، فقد طالت عليه المدة له سنة كاملة، هذا عدنان غلبنا وجاء بحذاء جديد، لا يحل الإسراف في المال وتضييعه.أولاً: ريال واحد تنفقه في معصية الله شر إسراف وأعظمه، ولا يحل أبداً، بله نصف ريال تنفقه في غير مرضاة الله فهو من الإسراف القبيح، وصاحب عرضة لسخط الله وعذابه، عرفتم هذا؟ وما ينفق في طاعة الله وإن أنفقت الكثير لا يقال فيه: إسراف، ما دام في طاعة الله عز وجل.ما هي السبل التي ينفق فيها المال وتكون في طاعة الله؟الصدقات، الأوقات، الجهاد، صلة الأرحام، معالجة المرضى، في سبيل الله.. هذا سبيل الله، وإن كان أيضاً لا بد من الاعتدال والقصد، وإليكم هذا الحديث الشريف يحضرنا الآن وهو: لما مرض سعد بن أبي وقاص المكي المهاجر لا سعد بن معاذ الأنصاري ، لما مرض سعد بن أبي وقاص وكان مرضه شديداً فعاده النبي صلى الله عليه وسلم، ما معنى عاده؟ زاره. وعيادة المريض سنة من سنن الإسلام، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد : ( يا رسول الله! إني ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة واحدة، فأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قال: فشطره -أي: نصفه- قال: لا. قال: الثلث. قال: الثلث، والثلث كثير ) الثلث لا بأس، والثلث كثير، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنك يا سعد ! أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة -أي: فقراء- يتكففون الناس ) هذا هو القول السديد، وقولوا لهم قولاً سديداً. لا نطيل على السامعين والسامعات، القصد القصد! في الإنفاق في الطعام في الشراب في اللباس في المركوب في السكن، وإياك والمباهاة والمفاخرة وإظهار العنتريات، لا! أنت عبد الله أليس كذلك؟ والعبد كيف حاله؟! إن شاء الله استفدنا هذه.إذاً: مشروعية الحجر عرفناها من الآية أم لا؟ وهي قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5]. [ثانياً: استحباب تنمية الأموال ].كيف تنمي الأموال؟ كانت ألفاً فأصبحت ألفاً ومائتين! كانت خمسين ألفاً فأصبحت سبعين ألف، تنمو كما ينمو الشجر والعشب.[ثانياً: استحباب تنمية الأموال في الأوجه الحلال ] لا في الأوجه الحرام كالربا وتجارة الحشيشة، وكالفيديو والتلفاز وفي آلات الأغاني وفي أزياء العواهر والمشركات، بل ينبغي أن ننمي أموال فقرائنا ويتامانا وسفهائنا وأموالنا .. ننميها لتنمو وتكثر في أوجه الحلال، فلا تفتح دكاناً في المدينة تبيع فيه السيجارة، ولا تفتح قهوة تبيع فيها آلات الشيشة. لا تغضبوا، سوف تضحكون في القبر إن شاء الله، لا تفتح استوديو التصوير، وإياك أن تبيع آخرتك بدنياك الهابطة! أصحيح هذا؟ إي والله ( إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون ) قد يقول النحوي: لم ما قال: المصورين؟ قالت العلماء: من أجل أن يلفت النظر إلى الخطأ؛ حتى تقيس المصورون؛ لأنهم يضاهون خلق الله، ومن هنا اقترحنا على حكومتنا من سنين أن تأتي بكافر من الكفار الفقراء من الفلبينيين وتجعله في البلدية يصور في الجوازات. أيما مواطن يحتاج إلى صورة فهذا الكافر يصوره! أين نحتاجه؟ في البلديات .. في الجوازات .. في المستشفيات، حيث نحتاج إلى التصوير! اجعل هذا الكافر -وهو من أهل النار- يصور، وإذا قال: لم أنا ما أتوب وأسلم وأدخل الجنة؟ تفضل، اغتسل وتعال صل، ونبحث عن مصور آخر من أهل النار. معقول هذا الكلام أم لا؟ إذاً: [ استحباب تنمية الأموال ] في البنوك؟ لا! تودع مالك في بنك على أن تعطى كل سنة مائة ألف تعيش عليها، وتدع المليون هناك ينمى لك، فهذا لا يجوز، والله لأن تعيش على الكسبر والفلفل وكسور الخبز أحب إليك وأفضل من أن تعيش على هذا المبلغ المالي المحرم عليك؛ لأنها أيام وتنتهي، أطال الله عمر شيخكم، أصبح يستحي لما يقول: معشر الأبناء والإخوان! أين الإخوان؟ ماتوا، أولئك الذين كانوا في وجوههم البياض والشيب انتهوا، أين هم؟ وعما قريب تسمعون: مات الشيخ الجزائري .والله العظيم! ما هي إلا أيام فقط وتنتهي، كيف تبيع خلدك في دار السلام مع مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من أجل أوساخ قذرة؟ تستطيع أن تصوم على الخبز فقط، تستطيع أن تعيش ستين سنة وأنت جائع ولا تبالي، وأنت عزب ولا تفكر في فسق وخروج عن طاعة الله.قال: [ ثالثاً: وجوب اختبار السفيه قبل دفع ماله إليه ].من أين أخذنا هذا؟ من فرض علينا أن نمتحنه ونختبره؟ الله، فقد قال تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6]. ما معنى ابتلوهم؟ بالعصا يعني؟! اختبروهم، أعطه عشرة ريالات وقل له: جئنا بكذا، وانظر كيف يتصرف. وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6] والسفيه كاليتيم أيضاً، فإذا عرفنا أنه أصبح صالحاً لأن يأخذ ماله نمتحنه، فإن نجح أعطيناه ماله.قال: [ رابعاً: وجوب الإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه وبعد رشده ].هل عرفنا بم البلوغ يتحقق؟ أما في الغلام فإنبات الشعر حول العانة، وببلوغ الثامنة عشر من عمره، وأما الجارية فإنها تزيد على الإنبات بالحيض والحمل؛ فإن حاضت الجارية بلغت سن الرشد، ما حاضت لكن حملت، الولد في بطنها، يبقى شك في أنها بلغت؟ ما يبقى شك! إذا:ً [ خامساً: حرمة أكل مال اليتيم والسفيه مطلقاً ].لا يجوز أن تأكل مال السفيه، حجرت عليه وتأكل ماله، يجب أن تنميه وأن تحفظه له، وأن تنفق عليه منه في حدود فقط، حتى إذا ثاب إلى رشده وأصبح أهلاً للتصرف تعطيه أمواله، واليتيم كذلك تنمي ماله وتحفظه إذا بلغ سن الرشد ورشد ادفع إليه وأشهد عليه.من أين أخذنا هذا؟! وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6].قال: [سادساًً: الوالي على اليتيم إن كان غنياً فلا يأكل من مال اليتيم شيئاً، وإن كان فقيراً استقرض منه ] على أساس أن يرده يوم ما ييسر الله عليه [ ورد عند الوجد واليسار، وإن كان مال اليتيم يحتاج إلى ] عمل هل الوصي يعمل فيه؟ يعمل، بأجرة أو بدون أجرة؟ إذا كان فقيراً بأجرة كأجرة مثيله، هذا المال يحتاج إلى حراسة، الحارس عادة كم يعطى؟ يعطى مثلاً ألف ريال، أنت أيها الوصي! احرس وخذ الألف وما تزيد على الأجرة، هذا العمل يحتاج إلى رفع ووضع وإدخال وإخراج مثلاً وأنت فقير؛ اعمل هذا العمل وخذ أجرة مثلك، اسأل عن العمال في هذا الشأن كم يعطون؟ خذها أنت. واضح هذا المعنى؟قال: [ وإن كان مال اليتيم يحتاج إلى أجير للعمل فيه جاز للولي أن يعمل بأجرة المثل ].لا يزيد ولا ريالاً واحد، هذه التعاليم من أنزلها؟ من شرعها؟ من قننها؟ الله رب العالمين، هذا الذي كفره الإنس والجن، ليهلكوا ويعيشوا إلى جهنم، كيف ينسون الله وهذه تعاليمه وهذه هدايته؟

يتبع

ابوالوليد المسلم
30-04-2021, 02:19 AM
تفسير قوله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ...)
والآن مع أربع آيات موضوعها متحد، فهيا نسمعكم تلاوتها، يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7] ما معنى هذه الآية؟ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ [النساء:7] بعد موتهما، الأب والأم أم لا؟ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7] كالأخ والأخت ومن إلى ذلك، مِمَّا قَلَّ مِنْهُ [النساء:7] سواء مليون أَوْ كَثُرَ [النساء:7] مما قل ريال، أو كثر عشرة نَصِيبًا [النساء:7] قسطاً مَفْرُوضًا [النساء:7].هذه الآية المجملة قررت قسمة التركات، أما تفصيلها جاء في: يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النساء:11] بعد ثلاث آيات، ولها سبب في نزولها. ‏
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ معنى الآيات:لقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الأطفال ] قبل نزول هذه الآية أهل الجاهلية لا يورثون طفلاً ولا امرأة، لم؟ قالوا: المرأة لا تقاتل، والولد كذلك. لم نعطيهم المال؟ هذا المال لمن يحمل السيف ويدافع عن الحي والبلاد!قال:[ لقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الأطفال بحجة أن الطفل كالمرأة لا تركب فرساً، ولا تحمل كلاً، ولا تنكي عدواً ].قانون هذا؟ سمعتم الحجج أم لا؟ قالوا: والطفل كالمرأة لا تركب فرساً المرأة، بمعنى: لا تقاتل عن البلاد، ولا تحمل كلاً، إذا شخص كل وعجز لضعفه وفقره المرأة ما تفعل شيئاً معه، والطفل كذلك، ولا تنكي العدو، المرأة تجرح العدو أو تزعجه؟قال: [ يكسب ولا تكسب، وحدث -حصل- أن امرأة يقال لها: أم كحة ] تعرفون كحة أم لا؟ هذه تسمى: أم كحة ؛ لأنها تكح، [ مات زوجها، وترك لها بنتين، فمنعهما أخو الهالك ] أي: عم البنتين [ من الإرث ] قال: المال مال أخي، أنا أولى به، أما المرأة والبنتان لا حظ لهما! لا تنكي عدواً ولا تركب فرساً ولا تحمل كلاً.قال: [ فشكت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكشو إليه [ فنزلت هذه الآية الكريمة ] لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7] لها أثر أم لا؟ إليكم كيف جاءت تشكو.قال: [ لما شكت أم كحة أخا زوجها وجاء معها قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ( انطلقا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن ) فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليهم وإبطالاً لقولهم وتصرفهم الجاهلي؛ إذ المفروض أن الصغير والمرأة أولى بالإرث لحاجتهما وضعفهما ] أليس كذلك؟ فكيف يكون الرجل أولى، المرأة والطفل أولى بالتركة للضعف والعجز، لكن قانون الجاهلية قالوا: المرأة والطفل ما يدافعان عن البلاد ولا يحمل كذا ولا كذا، أبطل الله هذه القاعدة الجاهلية وحل محلها الهدي الإلهي. لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا [النساء:7] حظاً مَفْرُوضًا [النساء:7] فرضه الله. وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8].الجمهور: على أن الآية منسوخة، لكن ابن عباس قال: لا. بل هذه الآية محكمة، وقد عشناها وطبقناها ونحن لا نعرف، والله طبقت في قرى المؤمنين، لما نجذ قناطير التمر يوم الجذاذ، ويقسم التمر على الورثة، صاحب السدس سدس، صاحب النصف، صاحب الثلث، الخماس هذا يأخذ الخمس، الفلاح الذي يسقي ويؤبر له الخمس، لما نكون نقسم يأتي الفقراء من الأقارب بزنابيل وأكياس، مع أنهم لا يرثون لكن يجلسون وينتظرون، ولما نقسم نعطيهم كذلك، صاع صاع كذا كذا، سبحان الله! بركة هذه الآية، ولا نفهمها!فـابن عباس قال: محكمة، فعندما تأخذون في قسمة المال ويحضر بعض الفقراء من بعض الأقارب الذين لا يرثون وهم محتاجون أعطوهم شيئاً فشيئاً، وامسحوا دموعهم، آمنا بالله. قال تعالى: وَإِذَا حَضَرَ [النساء:8] ما معنى حضر؟ جاء وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ [النساء:8] علم أنهم يقسمون الليلة التركة الفلانية. وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى [النساء:8] أصحاب القرابة ما هم وارثون، كعمة أو خالة وهم فقراء ما يرثون. وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ [النساء:8] حتى اليتيم دائماً يتتبع من يقسم يحضر معه. فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء:8] أعطوهم شيئاً من ذاك الذي تقسمون. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8] إذا شححتم وما أعطيتم أو أعطيتم قليلاً قولوا لهم قولاً معروفاً: هذا الذي حصل وبارك الله لك فيه، وسامحنا، أما العنف والشدة والغضب: قوموا، لم جئتم يا طماعون؟! فلا، الله أكبر! أين هذه الأمة؟ ماتت يوم ما جهلت هذه البيانات وما عرفتها، فالقرآن يقرءونه على الموتى، ولا يجتمعون لآية كهذه قط!وهذا أحد الإخوان يقول: نحن في بلادنا نقسم أولاً على الفقراء ثم نقسم التركة، فأقول له: تعال أقبل رأسك إذاً. الحمد لله! ولا بد من بقايا خير، يقول تعالى: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8] لا منكراً بالتعيير والشتم والتقبيح.
تفسير قوله تعالى: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً...)
ثم قال تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9] هذا حكم آخر، ما تفهمونه لو تفكرون فيه إلى غد! أتحداكم؛ لأنكم ما سمعتم به من قبل. وَلْيَخْشَ [النساء:9] يجب أن يخاف، يخشى بمعنى: يخاف أم لا؟ وَلْيَخْشَ [النساء:9] من؟ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ [النساء:9] المريض على فراش الموت، ويجيء الماديون مثلي يأخذون ينصحون له: أوص لفلان بكذا، أوص لفلان بكذا، الورثة كذا، يقول: لفلان علينا دين، له كذا، فيوصونه بما يجعله يأخذ ذاك المال ويوزعه على غير الورثة. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً [النساء:9] أنت يا من توصي بالباطل! ما تخاف غداً تموت وتترك أيضاً ذرية بعدك؟ انظر حالك قبل أن تنظر إلى حال هذا المريض الذي يجلس فينا وهو يعاني آلام الموت ما يوصيه ولا ينصح له بأن يحرم الورثة من المال، بأن ينسب إلى فلان كذا وفلان كذا وفلان كذا. فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9] لأنهم أيضاً سوف يمرضون ويوضعون على سرير الموت، ويجيء من ينصح لهم أيضاً ويفسد عليهم مال أولادهم.تربية عجيبة هذه! ‏
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآية
وإليكم الآية كما هي في الشرح قال تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]. قال: [ فقد تضمنت إرشاد الله تعالى للمؤمنين الذين يحضرون مريضاً على فراش الموت بألا يسمح له أن يحيف في الوصية، بأن يوصي لوارث، أو يوصي بأكثر من الثلث، أو يذكر ديناً ليس عليه، وإنما يريد حرمان الورثة، فقال تعالى آمراً عباده المؤمنين: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ [النساء:9] أي: من بعد موتهم ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ [النساء:9] أي: فليخشوا هذه الحال على أولاد غيرهم ممن حضروا وفاته كما يخشونها على أولادهم.إذاً: فعليهم أن يتقوا الله في أولاد غيرهم، وليقولوا لمن حضروا وفاته ووصيته قولاً سديداً أي: صائباً لا حيف فيه ولا جور معه ].
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً...)
تبقى الآية الأخيرة، وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].حتماً. نعم، أكل مال اليتيم من كبائر الذنوب.. من السبع الموبقات، يقول صلى الله عليه وسلم: ( اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: ما هي يا رسول الله؟! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم ). أكل مال اليتيم من كبائر الذنوب ويكفي فيه هذه الآية، اسمع هذا الخبر: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء:10] بدون حق .. بدون مقابل عمل أو غيره، إنما هم في الواقع يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].وقرأ أبو حيوة : ( وسَيُصَّلَّون سعيراً ) بالتضعيف.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
الآن سأعيد عليكم تلاوة الآيات: قال تعالى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7] وقد أبطلت حكم الجاهلية أم لا؟ ورثت، وسيأتي بيان الورثة في الآية التي بعد هذه: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] بالتفصيل العجيب، كلاً أعطاه الله ما يستحق، هذه مجملة منسوخة.ثاني آية: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8] قال الجمهور: هذه منسوخة بآية المواريث الآتية، وقال ابن عباس وعمل بها المؤمنون. قال: ما هي منسوخة، لما تأخذون في قسمة المال إذا حضر المسكين أو حضر قريب لا حظ له إذاً: أعطوهم شيئاً، أو على الأقل قولوا لهم قولاً معروفاً لا تطردوهم، والحمد لله.الآية الثالثة: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً [النساء:9] كما تخاف على أولادك خف على أولاد أخيك الذي توصيه وهو مريض بأن يجور في وصيته .. الذي تخافه على نفسك خفه على الغير، الذي تكرهه لك اكرهه على غيرك أيضاً، هذا هو الأدب. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ [النساء:9] فلا يجوروا فيما يوصون به المريض، ويشرحون له ويقولون وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]. إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: تقرير مبدأ التوارث في الإسلام ]. ما هي الآية التي قررت مبدأ التوارث؟ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ [النساء:7]. [ ثانياً: استحباب إعطاء من حضر قسمة التركة من قريب أو يتيم أو مسكين، وإن تعذر إعطاؤهم ] ماذا يقولون لهم؟ قولاً طيباً [ وفي الحديث: ( الكلمة الطيبة صدقة ) ].[ ثالثاً: وجوب النصح والإرشاد للمحتضر ] وهو من حضره الموت [ حتى لا يجور في وصيته عند موته ].من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ [النساء:9].[ رابعاً: على من يخاف على أطفاله بعد موته أن يحسن إلى أطفال غيره؛ فإن الله تعالى يكفيه فيهم ].فيا من له أطفال صغار يخاف أن يموت ويتركهم أحسن إلى يتامى وأطفال الآخرين، الله عز وجل يكفيك في أطفالك. [ خامساً: حرمة أكل أموال اليتامى ظلماً، والوعيد الشديد فيه ] وهذا وعيد شديد: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].يا أهل القرآن! لم الشيخ ما يجود القرآن؟ إذا جودنا ما ظهر المعنى، فنقرأه كحديثنا؛ لأنه نزل لتعليمنا، وليس هناك حاجة إلى مد وغنة، ولكن نأتي بالكلمة فصيحة. قرأ أبو حيوة : ( سَيُصَّلَّون ) بضم الياء وتشديد اللام من التصلية التي هي كثرة الفعل مرة بعد أخرى: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة:31] أي: مرة بعد مرة، وعليه قول الشاعر:وقد تصليت حر حربهمكما تصلى المقرور من قرتينمن يعرف المقرور وقرتين نعطيه ألف ريال؟ ما نعرف، اسمع بيت الشعر. يقول: وقد تصليت. هذا من قراءة: ( صلوه ) (تصليت حر حربهم) قبيلة مضادة. (كما تصلى المقرور من قرتين). المقرور: من به القر وهو البرد. وقرتين: مرتين. الأصل القر ضد الحر. القر: البرد، لكن للتجانس والمناسبة قالوا: الحر والقر، ففتحوا القاف لأجل كلمة الحر، الحر والقر.إذاً: هو قال: وقد تصليت حر حربهمكما تصلى المقرور من قرتينوالمقرور: البردان.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
30-04-2021, 02:20 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (56)
الحلقة (279)
تفسير سورة النساء (60)

شرع الله صلاة القصر، وهي رخصة أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله فأصبحت سنة مؤكدة لا ينبغي تركها، ومشروعية هذه الصلاة بكيفياتها المختلفة إنما تدل على أهمية صلاة الجماعة، فهي إن أقيمت حال الخوف والقتال، فمن باب الأولى أن تقام حال الأمن والطمأنينة، فتؤدى في أوقاتها المحددة التي قدرها الله لعباده، وبالكيفية التي بينها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة النساء ومع هذه الآيات الأربع والتي قد درسناها في ليلتين سالفتين، وما زلنا نحتاج إلى فهمها؛ لأنها تحتوي على أحكام فقهية، فهيا نتلوها وتأملوا وتدبروا فيها، ثم إن شاء الله ندرسها كما هي في الكتاب ليتقرر كل معنى إن شاء الله في نفوسنا، ونصبح عالمين بهذه القضية الفقهية الهامة، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا * وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:101-104]. ‏
مشروعية قصر الصلاة الرباعية في حال السفر سواء في الأمن أو الخوف
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، في هذه الآية الأولى الأذن بقصر الرباعية للمسافر ما دام في سفره، وإن قلت: القصر سنة مؤكدة والآية تحمل فقط رفع الحرج، قلنا: إن عمر قد تساءل وقال: يا رسول الله! كيف والله يقول: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا عمر! صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته ). إذاً: إذا قال القائل: الآية فقط فيها رفع الحرج، فأنا لا أقصر وإنما أتم صلاتي، فتقول له: قد استشكل هذا عمر فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب البيان فقال: ( يا عمر! هذه صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته )، فهل هناك من يقول: أنا لا أقبل صدقة الله! أعوذ بالله، والله سيحترق.مرة أخرى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، فقال عمر: ذاك يوم كنا خائفين، أما اليوم فنحن آمنون، إذاً لا نقصر، ولكن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال لـعمر : ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )، فهل عرفتم ما هي الصلاة التي تقصر؟ صلاة الظهر والعصر والعشاء ذات الأربع ركعات فقط.
مشروعية صلاة الخوف والتأكيد على صلاة الجماعة
ثم قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102].هذه الآية تضمنت صفة واحدة من صفات صلاة الخوف، فإذا كنا خائفين من العدو ونحن في ساحة الحرب، فهل نصلي فرادى؟ هل نؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها؟ الجواب: لا، إذ الصلاة لا تؤخر أبداً، بل هي ميعاد بيننا وبين الله، ثم أيحضر الله ونغيب نحن؟! أما نستحي منه عز وجل؟! إنه ميعاد بيننا وبين سيدنا ومالك أمرنا، وهو الذي حدده وعينه، ونحن نقول: لا بأس، ما نحضر! أعوذ بالله.إذاً: علمنا الله تعالى فقال: انقسموا إلى قسمين، فالإمام القائد الأعظم يصف وراءه نصف الكتيبة فيصلون معه، والآخرون بأسلحتهم يرقبون العدو حتى لا يتدفق علينا، ويصلي الإمام بنا ركعة ويبقى واقفاً ونحن نتم ركعة لأنفسنا ونسلم؛ لأنها قصر، ثم يأتي الآخرون ونحن نقف في مكانهم بأسلحتنا ضد العدو، فيصلون ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول يتم صلاة الركعتين فيجلس وهم يتمون ركعة، فإذا أتموها سلم بهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه صورة من عدد من الصور، وتختلف من كيفية إلى أخرى لاختلاف الظروف والأحوال.قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، من هو الذي قال: لا تصلى صلاة الخوف إلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أبو يوسف من علماء الأحناف، ورد عليه كل الناس، إذ ليس شرطاً أن يكون الرسول في كل معركة أبداً، بل ولا في كل زمان، فكل من يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيادة المؤمنين فهو مثل رسول الله في هذا الباب، وهو فقط أخذ واقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم. وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، فيصلي والرشاش على كتفه، والبندقية في يده. وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا [النساء:102]، أي: الآخرون مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى [النساء:102]، هذه بالذات، لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [النساء:102] أيها القائد، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] لم؟ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:102] بجدع أنوفكم، وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى [النساء:102]، وهذه رخصة من الله تعالى، فإذا كان المطر ينزل أو بالرجل مرض، فلا بأس أن يضع سلاح أمامه، قال تعالى: أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [النساء:102]، ثم قال تعالى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، أي: وخذوا حذركم من أعدائكم إلى يوم القيامة. ثم قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، أي: فإذا سلمت من الفريضة فاعلم أنك مطالب بذكر الله على اختلاف أنواعه، وإن كنت في الطائرة، وإن كنت سائراً، وإن كنت جالساً، فاذكر الله عز وجل وخاصة في الحرب، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]؛ لأن قوانا مستمدة من ربنا عز وجل، لذا لا بد أن يكون ذكره في قلوبنا وعلى ألسنتنا، فهو الذي يقوي طاقاتنا ويزيد في قوتنا، فإذا انقطعنا عن الله هبطنا وتمزقنا، فلا تترك ذكر الله يا عبد الله ويا أمة الله إلا إذا كنت على كرسي المرحاض فقط، إذ إن الذي يدخل بيت الخلاء لا يذكر الله تعالى، إذ إن هذا معفو عنه، أما خارج هذا المكان فدائماً اذكر الله، سواء عند الأكل أو عند الشرب أو عند القعود أو عند القيام أو عند الركوب أو عند المنام أو عند الاستيقاظ، والناس يتفاوتون في هذا الميدان، لكن إرشاد الله عز وجل في قوله: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، وذاك في حال الحرب، فصلوا مع الرسول أو مع الإمام ركعة، ثم أتموا الركعة لأنفسكم، وهم مع ذكر الله على كل حال. إذاً: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، على الوجه المطلوب، فأولاً في بيوت ربنا عز وجل، وثانياً في جماعة المسلمين، وثالثاً بأدائها بكل أركانها وشروطها وآدابها كما صلاها جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما صلاها رسول الله بالمؤمنين فقال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وهذا معنى إقام الصلاة إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: مؤقتة ذات وقت محدد، ومواعيد ضربها الملك جل جلاله لعباده، فحرام عليك يا عبد الله أن يحضر الله وتغيب، فالمصلي يناجي ربه والله ينصب وجهه لعبده، فكيف إذاً تهرب وتبعد وتترك الوقت يخرج ثم تأتي وتصلي؟! وقد ورد في الأثر: ( من ترك صلاة واحدة فهو بها كافر )، وورد أيضاً: ( لأن يفقد المرء أهله وماله وولده خير من أن تفوته صلاة العصر في وقتها ).
حرمة الضعف والهون أمام أعداء الله تعالى
وأخيراً قال تعالى: وَلا تَهِنُوا [النساء:104]، أيها الأبطال فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104] الكافرين؛ لجهادهم وإدخالهم في رحمة الله، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، أي: من الجراحات والتعب الذي يصيبكم، فهم يألمون مثلكم كما تألمون، ولكن وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ [النساء:104]، أي: من الأجر والمثوبة والنصر والتأييد ما لا يرجون، وبالتالي فأنتم أحق بالثبات والصبر. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا [النساء:104]، أي: بالأحوال والظواهر والبواطن وبما يقنن ويشرع، وحكيماً [النساء:104]، أي: في كل ما يقنن ويشرع.إذاً: فما علينا إلا أن نقبل تشريعه ونذعن له ونطبقه كما أمر.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

يتبع

ابوالوليد المسلم
30-04-2021, 02:21 AM
هيا بنا أسمعكم شرح الآيات من الكتاب لتزدادوا معرفة.
معنى الآيات
قال المؤلف: [ معنى الآيات: بمناسبة الهجرة والسفر ] وقد عرفنا حكم الهجرة، والهجرة لا تنقطع إلى أن تطلع الشمس من مغربها، وبالتالي كل مؤمن يجد نفسه في بلد لا يمكن أن يعبد الله حرم عليه أن يبقى فيه، بل يجب عليه أن يغادر، أو وجد نفسه في قرية ليس فيها من يعرف الحلال والحرام فيجب عليه أن يهاجر، أو يعيش يأكل الحرام وهو لا يدري. وسيد المهاجرين وأفضلهم هو من هجر ما نهى الله عنه ورسوله، وهذا يحتاج إلى أن يكون الإنسان عالماً عارفاً بما ما نهى الله عنه ورسوله، لا أن يكون أمياً عامياً جاهلاً لا يعرف شيئاً. قال: [ بمناسبة الهجرة ] في الآيات السابقة [ والسفر من لوازمها ذكر تعالى رخصة قصر الصلاة في السفر وذلك بتقصير الرباعية ] أي: الصلاة ذات الأربع ركعات [ إلى ركعتين، فقال تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101]، أي: سرتم فيها مسافرين، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [النساء:101]، أي: حرج وإثم في أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، وبينت السنة أن المسافر يقصر ولو أمن ولم يخف، فهذا القيد غالبي فقط ] إذ الغالب أن المسافر يخاف. قال: [ وبينت السنة أن المسافر يقصر ولو أمن ] أي: من الخوف [ فهذا القيد غالبي فقط، وقال تعالى: إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101] ] وهذه الجملة قال: [ تذييل أريد به تقرير عداوة الكفار للمؤمنين، فلذا شرع لهم هذه الرخصة ] إلى يوم القيامة.قال: [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآيتان بعدها فقد بينت صلاة الخوف وصورتها، وصورتها ] هي: [ أن ينقسم الجيش قسمين: قسم يقف تجاه العدو، وقسم يصلي مع القائد ركعة ] أي: قائد المعركة، سواء كان رسول الله أو غيره [ ويقف الإمام مكانه فيتمون لأنفسهم ركعة ويسلمون ويقفون تجاه العدو، ويأتي القسم الذي كان واقفاً تجاه العدو فيصلي بهم الإمام القائد ركعة ويسلم ويتمون لأنفسهم ركعة ويسلمون، وفي كلا الحالين هم آخذون أسلحتهم لا يضعونها على الأرض خشية أن يميل عليهم العدو وهم عزل فيكبدهم خسائر فادحة، هذا معنى قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102]، يريد الطائفة الواقفة تجاه العدو لتحميهم منه، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]. وقوله تعالى: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102]، سبق هذا الكلام لبيان علة الصلاة طائفة بعد أخرى، والأمر بالأخذ بالحذر، وحمل الأسلحة في الصلاة، ومن هنا رخص تعالى لهم إن كانوا مرضى وبهم جراحات، أو كان هناك مطر فيشق عليهم حمل السلاح أن يضعوا أسلحتهم، فقال عز وجل: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102] ] هذا [ تذييل ] الكلام [ لكلام محذوف دل عليه السياق قد يكون تقديره: فإن كان الكفار فجرة لا يؤمن جانبهم، ولذا أعد الله لهم عذاباً مهيناً، وإنما وضع الظاهر مكان الضمير إشارة إلى علة الشر والفساد التي هي الكفر. وقوله تعالى في الآية الأخيرة: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، فإنه تعالى يأمر المؤمنين بذكره في كل الأحيان، أي: الأوقات، لاسيما في وقت لقاء العدو؛ لما في ذلك من القوة الروحية التي تقهر القوة المادية وتهزمها، فلا يكتفي المجاهدون بذكر الله في الصلاة فقط، بل إذا قضوا الصلاة لا يتركون ذكر الله في كل حال. وقوله تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، يريد إذا ذهب الخوف وحل الأمن واطمأنت النفوس أقيموا الصلاة بحدودها وشرائطها وأركانها تامة كاملة لا تخفيف فيها كما كانت في حال الخوف، إذ قد تصلي ركعة واحدة وقد تصلي إيماء فقط وإشارة في حال الخوف، وذلك إذا التحم المجاهدون بأعدائهم ] وقد بينا هذا فقلنا: يصلي وهو راكب.قال: [ وقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، تعليل للأمر بإقامة الصلاة، فأخبر أن الصلاة مفروضة على المؤمنين، وأنها موقوتة بأوقات لا تؤدى إلا فيها. وقوله تعالى في الآية الأخيرة: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: لا تضعفوا في طلب العدو لإنزال الهزيمة به، ولا تتعللوا في عدم طلبهم بأنكم تألمون لجراحاتكم، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ [النساء:104] النصر والمثوبة العظيمة، مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، فأنتم إذاً أحق بالصبر والجلد، والمطالبة بقتالهم حتى النصر عليهم بإذن الله. وقوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104]، فيه تشجيع للمؤمنين على مواصلة الجهاد؛ لأن علمهم بأن الله عليم بأحوالهم والظروف الملابسة لهم، وحكيم في شرعه بالأمر والنهي لهم يطمئنهم على حسن العاقبة لهم بالنصر على أعدائهم ] وقد فعل، فقد انتصر رسول الله وأصحابه، ففي خلال خمسة وعشرين سنة فقط أو ربع قرن إلا والإسلام من أقصى الشرق إلى أقص الغرب. نقول: من أراد أن ينشئ مصنعاً فقط فحتى يستقيم ويصبح ينتج يحتاج إلى خمس وعشرين سنة، وما مرت خمس وعشرون سنة إلا والإسلام قد انتشر من وراء نهر الهند إلى الأندلس، ولولا نصر الله فكيف يتم هذا؟!
هداية الآيات
والآن امتحنوا أنفسكم بهذه الهدايات القرآنية فتأملوا! قال المؤلف: [ من هداية الآيات: أولاً: مشروعية صلاة القصر ] ما حكم صلاة القصر؟ قال: [ وهي رخصة أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وعمله فأصبحت ] ماذا؟ [ سنة مؤكدة لا ينبغي تركها ] فلو قيل لك: من أين أتيت بهذا؟ من الآية الأولى. قال: [ ثانياً: مشروعية صلاة الخوف ] أي: الصلاة في وقت الخوف، قال: [ وبيان كيفيتها ] كيف نصلي؟ في حدود الطاقة، فإذا كنا ما التحمنا مع العدو بعد، وإنما ننتظره أو ينتظرنا، فنقسم الجيش إلى قسمين، وإذا التحمنا صل وأنت تقاتل بلسانك وقلبك وبالإشارة، وإن كنت هارباً أيضاً إلى القبلة أو إلى غير القبلة فصل على حالك. فإن قيل: يا شيخ! إنهم آمنون غافلون في الطعام والشراب واللباس ولا يصلون؟ ما لهم؟! عمي لا بصيرة ولا نور في قلوبهم، لم خلقت؟ خلقت لتجامع النساء وتأكل الطعام؟ تعالى الله أن يخلق لهذا العبث، وإنما خلقك لتذكره بقلبك ولسانك وتشكره بجوارحك، أما الطعام والشراب والنكاح فقط لتواصل ذكر الله عز وجل ولا تقطعه. قال: [ ثالثاً: تأكيد صلاة الجماعة ] ما معنى صلاة الجماعة؟ كل صلاة من الصلوات الخمس يجب أن تقام في بيوت الله في القرية أو في المدينة أو في الطريق أو في أي مكان، ولذلك فقد كانوا يأتون بالصحابي والله يهادى بين اثنين حتى يضعوه في الصف، إذ إن أكبر مظهر من مظاهر العبادة لله عز وجل أن ترى المؤمنين في بيت الله صفوفاً كالملائكة بالسماء، فإذا تركت صلاة الجماعة فقد انتهى الإسلام. قال: [ ثالثاً: تأكيد صلاة الجماعة؛ بحيث لا تترك حتى في ساحة الخوف وساعة القتال. رابعاً: استحباب ذكر الله تعالى بعد الصلاة وعلى كل حال من قيام وقعود واضطجاع ] فهل أخذتم بهذا أو لا؟ حالنا دائماً أن نذكر الله تعالى إلا في حال واحدة وهي عند التغوط ويبول فقط، قال أبو هريرة: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة. قال: [ خامساً: تقرير فريضة الصلاة ووجوب أدائها في أوقاتها المؤقتة لها ] فقد قال الله تعالى: كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، فما المعنى الكتاب؟ أي: مكتوبة رسمياً بصك وليس مجرد كلام. قال: [ سادساً: حرمة الوهن والضعف إزاء حرب العدو والاستعانة على قتاله بذكر الله تعالى ورجائه ].
حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج
لماذا ما احتفلنا بليلة الإسراء والمعراج؟ ألسنا بمسلمين؟ بلى، ألسنا من أهل السلف الصالح؟ والجواب: أيها الأحباب! وبلغوا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سن في هذه الليلة سنة قط، لا صيام ولا قيام ولا صدقة ولا ذكر ولا قول ولا إعلان أبداً، والله العظيم! وولي الأمر من بعده: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي والله ما عرفوا شيئاً عن هذه الليلة، لا صيام ولا صلاة ولا زكاة ولا طعام ولا لهو ولا أي شيء أبداً.ومضى القرن الأول والثاني والثالث ولا وجود لها، والآن نحييها! كيف نحييها؟ ماذا نصنع؟ هل نغني فيها؟ هل ننشد القصائد؟ هل نقرأ القرآن؟ ماذا نستفيد؟ اعلموا والعلم ينفع، وأهل الحلقة من نساء ورجال على علم، والأسف مع الذين لا يحضرون، أن هذه العبادات التي شرعها الله قد وقتها وقننها بدقة أكبر من مركبات الكيمياويات من أجل تزكية النفس، أي: تطهير الروح البشرية لتصبح كأرواح الملائكة، إذ لا تستطيع أن تطهر نفسك وتزكيها وتطيبها بالماء والصابون والعطورات؛ لأنك لا تمسكها ولا تعرفها، فالذي يزكيها ويطيبها ويطهرها لتتأهل للملكوت الأعلى بعد الموت هو الله عز وجل، إذ إن هذه العبادات التي شرعها الله جل جلاله وبين كيفياتها وكيفية أدائها، وبين أوقاتها رسوله صلى الله عليه وسلم، علتها أنها تزكية النفس وتطهيرها ليتأهل الآدمي إلى أن يخترق السبع الطباق وينزل عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:14-15]. كما أن هذه العبادات ليست من حق أي أحد سوى الله ورسوله، فله سبحانه أن يشرع كلمة فقط ويقول: من قال كذا يحصل له كذا، أو حركة فقط فيقول: من مشى بين كذا وكذا حصل له كذا، وأيما إنسان يبتدع بدعة ويدعو إليها ويعمل بها فهو كالذي يأكل الرمل والحصى والتراب، فهل يشبع؟ لا والله، ومثله كالذي يتمضمض بالخرء والبول والدماء، فهل ينظف ويطيب؟! مستحيل. إذاً: فهذه العبادات التي شرعها الله في كتابه وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته هي التي تزكي النفس بشرط: أن تؤديها كما بينها في أوقاتها وأمكنتها، مثال ذلك: لو أراد المسلمون أن يقفوا بأحد بدل أن يقفوا بعرفة، فهل يصح حجهم؟ مستحيل، أو أرادوا أن يطوفوا بالحجرات النبوية بدل أن يطوفوا بالكعبة، هل يصح هذا الطواف؟ يزكي النفس؟ مستحيل. وعليه فلابد من عبادة شرعها الله تعالى وبينها رسوله وعمل بها أصحابه وأولادهم وأحفادهم وحملها أئمة الإسلام إلينا، أما بدعة ابتدعناها من عند أنفسنا فلا، ولنرفض العمل بها، فهيا بنا، ماذا نعمل في الليلة الرجبية؟ ماذا نصنع؟ فقط نقول: الحمد لله ما عندنا في هذه الليلة شيء، ونحن نعبد الله كما كنا نعبده بالأمس، فقيام الليل هو القيام والصيام هو الصيام.
حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا الذي نقوله في حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج نقوله في المولد النبوي، ثم يا ليتكم تركتم الموالد إلى المولد النبوي، بل أتيتم لنا بمولد السيدة فلانة، ومولد سيدي فلان، ومولد فلان، ومولد فلان، فلا إله إلا الله! اسمعوا! عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأولادهم وأحفادهم ثلاثمائة سنة ما عرف مؤمن شيئاً اسمه: مولد، والله العظيم. وإنما في القرن الرابع بعد سنة ثلاثمائة وخمسة وعشرين ابتدعت بدعة المولد وجاءت من طريق النصارى، والنصارى اليوم يحتفلون بأعياد كثيرة، ونحن للأسف نقلدهم ونعطي إجازات لطلابنا أيضاً، وأظن أن هذا واقع في العالم الإسلامي باستثناء هذه البقعة، فهناك عيد الميلاد! بينما نحن ما عندنا إلا عيدان، عيد الفطر وعيد الأضحى، ومن زاد عيداً فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهله ونسب إليه الكتمان والجحود وترك أمته بلا أعياد. فمن يقف هذا الموقف والعياذ بالله؟! عيدان فقط، عيد الفطر وذلك بعد صيام شهر بكامله، وهو ذاك اليوم الذي تقام فيه الصلاة والخطبة، وتوزع الصدقات، ويحصل التلاقي والمحبة والإعلان عن الفوز والنجاة، وعيد الحج، وذلك يوم الحج الأكبر، يوم عاشر ذي الحجة، إذ الوقفة في يوم تسعة ويوم عشرة عيد، فيفرح المسلمون بنعمة الله عليهم، ويصلون صلاة خاصة محددة الركعات والتكبيرات والمكان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حددها وصلاها. كما أنه ليس هناك شعبانية، أي شعبان هذا؟! رجل اسمه شعبان! والآية التي يحتج بها الضائعون: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:1-3]. فقالوا: هذه ليلة النصف من شعبان، والله ما هي ليلة النصف من شعبان، وإنما هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر في رمضان، فكيف يصرفون أمة الإسلام عن الحق؟! لأنهم يستغلون هذه المواقف، والحمد لله فقد أفقنا وعرفنا الطريق ولن نضل بعد اليوم أبداً. إذاً: هذه البدع وهذه الخرافات كلها من باب صرف الأمة عما يزكي نفوسها ويطهر أرواحها ويعدها للكمال في الدار الآخرة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
30-04-2021, 02:22 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (57)
الحلقة (280)
تفسير سورة النساء (61)


كان طعمة بن أبيرق سارقاً، وذات يوم سرق طعاماً وسلاحاً من بيت أحدهم، فلما عرفت السرقة اتهم أبيرق هذا جاراً له من يهود، وشهد إخوانه على صدق ما يقول، فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن الله أنزل فيهم آية تتلى تفضح أبيرقاً وتبرئ اليهودي، فما كان من أبيرق إلا أن ارتد وفر إلى مكة، وأثناء وجوده فيها دخل بيتاً من بيوتها ليسرق، فوقع عليه الجدار فمات كافراً.
تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة )، ومن أراد أن ينظر إلى هذه السكينة فليقف ولينظر إلى الحلقة، هل فيها هيجان وصياح وكلام واضطراب؟ لا والله، وإنما سيجد السكينة والطمأنينة، ( وغشيتهم الرحمة )، والرحمة واضحة، فهل هناك سب أو شتم؟ سرقة وتلصص؟ خيانة؟ آلام وأمراض حصلت؟ لا أبداً، وإنما الرحمة غشيتنا، ( وحفتهم الملائكة )، أي: أحاطت بهم إكباراً لهم، ولو كنا نقوى على رؤيتهم والله لرأيناهم، ولكن أبصارنا ضعيفة ليست قادرة على أن ترى الملائكة، ( وذكرهم الله فيمن عنده )، وهذه أجل وأعظم، فمن نحن وما نحن حتى يذكرنا الله في الملكوت الأعلى؟ الحمد لله، ومع هذا فالمسلمون محرومون من هذا إلا من رحم الله، والمفروض والمطلوب والواجب أن أهل كل قرية من قرانا عرباً وعجماً إذا للمغرب تركوا العمل وأقبلوا على ربهم يتوسلون إليه، ويتقربون ويتزلفون، ويجتمعون كاجتماعنا هذا، فيدرسون ويتعلمون ليلة آية من كتاب الله تعالى، وليلة سنة من سنن رسول الله، ومع هذا وهم يعملون، فينمون نماءً عجباً، وما تمضي سنة إلا وهم كالملائكة في القرية، فلا كذب ولا غش ولا خداع ولا زور ولا فجور ولا زنا ولا باطل، بل كل هذه المظاهر والله تمحى، ويحل محلها الوفاء والصدق والحب والتعاون الذي لا يمكن أن يتحقق إلا على نور الكتاب والحكمة، فمن منعهم؟ من حرمهم؟ قروناً عديدة وهم يعيشون بعيدين عن القرآن وسنة الرسول حتى هبطنا ولصقنا بالأرض بعدما كنا في الملكوت الأعلى، وا أسفاه! وا حسرتاه! ولا ينفع بكاء ولا تحسر. وها نحن مع هذه الآيات الكريمات من سورة النساء، فهيا نتلوها وتدبروا وتأملوا وتفكروا، إذ هذا كلام ربكم إليكم من أجل هدايتكم وإسعادكم، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:105-109]. إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [النساء:105]، فالمتكلم هو الله تعالى، والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بالكتاب الذي أنزله هو القرآن العظيم، ومعنى قوله تعالى: (بالحق)، أي: مصاحباً وملازماً له، فلا باطل فيه ولا يدعو إليه ولا يتحقق به. لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105]، من منا لم يفهم معنى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:105]؟ في خصوماتهم، في دنياهم، في نزاعاتهم، في كل أحوالهم، في أعراضهم وأموالهم، فالرسول يحكم بينهم بقانون فرنسا؟ بشطحات اليهود؟ بقيصرة اليونان؟ لا والله، وإنما بما أنزل الله إليه. قال: بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105]، أي: بما علمه فيما أنزله إليه، فهل عرفتم كيف وجه الله هذا الخطاب لرسوله صلى الله عليه وسلم؟ ونحن أيضاً مثله، وبالتالي فكل حاكم يجب أن ينزل هذا المنزل، فما أنزل الله عليه كتاباً، أنزله على رسوله، وعلمه إياه وعرفه به، وذلك من أجل أن يحكم بين الناس بما أراه الله وعلمه. وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، أي: ولا تكن للخائنين خصماً تخاصم عليهم وهم خونة وسرق. ولهذه الآيات سبب نزول نذكره أولاً لتفهموا معناها، فقد كان يوجد ثلاثة أنصار: بشر وبشير ومبشر وطعمة بن أبيرق، وطعمة بن أبيرق هذا كان منافقاً يظهر الإيمان ويبطن الكفر؛ لأنه في تلك الأيام كان النفاق موجوداً في المدينة، وما دخلت المدينة كلها في رحمة الله تعالى، وكان لهذا المنافق جار له مشربة فيها طعام وسلاح، فحفر واستخرج الطعام والسلاح، سرقة، فلما صاح المسروق المؤمن ونظر إلى الأحوال والجيران وشعر ابن أبيرق أنه سيتهم، جاء بالدرع أو بذلك السلاح ووضعه في غرفة يهودي من جيرانه، وضجت المدينة، ووقف بنو أبيرق يدافعون عن صاحبهم، وأنهم براء وليسوا ممن يفعل هذا. وأخيراً قالوا: لقد اكتشفنا السرقة، إنها موجودة عند اليهودي، فاليهودي المسكين قال: ما سرقت، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى مجموعة كاملة قد وقفوا مع هذا المنافق، ورأى أن السلاح أو الدرع موجودة عند اليهودي، وقف يدافع ويخاصم ليبرئ ابن أبيرق فيما ظهر له، فأنزل الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105]، والآن يا رسولنا ليس عندك علم، وإنما فقط وقفت إلى جنب هذه الجماعة التي تقول وتحسن الكلام والدعاوى، فظننت أنهم على حق، وهم في الحقيقة خونة وسرقة. وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، أي: تدافع وتخاصم عنهم.
تفسير قوله تعالى: (واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً)
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:106]، وهذا الكلام موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم! إذاً فكيف يوجه الخطاب إلى قضاتنا وحكامنا؟! مع أن الرسول ما أذنب، ولكن من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومن باب: إياك أعني واسمعي يا جارة، فإذا كان رسول الله يوجه بهذا الخطاب فمن دونه ماذا يقال له؟
تفسير قوله تعالى: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم...)
وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]. وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ [النساء:107]، أي: بني أبيرق، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]، وهم خونة آثمون.
تفسير قوله تعالى: (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله...)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108]. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108]، وهم بنو أبيرق أصحاب المؤامرة، وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108].
تفسير قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا...)
هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109]. هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النساء:109]؛ لأن مجموعة من المؤمنين وقفت إلى جنب بني أبيرق، وكذلك الرسول وقف إلى جنبهم لكثرة الذين يبرئون هؤلاء المنافقين، والمؤمنون في الحقيقة لا علم لهم، ولكن نظراً إلى ما يظهرون من الصلاح والاستقامة، ثم قال تعالى: فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109] اللهم لا أحد. إذاً: لتبقى هذه الآيات خالدة، ولتبقى نور الله في الأرض، فالقاضي والوكيل والحاكم ومن يُحكَّم يجب أن يكونوا على منهج الحق، فلا يغترون بألفاظ ولا بجماعة ولا غير ذلك، وإنما يطلبون الحق كما هو فيقضون ويحكمون به، وهذا درس عجيب لأمة الإسلام.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
نعيد تفسير الآيات فتأملوا، يقول تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105]، لا بالهوى أو بالتعصب أو بالميل الغريزي، وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، أي: لا تكن واقفاً إلى جنب الخائن تخاصم وتجادل عنه. وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ [النساء:106]، أي: من زلت قدمه وارتكب خطأً فباب الله مفتوح، فليندم على فعله، وليستغفر ربه، وليعزم وليصمم على ألا يعود لهذه الخطيئة، وما هي إلا أيام حتى تمحى محواً كاملاً ولا يبقى لها أثر، وهذه سنة الله عز وجل، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ). وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ [النساء:107]، فاسمع هذا يا محامي! إذ المحاماة في العالم الإسلامي شائعة، وقد يسألني فقال: أنا أعمل محامياً في الدولة الفلانية، وهذه الدولة لا تحكم بالإسلام ولا بالشريعة، فما حكم ذاك؟ فنقول: اجتهد، فإن عرفت أن الذي تترافع عنه في قضية ما مظلوماً فقف إلى جنبه ولو تأخذ مبالغ مالية لرفع الظلم عن هذا العبد وتحقيق الحق له، وإن علمت أنه لا حق له فلا تترافع في قضيته ولا تقبلها ولا تأخذ فيها ديناراً ولا درهماً؛ لأنك إن فعلت ذلك فأنت تدافع عن الباطل وهذا لا يصح أبداً، إذ يقول الله تعالى: وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]، بل وقل له: يا فلان! أنت ظالم، وهذا الموقف لا يقفه إلا أهل الإيمان. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ [النساء:108]، وذلك لما يتآمرون في الليل أو في البيت فيقولون كذا ونفعل كذا وندبر كذا، وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ [النساء:108] إيه والله، أتدرون كيف؟ العوالم كلها في قبضة الله عز وجل، واقرءوا قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، فأين نحن إذاً مع الله؟ هو فوق عرشه بائن من خلقه، والخليقة كلها في قبضته وبين يديه، لا يخفى عليه من أمر الناس شيئاً! قال تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى [المجادلة:7]، أي: أقل وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، سواء في المريخ أو في الزهرة أو في الشمس أو في الأرض، فأينما كانوا فالله يعلمهم وهو معهم. تأملوا! يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108] لما كانوا يتآمرون هو معهم، وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108]. هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ [النساء:109]، وهذا للتقريع والتأديب والتوبيخ، فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [النساء:109]؟! من هو؟ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109]، أي: يدافع عنهم ويأخذ حقهم إن كان ذا حق؟ والجواب: لا أحد. ومن هنا مسح من قلوبنا الدفاع عن الباطل حتى ولو كان صاحب الباطل أباك أو ابنك أو أخاك أو أمك أو امرأتك، فلا تقف تدافع عن الباطل أبداً، فهذا يهودي أنزل الله في شأنه القرآن، إذ إنه كان مظلوماً، فقد ألقوا الدرع في بيته وقالوا: أخذه اليهودي، فنجاه الله عز وجل وإلا كانت ستقطع يده. وأما خبر هذا الخبيث طعمة فقد ارتد وأعلن عن كفره وهرب لما انفضح، وأتى مكة وجاء يسرق في الليل، فبينما هو يحفر في الجدار في الليل حتى يدخل إلى الغرفة التي فيها الطعام، فلما أدخل رأسه سقط الجدار عليه فقبض عليه كالعصفور، رأسه من داخل ورجلاه من خارج عليه لعنة الله، وهذا جزاء من يخون الله ورسوله والمؤمنين.

يتبع

ابوالوليد المسلم
30-04-2021, 02:22 AM
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
والآن أسمعكم الشرح من الكتاب فتأملوا.
معنى الآيات
قال: [ معنى الآيات: روي أن هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق وإخوته ] وهم بشير ومبشر وبشر، قال: [ وكان قد سرق درعاً من دار جار له يقال له: قتادة ]، والدرع عبارة عن لباس يلبسه المحارب في الحرب، فإذا أصيب برصاصة أو برمية أو بسهم فإنه لا يؤثر فيه؛ لأنه لباس من حديد، وقد كان داود عليه السلام يصنع الدروع في الدنيا، قال تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء:80]. وهنا لطيفة أذكر بها الناسين وأعلم غير العالمين وهي: أن في القرآن سورة تسمى بسورة لقمان، ولقمان هذا كان حبشياً نوبياً آتاه الله الحكمة وعلمه إياها، فمر ذات يوم بداود -وكان معاصراً له- وهو ينسج الدرع من الحديد، فهم أن يسأله: ما هذا يا داود؟ فأدركته الحكمة فسكت، كما هي القاعدة عندنا: إذا كان العلم به لا ينفع، والجهل به لا يضر، فاترك ذلك ولا تسأل. فسكت لقمان وواصل داود عليه السلام نسج الدرع، ولما فرغ أخذ يقيسه على جسمه، ثم قال: نعم لبوس الحرب أنتِ، فعرف لقمان وقال: الصمت حكمة وقليل فاعله، إذ لو سأل لأهان نفسه فيقال: جاهل لا يعرف، ثم لمَ يسأل وليس هذا شأنه؟ لكن أدركته الحكمة فسكت، وما زال ينتظر حتى عرف رحمه الله تعالى. قال: [ وكان قد سرق درعاً من دار جار له يقال له: قتادة، وودعها عند يهودي يقال له: يزيد بن السمين ] أو السمين، قال: [ ولما اتهم طعمة وخاف هو وإخوته المعرة رموا بها اليهودي وقالوا: هو السارق ] كما سمعتم. قال: [ وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفوا على براءة أخيهم طعمة، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ]، إذ لا يعقل أن ثلاثة أو أربعة من الرجال يحلفون فلا يصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه في مستوى الأخلاق لن يصل إليه أحد، قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فلا يعقل أن أربعة من رجال البلاد وصلحائها في الظاهر يحلفون فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنتم تكذبون؟! إذ ليس عنده علم في ذلك، قال: [ فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: هو السارق، وهم بقطع يد اليهودي لشهادة بني أبيرق عليه ]، أي: هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يد السارق؛ لقيام الحجة عليه من أربعة أنفار. قال: [ وإذا بالآيات تنزل ببراءة اليهودي وإدانة طعمة ] المنافق، قال: [ ولما افتضح طعمة وكان منافقاً أعلن عن ردته وهرب إلى مكة المكرمة، ونقب جدار منزل ]، أي: حفر فيه، [ ليسرق، فسقط عليه الجدار فمات تحته كافراً ] والعياذ بالله، أرأيتم عواقب الظلم والكفر؟ إنها والله مذمومة. قال: [ وهذا تفسير الآيات قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ [النساء:105]، أي: القرآن، أيها الرسول لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105]، أي: بما أعلمك وعرفك به، لا بمجرد رأي رآه غيرك من الخائنين ]. قال: [ وعاتبه ربه تعالى بقوله: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، أي: مجادلاً عنهم، فوصم تعالى بني أبيرق بالخيانة؛ لأنهم خانوا أنفسهم بدفعهم التهمة عليهم بأيمانهم الكاذبة إذ حلفوا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ [النساء:106]، من أجل ما هممت به من عقوبة اليهودي، إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:106]، فيغفر لك ما هممت به ويرحمك. وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ [النساء:107]، حيث اتهموا اليهودي كذباً وزوراً، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]، كـطعمة بن أبيرق. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ [النساء:108]، حياءً منهم، وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [النساء:108]، ولا يستحيون منه وهو تعالى معهم في الوقت الذي كانوا يدبرون كيف يخرجون من التهمة بإلصاقها باليهودي البريء؟ وعزموا أن يحلفوا على براءة أخيهم واتهام اليهودي، هذا القول مما لا يرضاه الله تعالى. وقوله عز وجل: وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108]، فما قام به طعمة من سرقة الدرع ووضعها لدى اليهودي، ثم اتهامهم اليهودي وحلفهم على براءة أخيهم، كل ذلك جرى تحت علم الله تعالى والله به محيط، فسبحانه من إله عليم عظيم. وقوله تعالى: هَاأَنْتُمْ [النساء:109]، أي: يا هؤلاء، جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109]، هذا الخطاب موجه إلى الذين وقفوا إلى جنب بني أبيرق يدفعون عنهم التهمة، فعاتبهم الله تعالى بقوله: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ [النساء:109] اليوم في هذه الحياة الدنيا لتدفعوا عنهم التهمة تهمة السرقة، فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109]؟! ] لا أحد. قال: [ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109]، بتولي الدفاع عنهم في يوم لا تملك فيه نفس لنفس شيئاً والأمر كله لله؛ فتضمنت الآية تقريعاً شديداً حتى لا يقف أحد بعد موقفاً مخزياً كهذا ]، وهذا وإن كان في بني أبيرق واليهودي في الصدر الأول، إلا أنه ما دام على الأرض من يقول: لا إله إلا الله، فهي موجودة في القرآن تُقرأ وتُطبق وتُحكَّم إلى يوم القيامة، ولو سألت إخوانك لوجدتهم وقفوا مئات المواقف من هذا النوع.
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات ]، واسمعوا إعادة هذه الآيات وكيف نستخرج منها ما تهدي وتهدف وتدعو إليه، وذلك بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:105-107]، والذي لا يحبه الله لا يسعد، ولا ينزل منازل الأبرار، إذ إن مصير أعداء الله معروف، فهم في أسفل سافلين، في دار الشقاء والبوار والعياذ بالله. قال: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ [النساء:108-109]، أي: يا هؤلاء، جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109].
عدم جواز الحكم بغير ما أنزل الله
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ]، وأخذنا هذا من قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105]. وأذكر أيام استقلالنا استقلت موريتانيا، واستقلت كذا، واستقلت كذا، فوضعتُ لهم دستوراً إسلامياً من بداية الحكم إلى المقبرة، وهو مطبوع في وريقات، ووالله لو طبق في أرض لسادوا وعزوا وكملوا. وقلنا: نضيفه إلى كتاب منهاج المسلم ويطبع معه، ومنهاج المسلم كتاب شامل جامع، إذ جمع فيه العقيدة السلفية والآداب الإسلامية والأخلاق الربانية والعبادات والأحكام والمعاملات، أي: خلاصة الشريعة، فلا فرق بين مذهب ومذهب، وإنما المذاهب الأربعة هي الصحيح والحق، وهذا الدستور يضاف إليها؛ لأنه عمل سياسي في تكوين الحكومة وأعمالها، وقد بعثتُ نسخاً منه لبعض المسئولين، فبعضهم رد عليَّ وبعضهم لم يرد عليَّ شيئاً، وها هم يحكمون بغير ما أنزل الله، فما المانع أن يطبق هذا الدستور الإسلامي؟ القانون البريطاني سهل تطبيقه، وتطبيق القرآن ليس بسهل! على كل حال فعل العدو هذا بنا، فالقرآن يقرأ على الموتى، ولو تقول لهم: طبقوا القرآن فإنهم يضحكون، وبالتالي فهم يكتفون به ليقرأ على الموتى فقط للبركة. وهذه الآية بالذات تحرم تحكيم المسلمين لغير شريعة الله، أي: الكتاب والسنة، فلا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله، وليس هذا خاص بالحاكم أو بالقاضي، بل إذا حكمك اثنان أو اختلفت جماعة وحكموك فيجب عليك أن تحكم بما أنزل الله وبين رسوله، وإن لم تعلم الحكم فقل: الله أعلم، ولا تحابي ولا تجامل ولا تميل إلى قريب ولا إلى بعيد، واذكر قوله تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [النساء:109]؟!
عدم جواز الوقوف إلى جنب الظلمة الخونة نصرة لهم
قال: [ ثانياً: لا يجوز الوقوف إلى جنب الخونة الظالمين نصرة لهم ]، إذ إن هذا حرام ومعصية، فالمسلمون كالجسم الواحد، فأي طينة أو تراب أو وطن يجعلهم متفرقين؟ حدثنا قاض بصدق فقال: جاء حوالي خمسين رجلاً يشهدون مع أخيهم بالباطل! لا لوم عليهم؛ لأنهم ما عرفوا الله معرفة توجد حبه في قلوبهم، ولا الخوف منه في نفوسهم، ولا عرفوا الطريق إليه، فكيف تلوموهم؟! من أين لهم أن يعرفوا؟ لماذا ما يعرفون؟ منعهم الثالوث من أن يطلبوا العلم، حولوا القرآن إلى المقابر، إذاً من أين يطلبون العلم؟! إذاً: لا يجوز الوقوف إلى جنب الخونة الظالمين نصرة لهم، أي: من أجل أن تنصرهم، ولو كان أباك أو ابنك، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ [النساء:135]، ما بقي بعد النفس شيء، لا أب ولا أم. وأخذنا هذه الهداية من قول الله تعالى: وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ [النساء:107]، وقوله: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، أي: مخاصم تخاصم عليهم.
وجوب الاستغفار من الذنب صغيراً كان أو كبيراً
قال: [ ثالثاً: وجوب الاستغفار من الذنب كبيراً كان أو صغيراً ] وعرفنا هذا من قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:106]، فإذا كان الرسول هم فقط ولم يفعل شيئاً، وذلك لما لاح له من شهادة الناس بأن اليهودي هو السارق، ومع هذا أُمر بالاستغفار، فمن باب ألف مرة نحن أولى، فمن زلت قدمه فليقل: أستغفر الله وأتوب إليه، ويعدل عن جريمته، أي عن خطأه وذنبه، وطول الحياة وهو هكذا. وهذا الذنب الذي ذكر للرسول ليس ذنباً كبيراً، لكن لمقامه عليه الصلاة والسلام، وحسنات الأبرار سيئات المقربين كما يقولون، وأضرب لكم مثلاً لو أن صعلوكاً مثلي فعل جريمة في الشارع أو في الباب فستلومونه: يا صعلوك ما تستحي من كذا، لكن لو كان عالماً وفعلها فكيف تنكرون عليه؟! أو لو أن جاهلاً سرق أو فجر فستلومونه قطعاً، لكن لو كان العالم فعل ذلك، فإنكم ستستعظمون ذلك بالفطرة، وذلك لعلمه، وحسنات الأبرار تعتبر سيئات المقربين من الله؛ لأن منزلة المقربين أعلى، فحسنات الأبرار ما تعتبر شيئاً للمقربين، وإنما تعتبر كالسيئة. والذنب مأخوذ من ذنب الحمار، إذ إن للحمار ذنباً وكذلك للكلب، فإذا أردت أن تمسك بهذا الحيوان فمن أين تأخذه؟ من ذنبه، فأنت تجري وراءه وهو هارب أمامك فتمسكه من ذنبه. وكذلك فكل خطيئة يؤاخذ بها العبد يسمى ذنباً ومنها يؤخذ، وكل خطيئة يرتكبها العبد يؤخذ به كما يؤخذ الحيوان من ذنبه، ومن هنا أخذ لفظ: الذنب.
وجوب بغض الخوان الأثيم أياً كان
قال: [ رابعاً: وجوب بغض الخوان الأثيم أياً كان ]، أي: يجب أن نبغض الخوان الأثيم أياً كان ولو في مكة، أما عاب تعالى ولام فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]؟ فكيف أنت تحبه؟! أعوذ بالله! قد كفرت بالله، أيحب ربك شيئاً وأنت تكرهه، ويكره شيئاً وأنت تحبه؟ بقيت علاقة بينك وبين الله؟ لا، فقد انتهت. فإذا علمت أن الله يحب كلمة كذا فيجب أن تحبها، وإذا علمت أن الله يكره كلمة كذا فيجب أن تكرهها، وإلا انقطعت صلتك بسيدك ومولاك، وما أصبحت عبداً حقيقياً له، هو يحب وأنت تكره، أو هو يكره وأنت تحب؟! تعاكسه! إذاً: كل خوان أثيم يجب بغضه وعدم حبه، حتى ولو كان ابناً لك أو أباً أو أخاً أو أماً أو زوجة، إلا إذا انغسل ونظف وتاب وطهر.
استحباب الوعظ والتذكير بأحوال يوم القيامة
قال: [ خامساً استحباب الوعظ والتذكير بأحوال يوم القيامة ] وما يجري لأصحابها فيها، والقرآن الكريم يفيض بهذا، وأخذنا هذا من قوله تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109]. معاشر المستمعين! أذكركم ونفسي أن علينا أن نحكم شرع الله في أنفسنا وفي غيرنا، وأن نحب الصالحين ونبغض المفسدين، وأن نستغفر الله كلما أذنبنا ذنباً صغيراً أو كبيراً، وأن نعلم أنفسنا أننا تحت النظارة وأننا مراقبون، ووالله ما تستطيع أن تخفي شيئاً عن ربك ولو كنت في قعر بئر. ومن هنا يجب أن نستحي منه تعالى، وإليكم صورة: لما نتوضأ نترك صنبور الماء يسيل بكثرة، فلو استحينا من الله فإننا سنغلقه، فعلى كل مؤمن ومؤمنة أن يعيش مع الله حق العيش، فلا يفارقه أبداً حيثما كان الله معه، وبذلك يقوى على مواصلة سيره إلى دار السلام، أما أن تغفل أو تنسى أو تعرض عن الله فإنك تقع في كل هاوية وتسقط في كل حفرة من حفر هذه الحياة، والله أسأل أن يعصمنا وإياكم إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ابوالوليد المسلم
03-05-2021, 02:28 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (58)
الحلقة (281)
تفسير سورة النساء (62)


فضائل الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة، ومما تفضل الله به عليه أنه وقاه من الجور في الحكم في قضية بني أبيرق واليهودي الذي اتهموه بالسرقة، فبعد أن كاد النبي يحكم على اليهودي بعد شهادة الشهود عليه أنزل الله عز وجل قرآناً يتلى، برأ فيه اليهودي وفضح طعمة بن أبيرق المنافق إذ كان هو الذي سرق ورمى بهذه التهمة اليهودي البريء، وبعد فضحه انقلب على عقبيه فاراً إلى مكة كافراً.
تفسير قوله تعالى: (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). وما زلنا مع سورة النساء الميمونة المباركة، وها نحن مع هذه الآيات الأربع، فهيا نتلو هذه الآيات ونتدبر معانيها وما تحمله من هدى، يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:110-113]. تأملوا هذا، الله يخاطب رسوله فيقول: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]، وهذه عامة لكل مؤمن ومؤمنة. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [النساء:111]، لا على غيره، وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:111]، لا يخفى عليه من كسب إثماً وجحده وغطاه، (حكيماً) يجزي بحسب ذلك العمل. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112]، وتأملوا هذه الآية. ثم قال تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]. وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا [النساء:110]، ماذا تفهم يا عبد الله ويا أمة الله من هذا الخبر؟ المخبر هو الله العليم الحكيم، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا [النساء:110]، والسوء كل ما يسيء إلى نفسك فيخبثها ويدرنها ويعفنها، وذلك كل إثم من الآثام، والإثم إما تركك واجباً وأنت قادر على فعله، أو ارتكابك محرماً من المحرمات. وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا [النساء:110]، أي: ما يسيء إلى نفسه، أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ [النساء:110]، أي: يعمل سوءاً مع غيره، كأن يكذب أو يضرب أو يظلم غيره، أو يظلم نفسه بارتكاب محرم، إما بترك واجب أوجبه الله، أو بغشيان محرم حرمه الله تعالى، عقيدة كان أو قولاً أو فعلاً، وتذكرون قصة بني أبيرق وعلى رأسهم طعمة، والآيات تدور عليهم. فانظر كيف تجلت رحمة الله تعالى فقال لهم: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ [النساء:110]، أي: منكم يا بني أبيرق ومن شارك في الإثم ووقف إلى جنبكم، فبابنا مفتوح فاستغفروا الله تجدوا الله غفوراً رحيماً. هذه الجماعة التي ارتكبت أكبر جريمة وهي السرقة، ثم اتهمت اليهودي بالسرقة، واستطاعوا أن يجذبوا رسول الله إليهم، وكاد أن يوافقهم على دعواهم ويقطع يد اليهودي، لكن الله سلم فأنزل هذه الآيات، وفضح أولئك المنافقين، ومع هذا فتح لهم باب الرحمة.و (مَن) في الآية تفيد العموم، سواء ارتكب هذا السوء أبيضاً أو أسوداً، ذكراً أو أنثى، عربياً أو أعجمياً، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا [النساء:110]، أي: مع أي مؤمن أو مؤمنة، كأن يأخذ ماله أو يسبه أو يشتمه أو يكذب عليه أو يفتري عليه، أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ [النساء:110] أي: بارتكاب محرم أو ترك واجب، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ [النساء:110]، أي: يتوب توبة نصوحاً، ويكثر من الاستغفار، ولا يفارقه الندم، ويطلب العفو ممن جنى عليه أو اعتدى عليه، وهذه التوبة عبر عنها بالاستغفار، فلا بد من التوبة والرجوع إلى الصواب، والرجوع إلى الحق، فإن كان بينه وبين أخيه يطلب سماحاً منه ومعذرة وعفواً، ويعطيه ما أخذه منه، يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]، أي: من شأنه هذا فإنه يجد الله غفوراً رحيماً، وبالتالي لا تخف أن تقول: أغلق باب التوبة في وجهي، إذ ما من مؤمن ولا مؤمنة يعمل سوءاً وهو الإثم الضار الفاسد، أو يظلم نفسه بالذات، بأن يرتكب ما حرم الله، ثم يستغفر الله نادماً راجعاً إلى الصواب عائداً إلى الحق، ويواصل الاستغفار والتوبة، فإنه يجد الله غفوراً له رحيماً به، يغفر زلته ويرحمه، وعليه ففتح الله لهم باب التوبة إلا من رفض منهم.
تفسير قوله تعالى: (ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه...)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:111].يقول تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا [النساء:111] من الآثام، والإثم كل ضار فاسد، أو كل ما يضر فهو إثم، أو كل ما هو فاسد فهو إثم غير صالح. فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [النساء:111]، لا على غيره، فلو يقوم أحد منا الآن ويقول الباطل فإننا لا نتأذى به، وإنما يعود عليه هو وحده، وذلك لأن العمل يتولد أو ينتج عنه ظلمة النفس وخبث الروح وتدسيتها، فما تتدسى روحي ولا روحك بذنب ذلك الرجل، اللهم إلا في حال رضانا بالباطل وسكوتنا عنه، وحينئذ نكون قد ارتكبنا ذنباً آخر وهو أننا ما أمرنا بمعروف ولا نهينا عن منكر. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:111]، عليماً لا يخفى عليه ذنب يرتكبه إنسان على وجه الأرض، فلا تفهم أنه لا يطلع الله عليك، أو لا يدري ساعة ما قلت أو فعلت، فالله مازال عليماً بالخلق كلهم، وعلمه تعالى تغلغل في كل ذرات الكون العلوي والسفلي، فلا يخفى عليه من أمرنا شيئاً، وحكيماً يضع الشيء في موضعه، فالذي أذنب هو الذي يؤاخذه، والذي لم يذنب لا يصيبه بالمصيبة ولا يحل به العذاب، بخلاف لو كان غير حكيم، فـعدنان يسرق وهو راض فتقطع يده، لكنه عليم عادل، فاطمئن إلى أنك لا تظلم أبداً، لا في حسنة تقوم بها ولا في سيئة ترتكبها. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا [النساء:111]، أي: بخلقه، حَكِيمًا [النساء:111]، في قضائه وتصرفاته وشرعه، فلتطمئن النفوس تماماً.
تفسير قوله تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112].قال تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا [النساء:112]، ما الفرق بين الخطيئة والإثم؟ الخطيئة أن يفعل الإنسان شيئاً ضد أخيه كما فعل ابن أبيرق، والإثم مطلقاً، أي: ترك واجب أو فعل محرم، ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112]، والبريء مأخوذ من البراءة، وهو الذي ما فعل، ما قال قولاً شنيعاً أبداً ولا سرق ولا كذب، بينما الآخر يرتكب الخطيئة أو الإثم ويقول: فلان هو الذي فعل ذلك، يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112]، كما رمى بنو أبيرق اليهودي، فقد وضعوا الدرع في بيته وقالوا: هو الذي سرق. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112]، ما له؟ فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112]، احتمل لأنه ما يطيق أن يحمل هذا، فهو احتمله بأمر فظيع، والبهتان هو الكذب الذي يبهت صاحبه فيتركه حيراناً، فالكذب كذب، ولكن إذا بهت مؤمناً ولم يسبق له هذا القول ولا هذا العمل، ثم واجهته وقلت له: أنت قلت كذا أو فعلت كذا، فإنه يحتار ويندهش، فهذا هو البهتان، أي: الكذب الذي ما له عامل أبداً يقتضيه أو سبب ممكن يوجد بسببه، فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112]، والجزاء عند الله إن تاب نجا؛ لأن باب التوبة مفتوح، لكن كرر الحادثة، وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا [النساء:112]، فهم سرقوا، لكن لما خافوا أن يفتضحوا رموا اليهودي، فارتكبوا بذلك خطيئة وإثماً، فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112].وهنا قد انتهى الكلام عن بني أبيرق ومن وقف إلى جنبهم من أهل الغفلة، وقد فتح الله لهم الباب وتاب على من تاب منهم، والآن الكلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113].
امتنان الله على رسوله بأن حفظه وعصمه من الخطأ في الحكم
يقول تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ [النساء:113] يا رسولنا، لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ [النساء:113]، فقد جاءوا بمن ينطق ويحلف: السارق هو اليهودي، وهذا ما علمنا به، ولا يمكن أن يتم هذا بيننا، فماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ عصمه الله وحفظه قبل أن يصدر الحكم على اليهودي، فنزلت الآيات القرآنية ببراءة اليهودي، وهذا فضل الله ورحمته على رسوله صلى الله عليه وسلم. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ [النساء:113]، ما معنى: يُضِلُّوكَ [النساء:113]؟ أي: يوقعونك في الضلال وفي الخطأ، وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [النساء:113]، أما أنت يا رسولنا فيحميك ربك ويصونك مولاك، وقد فعل ذلك، وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النساء:113]، فطمأنه وأمنه، وكيف لا وهو وليه، وهو من أرسله إلى الناس كافة، وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النساء:113] أبداً، بل أقل الضرر لا يمكن أن يصل إليك يا رسولنا.

يتبع

ابوالوليد المسلم
03-05-2021, 02:28 AM
امتنان الله على رسوله بأن أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم
وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء:113]، ولم يقل: وأنزلنا، وإنما قال: وَأَنزَلَ اللَّهُ [النساء:113] جل جلاله وعظم سلطانه، عَلَيْكَ [النساء:113] يا رسولنا، الْكِتَابَ [النساء:113]، أي: القرآن الكريم، فهل هناك من يدعي أنه أنزل عليه؟وهذه أعظم آية في كتاب الله تقرر نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد تحدى الله عز وجل العرب وهم أولوا البلاغة والفصاحة والبيان على أن يأتوا بسورة كسور القرآن الكريم، فقال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24]، إذاً: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24]، وهنا لطيفة قرآنية وهي قوله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، إذ لا يقول هذا إلا الله؛ لأن الله عز وجل قادر على أن يختم على قلوبهم وألسنتهم، ولا يقدر أحد أن يحاكي أو يماثل الله في ذلك.ثانياً: أن هذه الأنوار القرآنية من أين لغير الرسول أن يأتي بمثلها؟ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة:23]، أي: في شك، مِمَّا نَزَّلْنَا [البقرة:23] على عبدنا من هذا القرآن، إذاً: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23] من مثل محمد في أميته، فقد قضى أربعين سنة وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ثم يأتي بهذه العلوم والمعارف التي يحار لها العقل، ويأتي بالقصص وتاريخ البشرية، ولن يستطيع أحد أن يرد كلمة أبداً أو يقول: هذا ما وقع.ثم يقول: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي [البقرة:24]، أي: أسلموا وادخلوا في رحمة الله، لكن قال: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، و(لن) الزمخشرية تنفي المستقبل، وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، واليوم مضت ألف وأربعمائة سنة ما جاءوا بسورة من مثله، بل نقول: اليابان الصناعية اليوم قد تفوقت، فهل تستطيع أن تنتج آلة من آلات الحديد، كسيارة أو غيرها وتقول: نتحدى البشرية لمدة سبعين سنة أن ينتجوا مثل هذه؟ لا يمكن، كذلك أمريكا أو روسيا أو أي دولة صناعية تقول: نتحدى البشرية أن يوجدوا مثل هذا الاختراع لفترة خمسين أو سبعين سنة، لا يمكن ذلك أبداً، وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، هل فعلوا؟ لا والله، كم سنة الآن؟ ألف وأربعمائة وخمسة عشر سنة ولم يفعلوا ذلك، آمنا بالله وحده. وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء:113]، والحكمة هي معرفة أسرار هذا الكتاب، والحكمة ذلك النور الذي يغشى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول الحكمة ويظهرها ويوصي بها ويشرعها للعباد، ولهذا فالحكمة هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء:113]، هل كان الرسول يعلم شيئاً؟ اقرءوا قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:6-7]، ما كان عليه الصلاة والسلام يعلم شيئاً، وإنما مجرد شاب من شبان قريش من بني هاشم حتى بلغ أربعين سنة، ففاجأه الحق في غار حراء في رمضان، وبدأ الوحي ينزل عليه واستمر ثلاثاً وعشرين سنة حتى اكتمل هذا القانون السماوي، وحتى اكتمل هذا القرآن الكريم.
فضل الله العظيم على رسوله صلى الله عليه وسلم
قال: وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]، إي والله، فقد كان فضل الله على رسوله عظيم، فيا من هم مخدوعون بالدنيا! إن الرسول الذي يقول له ربه: وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113] ما شبع من خبز شعير مرتين في يوم واحد، فلا تفهموا أن المال والغنى هو رضا الله عز وجل، أو مظاهر إكرام الله للعبد، والله ما هو إلا ابتلاء وامتحان، إما أن تنجح وإما أن تتمزق وتخسر أبداً، فلا التفات إلى أوساخ هذه الدنيا أبداً، فهذه أم المؤمنين تقول: كانت إحدانا -أي: نساء النبي- تتحيض في الثوب الواحد الحيضتين.إذاً: ما فضل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم؟ حسبه أن يرفعه الله إليه، وأن يجلسه بين يديه، وأن يكلمه شفوياً كفاحاً ومواجهة بلا واسطة، فأي رائد برز في الكون غير محمد صلى الله عليه وسلم ليخترق السبع الطباق مسيرة خمسة آلاف وخمسمائة سنة، وانتهى إلى سدرة المنتهى وإلى ما فوقها، حتى إن جبريل يقف فيقال له: ( تقدم يا جبريل فيقول: ما منا إلا له مقام معلوم )؟!وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حرس من المؤمنين، إذ إنهم كانوا خائفين عليه من اليهود والمنافقين والمشركين في العام الأول والثاني من قدومه المدينة، فلما نزل قول الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، قال لأولئك الحرس: ( أيه الناس! انصرفوا عني فقد عصمني الله )، فلو اجتمعت الدنيا كلها على أن يقتلوا رسول الله ما قدروا على قتله، مع أنهم كانوا يتربصون به ليقتلوه، فالمنافقون واليهود متعاونون على قتله لكن الله فضحهم. وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]، فأي فضل أعظم من أن تصبح رسول الله، فتتكلم مع الله ويلقي بالمعارف والعلوم إلى قلبك وينزل عليك كتابه، ثم ماذا؟ اسمعوا! أول من يدخل الجنة دار السلام محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، فهم أول أمة دخولاً الجنة مع أنهم آخر أمة في الوجود.
المقام المحمود الذي يعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما أعطى الله رسوله أعظم عطاء، فقد أعطاه الشفاعة العظمى، أتعرفون الشفاعة العظمى؟ إليكم صورتها: لما تقف البشرية كلها على صعيد واحد، على أرض بيضاء كخبز النقي، لا جبل ولا تل ولا انخفاض ولا ارتفاع، وذلك في يوم طوله خمسون ألف سنة، فإذا كان من عهد عيسى إلى اليوم ألفين سنة ما كملت بعد، فأين ثمانية وأربعون ألف سنة أخرى؟ واقرءوا: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا [المعارج:4-5].وهم واقفون ينتظرون القضاء فيهم وعليهم، ومن مظاهر هذا: وإذا بنفخة من إسرافيل فيصعق كل أحد إلا من شاء الله، قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( فأكون أول من يفيق )، أي: أول من يفيق من تلك الصعقة، ( وإذا بأخي موسى آخذ بإحدى قوائم العرش، لا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور فلم يصعق؟ )، وصعقة الطور لما كان في جبل الطور، وذلك لما كلمه ربه كفاحاً بلا واسطة، فلما غمره ذلك الحب وذلك الكمال، هشت نفسه وطلب من ربه أن يريه وجهه، واقرءوا قوله تعالى: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143]، الذي أمامك، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143]، فتجلى الرحمن، أي: ظهر للجبل فاندك الجبل، وما إن رأى موسى الجبل العظيم بصخوره قد تحلل صعق وأُغمي عليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لعل موسى جزاه الله بتلك الصعقة ) ، أي: ما أعطاه الله صعقة ثانية. وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ [الزمر:67-69]، جاء الرب، وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:69].وبينما هم واقفون وقد طال الزمان والمدة، والحر شديد والهول عظيم، والله من الناس من يلجمه العرق، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى سرته بحسب ذنوبهم وصالح أعمالهم، فيأتون آدم عليه السلام، وقد أخبر بهذا الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري وصحيح الأحاديث، وليس معنى هذا أن كل البشرية بالمليارات تأتي آدم، وإنما طوائف منهم تأتي آدم عليه السلام، فيقولون له: يا آدم! لقد خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا عند ربنا ليقضي بيننا، فقد طالت مدة الوقوف، فيعتذر آدم ويقول: كيف أكلم ربي وقد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله، وقد عصيته، فيذكر آدم معصيته، ونحن كم عندنا معصية؟! ألف معصية؟!وأبشركم -ولا تقولوا: الشيخ بهلول- بأني منذ ثلاث ليال رأيت آدم في المنام كأحسن ما يكون، وأنا معه جالس وأتكلم معه، والله سنراه إن شاء الله، ولعلنا نكون ممن يأتون إليه إن شاء الله.فيعتذر آدم لزلة قدمه مرة واحدة عندما نهاه الله وامرأته عن أكل الشجرة، فزين لهما الشيطان وغرر بهما فأكلا منها، فقال: كيف أواجه ربي وأنا قد عصيته؟ فكم زلة قد ارتكبناها؟!ثم قال لهم: أنصح لكم أن تذهبوا إلى نوح أبو البشرية الثاني بعد آدم، كيف لقب بأبي البشرية الثاني؟ لأنه في عام الطوفان ما نجا إلا سفينة نوح وفيها نيفاً وثمانين رجلاً وامرأة، وكل البشرية جاءت من أولاده، فصار مثل آدم أو قريب منه.فأتوا نوحاً عليه السلام فقالوا له: يا نوح! أنت، وأنت، وأنت، اشفع لنا عند الله ليقضي بيننا، فيعتذر ويقول: أما قال آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله؟ ولكن أنصح لكم أن تذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمن، ويذكر زلته وخطيئته، فيا ترى ماذا فعل؟ هل قتل نفساً؟ هل زنى بامرأة مؤمن؟ هل شرب الخمر والكوكايين؟ ماذا فعل نوح؟ ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يتلقى الضرب حتى يغمى عليه، ما هي خطيئته التي استحى أن يكلم الله؟ هو أنه قال بعد مرور القرون الكثيرة والقوم في زيادة كفر وعناد: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]، من لهم؟ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27]، وما من حقه أن يقول هذا، فاعتبرها خطيئة واستحى من الله أن يكلمه. ثم قال لهم: أنصح لكم أن تأتوا إبراهيم خليل الرحمن، وأول من هاجر في سبيل الله، وابتلي بما لم يبتلى به غيره، ومن مظاهر ابتلائه: أن الله أمره أن يذبح ولده له، فأنت تحبني يا إبراهيم، إذاً اذبح لي إسماعيل، واقرءوا قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124]، أي: أوامر، فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، وقد نال الإمامة بالامتحان، ومن الامتحان أنه وقف في وجه المشركين وعلى رأسهم والده كذا من السنين، حتى حكموا عليه بالإعدام وبالإحراق بالنار، ووالله لقد ألقوه بالمنجنيق في ذلك الأتون الملتهب، ولكن الله استدركه وهو في الطريق إلى النار؛ لأن النار أججوها أربعين يوماً، حتى النساء ينذرن النذور لآلهتهن من أجل إبراهيم، فتأتي إحداهن بحزمة الحطب، فلما أرادوا أن يلقوه جعلوه في مثل المنجنيق أو المعلاق ورموه، وفي الطريق عرض له جبريل فقال له: يا إبراهيم! هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى ربي فنعم، فقال تعالى: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فوقع فيها فاحترق القيد الذي برجليه ويديه، وخرج وودعهم وقال: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، فترك أرض بابل والعراق واتجه غرباً حتى وصل إلى مصر، فكان أول مهاجر في الأرض.فأتى إليه القوم فقالوا له: يا إبراهيم! أرأيت ما بنا من كرب وغم، اشفع لنا عند الله حتى يقضي بيننا، فقال كما قال من قبله: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله، فكيف أكلمه؟ وذكر ذنبه عليه السلام، هل قتل؟ هل زنى؟ هل أكل الربا؟ هل عق والديه؟ هل شرب الخمر؟ هل قذف المؤمنين والمؤمنات؟ لا أبداً، كل ما فيه أنه ذكر ثلاث كذبات، وكذبات إبراهيم أحسن من صدقنا نحن؛ لأنه كذب لله لا لنفسه، فالكذبة الأولى: لما أراد أن يبيت القوم ويدمر أصنامهم مروا به فقالوا له: هيا يا إبراهيم! اليوم عيد فلنخرج إلى الفضاء، فلنأكل اللحوم والخضر وغيرها، فنظر إلى السماء فقال: إني سقيم، قال تعالى مصوراً ذلك: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89]، أي: مريض، وهذه هي الكذبة الأولى، فهو عليه السلام نظر في النجوم لأنهم كانوا يعبدون الكواكب، فظنوا أنه نظر إلى آلهتهم، فقال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، فتركوه، ولما خلت البلاد من أهلها جاء بفأس أو معول فحطم الآلهة في بهوها، إذ للآلهة بهو عظم، فقد كانوا يضعون الحلويات والأكل الناعم بين يديها، فحطمها وجعل الفأس في أحد الآلهة الكبار وربطه به وعاد، ولما دخلوا في المساء يجرون إلى الآلهة ليأخذوا الحلويات من عندها؛ لأنهم كانوا يضعونها من الليل لتباركها كما يفعل جماعتنا اليوم، فوجدوا الآلهة متناثرة، فقالوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59]، فقال واحد منهم: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60]، أي: سمعنا فتى يسمى إبراهيم يذكر هذه الآلهة بغير رضا، فهو ساخط عليها، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:61]، فجيء بإبراهيم، فقيل له: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:62-63]، فأشار إلى يده، فظنوا أنه أشار إلى الصنم، وهذه هي الكذبة الثانية، لكنها أحلى من صدقنا اليوم، بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ [الأنبياء:63-64]، أي: ماداموا يحطمون ولا يعترفون من حطم، ولا ينطقون، فكيف تعبدونهم؟ أي مسخ أصاب هذه العقول؟ وأما الكذبة الثالثة: أنه مشى سائحاً في الأرض مع زوجته سارة، فدخل الديار المصرية من جهة سينا، وكانت سارة جميلة وحسناء، فلما رآها القوادون بلغة أهل المغرب، أتعرفون القوادون؟ عندنا في المملكة نسميهم الجرارون، أي: الذين يجرون ويسحبون، فقالوا لسلطان مصر: إن امرأة حسناء لا نظير لها، لا تصلح إلا لك، فهل فهمتم معنى القواد؟ القواد هو الذي يقود إلى الباطل، والجرار أبشع منه.فقال ملك مصر: ائتوني بها، فعرف إبراهيم، فقال: يا سارة إنه لا يوجد على الأرض من مؤمن إلا أنا وأنتِ، فإذا سألك عني فلا تقولي: زوجي فيغضب ويقتلني، وإنما قولي: أخي، وهو كذلك في الإيمان والإسلام، وهذا ذكاء منه عليه الصلاة والسلام، ولو قالت: زوجي لقتلوه؛ لأنه كيف يتزوج بها الملك وزوجها موجود؟ ثم جيء بها إليه، وحسنوا لباسها وزينتها وأنزلوها إلى السلطان أو الملك أو ذاك الطاغية، فكان كلما أراد أن يمسها بيده يصاب بالشلل الفوري والله العظيم ثلاث مرات، يتكلم معها ويضاحكها ويداعبها، يريد أن يمسها أو أن يمد يده إليها، قبل أن يمسها يصاب بالشلل على الفور، وفي الرابعة قال: أخرجوا عني هذا الشيطان، ومع هذا أحسن إليها وأمتعها بالمال وباللباس وببغلة كما فعل المقوقس مع رسولنا الكريم، فقد أعطاه بغلة تسمى: الدلدل، وأعطاه مارية القبطية، فهذه هي الكذبة الثالثة، وهي في الحقيقة ليست بكذبة، إذ إنه أخوها في الإسلام والإيمان.ثم قال لهم عليه السلام: أنصح لكم أن تذهبوا إلى موسى بن عمران نبي بني إسرائيل ورسولهم، فأتوا موسى فقالوا: يا موسى! ترى ما حل بالبشرية، توسلنا بك إلى الله فادع الله أن يقضي بيننا، فموسى يذكر ذنباً عظيماً فقال: كيف أكلم ربي وأنا الذي قد قتلت نفساً؟! هل قتل عمداً؟ لا والله، وإنما خطأ، وذلك لما تضارب القبطي مع إسرائيلي، وصاح الإسرائيلي يبكي، فوكز موسى القبطي فجاءت في القلب فمات، وهذا كان بقضاء الله وقدره، ثم قال: إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16] وغفر الله له، ومع هذا ما استطاع أن يكلم الله مع هذا الذنب الوحيد. ثم قال لهم: ولكن عليكم بعيسى، فأتوا عيسى بن مريم فلم يذكر ذنباً قط، فقد قضى ثلاثاً وثلاثين سنة في الفترة الأولى، وسيقضي مثلها في الفترة الثانية عما قريب وستسمعون، ومع هذا قال لهم: عليكم بمحمد، وهذه هي الشفاعة العظمى، فما إن وصل الوفد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنا لها، أنا لها )، فقد كان عنده صك قديم في الدنيا بها، أما قال تعالى في سورة بني إسرائيل: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، فهذا هو المقام المحمود الذي حمده عليه أهل الموقف بكافتهم، ثم قال عليه السلام: ( فآتي العرش فأخر ساجداً تحت العرش، فيلهمني ربي محامد -ألفاظ حمد وثناء- ما كنت أعلمها، فلا أزال أحمد الله وأثني عليه بها حتى يقول لي: يا محمد! ارفع رأسك، واسل تعطى، واشفع تشفع )، فصلوا عليه وسلموا تسلماً.فهذا هو المقام المحمود، وهذه هي الشفاعة العظمى، فهل ذكر رسول الله ذنباً؟ لا أبداً، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]. اللهم صل عليه وسلم تسليماً، اللهم اجمعنا معه في دار الكرامة يا رب العالمين.

ابوالوليد المسلم
03-05-2021, 02:30 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (59)
الحلقة (282)
تفسير سورة النساء (63)


نهى الله عز وجل عباده عن التناجي، وبين لهم أن التناجي خصلة ذميمة إلا في حالات معينة، فقد استثنى من مواطن الذم أن يكون التناجي للأمر بالصدقة على الفقير والمسكين، أو يكون للأمر بالمعروف والخير، أو يكون لغرض الإصلاح بين المتخاصمين، سواء كانوا قبيلتين أو طائفتين أو رجلين، فهذا كله من باب التعاون على البر والتقوى والتناجي بالمعروف لنفع العباد.
تفسير قوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ....)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم حقق رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة النساء المكية المدنية الميمونة المباركة، ذات الأحكام والقوانين الإلهية، ومعنا الليلة هاتان الآيتان، فهيا بنا نردد تلاوتهما، فأنا أجهر وأنتم في أنفسكم، ثم نأخذ في شرحها وبيان هداية الله تعالى منها، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:114-115].تأملوا -يفتح الله عليكم- في معاني هاتين الآيتين مرة أخرى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:114-115].‏
بيان معنى النجوى
معاشر المستمعتين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من صاحب هذين الخبرين؟ الله جل جلاله، إذ هذا كلام ربي تبارك وتعالى الذي أنزله على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو على مقربة منا، وتلك حجراته، وهذا مسجده، فاسمع الخبر الأول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ [النساء:114]، ما هي النجوى؟ النجوى: مصدر أو اسم مصدر، ومعناها: المسارة بالكلام، وهي مأخوذة من النجوى التي هي المكان المرتفع، كالذي يأخذ رجلاً من بيننا ويخلو به ويساره، أي: رفعه إليه، فلا خير يوجد قط في أية مناجاة إلا ما استثنى الله عز وجل، وهذا من باب هداية الخلق وإصلاح البشرية، فربهم جل يريد كمالهم وسعادتهم؛ لأنه سيدهم ومولاهم، وخالقهم ورازقهم، وخالق الكون كله من أجلهم، فكيف إذاً لا يريد إكمالهم وإسعادهم؟! لو ما أراد ذلك ما أنزل كتاباً ولا أوحى بوحي ولا بعث رسولاً، بل ولتركهم كعالم الشياطين. لا خَيْرَ [النساء:114] نفي كامل، أي: لا يحل لمؤمن أن يخلو بآخر ويناجيه سراً؛ لقول الرسول المفسر المبين: ( لا يتناجى اثنان دون الثالث )، كأن نكون جالسين في مجلس تحت ظل شجرة أو جدار أو منزل، فيأخذ أحدهم الثاني ويخلو به ويناجيه، أي: يساره بالكلام بينه وبينه، فهذه الوضعية حرام؛ لأن المؤمن يتأذى، وقد يقول في نفسه: ماذا يقولان؟ لعلهما يتآمران علي، لعلهما يريدان بي الشر، لعلهم يحجزاني عن الخير ويبعداني عنه، لماذا وأنا أخوهم؟! فهذه التساؤلات في حد ذاتها أذية للمؤمن يتأذى بها، ولذلك فلا يحل أن يتناجى اثنان دون الثالث، ولا أربعة دون الثالث، ولا خمسة دون الرابع، وهذه صورة عامة حفاظاً على مودة المؤمنين وعلى حبهم لبعضهم البعض، وبالتالي كل قول أو عمل، بل أو حركة تحدث في نفس مؤمن أذى فهي ممنوعة في مجتمعنا الإسلامي.وفي سورة المجادلة يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المجادلة:9]، أي: بالخير وما يساعدكم على تقوى الله عز وجل.وليذكر أهل الحلقة من نساء ورجال أن السياق مازال مع طعمة بن أبيرق وإخوته الذين تناجوا وتآمروا بالليل واتهموا اليهودي بسرقة الدرع، وهو من السرقة بريء، ولكن القرآن كتاب هداية للبشرية كلها ما دامت على سطح الأرض، فلم تُرفع أبداً أحكامه ولا آدابه ولا شرائعه ولا حكمه حتى يرفعه الله عز وجل، والعبرة دائماً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالسبب في نزول الآيات هو طعمة بن أبيرق الذي هلك في مكة، وذلك أنه سرق درعاً من بيت رجل من المسلمين، فلما سمع كلام الجيران خاف فرماه في بيت يهودي، وتآمر مع إخوانه وقالوا: اليهودي هو الذي سرق، وكاد الرسول أن يقطع يد اليهودي، إلا أن الله أنقذه وبين له الفتنة وأصولها، وقد درسنا هذا فيما سبق، والسياق ما زال مع الحادثة التي تمت في المدينة.
الأمر بالصدقة مما استثناه الله من النجوى
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ [النساء:114]، اللهم إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ [النساء:114]، فمثلاً أنتم جالسون في منزل أو في مكان ما، وفلان فقير محتاج بين أيديكم، فليس من إكرامه أن تقول: يا إخواني! أخوكم جائع أو عاري أطعموه واكسوه؛ لأن المؤمن الحق يتأذى بهذا أشد الأذى، فيتأذى أن يُعلن عن فقره أو حاجته، فإن قيل: يا شيخ! هم الآن يشحتون ويتسولون ويطلبون؟ والجواب: هبطنا وهبطوا معنا فلا عجب، وإلا كان من يمد يده؟ من يسأل غير الله عز وجل؟إذاً: من باب إكرام الله لأوليائه، أن من أراد أن يجمع لأخيه ما يفطر به فلا يحل له أن يعلن عن ذلك، بل يناجي هذا وهذا: نجمع لفلان كذا وكذا، وهذه صدقة يجوز فيها المناجاة؛ لأن الله لا يرضى أن يؤذى وليه وعبده الذي ابتلاه بالجوع أو بالعري امتحاناً له ليرفعه أو يزيد من كماله، لذلك لابد أن نحترم هذا المؤمن لما جاع أو عري، فإذا أردنا أن نجمع له فنخفي هذا الكلام ونسره فيما بيننا ونقدم له، فهل فهمتم هذه؟ وهل ممكن أن نعمل بها أو أنها صعبة؟
الأمر بالمعروف مما استثناه الله من النجوى
ثم قال تعالى: أَوْ مَعْرُوفٍ [النساء:114]، ما المعروف؟ العرف: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف:199]، العرف والمعروف: كل ما عرفه الله لنا في كتابه أو على لسان رسوله من أنواع البر والخير، وبعبارة أوضح: كل ما أذن الله لنا في قوله أو فعله، كل ما أمر الله بفعله أو قوله، كل ما أمر الله منتدباً مستحباً لعباده أن يأتوه، والمعروف العام ضد المنكر، ومادام قد أذن الله بقوله أو عمله أو أوجبه أو انتدب إليه، فأي معروف أعظم من هذا؟!إذاً: المناجاة محرمة، إلا أن تكون في أمرٍ بصدقة وجمعها لمؤمن أو مؤمنة حتى لا يُفضح بين الناس ويؤذى، أو أراد أن يأمر بمعروف، واقتضى الإسرار والمناجاة من أجله فلا بأس.
الأمر بالإصلاح مما استثناه الله من النجوى
ثم قال: أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، أراد أن يصلح بين جماعتين، أو بين قريتين، أو بين شخصين، حتى بين الرجل وامرأته، ففي هذه الحالة يناجي من هو أهل للمساعدة على إزالة هذه الجفوة أو على إبعاد هذه الأذية من بينهما، فلهما أن يتناجيا ويتكلما سرياً من أجل أن يصلحوا بين فلان وفلان لوجه الله، وهذا الإصلاح نذكر فيه حديثاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو قوله: ( ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إصلاح ذات البين )، أي: إذا كان ما بين فلان وفلان قد تمزق وفسد، فاعملوا على إصلاح ما بينهما، وهذا بيان رسمي ألقاه الرسول علناً فقال: (ألا). معشر المستمعين! هل نعمل في هذا الميدان؟ أظن لا، اتركهم يأكل بعضهم بعضاً؛ لأننا هبطنا من علياء السماء، فقد كنا سادة وقادة وهداة، فاحتال علينا أعداء الله فهبطنا، فهانحن في الأرض، وكأن هذا القرآن ما سمعنا به أبداً، أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، وكلمة: بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] أيضاً تشمل حتى الكفار، فلو تنازع كافران يهوديان أو نصرانيان فإننا نصلح بينهما ولا حرج وبسرية ومناجاة؛ لأن لفظ: (الناس) عام، فنحن هداة الخلق نحمل إليهم أنوار السماء ليعيشوا عليها كرماء أصفياء أطهار.قالت العلماء: هذه الثلاث جامعة لخيري الدنيا والآخرة، وهي : صدقة، معروف، إصلاح بين الناس، وهذه دعوة لنا معشر المؤمنين أن نتصدق ونفعل المعروف وندعو إليه ونبشر به ونقيم إلى جنب أصحابه.وهذه الثلاثة يدلك على خيريتها قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [النساء:114]، أي: ومن يفعل ذلك المذكور من الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس، بشرط: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [النساء:114]، لا لقومية ولا لعصبية ولا لقرابة، وإنما يفعل ذلك طلباً أن يرضى الله عنه، فإن قام بها إلى غير الله ما قبلها الله منه. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [النساء:114]، أي: حال كونه طالباً لمرضاة الله، ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [النساء:114]، وابتغى الشيء، أي: طلبه بكل حواسه ومشاعره، فيتجرد عن القرابة، وعن الوطن، وعن القبيلة، وعن الفائدة المادية، فلا يريد إلا الله عز وجل، وهنا لا معنى لفلاسفة الدنيا الذين يقولون: لإصلاح المجتمع، بل يفعل ذلك من أجل أن يرضى الله تعالى عنه، فإذا فاز برضا الله فاز بخيري الدنيا والآخرة، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، ألا وهو دار السلام.

يتبع

ابوالوليد المسلم
03-05-2021, 02:30 AM
الطريق إلى معرفة الله عز وجل
معشر المستمعين والمستمعات! لمَ يعمل الناس ولا يريدون بهذا وجه الله وابتغاء مرضاته؟ والجواب: لأن أكثرهم ما عرفوا الله والله العظيم، ومن لم يعرف الله كيف يعمل له؟ كيف يغمض عينيه عن كل هذه المصالح الدنيوية ولا يرى إلا الله عز وجل، فيفعل ذلك من أجله؟ العلة أنهم ما عرفوا الله تعالى، فمن منكم يقول: وكيف نعرف أن فلاناً عرف الله أو لم يعرفه؟ إن معرفة الله عز وجل المعرفة الحقيقية اليقينية تعني: المعرفة بآياته الكونية والتنزيلية، وهذه المعرفة متى ما وجدت أوجدت شيئين في العبد: الأول: الخوف من الله، والثاني: حب الله جل جلاله وعظم سلطانه، فمن لم يعرف الله معرفة حقيقة كما يعرف أمه وأباه، بل أشد، لا يوجد في نفسه من هذا شيء، لا الخوف من الله ولا الحب في الله، ويدلك لذلك أن ترى العبد يخاف الله، فلو قلت له وهو على معصية: أما تخاف الله؟ اضطرب وبكى وصرخ: أستغفر الله وأتوب إليه، فهذا يخاف الله عز وجل، كما قد ترغبه في شيء يحبه الله، ورغب عباده فيه، فما إن يعلمه حتى يكون قد دخل في قلبه من السرور والفرح والبهجة ما لا يقدر قدره إلا الله، وأصبح يعمل بذلك عملاً يؤثره على حياته كلها. فإن قيل: يا شيخ! ما الطريقة إلى العلم والمعرفة؟ سمعنا رسول الله يقول: ( إنما العلم بالتعلم )، أي: إنما يحصل العلم لصاحبه بالتعليم شيئاً فشيئاً يوماً فيوماً حتى يعلم، فلمَ ما نتعلم؟ نتعلم القرآن وحفظناه ثم نقرؤه على الموتى! ماذا نتعلم؟ وكيف نتعلم؟ نتعلم أن نعلم الله عز وجل بجلاله وكماله وصفاته، ونعلم محابه، وما أكثر ما يحب الله من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات أيضاً، ونعلم ما يكره الله تعالى من الاعتقادات والأقوال والأعمال والصفات أيضاً، وهذه المعرفة لا تتأتى بالانتساب إلى الإسلام، ولا بكونه مؤمناً، والله لا تتأتى ولا تتهيأ لعبد إلا إذا طلب، ومن طلب في جد وأخذ يحصل على هذا العلم يوماً بعد يوم حتى يعلم بدون هيهات هيهات.إذاً: من يفعل هذه الثلاث التي هي أصول هداية الخلق ابتغاء مرضاة الله، وطلباً لرضا الله؛ لينزله بجواره، لا من أجل قرابة ولا من أجل وطن ولا من أجل أي علة أخرى، وإنما فقط من أجل ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [النساء:114]، فالله يعده ومن أصدق من الله وعداً وعهداً وحديثاً. فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، فإذا كان العظيم-الله-يستعظم الأجر فكم يكون هذا الأجر؟! كم تقدرونه؟! إن كوكبكم الأرضي هذا يعطى المؤمن في الجنة أكثر من دنيانا هذه بسبع أو ثمانِ أو عشر مرات، هذا الأجر العظيم هو الجنة دار السلام.والآن بعدما عرفنا زادنا الله معرفة أننا لا نتناجى بالسوء والشر والأذى أبداً، وخذوا قاعدة قعدناها لأبنائنا لو كانوا يعملون، فأقول لهم: اسمعوا! إن الكلام الذي لا أستطيع أن أقوله في المسجد النبوي بين الناس لا أقوله في المنزل؛ لأن الكلام الذي تتحاشى أن تقوله بين الناس معناه أنه غير مرضٍ لله تعالى، فتخفيه أنت وتقوله في بيتك، فهل يصح هذا؟ إن المؤمن ظاهره كباطنه، فلا يفكر إلا فيما هو معروف وخير، ولا ينطق إلا بما هو معروف وخير، ولا يتحرك حركة فيعمل إلا فيما هو خير ومعروف، فالمناجاة الخاصة في البيوت والمنازل-وقد شاعت بيننا-تكون ضد الحكومات، ضد الأحزاب والجماعات، ضد المناوئين والمناوئات، فهل المجتمع الإسلامي يكون هكذا؟! ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذه ولا يكذبه، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله )، ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )، فكيف تسار فلاناً وفلاناً سراً على أن تفعلوا كذا وكذا، أو تجحدوا الخير عنهم وتغطوه وتخفوه بينكم ولا يطلع عليه إخوانكم؟! إن هذه المسالك ليست ربانية ولا إسلامية أبداً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يتناجى اثنان دون الثالث )، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ [المجادلة:9].معاشر المستمعتين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من طلب وجد، فمن أراد أن يعلم علم، ومن أراد أن يعمل عمل ووفقه الله، فقط نقبل على ربنا في صدق، ونسأله هدايتنا وتوفيقنا لما يحبه ويرضاه.
تفسير قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى...)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].
حرمة مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين
قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [النساء:115]، أي: ومن يشاقق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أين يوجد ضريحه؟ هنا، سبحان الله! لو كنا في الهند أو في أمريكا ونقول: أين ضريح الرسول صلى الله عليه وسلم؟ نحن الآن في دياره والحمد لله، هذا الرسول المكرم المبجل المعظم، و(أل) هنا للتعظيم والتبجيل؛ لأن الرسول معروف، لا هو موسى ولا عيسى، (ومن يشاقِّ)، وفك الإدغام: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [النساء:115] محمداً صلى الله عليه وسلم، كيف يشاقه؟ يتركه في شق وهو في شق، فلا يلتقيان ولا يتصافحان ولا يتعانقان، يقال: شاقه، أي: جعله في شق وهو في شق آخر، فلا تلاقي ولا مودة ولا حب ولا تعاون معه، فالرسول يدعو إلى كذا وهو يدعو إلى كذا، الرسول يأمر بكذا وكذا، وهو يأمر بعكس ذلك، فهذه هي المشاقة، وبالتالي فالذي يأمر بغير ما يأمر به رسول الله، والذي يدعو إلى غير ما يدعو إليه رسول الله، والذي يحب غير ما يحب رسول الله، والذي يكره غير الذي يكره رسول الله، فوالله لقد شاق الرسول مشاقة كاملة. وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [النساء:115]، لابد من هذا الشرط، أي: من بعد ما عرف ما جاء به رسول الله وما يدعو إليه من الهدى والخير للبشرية، ولاحت أنواره وظهرت كراماته وأثره في البلد وفي البلاد والمجتمع، أما من كان جاهلاً ما عرف وما شاهد، فهذا له أمره، إذ نحن الآن مع من عرف ما يأمر به الرسول وما ينهى عنه وما يدعو إليه، ثم عاكسه من بعد ما تبين ولاح له وضوح النهار، وما يدعو إليه من الخير والحق والمعروف والهدى وإكمال البشرية وإسعادها، فقد شاق الرسول صلى الله عليه وسلم مشاقة كاملة، وهذا يدخل فيه مجموعات من اليهود ممن عرفوا أن محمداً رسول الله، كما قال عبد الله بن سلام: والله لا أشك في رسالة محمد ونبوته، وقد أشك في ولدي، فقد يكون ليس مني، أي: ممكن أن أمه قد خانتني، أما هو فصلى الله عليه وسلم فلا أشك فيه، وصدق الله إذ يقول: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، قال: نعرفه أكثر مما نعرف أبنائي؛ لما لاح من أنواع الهداية التي يقوم بها ويدعو إليها. مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [النساء:115]، وهذا أولاً، وثانياً: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]، أي: ويتبع غير طريق المؤمنين، هيا نبكي، ما هذه الفرقة؟ قال أهل العلم من كبار الصحابة والتابعين: إن هذه الآية دليل قطعي على الإجماع الإسلامي، فإذا أجمع علماء الأمة المحمدية في أي عصر من عصورها على شيء فإنه يحرم الخروج عنهما، ولا يحل لمؤمن أن يخرج عن ذلك الإجماع ويعيش منفرداً برأيه، وهكذا أهل القرية من قرانا الإسلامية العربية والعجمية، فيجب على أهل القرية أن يجتمعوا على إمامهم وواعظهم ومعلمهم ومربيهم ولا يختلفون أبداً، ومن خالف وانفرد وقع في هذه الورطة، واتبع غير سبيل المسلمين، وهذا إغلاق لكل نافذة أو فوة فضلاً عن باب يدعو إلى الفرقة بين المسلمين؛ لأن المسلمين يحملون راية الهدى، يحملون راية لا إله إلا الله محمد رسول الله إلى البشرية كلها، فهل يقدرون على رفعها وهم متنازعون متحاربون مختلفون؟ والله ما يستطيعون، وانظر إليهم لما تمذهبوا مذاهب وطرائق سقطت الراية منهم واستعمرهم الغرب فأذلوهم، وعملوا على تمزيقنا وتشتيتنا وتفريقنا، وإن قلت: كيف؟! كم من مذاهب موجودة في المسلمين حتى مذاهب الحق الأربعة؟ والله ما ينبغي أن تكون، ولكن تباعد الديار، فكيف يعرفون؟ قالوا: لا بأس، وهذه المسائل التي جاءت عن إمام من أهل العلم، كـأبي حنيفة أو أحمد أو مالك نعمل بها بشرط واحد: إذا صح عند أحمد أو مالك أو الشافعي أو أبا حنيفة الحديث فلا يحل لمؤمن أن يقول: أنا حنفي، أو أنا مالكي، أو أنا حنبلي، أو أنا شافعي، إذ هذه مذاهب الحق الأربعة الواردة لمصادر الكتاب والسنة، فإذا بقينا في إقليم وأخذنا المذهب الفلاني نعمل به على أنه حق، لكن إذا جاءت السنة المبينة نقول: اسمحوا لنا نحن أحناف ما نعمل بهذا! والله ما يجوز هذا، أما المذاهب التي أعلنت خروجها عن جماعة المسلمين فلا تسأل عنها ولا نذكرها، إذ هي هالكة. سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]، أي: أن الطريق الموصل إلى رضا الله عز وجل هو العمل بالقرآن العظيم والسنة النبوية المبينة المفصلة الشارحة لما جاء في كتاب الله عز وجل، فهذا هو سبيل المؤمنين، قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، أي: وما أعطاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا.وتلك الطوائف المتنوعة قد هبطت وتمزقت، وكان الواجب أن يراجعوا أمرهم ويعودوا إلى جماعة المسلمين، فلمَ يرضون بالاستقلاليات؟! هل يقولون: نحن كذا ونحن كذا؟!والمهم أن هذا وعيد إلهي: ومن يشاقق الرسول، ومعنى يشاقه: أي: ما يقبل قوله، فتأتيه السنة فيرفضها لا لشيء إلا لهوى أو شهوة أو مادة أو للحفاظ على مركز أو للإبقاء على منافع دنيوية. وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [النساء:115]، ولاحت أنواره وعرف أن هذا هو الحق، وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]، أي: ما يمشي مع المؤمنين في طريقهم الموصل إلى رضا ربهم، وهو العمل بالكتاب والسنة، عقيدة وقولاً وفعلاً.
جزاء من شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين
قال تعالى: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء:115]، أي: نتركه لما طلب، إلا إذا تاب وأناب فالله عز وجل يقبله، أما ما دام مصراً على الهوى وهذه الشهوة وهذا الباطل فيتركه لذلك، فنوله الآن في الدنيا ما تولاه، وهذه سنة الله عز وجل، وهذا نظام الأسباب، فإذا رغبت عن الله ورسوله، ورغبت عن جماعة المسلمين واخترت غيرهم، يتركك الله لهم، إلا عرفت الطريق ورجعت، وندمت وبكيت، فالله يقبلك مادمت حياً قبل الآخرة. نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء:115]، أي: نتركه لما طلب، فلا ننزل عليه ملكاً يبين له أو يأخذه، بل نتركه لما طلبه من الخروج عن جماعة المسلمين، ولكن في الآخرة بعد الموت: وَنُصْلِهِ [النساء:115]، أي: نحرقه بجهنم، وساءت جهنم مصيراً يصير إليه الآدمي، فماذا تعرفون عن جهنم؟ يُسقى أهلها الحميم، ويصب على رءوسهم الحميم، فيصهر ما في بطونهم والجلود، وتعظَّم أجسامهم وتكبر حتى يكون عرض الإنسان مائة وخمسة وثلاثين كيلو متراً، وذلك كما بين أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( ما بين كتفي الكافر في النار كما بين مكة وقديد )، وضرسه ونابه والله كجبل أحد، وذلك ليخلد في عالم الشقاء بلا نهاية، وهذا والله أمر لا يطاق أبداً. وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، لو كانت الأعمار ما تنتهي نقول: متى هذا؟ لكننا نشاهد أنفسنا نقبض يومياً ونؤخذ من بين أهلنا وذوينا، فهل هناك من أثبت حياته وقال: لن أموت حتى لا نعذب؟ لا أحد، بل مادام أنه خلق ثم يميت ثم يحيي، ولا يميت بعد ذلك، فقال تعالى: لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه:74]. معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أولاً: عرفنا هذه الآداب الإسلامية، فلا يتناجى اثنان دون آخر حتى لا يؤذونه، وثانياً: إذا كنا نتناجى لواحدة من هذه الثلاثة: إما صدقة، وإما إصلاح بين اثنين، أو معروف ليفعله إخواننا، فقد أذن الله لنا في هذا، ثم بعد ذلك نعمل إن شاء الله على أن نكون من أهل هذه الصفات الثلاث، ممن يتصدقون أو يدعون إلى ذلك، ممن يأمرون بالمعروف ولا يفارقونه، ممن يصلحون بين إخوانهم حيثما وقع الشقاق أو الخلاف بين اثنين أو بين جماعة، فنعمل على إصلاحهم، وقد سمعتم جزاء الله عز وجل على ذلك فقال: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، ألا وهو الجنة بعد رضا الله عز وجل، وعرفنا أيضاً أن المناجاة بالكلام المهلك الممزق المسيل للدماء، المفرق بين المسلمين، المفرق بين الرجل وزوجته، بين الأخ وأخيه، باطل وأهله في النار، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ [المجادلة:9]، وليكن باطننا كظاهرنا، فالكلمة التي هي حق وخير ومعروف وأنها تنفع المسلمين، فلنقلها في السوق أو في المسجد أو في البيت، والكلمة التي نعلم أنها تحمل الأذى والضرر فلا نقولها حتى ولو كنا في أنفسنا لا نتكلم بها، ومن طلب وجد، ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )، ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، عرفت أنك لا تستطيع أن تقول الخير إذاً لا تتكلم، ولنذكر قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )، أي: إذا لم تستح من الله ولم تخفه فافعل كل شيء، فلابد من مراقبة الله عز وجل، فنعيش مع الله عند الأكل وعند الشرب، بل في كل أحوالنا نراقبه ونطلب رضاه، وبذلك نظفر إن شاء الله.أخيراً: إياكم والتحزب والتجمع، ففي أي بلد قل: أنا مسلم، ولا تقل: أنا حنفي ولا وطني، فمن سألك: من أنت يرحمك الله؟ فقل: أنا مسلم، مرني بأمر الله وانهني بنهي الله، مرني بأمر رسول الله وانهني بنهي رسول الله فأنا معك، أما حزب أو جماعة أو منظمة أو تكتل أو دولة أو إقليم، فإن هذا ممحوٌ عندنا معشر المؤمنين والمؤمنات، وذلك حتى لا نخرج عن جماعة المسلمين.وصلى الله على نبينا محمد.

ابوالوليد المسلم
03-05-2021, 04:07 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (60)
الحلقة (283)
تفسير سورة النساء (64)


الشرك بالله هو الظلم العظيم، والله عز وجل لا يغفر لمن أشرك به، فهو سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، فلا يقبل أن يشرك معه شيء في ألوهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته، أما ما عدا ذلك من المعاصي والآثام التي تقع من العبد فإن الله عز وجل إن شاء آخذه بها وإن شاء تجاوز عنه ما دام أنه سالم من الشرك.
تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن الليلة مع آية فقط من كتاب الله عز وجل، مع مراجعتنا للآيتين اللتين درسناهما في الليلة الماضية، وآيتنا الليلة التي نتدارسها ونقرؤها ونتلوها ويحفظها الكثير منا، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116].أبنائي العوام! إخواني العوام! هيا بنا نحفظ هذه الآية ونرجع بها إلى بيوتنا محفوظة، إذ هي أولاً: كلام الله، وثانياً: نصلي بها النافلة والفريضة طول حياتنا، وثالثاً: أنه بحفظنا إياها نكتنز كنزاً نورانياً في صدورنا حتى تلقى ربنا، وإذا فهمنا معناها وحفظناها فقد خطونا أكبر خطوة إلى ظلال العلم الوارف.فما المانع أن نحفظها؟ هيا نكررها: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، قال علي بن أبي طالب صهر النبي وابن عمه رضي الله عنه كما جاء عند الترمذي في جامعه: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية. وسوف يتضح لكم سبب هذا الحب، وتعرفون مقام علي في العلم، إذ إنه بحر زاخر. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:116]، أي: ما دون الشرك، لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، أتعرفون الضلال البعيد؟ لو أن رجلاً أراد أن يذهب إلى مكة، ومكة كما هو معلوم توجد جنوباً، فأخطأ ومشى شمالاً، ومشى أربعين يوماً في الشمال، فهل يستطيع أن يرجع إلى مكة؟ ما يستطيع، فقد نفد الزاد، وتعب وعيي، لكن لو مشى فقط كيلو أو اثنين أو ثلاثة، أو يوماً واحداً، فيمكن أن يرجع؛ لأن الضلال قريب، لكن إذا كان الضلال بعيداً، ووصل إلى أوروبا، فكيف يرجع؟ هلك، وهذا تفسير الضلال البعيد في كلام الله، فقد انتهى عمره وانتهت حياته.ومعنى هذا يا عبد الله! يا أمة الله! لا تتوغل في الشر والفساد والظلم والخبث والكفر، فإن التوغل في ذلك كالضلال البعيد، بخلاف من زنى أو سرق أو كذب أو ضرب أمه أو عق والده، ثم رجع فيمكنه أن يرجع، لكن إذا توغل في ذلك الظلم العام بعد العام، وما ترك جريمة إلا ارتكبها، فمثل هذا لن يعود، بل يطبع على قلبه، وتتغير طبيعته، ويفسد قلبه، ولا يصبح أبداً يؤمل أن يعود إلى الحق والخير، ولهذا فالقاعدة عند أهل الإسلام: أن التوبة تجب على الفور، ولا يجوز تأخيرها عاماً أو شهراً أو أياماً، فإذا وقعت يا عبد الله في معصية الله فأعلن عن توبتك وقل: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، يمحى ذلك الأثر ولا يمكن أن تعاوده، وإن عاودته مثلاً فأنت متهيئ للتوبة دائماً، فلا يجيء ختم ولا طبع على قلبك، أما إذا استمريت في هذه الجريمة يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، فلا يمكن أن ترجع. هل تريدون أن تعرفوا كيف تكون التوبة؟ كان هناك سوق المدينة لبيع التمر، فجاءت مؤمنة -زوجها في الجهاد-لتشتري شيئاً من التمر لها ولأولادها، فمرت بالبائع واشترت منه فرأى كفها، إذ لم يكن عندها قفاز، فأعمى الشيطان ذلك العبد فقبل كفها، فقالت له: أما تتقي الله؟ فما الذي حصل؟ والله العظيم خرج من مكانه ذاك وهو يصرخ، وينتف في شعره، ويرمي بالتراب على وجهه حتى وصل إلى أحد، ثم عاد من أحد كأنه فاقد عقله، ودخل على الرسول في صلاة المغرب، وأراد أن يتكلم مع أبي بكر فرفضه، ومع عمر كذلك، وانتظر حتى صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب بالمؤمنين وأخبره، فعرف الرسول توبته التي لا تعادلها توبة، فقال: ( هل صليت معنا المغرب؟ فقال: نعم، فقرأ عليه: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] )، أما أن يواصل العبد الجريمة بعد الأخرى فأنى له أن يتوب؟!واسمع إلى أستاذ الحكمة ومعلمها صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ( إذا أذنب العبد ذنباً وقع نكتةً سوداء على قلبه، فإن تاب ونزع انمحت وذهب أثرها، فإن لم يتب وزاد ذنباً آخر إلى جنب الأولى وثالثة ورابعة يختم على قلبه، وذلكم الران الذي قال تعالى فيه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] )، وهؤلاء ما يستجيبون لنداء الحق ولا يقبلونه.معاشر المستمعين! حفظتم هذه الآية أو تعدونها رخيصة؟ والله لحفظها خير من خمسين ألف ريالاً، وليسمح لي ربي إذا ما أعطيتها حقها، والله لأن يحفظها مؤمن أو مؤمنة، ويصلي بها النوافل والفرائض ويذكرها دائماً وهي نور في قلبه؛ فتبعده عن ساحات الشرك والعياذ بالله، لكان ذلك خيراً له من الدنيا وما فيها.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء

النهي عن النجوى وبيان مواطن جوازها
يقول تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، والمناجاة هي الكلام السري في المخابئ أو في البيوت أو تحت أي شيء، فإذا لم تكن من هذه الثلاثة فهو باطل وصاحبه هالك والعياذ بالله، فلا بد أن تكون ظواهرنا كبواطننا، وقد قلت لكم يوم أمس: والله إن الكلام الذي لا أستطيع أن أقوله في المسجد لا أقوله في البيت، إذ كل ما فيه أذى فهو حرام، وكل ما فيه رضا الله فهو حلال، وقله وتبجح به، وما كان به سخط ربنا ويحمل أذية للمؤمنين والمؤمنات، فلا يحل أبداً أن تقوله لا في السر ولا في العلن. وفي حديث الأنبياء كلهم: ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )، ونحن نستحي من الله أن نقول كلمة تغضبه، نستحي من الله أن نجحد كلمة جحودها يغضبه، وبالتالي فما كان حقاً وخيراً فقله في السر والعلن، وما كان شراً فلا تقله لا في السر ولا في العلن، وهذا نظام حياتنا معاشر المؤمنين. لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، والجزاء: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، ألا وهو الجنة دار السلام، فأي أجر أعظم من الجنة؟! وهذا قد علمناه وعزمنا على أن نعمل به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يتناجى اثنان دون الثالث )، وقال تعالى: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة:10]، فيا إخواننا! تخلوا عن التحزب والتجمع والطائفية والكلام السري والتآمر على بعضكم وإخوانك، إذ هذا ليس من شأننا، فنحن أولياء الله عز وجل.
النهي عن مشاقة النبي صلى الله عليه وسلم
وبعد ذلك ماذا؟ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، وهذا الخبر صاحبه الله تعالى، وهو يحمل حكماً إلهياً لا ينقض، ومن هنا فإن أهل القرية وأهل المدينة وأهل الإقليم، ومن سكنوا في جبل أو في أي مكان من الأرض، إخوان متحابون متعاونون، لا يحل لك أن تقول كلمة تؤذي أحداً منهم، ومن هنا فلا حزبية ولا طائفية ولا وطنية أبداً، وإنما مسلمون أولياء الله تعالى، وهذا ممكن، فقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين سنة ولم يكن عنده تحزب عنده أبداً، وإنما مسلمون فقط، وولي الخلافة من بعده أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وفي أربعين سنة لم يكن هناك في المسلمين حزب كذا أو جماعة كذا.نعم خرج الخوارج على علي فقتلهم وقاتلهم، وهذه الآية بالذات أحبها علي؛ لأنها تغلق الباب في وجوه الخوارج الذين يكفرون المؤمنين بذنب من الذنوب، وما زالوا يتواجدون، فعندهم إذا ارتكب المؤمن كبيرة كزنا أو رباً أو عقوق الوالدين أو سرقة ومات بدون توبة فإنه يخلد في جهنم، فيكذبون على الله ورسوله وعلى شرع الله، مع أن هذه الآية الكريمة تقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]، ولا خلاف في هذا، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك [النساء:116]، أي: دون الشرك، فكل المؤمنين والمؤمنات من مات منهم على كبيرة من كبائر الذنوب دون الكفر أو الشرك، فإنه تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر له، وإن شاء أدخله النار، أما أن نحكم بالخلود في النار لكل من أذنب، فهذا المذهب مذهب الخوارج وعلي قد قاتلهم وقتل منهم آلاف. وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [النساء:115]، فهل فهمتم معنى مشاقة الرسول أو لا؟ الرسول يقول: ( إذا أكلت فقل: بسم الله )، وأنت تقول: لا نقول: بسم الله، الرسول يقول: ( إذا أكلت فكل بيمينك )، وأنت تقول: لا، فتأكل بشمالك، الرسول أوصى رجاله بأن يعفوا لحاهم، وأنت تقول: ما هذا؟! ولا تعفي لحيتك، أو لا تبقي مظاهر الرجولة فيك فقط، الرسول يأمر الناس بأن يصلوا في بيوت الله، وأنت تقول: لا، ثم تصلي وحدك، فهذه هي المشاقة للنبي صلى الله عليه وسلم.والشاهد عندنا في مشاقة الرسول كمعاداة الرسول، يقال: عادى فلان فلاناً، بمعنى: وقف في عدوة وذاك في عدوة أخرى، وعدوة الوادي، أي: جانبي الوادي، فهذه الجهة تسمى: عدوة، والأخرى: عدوة، وكذلك المشاقة، فهو في شق وأنت في شق، وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [النساء:115]، بمعنى: يقف بعيداً عنه، فلا يواليه لا في فريضة ولا نافلة ولا في شيء، وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا [النساء:115]، عرف الحلال والحرام، الحق والباطل، الخير والشر، الإيمان والكفر، الصدق والكذب، ثم يفضل المشاقة والبعد عن الرسول، فيواصل جرائمه وأطماعه وهواه، فيموت والعياذ بالله على ذلك.

يتبع

ابوالوليد المسلم
03-05-2021, 04:08 AM
التحذير من اتباع غير سبيل المؤمنين
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]، ما هو سبيل المؤمنين؟ الصراط المستقيم الذي نسأل الله إياها في سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، إذ إن الصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى رضوان الله وجواره في الدار الآخرة، وهذا الطريق معشر المسلمين والمسلمات! هو أوامر هنا ونواهي هنا، وامش أنت بينهما، فلا تهمل واجباً ولا تغشى حراماً، وامش عاماً وعامين حتى ينتهي عمرك وتموت على هذا المنهج الرباني فتكون من أهل الجنة دار السلام، وقد يكون الصراط خمسين سنة بالنسبة إلى عمرك، فإن زلت القدم واستغفلك العدو وأنت سائر إلى الله، كأن تركت واجباً أو فعلت حراماً، فانهض على الفور وأنت تصرخ: أتوب إلى الله، أستغفر الله، أستغفر الله، وواصل سيرك حتى يختم لك بخاتمة السعادة وتدخل الجنة.إن سبيل المؤمنين بعبارة أوضح، اسمعوا! بلغوا! تحدثوا بهذا الكلام مع إخوانكم ومع نسائكم: كان الحبيب صلى الله عليه وسلم في مسجده هذا يعلم أصحابه الكتاب والحكمة ويزكيهم، يعلمهم الكتاب وهو القرآن، ويعلمهم الحكمة وهي السنة، ويزكيهم بأن يطهر قلوبهم من أوضار الذنوب والآثام والأخلاق الفاسدة والمفاهيم السيئة، فمن لنا يا ربنا يعلمنا الكتاب والحكمة ويزكي نفوسنا؟ يا عبد الله! لو طلبت لوجدت، لكن ما طلبنا ولا رغبنا، والمفروض فينا والواجب علينا معاشر المسلمين! على اختلاف ديارنا ولغتنا، أننا ما بين المغرب والعشاء نجلس هذا الجلوس كما تشاهد وتنظر، وذلك من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء؛ لنتعلم الكتاب والحكمة ونزكي أنفسنا يوماً بعد يوم، بل العمر كاملاً، فهل يبقى جاهل؟ وهل يبقى ضال؟ وهل يبقى فاسد؟ لا والله، ولكن العدو أبعدنا عن الكتاب والحكمة وتزكية النفوس، فتهنا في متاهات الضلال، وهذه هي حالنا، والرسول الكريم يقول وهو ينظر إلى هذا الواقع: ( لقد افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة )، فدينهم واحده ولكن جزءوه وقسموه حتى أصبح إحدى وسبعين طائفة، ( وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة )، بزيادة فرقة واحدة، والله الذي لا إله إلا الله غيره لكما أخبر رسول الله، ولن يستطيع نصراني أن يرد هذا إلا إذا كان جاهلاً، فالإنجيل قد حولوه إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً، لكن لما عيبوا ولوموا جمعوا الخمسة والثلاثين في خمسة أناجيل! فكيف كتاب الله يحول إلى خمسة كتب؟! وأين الحق الذي فيه إذاً؟ والقرآن لمَ ما حوله؟ تولى الله حفظه فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، والله لو قدروا لقسموه إلى سبعين وثمانين، وقد قلت لكم: حاولوا في مؤتمرات ظالمة في ظلمة على إسقاط كلمة: (قل) فقط من القرآن فعجزوا؛ لأن الله تعهد بحفظه فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة )، أكثر من النصرانية واليهودية، فالرسول قال هذا والمؤمنون بين يديه، لا هم في الشام ولا في العراق ولا في الهند ولا في السند ولا في المغرب، وإنما بين يديه في المدينة، وصدق رسول الله، إذ في القرية الواحدة تجد هؤلاء إخوان سيدي عبد الحفيظ، وهؤلاء إخوان سيدي عبد القادر، وهؤلاء إخوان مولاي إدريس، وهؤلاء إخوان كذا، فتجد الجماعات والجماعات، ثم ماذا؟ المذاهب والطوائف والروافض، وذلك أكثر من ثلاثين طائفة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.ثم قال في النهاية: ( كلها في النار إلا واحدة ففي الجنة )، والله العظيم، وأهل الحلقة من النساء والرجال لو تسأله فإنه يبين لك، إذ ليس في ذلك عجب أبداً؛ لأن الذي يعمل بما جاء عن رسول الله وأصحابه في عقيدته وعبادته وقضائه وآدابه وأخلاقه، فإن نفسه ستصبح مشرقة أكثر من هذا النور، ولا تتلاءم أبداً مع مكان إلا الملكوت الأعلى، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، والنفس الملطخة الملوثة بأوضار الذنوب والآثام والعقائد الباطلة أنى له أن تدخل دار السلام، والله يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]؟! والبعير الأورق لا يدخل في عين الإبرة، إذ إن هذا مستحيل، وكذلك ذو النفس الخبيثة المدساة المنتنة العفنة بالشرك والمعاصي؛ يستحيل في حقها أن ترتقي إلى الملكوت الأعلى، كلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين:7].ثم قام أحد الصحابة فقال: من هم يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ( هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )، ما الذي كان عليه رسول الله وأصحابه؟ العقيدة الربانية التي جاءت في آيات الله وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، فالعبادات من الطهارة إلى الحج كما جاءت في كتاب الله وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأحكام القضائية كما جاءت في كتاب الله وبينها رسول الله، والآداب والأخلاق كما هي في الكتاب وبينها الرسول، فهذه هي العقيدة الربانية، حتى تجد أخاك أو تجد نفسك كأنك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعقيدتك كعقيدتهم، وعبادتك كعباداتهم، وآدابك وأخلاقك مع الناس كآدابهم وأخلاقهم، وهذا يتوقف على الحلقة المفقودة وهو أن نتعلم، أن نعرف كيف كانت عقيدة الرسول وأصحابه؟ كيف كانت عبادات الرسول وأصحابه وهو يقول: ( صلوا كما رأيتموني أصلي، حجوا كما رأيتموني أحج )؟وعليه فلابد أن نتعلم لا لنتوظف، لا من أجل الدنيا وأوساخها، نعم قد نعمل فلاحين وصناعاً، لكن لابد وأن نتفرغ ساعة في اليوم من أجل أن نعرف ما هي العقيدة التي يرضاها الله لنا، وكيف العبادة؟ وكيف الآداب والأخلاق؟ وبدون هذا التعلم مستحيل أن تكون كأصحاب رسول الله في عقيدتك وآدابك وعملك وعبادتك، فمتى نرجع؟ هذا الأمر لله.إذاً: من هم يا رسول الله الناجون من النار؟ قال: ( هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )، فنتعلم كيف كان الرسول يعتقد، جيء إليه بأمة سوداء فقل لها: ( أين الله؟ قالت: في السماء، قال: اعتقها فإنها مؤمنة )، المذاهب الهدامة إذا قلت: الله في السماء، يتمنى قطع يدك، وإن قلت: الرسول يقول: ( إن الله يضحك لعبد من عباده )، يقولون: الذي يصف الله بالضحك كافر، وهكذا لم يبقوا لله صفة من صفاته، بحجة أن الله ليس كمثله شيء، ومن شبه الله بعباده فقد كفر، وأوقعوا الأمة في محنة أبعدوها عن الله تعالى، فاسمع يا عبد الله! هم يقولون: لا تقل: الله فوق؛ لأنك حصرته في مكان، ولا تقل: أسفل ولا عن يمين وعن شمال! وهذا خلاصته: أنه لا وجود له، ولذا فالله عز وجل فوق عرشه، وهو القائل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، والرسول قد وصفه عندما عرج إليه، وهذا يقول: لا تقل: في السماء!والمهم يا معشر الأبناء والإخوان! يجب أن نجتمع في بيوت الله في صدق، ونتعلم كيف كانت عقيدة رسول الله وأبي بكر وأصحابه، كيف كانت عباداتهم، كيف كانت آدابهم وأخلاقهم، وإلا فلن نصل إلى هذا المستوى.والخلاصة أن سبيل المؤمنين هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه، فلا روافض ولا خوارج ولا طوائف، وإنما مسلمون فقط، فلم يكن لأصحاب رسول الله مذهب ولا شيخ خاص ولا طريقة خاصة، بل خلال ثلاثة قرون وهم مسلمون فقط، والمسلم أخو المسلم، يعمل ويعتقد ما جاء عن الله في كتابه وعن رسوله المبين المفسر له، فمن خرج عن جماعة المسلمين فقد خرج عن إجماعهم وأكلته النار، فقد قال تعالى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]؛ لأنه أعرض عن الحق وجانبه، وبعد عن جماعة المسلمين، إما لحب دنيا، وإما لعنصرية وعصبية، وإما لأطماع، وإما لسياسية، فالله يتركه ويوليه ما تولى؛ لأنه أعرض عن علم، والجزاء إذا لم يتداركه الله بتوبة: َنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].
التحذير من الشرك بالله تعالى
وهنا يقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]، فهي كالمفسرة لقوله: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء:115]؛ لأن الطوائف التي استباحت دماء المسلمين وكفرتهم، وأخرجتهم عن دين الله، وقضوا على فتنهم وحربهم وأذيتهم من عهد علي إلى يوم القيامة، هؤلاء هم الذين يصليهم الله نار جهنم.فقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]؛ لأن تلك الطوائف خرجت ففسدت عقائدها، ما أصبحت تعتقد ما يعتقد رسول الله وأصحابه، وحينئذٍ ارتموا في أحضان الكفر والشرك، وإن كانوا يعتقدون أنهم المسلمون وغيرهم كفار، وهؤلاء يقول تعالى في هذا الحكم العظيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]، لم؟ لأن الأمر له، ولأنه عاداه واحتقره وما وثق فيه، بل وما أخذ بهديه ولا بشريعته، وسوَّاه بغيره، فهذا يغضب الجبار عنه غضباً لا يزول، بخلاف من زنا أو سرق أو فجر، ثم هو مؤمن بالله ولقائه، معتقد ما اعتقد رسول الله وأصحابه، فهذا تحت المشيئة، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه، ثم أخرجه من النار، إذ إن أهل التوحيد الذين ماتوا على معنى لا إله إلا الله محمداً رسول الله وإن دخلوا النار ومكثوا فيها أحقاباً فإن مصيرهم إلى دار السلام، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، أما من مات يشرك بالله، فهذا قد عادى الله معاداة كاملة، وسوى به مخلوقاته، بل ورفع درجات المخلوقات إلى درجة الله، فأطاعهم وأحبهم وعصى الله ولم يحبه. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:116]، أي: الشرك، لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116]، وهذا أمره تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه وأخرجه من النار. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، أي: ضل ضلالاً لا يستطيع العودة منه، أما إن سرق أو زنا أو عق والديه، فهذا في الإمكان أن يعود، إذ ضلاله ليس بعيداً، فكم من إنسان عاش على الخمر أربعين عاماً ثم تركها ومات وهو لا يشربها، وكم من إنسان يدخن طول حياته وآخر أمره ألقى بالسيجارة وتاب إلى الله تعالى.
أنواع الشرك الذي يحصل من العباد
معاشر المستمعين! وقد حفظتم الآية فهيا بنا نتناول درسها وإن بقي وقت فإلى غدٍ إن شاء الله، اسمع! الشرك بالله يعني: أن تجعل له في عبادته شريكاً، نقول: فلان أشرك فلاناً في المزرعة، وأشركه في الدكان، أي: جعل له نصيب. فأولاً: الشرك في ربوبية الله عز وجل، وهي كونه تعالى الخالق الرازق المدبر لكل الكائنات، وهذا توحيد الربوبية، فلا يوجد من خلق مع الله ولو ذبابة، ولا يوجد من خلق مع الله كوكباً واحداً من بليارات الكواكب، إذ الله تفرد بالخلق والرزق والتدبير للكون كله، وبالتالي فمن اعتقد أن فلاناً من الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء شارك الله في هذا فقد كفر كفراً كاملاً، كفر بربوبية الله عز وجل، وهذا الشرك في الربوبية نادر عند الأولين، إذ إن العرب أنفسهم ما كانوا يعتقدون أبداً أن الله خلق معه خالق آخر أو رزق معه رازق آخر، والرسول يقال له: اسألهم: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [يونس:31]، قل: الله، إذ ليس هناك جواب إلا هذا، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس:31]، ويكفي أنهم يحلفون بالله، ولكن أشركوا في عبادته لا في ربوبيته.إذاً: التوحيد أولاً: أن نوحد الله في ربوبيته، فلا خالق ولا رازق ولا مدبر إلا الله تعالى، والتدبير معروف، يقال: المرأة تدبر المطبخ، وكذلك تدبير الحياة تعني: أنه تعالى هو الذي يميت ويحيي، يعطي ويمنع، يعز ويذل، يجمل ويقبح، كل الحياة هو الذي يديرها، فهل هناك من يحيى بدون الله؟ من يوجد بدون الله؟ من يموت بدون الله؟ لا، وهذه الربوبية نخص الله تعالى بها، فلا خالق ولا رازق ولا مدبر إلا هو.ثانياً: الشرك في أسمائه وصفاته، إذ لله مائة اسم إلا واحداً، وأكثر المسلمين لا يقولون بهذا، فهم لا يحفظونها، وهذه الأسماء الحسنى والصفات العلا لا يصح أن نسمي أحداً بها؛ حتى لا نشاركه في أسمائه وصفاته، فلا يجوز أن تسمي أحداً: الله! أو تسمي آخر: الرحمن!واسمع إلى الرسول الكريم وهو يقول: ( إذا كان ثلث الليل الآخر -آخر الليل- ينزل الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا -القريبة منا- وينادي: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ )، فكل من سأل واستغفر وطلب يحصل على ما أراد، وهذا نزول حقيقي يليق بجلال الله عز وجل. وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: ( يضحك الرب تبارك وتعالى لرجلين قتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: هذا الكافر يقتل مؤمناً في الجهاد، ويسلم الكافر الذي قتل المؤمن، فيدخل الجنة فيلتقي مع مقتوله )، أي: أن المشرك قتل صحابياً ثم أسلم بعد ذلك، فإنه يدخل الجنة، والشاهد في كون الله يضحك، لكن لا تفهم أو تتصور أن ضحك الله كضحك الكائنات، إذ هذا مستحيل؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وكون الجبار عز وجل يضع قدمه في النار لما يسألها: هل من مزيد؟ فتقول: قط قط، يعني: أن لله قدماً تليق به سبحانه وتعالى، لا كأقدام المخلوقات.وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
03-05-2021, 04:09 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (61)
الحلقة (284)
تفسير سورة النساء (65)


إن الشرك خطر عظيم يحدق بالإنسان، فمن نجا منه فقد نجا، ومن لم ينج منه وتلبس بشيء منه فقد خسر الخسران المبين؛ لأن الله عز وجل خالق الخلق ومصرف الأكوان ومدبر أحوال العباد لا يقبل أن يشرك معه غيره، فهو سبحانه المستحق لأنواع العبادات، ومن أتى شيئاً من الذنوب والمعاصي والسيئات دون الشرك فهو تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه.
تابع تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومع آية منها تناولناها بالأمس قراءة وحفظاً وشرحاً وتفسيراً، ونعود إليها ليلتنا هذه؛ لما لها من أثر في حياتنا معشر المستمعين والمستمعات! وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116].وطالبنا أبناءنا وإخواننا العوام والذين ما درسوا كتاب الله أن يحفظوا هذه الآية، فإنها كنز من كنوز دار السلام، وكتلة من النور الإلهي متى ما استقرت في قلب العبد وشاعت أنوارها على سمعه وبصره ولسانه، اهتدى إلى سعادته وكماله، ولا شك أن بعضاً وفقهم الله وحفظوها، فليحافظوا عليها، وذلك بالصلاة بها في الفرائض والنوافل، ولو أن عامياً لم يحفظ من القرآن إلا هذه الآية، خير من ألف عامي ما حفظوها.
تعريف الشرك وبيان قبحه وخطره على العبد
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، وهذه الآية لها أختها أيضاً في نفس السورة، وهي قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، وللآيتين أيضاً نظير من سورة الزمر، إذ قال تعالى وقوله الحق: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزمر:65]، والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ [الزمر:65]، أي: من رسل الله عليهم السلام، ما الذي أوحي إليه وإليهم؟ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].ومن هنا كان الشرك خطراً عظيماً على الإنسان، من نجا منه نجا، ومن لم ينج منه وحل به وتورط فيه، فقد خسر الخسران الأبدي، ولنعلم أنه لا فرق بين الشرك والكفر، فكل كافر مشرك؛ لأنه عبد الشيطان ولم يعبد الرحمن، والشيطان هو الذي أمره بالكفر بآيات الله وبلقاء الله وبتوحيد الله وبرسل الله وبشرع الله فأطاعه، وليس كل مشرك كافر؛ إذ الشرك صنفان أو نوعان: شرك أكبر يكفر صاحبه، وشرك أصغر لا يكفر، ولكن يأثم ويتورط في الإثم، وواجبنا نحن المسلمين رجالاً ونساءً أن نعرف الشرك ما هو؟ كما يجب أن نعرف التوحيد ما هو؟الشرك: ضد التوحيد، يقال: هذا موحد وهذا مشرك، وباللسان القريب للمؤمنين والمؤمنات: الشركة تكون في بعير اشترك فيه اثنان، وتكون في منزل اشترك فيه اثنان، وتكون في سيارة اشترك فيها اثنان، فعبادة الله عز وجل ينبغي ألا يشاركه فيها أحد، إذ إنها خاصة به، فلا ينبغي أن يشارك الله تعالى في عبادته مخلوق كائناً من كان؛ لأنه استحق هذه العبادة وتعينت له ووجبت له دون غيره، ولأنه هو الذي خلق الإنسان والجان والملائكة، وسر خلقهم وعلة هذا الخلق وحكمته هي عبادة الله عز وجل، ولم يكن الله تعالى في حاجة إلى ملك ولا إلى جني ولا إلى إنسان، وإنما فقط خلقهم ليعبدوه، فمن لم يعبده تمزق وتلاشى وخسر خسراناً أبدياً، ومن عبده وأشرك معه غيره فقد خسر نفس الخسران وتمزق نفس التمزق التام، ألا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].إذاً: الشرك ضد التوحيد، والموحد ضد المشرك، والمشرك ضد الموحد، وأعيد القول مكرراً له: إن علة الحياة وسر هذا الوجود هو أن يعبد الله عز وجل، إذ خلْق الله للملائكة وللجان وللإنسان علته وسببه والحكمة منه هو أن يُعبد الله تعالى وحده، ولنقرأ لهذا آية من طوال المفصل، إذ قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فهل هناك غرض آخر؟ لا.ثم قال تعالى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:57-58]، ومن السنة ومن بيانات الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي )، أي: يا ابن آدم خلقك الله من أجل أن تذكره وتشكره، من أجل أن تعبده، وإن قلت: وما جزائي؟ وما أجري على عبادتك يا رب؟ فالجواب: الجزاء أن أُسعدك وأكملك في الدنيا وفي الآخرة، وأن أنزلك منازل الأبرار في الجنة دار السلام، وإن كان لا حق لك في هذا؛ لان عبادتك بذكره وشكره هي مقابل خلقه ورزقه وحفظه لك وتدبيره لحياتك، ومع هذا منته عليك هذه العبادة وهذا الذكر وهذا الشكر، الذي من شأنها تطهير النفس وتزكية الروح، فإذا طهرت النفس وزكت قبلها تعالى في الملكوت الأعلى وأنزلها منازل الأبرار، ولا ننس حكم الله في هذه القضية، إذ قال تعالى بعد أيمان حلفها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فمن يعقب على حكم الله وهو القائل في سورة الرعد: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]؟ لا أحد.
بيان توحيد الربوبية والشرك فيه
التوحيد ضد الشرك، فهيا نتحدث عن التوحيد أولاً ثم نتحدث عن الشرك، وذلك من أجل أن نتعلم، إذ يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف التوحيد من أجل أن يعيش عليه حتى يموت، ومن أجل أن يعرف الشرك فيتخلى عنه ويبتعد عنه حتى الموت، لذا فلابد من العلم والمعرفة، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، فالذين ما عرفوا التوحيد والله ما وحدوا الله، والذين ما عرفوا الشرك والله ما نجوا منه ولا سلموا، لذا لابد من العلم، إذ هو أمر ضروري كالهواء والغذاء والماء لحياة الإنسان.أولاً: التوحيد يكون في توحيد الله تعالى في ربوبيته، بحيث لا يشاركه فيها كائن ما، لا في العالم العلوي ولا في العالم السفلي، بحيث لا نقر ولا نعترف بوجود من يدعي أنه الرب.ثانياً: توحيد الله في أسمائه وصفاته، فلا نشرك كائناً من كان في صفة من صفات الله أو في اسم من أسمائه.ثالثاً: التوحيد في عبادة الله وفي ألوهيته، بحيث لا نعتقد وجود إله مع الله، ولا نعبد غير الله، ولا نقر عبادة لغير الله، ولا نرضى بها أبداً، وهذا يؤديه لفظ: لا إله إلا الله، ولعلنا نعرض له إن شاء الله تعالى.فأولاً: توحيد الربوبية، الربوبية: نسبة إلى الرب، والرب في لغة العرب وفي لغة القرآن معناه: السيد والمالك، فمن ملك داراً أو بستاناً أو دابة يقال: هذه ربها فلان، ويقال: يا رب هذه السيارة أبعدها عنا، بمعنى: يا مالكها! والعبد هو الرقيق، والأمة هي الرقيقة، فيقال فيها: أمة فلان، ويا سيد خذ عني أمتك، أو أبعدها من بابي، فالسيد هو الرب، والسيد هو المالك، والرب الحق هو الذي ملك كل شيء، وكيف لا وهو خالقه وموجده؟! والرب هو المعبود الذي لا يستحق العبادة سواه، وبالنسبة إلى الله عز وجل فالله رب العالمين، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62]، فالرب هو الإله المعبود، إله الأولين ولآخرين.إذاً: اسمعوا يا رجال الإسلام ونساءه: لا يصح أبداً أن تشرك في ربوبية الله كائناً من كان، وربوبية الله تتمثل وتتجلى وتتضح فيما يلي:أولاً: في كونه الخالق، فهل يوجد خالق سوى الله؟ لا والله ولا ذبابة، فكل الخلق من إنسان وجان وملائكة وحيوان في البر أو في البحر أو في الجو لا خالق له إلا الله، فإياك إذاً أن تنسب خلق شيء إلى إنسان، إلى كائن سوى الله عز وجل، وتحفَّظ حتى من عبارات الضائعين في متاهات العلمانية والفلسفة الكاذبة فتقول: فلان خلق، لا، إذ لا خالق إلا الله، فهو موجد مادة الذي يخلق منها، ثم يخلق المخلوق، وأنت إذا صنعت صورة أو تمثالاً، فهل مادة التمثال خلقتها أنت؟ وهل جئت بها؟ وهل أنت صانعها؟ إن الأخشاب والألواح والطين والحديد أوجدها الله عز وجل، ثم عقلك وإرادتك وفهمك أنت خالقها أم الله واهبكها ومعطيك إياها؟ إنه الخالق والصانع، فلا خالق إلا هو.ثانياً: لا رازق إلا هو، ومعنى الرازق: الذي يخلق الأقوات، وذلك بأن يوجد مادتها بأسباب سببها وتسخيرات سخرها، فمثلاً: البر كالذرة والشعير والتمر غذاء للإنسان، فمن خلقها؟ الله، وإن قلت: الفلاح، فالفلاح جاء بالبذر ورماه في الأرض، ثم يد الفلاح من خلقها؟ وفكر وإرادة الفلاح من وهبها؟ وذاك البذر من خلقه؟ ولما يرميها في الأرض ويغطيها عن الطير حتى لا يأكلها، فهذه الفكرة من وهبها إياه؟ الله، ثم كيف تتفاعل التربة مع الماء مع البذر حتى تصبح سنبلاً أخضراً وأصفراً ليؤكل؟ وهذه النواة لما تغرسها وتصبح نخلة بعد عام أو عشر سنوات فتطعمك الرطب والتمر، أأنت خالقها؟ والله إنه لا خالق إلا الله، فمن الكفر والشرك أن تنسب خلق شيء إلى غير الله عز وجل، وهو من باب الجهل فقط والهبوط.ومن القصص في هذا: أن ملحداً من الاتحاد السوفيتي استدعيناه لأمر ما، فجاء إلى ديارنا وقدمنا له العجوة من التمر، فأكل منها فاندهش، إذ لم يذق مثلها قط، فقال: هل هذا صنعتموه أنتم؟ نعم الصناعة هذه، وأنتم أرباب الحلويات وصناعها، فسكتنا وأخذناه إلى البستان، وأريناه النخلة، وقلنا له: هذه هي التي تثمر الرطب، فقال: هل أوجدها الفلاح؟ إذاً الفلاح هو الإله، وهو الذي ينبغي أن يعبد، فبينا له أن الفلاح مخلوق الله، ومعلمه الله، وما زاد على أن أخذ النواة ودفنها في الأرض، والله هو الذي أحياها وأنبتها وجعلها تثمر، والفلاح نفسه مخلوق لله، ما خلق شيئاً في نفسه لا قواه الباطنية ولا الظاهرية، وحينئذٍ عرف الطريق إلى الله وقال: آمنت بالله.والرَزق والرِزق مصدر: رزق يرزق رزقاً، والرزق اسم المصدر، أي: موجد أنواع الأغذية والمياه والأكسجين، فمن أوجد هذه؟ بنو فلان؟ لا، والجواب: لا أحد إلا الله، وارفع صوتك إلى عنان السماء ولن يُرد أبداً.واللبن في الضرع كان بالأمس دماً أحمر فكيف تحول إلى لبن أبيض حلو؟ وقبل أن تحمل المرأة أو الشاة فإن دمها دم، وما إن تحمل وتقارب الوضع حتى يتحول الدم الأحمر إلى لبن أبيض، فمن فعل هذا؟ أصابع الطبيب أو سحر الساحرين؟ لا، وإنما هو الله وحده.ثالثاً: التدبير للحياة كلها، فالمرأة تدبر المنزل، فتعرف كيف تكنس، وكيف تطبخ، وكيف تنظف، وكيف تضع الأواني في المطبخ، وهذا معنى التدبر، وكذلك المدبر للحياة كلها بالإحياء والإماتة، بالفقر والغنى، بالعز والذل، بالإعطاء والمنع، بالجمال والقبح، بل بكل مظاهر الحياة، هو الله عز وجل، فهو المدبر للخليقة كلها، وإن أردت أن تنظر إلى أمر مشاهد فانظر فقط إلى السحب كيف ترتفع ثم تتجمع وتتواجد على سطح البحر بتدبيره سبحانه، ثم تنتشر وترتفع حتى تكون جبالاً في السماء، ثم من يسوقها من مكان إلى مكان؟ وتنزل بديارنا وترحل؛ لأنه ما أذن لها أن تصب ماءها، وتنزل بديار أخرى فتصب، وكل ذلك بأذن الله تعالى، فلا دخل لإنسان ولا جان في هذا التدبير العظيم، بل وكل ذرات الكون، وكل ما يجري في الحياة، فإن المدبر له هو الله، ومن نسب ذلك إلى مخلوق فقد أشرك بالله في ربوبيته.مرة أخرى: من نسب الخلق إلى غير الله ولو في بعوضة فقد أشرك في ربوبية الله، ومن نسب الرزق وإيجاد الأرزاق لغير الله فقد أشرك في ربوبية الله، ومن نسب التدبير بالإعطاء والمنع، بالإعزاز والإذلال، بالحياة والموت لغير الله فقد أشرك بالله، هذا التدبير من نسبها إلى كائن فقد أشرك في ربوبية الله عز وجل وأصبح مشركاً، وإن مات على ذلك خسر خسراً أبدياً.فهذا هو القسم الأول من أقسام التوحيد -توحيد الروبية- فوحدوا ربكم، ولا تنسبوا الخلق إلى أي كائن كان، ولا تنسبوا الرزق إلى أين إنسان، ولا تنسبوا التدبر إلى غير الله رب العالمين، فأنتم موحدون.استطراداً: عشنا وبلغنا وعرفنا عن ديوان الصالحين، هذا الديوان لأولياء الله من الأقطاب والبدلاء، وهو ينعقد مرة في بغداد ومرة في الشام ومرة في المغرب، وهؤلاء الأقطاب والبدلاء هم الذين يدبرون الحياة في زعمهم! فيحلفون بهم، ومن النكت أو العجائب: أن ديوان الصالحين انعقد في مسجد من المساجد ليتداولوا الأمر في: من يخلف فلان إذا مات؟ من يكون بدلاً عنه؟ هل فلان يساويه؟ فسمع لص بالمحادثة الليلية في ظلام الليل، فظن أن تجاراً ناموا في هذا المسجد وهم يحسبون أموالهم، فقال: لأبيتنهم غداً، فجاء بعد ما صلى المسلمون وخرجوا، وتأخر فتلفف بالحصير وأقامها ووقف فيها، ثم جاء الديوان، أي: الأقطاب البدلاء، وأخذوا يتداولون في من يخلف سيدي فلان؟ فقال أحدهم: يخلفه هذا الذي في الحصير، فأصبح قطباً من الأقطاب! دخل لصاً فخرج قطباً! ولما نقص هذه القصة يبكي إخوانكم من الخشوع! سبحان الله! دخل لصاً وخرج قطباً، وهكذا كانت أمة التوحيد بعد أن أدبرت عنه وألقته بعيداً عنها، والذي فعل بهم هذا هو العدو الذي ما زالوا لا يعادونه، بل يجرون وراءه، من المجوس واليهود والنصارى.

يتبع

ابوالوليد المسلم
03-05-2021, 04:09 AM
بيان توحيد الأسماء والصفات والشرك فيه
ثانياً: توحيد الأسماء والصفات، وهو موجز وليس بطويل، فاعلموا أولاً: أن الله تعالى ليس كمثله شيء، والله الذي لا إليه غيره لا يوجد مثل الله شيء، لا في عالم الملائكة ولا في عالم الجن ولا في عالم الشياطين ولا الإنسان ولا الحيوان، ويستحيل أن يكون مثلهم وهو خالقهم، فهل صانع هذا القلم يكون مثل القلم؟! مستحيل، إذاً فكيف نصبح مثل ربنا؟! إن هذا مستحيل، إذ كل ما في الكون لا يشبه الله شيئاً، واقرءوا قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].ثانياً: لله تعالى أسماء وصفات عرفناها من طريقه هو وطريق رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد جاءت أسماء الله وصفاته في كتابه القرآن العظيم، وقبله في التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء، وتلك الأسماء والصفات علمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نؤمن بها، أي: نصدق بها، وهذا أولاً، وثانياً: ألا ننسب صفة منها لغير الله من مخلوقاته، بل نوحده في أسمائه وصفاته، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن لله مائة اسم إلا اسماً واحداً )، وهي موجودة في القرآن الكريم مفرقة هنا وهناك، وهي كما أخبر صلى الله عليه وسلم مائة اسم إلا اسماً واحداً، وهذه الأسماء لا نطلق اسماً منها على مخلوق أبداً، حتى لا يكون شريكاً لله في اسمه أو صفته.ثالثاً: أن لله صفات ذاتية وفعلية، فالصفات الذاتية يجب أن نؤمن ونقر ونعترف ونعتقد بها، ونحن نعلم أنها صفات لا يشبهها صفة من صفات المخلوقات، فمثلاً: قال الله عز وجل وقوله الحق وهو يخاطب عدوه إبليس: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، فـ(يدي): تثنية: يدٍ، فيقال: يدان ويدين، وإذا أضفت قلت: يدا فلان، وفيه دليل على إثبات اليدين لله تعالى، وكذلك (الخلق) فهي صفة من صفات الله الفعلية، إذ هو الخالق لكل شيء. ولذا فاسمع يا عبد الله! هلكت أمم في هذه الصفات، فلا يصح أبداً أن تشبه يدي الله بيد المخلوقات، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، بل آمن بأن لله يدين، ولكن يستحيل أن تشبه يد المخلوقات، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].رابعاً: إياك أن تجحد هذه الصفة، وذلك إما بتأويلها فتقول: معنى: (بِيَدَيَّ)، أي: بقدرتي، فلمَ تكذب على الله؟ أأنت ترد على الله؟ الرسول عاش ثلاث وعشرين سنة يعلم أمته التوحيد، وما أوَّل يوماً صفة من صفات الله، وتأتي الجهمية والمعتزلة والطوائف الأخرى فتؤول، وذلك حتى يفرغوا قلوب المؤمنين من وجود الله والإيمان به، وقد بينت لكم بالأمس فقلت: يقولون: مثلاً: لو تشير بيدك إلى الله في السماء فيجب أن تقطع يدك؛ لأنك قد حددت المكان له، وبالتالي فلا تقل: هو فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا عن شمال، وخلاصة هذا: أنه لا وجود لله، فالذي لا يكون لا فوق ولا أسفل ولا عن يمين ولا عن شمال ما معنى هذا؟ لا وجود له، إذاً كيف يخاف؟ كيف يرهب؟ كيف يحب؟ كيف يطاع وهو لا وجود له؟ هكذا فعلوا بأمة الإسلام.إذاً: نؤمن بأن لله يدين، وكلنا عقيدة أن يديه لا تشبه يدي المخلوقات أبداً، إذ ليس كمثله شيء.كما أخبر تعالى عن مجيئه في ساحة فصل القضاء فقال: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، وقال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ [الزمر:68-69]، جاء ربي لفصل القضاء، فمن قال: الله لا يجيء حتى لا نشبهه بمخلوقاته، فهذه كلمة خبيثة مجوسية؛ لأن الله يقول: وَجَاءَ [الفجر:22]، وهم يقولون: لا، إنما المراد: جاء ملكه أو أمره، فإن سئلوا: ما حملكم على هذا؟ لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّل صفة من صفات الله عز وجل، قالوا: حتى لا نشبه الله تعالى بخلوقاته.إذاً: الجهمية والمعتزلة والطوائف الهابطة يقولون: ما نعتقد هذا، فيئولون فيقولون: ينزل أمره، أو ملك من ملائكته، فعطلوا صفات الله عز وجل، وكذبوا الله ورسوله، وحكم من كذب الله ورسوله الكفر والعياذ بالله.أيضاً يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا امتلأت النار -أدخل فيها الإنس والجن بالمليارات وبلا عدد- تقول: هل من مزيد؟ واقرءوا الآية من سورة (ق): يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]، فيضع الجبار تبارك قدمه فيها فتقول: قط قط قط، أي: يكفي، فيجب أن نؤمن بقدم الجبار جل وعز، ولا يحل أبداً أن يخطر ببالك شبه هذا القدم، فلا تنظر إلى المخلوقات؛ فإنه ليس كمثله شيء.كذلك السمع والبصر، فالله عز وجل يخبر في آياته إنه هو السميع البصير، فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فمن أراد أن ينفي صفة السمع أو البصر عن الله فقد أراد أن يحترق، لكن هم لا ينفونها، وإنما يحرفونها ويؤولونها، وهذا كله معناه: أنهم ما رضوا بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأرادوا أن يضعفوا في نفوس المؤمنين الخوف والرهبة منه والحب له.وعليه فتوحيد الأسماء والصفات يا أبنائي! يا إخوة الإسلام! أن نؤمن بكل اسم وصفة لله عز وجل، ولا نحرفها ولا نؤولها ولا نجحدها ونكتمها، ولا نشبهها بصفات المخلوقات، إذ له صفاته لا تشبه الصفات، كما أن ذاته لا تشبه الذوات.فهذا الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة في القرن الثاني بعد قرن النبوة، وهو على كرسيه يعلم المؤمنين السنة، فوقف سائل فقال: يا إمام! ما معنى قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]؟ فغضب واحمر وجهه وعرق؛ لأن بدعة قد ظهرت، إذ المفروض أن تؤمن بقول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ولا تسأل: كيف؟ ثم هل عرفت ذات الله حتى تعرف كيفية الجلوس؟ لذا آمن بما أخبر تعالى به، فقال مالك وهو يضبط أعصابه وهو النوراني الموفق: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، يا عسكري! خذه للتأديب. فقوله: الاستواء معلوم، يقال: استوى على سريره أو على عرشه أو على كرسيه، أي: جلس عليه، والكيف مجهول، أي: السؤال عن الكيفية مجهول، إذ إننا لا نعرف الذات، فلو قلنا: جلست النملة على الكرسي، فكيف جلوس النملة؟ هل يتناسب مع الكرسي؟ لا، إذاً فما دمنا أننا ما عرفنا ذات الله فكيف نفسر الجلوس؟ كيف يكون ذلك الجلوس؟ مستحيل أن نعرفه، بل كل ما يخطر ببالك فالله منزه عن ذلك، فلا تفتح المجال للخيالات، وقل دائماً: الله أحد، لم يكن له كفؤاً أحد، ليس كمثله شيء. إذاً: صفات الله التي جاءت في القرآن هي صفات جلال وكمال، وصفات ذاتية وفعلية، فيجب على المؤمن والمؤمنة أن يؤمن بها إيماناً راسخاً يقينياً، ولا يحل له أن يؤولها أو يشبه صفات المخلوقات بها، ويلزم دائماً قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
بيان توحيد الألوهية والشرك فيه
ثالثاً: توحيد الألوهية، ومعنى الألوهية: النسبة إلى الإله، والإله هو الله، والإله معناه: المعبود بالحب غاية الحب، وبالتعظيم غاية التعظيم، وبالذلة والانكسار له وبين يديه غاية الذلة والانكسار.ولا يحصل على هذه الألوهية كائناً من كان إلا الله؛ لأن الإله بمعنى: المعبود بالحب والتعظيم والطاعة، وهو ذاك الذي امتن عليك بخلقك ورزقك وتدبير حياتك، وما عدا الله فلا، فهل هناك من خلق الشيخ أو رزقه أو دبر حياته؟ لا أحد، إذ لا يوجد في الخلائق من الملائكة والإنس والجن وغيرها من سائر الخلوقات من خلق ولا بعوضة.فلا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا مدبر إلا الله، فهو رب العالمين، وبالتالي فلا تصح أي عبادة إلا له، وكل من عبد غير الله فقد أشرك في ألوهية الله وخسر خسراناً أبدياً.إذاً: ما هي العبادة التي نخلصها لله ونوحدها له ولا نلتفت أبداً إلى غيره فيها؟ هي العبادة التي شرعها وبينها رسوله، فأنواع العبادات القولية والعملية لا يصح لمؤمن ولا لمؤمنة أن يصرفها لغير خالقه عز وجل، لغير ربه ومالك أمره.ولها مظاهر بإيجاز: منها: الدعاء، فهل تعبدنا الله بالدعاء؟ نعم، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقال الرسول في نزول الرب إلى السماء الدنيا: ( هل من داع فأستجيب له؟ ) فالدعاء: سؤال الرب الحاجة، فيا عبد الله الفقير! إذا افتقرت إلى شيء فاسأل ربك، ويقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )، سبحان الله! كقوله: ( الحج عرفة )، فحقيقة الحج هو عرفة والطواف والسعي والإحرام ومزدلفة، لكن لا قيمة لها بدون الوقوف بعرفة، إذ من لم يقف بعرفة ما حج ولو طاف سبعين مرة.كذلك من لم يدع الله ما صحت عبادته ولا كان من المؤمنين العابدين، قال تعالى: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء مخ العبادة )، فهل هناك حيوان يعيش بدون مخ؟ إذا فسد مخ الآدمي هلك، وكذلك الدعاء إذا فسد بطلت العبادة، والدعاء هو سؤالك غير الله حاجتك. ويبقى إن دعوت من يسمعك ويراك ويقدر على إعطائك، فتقول: يا بني! ائتني بكأس ماء، لقد ظمئت وعطشت، فهذا يجوز؛ لأن الله قد أذن في هذا، إذ قد سألت شخصاً يسمع ويبصر ويقوى على أن يعطيك، لكن لو كان لاصقاً بالأرض مشلولاً، وتقول: يا فلان! أعطني كأس ماء، فهذا عبث وباطل، كذلك تقول لأعمى: من فضلك يا كفيف! دلني على بيت فلان! فهل عاقل يقول ذلك؟! الأعمى لا يعرف الطريق، كيف تقول له: دلني على بيت فلان؟! وبالتالي فالدعاء أن تدعو من يعلم حاجتك، ويرى مكانك، ويقدر على إعطائك وإنقاذك، وهذا لن يكون إلا لله عز وجل، فمن سأل نبياً من الأنبياء، أو ولياً من الأولياء، أو ملكاً من ملائكة الأرض أو السماء وهو لا يراهم ولا يرونه ولا يسمعون صوته ولا يقدرون على إعطائه؛ فقد هبط هذا المخلوق وتمزق، وأصبح شر الحيوانات.ومن هنا عرف العدو الثالوث الأسود من أين يأتي أمة الإسلام، أمة السيادة والقيادة، فسلط عليها من أفسد عقيدتها، فأصبح (75%) من أمة الإسلام من القرن الرابع إلى اليوم يدعون الأولياء، يا سيدي عبد القادر! يا مولاي إدريس! يا سيدي البدوي! وكذلك الروافض: يا فاطمة! يا حسين! يا علي! ونسوا الله عز وجل.وهذا واقع أيها المستمعون والمستمعات، فأي شرك أدهى وأعظم من هذا؟! يقف أمام قبر وينادي: يا فلان! امدد يديك، خذ بيدي، أنا في حماك، أنا في جوارك، أنا كذا وكذا، وهذا قبل وجود دولة عبد العزيز، فقد كنت أسمعه من آلاف الحجاج حول الحجرة الشريفة، واذهب الآن إلى قباب الأولياء في مصر وفي الشام وفي العراق وفي المغرب، بل في أي مكان واسمع وهم ينادون الأولياء بأعلى أصواتهم، فهل يجوز هذا عقلاً؟ وهل يجوز أن تنادي ميتاً لا يعرف عنك شيئاً، ولا يسمع حاجتك، ولا يقدر على أن يمد إليك يد العون، فتضفي عليه صفات الرب وتجعله كأنه الله؟! لا إله إلا الله!وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ابوالوليد المسلم
03-05-2021, 04:11 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (62)
الحلقة (285)
تفسير سورة النساء (66)


الله عز وجل هو خالق كل شيء، وهو سبحانه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وقد يقع الشرك من البعض سواء شعر أو لم يشعر، ومن مظاهر الشرك التي يقع فيها البعض دعاء غير الله والاستغاثة والاستعانة به، ومن ذلك الركوع والسجود لغير الله، والحلف بغير الله، والنذر لغير الله، وغير ذلك من الأمور التي لا تصرف إلا لله وحده.
تابع تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم وفداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآية التي تدارسناها وتلوناها البارحة، وهي قول ربنا جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، وحفظها الكثير من المستمعين والمستمعات، وفهمناها فهماً جيداً، وفهمنا أن الله عز وجل أعلن هذا الإعلان الرسمي الإلهي الرباني الذي لا ينقض بحال من الأحوال، وهو أن الله تعالى لا يغفر لمشرك مات على شركه، وما عدا الشرك من سائر الذنوب والآثام فموضوعة تحت النظر، إن شاء الله غفر، وإن شاء آخذ وعذب. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:116]، الذي هو الشرك، لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116]، ثم أخبر خبراً عظيماً فقال: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، ما يرجع إلى الصواب.كما أخذنا يوم أمس في دراسة التوحيد من هذه الآية المباركة الكريمة، وعلمنا أن التوحيد ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة أو الإلهية، وعلمنا أن من ادعى أن فلاناً يخلق أو يرزق، أو يعطي أو يمنع، أو يضر أو ينفع، أو يخلق شيئاً ما من المخلوقات، فقد أشرك هذا المخلوق في ربوبية الله عز وجل؛ إذ لا يوجد من يخلق سوى الله، ولا يوجد من يرزق سوى الله، ولا يوجد من يدبر الحياة سوى الله تعالى.ولهذا فإن المشركين على عهد نزول القرآن الكريم لا يشركون بتوحيد الربوبية، بل لقد كانوا يقرون به، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس:31]، وإنما كان شركهم في الإلهية أو العبادة، وقد ظهرت جماعات تشرك بالله في ربوبيته، وتشرك بالله في عباداته، وتشرك بالله في أسمائه وصفاته، وقد نبهنا بأيسر طريق وهو أن علينا أن نؤمن بأسماء الله وصفاته الذاتية والفعلية، فنجريها على ألسنتنا كما هي في الكتاب وعلى لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ إن لله مائة اسم إلا واحداً، أي: تسعة وتسعين اسماً، فلا نسمي بها أحداً من المخلوقات، وإنما لنا أن نسمي فنقول: عبد العزيز، عبد الرحمن، عبد الغفار، عبد الله، عبد الرحيم، أما أن نسمي كائناً مخلوقاً باسم الله فقد أشركنا في أسماء الله تعالى، أيضاً إن لله صفات عليا نوردها وننطق بها ونتكلم بها كما هي، بلا نؤول ولا تحريف ولا تشبيه، فنقول: سمع الله ليس كسمع الإنسان، أو بصر الله ليس كبصر الإنسان، إذ هو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء. وقد ذكرنا أمثلة لذلك ومنها: نزول الله إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فلا نقل: كيف؟ لأنك لن تستطيع أن تعرف، وإن قلت: لا، فقد كفرت وكذبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أولت وقلت: ينزل الملك أو أمره فقد كذبت الله والرسول، إذ ما حملك على هذا؟!ومنها: أن الله تعالى قد أخبر أنه خلق آدم بيديه، فقل: آمنت بالله، ولا تقل: كيف؟ ولا يخطر ببالك أن تتمثل يد الله أو تتخيلها؛ لأنك عاجز عن هذا، ولا تستطيع أن تدركه لضعفك وهزلك.كذلك: الملائكة الآن هي حولنا تحفنا، فهل استطعنا أن نراهم بأعيننا؟ لا؛ لضعف أعيننا، إذ إنها ليست متأهلة لأن ترى الملائكة والجن! مع أن هذا حادث بيننا، فنؤمن بصفات الله كما أخبر بها هو عن نفسه، وكما أخبر بها رسوله صلى الله عليه وسلم.ومنها أيضاً: أنه جاء في الحديث الشريف المفسر: أن الله يحشر ويدخل الكفار والمشركين والمجرمين والظالمين النار، وهي مع ذلك تقول: هل من مزيد؟ بل كل ما يُدفع إليها تقول: هل من مزيد؟ فأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الجبار تعالى يضع قدمه فيها فتمتلئ وتقول: قط، قط، أي: يكفي، ما بقي مزيد، فلا تسأل فتقول: كيف القدم؟ أتصور الله كمخلوقاته؟! هل ناسج هذا الثوب مثل هذا الثوب؟ وهل خالق المخلوقات يكون مثلهم؟ مستحيل! فآمن بأسماء الله وصفاته كما آمنت بوجوده وعلمه وقدرته وسلطانه في خلقه، وإياك أن تحرفها أو تؤولها أو تشبهها بصفات المحدثين والمخلوقين، فإن الله ليس كمثله شيء.ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر ويدخلان الجنة )، فلا تقل: كيف يضحك؟ وهل عرفت ذات الله حتى تسأل ذلك السؤال؟ قل: آمنت بأن الجبار تعالى يضحك، وكذلك يغضب الجبار، لكن لا تحاول أن تفهم غضب الله وتقيسه بغضب المخلوقات، وأيضاً يرضى الرحمن عن المؤمنين، فلا تتصور رضا الله كرضا مخلوقاته، بل هو فوق ذلك، وإنما فقط آمن بأسماء الله وصفاته ولا تشرك فيها كائناً من الكائنات، وهذا قد وفيناه ما يستحق بالأمس، وانتقلنا إلى توحيد الإلهية أو الألوهية أو العبادة، وكلها بمعنى واحد.
بيان مقتضيات لا إله إلا الله
توحيد الألوهية أو وتوحيد العبادة تحمله كلمة: لا إله إلا الله، فمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله فقد وجب عليه أولاً أن يعبد الله، إذ إنه أقر واعترف معلناً بالشهادة أنه لا يستحق العبادة إلا الله، وهو بهذا النفي يعترف ألا إله يستحق أن يعبد في السماء ولا في الأرض إلا الله، إذ إن الذي يستحق أن يعبد وحده هو الخالق الرازق المدبر، الذي خلقني ورزقني ودبر حياتي، فهو الذي أعطيه قلبي وسمعي وبصري، أما الذي لا خلق ولا رزق كيف يعبد؟ وقد قامت الأدلة والبراهين على أنه ما وجد مخلوق خلقه سوى الله قط، لا في العوالم العلوية ولا في السفلية، بل ولا في الكائنات كلها، فلا خالق إلا الله، وإعلان ذلك تعالى في كتابه فقال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].وعليه فمن قال: لا إله إلا الله لزمه ووجب عليه قضاء أن يعبد الله تعالى، وهذا أولاً، إذ كيف تشهد على علم أنه لا يعبد إلا الله وتعبد غيره؟! إن هذه زلة عظمى، أو من قال: لا إله إلا الله ولم يغتسل من جنابة ولم يصل ركعة ولم يصم يوماً؛ فإن ذلك لا ينفعه أبداً، إذ لو عرف معرفة حقيقية ألا معبود إلا الله والله لعبد الله تعالى، فهو قد عرف وأعلن عن علم، والشهادة لا تكون إلا عن علم، فأنت نظرت في الكون فرأيت أنه لا يستحق العبادة إلا هو فقلت: أشهد أنه لا إله إلا الله، فكيف لا تعبده؟! إذاً: شهادتك مردودة عليك؛ لأنك ما شهدت بالعلم.ثانياً: ألا تعبد معه غيره وإلا تناقضت في نفسك، إذ إنك من جهة تشهد ألا معبود إلا الله وعبدته، ثم تعبد معه غيره، كيف ذلك؟! إن هذا تناقض، لكن لو قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وفلاناً معه وسميته، لكنت ربما تعذر، فأنت نطقت بما تعتقد، أو قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وجبريل مثلاً أو فلان، لكن كونك تشهد أن لا إله إلا الله وتعبد معه غيره فقد تناقضت، ومثلك كمثل من يقول: أشهد أن هذا المفتاح لفلان ثم لا تعطيه إياه! أو أشهد أن هذه السيارة لإبراهيم ثم لا تعطيعها إياه، فهذا تناقض ولا تقبل الشهادة منك.إذاً: من شهد أن لا إله إلا الله وجب عليه أولاً: أن يعبد الله الذي شهد له بالعبادة، وأنه لا معبود يستحق العبادة إلا هو سبحانه وتعالى.ثانياً: يجب ألا يعبد معه غيره بأي نوع من أنواع العبادات، وسنبين ما شاء الله منها أن نبين.ثالثاً: ألا يرضى بعبادة غير الله تعالى، فلو عبد أباه أو أمه فإن الله لا يرضى بذلك، بل يسخط وينكر، فكيف وهو يشهد أنه لا يعبد إلا الله ويقر من يعبد غير الله تعالى؟! إن هذا تناقض واضح، إذ ما صدق في شهادته، ولهذا لا يقر أبداً ولا يرضى بعبادة غير الله من أي إنسان كان، قريباً كان منه أو بعيداً، ومن ثم تصبح شهادته ذات وزن وذات قدر.
بيان مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله
وأما شهادة أن محمداً رسول الله، فهي جزء من شهادة التوحيد، إذ هما شهادتان، واحدة لله تعالى، والثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهادتنا لله تعني أن لا إله إلا هو ونعبده ولا نعبد معه غيره، ولا نرضى بعبادة غيره أبداً، وأما شهادة أن محمداً رسول الله فتعني أنك تقول: أنا على علم، وقد نظرت وتأملت وقرأت وفهمت أن محمداًرسول الله.وبالتالي فيجب عليك أموراً بشهادتك أن محمداً رسول الله، فأولاً: أن تقبل ما يأتيك عنه ويبلغك من رسالته، ولا ترد أمراً أبداً من أوامره، ولا ترفض نهياً من نواهيه، وهذا مقتضى شهادتك أنه رسول الله، فكل ما أخبرك به الرسول يجب أن تصدقه فيه، سواء أدركته أو عجزت، فإذا أخبرك بخبر وصح هذا الخبر عنه فيجب أن تؤمن به وتصدق، وحرام أن ترده، وإن رددته والعياذ بالله فقد كفرت برسالته.وهنا صورة لهذا الأمر: كان صلى الله عليه وسلم جالساً بين أصحابه يعلمهم الكتاب والحكمة، فأوحي إليه بخبر وهو أن رجلاً من بني إسرائيل في الزمان الأول كان يركب بقرة، فرفعت البقرة رأسها إليه وقالت: ما لهذا خلقت، أنما خلقت للحرث والسني، فكيف تركبني؟! وفجأة قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( آمنت به، آمنت به، آمنت به، وآمن به أبو بكر وآمن به عمر )، وهما غائبان! والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق ذاك الخبر وعقد على لحيته وقال: ( آمنت به، آمنت به، آمنت به )، ومن هنا إذا بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبراً فيجب أن تصدق به، سواء استطعت أن تدركه بقدراتك العقلية أو ما استطعت، وإنما قل: آمنت به، ولذا فمن رد على رسول الله شيئاً فقد كفر وأبطل شهادته.ثانياً: يجب أن تطيعه في الأمر والنهي، فإذا كان الأمر للإلزام وللوجوب لا للندب والاستحباب فيجب أن تطيعه فيه، فإن قلت: أنا لا أطيع محمداً في هذه القضية، فقد خرجت من الإسلام، كما إذا بلغك نهيه عما حرم الله فانتهي مباشرة، إذ ما حرم الله أمراً كان قولاً أو عملاً إلا لأنه ضار بالإنسان مفسد له معوق له عن السعادة والكمال، والله الذي لا إله غيره! ما أمرنا الله بشيء لنعتقده أو نقوله أو نعمله أو نتصف به إلا من أجل إسعادنا وإكمالنا؛ لأن الله ليس بعدو لنا، يكلفنا ويعذبنا! إنه ربنا وخالقنا ورازقنا وولينا، وهو أرحم بنا من أنفسنا، فإذا أمرنا أو نهانا فلنفهم أن ذلك لصالحنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما يأمر الله به، ولا ينهى إلا عما ينهى الله تعالى عنه، ولهذا الكتاب والسنة أو الكتاب والحكمة متلازمان.ثالثاً: حبه صلى الله عليه وسلم، فيجب أن تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسك وولدك ومالك والناس أجمعين، وهنا قد غفل الغافلون وهبط الهابطون، إذ إنهم يدعون حب رسول الله وهم في الحقيقة ما أحبوه، وإنما دعاوى فقط، ولما يُسأل عن الحب وحقيقته ما يدري، وسأعطيكم مثالاً فقط لذلك وهو: إذا علمت أن رسول الله يحب كذا، سواء كان قولاً أو اعتقاداً أو عملاً، فإن كنت تحب رسول الله فسوف تفعل ذلك لأنه يحبه، فكيف تخالفه وتدعي حبه؟! نعم، قد تعجز، فقل: أستغفر الله، أتوب إلى الله، ضعفت عن هذا، أما أن تعلم أن رسول الله يحب كذا وأنت تبغضه، فوالله ما أحببته.والمثال القريب هو: من المعلوم أنك تحب والدتك وزوجتك وولدك، فإذا طلبت منك زوجتك أن تعطيها كذا، فإنك سوف تعطيها؛ لأنك تحبها، ولذلك فمن أحب الله أو أحب رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يتنازل عن حبه للشيء من أجل حبه لربه عز وجل، ومن هنا يجب عليك أولاً أن تحب الله ورسوله، ومن ثم يجب أن نحب ما يحب الله ورسوله، فمن أحب ما يكره الله ورسوله فقد تناقض في دعوى محبته لهما، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين. فقال عمر: ومن نفسي؟ قال: ومن نفسك أيضاً )، ولولا فرض الله حب رسوله على عباده ما أطاعوه كما أطاعوه بعد أن أوجب حبه، فإذا أحببت شيئاً وأحب رسول الله شيئاً آخر، فكيف نعرف أنك تحبه عليه السلام؟ أن تترك ما تحب من أجل ما يحب هو، فإذا علمت أن رسول الله يكره الشيء الفلاني، فإن لم تكرهه ما أحببت الرسول، وإنما ناقضته، إذ كيف هو يحب وأنت تكره؟! أو هو يكره وأنت تحب؟! ولذا لا بد من مجاهدة النفس حتى نحب ما يحب الله ورسوله، ونكره ما يكره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.إذاً: عرفنا من شهد أن محمداً رسول الله ماذا يجب عليه؟ أن يطيعه في الأمر والنهي، أن يصدقه في كل ما يخبر به، سواء أدركته أو عجزت عن إدراكه، ومثال ذلك: لما أخبر أنه أسري به من بيت أم هانئ من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، ثم إلى الملكوت الأعلى، ثم إلى سدرة المنتهى، ماذا قال المؤمنون؟ قال أبو بكر: صدقناه فيما هو أعظم من ذلك، صدقناه في الوحي ينزل عليه من الله، فكن متهيئاً لأن تصدق رسول الله في كل خبر، على شرط أن تعلم أنه صح عنه وأنه قاله، أما إذا شككت في صحته فمعذور، ولكن اسأل أهل العلم: هل هذا صحيح أم لا؟ أي: هل ثبت هذا عن رسولنا أنه قاله أو لم يثبت؟

يتبع

ابوالوليد المسلم
03-05-2021, 04:11 AM
من مظاهر الشرك: دعاء غير الله تعالى
معاشر المستمعين والمستمعات! يجب علينا أولاً في توحيد العبادة أن نعرف وجوباً حتمياً بم تكون عبادة الله أو بم يعبد الله تعالى؟ إذ كيف نعبده بما لا تعرف؟ لذا لا بد وأن تعرف بم يعبد الله؟ وقد بدأنا البارحة بالدعاء، وسنواصل إن شاء بيان العبادات ومظاهر الشرك فيها بين الناس، والدعاء عبادة من العبادات، فأنت عندما تطلب حاجتك من الله فهي عبادة؛ لأن الله أمرك بهذا فقال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، ثم هل يستغني مخلوق عن خالقه؟ أو مرزوق عن رازقه؟ وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعاء لا ننساه أبداً وهو: ( الدعاء هو العبادة )، حتى تعرف أنه لا توجد عبادة أعظم من الدعاء أبداً، لا صلاة ولا حج ولا جهاد ولا رباط، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: ( الدعاء مخ العبادة ).وهنا انظروا إلى الشيخ وهو يمثل لكم هذه المظاهر لهذه العبادة لتعرفوا أن الدعاء هو العبادة، فالآن أنا رفعت كفي إلى السماء فماذا تقرأ؟ الشيخ فقير مسكين وضع كفيه يتكفف سيده، الشيخ فقير محتاج إلى من يقضي حاجته ويسد فاقته، إذ عرف أن الله فوق سمواته فوق عرشه هو الذي يعطيه ويقضي حاجته، فلذا رفع كفيه إليه. ثانياً: أن الشيخ علم أن ربه يعلم حاله، ويعرف مكانه، ويعرف حاجته، ويقدر على قضائها وإعطائها وإلا ما سأله. ثالثاً: الشيخ لو علم أن ربه ليس فوق السماوات فوق العرش لنكس يديه إلى الأرض، لكن هو رفع يديه لأنه علم أن الله فوقنا، فهو أقر بوجود الله، وبعلم الله، وبقدرة الله، ثم كفر بكل كائن سوى الله يعطيه حاجته ويقضيها، وإلا لقال: يا فلان! لكنه وحد الله عز وجل غاية التوحيد وأعظمه. ثم إن كل من يدعو غير الله من الملائكة أو الرسل أو الأنبياء أو الأولياء أو الصلحاء فقد أشرك بربه، أي: أشرك في عبادة ربه، ويصدق عليه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]، فإن تاب وتاب الله عليه فنعمت، وإن لم يتب ومات على ذلك فقد انتهى أمره ولو صام سبعين سنة، ووقف متعبداً سبعين أخرى، وحج سبعين حجة، وغزا سبعين غزوة؛ إذ كل ذلك باطل لا يعطى عليه شيئاً. وها نحن نشاهد من يدعون غير الله عز وجل من آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا في العالم طيلة خمسمائة عام أو أكثر! فأين مصير هؤلاء؟ يسألني بعض الإخوة أو الأبناء فيقول لي: إن أمي قد ماتت على كذا، وأبي مات على كذا، فنقول له: اسمع، لعل والدك أو أمك كانت جاهلة فقط ما عرفت الطريق، وكانت تصوم وتصلي وتتصدق وتذكر الله، فإذا كانت صادقة فالله عز وجل يحفظها عند الوفاة، وذلك بأن يوفقها للشهادة عند الموت، فلا تقول: يا سيدي عبد القادر! يا مولاي إدريس! يا عبد الرحمن! وتكون بذلك قد نجت، إذ إن من مات وآخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة؛ لأن هذه الكلمة إذا عرفها العبد وأعلن بها فإنها تمحو كل الذنوب وتبخرها!وإن مات العبد وهو يأتي يقول: يا سيدي عبد القادر! فقد انتهى أمره، ولا تصل ولا تصم ولا تحج عنه، إذ لا ينفعه ذلك شيئاً، وافهموا هذه القضية بالذات؛ لأننا جاهلون متورطون في ظلمة الجهل، لكن إذا أراد الله أن ينقذ عبداً من عباده أو أمة من إمائه لعلمه بسابق نياته -ولكن وقع في الجهل- فإنه يحفظه ساعة الوفاة، فلا يعرف إلا الله تعالى، وينسى عبد القادر وفلان وفلان، وهذه هي حسن الخاتمة.إذاً: قد رأينا المسلمين في الشرق والغرب يدعون غير الله تعالى، وهم بهذا الدعاء والله مشركون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فماذا نصنع؟ نأخذ في تعليمهم فنقول: لا يدعى سوى الله عز وجل، لا ملك ولا نبي ولا ولي ولا أي كائن، إذ لا يعلم أين أنت؟ ولا يعلم حاجتك، ولا يسمعك، ولا يقدر على أن يعطيك شيئاً إلا الله، ولك أن تقف في صحراء وتنادي يا عبد القادر! هل يجيبك؟! لا والله، بل لو ناديت رسول الله فإنه لن يجيبك أبداً، والقرآن الكريم قد بين هذه المواقف فقال: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5]، وأخرى: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ [الأحقاف:6]، أي: يوم القيامة، كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]، وهذه وحدها كافية، وَمَنْ [الأحقاف:5]؟ إنه استفهام من الجبار جل جلاله وعظم سلطانه، أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ [الأحقاف:5]، لو دعا عيسى إبراهيم وهو بين يديه يسمع صوته ويرى حاجته ويقدر عليها فلا بأس، لكن أن يدعو من لا يستجيب له إلى يوم القيامة! فوالله لو تقف على قبر رسول الله وتناديه إلى يوم القيامة ما استجاب لك، ويوم القيامة والله ليكفر بشركك، ولا يعترف لك أبداً بأنك دعوته، إذ كيف يعترف أنه قد عُبِد مع الله؟! وهذا سيد الخلق، فكيف بمن دونه من الخلق؟! بل والله قد هبطنا حتى ما أصبحنا ندعو الأنبياء والأولياء، وإنما ندعو الصعاليك وندعي أنهم أولياء وأقطاباً وهم من تاركي الصلاة والعياذ بالله! فاحذر يا عبد الله! واحذري يا أمة الله! أن يراك الله وأنت تقولين: يا سيدي فلان! كما أنه لا يحل أيضاً أن تركب سيارتك أو بغلتك أو دابتك إلى الضريح الفلاني أو إلى القبر الفلاني لتتمرغ عليه وتبكي بين يديه وكأنك بين يدي الله، إذ إن هذا والله لهو الشرك الأعظم، وصاحبه لن ينجو إلا إذا أدركه الله فمات عند آخر ساعاته وهو يقول: لا إله إلا الله.
من مظاهر الشرك: الركوع والسجود لغير الله تعالى
بعد أن عرفنا أن الدعاء عبادة من العبادات الجليلة، فكذلك الصلاة عبادة من العبادات العظيمة، فلا يحل لك أن تنحني راكعاً لكائن من كان،إذ الركوع لا يكون إلا لله تعالى، وإذا ركع أحدنا فينبغي أن يسبح الله فيقول: سبحان ربي العظيم، على الأقل ثلاث مرات، لكن قد يحصل من إخوانكم أنهم لا يطمئنون في صلاتهم بالقدر المطلوب، فإذا ركع رفع رأسه بسرعة، وهذا صلاته باطلة، حتى الوقفة المعتدلة التي يقفها العسكري، فلا يرمش بعينيه ولا يحرك جسمه أبداً، لا تنبغي إلا لله تعالى، وبالتالي فالركوع هو انحناء بين يدي العظيم جل جلاله، فمن ركع وانحنى لغير الله فقد أشرك، وهو والله في عداد المشركين.وكذلك السجود لا يكون إلا لله تعالى، وهو وضع الجبهة والأنف -أفضل الأعضاء وأعظمها- في التراب بين يدي الله، وبالتالي فمن سجد لغير الله تعظيماً لحي أو ميت فقد أشرك بالله عز وجل، وهو والله من المشركين وإن صام وصلى؛ لأنه قد أشرك في عبادة الله تعالى، وما وحد الله تعالى، بل كذب في قوله: لا إله إلا الله.وقد رأينا وبلغنا أن إخواننا الجهلة يأتون إلى ضريح سيدي فلان وهم يزحفون على أستاههم وذلك تعظيماً له! ثم يخرون ساجدين، مع أنهم ما فعلوا هذا مع الله تعالى، ولذلك فلا ركوع ولا سجود إلا لله عز وجل، كما لا دعاء ولا سؤال حاجة إلا من الله عز وجل، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، فمن أمر الرسول أن يقول هذا؟ إنه الله عز وجل، فقد أمره أن يعلنها للعالم أجمع: قُلْ إِنَّ صَلاتِي [الأنعام:162]، ويدخل فيها الدعاء والركوع والسجود.
من مظاهر الشرك: الذبح لغير الله تعالى
ثم قال تعالى: وَنُسُكِي [الأنعام:162]، والنسك: هو الذبح تقرباً وتزلفاً، وإن كان النسك يطلق على العبادة، لكن أول ما يطلق على الشاة تذبحها تتملق بها للجبار عز وجل، سواء في حج أو في عمرة أو في يوم العيد أو صدقة تتصدق بها، والذبح لا يكون إلا لله تعالى، فأولاً: سم الله تعالى ثم اذبح، وثانياً: ألا تلتفت إلى كائن من الكائنات أن تذبح له ومن أجله تقرباً إليه أو تزلفاً، إذ من ذبح لولي من الأولياء أو لميت من الأموات فقد أشرك في عبادة ربه تعالى، وأصبح من المشركين، حتى ولو قال: باسم الله؛ لأن بعض الناس يقول: أنا قلت: باسم الله، وما قلت: باسم عبد القادر! لكن لو سئل: لم ذبحت؟ فسيقول: لسيدي عبد القادر! فنحن نتقرب إلى الله بالذبح لعبده الصالح عبد القادر أو العيدروس! مع أن هذا الذبح للأولياء نظير الذبح للجن والعفاريت. وقد ظننا أن هذه القضية قد انتهت، وإذا بكتاب يأتينا من حضرموت يقول فيه صاحبه: اذبح شاة سوداء أو بيضاء عند دخولك البيت، وذلك حتى تسلم من الجن والعفاريت، وهذه قد عاصرناها، إذ يأتي المريض أو أبو المريض أو المريضة للشيخ، وإذا بالشيخ يفتح الكتاب، وهو كذب، إذ ليس هناك كتاب، فيقول: ولدك مضروب على الدم، أو مضروب على كذا، وإذا أردت شفاءه فاذبح تيساً أسوداً، وأحياناً يمكرون بهم فيعطيه وصفاً لا يحصل عليه! ولما يموت المريض يقول: يا أحمق! نحن قلنا لك النوع والوصف كذا، فهل هذه أمتنا؟ قرون عديدة وهي هكذا! يذبحون للجن والعفاريت، واسمع هذه القصة: سكنا منزلاً في باب المجيدي، وبني منزل إلى جنبنا، ولما تم بناؤه جئت مع الغروب وإذا بكبش مذبوح وهو يوزع لحماً، فقلت: ما هذا؟ فقال صاحب المنزل: أمرني المعلم -وهو في جدة- أن نذبح على العتبة، وذلك حتى نحصن السكان من الجن! ولذلك فكل ما ذبح وإن قلت: باسم الله، ولكن نيتك ليبعد الجان أو يتخلوا عن مريضك أو يفعل كذا وكذا، فالجن يعلنون عن فرحهم ويقولون: قد عبدناهم؛ لأن من أكبر العبادات النسك، آالله أمرك بهذا؟ والجواب: لا، وإنما أطعت الشيطان والعياذ بالله، فزين لك عبادة غير الله فعبدته بذبحك للجان، فهل عرفتم الذبح لغير الله ما حكمه؟ وهل هناك من يذبح لغير الله تعالى؟ كل من ذبح لسيدي فلان أو من أجل الجان الفلاني فقد أشرك ورب الكعبة، وإن مات على ذلك ما نجا.
من مظاهر الشرك: النذر لغير الله تعالى
من مظاهر الشرك أيضاً: النذر أو العِدة أو الوُعدة -وكلها بمعنى واحد، إذ العرب يلونون الكلام- وهذه لا تكون إلا لله تعالى، لكن أنا قد سمعت بنفسي أن بعضهم يقول وهو أمام القبر: يا سيدي فلان! إذا غلب أخي زوجته في المحكمة أذبح لك كذا! وآخر يقول: يا سيدي فلان! إذا شفي ولدي من هذا المرض سآتي لك بكذا، أو سآتيك لو ببخور وبشموع، وأخرى تقول: أحلي الضريح بأزر حريرية، فهذه والله لمن الشرك بالله تعالى، ينذرون ويعدون أمواتاً؟ وآخر يقول: يا سيدي فلان! إذا حصل كذا وكذا سأفعل لك كذا وكذا، وهذه العدة أو وهذه الوعدة أو هذا النذر لا تكون إلا لله عز وجل، وهو القائل: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة:177] ، والقائل: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]، والعهد كالنذر أيضاً، فمن نذر لغير الله حتى لرسول الله فقد أشرك والعياذ بالله، سواء كان النذر ذبيحة أو طعاماً، وقد كانوا يأتون بالشموع للولي أيام ما كانت الكهرباء وجودة، وذلك ليوقدوا على قبره في الليل؛ تقرباً إليه ونذرٍ من النذور، وكذلك يأتون له بالبخور، وآخر ينذر أن يجدد القبة إذا قدُمت، أو يصبغها بصبغة كذا، وكل ذلك تقرباً إلى الأولياء لتقضى حاجاتهم بواسطتهم!
من مظاهر الشرك: الحلف بغير الله تعالى
ومن مظاهر الشرك أيضاً الحلف بغير الله تعالى، فيقول أحدهم: وحق سيدي فلان، أو ورأسك، أو وبالملح الذي بيننا، وهذا قد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم شركاً وكفراً، وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، ومرة قال: ( فقد كفر )، ولو اتسع الوقت نعلمك كيف أشرك؟ إذ لا يحلف الإنسان إلا بما يراه أعظم من غيره، وهذه هي الفطرة، فكونه يحلف بغير الله فمعناه أنه عظم هذا المخلوق بتعظيم الله وسواه بالله، فلهذا لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحلف بغير الله أبداً، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن الله ورسوله ينهيانكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ).
بيان سبب تفشي مظاهر الشرك في هذه الأمة وعلاج ذلك
معاشر المستمعين! هناك مظاهر للشرك لا نستطيع استيفاءها في هذه اللحظات، لكن عندنا كلمة أخيرة وهي: ما سبب هذا الشرك؟ هل لأن القرآن ليس عندنا؟ أو هل لأن السنة أحرقت كتبها وما بقي شيء منها؟ لا هذا ولا ذاك، إذاً كيف حصل هذا الجهل؟ والجواب: الكتاب محفوظ بحفظ الله، والسنة محفوظة بحفظ الله، والذي أوقعنا في هذه الفتنة هو عدونا المكون من ثلاثة أجناس: المجوس واليهود والنصارى، فلا يريدون أن ندخل الجنة ويدخلوا النار، بل ما يريدون لنا ألا أن يوجد بيننا البغاء والزنا والعهر والخمر والباطل، وأنا أقول هذا على علم، وقد عملوا على تجهيلنا، إذ علة هذا الشرك والله لهي الجهل، فالقرآن حولوه ليقرأ على الموتى، إذ ما يتدارسونه هكذا أبداً، وفي هامش أو حاشية على شرح خليل يقول القائل: تفسير القرآن صوابه خطأ، أي: إذا فسرت وأصبت فأنت مخطئ، وخطؤه كفر! فعاشت أمتنا قرى ومدن مائتين أو ثلاثمائة سنة ما يفسرون آية من آيات الله! وبالتالي كيف يعلمون؟! وكذلك السنة تقرأ للبركة، وقد رأيت هذا في ديارنا الجزائرية في الجامع الكبير، ورأيناه في الروضة الشريفة إلى غد، فسيدخل رمضان وتجدون جماعة من أهل الخير عاملين حلقة في الروضة يقرءون سيدي البخاري للبركة فقط! ولا يريدون أن يفهموا حكماً، فهل معنى ذلك أن الرسول يتكلم بالباطل؟ إن كل كلامه شرائع وقوانين وآداب وأخلاق، وقد بلغهم هذا البكاء أربعين سنة وما زالوا؛ لأن الأمة هبطت، فمن يرفعها؟ أما من عرف الله وامتلأ قلبه بحبه والخوف منه، مجرد أن يسمع فقط كلمة محرمة لا يقولها حتى الموت، أو يسمع فقط حركة يكرهها الله والله ما يتحركها، ولو كان قد عاش خمسين سنة يعملها، بل بمجرد أن يعرف أن الله لا يرضى بهذا ما يفعله، ومن لم يعرف الله فإنه يرقص وهم يرقصون.فإن قيل: كيف نقضي على هذا الجهل؟ بإيجاد الخلافة الإسلامية؟! هذه خرافة، إذ والله لا تقضي على الجهل، إذاً كيف نقضي على الجهل؟ والجواب وقد كررنا هذا والله يعلم ويشهد: أن على أهل القرية المسلمة عربية أو عجمية، في الجبال أو في السهول، أن يجتمعوا بنسائهم وأطفالهم في بيت ربهم كل ليلة وطول الحياة، وذلك كاجتماعنا هذا من المغرب إلى العشاء، فيدرسون ليلة آية من كتاب الله، فيفهمونها ويعملون بها، وليلة أخرى حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم يتعلمون ويعملون، فتتهذب آدابهم وأخلاقهم، وترتفع مستويات علومهم ومعارفهم، وتطهر قلوبهم من الشرك والزيغ والباطل.وكذلك أهل المدن، فكل حي من المدينة يجتمعون أهله في بيت ربهم من المغرب إلى العشاء، فيدرسون ليلة آية وليلة حديثاً فقط، لا قال سيدي فلان ولا فلان، ولا أنا مذهبي مالكي ولا حنبلي، وإنما قال الله وقال رسوله، فلا فرقة ولا انقسام ولا أباضية ولا زيدية ولا سنية، وإنما مسلمون نتعلم كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذا هو الطريق، وهذا الذي يزيل هذه المحن والإحن، وهذا الذي يجمع الكلمة، وهذا الذي يطهر القلوب، وهذا الذي يجعلنا أمة واحدة، وأهل القرية والله كأسرة واحدة، فيبكون إذا بكى أحدهم، ويضحكون إذا ضحك أحدهم، وبدون هذا النظام الإلهي الذي جاء به رسول الله هيهات هيهات أن نعلم ولو فتحنا في كل زاوية مدرسة! فقد خمت الدنيا بمدارس أبنائنا وبناتنا، حتى البلاد الفقيرة، فهل نفع هذا العلم؟ والله ما نفع؛ لأنه ما أريد به وجه الله، وإنما أريد به الوظيفة فقط، فيقول الأب لابنه: تعلم يا ولدي لتكون كذا! أما في بيت الرب لماذا يجتمعون؟! لم يتعلمون قال الله وقال رسوله؟ لله، ليعرفوا الله فيخافوا ويحبوه ويعبدوه، فيكملون ويسعدون.مرة أخرى: بلغوا هذا الكلام، أين الكتاب؟ لم ما يكتبون هذا الكلام؟ لأن الأمة هابطة وما زالت هابطة، وجرب يا عبد الله! انزل في قرية من القرى، واجمع الناس بعد المغرب، فالفلاح يضع المسحاة على جهة، والتاجر يغلق بابه، وما بقي عمل قط، وتقول: هيا إلى الله نجلس بين يديه، فنبكي فقط حتى يفرج ما بنا، لكن ما يريدون، إذاً كيف يتعلمون؟ والله لن يزول الجهل ولا الظلم ولا الخبث ولا الشر ولا الفساد إلا بالعلم بالله ومحابه ومساخطه، فهل فهمتم هذا أو لا؟ وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ابوالوليد المسلم
06-05-2021, 04:15 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (63)
الحلقة (286)
تفسير سورة النساء (67)


إن الضلال الكبير هو في اتباع الشيطان الرجيم، فهو يأمر أتباعه بطاعته في كل ما يغضب الله ويجر إلى سخطه، فيأمرهم باتخاذ الأوثان والأصنام وصرف شيء من العبادة لها، ويأمرهم بتغيير خلق الله من وشم ووسم لأنعامهم، ويمنيهم الأماني الباطلة ويزين لهم الباطل في صورة خادعة، حتى يكونوا معه في العذاب المقيم في جهنم.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الست، وقد درسنا آية منها والباقي خمس آيات، والآية التي درسناها تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116].فعلمنا بتعليم الله عز وجل لنا أنه عز وجل لا يغفر الشرك من عبده إذا مات عليه، أما من تاب منه قبل أن يموت فوحد الله عز وجل فقد نجا، وأما من مات وهو يشرك بالله شيئاً في ربوبيته أو في أسمائه وصفاته أو في عباداته، فهذا قد أخبر الكريم الرحيم جل جلاله وعظم سلطانه أنه لا يغفر له، وأما ما عدا الكفر والشرك من سائر الذنوب فهي موقوفة للنظر فيها، إن شاء غفر له، وإن شاء آخذ وعذب، إلا أن أهل لا إله إلا الله -أهل التوحيد- إذا دخلوا النار ومكثوا فيها ما شاء الله فإنهم يردون إلى الجنة دار السلام، أي: أهل الكبائر من هذه الأمة إذا لم يغفر لهم ودخلوا النار فإنهم لا يخلدون فيها كما يخلد فيها المشركون والكافرون. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، فكيف يرجع وقد ضل ضلالاً بعيداً؟!
تفسير قوله تعالى: (إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً)
والآن مع هذه الآيات فتدبروا معانيها، والله أسأل أن يفتح علينا وعليكم، وأن ننتفع بها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [النساء:117-121]، أي: مهرباً.
إخبار الله عن حال المشركين أنهم ما يعبدون إلا إناثاً
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117]، أي: ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثاً، كيف يدعون الإناث؟ في لغة العرب التي نزل بها القرآن أن لفظ (الميت) يطلق عليه لفظ المؤنث؛ لأن الأنثى لا تقاتل ولا ترفع السلاح ولا تجلب الطعام، إذاً: فالذي يدعو الميت يدعوه وكأنه أنثى.وتأملوا مرة أخرى: إِنْ يَدْعُونَ [النساء:117]، أي: ما يدعون مِنْ دُونِهِ [النساء:117]، أي: أولئك المشركون إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117] والإناث: جمع أنثى، قال أهل العلم: العرب يطلقون على الميت أنثى؛ لأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يشفع، فهو إذاً أنثى.كما أن هناك آلهة مؤنثة، منها: اللات التي كانوا يعبدونها ويعتزون بعبادتها، وكذلك مناة ونائلة، وهكذا يدعون أصناماً تمثلوها وجعلوها آلهة وهي إناث في لفظها، ولكن الأول أوسع، أي: ما يُدعى من دون الله، أو ما يعبد من دون الله من سائر المعبودات من أصنام وأحجار وتماثيل أُطلق عليها لفظ أنثى ولا تحزن؛ لقوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117]، وإناث: جمع أنثى؛ لأن الأنثى من بني آدم لا تفعل شيئاً، إذ لا وزن لها ولا قيمة لها في باب القتال والجهاد والأخذ والعطاء، وهذا الميت أو الشجر أو الصنم أنثى أيضاً، إذ لا يعطيهم شيئاً ولا يدفع عنهم شيئاً، فهو أنثى! وقد اختار الله الحكيم العليم هذا اللفظ من أجل تبكيتهم وخزيهم، وكشف سوءتهم وعوراتهم، أي: ما يدعون إلا إناثاً، ويتركون الجبار العليم الحكيم.
عبدة الأصنام هم في الباطن عبدة للشيطان إذ هو الذي أمرهم فأطاعوه
ثم قال تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء:117]، ونثهذا كشف للستار الثاني، إذ هم في الحقيقة إذا دعوا اللات أو العزى أو مناة أو عيسى وأمه أو عبد القادر والبدوي، فهم في الحقيقة إنما يدعون الشيطان، إذ هو الذي أمر بذلك، فالذين يعبدون عيسى ما أمرهم عيسى بعبادته، بل ولا أمرهم الله بعبادتهم، وإنما الذي أمرهم هو الشيطان.إذاً: فهم والله يدعون الشيطان، لا اللات ولا العزى ولا مناة ولا جبريل ولا ميكائيل، وبالتالي فكل ما عبد من دون الله هو ما عبد حقيقة، وإنما عبد الشيطان الذي زين عبادته وحسنها ورغب فيها ودعا إليها، فالشيطان هو المعبود، ثم أليس المعبود هو المطاع؟ نعم، إذاً: من أُطيع هذه الأصنام أم الشيطان؟ الشيطان هو الذي أُطيع، فهو الذي أمر وزين وحسن فعبدوها.وتأملوا: إِنْ يَدْعُونَ [النساء:117]، أي: ما يدعون مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء:117]، فقد تمرد على ربه ورفض أن يسجد لآدم، وتبجح الكثير، وقال ما قال، وهذه مواقف له نقف عليها الليلة إن شاء الله تعالى، وسبحان الله! فهذه الآيات عجب.
تفسير قوله تعالى: (لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118].قال تعالى: لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء:118]، من لعنه؟ الله عز وجل، ومعنى: لعنه الله، أي: أبعده من ساحة الخير، فقد كان في الجنة مع آدم في الملكوت الأعلى، لكن لما لعنه الله، فقد أبعده من الخير نهائياً. وَقَالَ [النساء:118]، أي: هذا الملعون عدو الله لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]، أي: يقول للرب تعالى لما طرده من الجنة بسب إفساده لآدم وحواء، ورفضه السجود للآدم، إذ كل الملائكة سجدوا إلا هو والعياذ بالله، قال لما أيس وعرف مصيره: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]، أي: يتحقق لا بد منه، وقد نجح، ففي الأثر يقول الرب تبارك وتعالى في عرصات القيامة في ساحة فصل القضاء: يا آدم! خذ بعث النار، من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، وواحد إلى الجنة فقط.فهيا لنلق نظرة في البشرية الآن، كم نسبة الناجون من أهل الإيمان والصدق والتوبة والطاعة إلى باقي هذه الأمم؟ من الألف واحد! إذاً: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]؛ لأنه عرف ضعف هذا الإنسان وعجزه وعدم قدرته، وذلك لما زين لآدم وحواء الأكل من الشجرة المحرمة، فسلبهم ذاك النعيم وأخرجهم من دار السلام، وكذلك أولاد آدم مثله، ولهذا حلف فقال: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]، فقد استطاع أن يغرر بآدم وحواء ليخرجهم من الجنة، فزين لهم أكل الشجرة وقال: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120]؟ فاستجاب آدم وحواء لذلك وأبعدوا من دار السلام، واهبطوا إلى دار الشقاء وهو معهم.إذاً: عرف أن هذا الجنس ضعيف يستطيع أن يؤثر عليه، واسمعوا ماذا فعل أيضاً؟

يتبع

ابوالوليد المسلم
06-05-2021, 04:16 AM
تفسير قوله تعالى: (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ...)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:119].
معنى قوله تعالى: (ولأضلنهم)
قال: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء:119]، أي: أبعدهم عن طريق عبادتك وولايتك؛ ليكونوا عبيدي وأوليائي، ويدخلون جهنم ويخلدون فيها معي، وهذا الحقد وهذا الغيظ سببه أنه أطرد من رحمة الله هو وذريته من الجنة من دار السلام، وذلك بسبب آدم وحواء، ثم قال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، اللهم اجعلنا من الذين استخلصتهم لعبادتك.إذاً: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء:119]، أي: عن جادة الصواب، عن طريق الحق، عن الصراط المستقيم؛ ليعيشوا في الشرك والكفر والجرائم والموبقات، فتسود نفوسهم وتخبث، ويكونوا أهلاً لعالم الشقاء جهنم.
معنى قوله تعالى: (ولأمنينهم)
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النساء:119]، أتعرفون الأماني؟ يأتي الآدمي فيقول له: لم تبق في هذه الحال؟ افعل كذا، اقتل فلاناً واحصل على هذا المال، وبعد ذلك تستريح مرة واحدة، ويقول لفلان: افتح مقهى أو مخمرة كما يفتحها غيرك، والله يتوب على من يشاء، فما يزال به حتى يوقعه في ذلك، ويأتي لآخر فيقول له: لم تبق في هذا الكرب والغم والهم؟ اطلب لك فتاة وازن بها وافجر بها والله غفور رحيم! وغير ذلك من الأماني التي يلقيها على الآدمي، ولا نستطيع أن نستوفي ما يطرحه من أماني! إلا أننا نقول: كل الذين بغوا وظلموا وفسقوا كان ذلك بأماني الشيطان لهم، فهو الذي يحسن لهم القبيح ويزين لهم المشئوم حتى يوقعهم في ذلك، وما يقدم من أماني عذبة حتى يورط الآدمي في هذه الفتن.
معنى قوله تعالى: (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام)
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119]، أي: ولآمرنهم فيطيعونني، فَلَيُبَتِّكُنَّ [النساء:119]، أي: فليقطعن، آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119].يقول تعالى عن إبليس عليه لعائن الله، وهو عز وجل يخبر بأخباره وكلامه الذي قال، فيقول: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء:119]، أي: بني آدم عن الطريق الموصل إلى سعادتهم ورضاك. وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النساء:119]، أي: بالأماني الكاذبة حتى يتورطوا في الشرك والكفر والفجور والذل والفساد والشر. وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119]، وآذان جمع أذن، والأنعام: الإبل والبقر والغنم، فقد كان العرب في الجاهلية يعلِّمون الشاة أو البعير أو البقرة بشق أذنها على أنها لسيده أو لمولاه أو لربه، قال تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:103].إذاً: فهم يجعلون للآلهة مواشيهم، فهذا البعير يسمونه الحام لأنه محمي، أي: لا يركبه أحد؛ لأنه لإلهه، وطول حياته وذاك البعير يرتع ولا يركب ولا يحمل عليه، وإنما حموه للآلهة.والسائبة هي التي يسيبونها ويتركونها، كشاة أو مجموعة من الأنعام، فلا تحلب ولا تركب؛ لأنها للإله.وأما البحيرة فهي التي يبحرون أذنها أيضاً من الإبل أو البقر، والذي زين لهم هذا هو الشيطان، وقد جاء إلينا بعد أنوار القرآن، فكم من إنسان يقول: هذه الشاة لسيدي عبد القادر، فلا تمسها ولا تأكلها! ويغرس نخيلاً فيقول: هذه نخيل لسيدي عبد القادر! ويشتري قطيعاً من الغنم ويقول: هذه شاة مولاي فلان! وعلة ذلك الجهل، فيتقربون إلى الأولياء، فهل الأولياء يقبلون منهم هذا؟ وهل أمرنا الله بأن نجعل لأولياء الله شاة أو نخلة أو شجرة من الزيتون ونقول: هذه لسيدي فلان؟! والله ما أمر بهذا إلا الشيطان عليه لعائن الله.
معنى قوله تعالى: (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله)
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119]، كيف يغيرون خلق الله؟ مثلاًً: شق الأذن تغيير لخلق الله، وحلق الحاجبين تغيير لخلق الله، وحلق اللحية والشارب معاً تغيير لخلق الله، والوشم في اليد والوجه تغيير لخلق الله، وقد عمل إبليس واستطاع ونجح في هذا الباب بلا حساب.قال: [ فيطيعونني في ذلك، فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119] ليجعلون لآلهتهم نصيباً مما رزقتهم، ويعلمونها بقطع آذانها لتعرف أنها للآلهة، كالبحائر والسوائب التي يجعلونها للآلهة ]، فلهذا معاشر الأبناء والبنات والمؤمنين والمؤمنات! نعمل على ألا نغير خلق الله، لا في شاة ولا في بعير ولا في إنسان ولا في أي شيء، فنترك خلق الله كما هو، فالوشم حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ( لعن الله الواشمة والمستوشمة، لعن الله الواصلة والمستوصلة )، وهي التي توصل شعر غيرها بشعرها، إذ ما رضيت بما أعطاها الله عز وجل فاحتالت وألصقت شعراً بشعرها، ( لعن الله الواصلة والمستوصلة والنامصة والمتنمصة ).والمهم إذا رأيتم من يغير خلق الله فاعلموا أنه استجاب لدعوة إبليس، إذ هو القائل: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119].
جزاء من اتخذ الشيطان ولياً من دون الله
ثم قال تعالى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:119]، وهو كذلك، فبدل أن توالي الله عز وجل بالإيمان الصحيح وبطاعته وطاعة رسوله فتصبح ولي الله؛ تترك الله عز وجل ولا تؤمن به ولا تطيعه وتؤمن بالشيطان وتطيعه في كل ما يأمر ويزين، فصاحب هذه الطاعة قال الله فيه: فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:119].
تفسير قوله تعالى: (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء:120].وبين ذلك فقال: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ [النساء:120]، أي: يعدهم بالوعود الكاذبة، فهل يحقق شيئاً؟ ويمنيهم بالأماني العذبة الكاذبة. وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء:120]، والله ما يعد الشيطان أحداً إلا وقد غرر به، فلا يستطيع أن يعطيه شاة ولا بعيراً ولا ديناراً ولا درهماً، وإنما الذي يعطي ويمنع هو الله عز وجل، لكن الشيطان يمني ويحمل الإنسان على الأماني الكاذبة من أجل أن يضله الضلال البعيد والعياذ بالله، ومن أجل أن يخسر خسراناً واضحاً بيناً.
تفسير قوله تعالى: (أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً)
أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [النساء:121]. قال تعالى في ختام هذه الآيات: أُوْلَئِكَ [النساء:121]، أي: أتباع الشيطان ومطيعوه، أولياء إبليس. أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [النساء:121].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
لهذه الآيات هدايات خمس فتأملوا! ‏
معنى الآيات
قال المؤلف: [ من هداية الآيات: سائر الذنوب كبائرها وصغائرها قد يغفرها الله تعالى لمن شاء، إلا الشرك فلا يغفر لصاحبه ] وأخذنا هذا من الآية الأولى.قال: [ ثانياً: عبدة الأصنام والأوهام والشهوات والأهواء هم في الباطن عبدة الشيطان، إذ هو الذي أمرهم فأطاعوه ] فهو وليهم.قال: [ ثالثاً: من مظاهر طاعة الشيطان المعاصي كبيرها وصغيرها، إذ هو الذي أمر بها وأُطيع فيها ] أي: أن كبائر الذنوب، بل المعاصي كلها الشيطان هو الذي أمر بها وحسنها وزينها، ونحن إذا أطعناه فقد عبدناه. قال: [ رابعاً: حرمة الوشم والوسم والخصاء إلا ما أذن فيه الشارع ] الوشم حرام إذ فيه تغيير لخلق الله، والوسم كذلك، والخصاء للذكر كذلك إلا ما أذن فيه الشارع، فقد أذن الشارع أن نخصي التيس والكبش للحفاظ على الشحم واللحم، وأذن في أن نعمل علامة في الأغنام بشق بعض الأذن حتى لا تختلط أغنامنا بأغنام الآخرين، فهذا قد رخص فيه الشارع؛ لأنا ما فعلنا هذا لنعبد الشيطان أو نجعل هذه الشاة لفلان أو علان.قال: [ رابعاً: حرمة الوشم ] سواء في الوجه أو في غيره، [ والوسم ] أيضاً بالسيم أو العلامة، [ والخصاء، إلا ما أذن فيه الشارع ] صلى الله عليه وسلم.قال: [ خامساً: سلاح الشيطان العِدة الكاذبة، والأمنية الباطلة، والزينة الخادعة ] أي: سلاح عدونا إبليس: العدة، أي: الوعد الكاذب، والأمنية الباطلة، والزينة الخادعة.والله تعالى أسأل أن يعيذنا وإياكم من فتنه ومن شره وتزيينه، وأن يحفظنا بما يحفظ به أولياءه حتى نلقاه طيبين طاهرين.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
06-05-2021, 04:17 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (64)
الحلقة (287)
تفسير سورة النساء (68)


بين الله عز وجل جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان، وأنهم مجموعون في نار جهنم لا يجدون عنها محيصاً، ثم بعد ذلك بين سبحانه جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن، وأنه سبحانه سيدخلهم بعد موتهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، وأن خلودهم مقدر فيها بإذن ربهم سبحانه، فلا يخرجون منها أبداً.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، فإنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآية أيضاً المباركة الميمونة، وتلاوة هذه الآية بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نريد أن نمر مرة أخرى بالآيات التي تدارسناها البارحة؛ لأن لها ارتباطاً كبيراً بهذه الآية، فهيا نسمعكم تلاوتها مرة واحدة ونقرؤها في التفسير ونتذكر بها ما نسيناه ونتعلم ما لم كنا تعلمناه بإذن الله، وتلاوة هذه الآيات -التي تدارسناها البارحة- بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا * إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [النساء:116-121]، هذه قد درسناها بالأمس، فإليكموها في التفسير.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيات: قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116]، إخبار منه تعالى عن طعمة بن أبيرق بأنه لا يغفر له وذلك لموته على الشرك، أما إخوته الذين لم يموتوا مشركين فإن أمرهم إلى الله تعالى، إن شاء غفر لهم وإن شاء آخذهم كسائر مرتكبي الذنوب غير الشرك والكفر. وقوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، أي: ضل عن طريق النجاة والسعادة ببعده عن الحق بعداً كبيراً، وذلك بإشراكه بربه تعالى غيره من مخلوقاته ].قصة طعمة بن أبيرق قد تقدم الحديث عنها في الآيات السابقة، وطعمة هذا كان منافقاً في المدينة وله إخوة، وقد سرق درعاً ثمينة، فلما خاف أن يُعرف ألقاها في بيت يهودي جار له وقال: إن اليهودي هو الذي سرق الدرع، وجاء إخوته وشهدوا معه، فالرسول بشر وإن كان سيد البشر، مال إلى قولهم وأراد أن يقطع يد اليهودي السارق، وإذا بالقرآن ينزل فقال: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:105-106]، الآيات.ففضح الله تعالى طعمة بن أبيرق وإخوته، وهرب طعمة -والعياذ بالله تعالى- إلى مكة عاصمة الشرك يومئذ، ثم جاء يسرق بيتاً من بيوت أهل مكة ففتح نقبة في الجدار فسقط الجدار عليه، فمات مشركاً كافراً سارقاً والعياد بالله، وفيه نزلت: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]، كـطعمة، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116] كإخوة طعمة، إذ ما أشركوا بالله لكن أمرهم إلى الله؛ لأنهم ارتكبوا كبيرة وهي شهادة الزور والعياذ بالله تعالى.ثم قال المؤلف: [ وقوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117]، هذا بيان لقبح الشرك وسوء حال أهله، فأخبر تعالى أن المشركين ما يعبدون إلا أمواتاً لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون ولا يعقلون، إذ أوثانهم ميتة، وكل ميت فهو مؤنث، زيادة على أن أسماءها -أيضاً- مؤنثة كاللات والعزى ومناة ونائلة ]، فلماذا يسمى هذا المعبود أو هذا القبر أنثى؟ لأن العرب يطلقون على كل من يجدوه لا يقوى على الدفاع والعطاء: أنثى، والأصنام والقبور والأحجار التي يدعونها لا تسمع ولا تبصر ولا تعطي، إذاً فهي ميتة، وبالتالي فهي أنثى، إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء:117-118].قال: [ كما هم في واقع الأمر يدعون شيطاناً مريداً، إذ هو الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام فعبدوها، فهم إذاً عابدون للشيطان في باطن الأمر لا الأوثان ]، فالنصارى الآن المسيحيون لا يعبدون عيسى، وإنما يعبدون الشيطان الذي أمرهم بعبادة عيسى، ولذلك فكل من عبد غير الله هو في الحقيقة ما عبد ميتاً ولا عبد شمساً ولا عبد قمراً، إنما في الحقيقة هم يعبدون من أمرهم بذلك، والذي زين لهم عبادة غير الله ودعاهم إليها هو الشيطان، فهم والله عابدون للشيطان، فهل نحلف والله هو الذي يقرر ذلك؟! لا حاجة إلى الحلف.قال: [ فهم إذاً عابدون للشيطان في باطن الأمر لا للأوثان، ولذا قال تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء:117] ] وقد فسرنا (مريداً) بأنه متمرد عن الحق فلم يعبد الله عز وجل.قال: [ لعنه الله وأبلسه عند إبائه السجود لآدم ]، أي: لعن الله إبليس وأبلسه لما رفض أن يسجد لآدم في الوقت الذي سجد فيه كل ملائكة الله، فأبلسه الله وأيأسه من الخير، وهذا معنى (لعنه).قال: [ ولذا قال تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء:117]، لعنه الله وأبلسه عند إبائه ورفضه السجود لآدم، وَقَالَ [النساء:118] -أي: إبليس- لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]، أي: عدداً كبيراً منهم يعبدونني ولا يعبدونك، وهم معلومون معروفون بمعصيتهم إياك وطاعتهم لي. وواصل العدو تبجحه قائلاً ] وقد ذكرنا بالأمس أن الله يأمر آدم بأن يخرج بعث النار من كل ألف واحداً، أي: تسعمائة وتسعين إلى النار وواحد إلى الجنة، فالتسعة والتسعون عبدوا الشيطان بالشرك والجرائم والموبقات، والجنة والله لا يدخلها إلا ذو النفس الزكية الطاهرة، أما ملوثة مخبثة فهيهات هيهات، وقد سمعتم حكم الله الصادر علينا فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فإما أن تعمل أيها الآدمي على تزكية نفسك وتطهيرها حتى تصبح كأرواح الملائكة فتنزل الملكوت الأعلى معهم، وإما أن تخبثها وتلوثها بأدران الشرك والمعاصي فأنت تهبط فلا تعلو أبداً، إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40] ما لهم؟ لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40].قال: [ وقال: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]، أي: عدداً كبيراً منهم يعبدونني ولا يعبدونك، وهم معلومون معروفون بمعصيتهم إياك وطاعتهم لي.وواصل العدو تبجحه قائلاً: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء:119]، يريد عن طريق الهدى ]، أي: ولأضلنهم عن طريق الهدى، عن الصراط المستقيم.قال: [ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النساء:119]، يريد أعوقهم عن طاعتك بالأماني الكاذبة بأنهم لا يلقون عذاباً أو أنه سيغفر لهم ] وهذه أمانيه.قال: [ وَلَآمُرَنَّهُمْ [النساء:119] فيطيعوني، فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119]، أي: ليجعلون لآلهتهم نصيباً مما رزقناهم، ويعلِّمونها بقطع آذانها لتُعرف أنها للآلهة، كالبحائر والسوائب -والحامات- التي يجعلونها للآلهة، وَلَآمُرَنَّهُمْ [النساء:119] أيضاً فيطيعونني فيغيرون خلق الله بالبدع والشرك والمعاصي كالوشم والخصي ] وما إلى ذلك.قال: [ هذا ما قاله الشيطان ذكره تعالى لنا فله الحمد ] وله المنة.قال:[ ثم قال تعالى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:119]، لأنه من والى الشيطان عادى الرحمن، ومن عادى الرحمن تم له والله أعظم الخسران، يدل على ذلك قوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ [النساء:120]، فيعقوهم عن طلب النجاة والسعادة، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء:120]، إذ هو لا يملك من الأمر شيئاً، فكيف يحقق لهم نجاة أو سعادة إذاً؟وهذا حكم الله تعالى يُعلن في صراحة ووضوح فليسمعوه: أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [النساء:121]، أي: معدلاً أو مهرباً ].

يتبع

ابوالوليد المسلم
06-05-2021, 04:17 AM
قراءة في تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ...) من كتاب أيسر التفاسير
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].قول ربنا: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النساء:122]، خلاف الذين أشركوا بالله وعبدوا الشيطان. ‏
معنى الآية
قال المؤلف: [ معنى الآية الكريمة: لما بين تعالى جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في هذه الآية جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن عز وجل ] والموحدون هم الذين أسلموا قلوبهم ووجوههم لله تعالى، فقلوبهم لا تتقلب أبداً إلا في طلب رضا الله عز وجل، ووجوههم لا تلتفت إلى غير الله، فلا يركعون ولا يسجدون ولا يذبحون ولا ينذرون ولا يحلفون أبداً لمخلوق كائناً من كان، بل حياتهم كلها موقوفة على ربهم، وأعلنوا ذلك لما قالوا: لا إله إلا الله، فعبدوا الله بما شرع لهم من أنواع العبادات وأخلصوها له فلم يلتفتوا في شيء منها إلى غير الله، فأولئك هم الموحدون الذين عبدوا الله ووحدوه بالعبادة، فلم يلتفتوا إلى غيره ولم يشركوا غيره أبداً في عبادة من عباداته، لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا عبداً صالحاً، فضلاً عن الكواكب والأصنام والأحجار.قال: [ لما بين تعالى جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في هذه الآية جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن عز وجل، وأنه تعالى سيدخلهم بعد موتهم ]، وذلك ما إن يلفظ أحدنا أنفاسه إلا ويرقى بها الملائكة إلى الله عز وجل، بينما الآخرون يرقون بها إلى السماء، فيستأذنون السماء الأولى والله ما يؤذن لهم؛ لأنها منتنة وعفنة، فيؤمر بها أن اهبطوا بها إلى أسفل سافلين، وأما الزكية الطاهرة النقية فيفرحون بها وتفتح لها أبواب السماء وينتهون بها والله إلى العرش، ثم يكتب اسمها في عليين، قال تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:18-21]، ثم ينزلون بها للمحنة وللاختبار في القبر أو في البحر حيث وجد منها جزء، ثم بعد ذلك الامتحان يعودون بها إلى دار السلام، فاللهم اجعلنا منهم.فهؤلاء هم الذين آمنوا بالله حق الإيمان، وعبدوه وحده ولم يلتفتوا إلى غيره، وما عبدوه بالبدع والخرافات فإنها والله لا تزكي النفس ولا تطهرها، وإليكم مثالاً لذلك: تعبدنا الله بالطواف ببيته سبعة أشواط، فمن طاف شوطاً واحداً لا يقبل منه، ومن طاف خمسة أشواط أو ستة أو تسعة لا ينفع، حتى لو قلت: أنا زدت لربي شوطاً أو شوطين، وهذا خير، والله ما ينفع، ومعنى لا ينفع أنها لا تزكي النفس، لا تتولد لك المادة النورانية من هذه العبادة التي أثبتها بالزيادة أو بالنقصان، وإذا ما اتضح لك الموقف فإليك مثالاً آخر: صلاة المغرب كم هي ركعة؟ ثلاث ركعات، وقد صلى جبريل برسول الله في الأرض ثلاث ركعات، فإن أتى آت فقال: ما هذا؟ أن أزيد ركعة فأصلي المغرب أربعاً، فهل تجد فقيهاً يقول له: صلاتك صحيحة؟ والله ما تجد، كذلك الظهر أربع ركعات، فيأتي آت فيقول: أنا مريض، فيكفي أن أصلي الظهر ثلاثاً، فهل تجد فقيهاً في الدنيا يقول له: صلاتك صحيحة؟ لا والله، لماذا؟ ما السر يا فقهاء؟ لأن هذه العملية شرعها الله لتوليد النور، وذلك بمادة الحسنات المنيرة للقلب، فإذا أنت أخللت بأدائها فزدت أو نقصت بطل مفعولها ولا تنتج النور المطلوب، إذاً: فكيف تبتدع بدعة وتريد أن تزكي نفسك؟! والله ما كان ولن يكون، واسمعوا إلى قول المفسر صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا )، أي: ما أذنا فيه، ( فهو رد )، أي: مردود على صاحبه، لا ينتفع به.ونعود إلى الطواف، فلو قال قائل: هيا بنا نطوف بالحجرة النبوية سبعة أشواط؛ لأن الرسول فيها وهو أفضل من الكعبة بأكثر من مليون مرة! فهل هذا الطواف تزكو به نفسه؟ والله ما تزكو، بل تدنس؛ لأن الله ما شرعه، وعلى هذا فقيسوا كل البدع، فإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، فمن ثَمَّ لا نعبد الله إلا بما بين لنا رسوله من أنواع العبادات، أما أن نخترع ونبتكر ونوجد لنا عبادة والله لا ينفع، فلا تزكي النفس ولا تطهرها، بل تخبثها وتلوثها.قال: [ لما بين تعالى جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في هذه الآية جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن عز وجل، وأنه تعالى سيدخلهم بعد موتهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار ]، أي: جنات تجري من تحتها الأنهار، ومعنى من تحتها الأنهار، أي: من تحت القصور والأشجار.قال: [ وأن خلودهم مقدر فيها -بقضاء الله وقدره- بإذن الله ربهم، فلا يخرجون منها أبداً ]، والله ما يخرج من الجنة من دخلها قط، أما النار فقد يخرج منها، وذلك أن العبد قد يدخل النار بذنوبه التي ليست شركاً ولا كفراً وإنما هي من كبائر الذنوب، وذلك إذا لم يغفر له ومات عليها والعياذ بالله، ولكن من أهل لا إله إلا الله الموحدين الذين لا يعرفون عبادة لغير الله، فهؤلاء قد يمكثون فيها أحقاباً ثم يخرجون منها؛ لأن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً.قال: [ وأن خلودهم مقدر فيها بإذن الله ربهم، فلا يخرجون منها أبداً، وعدهم ربهم بهذا وعد الصدق، وليس هناك من هو أصدق وعداً ولا قولاً من الله تعالى ]، وصدق الله إذ يقول: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].
هداية الآية
قال المؤلف: [ من هداية الآية الكريمة: أولاً: الإيمان الصادق والعمل الصحيح الصالح هما مفتاح الجنة وسبب دخولها ]، والسر في ذلك هو النفس البشرية لا تطيب ولا تطهر إلا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وليس هناك نسب أبداً، بل لو كنت ابن نبياً من الأنبياء ونفسك خبيثة منتنة فلن تدخل دار السلام، أو كنت أبا نبي من الأنبياء لا ابنه، وقد علمنا الله هذا في القرآن، فكيف حال آزر والد إبراهيم؟ في النار، وإبراهيم قد وعده ربه بأن لا يخزيه يوم يبعثون، فقال إبراهيم: يا رب! لقد وعدتني في أبي وأبي في النار، فيقال له: انظر تحت قدميك، فينظر فإذا بأبيه آزر في صورة ضبع ذكر ملطخ بالدماء والقيح -والضباع أسوأ منظر- فما ينظر إليه إبراهيم حتى يقول: سحقاً سحقاً، أي: بعداً بعداً، فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في أتون جهنم. فهذا أبو إبراهيم عليه السلام.وهذا كنعان بن نوح عليه السلام، إذ قال نوح عليه السلام: يا رب إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:45-46]، فهل نفع نوح ولده؟ لا والله. وهذه الزوجة الحنونة زوجة نوح ولوط عليهما السلام، قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم:10]، فهذا قضاء الله تعالى، فمن لم يرض به يضرب رأسه على الحائط، إذ ليس هناك حيلة أبداً. وهذه امرأة فرعون الطاغية الذي ادعى الربوبية والألوهية، آسية بنت مزاحم عليها السلام، هل ضرها أن كانت تحت فرعون؟ قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11]، فهي في الجنة؛ لأن القضية أنه قد صدر على البشرية حكم علمناه وجهله غيره، وهذا الحكم هو قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فيا أيها المستمعون! هل حفظتم هذا الحكم أم لا؟ والله حرام عليكم أن تقوموا ولم تحفظوها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، كيف لا ننطق بهذا؟ كيف تنسى حكماً صدر عليك وعلى أمك وعلى زوجتك وأولادك بل والبشرية كلها ولا تستطيع أن تنطق به ولا أن تبينه؟ إن هذا الحكم الإلهي قد حلف الله بأيمان ما حلفها على غيره فقال: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، فهذه أيمان كلها من أجل ماذا؟ قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، ما هي مواد التزكية؟ أين توجد مواد التزكية؟ علمونا، دلونا، يا شيخ! إنها الإيمان والعمل الصالح، فأين يوجدان؟ في أي صيدلية؟ في الكتاب والسنة النبوية، فاقرأ كتاب الله تجد حقيقة الإيمان ما هو؟ وتجد العمل الصالح ما هو؟ وكيف تفعله؟ وما هي أوقاته؟ وما هي موازينه ومقدراته إن كنت تريد الفلاح، وإن كنت لا هم لك في الفلاح ولا في الخيبة والخسران فأنت كبلايين البشر من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى جهنم والعياذ بالله؟ واسمعوا إلى يمين آخر لله تعالى، إذ يقول سبحانه وتعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:1-3]. وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7]، من خلقها وسواها؟ الله، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8]، أي: علمها أنواع الإيمان والعمل الصالح وصنوف الفجور والكفر والشرك، ولولا أن الله علمنا لم نعرف، فهو الذي علمنا وفهمنا التقوى ما هي والفجور ما هي، وليس معنى هذا أن النفس البشرية وحدها تستطيع أن تعرف كيف تزكي نفسها وكيف تطهرها، لا، بل لا بد من وحي وكتاب ورسول، وذلك لتعلمنا الفجور ما هو، والشرك والذنوب والمعاصي، وتعرفنا التقوى وهو عبادة الله بما شرع، ولولا أنه عرفنا ما هو الكفر وما هو الشرك وما هو التوحيد فكيف نعرف ذلك؟ فالحمد لله! لتقوم الحجة علينا فقد علمنا.قال: [ من هداية الآية الكريمة: أولاً: الإيمان الصادق ]، وهو تصديق الله ورسوله في كل ما أخبر به من شأن الغيب والشهادة، من شأن العالم الثاني وما فيه من نعيم مقيم أو عذاب أليم، من شأن عرصات القيامة وما فيها من حساب، وما إلى ذلك من الغيوب التي أخبر الله بها وأخبر بها رسوله، فصدقنا وآمنا، ولا نشك ولا نتردد في أي خبر من أخبار الله ورسوله، وأركان الإيمان ستة محفوظة معروفة عند الناس، ولكن مع ذلك نحن نصدق الله ورسوله في كل خبر، أطاقت عقولنا أو ما أطاقته، فإذا صح الخبر عن الله أو عن الرسول فقل: آمنت به، وقد علمنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يوماً في الروضة يحدث أصحابه، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فألقي إليه خبر عاجل وهو: أن فلاحاً من بني إسرائيل -ممكن في الشام أو في أي بلاد أخرى- ركب على بقرته! والبقرة ما يركب عليها إلى الآن، فهي للحرث، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فرفعت البقرة رأسها إليه وقالت: ما لهذا خلقت! فأخذ الرسول والله بلحيته وقال: آمنت به، آمنت به، آمنت به وآمن به أبو بكر وعمر )، وهما غائبان عن المجلس، فهل عرفتم ما هو التصديق؟ بقرة تنطق وتفصح؟ عجيب هذا! لكن أُخبر به عليه السلام فقال: ( آمنت به )، ونحن: آمنا به، آمنا به، والشاهد عندنا: أن حقيقة الإيمان بالله هو تصديق الله تعالى ورسوله في كل ما أخبر به، أطاقت عقولنا أم عجزنا عن إدراكه وفهمه، وإلا فلا إيمان. قال: [ أولاً: الإيمان الصادق -لا الكاذب- والعمل الصحيح الصالح ] لا الفاسد، فالحج مثلاً عمل صالح يفسد إذا اختل أحد أركانه، وكذلك الصلاة عمل صالح تفسد إذا اختل أداؤها ونقصت شروطها، وهكذا كل عمل صالح.قال: [ هما مفتاح الجنة وسبب دخولهما ]؛ لأنهما يزكيان النفس ويطهرانها، فهذا هو السبب.قال: [ ثانياً: صدق وعد الله وصدق قوله عز وجل ]، فإذا وعد الله فلن يتخلف وعده أبداً، قال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87].قال: [ ثالثاً: وجوب صدق الوعد من العبد؛ لأن خلف الوعد من النفاق ] فيا عبد الله! ربك يصدق، ومن أصدق منه قيلاً؟ وأنت عبده ووليه أمرك بالصدق أيضاً، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يكذب كذبة، والحبيب يقول: ( آية المنافق ثلاث )، أي: علامة المنافق من الرجال والنساء ثلاث، منها: ( إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان )، أي: وإذا ائتمن النافق خان، وإذا واعد أخلف، فيتلذذ بخلف الوعد، فيترك من واعده يتعذب، فإذا واعده مثلاً في الساعة الثانية ليلاً في طريقهم إلى مكة، فيعرف أنه وصل للمركز أو للمحطة وهو في بيته نائم! فهو يود ويريد أن يؤذي المؤمنين والعياذ بالله.قال: [ ثالثاً: وجوب صدق الوعد من العبد؛ لأن خلف الوعد من النفاق، لحديث: ( وإذا واعد أخلف ).رابعاً: وجوب صدق القول والحديث؛ لأن الكذب من النفاق، لحديث: ( وإذا حدث كذب ) ]. هذا والله تعالى أسأل أن يرزقنا الإيمان وصالح الأعمال، وأن يقينا الشرك والكفر والنفاق.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
06-05-2021, 04:19 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (65)
الحلقة (288)
تفسير سورة النساء (69)


إن من سنن الله التي لا تتحول ولا تتبدل أن من عمل سيئة جزي بها في الدنيا، ثم يوم القيامة لا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً، كما أن من عمل الصالحات، وأتى بالطاعات، واجتنب المنكرات؛ فإنه يحيا حياة طيبة، ويوم القيامة يدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار، يخلد فيها فلا يموت، ويسعد فلا يبأس، جزاء من عند الله الذي لا يخلف الميعاد.
تفسير قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.ما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الأربع، فهيا نتلوها ونتغنى بها عدة مرات ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، فما كان عقيدة والله عقدناها الآن في قلوبنا، وما كان أمراً تهيأنا للنهوض به إن كنا غير ناهضين به، وإن كان نهياً عما لا يحله الله ولا يرضى عزمنا على تركه من الآن إن كنا فاعلين، وإن كان أدباً أيضاً تحلينا به من الليلة، وإن كان خلقاً فاضلاً تخلقنا به، وإن كانا خلقاً سيئاً تخلينا عنه من الليلة، وهذا شأن طالب العلم الرباني، وتلاوة هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا * وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:123-126]. هذا كلام الله عز وجل الذي تحدى به الإنس والجن على أن يأتوا بمثله فعجزوا، والحمد لله! أننا نتلوا كتابه ونعرف ما يريده منا ويطلبه، ونعمل من أجل أن نكمل ونسعد، فالحمد لله على ذلك، وقد حرم من هذا بلايين البشر.تأملوا يرحمكم الله! قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، أي: ليس بأمانيكم يا أهل الإسلام! ويا أهل القرآن! ولا بأماني أهل الكتاب من اليهود والنصارى، كيف إذاً؟ الجواب: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، سواء كان يهودياً أو نصرانياً، مسلماً أو كافراً، فهذه هي الحقيقة. مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]، تباهى أو تفاخر مجموعة من اليهود ومجموعة من المسلمين، فقال اليهود: كتابنا قبل كتابكم، وديننا قبل دينكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن أفضل منكم، والجنة لنا دونكم، وقال المؤمنون: نحن أيضاً نبينا خاتم الأنبياء، وديننا خير من دينكم، وكتابنا القرآن خير من كتابكم، ومفروض عليكم أن تتبعوا نبينا وتؤمنوا بكتابنا، فأنزل الله حل هذه المشكلة فقال: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ [النساء:123]، يا أيها المسلمون! وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، وإنما: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]، فهذه هي الحقيقة، والأماني: جمع أمنية، وهي ما يتمناه المرء في قلبه ويرغب في تحقيقه وهو صعب ليس بهين عليه، أو ما يقرره الإنسان في قلبه من رغبة في شيء وهو صعب، فهذه تسمى أمنية، فهو تمناها، فالقضية ليست بأننا من المسلمين أو أننا مسلمون أو أننا يهود أو أننا أتباع موسى أو أننا أتباع محمد، إذ كل هذا أماني كاذبة لا قيمة لها؛ لأن دخول الجنة يا معشر المستمعين والمستمعات! متوقف بعد رحمة الله على طهارة الروح وزكاتها، وحرمانها من الجنة ودار السلام لخبثها ونتنها وتدسيتها، فلم يبق معنىً للمفاخرة ولا التبجح ولا نحن كذا وكذا، إذ كل هذا لا قيمة له، فالنجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار متوقف لا على نسب ولا قبيلة ولا أي شيء، بل حتى ولو كنت ابن النبي أو أباه، وإنما على زكاة النفس وطهارتها، والحكم الإلهي الصارم القاطع ما ننساه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، من هي؟ النفس البشرية، أما قال: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:7-9]؟ أبيض أو أسود أو أصفر أو في الأولين أو في الآخرين أو شريف أو وضيع، بل قل ما شئت، كل هذا لا قيمة له إلا أن تكون النفس طاهرة زكية نقية كأنفس الملائكة وأرواحهم، وهي التي تفتح لها أبواب السماء وتدخل الجنة دار الأبرار في جوار ربها جل جلاله وعظم سلطانه، فهل اقتنع المستمعون والمستمعات أو لم يقتنعوا؟ والله ما هو إلا ما سمعتم. لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، والسوء هو الاعتقاد الذي يسيء ويفسد، القول الذي يسيء ويفسد، العمل الذي يسيء ويفسد، الوصف الذي يسيء ويفسد، ونعرفه من طريق كتاب الله وهدي رسوله، فكل ما يسيء إلى النفس ويخبثها قد بينه الله ورسوله، وكونك لا تسأل عنه ولا تتعرف إليه فهذا شأنك، أما الله عز وجل ورسوله فقد بينا كل ما يسيء إلى النفس ويدسيها، فحرماه وتوعدا عليه ولعنا عليه ولا يهلك على الله إلا هالك. وإليكم مظاهر هذا: الآن لو تمد يدك وتصفع أخاك الذي بجوارك لأنه ضايقك، تجز به الآن، إما بالدعوة عليك، وإما بسجنك أو تعذيبك؛ لأنك عملت سوءاً، فالآن حصل الجزاء، أو الآن تشرب ملي جرام من السم، فالآن أنت في المستشفى، فقد تم الجزاء على الفور، وهكذا في الدنيا والآخرة، أي: من يعمل سوءاً يجز به، وهذه سنة الله التي لا تتبدل، وهنا خاف الصديق لما سمع هذه الآية وهو على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف النجاة يا رسول الله! مع قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا بكر! ألست تمرض؟ ألست تجوع؟ ألست تنصب؟ ألست تتعب؟ ألست تبتلى؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: ذلك جزاؤك )، أي: السوء الذي فعلته تجز به الآن لتبقى نفسك زكية طاهرة نقية متأهلة لدار السلام، وقد كان السلف الصالح إذا عثرت بغلة أحدهم أو دابته -تعرفون عثور الدابة؟ يهتز ويتألم- يقول: عرفت أنني أذنبت ذنباً، وهذا هو الجزاء على ذلك، أو قد تغضب امرأته فترفع صوتها وتؤذيه فيعرف أنه أذنب، أو تباطأ خادمه في فعل شيء أمره به، فيعرف أنه قد أذنب ذنباً. مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، وهذا في الدنيا، فالقاتل يقتل، والسارق تقطع يده، والزاني يجلد أو يرجم إن كان محصناً، وهكذا من أكل سماً أو من تعرض للبرد أو تعرض للحر فإنه يجز به، ولكن الجزاء ليس هذا، إذ الجزاء هو أن يطرد من دار السلام لينزل إلى الدركات السفلى في دار البوار ليخلد في العذاب المهين، والقرآن حمال للوجوه، فمن يعمل سوءاً يجز به في الدنيا، فهل عمل المسلمون السوء وجوزوا به؟ نعم، أما تخلوا عن القرآن الكريم وحولوه إلى الموتى والقبور؟ أما انتهى بينهم الأمن والطهر والصفاء وانتشر الزنا والعهر والباطل والتلصص والإجرام والسرقة وما إلى ذلك، ففسدت عقائدهم بالشرك والخرافات؟ هل عفا الله عنهم وسامحهم أو لاقوا جزاءهم؟ أذلوا وأهينوا واستعمروا من أقصى الدنيا إلى أقصاها، من إندونيسيا إلى موريتانيا، فحل بهم البلاء والمصائب، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123].ولهذا نقول: إن العالم الإسلامي والله لمتعرض لبلاء عظيم وهم غافلون ناسون، وكأن أكلهم الربا وإشاعة الزنا والباطل والفساد والخيانة والوثنية والعلمانية لا أصل له، والله إنهم لتحت النظارة، فإما أن يتوبوا ويقيموا دين الله وشرعه ويعبدوا الله بما شرع، أو يصيبهم ما أصاب أجدادهم.وقد سئل أحدهم: أين الله؟ فأجاب قائلاً: بالمرصاد، وذلك نظراً إلى قول الله تعالى من سورة الفجر: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، وقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8]، فدمرها وقضى عليها، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ [الفجر:9-10]، كيف حاله؟ أغرقه الله عز وجل وانتهى، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]. لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، لا بد من إسلام القلب والوجه لله، وذلك بتتبع أوامر الله فتُفعل مع كل حال وظرف، وتتبع مناهيه فتترك على كل حال وظرف، وبذلك يتم الكمال والإسعاد، أما بالنسبة أننا مسلمون فلن تجزي ولن تغني شيئاً. فهيا نتأمل! لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، كيف إذاً؟ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]، لا في الملائكة ولا في الجن ولا في البشر أبداً، بل لا بد وأن ينفذ أمر الله فيه.

يتبع

ابوالوليد المسلم
06-05-2021, 04:19 AM
تفسير قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى...)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124].قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ [النساء:124]، (مَنْ) من ألفاظ العموم، فيدخل الذكر والأنثى، والعرب والعجم، والأولون والآخرون، ماذا يعمل؟ مِنَ الصَّالِحَاتِ [النساء:124]، ولم يقل: من يعمل كل الصالحات؛ لأنه لا يقدر على ذلك. وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، أي: والحال أنه مؤمن، أما أن تتصدق بالأموال، وأما أن تصوم، وأما أن توقف الأوقاف، وأما أن تبني المشافي، والقلب خالٍ من الإيمان بالله ولقائه لا ينفع ذلك شيئاً، والآن الجمعيات التنصيرية المسيحية تعمل المشافي، وتجلب الدواء للمرضى، وتأتي بالأطباء، وتوزع الأموال، فلن تغني عنهم من الله شيئاً؛ لأنهم غير مؤمنين، أي: لأنهم كافرون، والكافر الجاحد لله عز وجل وحقه في عباده وهي عبادته وحده، والجاحد للقاء الله والوقوف بين يديه والجزاء لعباده على عملهم في الدنيا، إما بالسعادة أو بالشقاء، والكافر برسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، والكافر بكتاب الله وما فيه، فهؤلاء لو عملوا ما عملوا من الصالحات فلن تغني عنهم شيئاً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، أي: والحال: أنه مؤمن، فالجملة حالية ضرورية، والله تعالى أحياناً يقدم الإيمان أولاً لأصالته وأهليته، وأحياناً للمناسبات يقدم العمل الصالح كما هنا، إذ دخول الجنة ما هو بالأماني، بل بالعمل الصالح، لكن والحال أن عامل الصالحات مؤمن ليس بكافر. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، يا شيخ! ما هي الصالحات؟ هل هي النساء والجواري لأن جمع الصالحات: صالحة؟ لا، فالصالحات ما أمر الله عباده أن يعقدوه في قلوبهم عقدة لا تنحل، فلو يقتل أو يصلب أو يحرق لا يتبدل ذلك المعتقد ولا يتغير، الصالحات كلمات طيبات كذكر الله عز وجل وتلاوة كتابه، وكالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وكالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكالصلاة والصيام والحج والاعتمار والجهاد والرباط، الصالحات كل ما شرع الله لعباده أن يعتقدوه أو ينطقوا به تعبداً ويقولوه، أو يقوموا وينهضوا به ويعملوه، فذلكم هي الصالحات، فلا يستطيع أحد أن يوجد صالحة من قول أو اعتقاد أو عمل أبداً، فما جعله الله صالحاً لتزكية النفس وتطهيرها هو الصالح، وما لم يصبغه الله بصبغته فهو باطل فاسد وليس بصالح.ولا ننسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، أي: مردود على فاعله، فمن عمل عملاً ما أذنا فيه وما شرعناه؛ فهو مردود على صاحبه، ولهذا فإن جميع البدع التي ابتدعها الناس وأدخلوها في الدين وأخذوا يتقربون بها إلى الله هي باطلة مردودة لا تعمل في نفوسهم زكاة ولا طهراً، حتى لو يبيت طول الليل وهو يقول: هو، هو، هو، حي، حي، حي، والله لا يكسب حسنة واحدة، إذ ما تعبدك الله بهذا يا عبد الله. وقد جاءني اليوم شاب بقصيدة طويلة عريضة قالوا: إنها لـحسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها شرك والعياذ بالله، فلم تكذبون على صاحب رسول الله؟ هل يعقل أنه يتوسل بالرسول ويستغيث به فيقول: يا رسول الله! مد يدك، يا رسول الله! افعل لي كذا؟! حاشا حسان وحاشا أهل القرون الأولى أن ينطقوا بهذا الكلام، لكن هذه من مظاهر الهبوط، إي والله قد هبطنا من قرون، فقد كنا في علياء السماء هداة قادة للبشرية نهدي ونقود إلى الكمال والخير، وننقذها من كل شر وفساد، فاحتالوا علينا وهبَّطونا، فلما هبطنا فعلوا بنا ما شاءوا. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، فأولاً الإيمان، والإيمان هو تصديق الله جل جلاله وتصديق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به، فإن رددت خبراً واحداً كفرت ووالله ما أنت بمؤمن، إذ المفروض عليك أنه إذا بلغك خبر الله بكذا أو خبر رسوله الصحيح الثابت عنه بكذا فيجب أن تقول: آمنت به، ودائماً نحن نقول: إن هذا الإيمان هو بمثابة الطاقة الدافعة، وبيان ذلك: أن المؤمن بحق يستطيع أن يصوم في الحر الشديد، والمؤمن بحق ينقطع عشرين سنة وهو يعبد الله ما يفجر ولا يزني بامرأة ولا يتزوج زواج المبطلين أو نكاح العابثين. تعرفون مالك بن أنس رحمه الله إمام دار الهجرة النبوية؟ كان في القرن الثاني بعد المائة الأولى، وشيخه يقال له: ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك، وأبو عبد الرحمن والد ربيعة كان قد خرج على فرسه عشرين سنة وهو يتنقل من غزوة إلى أخرى وهم يفتحون العالم، ثم رجع بعد عشرين سنة إلى أهله، فقرع الباب وهو على فرسه، فصرخت امرأته: من هذا الذي يدخل علينا الدار؟ فقال: هذا بيتي، وهذه امرأتي! فصاح الجيران: كيف هذا؟! فقال: أنا أبو عبد الرحمن، وهذا منزلي وهذه امرأتي، وقد ترك ولده في بطن أمه أو رضيعاً، فجاء فدخل المسجد فوجد ربيعة حوله الناس يروون الحديث، وأصبح يفيض بالحديث النبوي الصحيح للعرب والعجم. وآخر يجوع فيربط الحجر على بطنه ولا يمد يده، ألا وهو أبو هريرة رضي الله عنه، فقد كان يغمى عليه من الجوع في هذا المسجد النبوي، ويأتي أبناء المدينة فيعلون على صدره ويقولون: جن أبو هريرة، ويقول: والله ما بي من جنون وإنما الجوع فقط. فهل يسرقون أو يكذبون أو يجحدون؟ لا، إذاً فهذا هو الإيمان، ما هي دعوى باللسان والقلب خالٍ وفارغ لا نور فيه، وإنما إيمان ذو طاقة دافعة تحمل صاحبها على الصبر والثبات عشرات السنين، فلا تزل له قدم، ولا يقع في معصية الجبار، فمن يقول: هل أنا مؤمن؟ من يريد أن يعرف هل هو مؤمن بحق أم لا؟ إن دعوى الإيمان دعوى عامة يدعيها كان الناس حتى البلاشفة الحمر يقولون: نحن مؤمنون، فمن منكم يريد أن يعرف هل هو مؤمن أم لا؟ أرشدكم إلى حكيم إذا وقفت عنده وسألته: هل أنا مؤمن أو لا؟ هل هو في الجزائر؟ والجواب: لا، تريد أن تعرف هل أنت مؤمن أو لا؟ إذا وجدت في نفسك حب الله وحب ما يحب الله، وهذا أولاً، وثانياً: إذا وجدت في نفسك الخوف من الله والخشية منه، فأنت والله مؤمن، فإن لم تجد في قلبك حب الله ولا حب من يحب الله، ولم تجد في قلبك خوفاً ولا خشية منه، فوالله ما أنت بمؤمن، وإنما هي دعوى باطلة لا قيمة لها، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
صفات المؤمنين الصادقين
إذاً: عرفتم المؤمن؟ هيا أعرض عليكم صورة أو شاشة بيضاء نقية من شاشات القرآن الكريم، إذ أنتم تعودتم على التلفاز والسينما، فإليكم هذه الشاشة أو الصورة الأولى، وانظر هل أنت فيها أم لا؟ إن وجدت نفسك معروضاً بينها وبين أفرادها فقل: الحمد لله، أنا مؤمن، وإن وجدت نفسك غائباً فابك واطرح وقل: علموني كيف نؤمن؟ فاسمعوا! ادعى المنافقون الإيمان في هذه المدينة، وتطاولوا وقالوا: نحن مؤمنون، فقال تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ))[الأنفال:2] وهذه الصيغة معروفة، أي: إنما المؤمنون بحق وصدق، لا بالادعاء والنطق.(( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]، كان منسوب الإيمان عنده مائة وخمسين، فإذا قرئت عليه آيات الله ارتفع منسوب الإيمان إلى المائتين وإلى الثلاثمائة، لكن إن بقي ولم يزد، إذاً ليس هناك إيمان، بل إنسان ميت يمشي على الأرض. (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]، متى نعرف هذا؟ (( وَعَلَى رَبِّهِمْ ))[الأنفال:2]، لا على سواه يعتمدون ويفوضون أمرهم، هل نفضح أنفسنا؟ أحدنا قد يتوكل على وظيفة امرأته، وهذا على وظيفة ابنته، وهذا على بيع السجائر، وهذا على عمله في البنك، وهذا على مكره وحيله وخداعه، إذاً فأين التوكل على الله؟ (( وَعَلَى رَبِّهِمْ ))[الأنفال:2]، لا على سواه، (( يَتَوَكَّلُونَ ))[الأنفال:2]، أي: يعتمدون ويفوضون أمرهم إلى الله، وليجوعوا وليعطشوا وليمرضوا وليهجَّروا من بلادهم، إذ كل ذلك غير مهم، وإنما المهم أنهم مع الله، (( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ))[الأنفال:2].(( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ))[الأنفال:3]، إقامة حقيقية من شأنها أن تولد لهم الطاقات النورانية، فهم بذلك لا يفحشون ولا يمكرون ولا ينكرون معروفاً ولا يتنكرون لجميل، (( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ))[العنكبوت:45]، أي: المقيمين لها، المؤدين لها على أحسن وجه وأكمله وأتمه حتى تولد لهم تلك الأنوار التي تغمرهم فتتجلى في أعينهم، فإذا مر بامرأة يغمض والله عينيه ولا ينظر إليها، وإذا سمع باطلاً أغلق أذنه بأصبعيه، وإذا قُدِّم له حراماً لا يحل له تركه وأعرض عنه، فيتجلى ذلك النور في لسانه، خمسون سنة لا ينطق بسوء ولا يتكلم أبداً بفاحشة أو منكر، فهذا هو المقيم للصلاة، (( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ))[العنكبوت:45].(( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ))[الأنفال:3]، أي: من ذاك الذي رزقناهم من جاه أو سلطان، من علم أو معرفة، من مال صامتاً كان أو ناطقاً ينفقون طول حياتهم.(( أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ))[الأنفال:4] هذا الخبر من أخبر به؟ الله.(( أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ))[الأنفال:4]، لا ادعاءً ونطقاً، ما الجزاء؟ (( لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ))[الأنفال:4] في دار السلام.معاشر المستمعين والمستمعات! فهل رأيتم أنفسكم في هذه الصورة أو هذه الشاشة؟أزيدكم لوحة أو صورة ثانية، إذ ما في القرآن إلا لوحتان أو شاشتان في هذا الباب، قال تعالى: (( وَالْمُؤْمِنُونَ ))[التوبة:71]، إذاً مقابل المنافقين من سورة التوبة القريبة النزول، والآية الأولى من الأنفال كجزء منها.(( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ ))[التوبة:71]، أي: بحق وصدق، لا بالادعاء والنطق. (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ))[التوبة:71]، هل هذه الصفة موجودة فينا؟ ماذا تقولون؟ الجنسية والوطنية والقبلية والحزبية والمذهبية، كل هذه مزقت هذا الولاء، لكن كان المفروض أن المؤمن في الهند كالمؤمن في الأندلس، والمؤمن في الصين كالمؤمن في أمريكا، فالمؤمن يجب أن تحبه وأن تنصره، فمن لم يحب المؤمنين ولم ينصرهم ما هو بمؤمن، ودعواه الإيمان دعوى باللسان؛ لأن الولاء هو الحب والنصرة، فمن يكره المؤمنين ويبغضهم والله ما هو بالمؤمن، ومن يخذل المسلمين ويهزمهم ويكون عليهم لا لهم والله ما هو بمؤمن.(( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ))[التوبة:71]، والولاء هنا فسروه بالحب والنصرة، فالأحزاب والجماعات والمذاهب بيننا متحابون متناصرون؟ لا والله، وإنما تجد الطعن والنقد والتبغيض لبعضهم البعض، فلا إله إلا الله! لا تلمهم يا شيخ! والله ما عرفوا، فهذه هي الحقيقة، إذاً فماذا نصنع؟ يكفينا البكاء فقط، لمَ ما نعرف؟ أقسم بالله لن نعود إلى كمالنا وقيادتنا وسيادتنا وطهرنا وصفائنا إلا إذا رجعنا إلى بيوت ربنا التي بنيناها في قرانا ومدننا، وجبالنا وسهولنا، فنرجع إليها كما كان الرسول وأصحابه، وذلك كل ليلة ما إن نصلي المغرب حتى نجتمع على كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنساء من وراء الستائر، والأطفال في الصفوف كالملائكة يرعون ويراقبون، والفحول أمثالكم أمام المربي المعلم، فليلة نأخذ آية من كتاب ربنا، وأخرى نأخذ حديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا الحال طول العمر، فوالله ليتغير حالنا إلى الأفضل.والعجيب أن اليهود والنصارى والكفار إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا العمل وذهبوا إلى الملاهي والمقاهي والمراقص والشر والباطل، والمؤمنون إلى أين يذهبون؟ دلوني بالله عليكم؟ إذاً كيف نتعلم نعرف وقد حرمنا أنفسنا من العلم والمعرفة؟ إذاً: عرفتم الآن أننا نصبح أولياء لبعضنا البعض حباً ونصرة إذا عرفنا وتعلمنا.(( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ))[التوبة:71]، فكل مواطن في القرية بوليس، وأعوذ بالله من كلمة: (بوليس)، أهي يهودية أم ماذا؟ لكن في ديننا آمر بمعروف وناه عن منكر، فأهل القرية كلهم، وأهل الحي كلهم، وأهل المدينة كلهم، آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر، وبالتالي فلا نحتاج إلى بوليس وشرطة، إذ كل مؤمن شرطي وبوليس، والمؤمن بحق هل يرضى بمنكر يشاهده في أخيه ويسكت عنه؟ والله ما كان ولن يكون، والمؤمن بحق يرى أخاه ترك معروفاً ليبعد عن رحمة الله، فهل يرض بهذا ويسكت عنه؟ والله ما يسكت.فانظر قوة الأمن عشرة آلاف رجلاً، وقوة الأمن الرباني كل البلاد بملايينها، (( يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ))[التوبة:71]، فهؤلاء هم المؤمنون.مرة أخرى: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ))، وهذه صفة أولى، (( يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ))، صفة ثانية، (( وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ))، صفة ثالثة، (( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ))، صفة رابعة، (( وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ))[التوبة:71]، ما الطريق يا شيخ؟ أن تعود الخلافة؟! هذه أحلام باطلة وكاذبة، والآن المستمعون يراجعون قلوبهم، هل هذا الكلام سرَّهم وأثلج صدورهم أم هم كما عهدنا أنفسنا من قرون؟ دعه يقول: هذا كلام فارغ، هذه دعوة إلى الرجعية! كيف نجتمع في البيوت؟ لم تجتمعون في المقاهي والأباطيل والترهات؟ كل ما نقوله: نريد أن نسكن السماء؟ إن سكنان السماء تتطلب اجتهاد في طاعة الله تعالى، إذ كيف نخترق السموات السبع إن لم نزك هذه النفوس ونطيبها ونطهرها، وذلك بالإيمان والعمل الصالح؟!وصلى الله على نبينا محمد.

ابوالوليد المسلم
06-05-2021, 04:20 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (66)
الحلقة (289)
تفسير سورة النساء (7)


لما تقتضيه المواريث من أهمية عظيمة في حفظ حقوق الأفراد المالية فقد تكفل الله عز وجل ببيان تفصيلها، ولم يترك ذلك لاجتهاد أحد، وقد بين سبحانه في هذه الآيات الكريمات صفة التوارث بين الآباء والأبناء، فذكر من الأحكام المتعلقة بها أن نصيب الذكر كنصيب الاثنتين من النساء، وأن ولد الولد حكمه كحكم الولد في الحجب، وأن الأب يأخذ فرضه ابتداء مع أصحاب الفرائض، وما زاد يأخذه بالتعصيب.
فضل حضور حلقات العلم
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأحد من يوم السبت ندرس كتاب الله عز وجل والليالي الثلاث بعدها؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).الحمد لله على إفضال الله، الحمد لله على إحسانه، الحمد لله على آلائه وإنعامه، فزتم بها، فهنيئاً لكم، ومن أراد أن ينظر فليقف وينظر الحلقة، هل فيها صخب؟! ضجيج؟ خصومات؟! التفاتات؟! لا شيء؛ لأن السكينة نزلت، والرحمة كذلك. انظر! هل ترى مظهراً من مظاهر العذاب؟ لا شيء.والملائكة تحفنا والله العظيم! لكن عجزنا البصري ما مكننا من النظر إليهم فقط؛ لأننا عاجزون، والقوة التي أعطاناها ربنا في أبصارنا محدودة الطاقة.وتبقى الرابعة، وهل الذي أعطى الثلاث يحرم الرابعة؟ الرابعة: أن يذكرنا الله في الملكوت الأعلى، حاشاه ألا يذكرنا، ومن ذكره الله أكرمه وأعزه وأسعده. الحمد لله! بم نحصل على هذه الفضائل؟ والله لا نقدر على تحصيلها بحال من الأحوال لو أنفقنا العمر كله!
فضل تعلم علم المواريث
معاشر المستمعين! تعرفون أن علم الفرائض يعتبر العلم الثالث، وإليكم ما ورد في هذه القضية.أولاً: هذه الآيات من سورة النساء انتهينا إليها، وهي الآية الأولى، ثلاث آيات فقط اشتملت على علم الفرائض.هذه الآية مبينة لما أجمل في آية: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ [النساء:7] من منكم يذكر ما قلناه في آية سبقت: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7]؟تذكرون سبب نزولها؟ أم كحة ماذا فعلت؟ أخو زوجها جاء يريد أن يأخذ المال، فرفعت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية، ففرض فيها للنساء نصيباً كما للرجال، أما العرب في الجاهلية فقالوا: المرأة لا تدفع مكروهاً ولا تحمل سيفاً، فأي شيء تأخذه من التركة؟ لا شيء، والطفل الصغير كذلك لا يدفع عن قبيلة ولا يأتي بخير، إذاً: فلما مات هذا الرجل وترك ابنتين ووالدتهما تسمى أم كحة ، جاء أخوه من أبيه ليأخذ المال كله، قالت: لا، بناته، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكي إليه أمرها؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7] فأثبتت إرث النساء والأولاد والرجال، هذه الآية مجملة، نحتاج إلى آية تبين هذه الأنصبة، هذا النصيب كم وما هو؟ فجاءت هذه الآيات الثلاث تبين هذا النصيب.فنريد أن ندرس دراسة عملية وهي: أن نحفظ الآية، والذي ما يحفظها الآن يحفظها في البيت، وغداً إن شاء الله يأتي وقد حفظها، بحمد الله إذا صدقنا في الطلب ما تنتهي هذه الليالي الأربع إلا وكلكم فرضي. وتسمى هذه الآية آية المواريث، وهي من أعظم الآيات قدراً؛ لأن علم الفرائض يعتبر ثلث العلم؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أبي داود وغيره قال: ( العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل ) أي: زائد. تعرفون الفضل أم لا؟ تتغدى ويبقى شيء من الطعام فهو فضل. [ ( العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل ) ما هي هذه الثلاثة؟ قال: ( آية محكمة ) أي: غير منسوخة؛ لأن القرآن فيه آيات منسوخة وهي معدودة ومعروفة عند أهل العلم؛ لقول الله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106].( أو سنة قائمة ) ما نقول فيها شيء، هذا يقبل وهذا يردها، بل قائمة والمسلمون في ظلها يعملون. والثالثة: ( فريضة عادلة ) ما هي فريضة الصلاة ولا الزكاة، فريضة عادلة وهي ما وهب الله وأعطى عباده من قسمة التركات. العلم ثلاثة: آية محكمة، وسنة قائمة ما هي منحرفة ولا مشكوك فيها، وفريضة عادلة، وقد تولى الله عز وجل بنفسه قسمة المال، ولا توجد قسمة مالية تولاها الله إلا الفرائض، فسبحان الله العظيم! فلهذا الذي يمنعها معناه: أعلن الحرب على الله، أو ادعى أن الله لا يعلم، أو ليس الله بأرحم أو ما هو بأعدل، فهذه قسمة قسمها الله عز وجل.
تفسير قول الله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم ...)
يقول الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، وهذه الآية مع طولها نجتهد أن نحفظها ونفهم معناها. ‏
معنى قوله تعالى: (للذكر مثل حظ الأنثيين ...)
يقول الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] فهما تأخذان كل واحدة منهما ألفاً وهو يأخذ ألفين. يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] هذه الخطوة الأولى إلى دار السلام.
معنى قوله تعالى: (فإن كن نساء فوق اثنتين ...)
ثانياً: قال: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النساء:11] ما في ولد ذكر فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النساء:11] فوق اثنتين، ثلاث أربع أو خمس أو عشر أو سبعين امرأة هذا شرط فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11] ترك ثلاثين ألف لهما عشرون، ترك ثلاثة لهما اثنان والواحد يبقى للورثة، عم وأخ وابن أخ، والورثة الذكور، العصبة. فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11] ثلث الثلاثة كم؟ واحد. وثلثاها كم؟ اثنان. وهكذا. فَإِنْ كُنَّ [النساء:11] أي: المتروكات اللاتي مات الوالد عنهن فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً [النساء:11] بنات ونساء على حد سواء فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النساء:11]؛ لأنها لو كانت واحدة فلها النصف، لكن إن كن اثنتين أو عشر فلهما الثلثان. ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11] ترك ثلاثين بقرة فلهن عشرون بقرة، وعشرة لأبناء الإخوة ولأصحاب الفريضة أو العصبة.قال: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً [النساء:11] ما ترك اثنتين ولا ثلاث، بل واحدة وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11] هلك هالك وترك ابنة وأبناء أخ مثلاً، فهذه البنت لها النصف، والنصف للعصبة. يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] بماذا؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] قاعدة عامة، فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11] ولو كان ملياراً. وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11] يا عامي! وكلنا عوام تشجع وأعد الكلمة وكررها، فإنك تفهمها وتحفظها، ما تقول: أنا ما أقرأ ولا أكتب! آلاف من الصحابة لا يقرءون ولا يكتبون وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11] ولأبويه. وهل للإنسان أبوان؟ أم وأب، من باب التغليب تقول: القمران، أي: الشمس والقمر، والعمران أي: أبو بكر وعمر من باب التغليب.
معنى قوله تعالى: (ولأبويه لكل واحد منهما السدس ...)
قال تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ [النساء:11] أبوي الهالك الميت لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11] الهالك الأول ماذا فعل؟ هذا ترك ذكوراً وإناثاً وأعطاهم الله للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن ترك نساء فقط فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فالنصف، ولأبويه -الآن أمه وأباه- السدس مما ترك إن كان له ولد، هلك الهالك وترك أولاداً، وترك أمه وأباه، الأولاد يرثون الذكر مثل حظ الأنثيين، وأمه وأباه يعطيان لكل واحد منهما السدس، الأب له السدس، والأم لها السدس. لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11] أم لا؟ هو الهالك من أول آية واحد، الميت واحد أم لا؟ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] مات الرجل وترك أولاداً بنين وبنات، كيف القسمة؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً [النساء:11] ما في أولاد؟ فلهن الثلثان مما ترك، وإن كانت بنتاً فقط فلها النصف، ولأبويه إن كان له ولد لكل واحد السدس، إذاً: مشينا إلى العلم ووصلنا. وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11] والثلثان للأب. مات زيد وما ترك ولداً ولا بنتاً، ولكن ترك أمه وأباه، كيف يقتسمون التركة؟ للأم الثلث، والأب الباقي وهو ثلثان.إذاً: يقول تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11] ذكر، أنثى، كبير، صغير، لا تلتفت إلى هذا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ [النساء:11] ماذا؟ الثُّلُثُ [النساء:11] والثلثان الباقيان للأب. فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11] فهذا الولد الذي ورثه أبواه إن فرضنا له إخوة فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] . كانت تأخذ الثلث والزوج الثلثان، ولما ترك الهالك هذا ولداً أو أولاداً فإنها تأخذ السدس فقط. فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11] إخوة عدد فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ [النساء:11] كذا. ولماذا؟ قالوا: لأن الأم لا تنفق على إخوة الميت؟ ومن ينفق عليهم؟ والدهم.إذاً: فالوالد الآن أولى بهذا الثلث، فالأم تأخذ السدس فقط والباقي يأخذه الأب، لم؟ لأن الأم لا تنفق على إخوة من مات، الذي مات ترك أمه وأباه وترك إخوة له أم لا؟ من ينفق على هؤلاء الإخوة؟ الأب لا الأم؛ فلهذا العادل الرحيم قال: خذي السدس للبركة فقط، وأما الزوج الأب فإنه يأخذ الباقي.قيل: سر حجب الإخوة لأمهم من الثلث إلى السدس هو: أن والدهم هو الذي يلي نكاحهم، من يزوجهم؟ وينفق على زواجهم؟ الأب، هو الذي ينفق عليهم دون أمهم، وهو رأي حسن، قالوا: ما السر؟ الله حكم، إن أحببنا أن نعرف السر ما هو، لماذا كانت الأم تأخذ الثلث؟ والآن لوجود الإخوة واحد أو أكثر أخذت السدس؟ فما سر هذه القضية؟ الجواب: الأب هو الذي ينفق على أولئك الأولاد، وإذا كبروا هو الذي يزوجهم، والأم لا تفعل شيئاً، إذاً: تحمد الله وتأخذ السدس.

يتبع

ابوالوليد المسلم
06-05-2021, 04:21 AM
معنى قوله تعالى: (من بعد وصية يوصي بها أو دين ...)
قال تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11].هذا تعقيب: فلا تقسم التركة على النحو الذي عرفنا إلا من بعد إخراج الوصية، إذا الهالك أوصى بوصية، عليه دين فلا تقسم التركة حتى يسدد الدين. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11] ملاحظة قيمة هذه أم لا؟ مات فلان اتركوا المال، ابحثوا. هل وصى لشيء؟ قالوا: وصى لفلان بعشرة نوق، أعطوا العشر النوق والباقي يقسم، أوصى بمليون ريال للمسجد أو لفلان، أولاً: يخرج الوصية والباقي يقسم.إذا لم يكن هناك وصية لكن يوجد دين: لفلان ألف، ولفلان عشرة ألف، ولفلان خمسون. قبل قسمة التركة يجب أن تسدد الديون.هل طبق المسلمون هذا؟ الحمد لله، هذا مطبق، ما استطاعوا يجابهون الله في هذه. كيف؟ معناها: كفروا. اسمع. مِنْ بَعْدِ [النساء:11] أي: ذلك الذي بينه تعالى بعد التقسيم من بعد وصية يوصى بها أو دين.
معنى قوله تعالى: (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً)
وأخيراً: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11] ختم عجيب هذا! لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا [النساء:11] إذاً: فارض بقسمة الله، وأعط من أعطى الله، وامنع من منعه، آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا [النساء:11] كم من إنسان يظن فلاناً أكبر نفعاً منه، ويصبح عدوه ويؤذيه. فَرِيضَةً [النساء:11] من فرضها؟ من قدرها؟ من قننها؟ الله، إِنَّ اللَّهَ [النساء:11] كان وما زال عَلِيمًا [النساء:11] بخلقه وحاجاتهم وشئونهم، حَكِيمًا [النساء:11] في تصرفاته وإعطائه ومنعه، فما على المؤمنين إلا أن يطأطئوا رءوسهم.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
قال الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] واضح هذا عندكم أم لا؟ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:11] وهل للإنسان أبوان؟ أبوان أي: أم وأب، أب وأم. وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:11] لأن الهالك ترك أولاداً.قال: إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11] أما إذا الهالك ما له ولد فتبقى القضية كما هي، الأم لها الثلث، والأب له الثلثان. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11] والباقي ثلثان للأب. فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] فقط مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11]. يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النساء:11] فوق اثنتين ثلاثة أم لا؟ أربعة خمسة إلى التسعين إلى ما لا حد له، فوق الاثنتين يعني: اثنتين فما فوق. فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النساء:11] يعني: اثنتان وفوقهما، لو قال تعالى: فإن كن نساء فوق واحدة هذه العبارة ما هي لائقة وما هي سامية، بربرية هذه! لكن فوق اثنتين، اثنتان ثلاثة أربعة خمسة إلى ما حد له فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ [النساء:11] ماذا؟ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] حجبت مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11]. أي: فرض الله هذا فريضة.
مناقشة في بعض مسائل المواريث
أسألكم، والله يفتح عليّ وعليكم:إن مات رجل من رجال المؤمنين؛ لأن الكافر لا يرث ولا يورث، (الكافر لا يرث ولا يورث)، هذا حديث في الصحيح، إجماع الأمة: الكافر لا حظ له في التركة، وإن مات المؤمنون لا يرثونه.مات رجل من المؤمنين، وترك أولاداً بنين وبنات، -الأولاد: بنين، وبنات- كيف نقسم التركة عليهم؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، بلا خوف ولا وجل، للابن حظ اثنتين أو بنتين.هلك رجل آخر وترك بنات فقط، متزوجات أو صغيرات، نساء فوق اثنتين، كيف تقسمون؟لهما الثلثان، والباقي للعصبة، ما هي اللفظ القرآنية التي قالت هذا؟ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11]، وإن كان ما ترك إلا بنتاً واحدة، فلها كما دلت الآية على هذا وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11]، خطوة عظيمة هذه.هذا الهالك الأول ترك أولاداً بنين أو بنات، الثاني: ترك نساء فقط، الثالث: ترك بنتاً واحدة، أعطيناها النصف، وهذا الرابع، خلف أيضاً أبويه مع الأبناء.لكل من الأبوين السدس والباقي للأولاد بنين أو بنات: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، كلمة السدس، تعني ماذا؟ واحد من ستة.ما هي الآية التي قالت هذا؟ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11]، فإن لم يكن له ولد وورثه أمه وأبوه فقط؛ فالأم لها الثلث والأب له الثلثان؛ لقول الله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11]، وستأتي قضية أخرى فيها الثلث الباقي، ما تستطيع تأخذ ثلث على الحقيقة للازدحام.هلكت هالكة وتركت زوجها وأمها وأباها، الزوج له النصف كما سيأتي، والنصف الباقي كيف يقسمه الأم والأب؟الأم لها الثلث والأب له الثلثان.وهنا: النصف أخذه الزوج، النصف الباقي يقسم على ثلاثة، الأم تأخذ ثلث الباقي، والأب يأخذ ثلثين.أي نعم، هذا يسمى الثلث الباقي.أولاً: يأخذ الأب ثلثين، والباقي ثلث تأخذه الأم، والحقيقة هذا نصف التركة، نصف التركة بكاملها قسمناها على ثلاثة، فالظاهر أخذت ثلث، والحقيقة ما هو ثلث من التركة، الثلث الباقي.فإن كان هذا الهالك له إخوة؛ هلك هالك وترك أمه وأباه وإخوته، كيف تقتسمون التركة؟ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] سواء ترك ولد أو أكثر لِم؟ يحجبها ابنها، يمنعها من الثلث؟ يطلع بها إلى السدس؟ إي نعم؛ لأن الوالد يتحمل نفقة الأولاد، وهي لا تتحمل شيئاً.إذاً: يكفيها السدس، ومن الذي قسم هذه القسمة العادلة؟ الله، الآية الكريمة تقول: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، كيف نفعل بالوصية والدين، نقدم أو نؤخر؟نقدم الدين؛ لأن الوصية لله والله بر رحيم، وقد يكون صاحبها ميت أو مسجد، وصاحب الدين يبدأ يدعو على الميت بالهلاك والعذاب، وإن قدمت الوصية في الآية؛ لعلم الله تعالى بأن أصحاب الديون ما يسكتون أبداً لا يضعون، طبعهم على هذا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
يقول المؤلف غفر الله له: [ معنى الآية الكريمة:هذه الآية الكريمة وهي الحادية عشرة من سورة النساء، وهي: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ .. [النساء:11] إلى آخر الآية.والتي بعدها الثانية عشرة، وهي قوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12].. إلى آخرها، نزلت في تفصيل حكم الآية السابعة، والتي تضمنت شرعية التوارث بين الأقارب المسلمين ]، هذا عرفناه من قبل.قال: [ فالآية الأولى وهي الحادية عشرة، بين تعالى فيها توارث الأبناء مع الآباء، فقال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، أي: في شأن أولادكم. لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، يريد إذا مات الرجل وترك أولاداً ذكوراً وإناثاً، فإن التركة تقسم على أساس أن للذكر مثل نصيب الأنثيين، فلو ترك ولداً وبنتاً وثلاثة دنانير، فإن الولد يأخذ دينارين والبنت تأخذ ديناراً، وإن ترك بنات اثنتين أو أكثر، ولم يترك معهن ذكراً -أي: ولداً- فإن للبنتين فأكثر الثلثين والباقي للعصبة، إذ قال تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11]، وإن كانت بنتاً واحدة، فإن لها النصف والباقي للعصبة، وهو معنى قوله تعالى: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11]، وإن كان الميت قد ترك أبويه -أي: أمه وأباه- وترك أولاداً ذكوراً أو إناثاً، فإن لكل واحد من أبويه السدس، والباقي للأولاد -أولاد الميت- وهو معنى قوله تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11] -فأكثر- يريد ذكراً كان أو أنثى، فإن لم يكن للهالك ولد ولا ولد ولد ].هذه جديدة: ولد الولد ينزل منزلة الولد في الحكم فيما يأخذ وفيما يمنع ويحجب، ابن الابن: إذا مات الابن وترك ولده، هذا الولد يقوم مقام أباه في الحجب وفي العطاء.قال: [ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11]، يريد ذكراً كان أو أنثى، فإن لم يكن للهالك ولد ولا ولد ولد، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11]، وإن كان له إخوة اثنان فأكثر: فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] . هذا معنى قوله تعالى: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] أي: تسقط من الثلث إلى السدس، وهذا يسمى بالحجب، فحجبها إخوة ابنها الميت من الثلث إلى السدس.وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، يريد أن قسمة التركة على النحو الذي بين تعالى بعد قضاء دين الميت وإخراج ما أوصى به، إن كان الثلث فأقل ]، الوصية بأكثر من الثلث لا تصح، أبداً.[ الثلث فأقل، وهو معنى قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11].وقوله تعالى: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا [النساء:11] معناه: نفذوا هذه الوصية المفروضة كما علمكم الله، ولا تحاولوا أن تفضلوا أحداً على أحد، فإن هؤلاء الوارثين آباؤكم وأبناؤكم، ولا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً في الدنيا والآخرة، ولذا فاقسموا التركة كما علمكم بلا محاباة، فإن الله تعالى هو القاسم والمعطي، عليم بخلقه، وبما ينفعهم أو يضرهم، حكيم في تدبيره لشئونهم، فليفوض الأمر إليه، وليرض بقسمته فإنها قسمة عليم حكيم ].معشر المستمعين والمستمعات! اسألوا الله أن يشرح صدوركم وينور قلوبكم!
هداية الآيات
قال: [ هداية الآية الكريمة: أولاً: إن الله تعالى تولى قسمة التركات بنفسه فلا يحل لأحد أن يغير منها شيئاً.ثانياً: الاثنتان يعتبران جمعاً ] الاثنين يعتبر جمع كما تقدم.[ ثالثاً: ولد الولد حكمه حكم الولد نفسه في الحجب.رابعاً: الأب عاصب فقد يأخذ فرضه مع أصحاب الفرائض، وما بقي يرثه بالتعصيب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ) ].أتعبناكم الليلة، وغداً إن شاء الله نحاول مرة ثانية.وصلى الله على نبينا محمد.

ابوالوليد المسلم
06-05-2021, 04:22 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (67)
الحلقة (290)
تفسير سورة النساء (70)


تفاخر قوم من اليهود ونفر من الصحابة كل يقول إن دينه هو الدين الحق، فأنزل الله هذه الآيات مبيناً أن الحق لا يكون بالتمنيات والادعاء فقط، ولكن لابد أن يصدق ذلك العمل، فمن عمل الأعمال الصالحة من التوحيد الصادق والطاعات جزي به في الدنيا، ومن عمل الأعمال الطالحة جزي بها أيضاً، وكانت ولاية الله متحققة لأهل الصلاح، محجوبة عن أهل الفساد، لأن سنة الله في تأثير العمل والكسب على مصير الإنسان لا تتبدل ولا تتخلف.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا فإنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن ما زلنا مع سورة النساء المباركة الميمونة المدنية، ومع هذه الآيات الأربع، فأعيد تلاوتها وتأملوا واذكروا ما علمتموه البارحة منها، فقال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:123-124]، والنقير الذي لا يظلمه المؤمن العامل للصالحات هو أصغر شيء، والنقرة في ظهر النواة تسمى النقير، فنواة التمر فيها نقرة في وسطها، فمثل تلك النقرة لا يظلمها العبد المؤمن العامل الصالحات. وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:125-126]، فالله محيط بكل شيء، قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، فكل شيء الله محيط به، فالسموات مطوية طي الصحيفة في يده، والأرض في قبضته، وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20]، فليخافوه وليرهبوه، لكنهم ما استطاعوا؛ لأن العدو كبّلهم وقيدهم، فلم يستطع أن يَرهب المؤمن ربه ويخافه فيعبده ويستقيم على عبادته إلا من نجاه الله من العدو، ألا وهو إبليس عليه لعائن الله، وقد سمعنا البيان السابق منه الذي واجه به الرب تبارك وتعالى، فماذا قال لتعرفوا الحقيقة؟ قال تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ [النساء:117-118]، أي: الشيطان، لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:118-119]، فلا تظنوا أنكم أحرار في هذه الدنيا، بل إن هناك عدواً قد أخرج أباكم وأمكم من دار السلام، وها أنتم تعيشون لاجئين على هذه الأرض، وداركم الحقيقية والله ما هي هذه، وإنما هي دار السلام في الآخرة.
الجزاء على العمل سنة من سنن الله التي لا تتبدل
نعود إلى الآيات بإيجاز، ثم ندرسها دراسة أخرى في التفسير، فأولاً: تذكرون أن مباهاة ومفاخرة تمت بين المسلمين واليهود في المدينة، فادعى اليهود أن دينهم هو الحق، وأنهم على الحق، وأن كتابهم أول كتاب وأعظم كتاب، ونبيهم قبل نبينا، وقال المسلمون مثل ذلك، وورد أن بعض النصارى ولعلهم من نجران قالوا مثل ذلك، فأنزل الله قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، إذاً: كيف يا رب؟ قال: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، سواء كان أبيض أو أصفر، عربياً أو عجمياً، يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً، وهذه سنة الله عز وجل، فاشرب السم وانظر هل تموت أم لا؟ وأدخل الإبرة في جسمك وانظر هل تتألم أو لا؟ وقل كلمة سوء في أحد واسمع كيف يردها سباً وشتماً؟ وهذا في الدنيا، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، سواء كان من المسلمين أو من اليهود أو من النصارى، وهو حد فيصل، فما بقيت أمانٍ ولا أحلام ولا تمنيات، وهذا قضاء الله وحكمه، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا [النساء:123] يتولاه وَلا نَصِيرًا [النساء:123] ينصره أبداً.
ما عند الله لا ينال بالتمني ولكن بالإيمان والعمل الصالح
ثم قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ [النساء:124]، والصالحات هي الأعمال والأقوال والاعتقادات التي وضعها الله لتحمل مادة الطهر والصفاء إلى الروح البشرية، فالذي أوجد مادة الغذاء في التمر واللبن والفواكه والخضار وحرم ذلك في التراب والحجارة والصخور، فتأكل التمر فتتغذى، لكن إن أكلت الرمل والتراب لا تتغذى، إذاً: فما من عقيدة قال الله: آمنوا بها واعتقدوها، ولا قولاً أمر الله بقوله أو استحبه، ولا فعلاً أمر الله به إلا وهو والله من الصالحات، والعكس: ما حرم الله ولا منع اعتقاداً ولا قولاً ولا عملاً إلا وهو سيئ يسيء إلى النفس ويفسدها ويخبثها حتى تصبح كأرواح الشياطين، وهذا قضاء الله تعالى.وقد عرفتم الحكم الصادر علينا من قبل ذي الجلال والإكرام، وأنه لا معقب لحكمه، أي: ما فيه محكمة عليا تستأنف القضايا، إذ قال بنفسه من سورة الرعد: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، فما هو هذا الحكم؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فكن ابن من شئت، وكن أباً لمن شئت، ويا مؤمنة كوني امرأة من شئتِ، إذا لم تزك نفسك والله ما نفعكِ ذاك الانتساب إلى أب صالح، أو ولي من الأولياء، أو نبي من الأنبياء، أو زوج من الصالحين، والذي يشك في هذا ما عرف الإسلام بعد. قَدْ أَفْلَحَ [الشمس:9] من؟ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، من هي التي نزكيها؟ النفس البشرية، وَقَدْ خَابَ [الشمس:9] وخسر من؟ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10].فهل عرفتم بم تزكى النفس البشرية؟ أو ما هي المواد التي تزكي النفس البشرية؟ والجواب: بالإيمان والعمل الصالح، إذاً فمن يعلمنا؟ من يعرفنا كيف نستعمل الصالحات في تزكية أنفسنا؟ والجواب: اطلب تجد، زاحم العلماء بركبتيك وتعلم، أو تريد أن تقول: أنا مسلم وتصبح عالماً، كيف تعبد الله؟ مستحيل، إذ لا يوحى إليك وما أنت بنبي، بل لا بد وأن تعرف كيف تستعمل الصالحات حتى تزكي بها نفسك، ويجب أن تعرف أيضاً المفسدات للنفس وتبتعد عنها وترحل من ساحتها، وتهجر حتى ديارها، وذلك إن كنت تريد أن تنزل دار السلام، أما إن كنت تريد أن تهبط إلى أسفل سافلين فما أكثر الهابطين. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، وبالأمس عرفتم أن النصراني قد يبني المشافي، ويوزع الأدوية والأكسية والأطعمة في الشرق والغرب، لكن والله لا يجد حسنة واحدة يوم القيامة؛ لأنه كافر غير مؤمن. وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، أما من كفر بالله وبرسوله ولقائه، فكيف تقبل أعماله الصالحة؟! فَأُوْلَئِكَ [النساء:124] السامون الأعلون يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124]، أي من حسناتهم وأعمالهم، فإياك أن تفهم أنك تظلم حسنة واحدة، بل معشار حسنة، إذ حسناتك مدونة ومسجلة، فاعمل ما شئت طول حياتك وثق بأنك لا تبخس ولا تنقص من حسناتك شيئاً، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124].
فضل الإسلام على سائر الأديان
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا [النساء:125]، لما عرفنا بطلان دعوى اليهود والنصارى وحتى دعوى المسلمين باللسان، جاء البيان الحق ليقرر ألا دين إلا الإسلام؛ إذ هو دين الأنبياء إبراهيم فمن دونه، ونوح فمن دونه إلى خاتم النبيين، فلا نصرانية ولا بوذية ولا مجوسية ولا يهودية، وإنما الإسلام فقط، فما الإسلام إذاً؟ الإسلام أن تسلم قلبك ووجهك لله تعالى، فتقول: يا رب! أنت الذي وهبتني قلبي ووجهي فخذهما؛ لأن (أسلم) فعل ماض مضارعه (يسلم)، يقال: أسلمت الدار الفلانية لفلان، بمعنى: سلمتها إليه، ويقال: أسلم الشيء، أي: أعطاه.إذاً يقول الجبار تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ [النساء:125]، لا وجود له، مِمَّنْ [النساء:125] أي: من عبد أبيض أو أسود، أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، والحال وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [النساء:125] أيضاً، حَنِيفًا [النساء:125]، فهذه ثلاثة قيود، فهل تريد أن تعرف من أحسن ديناً من الناس؟ من يرغب في أن يعرف من أحسن دين في البشرية؟ فالجواب: أن تقول: أحسن ديناً في الناس من أسلم وجهه لله، وذلك بأن لا ينظر إلا إلى الله، فقلبه ووجهه مقبل على ربه، بل كل حياته موقوفة على الله تعالى، فليأكلن من أجل الله، وليشربن من أجل الله، وليبني المنزل ويهدمه من أجل الله، ولينام ويستيقظ من أجل الله، وليتزوج ويلد من أجل الله، فكل شيء أعطاه لله، فهذا هو المسلم الحق.وإن قلت: يا شيخ! كيف هذا؟ يأكل من أجل الله؟! إي نعم، لما يوضع الأكل بين يديه يقول: باسم الله، ولولا أنه أذن له فيه ما أكله، كما أنك ناوٍ أن يأكل ليتقوى بالأكل أو لتستمر حياته على طاعة الله وعبادته، وكذلك لما يحرث ويرمي البذرة من أجل أن يوفر قوتاً له ليعبد الله عز وجل، ويبني هذا المنزل ليستر فيه نفسه وأسرته، وذلك حتى لا يؤذي المؤمنين ولا يؤذونه، ويطلق امرأته لله؛ لأنها مظلومة ما سعدت معه، بل تأذت وما أطاقت المكث معه، فهذه أمة الله طلقتها لأجل الله.فحياة المؤمن الحق كلها موقوفة على الله تعالى، وذلك إن أراد أن يكون أحسن الخليقة ديناً، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، والحال وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، أي: في أداء تلك العبادات، حتى لو كانت ذكراً لله فيجب أن تحسن هذا الذكر فضلاً عن الأعمال التي هي بالأركان والجوارح؛ لأنك إذا أسأت في العبادة ما أنتجت لك النور ولا التزكية المطلوبة، فإذا قام وتوضأ فغسل رجله اليمنى ثم مسح رأسه ثم تمضمض، فماذا يقول له الفقيه؟ أعد وضوءك؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فلا بد من إحسان العمل والقول، فتأتي تذكر الله فتقول: الله، لا إله! الله، لا إله! لا ينفع هذا، بل قل: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، كذلك تقول: الله، سبحان! ما تنفع، بل قل: سبحان الله، ولذلك الذي لا يحسن صلاته ولا صيامه ولا جهاده ولا صدقاته ولا أذكاره، فإنه يعمل بلا ثمرة ولا نتيجة، وقد علمنا في البارحة كلمة الرسول الباقية الخالدة: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، أي: من عمل عملاً ما أمرنا به، ما أذنا فيه، ما شرعناه، فهو مردود على صاحبه، ولا يقبله الله ولا يثيب عليه ولا يجزي به.

يتبع

ابوالوليد المسلم
06-05-2021, 04:22 AM
التسليم لله وإحسان العمل هو سبيل الوصول إلى الله
إذاً: أسكتَ الله كل من ادعى أنه على الدين الحق، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النساء:125]، أي: ووحد الله في عباداته كلها، عقائد وأقوالاً وأفعالاً؛ لأن ملة ودين إبراهيم قام على أساس ألا يُعبد إلا الله، فهو مال عن كل العبادات، وأعرض عن كل الآلهة والباطل إلى الحق فقط.واستعرضوا مواقف إبراهيم في القرآن، قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وهذا رد على اليهود والنصارى لما ادعوا أنهم على ملة إبراهيم، وأن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، إذ أين اليهودية والنصرانية؟ بينهم وبين إبراهيم أكثر من ألفين سنة، لكن أكبتهم الله وأخزاهم بقوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا [آل عمران:67]، إذ ما كانت اليهودية إلا على عهد موسى، فكيف كان إبراهيم يهودياً أو نصرانيا؟ فهذه ردود الله تعالى على دعاوى اليهود والنصارى.والشاهد عندنا هو قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:26-28].فإبراهيم كان حنيفاً مسلماً ووالله ما كان من المشركين، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، فأولاً وقف حياته على الله عز وجل، فلا يتزوج إلا لله، ولا يطلق إلا لله، ولا يطلب وظيفة إلا لهه، ولا يترك وظيفة إلا لله تعالى.واقرءوا لذلك قول الله عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، وهذه الآية قد سميناها آية الوقفية، إذ إن حياة المؤمن وقف على الله تعالى، وكما قدمنا ازرع واحصد من أجل الله، وابن واهدم من أجل الله؛ إذ حياتك كلها لله، وهكذا أمر الله رسوله أن يعلنها ليتبعه أتباعه والمؤمنون به، إِنَّ صَلاتِي [الأنعام:162]، ويدخل فيها كل العبادات، وَنُسُكِي [الأنعام:162] كذلك، وإن كان المراد به الذبح لله، فكل العبادات نسك؛ لأنها تطهر النفس وتزكيها، وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي [الأنعام:162]، هل بقي شيء؟ لا، لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].قال: وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، أتدرون ما الإحسان؟ هل الإحسان يعني التصدق على الفقراء والمساكين؟ اليهود والنصارى يتصدقون! إذاً ما هو الإحسان؟ الإحسان فسره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل: ما الإحسان يا رسول الله؟ فقال: ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه )، فإن عجزت ولم تكن تراه فلتعلم أنه يراك، فهاتان مرتبتان، الأولى عليا والثانية دنيا، فإن عجزت عن الأولى فلا تفوتك الثانية، فإذا توضأت وكأنك تنظر إلى الله لينظر إلى وضوئك كيف يتم، ولما تكبر وتدخل في الصلاة صل كأنك تنظر إلى الله وأنت تصلي أمامه، فلا تستطيع أن تلتفت بعينك وأنت مع الله، ومن ثم تحسن أداء العبادة، ولا تغشها ولا تدخل فيها ما ليس منها، والذي يدخل العبادة وليس من هذا النوع فلن يستفيد شيئاً.( أن تعبد الله كأنك تراه )، لما يختبرك المعلم كيف يكون حالك ساعة الاختبار؟ تجتهد في أن تؤدي ذلك العمل على ما يحب هذا المختبر، وذلك خشية أن تخيب وتخسر، ولذلك لو عرفنا هذا وكنا من أهله ما نزلنا من علياء السماء إلى هذه الأرض.قال: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النساء:125]، أي: مائلة عن كل ألوان الباطل وصنوف الشرك والضلال إلى الحق المبين وهو عبادة الله وحده، وأخيراً: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، وما دام الله قد جعله خليلاً له إذاً فملته من أكمل الملل وأعظمها؛ لأن الله اتخذ صاحب هذه الملة خليلاً له.
إخبار الله سبحانه عن سعة ملكه وعلمه وقدرته
ثم قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:126]، لا تفهموا أن الله محتاج إلى إبراهيم، فلهذا صاحبه وأحبه واتخذه خليلاً! والخليل من تخلل حبه قلب المحبوب، فإبراهيم تخلل حبه قلبه، والدليل على أن الله ما اتخذ إبراهيم خليلاً لحاجته إليه وافتقاره إليه: أن له ما في السموات وما في الأرض، والذي يملك ما في السموات والأرض يزاحمك على غرفة أو على سيارة؟! وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:126]، احتراس من أن يقال: إذاً الله في حاجة إلى إبراهيم، فقد اتخذه خليلاً له ليعينه أو يساعده، فهذا الكلام باطل؛ لأن الله ليس بعاجز وليس بمحتاج أو فقير، بدليل أن له ما في السموات وما في الأرض، وهو بكل شيء محيط؛ لعظم ذاته وقدرته.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
والآن بعدما درسنا هذه الآيات فهيا نسمعها من التفسير؛ ليتأكد علمنا الذي علمناه بإذن الله تعالى.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ روي أن هذه الآية: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123] نزلت لما تلاحى مسلم ويهودي وتفاخرا ] والملاحاة: كلمة من هذا وكلمة من هذا، قال: [ فزعم اليهودي أن نبيهم وكتابهم ودينهم وجد قبل كتاب ونبي المسلمين ودينهم فهم أفضل، ورد عليه المسلم بما هو الحق، فحكم الله تعالى بينهما ]، أي: اختصما فحكم الله بينهما، [ بقوله: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، أيها المسلمون، وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ]، وإنما مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123].قال: [ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123] من يهود ونصارى، أي: ليس الأمر والشأن بالأماني العذاب، وإنما الأمر والشأن في هذه القضية ] هو [ أنه سنة الله تعالى في تأثير الكسب الإرادي على النفس بالتزكية أو التدسية، فمن عمل سوءاً من الشرك والمعاصي، كمن عمل صالحاً من التوحيد والطاعات يجز بحسبه، فالسوء يخبث النفس فيحرمها من مجاورة الأبرار، والتوحيد والعمل الصالح يزكيها فيؤهلها لمجاورة الأبرار ويبعدها عن مجاورة الفجار ]. مرة أخرى، قال: [ وإنما الأمر والشأن في هذه القضية أنه سنة الله تعالى في تأثير الكسب الإرادي ]، ما معنى الكسب الإرادي؟ أن تعمل العمل وأنت واع لست بسكران ولا مجنون ولا نائم، أما الخطأ والنسيان والنوم والجنون فلا يؤاخذ به الإنسان إن عمل عملاً، فالكسب الإرادي هو الذي يسلب إرادتك.قال: [ في تأثير الكسب الإرادي على النفس ] بماذا؟ [ بالتزكية أو التدسية ] فإذا كانت الكلمة طيبة أنتجت حسنة، وإن كانت الكلمة خبيثة أنتجت سيئة، وكذلك كل حركة يعملها الإنسان.قال: [ فمن عمل سوءاً من الشرك والمعاصي، كمن عمل صالحاً من التوحيد والطاعات يجز بحسبه ] أي: بحسب عمله، [ فالسوء يخبث النفس فيحرمها من مجاورة الأبرار ] في الدار الآخرة، [ والتوحيد والعمل الصالح يزكيها فيؤهلها ] ويعدها [ لمجاورة الأبرار، ويبعدها ] في نفس الوقت [ عن مجاورة الفجار ] والكفار.قال: [ وقوله تعالى: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]؛ لأن سنن الله كأحكامه لا يقدر أحد على تغييرها أو تبديلها، بل تمضي كما هي، فلا ينفع صاحب السوء أحد، ولا يضر صاحب الحسنات أحد. فقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124]، فإنه تقرير لسنته تعالى في تأثير الكسب ]، أي: العمل [ على النفس والجزاء بحسب حال النفس زكاة وطهراً وتدسية وخبثاً، فإنه من يعمل الصالحات وهو مؤمن تطهر نفسه ذكراً كان أو أنثى، ويتأهل بذلك لدخول الجنة، ولا يظلم مقدار نقير فضلاً عما هو أكثر وأكبر. وقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، إشادة منه تعالى وتفضيل للدين الإسلامي على سائر الأديان؛ إذ هو قائم على أساس إسلام الوجه لله، وكل الجوارح تابعة له تدور في فلك طاعة الله تعالى مع الإحسان الكامل، وهو إتقان العبادة وأداؤها على نحو ما شرعها الله تعالى، واتباع ملة إبراهيم بعبادة الله تعالى وحده والكفر بما سواه من سائر الآلهة.وقوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، فيه زيادة تقرير فضل الإسلام الذي هو دين إبراهيم الذي اتخذه ربه خليلاً.وقوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:126]، زيادة على أنه إخبار بسعة ملك الله تعالى وسعة علمه وقدرته وفضله؛ فإنه رفعٌ لما قد يتوهم من خلة إبراهيم أن الله تعالى مفتقر إلى إبراهيم أو أنه في حاجة إليه، فأخبر تعالى أن له ما في السموات والأرض خلقاً وملكاً، وإبراهيم في جملة ذلك، فكيف يفتقر إليه أو يحتاج إلى مثله وهو رب كل شيء ومليكه؟! ].
لطيفة
لطيفة: فاز إبراهيم عليه السلام بالخلة، فهل هناك خليل للرحمن سوى إبراهيم؟ نعم وهو رسولنا صلى الله عليه وسلم. قال: [ وقد شرُف بالخلة محمد صلى الله عليه وسلم ]، والخلة هي الحب الذي يتخلل القلب ويسري في كل أجزائه.قال: [ وقد شرف بالخلة محمد صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين ] أي: البخاري ومسلم، [ أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم آخر خطبة ] أي: خطب المؤمنين آخر خطبة في حياته، [ فقال: ( أما بعد: أيها الناس! فلو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله ) ]. أتعرفون أبا بكر ؟ ملايين من إخوانكم المسلمين يكفرونه ويبغضونه ويلعنونه، ويتقربون بذلك إلى الله! فأي عمى أكثر من هذا العمى؟! وأي موتٍ أعظم من هذا الموت؟! ولا يسألون ولا يفكرون بعقولهم، إذ إن أبا بكر هو صاحب رسول الله في الغار، والشاهد عندنا هو الجهل الذي غطى هذه الأمة وعماها وأضلها.
هداية الآيات
والآن مع هداية هذه الآيات الأربع، قال المؤلف: [ من هداية الآيات: أولاً: ما عند الله لا ينال بالتمني ولكن بالإيمان والعمل الصالح أو التقوى والصبر والإحسان ]، وأخذنا هذا من قول الله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]. قال: [ من هداية الآيات: أولاً: ما عند الله ]، أي: من النصر والفوز، ومن النعيم المقيم في الجنة، [ لا ينال بالتمني، ولكن بالإيمان والعمل الصالح ]، وإن شئت فقل: [ أو التقوى والصبر والإحسان]، وأخذناها هذا من قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، بل مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]. قال: [ ثانياً: الجزاء أثر طبيعي للعمل ]، فلو تأخذ إبرة وتغرزها في لحمك فإنك تتأذى، ولو تشرب سماً فإنك تهلك، ولو تقوم الآن وتسب أحد الإخوان فإنه سيرد عليك، إذاً فالجزاء أثر طبيعي لا يتخلف أبداً، [ وهو معنى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء:123-124].ثالثاً: فضل الإسلام على سائر الأديان ]، وأخذنا هذا من قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، فمن يسلم وجهه لله سوى المسلم؟ المسلم الذي يعطي قلبه ووجهه لله، وكل حياته وقف على الله عز وجل حتى يموت، وفي نفس الوقت هو موحد لا يلتفت إلى غير الله، ولا يعرف من يدعوه أو يناديه أو يستغيث به غير الله، فهو على ملة إبراهيم عليه السلام.قال: [ رابعاً: شرف إبراهيم عليه السلام باتخاذه ربه خليلاً ]، وسبب اتخاذ ربه له خليلاً أنه أول من هاجر في سبيل الله، فترك دياره وأهله وأولاده وأمواله، وذلك لما حُكِم عليه بالإعدام فنجاه الله وسلمه، وقال: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:99-100]، وترك أرض بابل والعراق واتجه غرباً حتى وصل إلى مصر، وهذه واحدة، والثانية: أنه امتحن بأن يبني لله بيتاً في جبال فاران، وأعظم من هذه أن الله ابتلاه بأن يذبح ولده، فهل تردد إبراهيم؟ لا والله، بل أخذت هاجر إسماعيل وطيبته وألبسته أحسن الثياب، ثم أتى به إبراهيم إلى منى وتله على جبينه على الأرض والمدية في يده وأراد ذبحه؛ لأن الله أمره بذلك. قال: [ خامساً: غنى الله تعالى عن سائر مخلوقاته، وافتقار سائر مخلوقاته إليه عز وجل ]، وأخذنا هذا من قول الله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:126]، والله تعالى أسأل أن يرد إخواننا وأمتنا إلى كتاب الله عز وجل، فيجتمعون عليه في مساجدهم ويتعلمون الكتاب والحكمة، فتنتهي المذهبية والفرقة والعنتريات وأوضار الحياة وأوساخها؛ إذ والله لا نجاة إلا بهذا، إما أن نعود إلى كتاب الله وسنة رسوله بصدق، فإذا أذن المغرب لن تجد رجلاً في الأسواق ولا في الشوارع ولا في البيوت، إذ كل المؤمنين في بيت ربهم، وطول العمر وهم كذلك، فهل يبقى جاهل؟ لا والله، بل إذا انتفى الجهل لا يبقى الظلم والشر والخبث، ولا حيلة إلا هذه، ولنذكر أن الشيوعية لما بدأت كانت تلزم المواطنين بأن يجتمعوا حتى في الصحراء ليتلقوا معارف البلشفية الحمراء، حتى في عدن فعلوا بهم هذا، ونحن يؤذن المؤذن لصلاة فتجد هذا يغني، وهذا يلعب، وهذا يرقص، إذاً فكيف نرجع إلى الله؟ مستحيل بدون علم، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، ومن شك فلينظر أعلمنا في أي قرية أتقانا لله عز وجل والله العظيم، وأجهلنا بالله أخبثنا، أتريد بياناً أعظم من هذا؟فهيا نعود على الله تعالى، ما نستطيع، لم؟ مقيدون مكبلون؟! لا والله، وإنما شهواتنا وأطماعنا وشياطيننا، وإلا فالأصل أنه إذا دقت الساعة السادسة توضأ واحمل زوجتك وأولادك إلى المسجد القريب منك، وصلوا المغرب واجلسوا جلوسنا هذا لتتعلموا الكتاب والحكمة، وعند ذلك لا يبقى جاهل أو ظالم، وهذا هو الطريق، فاللهم اهد هذه الأمة إليه.وصلى الله على سيدنا محمد.

ابوالوليد المسلم
09-05-2021, 04:18 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (68)
الحلقة (291)
تفسير سورة النساء (71)


كان العرف السائد عند العرب في الجاهلية منع الميراث عن المرأة والطفل، وعدم مراعاة حق اليتيم، فجاء الإسلام مقرراً حق المرأة والطفل في الإرث، وحض على المحافظة على مال اليتيم، وأنزل الله آيات تتلى بهذا الشأن من أول النساء، ولا زالت تساؤلات بعض الصحابة حول هذا الشأن قائمة، فأنزل الله مرة أخرة الآيات المتعلقة بهذا الأمر قطعاً للتساؤلات، وتأكيداً على هذه الحقوق.
فضل طلب العلم وأهميته لتزكية النفس
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فحقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومعنا أربع آيات لو كنا صادقين في الطلب والحصول على العلم فلا نتجاوزها حتى نحفظها عن ظهر قلب، ونفهمها فهماً صحيحاً سليماً، ووطنا النفس على أن نعمل بها عملاً صحيحاً سليماً، ولكن للأسف أننا هبطنا، فمن قرون كنا في علياء السماء نقود البشرية ونسودها، لكن احتالوا علينا فهبطنا، فإذا قرأنا لا نفهم، وإذا سمعنا لا نحفظ، وإذا علمنا لا نعمل إلا من رحم الله.فهيا نجرب أنفسنا في هذه الآيات الأربع، فنتناول كل ليلة آية منها، ونجدُّ في حفظها وفهمها، لا سيما الذين ما حفظوا من القرآن شيئاً كالعوام، والعجب أنهم يسمعون كلام الناس فيحكونه كما سمعوه، وتتعدد الأحاديث بينهم فيرددونها، ويسمع أحدهم آية تكرر أربعين مرة ما يحفظها! ففسروا لنا هذه الظاهرة يا علماء النفس! يا علماء الاجتماع!فهذه أم الفضل رضي الله تعالى عنها أم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما تقول: ( صليت المغرب وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ بالمرسلات فحفظتها )، فائتني بمرأة أو رجل من عوام المسلمين يسمع المرسلات عشرة أيام، والله ما يحفظها، كيف هذا؟! لأنهم كانوا طالعين ونحن هابطون، والآن قد عرفنا جيلاً عايشناه يسمع أغنية لعاهرة أو ماجن في الإذاعة أو في التلفاز فيحفظها بألفاظها ولهجتها، وإن شئتم حلفت لكم، فما هو السر؟ أولئك كانوا طالعين ونحن هابطون، وكلمة الحق والخير ما نحفظها ولا نُعنى بها! وكلمة الشر والطعن والسب تحفظ بصورة جيدة ونحكيها ونعيدها!مرة أخرى: كيف الخروج من هذه الظلمة التي وقعت فيها أمة النور؟ والجواب وليس سواه من جواب: أن نعود كما بدأ رسول الله وأصحابه، فقد قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ [الجمعة:2]، أي: العوام، رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، فأهل القرية من قرانا المنتسبة إلى الإسلام يتعاهدون أنه إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل، فيا فلاح! الق بالمسحاة من يدك وتوضأ وتعال إلى المسجد، ويا تاجر! أغلق باب تجارتك، ويا صانع! ارم الحديد من يدك، ويا أم فلان! اتركي ما في يدك، فيؤذن للمغرب وأهل القرية كلهم في المسجد، رجالاً ونساء وأطفالاً، فيصلون المغرب كما صلينا، ويجلسون جلوسنا هذا، فالنساء وراء الستار تحفظهن وتسترهن، والبنون الأطفال كالملائكة صفوف، والفحول كما أنتم، والمعلم والمربي أمامهم، فليلة يتعلمون آية ويتغنون بها ويحفظونها، وتشرح لهم وتفسر لهم، ويتذوقونها وتملأ قلوبهم نوراً ومعرفة، وفي اليوم الثاني سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغنون بها ويحفظونها ويبين لهم المراد منها، والكل عزم وتصميم على أن يعمل بما علم، وهكذا يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد يوم، فتصبح تلك القرية كالملائكة، ولاختفى كل مظاهر الشر والخبث والفساد، وحل محل ذلك الإخاء والمودة والطهر والصفاء، وكأنهم أسرة واحدة.وأهل المدن ذات المناطق المتعددة، وأهل كل حي ومنطقة يوسعون جامعهم حتى يتسع لهم، ثم يلتزمون بهذه الرجعة الصادقة إلى منهج أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فإذا دقت الساعة السادسة وقف العمل، فتطهر الرجال والنساء وأقبلوا على بيت ربهم ليتعلموا الكتاب والحكمة، وأقسم بالله الذي لا إله غيره لتختفي مظاهر الخيانة والغش والشح والكبر والكذب والباطل، وتصبح تلك البلاد كأنهم أيام الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولم يبق مظهراً من مظاهر الشح ولا البخل ولا الشحاذة ولا التعاسة ولا السرقة، بل كل هذا ينتهي؛ لأنهم بعد عام أو عامين يصبحون علماء، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، ومن أراد البرهنة فلينظر في عالمهم في قريته أو مدينته، أليس هو أتقاهم لله؟ والله لأتقاهم لله، وأقسم بالله على ذلك، والسر والسبب هو العلم، أي: عرفوا ربهم فأحبوه وخافوه، أما أن نعيش في ظلمة الجهل ونريد أن نكمل ونسعد ونسود فمستحيل هذا.لكن قد يقول القائل -وقالوها حتى في الحلقة-: ما هذا التأخر؟! أيريدون منا أن نعود من جديد إلى كذا فنترك العمل ونأتي كلنا للمسجد؟! فقلنا لهم: إن أئمتكم وهداتكم الذين اتبعتموهم وقلدتموهم ومشيتم وراءهم من اليهود والنصارى إذا دقت الساعة السادسة وقف العمل، فهيا نمشي إلى باريس عاصمة الكفر، أو إلى لندن، أو إلى برلين، أو إلى مكان شئت من بلاد الكفر، إذا دقت الساعة السادسة وقف العمل وذهبوا إلى المراقص والملاهي والملاعب والعبث حتى نصف الليل، ونحن لا نذهب إلى بيوت ربنا! مسحورون أم عميان أم ماذا أصابنا؟! ولذلك لن ترتفع مظاهر الظلم والخبث والشر والفساد، بل والشرك والبدع والضلالات والهلاك إلا إذا سلكنا مسلك رسول الله وأصحابه.وهذا طبيب عظام وقلب يجلس معنا يقول: ما إن رجعنا إلى هذه الحلقة حتى طبنا وطهرنا! إي نعم، إذ كيف تسمع عن الله وتعيش عاماً أو عامين أو ثلاثة ويبقى ظلمة في نفسك؟ مستحيل، فالماء والصابون يطهران الأبدان، والحكمة والكتاب تطهران القلوب والأرواح، فكل الجرائم والموبقات والشر والفساد هي نتيجة الجهل وظلمته، ولا لوم على ذلك.
تفسير قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ...)
فهيا بنا نتغنى بهذه الآية الأولى من الأربع، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا [النساء:127]. وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ [النساء:127]، أي: يطلبون الفتيا في شأنهن، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127]، أي: قل يا رسول الله: الله يفتيكم فيهن.وهذه الآية الكريمة نزل بيانها في أول السورة، وبقي بعض المستضعفين أو بعض ضعفاء الإيمان يترددون، إذ ما أطاقوا التشريع المفاجئ الذي يقضي على عادات عاشوا عليها قروناً، فكانوا يستفتون من جديد، أي: يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبر تعالى الرسول فقال له: وَيَسْتَفْتُونَكَ [النساء:127]، أي: يطلبون الفتيا منك يا رسول الله، فقال الله له: قل لهم: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127]، أي: في النساء. وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127] أولاً، وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا [النساء:127]، يجزيكم به كاملاً وافياً.
أمر الله لأوصياء اليتامى أن يعطوا اليتامى أموالهم إذا بلغوا سن الرشد
نعود إلى الآيات التي أحالهم الله تعالى عليها، وقد تقدمت في أول السورة، فقال تعالى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [النساء:2]، أي: أعطوا اليتامى أموالهم يا أولياء، وهذا أمر من الله تعالى؛ لأنهم ما كانوا يعتبرون اليتيم أهلاً للمال، وإنما اليتيم يأكل ويشرب حتى يكبر وهم مسئولون عنه، ولا يعترفون بإرث لليتيم أبداً، وقد عاشوا على هذا قروناً كثيرة، فجاء القرآن يبطل الجاهلية ويوجد العدل والإسلام.
نهي الله لأوصياء اليتامى أن يستبدلوا أموال اليتامى الجيدة بأموالهم الرديئة
وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2]، وهذا قد عرفناه فينا لما جهلنا، وذلك أن الولي أو الوصي كان يأخذ مال اليتيم الجيد وينسب إليه الرديء، فمثلاً: الشاة السمينة لليتيم يذبحها الولي له ويترك لليتيم الشاة الهزيلة الضعيفة! وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2]، أي: تعطوا اليتامى الرديء من الغنم والإبل والتمر، بل ومن كل الأموال المتنوعة، وتأخذوا أنتم الجيد بحجة أن اليتيم ما له قيمة، أو ليس له حاجة إلى ذلك، فأبطل الله تعالى هذا نهائياً. وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2]، فمال اليتيم طيب يبقى له، ومالكم خبيث يبقى لكم، أما أن تستبدلوا الطيب بالخبيث فلا، وأما كونهم يعطون الطيب لليتيم ويأخذون الخبيث فهذا مستحيل، إذ ما يخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعملونه أنهم يأكلون الطيب من مال اليتيم ويستبدلونه بغير الجيد.
نهي الله لأوصياء اليتامى أن يخلطوا أموالهم بأموال اليتامى فيأكلوها جميعاً
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2]، فيخلطونها مع أموالهم ويأكلونها. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2]، أي: افصلوا بين مالكم وبين مال اليتامى؛ لأن هذا الخلط يسهل عليهم أن يأكلوا أموال اليتامى، وبالتالي فلا بد من فصل المال.ثم قال تعالى: إِنَّهُ [النساء:2]، أي: هذا الخلط وهذا الأكل، كَانَ حُوبًا [النساء:2]، والحوب هو الإثم العظيم، وهي كلمة أفظع من كلمة: إثم وذنب.
إرشاد الله لأولياء اليتامى إلى ترك الزواج منهن وطلب ما طاب من النساء من غيرهن
ثم قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، أي: يكون عند الرجل يتيمة دميمة ما يرغب فيها، ولكن مالها كثير، فيرغب أن يتزوجها ليأكل مالها، فأمره الله تعالى أن يزوجها غيره وأن يعطيها مالها، وله أن ينكح ما طاب ولذ من النساء، سواء اثنتين أو ثلاث أو أربع، أما أن يحتكر هذه المرأة لمالها فلا يتزوجها ولا يحسن إليها، وذلك لأجل أنها ذات مال، فهذا لا يصلح من المسلم ولا ينبغي أن يكون بعد اليوم، فقد أبطل الله تلك العادة أو ذلك الخلق السيئ. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا [النساء:3]، والقسط والإقساط هو العدل، يقال: أقسط يقسط إذا عدل، وقسط ويقسط إذا جار وظلم، وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، كما تيسر لكم، واتركوا هذه المؤمنة الدميمة ومالها. وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ [النساء:127]، وقد قلنا: إن اليتيمة الدميمة ذات المال لا يزوجها لغيره، وإنما يتزوجها لأجل مالها، فيسيء إليها ولا يحبها ولا يعطيها حقها، إذاً فما هو الإرشاد الصحيح؟ أن يزوجها غيره ويعطيها مالها. فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ [النساء:127]، وشيء آخر وهو أن تكون عنده اليتيمة وما عندها مال فيحرمها من المهر، فبدل أن يعطيها مهر المثل يعطيها شيئاً تافهاً، ويقول لها: أنتِ ابنتي، أنت من عائلتي، لم نعطيك الخمسين والستين ألفاً؟! لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ [النساء:127]، أي: من المهور وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ [النساء:127].وهذا كله تقدم في أول السورة، وما زالت الاستفهامات، فهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم فأجابه الله فقال: قل لهم يارسولنا: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [النساء:127]، أي: القرآن فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ [النساء:127]، أي: من المهور وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ [النساء:127]، والمستضعفون من الولدان هم اليتامى الذين لا حق لهم في هذا المال، فالوصي أو الولي هو الذي يتصرف فيه، فينفق كما شاء، والولد لما يكبر يأخذ ماله، والمهم أنهم كانوا لا يحترمون أموال اليتامى، ولا يعرفون حظاً لها أبداً عند الله، فجاء القرآن الكريم فبين لهم الطريق، وهو أن المستضعفين من الولدان يجب أن ترعى أموالهم وتحفظ وتنمى، ولا يؤكل منها إلا بقدر الحاجة كما قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5]، والسفهاء هم الأطفال الصغار والنساء وفاقدي العقل والحصافة العقلية، فهؤلاء عيال الله يجب أن تحافظوا على أموالهم.
المال عصب الحياة فلا يعطى إلا لمن يحسن التصرف فيه
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، وذلك كأن يكون عندك يتيم لا يعرف أن يبيع ويشتري، فلا يصح أن تعطيه المال، وإنما احجر عليه، وكذلك أخوك -وإن كان أكبر منك سناً- إن كان لا يحسن التصرف بالمال، وإنما يبذره ويفسده، فلا يحل لك أن تعطيه هذا المال، وأيضاً زوجتك -والمرأة أضعف في هذا الباب- إن كانت لا تحسن التصرف في المال، فلا يجوز لك أن تعطيها هذا المال، فهؤلاء هم السفهاء الذين لا يحسنون التصرف في المال لا بالبيع ولا بالشراء ولا بالأخذ ولا بالعطاء، وبالتالي فلا تعطوهم أموالكم. الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، أي: حياتكم قائمة على المال، أما يقولون: المال قوام الأعمال؟ فإذا كان هناك امرأة أو ولد أو رجل وكان سفيهاً ليس بحكيم ولا عاقل، فلا تعطوهم أموالهم، وإنما تصرفوا أنتم فيها ونموها لهم واحفظوها. ثم بعد ذلك وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، أي: إذا بلغ اليتيم الثامنة عشرة أو بلغ سن البلوغ فامتحنه أولاً، كأن تعطيه ألفاً ليشتري لكم ما تحتاجون إليه من الأطعمة، أو أعطه شاة ليبيعها في السوق، وانظر كيف يتصرف؟ وهل يجيد الشراء والبيع أم لا؟ فإذا ابتليته وامتحنته واختبرته ونجح فأعطه ماله، أما ما دام سفيهاً فلا يحل لك أن تعطيه المال، وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6]، أي: أن بعض الأوصياء على مال اليتيم يكثر من النفقة والأكل والشرب من مال اليتيم قبل أن يكبر اليتيم، وذلك خشية أن يكبر ويتسلم ماله، وهذه طباع بعض البشر، فإذا لم يهذب الإنسان نفسه ويؤدبها ويصلحها فهذه هي حقائقها. وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا [النساء:6]، فبدل أن يذبح شاة يذبح شاتين، وبدل أن يأتي بقنطار من الدقيق يأتي بقنطارين، وَبِدَارًا [النساء:6]، أي: مبادرة، أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6]، أي: مخافة أن يكبروا، وهكذا في اليتامى قال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فما ترك الله شيئاً تتعلق بحياة المؤمنين إلا بينه في كتابه وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، وإنما جهل الناس القرآن فما قرءوه.ومع هذا وبعد الذي سمعتموه في أول السورة قال تعالى يخاطب حبيبه صلى الله عليه وسلم: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ [النساء:127]، ما لهن وما عليهن قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127]، وقد أفتاكم في الآيات السابقة وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ [النساء:127]، وقد بينه تعالى اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ [النساء:127]، أي: اليتامى والسفهاء وإن كانوا أولادك، وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ [النساء:127]، قل أو كثر، فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا [النساء:127]، فيجزي به لعلمه به، فأدبهم وعلمهم طرق الخير ودعاهم إليها، وواعدهم بالجزاء الأوفى، فهذا هو الله رب العالمين.

يتبع

ابوالوليد المسلم
09-05-2021, 04:19 AM
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
فهيا نسمع هذه الآية من التفسير لنتأكد من صحة ما علمنا.
معنى الآيات
قال المؤلف: [ معنى الآيات: هذه الآيات الأربع ]، ونحن قد قرأنا منها آية فقط، [ كل آية منها تحمل حكماً شرعياً خاصاً ]، يجب على المؤمنين أن يعرفوه وأن يطبقوه.قال: [ فالأولى: نزلت ]، أي: هذه الآية، [ إجابة لتساؤلات من بعض الأصحاب ] أي: هذه الآية نزلت استجابة الله لعباده المؤمنين لما أخذوا يتساءلون، فأنزلها الله ليبين لهم حكمه فيما هم شاكين فيه أو مترددين.قال: [ نزلت إجابة لتساؤلات من بعض الأصحاب ]، أي: أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، [ حول حقوق النساء ما لهن ]، أي: من حقوق، [ وما عليهن ]، أي: من حقوق، [ لأن العرف-المعتاد-الذي كان سائداً في الجاهلية كان يمنع النساء والأطفال من الميراث بالمرة ]، إذ ماذا تصنع المرأة بالمال؟ فهي زوجة والزوج ينفق عليها! وكذلك الأولاد الصغار لا يدفعون عن الحي ولا يقاتلون عدواً، وبالتالي فلا حاجة لهم إلى المال! إذاً فأطعموهم واسقوهم واكسوهم، فهذا هو العرف في الجاهلية.قال: [ لأن العرف الذي كان سائداً في الجاهلية كان يمنع النساء والأطفال ] من ماذا؟ قال: [ من الميراث بالمرة، وكان اليتامى لا يراعى لهم جانب ولا يحفظ لهم حق ]؛ لأنهم صغار ما يدافعون ولا يكسبون، [ فلذا نزلت الآيات الأولى من هذه السورة ] التي تدارسناها، [ وقررت حق المرأة والطفل في الإرث، وحضت على المحافظة على مال اليتيم، وكثرت التساؤلات لعل قرآناً ينزل إجابة لهم، حيث اضطربت نفوسهم لما نزل ] في أول السورة.قال: [ فنزلت هذه الآية الكريمة تردهم إلى ما في أول السورة ]، وارجعوا إلى أول السورة، [ وأنه الحكم النهائي في القضية، فلا مراجعة بعد هذه ] والحكم الموجود هناك في أول السورة هو الحكم النهائي، فليس هناك تردد.قال: [ فلا مراجعة بعد هذه، فقال تعالى وهو يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ [النساء:127]، أي: وما زالوا يستفتونك في النساء ]، لماذا قال: وَيَسْتَفْتُونَكَ [النساء:127] بصيغة المضارع؟ والجواب: جاء بصيغة المضارع ليشير إلى أن السؤال يتجدد، [ وما زالوا يستفتونك في النساء، أي: في شأن ما لهن وما عليهن من حقوق، كالإرث والمهر وما إلى ذلك، قل لهم أيها الرسول: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127] ] واسترح أنت يا رسولنا، [ وقد أفتاكم فيهن وبين لكم ما لهن وما عليهن ]، فلمَ هذا التردد وهذا الشك؟قال: [ وقوله تعالى: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ [النساء:127] ] أي: لا تعطونهن ما كتب لهن من واجب، وترغبون أن تنكحوهن، أي: تتزوجوا بهن.قال: [ وقوله تعالى: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ [النساء:127]، أي: وما يتلى عليكم في يتامى النساء في أول السورة شافٍ لكم لا تحتاجون معه إلى من يفتيكم أيضاً؛ إذ بين لكم أن من كانت تحته يتيمة دميمة-غير جميلة-لا يرغب في نكاحها فليعطها مالها وليزوجها غيره وليتزوج هو من شاء ] من النساء، [ ولا يحل له أن يحبسها في بيته لأجل مالها ] فلا يتزوجها ولا يزوجها، ويبقى كلما جاء من يخطبها يرد عليه: ما هي مستعدة للزواج! أو أن هذا الزوج غير صالح!... اتق الله، ومشى خطوتين ثم عاد إليك فقال: ما هي أوامر الله؟ إذاً تعال ابق معنا شهراً أو شهرين حتى تعرف أوامر الله، ثم بعد أن عرف أوامر الله، قال: وما هي نواهي الله؟ فيقال له: اجلس معنا أيضاً وسنعلمك نواهي الله، فالخمر والزنا والربا والكذب والغش والخداع والكبر والعجب والشرك وغيرها من نواهي الله عز وجل، وعند ذلك تستطيع أن تتقي الله، أما ترون في أمة الإسلام من ألف سنة هل تحققت لها ولاية الله؟ لأفراد فقط، والسبب في ذلك أنهم ما عرفوا الله ولا عرفوا ما يحب ولا ما يكره.وأخيراً: هل نحن مستعدون لأن نطلب العلم من هذه الليلة؟ يا إخواننا! إذا دقت الساعة السادسة مساء فأغلق الدكان، سواء كنت حلاقاً أو قصاراً، يا صاحب المقهى! أغلقها وتوضأ وائت إلى مسجد حيك أو قريتك، فتجلس أنت وكل أهل الحي والقرية كجلوسنا هذا، وتأخذون تتعلمون الكتاب والحكمة، وبعد أن صليتم العشاء امش إلى دكانك وإلى مقهاك إن شئت، أما هذه الساعة فلا بد من أن نطلب العلم فيها، ووالله لا نجاة من هذه المحنة ومما يتوقع لهذه الأمة إلا إذا عادت إلى هذا الطريق، فتتخلى عن الكبر والعجب والدعوى الباطلة وحب المال، وتعكف في بيوت ربها بين يدي علمائها تتلقى الكتاب والحكمة.إذاً: وصانا ربنا فهيا فلننفذ وصية ربنا، فالذين يعرفون أوامر الله ونواهيه يتقونه، والذين ما يعرفون أوامر الله ولا نواهيه يجب عليهم أولاً أن يعرفوه.
تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ...)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا [النساء:131]. وَإِنْ تَكْفُرُوا [النساء:131]، أي: وإن جحدتم الله ولم تتقوه، فماذا يحصل؟ قال: فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:131]، أي: أنه ليس في حاجة إليكم، فهو غنى عنكم، فلا يحتاج إلى عبادتكم ولا طاعتكم، إذ ما شرعها إلا من أجلكم فقط. وَكَانَ اللَّهُ [النساء:131] وما زال، غَنِيًّا [النساء:131]، عن كل ما سواه، حَمِيدًا [النساء:131]، أي: محموداً في الأرض والسماء، إذ كل الكون يحمده، فأنت لما تنظر في أي آلة تقول: إن الذي صنعها عليم، فحمدته وتشكره، فانظر إلى أي شيء في هذا الكون فتقول: إن خالقه عظيم، وهو الغني الحميد.
تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:132]. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:132]، معشر المستمعين! عرفتم أن لله ما في السموات وما في الأرض، وموقنون ومؤمنون بهذا؟ إذاً عليكم ألا تتزلفوا ولا تتملقوا ولا تذلوا ولا تهونوا إلا له هو سبحانه، بل لا ترجوا ولا تطمعوا ولا ترغبوا ولا تسألوا ولا ترفعوا أيديكم ولا تطلبوا شيئاً أبداً إلا من الله، إذ ليس هناك من يملك شيئاً إلا الله، وفهمك واعتقادك أن لله ما في السموات وما في الأرض يصرفك عن الخلق كلهم صرفاً كاملاً، ويربطك بالله ارتباطاً وثيقاً، فلا تبرح أن تسأل وتتضرع إليه في كل حاجاتك؛ لأنه هو الذي له ما في السموات وما في الأرض، ولو عرف إخوانكم هذا فهل سيبيعون الخمر من أجل القوت؟ وهل سيتعاطون الربا من أجل المال؟ وهل سيسبون أو يشتمون العلماء من أجل الوظيفة؟ لا والله، لكنهم ما عرفوا ذلك، إذ لو عرفه كما عرفنا والله ما أصبح قلبه يتقلب إلا في الله، فهو الذي يغنيه، وهو الذي يرزقه، وهو الذي يشفيه، وهو الذي يعزه، وهو الذي يعطيه، وهو الذي يميته، وهو الذي يحييه، إذ الله مالك ما في السموات وما في الأرض، وما بقي سيدي عبد الرحمن ولا عبد القادر ولا رسول الله ولا خديجة ولا فاطمة ولا الحسين ولا البدوي؛ لأن هؤلاء لا يملكون شيئاً، بل والله ولا ذرة في الكون، إذاً فكيف تقبل عليهم بقلبك وتناديهم بلسانك: يا سيدي فلان! يا رجال البلاد!وعندنا مظاهر عجيبة ولا نلومهم؛ لأننا ما علمناهم، فهم جهلاء يعيشون في ظلمة الجهل، فمن علمهم؟ ومن عرفهم؟ ومن قرع أبوابهم وناداهم: أن احضروا بيوت الله لتتعلموا الكتاب والحكمة؟ لا أحد.ومن هذه المظاهر: تجد الرجل في يده المسبحة وهو يذكر الله بأعظم ذكر: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ولما تأخذه غفوة من النوم فتسقط المسبحة من يده فيقول: يا سيدي فلان! فهو يصرخ: لا إله إلا الله، لا معبود إلا الله، لا مغني ولا معطي ولا ضار ولا نافع إلا الله، ولما تسقط المسبحة من يده: يا سيدي فلان! فأين معنى لا إله إلا الله؟ إنه ما عرف الله، وآخر يكتب على السيارة: يا فاطمة، أو يا حسين، فلا إله إلا الله!فلا لوم عليهم لأننا ما علمناهم، وهم كذلك ما طلبوكم حتى تعلموهم، فقد أعرضوا وأدبروا وأكبوا على دنياهم وأوساخهم، إذاً فالورطة عامة لنا ولهم إلا من شاء الله.
تفسير قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين ...)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [النساء:133]. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [النساء:133]، إي والله العظيم، أما أذهب عاداً وثمود؟ يا سكان الجزيرة أين عاد؟ في حضرموت وما حواليها إلى عدن والشحر، تلك الأرض كانت لأعظم دولة في الكون، واقرءوا: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، هل الله يحلف؟ إي والله، فهذه يمين وقسم، وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:1-5]، أي: لصاحب عقل، أما الذي لا عقل له كالبهيمة لا يفهم اليمين ولا القسم، وقال تعالى أيضاً: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ارم ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8]، فقد كان طول الرجل اثنين وثلاثين ذراعاً، فإذا كان طوله ثلاثين ذراعاً أو ستين ذراعاً فكم ستكون طول وعرض الغرفة؟! بل البيت كم سيكون طوله وعرضه؟! الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:8]، ومع ذلك فقد انتهت وأزالها الله وأبادها، وما زال التاريخ البشري إلى الآن عند الفلاحين يسمونها: قرة العجوز، والقَرة والقِرة بالعامية تعني: آخر يوم في الشتاء شديد البرودة، وذلك لأن عجوزاً من هذه الأمة دخلت في داخل جبل وظنت أنها نجت، ففي اليوم الثامن دخلت إليها الريح حتى أخرجتها وفلقت رأسها على باب الجحر، ثم رحل المؤمنون مع نبيهم هود صلى الله عليه وسلم وتركوا الديار ونجاهم الله بإيمانهم، فنزلوا بمدائن صالح، وهي إلى الآن موجودة وكأنك تشاهدها وتشاهد صناعاتهم وعجائبهم، فالجبال كانوا يتخذونها غرفاً وحجرات، وامش لتنظرها، لكن لا يسمح لك أن تمر بها وأنت تغني أو تضحك، والرسول قد قال: ( إذا مررتم بها فلا تضحكوا وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا )، ثم كثر عددهم وأصبحوا أمة عظيمة، فبعث الله فيهم رسوله صالحاً، فكفروا به وعقروا الناقة فأبادهم الله تعالى، فأين هم الآن؟!أما قوم لوط في غربهم، فالآن هناك بحيرة لوط موجودة عند الأردن وفلسطين تسمى بالبحر الميت، إذ تحولت البلاد إلى بحيرة، وحتى هذه البحيرة ليس فيها حوت ولا حيوان، جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا [هود:82].ونحن للأسف آثارنا الباطل فانتشر فينا الشرك والوثنيات والفجور، فمضت فترة ما بين قرية وقرية في بلاد المسلمين لا تجتازها إلا بعملة، بل والقرية الواحدة تجد فيها الثلاث الطرق والأربع الطرق!إذاً: انتظروا، فسلط الله علينا أعداءنا، وها هو تعالى قد نفعنا بدعوة الإسلام وعاد الاستقلال، وهانحن نضحك على الله، فأعرضنا عن ذكره وكتابه إعراضاً كاملاً، فلا إله إلا الله! فلو تنظر بعين القلب لقلت: لا إله إلا الله، إن يوماً عجباً سينزل بديار المسلمين، بل أعظم من محنة تسليط اليهود والنصارى علينا؛ لأننا نضحك على الله، فقلنا: تحررنا واستقللنا، والإسلام ليس تطبيق في بلاد المسلمين، بل إن أكثر البلاد بهذه الطريقة من انتشار الشر والخبث فيها. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ [النساء:133]، إما أن يذهب قوتكم ووجودكم، أو يذهب أموالكم، أو يذهب ما عندكم من نعم أخرى. وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [النساء:133]، و(قدير) أبلغ من قادر، وقد فعل، ولننظر ما حولنا وما بعدنا وما قبلنا.
تفسير قوله تعالى: (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ...)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:134]. مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا [النساء:134]، تريدون الدنيا؟ اعبدوا الله يعطيكم الدنيا والآخرة، فإذا كنتم صادقين تريدون الغنى والمال والراحة والسعادة فهذا موجود عند الله، فأطيعوه يتحقق لكم ويزيدكم الآخرة أيضاً، وما دمتم راغبين في الدنيا وتريدونها حتى أعرضتم عن الله وكتابه وذكره أُعلمكم بأن الله عز وجل عنده ثواب الدنيا والآخرة، فاطلبوا منه تعالى، فإن قيل: يا شيخ! وكيف نعبده؟ هذا كتابه وهذا رسوله وما قال: اعتقدوه بقلوبكم اعتقدناه، وافق عقولنا أو خالفها، أمرنا أن نقول قلنا، أمرنا أن نسكت سكتنا، أمرنا أن نعمل عملنا. مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا [النساء:134]، واسمع بعدها فقال: فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النساء:134]، أي: ليس فقط ثواب الدنيا عند الله، بل الآخرة أيضاً، والدنيا فانية وثوابها دنانير ودراهم وطعام، وينتهي كل ذلك بمرض أو بموت، لكن ثواب الآخرة وجزاؤها دائم.إذاً: أيها العاملون! أيها المتكالبون على الدنيا! ندلكم على أن الله عنده دنياكم بكاملها والآخرة أيضاً، إذاً فأطيعوا الله تحصلوا على السعادتين: الدنيا والآخرة، وهذا كلام الله سبحانه وتعالى. وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:134]، فكل الأصوات يسمعها الله تعالى حتى أصوات النمل، فقد سجل لنا القرآن خطبة النملة بالحرف الواحد، واقرءوا قوله تعالى من سورة النمل: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18]، فقد كان سليمان يستعرض قواه العسكرية ليغزو ويفتح العالم ولينشر دين الإيمان والطهر والصفاء والعدل والرخاء، فاستعرض يوماً جيوشه والجيوش ماشية وإذا بنملة عند قرية من قراها ترفع صوتها فتقول: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18]، فلا إله إلا الله! ما أذكاها! ما أفطنها! ما أجل أدبها! حين قالت: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18]، أما لو كانوا يشعرون بكم ما يطئونكم ولا يقتلونكم، لكن وهم لا يشعرون، فاتخذوا لأنفسكم حماية ووقاية من ذلك، فادخلوا قصوركم ومساكنكم، فلما سمعها سليمان ضحك، قال تعالى مصوراً ذلك المشهد: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19]، وهذا الذي ينبغي أن نقوله عندما كنا نستقل، استقلت البلاد الفلانية بريطانيا، واستقلت البلاد الفلانية عن فرنسا وإيطاليا، وكلما يستقل إقليم نقرأ هذه الآية، لكن كسر، دمر، هذا عميل يستحق العقاب! ما عرفوا الله ولا القرآن، فهذا سليمان عليه السلام سخر الله له الإنس والجن والطير وعلمه لغة الطير بكامله، لما حصلت له هذه النعمة قال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]، ونحن استقللنا وأعرضنا عن الله وكتابه، بل وعذبنا أولياءه وسخرنا من دينه!وصل اللهم على نبينا محمد وآله وأصحابه وسلم.

ابوالوليد المسلم
09-05-2021, 04:21 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (69)
الحلقة (292)
تفسير سورة النساء (72)


أمر الشهادة عظيم، فبها تؤخذ الحقوق، وتقام الحدود، وقد أمر الله عز وجل عباده المؤمنين بأداء الشهادة على وجهها ابتغاء وجه الله، فيشهد المؤمن حتى على نفسه أو والده أو ولده أو أخيه، ومتى ما دعي لأداء الشهادة فلا يعرض عنها، ولا يلوي بالكلام فيها حيث لا يفهم مقصوده منها، أو يفهم على وجه غير مراد أصلاً، لما في ذلك من الإضرار بالمتخاصمين أو أحدهما، وأكل الحقوق بين الناس بالباطل.
التفقه في الدين وطلب العلم سبيل السعادة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فأهنئكم بهذه الفضيلة العظيمة، وأزيدكم أخرى: قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )، وثالثة وهي: أن الملائكة تصلي عليكم فتقول: اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم حتى تصلوا العشاء، فماذا تريدون بعد هذا؟! الحمد لله، الحمد لله.وما زلنا مع سورة النساء المباركة الميمونة المدنية، وهي التي نزلت بعد البقرة مباشرة، وهي سورة الأحكام الفقهية، ومعنا هذه الآيات الأربع، فهيا نتغنى بها أولاً ثم نأخذ في بيان مراد الله تعالى منها؛ لنعلم محابه فنعزم على إتيانها، ولنعلم مكارهه فنعزم على تركها والبعد عنها، إذ قد علمتم من قبل أنه لا يستطيع امرؤ رجل أو امرأة أن يتقي الله بدون أن يعلم محاب الله ومكارهه، ولهذا كان طلب العلم فريضة على كل مؤمن ومؤمنة، فنطلب الذي يحبه ربنا من الاعتقادات والنيات، من الأقوال والكلمات، من الأفعال والأعمال، من الصفات والذوات، حتى نعرفها ونتملق ونتزلف بها إليه، ونعرف ما يكره وما يسخط من قول أو اعتقاد أو صفة أو ذات؛ لنتجنب ذلك ونبتعد عنه ليبقى لنا ولايتنا بربنا، ولكن للأسف فقد صرفونا عن القرآن وأبعدونا عن السنة، وحالوا بيننا وبين أن نجتمع في بيوت الله، وأصبحنا نجتمع في المقاهي والملاهي ومجالس اللهو واللعب والعبث، والذين نجوا من هذا هم في الدكاكين مربوطين! فهم طول العام في الدكان، فلا يسأل عن الله ولا على ما عند الله، فلا إله إلا الله! ما الذي يمنعنا إذا دقت الساعة السادسة مساء أن نترك العمل ونلقي بآلاته ونتطهر ونتطيب ونأتي بنسائنا وأطفالنا إلى بيوت ربنا، فنستمطر رحماته، ونتلقى المعرفة عنه، ونعرف محابه ومساخطه؟ إن هذا هو الأصل في نظام حياتنا، ولذلك اليهود والنصارى والمشركون والشيوعيون وكل الكفار إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا العمل وذهبوا إلى المراقص والملاهي والملاعب يروحون على أنفسهم، ونحن ما نأتي إلى بيوت الله! فما المانع؟ لا شيء، إذاً كيف نعرف ما نتقي به ربنا؟ إننا إذا لم نتق الله عز وجل خسرنا خسراناً أبدياً؛ لأن ولاية الله التي هي الهدف الأسمى والغاية المثلى لكل مؤمن، ومن يظفر بها فقد فاز، والتي يتنافى معها خوف المؤمن وحزنه، متوقفة على الإيمان والتقوى، واسمعوا إلى قول الله عز وجل: أَلا [يونس:62]، ألو، فإن قال قائل: يا شيخ! لم تقول: ألو؟ لأن نساءنا وأطفالنا ورجالنا أصبحوا يستسيغونها أكثر من (ألا)، فالطفلة الرضيعة التي ما زالت تحبو إذا سمعت: ألو، تعرف أن هناك من يتكلم في التلفون، وفي لسان العرب وفي كتاب الله: أن (ألا) أداة استفتاح وتنبيه، ومعنى هذا: أنت معي؟ أنت تسمع كلامي؟ أنت متهيئ لأن تأخذ ما أقول؟ فيؤديه لفظ: (ألا) مع الجمل الاسمية، لكن نحن وللأسف سمعنا النصارى قالوا: ألو، فقلنا: ألو! أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لا في الحياة هذه، ولا في البرزخ بعدها، ولا يوم القيامة، والله لا خوف ينتابهم ولا حزن يملأ قلوبهم، إذاً فمن هم أولياء الله؟ سيدي عبد القادر؟! سيدي مبروك؟! سيدي عبد الحميد؟! الأموات! أما ولي في السوق فلا، ولذلك لو تدخل إلى دمشق أو بغداد أو القاهرة المعزية، ما عن تنزل من طائرتك أو من باخرتك وتستقبل رجلاً من البلاد وتقول له في أدب: أنا جئت أريد أن أزور ولياً من أولياء هذه البلاد، والله ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، ولا يفهم أن في القاهرة ولياً في السوق أو في المسجد، وأنا أتكلم بهذا على علم، كذلك تدخل مراكش عاصمة المغرب فتقول: أنا جئت لهذه البلاد وأريد أن أزور ولياً من أولياء الله، والله ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، وكأنه لا يوجد أبداً في تلكم الأمة ولي، وبالتالي إذا لم يكونوا أولياء فماذا عسى أن يكونوا؟ أعداء، فحصروا الولاية في الأموات.وسر ذلك أن الثالوث الأسود المكون من اليهود بني عمنا والمجوس جيراننا والنصارى الضالين بيننا، فهم الذين مكروا بهذه الأمة، ومن مظاهر ذلك: أن القرآن حوِّل إلى الأموات والمقابر، وذلك قبل قرابة ألف سنة، واسمعوا ما قررت لكم: قال في حاشية الحطاب: تفسير القرآن ثوابه خطأ وخطأه كفر، أي: أن تفسير القرآن خطأ وذنب، وإن فسرت فأصبت فأنت مخطئ مذنب، وإن أخطأت فقد كفرت، فألجموا أمة القرآن، فلا تقل: قال الله، إذاً ماذا نصنع بالقرآن؟ حولوه إلى الموتى ليقرا عليهم، فإذا مررت بحي من أحياء المسلمين وسمعت القرآن فاعلم أن هناك ميتاً، فسبحان الله! أصبح القرآن الذي ينذر به الرسول من كان حياً حولناه لمن كان ميتاً، ومددنا أعناقنا وقبلنا بذلك، فكيف عم الجهل وظلمته وأصبحنا أشباه مؤمنين ولسنا بالمؤمنين بحق؟ لأنهم أطفئوا هذا النور، إذ القرآن روح لا حياة بدونه، ونور لا هداية بدونه، لكن عرف هذا الثالوث أو رؤساء اليهود والنصارى والمجوس، فهم يتآمرون في كل مكان على هذا النور لإطفائه، وعلى هذه الروح لانتزاعها، وقد وفقوا في ذلك وهداهم إبليس إلى هذه فاستطاعوا أن يحولوا المسلمين عن كتاب الله، فلا تقل: قال الله ولا تفسر، وإنما اسكت، فالقرآن فيه الخاص والعام، والناسخ والمنسوخ وغير ذلك من المباحث، لكن لا تتكلم.حتى السنة أيضاً، إذ إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والله لا تقرأ إلا للبركة فقط؛ لأن السنة فيها الخاص والعام، وفيها المجمل والمفصل والمبين، فيكفينا مصنفات علمائنا، فالأحناف لهم مصنفات، والمالكية لهم مصنفات، والحنابلة لهم مصنفات، والشافعية لهم مصنفات، حتى الطوائف الخارجة عن السنة لها مصنفات، أما قال الله وقال رسوله فلا.
الفهم الخاطئ لمعنى الأولياء وأثر ذلك في نشر الشرك والابتداع
وأزيدكم برهنة على ذلك فأقول: بعد أن يدخل رمضان تعالوا للروضة فستجدون مشايخ يدرسون البخاري للبركة، فيجتمعون: حدثنا حدثنا، ولا تسأل عن معنى حديث من الأحاديث، أو ماذا يريد الرسول منا؟ أو ماذا يحمل هذا الحديث من نور أو هداية؟ لا، وإنما اسكت، وإن قلت: ما الأدلة على ما تقول يا هذا؟والجواب: هل هبطنا بعدما كنا سادة وقادة الدنيا؟ هبطنا والله، وهل حكمتنا دول الكفر وسادتنا ومسختنا؟ لو كنا أولياء الله والله ما استطاعوا ولا قدروا ولا ساقهم الله إلى أن يذلونا أو يهينوننا، لكن للأسف احتالوا علينا، وأعظم شيء هو القرآن والسنة، إذ إنهم علموا أن القرآن روح الحياة، فلا حياة بدون القرآن، وأنه نور الهداية، فلا هداية بدون القرآن، فقالوا: إذاً نصرفهم عن القرآن والسنة، فالقرآن يقرأ على الموتى والسنة تقرأ للبركة، وللأسف ففي بعض البلاد توجد هناك نقابات، وعمل هذه النقابات أنها تؤجر قراء ليقرءون على الموتى، فإذا مات لك قريب فيمكنك أن تتصل بالنقابة وتقول لها: أريد خمسة من طلبة القرآن يقرءون القرآن على ميتنا! فيرد عليك قائلاً: من فئة ريال أو خمسة؟ يعني: على حسب غنى الميت وفقره! والله يقول: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:70] لا ميتاً.ونقرأ كون القرآن روحاً ونوراً آية من آخر سورة الشورى من آل حميم، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، فسماه روحاً لأن الحياة لا تقوم إلا به، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، فالقرآن نور، لكن أبعدوه عن المسلمين ليعودوا إلى الظلام، وقد نجحوا في ذلك.فهل فهمتم قضية الولاية أو لا؟ وهل الولي الذي عليه قبة بيضاء أو خضراء وهناك حرس وفيه النقود ويُعبد كما يعبد الله بل أشد؟ أستغفر الله، إنهم لا يطرحون بين يديه، ولا يبكون في صلاتهم ولا خشوعهم كما لو أنهم بين ذلك الضريح، لكن الأضرحة بكاء وتمرغ ودعاء ونداء في صدق، أما الله: يا رب بلا حرارة ولا إجابة، وهذا هو الحال من إندونيسيا إلى موريتانيا، وهذا هو العالم الإسلامي، وللأسف ما أفقنا إلى الآن، وإننا لنتعرض لضربة إلهية ما عرفناها ولا عرفها أسلافنا.وقد سئل أحدهم: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد، وصدق الله إذ يقول: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، فهم حصروا الأولياء في الموتى، وذلك ليستبيحوا فروج المسلمات وأموال المؤمنين وأعراضهم ودماءهم، فهل هناك مؤمن يستحي من الله أن ينظر إلى مؤمن آخر نظرة احتقار وسخرية؟ وهل هناك مؤمن ترتعد فرائصه أن يقول كلمة يؤذى بها ولياً من أولياء الله؟ لا أبداً، إذ الموجودون الأحياء كلهم أعداء الله، فانكحوا نساءهم وبناتهم، واسرقوا أموالهم، وسبوهم واشتموهم، وتعرضوا لهم بالباطل، بل وافعلوا بهم ما شئتم، إذ ليسوا بأولياء الله، إنما ولي الله هو الذي دفنتموه وبنيتم عليه القبة! وقد سمعت بهذه الأذن مجموعة في القرية يتحدثون فقال أحدهم: سبحان الله! فلان إذا زنا لا يمر بسيدي فلان وهو جنب بالزنا، وإنما يمر من جهة أخرى! فانظر خاف من الولي ما لم يخف من الله! فمن ركز هذه العقيدة في قلوبنا؟ إنه الثالوث الأسود المكون من اليهود والنصارى والمجوس، وذلك رؤساؤهم وأعيانهم وقادتهم، لا عوامهم فهم كالأبقار.فهل عرفتم السر في حصر الولاية في الموتى؟ حتى نستبيح دماءنا وفروجنا ونكذب ونخون كل شيء بيننا؛ لأننا لسنا بأولياء الله، إذ أولياء الله هم الأموات، أما الأحياء فاصفعه وسبه واشتمه وهكذا يفعلون، ولو عرف أن هذا ولي الله والله ما يستطيع أن يرفع صوته عليه، فكيف إذاً يزني بامرأته، أو يفسد عليه ولده، أو يعمل ما يعمل، ونحن نشاهدهم يرتعدون أمام الولي في قبره؟ فهل فهمتم؟ وهل ممكن أن تبلغوا هذا؟ لا، لسنا بمستعدين أبداً، إذاً كيف نسمع كلامك هذا وما نتحدث به في مجالسنا؟! من يمنعنا؟! إنه الشيطان، وذلك حتى لا ينتشر النور، وإنما يبقى الجهل والظلمة، ولذا فإن المفروض أنه إذا سمع المؤمن كلمة كهذه أن ينشرها ويبلغها لا أن يكتمها، لكن نحن نسمع ولا نتحرك، فلا إله إلا الله! آمنا بالله.

يتبع

ابوالوليد المسلم
09-05-2021, 04:21 AM
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط...)
فهيا مع هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء:135-137].
مناداة الله تعالى لعباده المؤمنين بأن يعدلوا في شهاداتهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:135]، هذا أمر الله تعالى، وقد نادى المؤمنين به، فلبيك اللهم لبيك وسعديك، فماذا يطلب منا؟ والجواب: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء:135].فهل عرف المؤمنون هذا؟ والله إن بعضهم يجلسون أمام المحكمة فيقول أحدهم لمن لديه قضية: هل تريد شاهداً؟ فيعطيه عشرة ريالات أو مائة ويشهد له! وهذا في محاكم العالم الإسلامي، فيجيء الرجل فيشهد عن ابن عمه ويلوي الشهادة ويحرفها حتى يفتن القاضي، بل أحياناً عشرون واحداً من القبيلة يشهدون بالباطل، ويعتزون فيقولون: نحن خلصناه ونجيناه من العقاب؛ لأنهم ما عرفوا الله حتى يخافوه أو يحبوه فيطيعوه.فهذا نداء الله لنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ [النساء:135]، و(قوامين) جمع قوام على وزن فعَّال، كـ(أكَّال) و(شرَّاب)، ومعنى قوامين بالقسط: أي: بالعدل، إذ القسط هو العدل، شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، أي: شهداء لله لا لغيره، فإن شهدت فاشهد لله ليحق الحق ويبطل الباطل، ولا تشهد لقبيلتك ولا لنفسك ولا لولدك.
أمر الله لعبده أن يشهد بالقسط ولو على نفسه
وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ [النساء:135]، فتشهد أمام المحكمة بأنك فعلت، أو أنك أخذت، أو أنك قلت، وتعترف على نفسك أو على ولدك أو على والديك، بل أقرب قريب إليك وهي نفسك؛ لأنك نائب عن الله عز وجل في هذه الشهادة، إذ هو سبحانه الذي أقامك شاهداً وجعل الحق يعطى بشهادتك، وبالتالي فاستح من الله عز وجل أن تخونه، إذ كيف ينصبك شاهداً باسمه ليحق الحق ثم تخونه؟!
حرمة شهادة الزور
ولهذا كان أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الكتاب والحكمة، فقال لهم يوماً: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله )، فالرسول يخاف على أصحابه أن يشركوا بالله! وجماعتنا وعلماؤنا من ألف سنة يقولون: المؤمن لا يكون مشركاً أبداً! وهو يعبد القبر ويستغيث بالموتى وغير ذلك من الشركيات، فهل العلماء هم الذين ورطوا هذه الأمة؟! ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً -لكبره وتعبه- فجلس ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، حتى قال الصحابة: ليته سكت )، أي: أتعبناه وأرهقناه وخافوا أن ينزل ما ينزل من عذاب الله تعالى، لكن اذهب الآن إلى المحاكم في العالم الإسلامي عرباً وعجماً، واسمع إلى الشهادات والشهود على الدماء وعلى الأموال، فلا تحصل على واحد في المائة يشهد لله عز وجل، ولا لوم عليهم؛ لأنهم ما عرفوا الله حتى يشهدوا له، ثم من علمهم؟ وهل سألوا حتى عرفوا؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، فهيا من الآن نكون قوامين بالقسط الذي هو العدل، وشهداء إذا حكمنا بين اثنين حكمنا بالعدل، أو حكمنا بين الزوجتين فبالعدل، أو في كل قضية فنقضي فيها بالعدل، بل وإذا دعينا للشهادة فلنشهد ولو على أنفسنا وأبنائنا ووالدينا، وهذا هو الإسلام، لكن قد نسي هذا المسلمون وضاعوا قروناً حتى أصبح الكفار المسيحيون في أوروبا أكثر عدالة من المسلمين في محاكمهم وقضاياهم، بل وأكثرهم لا يشهد شهادة الزور أبداً ولا يتورط بالباطل، ونحن أهل القرآن لا تسأل عن حالنا، وسر ذلك أننا ما عرفنا هذا أبداً ولا تعلمناه، لا أمهاتنا ولا آباؤنا ولا أجدادنا قروناً عديدة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء:135]، كالأبناء والإخوة وما إلى ذلك.
وجوب أداء الشهادة على وجهها دون التفريق بين غني وفقير
إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]، أي: إن دعيت للشهادة فلا تلتفت إلى غنى الرجل أو إلى فقره، وتقول: هذا فقير فلنشهد معه لأنه في حالة ضعف، وهذا غني فلنشهد معه؛ لأنه ممكن أن يحرموني من كذا، أو يقف يوماً من الأيام ضدي، لا تلتفت إلى هذا أبداً. إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]، فليس أنت الذي تحارب الغني أو ترحم الفقير، وعند ذلك والله لا يبقي مجال أبداً لأن يشهد مؤمن شهادة باطل، أو أن يقضي قاض بالباطل، وذلك لمحاباة للفقير لفقره أو للغني لغناه، فقد أبطل الله هذا كاملاً، فإن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بفقره وغناه، فما أنت بمسئول عنه، إذ قال تعالى: فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]. فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، والهوى -ليس الهواء بالمد- هو ميل النفس وانكسارها وانعطافها على الشهوات والأطماع الفاسدة، فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا.
علم الله بمن يلوي أو يعرض عن الشهادة
وَإِنْ تَلْوُوا [النساء:135]، بالكلمة، أَوْ تُعْرِضُوا [النساء:135]، عن بعض الكلام في الشهادة، فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135]. فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى [النساء:135]، أي: عند الحكم وعند الإشهاد؛ كراهة أو خشية أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، أي: تميلوا عن الحق، وَإِنْ تَلْوُوا [النساء:135]، واللي أن يلوي لسانه فيحرف الكلمة، أو أن القاضي يلوي وجهه عن هذا الخصم ويلتفت إلى هذا، ولذلك يجب على القاضي أنه إذا وقف أو جلس الخصمان أمامه أن ينظر إليهما نظرة متساوية، فلا يضحك مع هذا ويغضب على هذا، أو أن يتكلم مع هذا ويسكت مع الآخر، بل حتى النظر لابد أن يكون نظر القاضي إلى الخصمين متساوياً.والمقصود: لا تلووا في الكلام أو تعرضوا عن الشهادة بالمرة، أو عن المقصود منها بالمرة، إذ إن هناك من يلوي الكلام في شهادته فلا يثبت بها حقاً لصاحبها، إذ ما صدق، أو ما صرح تصريحاً كاملاً، بل زاد كلمة أو نقص أخرى، وهذا هو المقصود بقوله تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135]، والخبير أكثر من العليم، إذ الخبير هو الذي يعرف أجزاء القضية من أولها إلى آخرها، وبالتالي فخافوه واعرفوا سلطانه، إذ هو الذي يميت ويحيي، وهو الذي يفقر ويغني، وهو الذي يمرض ويشفي، وهو الذي يعطي ويمنع، فهل هناك من يدير الكون سواه؟! تعيش سبعين سنة ما تكذب كذبة واحدة، وما تشهد شهادة زور ولا كلمة باطل؛ لأنك تعلم أن الله بما تعمل خبير، فيجزيك بصنيعك الذي صنعت.فهذا هو تفسير الآية الأولى، واسمعوا تلاوتها مرة أخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء:135]، إذا حكمتم، شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، إذا استشهدتم، ثم قال: وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء:135]، ثم: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا [النساء:135]، ليس بشاهد، فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135].ومن هنا ما بقي في عهد الرسول وأصحابه وأحفادهم وأولادهم من يشهد شهادة الزور، أو يحكم حكم ظلم وجور، فهذا علي بن أبي طالب أيام خلافته في السنوات الأربع النورانية، ينازعه يهودي في درعه، وكان القاضي الذي يحكم بينهم هو شريح القاضي، فأجلس القاضي علياً وأجلس اليهودي بجواره، وتكلم معهم بلغة واحدة، وكان ينظر إليهم نظرة متساوية، والشاهد عندنا: أن القاضي قال لـعلي: من يشهد لك أن الدرع ملكك؟ فقال: ولدي، فقال القاضي: شهادة الولد لا تقبل للوالد، إذ من الجائز أن يحابي أو يخاف والده، فلما رفض شريح شهادة الحسين بكى اليهودي وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إمام المسلمين لا تقبل شهادته والدرع درعه! آمنا بالله، إنها مواقف للأمة الإسلامية في العصور الذهبية الثلاثة فوق ما تقدر أو تفكر. وعلة هذا أن القرآن روح ونور، إذ لما كانوا يقرءونه يبكون ويفهمون ما يقرءون ويعملون، فقد كانوا أطهر الخلق وأصفاهم وأعدلهم وأكرمهم، بل وقل ما شئت من الكمالات، ووالله ما اكتحلت عين الوجود بأمة على سطح الأرض من آدم إلى يوم القيامة بأفضل من تلك الأمة في قرونها الثلاثة، ( خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، فما سبب كمالهم؟ البترول؟! الأموال؟! إنه القرآن والسنة النبوية، الهداية الربانية.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله...)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:136]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:136]، ناداكم مولاكم، لبيك اللهم لبيك، فهل بلغكم أن لله تسعين نداء في القرآن؟ لقد نادى الله عباده المؤمنين تسعين مرة، وكل مرة يأمرهم أو ينهاهم أو يبشرهم أو ينذرهم أو يعلمهم، واسلوا المسلمين ما نسبة من تعرف هذا؟ ولا واحد في المليون، فنادانا الله ليأمرنا باعتقاد وقول وعمل يزكي أنفسنا ويسعدنا في دنيانا وأخرانا، إذ حاشاه أن يأمرنا باللهو والباطل واللعب، أو الفساد والشر، ونادانا لينهانا عما يضر بنا ويفسدنا ويعوقنا عن السعادة والكمال في الدنيا والآخرة، ونادانا ليبشرنا بنتائج وثمار صالحات أعمالنا لنزداد وراء ذلك عملاً، ونادانا لينذرنا من عواقب السلوك المنحرف والعقيدة الفاسدة، ونادانا ليعلمنا ما لم نعلم، وكل ذلك بالتتبع والاستقراء للتسعين نداء.وقد درسنا هذه النداءات هنا وقلنا للمسلمين: ترجموا هذه النداءات بلغات العالم الإسلامي ووزعوها يا أغنياء على الفنادق، وكل سرير يكون عنده كتيب، وذلك قدوة بالنصارى الذين يضعون الإنجيل الأعمى عند كل سرير، ولذلك إذا جاء أحدهم لينام فإنه يستمع إلى نداء من نداءات ربه، فيفرح بذلك؛ لأنه ربه ناداه ليعلمه وليهذبه، ولذا ينبغي على كل أهل بيت أن يعرفوا هذه النداءات، إذ كيف ينادينا ربنا وما نسمع؟ أو نسمع ونقول: قل ما شئت فلن نطيع! أعوذ بالله، أنرضى بالكفر بعد الإيمان؟!وأخيراً: خلاصة الشريعة بكاملها عقائد وآداب وعبادات وأخلاق وسياسات شرعية في الحرب وفي السلم، بل وفي كل الأحوال هي في تسعين نداء، فمن صرف المسلمين عن هذا؟ إنه الثالوث الأسود من اليهود والنصارى والمجوس، ووالله لو كنا صادقين على أن نعود إلى سيادتنا ما إن صدرت هذه النداءات حتى انتشرت في العالم بكامله، فماذا يكلفنا؟ الترجمة باللغات الحية ولغات المسلمين الفارسية إلى الأردية، ولكن صدق الشاعر عندما قال:لقد أسمعت لو ناديت حياًولكن لا حياة لمن تنادي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136]، ألا وهو القرآن، وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136]، ألا وهو التوراة والإنجيل والزبور، وهذا النداء صالح لنا ولليهود بني عمنا، وبعض الإخوان يقول: كيف اليهود بنو عمنا؟ إي نعم، أليسوا أولاد إسحاق بن يعقوب بن إبراهيم؟ ونحن ألسنا أولاد إسماعيل بن إبراهيم؟ بلى.أزيدكم فضيحة على علم: لو حكم اليهود إقليماً من أقاليم المسلمين لكان حكمهم أرحم من حكم هؤلاء المسلمين إلا من رحم الله، وليس فوق هذا شيء أبداً.والشاهد عندنا: أن هذا النداء صالح للمؤمنين ولأهل الكتاب، فالمؤمنون بأن يزيدوا في طاقات إيمانهم ليصبحوا موقنين بما أنزل الله وشرع، واليهود يدعون أنهم مؤمنون، فهذا هو الإيمان الصحيح، فصححوا إيمانكم أيها اليهود! وهم يدخلون في هذا لأنهم مؤمنون بالله ولقائه والدار الآخرة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136]، محمد صلى الله عليه وسلم، وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136]، ولم يقل: أنزل، وإنما (نزل)، لأنه نزله مقسطاً آية بعد أخرى لظرف ثلاثة وعشرين سنة، أما التوراة فقد نزلت جملة واحدة، وكذلك الإنجيل، أما القرآن فقد نزله يوماً بعد يوم، وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ [النساء:136]، ألا وهو القرآن، عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136]، محمد صلى الله عليه وسلم، وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136]، الإنجيل والزبور. وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:136]، فلا يعود إلى السعادة والكمال أبداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ...)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء:137].ثم عقب على ذلك: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [النساء:137]، يتلاعبون، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء:137]، وهذه الحقيقة واضحة عندنا، فالشخص إذا اعتاد جريمة معينة وبالغ فيها ما انقطع عنها وما تاب منها أبداً، بل يأتي يوم ويصبح لا يستطيع أن يتركها أبداً، وهؤلاء لن يتوبوا أبداً، آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [النساء:137]، يتوبون بعد هذا؟ والله ما كان، وهذه هي سنة الله في الخلق.إذاً: فهؤلاء ما حكمهم؟ حكم الله فقال: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء:137]، أي: طريقاً للكمال والسعادة.وصلى الله على سيدنا محمد.

ابوالوليد المسلم
09-05-2021, 04:23 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (70)
الحلقة (293)
تفسير سورة النساء (73)

جاء في عدد من المواضع في القرآن الكريم بيان حال المنافقين في هذه الأمة، وذلك لشدة خطرهم ونكايتهم في المسلمين، فهم يظهرون ولاءهم للمؤمنين وهم في حقيقة أمرهم يوالون الكافرين، كأنهم بذلك يبتغون عندهم العزة، ونسوا أن العزة إنما هي لله ولعباده المؤمنين، وإذا أصاب المؤمنون خيراً سارعوا إلى المطالبة بنصيبهم منه، وإذا كان للكافرين نصيب سارعوا إليهم يطلبون مكافأتهم على إعانتهم لهم على المسلمين، فهم عبيد للمصلحة، ومصيرهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار، جزاء كذبهم وخداعهم.
تفسير قوله تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع النورانية، فهيا نتغنى بتلاوتها ثم نأخذ في بيان مراد الله تعالى منها، إذ إن هذا القرآن قد سماه الله نوراً، فلا هداية بدونه قط، وسماه الله روحاً فلا حياة طهر وكمال بدونه قط، وقد عرف هذا خصومنا من الثالوث الأسود فصرفوا أمة الإسلام عن القرآن، فأصبح القرآن يقرأ ويحفظ من أجل أن يقرأ على الموتى، أما الأحياء فلا يجتمع اثنان أو ثلاثة ليقرءوا آية ويتدبروا معناها وليقوموا بما أوجب الله أو ينتهوا عما نهى الله طيلة قرون عديدة، فهيا نعد من جديد، والآن الحمد الله نقرأ القرآن ونتدارسه، لكن قبل هذه الفترة فهذا لا يقبل، إذ إنهم كانوا إذا سمعوا من يقول: قال الله يغلقون أذانهم بأصابعهم خشية أن تنزل الصواعق عليهم، كما أنهم قالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر، فماتت أمة الإسلام، ولما ماتت سادها الغرب والشرق وأذلوها وأهانوها، وها هي ذا تابعة كالذيل لهم، فلا استقلال ولا وعي ولا كرامة إلا من رحم الله، والسبب هو أنهم تركوا القرآن الذي هو روح، واقرءوا قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، وقال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، فهل تهتدي أمة في الظلام بدون نور؟ مستحيل.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:138-141].كلام من هذا؟ إنه كلام الله تعالى، فهل هناك من ادعى فقال: إن هذا كلامي؟ لا الإنس ولا الجن، إذاً فالحمد لله أننا نسمع كلام ربنا وخالقنا ومحيينا ومميتنا وباعثنا، وبلايين البشر ما سمعوه ولا علموا به، فلا إله إلا الله! فأية نعمة أعظم من هذه؟! ثم إن هذا الكلام ماذا تسمع منه؟ السياسة الحربية، السلمية، الاجتماعية، الاقتصادية، الروحية، البدنية، فلا إله إلا الله! وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44].فهيا نتأمل قوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:138]، من منا ما فهم هذه الجملة من العرب؟!
تفسير قوله تعالى: (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين...)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:139]. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:139]، أي: يحبونهم وينصرونهم دون المؤمنين. أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ [النساء:139]، أي: أن هؤلاء المنافقون يطلبون العزة عند الكافرين! فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:139]، إذ لا تطلب إلا من مالكها ومن هي في يده، أما الكافرون لا يملكون العزة ولا يعطونها.
تفسير قوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ...)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]. وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [النساء:140]، أي: القرآن العظيم في سورة الأنعام. أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140]، وإنما قم وأغلق أذنيك واخرج من المجلس. حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء:140]، أي: غير الحديث الذي يسبون ويشتمون وينتقدون ويطعنون فيه. إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، أي: في الحكم، إذ إنك لو رضيت بأن يسب الله ورسوله أو يسخر بدينه وكتابه أو بأوليائه فأنت منهم، وهذا حكم الله تعالى. إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]، فما هناك فرق بين الكافر والمنافق إلا أن خزي المنافق وعذابه أشد، إذ المنافقين في الدرك الأسفل من النار.
تفسير قوله تعالى: (الذين يتربصون بكم...)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]. الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [النساء:141]، فاسهموا لنا من الغنيمة. وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ [النساء:141]، من الانتصار والغنيمة قالوا لهم: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين، إذاً فأعطونا، ولهذا فإن المنافق يمسك العصا من وسطها، أي: إن كان المؤمنون ناجحون فهو معهم، وإن كان الكافرون ناجحون فهو معهم، وإن صالت الدنيا وضجت فهو معها، وإن بكت وصرخت فهو مع الآخرين. الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ [النساء:141]، وهذا أيام رسول الله والغزو الإسلامي والفتوحات. قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [النساء:141]، فلم تحرموننا من الأجر، أي: من الغنيمة. وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ [النساء:141]، أي: نصيب من الأنصار، وما قال: فتح، إذ ماذا يفتحون؟ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ [النساء:141]، أي: في المعركة وحطنا بكم حتى دفعنا عنكم المسلمين، وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141]، فرد الله عليهم فقال: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [النساء:141]، يا معشر المؤمنين والمنافقين. وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، أي: لإذلالهم والسيطرة عليهم والتحكم فيهم، وهذه وحدها آية من آيات الله تقول: إن العالم الإسلامي الذي حكمته أوروبا من شرق الدنيا إلى غربها في تلك الأيام ما كان المؤمنون مؤمنين بحق وصدق؛ لأن إخبار الله تعالى لا يتطرق إليه الكذب أو النقص أبداً. وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141]، أي: المؤمنين الصادقين في إيمانهم، المؤمنين بحق، وإن شككت في تلك الأيام كيف كان حال المسلمين؟ الشرك والظلم والتسلط والخبث منتشر في البلاد الإسلامية، حتى إن أولياء الله هم الذين بنوا عليهم القباب وعبدوهم مع الله، أما أولياء لله في السوق أو في المسجد أو في المزرعة فلا، وإنما انكح نساءهم، وكل أموالهم، واضرب أولادهم؛ لأنهم ما هم بالأولياء، إذ الأولياء هم الذين بنيت على قبورهم القباب ووضعت التوابيت والأزر، وتوقد الشموع وتؤخذ الأجور، فهؤلاء هم الأولياء! ولا يستطيع مؤمن في العالم الإسلامي أن يسب ولياً من أولئك، أو يقول كلمة سوء فيهم، والرسول يقول عن الله: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فأولياء الله وإن كانوا رعاة إبل.وعندنا قصة أبو حمارة وجماعة كلبي، فأما قصة جماعة كلبي فهي أن مستعمِراً في بلد إسلامي من كان له كلب، والنصارى دائماً يعيشون كالكلاب مع الكلاب، إذ لا يفارقوهم أبداً، وشاء الله أن يموت هذا الكلب، فدفنه هذا المستعمر في حديقة قصره ومنزله، ثم بعد فترة مرت بعض عجائز البلاد فشاهدوا قبراً فأخذوا يدعونه من وراء الجدار ويقولون: هذا سيدي فلان، وهذا ولي الله، وأخذوا يستغيثون به ويدعونه، وكان المسلم الحارس يشاهد العجائز يفعلن ذلك، وبعد حين من الزمان قالوا للحارس: يا سيد! لو تفتح لنا الطريق فنزور هذا السيد ونتمرغ بتراب قبره، فقال: إن المعلم لا يسمح بذلك، وهو الآن غائب في أوروبا، فقالوا له: تشجع أنت وكن كذا وكذا، وبعد عدة محاولات معه فتح لهم الطريق إلى القبر، ثم جاء ذاك المستعمر بعد كذا شهراً ووجد النساء في يوم الخميس والاثنين جماعات يزرن القبر! فقال للحارس: ماذا يصنعن هؤلاء؟ فرد عليه فقال: هذا قبر سيد وولي وهم يزورونه، فقال: أليس هذا قبر كلبي؟! ثم أمر بإغلاق الباب وسُدَّ الطريق، وجاء المؤمنات فقلن: كيف يمنعنا هذا الكافر من زيارة ولي الله، إن هذا كافر لا يؤمن بالله، ورُفعت شكوى إلى البلدية، فقضى القضاء بأن ينبش القبر، فإن وجد كلب فالحق لهذا الأوروبي المستعمر، وإن وجد إنسان فهو ظالم ويجب أن يخرج حتى من البستان، فجاءت سيارة الإسعاف والمسئولون ونبشوا القبر وإذا كلب بأنيابه! وأما قصة قبر سيدي أبو حمارة فهي أن هذا شخصاً كان له حمار يركبه ما بين بلد وبلد آخر، وذلك أيام ما كان المركوب هو الحمار والفرس والبغل في العالم بأسره، وشاء أن مات هذا الحمار في الطريق، فدفنه صاحبه في مكان موته، وبعد فترة من الزمن مر به أناس فقالوا: هذا قبر ولي من الأولياء! وأصبحوا يمرون به ويدعونه ويضعون الفلوس والشموع عنده، وأصبح صاحب الحمار يكثر ماله من ذلك، والشاهد عندنا هو أن صاحب الحمار سافر وترك واحداً ليأخذ المال من الزوار والزائرات، وعند عودته فاجأه ذلك الرجل قائلاً: أنا صاحب الحمار! فاختصموا، فنبش القبر فوجدوا حماراً!إذاً فهذه هي أمة الإسلام، وهذا النوع مئات الفجرة والسرق واللصوص والسحرة والدجالون والمشعوذون يدعون أنهم أولياء الله تعالى، والآن النكتة السياسية الاجتماعية ما هي؟ من فعل بهم هذا؟ إنه الثالوث المكون من المجوس واليهود والنصارى الذين فقدوا سيادتهم وسلطتهم في العالم الإسلامي، وعرفوا أن ولاية الله محترمة معظمة، وأن أولياء الله معظمون مبجلون، فماذا صنعوا؟ أوجدوا لهم فكرة الأولياء الأموات، أي: سيدي فلان وفلان، وفي خلال خمسين سنة ما بقي ولي بين الناس إلا إذا مات ودفن، ومن هنا أصبح المسلمون بدواً وحضراً، في الشرق والغرب، عرباً وعجماً، لا يحترمون ولياً بينهم إلا إذا كان ميّتاً ويُعبد مع الله بالذبح والنذر له والعكوف عليه والبناء عليه، ومن ثم ما بقي المؤمنون يحترمون بعضهم البعض، وإنما يزنون بنسائهم، ويسرقون أموالهم، ويكذبون ويخدعون بعضهم البعض. فكيف ولي الله يُسب أو يشتم؟! ما يستطيع أن يقول في ولي منسوب إلى الولاية كلمة سوء، إذ إنه يخاف أن تنزل به الصاعقة، وأولياء الله الأحياء لا وجود لهم، فيفعل ما يشاء، فهذه هي تعاليم الثالوث الأسود، وإلى الآن ما أفقنا، ولكن خف الجهل بعض الشيء، مع أنه ما زلنا لم نعي هذا الوعي أبداً.

يتبع

ابوالوليد المسلم
09-05-2021, 04:23 AM
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هيا بنا ندرس هذه الآيات الأربع بعناية. ‏
معنى الآيات
قال المؤلف: [ قوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ [النساء:138] ] فالذي يبشرهم هو رسول الله، إذ الذي يخاطب الله هو رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي العبارة نوع من التهكم بهم، إذ إن أصل البشرى هو الخبر السار أو المحزن، فالخبر الذي إذا سمعه صاحبه تغير وجهه، فإن كان ساراً تغير وجهه بالبشر والطلاقة والابتسامة، وإن كان الخبر محزناً اكتأب وأسودّ وجهه، فالتغيير حاصل، فلهذا البشرى تكون بالطيب وتكون بغيره. بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ [النساء:138]، والمنافقون هم من يبطنون الكفر ويخفونه في صدرهم ولا يحاولون أن يطلع عليه مؤمن، وقد يطلع عليه المنافقون من إخوانهم وذلك في مجالسهم الخاصة، فيظهرون الإيمان والإسلام، ويصلون ويجاهدون وهم ما آمنوا بقلوبهم، وسبب إظهارهم للإسلام أن الدولة إسلامية قائمة والرسول حاكم وخلفاؤه موجودون فلا يستطيع أن يظهر الكفر، فإما أن يسلم وإما أن يقتل أو يبعد، إذ لا يسمح لكافر أن يعيش بيننا إلا إذا كان من أهل الكتاب وأهل الذمة، وهم معروفون، أما مشرك كافر فإما أن يؤمن وخاصة في ديار هذه الجزيرة قبة الإسلام، وإما أن يقتل، قال تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5].إذاً: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ [النساء:138]، الذين يبطنون ويخفون الكفر، فلا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بلقاء الله ولا بجنة ولا بنار، وإنما يظهرون الإسلام بسلوكهم وقولهم ومنطقهم.قال: [ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:138]، يأمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يخبر المنافقين بلفظ البشارة؛ لأن المخبَر به يسوء وجوههم وهو العذاب الأليم، وقد يكون في الدنيا بالذل والمهانة والقتل، وأما في الآخرة فهو أسوأ العذاب وأشده، وهو لازم لهم لخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم ].معاشر المستمعين! هل فهمتم هذا التعليل؟ العذاب لازم للكافرين والمنافقين والفاجرين والظالمين لخبث نفوسهم، فهل النفس تخبث؟! إي والله، وهل النفس تطيب وتطهر؟ إي والله، وهل نستطيع أن نعرف النفس الخبيثة من الطيبة؟ نعم، فإذا طابت النفس فإن كل سلوك هذا العبد طيبة وطاهرة، فنظرته طيبة وطاهرة، وكلمته طيبة طاهرة، ومشيته طيبة طاهرة، بل كل تصرفاته طيبة وطاهرة؛ لأنه ناتج عن روح سليمة طاهرة نقية، وإن كانت الروح خبيثة يغشاها الكذب والخيانة والغش والباطل والشر فإن هذا السلوك نابع من مصدر باطني ألا وهو خبث النفس. ثم في الآخرة العذاب كالتنعيم يتمان على ضوء خبث النفس أو طهارتها، فلا شرف لأب ولا لأم ولا لقبيلة ولا لنسب أبداً، بل كل البشر أمرهم واحد، أي: عبيد الله، ليس منهم من هو ابن لله ولا أب له ولا قريب له، بل إنهم عبيده، أبيضهم كأسودهم، فمن زكى نفسه وطيبها وطهرها، ومات وهي طاهرة نقية، فهذا لا ينزل إلا في دار السلام، ومن خبثها ولوثها وعفنها بأوضار الشرك والكفر فإن مصيره إلى الدركات السفلى في عالم الشقاء.وعندنا نص الحكم الإلهي، وأهل الدرس عالمون به، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، من يعقب على حكم الله؟! هل هناك هيئة قضائية تعقب؟! نفى الله هذا فقال: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41].معاشر المؤمنين والمؤمنات! لمَ ما نحفظ هذه الكلمة: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] فنعرف مصير البشرية كلها من هاتين الآيتين؟ كن ابن من شئت أو أبا من شئت فالعبرة ليست بالجنس ولا بالملة، وإنما بالروح الزكية الطاهرة النقية أو الخبيثة العفنة المنتنة.فهل عرفت البشرية هذا؟ ما عرفت، من بلغها؟ من عرفها؟ وبعد أن عرفنا حكم الله فينا فهيا بنا نزكي أنفسنا، إذ أيخبر الله عز وجل ونشك في حكمه؟ فإن قيل: يا شيخ! ما هي المواد المزكية للنفس؟ أين توجد؟ في أية صيدلية؟ كيف نستعملها؟ وهذه الأسئلة فريضة على كل إنسان أن يعرفها، وكم الذين يعرفونها؟ ولا واحد في المليون.معشر الأبناء والإخوان! هل بلغكم أن حكماً لله قد صدر على الناس؟ قد حلف الله عليه بتسعة أو عشرة أيمان، وذلك من قوله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، حتى قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9].إذاً: والله إنا لموقنون إيقاناً كاملاً أن من زكى نفسه دخل الجنة دار السلام ونجا من العذاب والنار دار البوار، وأن من خبث نفسه ولوثها ومات وهي عفنة منتنة فلن يدخل الجنة ولن ينزل بساحتها، وهناك آية توضح هذا المعنى القريب وهي قوله تعالى من سورة الأعراف: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف:40]، أي: لا تفتح لأرواحهم عندما يعرج بها ملك الموت وأعوانه، وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، والجمل: حيوان معروف عند العرب وهو البعير، وعين الإبرة معروفة عند العجائز، وهي التي يُدخل فيها الخيط، والذي ما عنده بصر قوي ما يستطيع أن يدخل الخيط في عين الإبرة، فهل يستطيع البعير أن يدخل في عن الإبرة؟! مستحيل جداً، وكذلك مستحيل أن يدخل خبيث النفس دار السلام، وهذا قضاء الله وحكمه.فهيا نعود يا معشر المؤمنين والمؤمنات! إلى الله تعالى، وهيا نعمل على تزكية أنفسنا، فإن قيل: يا شيخ! بما نزكيها؟ أجيبكم فأقول: زكوها بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وأبعدوها عما يخبثها كالشرك والمعاصي، وأعني بالإيمان الصحيح الذي ليس مجرد دعوى الإيمان كاليهود، وإنما الإيمان الذي إن عرضته على القرآن فأنت مؤمن، وأعني بالعمل الصالح الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك من الغسل للجنابة إلى الرباط في سبيل الله، وكل تلك العبادات هي مواد تزكية للنفس البشرية، وأما المخبثات المدسيات للنفس من الكفر والشرك والمعاصي فهي وبال على المسلم في الدنيا والآخرة.فعلى كل مؤمن يريد أن تزكو نفسه أن يتعرف على إيمانه هل هو إيمان صحيح أم لا؟ وأن يعمل الصالحات التي بينها رسول الله، وهي في كتاب الله تعالى من الوضوء إلى الطواف والاعتكاف، من كلمة الأمر بالمعروف إلى كلمة النهي عن المنكر، فتلك العبادات إذا أوديت أداء صحيحاً بلا تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقصان، فإنها تفعل في النفس البشرية الزكاة والطهر كما يفعل الماء والصابون في الثياب والأبدان، فتُحيلها إلى كتلة من النور، وهذه هي الحقيقة، فمن يعرف المسلمين بهذه الحقيقة؟ لو أنهم عزموا على أن يسودوا ويقودوا، أو عزموا على أن يسموا ويرتفعوا لعادوا إلى بيوت ربهم -المساجد- بنسائهم وأطفالهم من المغرب إلى العشاء فقط، وذلك في كل ليلة وطول الحياة، فيتعلمون الكتاب والحكمة، فإذا تعلم أهل القرية الكتاب والحكمة والله ما خرجوا عن دائرة رضا الله وطلب مرضاته، وإنما استقاموا على منهج الحق فعبدوا الله بما شرع، فسمت نفوسهم وأصبحوا أولياء الله، حتى لو كادهم أهل الأرض ما زلزلوا أقدامهم.
العلاقة الحميمة بين المنافقين والكافرين
قال: [ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:138]، يأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر المنافقين بلفظ البشارة؛ لأن المخبر به يسوء وجوههم وهو العذاب الأليم، وقد يكون في الدنيا بالذل والمهانة والقتل، وأما في الآخرة فهو أسوء العذاب وأشده، وهو لازم لهم لخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم.ثم وصفهم تعالى بأخس صفاتهم وشرها، فقال: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:139] ] أي: يتركون المؤمنين فلا يوالونهم ولا يحبونهم ولا ينصروهم ولا يطلبون النصرة منهم، وإنما يوالون الكافرين، وهذا لن يصدر إلا من المنافقين الذين آمنوا بالظاهر وأخفوا الكفر في الباطن.قال: [ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:139]، فيعطون محبتهم ونصرتهم وولاءهم للكافرين، ويمنعون ذلك المؤمنين، وذلك لأن قلوبهم كافرة آثمة لم يدخلها إيمان ولم يُنرها عمل الإسلام، ثم وبخهم تعالى ناعياً عليهم جهلهم فقال: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ [النساء:139] أي: يطلبون العزة، أي: المنعة والغلبة من الكافرين، أجهلوا أم عموا فلم يعرفوا أن الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:139]؟ ]، فيا من يطلب العزة -أدلك على الباب الذي تقرعه- اطلبها من باب الله عز وجل، فإن قال: ما نستطيع؛ لأن باب الله يجب أن نكون طاهراً نقياً، فلا غش ولا خداع ولا شرك ولا كفر، إذاً: تطلبها من الكافرين! والله لن تجدها، ولن تعز أبداً، فلا إله إلا الله.قال: [ لأن قلوبهم كافرة آثمة لم يدخلها إيمان ولم ينرها عمل الإسلام، ثم وبخهم تعالى ناعياً عليهم جهلهم فقال: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ [النساء:139]، أيطلبون العزة، أي: المنعة والغلبة من الكافرين، أجهلوا أم عموا فلم يعرفوا أن الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:139]؟ فمن أعزه الله عز، ومن أذله ذل، والعزة تطلب بالإيمان وصالح الأعمال لا بالكفر والشرك والفساد، هذا ما دلت عليه الآية الأولى والثانية ].
النهي عن مجالسة الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها
قال: [ أما الآية الثالثة فإن الله تعالى يؤدب المؤمنين ] الله يؤدبنا لأننا أولياؤه وعبيده المؤمنون به، فأنت ما تؤدب ابنك أو أخاك؟قال: [ فإن الله تعالى يؤدب المؤمنين ] ونحن إن شاء الله منهم، [ فيذكرهم بما أنزل عليهم في سورة الأنعام ]، وسورة مكية بلا جدال، وقد زفتها سبعون ألف ملك عندما أنزلت، كما أن هذه السورة العظيمة نزلت مجملة، والمفروض على أهل كل بيت أن يدرسونها ويعرفون ما جاء فيها. قال: [ فيذكرهم بما أنزل عليهم في سورة الأنعام حيث نهاهم عن مجالسة أهل الباطل إذا خاضوا في الطعن في آيات الله ودينه، فقال تعالى ] يخاطب رسوله وأمته معه: [ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68] ]، وهذا صالح لنا، فأيما مؤمن عرف الطريق إلى الله وجلس مجلساً أخذ أهل المجلس يضحكون ويسخرون ينتقدون الحاكم أو الإمام أو العالم الفلاني، فيجب أن يغلق أذنيه ويخرج، ولا يحل له البقاء، وإن جلس ورضي بكلامهم فهو منهم، وإن استطاع أن يقول: هذا منكر لزمه ذلك، لكن في مكة من يقول: هذا منكر؟ أبو جهل يضحك ويسخر وتقول له: إن هذا منكر! سيجرك على الحصباء، لكن إن قدر لك وجلست مع المنافقين وأخذوا يسخرون من القرآن ويستهزئون به، فلا يحل لك أن تبقى في هذا المكان. وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا [الأنعام:68]، كيف يخوضون فيها؟ بالطعن والنقد، كأن يقولوا: لو كان كذا لكان كذا، فأعرض عنهم ولا تجلس إليهم حتى ينتهي ذاك الخوض ويتكلموا في شيء آخر أو في حديث غيره، وإن فرضنا أنه أنساك الشيطان هذا الأمر ثم تذكرته فعلى الفور اخرج.كان الحاج مسعود من أهل الحلقة رحمة الله عليه إذا دخل المواليد وهو لا يدري، لما يأخذون بالمدائح والقصائد يأخذ نعله ويخرج، لمَ يا مسعود؟ فيقول: أمرنا بألا نخوض في هذا الباطل.والآن تعرفون إخوانكم من عمال وموظفين يجلسون في احتفال ما ويخوضون في الطعن والنقد، فهل يجوز أن نبقى ونسكت؟ إما أن نغير المنكر وإما أن نخرج أو نكون قد شاركناهم في الباطل.قال: [ هذا الأدب أخذ الله تعالى به رسوله والمؤمنين وهم في مكة قبل الهجرة؛ لأن سورة الأنعام مكية، ولما هاجروا إلى المدينة وبدأ النفاق وأصبح للمنافقين مجالس خاصة ينتقدون فيها المؤمنين ويخوضون فيها في آيات الله تعالى استهزاء وسخرية، ذكر الله تعالى المؤمنين بما أنزل عليهم في مكة ]؛ لأن المدينة في العام الأول والثاني والثالث كان المنافقون فيها أكثر من المؤمنين، لكن أخذوا يقلون ويقلون، بل ما مات الرسول وفي المدينة منافق واحد، وإنما مات من مات، ومن لم يمت فقد أسلم وآمن ودخل في الإسلام.قال: [ قال: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، أي: إذا رضيتم بالجلوس معهم وهم يخوضون في آيات الله، مِثْلُهُمْ [النساء:140]، أي: في الإثم والجريمة والجزاء يوم القيامة، إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]، فهل ترضون أن تكونوا معهم في جهنم؟ وإن قلتم: لا ما نرضى، إذاً فلا تجالسوهم.
غش المنافقين للمؤمنين وحرصهم على المصالح المادية الدنيوية
ثم ذكر تعالى لهم وصفاً آخر للمنافقين يحمل على التنفير منهم والكراهية والبغض لهم، فقال تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ [النساء:141]، أي: ينتظرون بكم الدوائر ويتحينون الفرص، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ [النساء:141]، أي: نصر وغنيمة، قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [النساء:141]، فأشركونا معكم، وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ [النساء:141]، في النصر قالوا لهم: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ [النساء:141]؟ أي: نستولي عليكم، وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141]، أي: يقاتلوكم فأعطونا مما غنمتم، وهكذا المنافقون يمسكون العصا من الوسط، فأي جانب غلب كانوا معه، ألا لعنة الله على المنافقين، وما على المؤمنين إلا الصبر؛ لأن مشكلة المنافقين عويصة الحل، فالله يحكم بينهم يوم القيامة.أما الكافرون الظاهرون فلن يجعل الله لهم على المؤمنين سبيلاً، لا لاستئصالهم وإبادتهم، ولا لإذلالهم والتسلط عليهم ما داموا مؤمنين صادقين في إيمانهم، وهذا ما ختم الله تعالى به الآية الكريمة إذ قال: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]. ]، ووالله لو وجد في العالم الإسلامي بلد أسلم قلبه ووجهه لله، وأقام دين الله، والله لو كاده من على أقطارها ما زلزلوهم ولا استطاعوا أن يضلوهم أو أن يدخلوا ديارهم، وإن قلت كيف؟ أقول لك: خلال خمسة وعشرين سنة والعالم الإسلامي أصبح من وراء نهر السند إلى الأندلس، كيف تم هذا؟! ليس ذلك بطائراتهم وجيوشهم وما يملكون، وإنما فقط استقاموا على ولاية الله وكانوا أولياء الله فكان الله معهم.
هداية الآيات
قال المؤلف: [ هداية هذه الآيات: أولاً: حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ] فلا يحل لك أن تصاحب كافراً، ولا أن تحبه ويحبك، وتهديه ويهديك، وتترك المؤمنين فتبغضهم ولا تهاديهم ولا تعمل معهم، كما لا يحل لك أبداً أن يطلب نصرتك كافر على إخوانك المؤمنين فتمد يدك وتنصره على إخوانك المؤمنين، ومن فعل هذا والله ما هو بمؤمن، فهذا الرسول خرج معه رجل يقاتل معه، فقال له: أنا فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ارجع إنا لا نستنصر بكافر ).ويبقى سياسياً وشرعياً وذلك إذا تصالح وتعاهد المسلمون مع دولة كافرة؛ لأنهم رأوا ضعفهم وعجزهم وعدم قدرتهم على غزوها أو فتحها، واتفقوا على شروط معينة فهذا جائز، لكن الحب في القلب لا، أتحب عدو الله؟!ثم إذا اتفقنا مع هذه الدولة الكافرة كبريطانيا، وقاتلت بريطانيا دولة مسلمة، فإنه لا يجوز لنا أن نقاتل معهم ضد إخواننا المسلمين، إذ إن هذا يتنافى مع القرآن الكريم، لكن لو قاتلوا دولة كافرة فلا بأس أن نقاتل معهم إذا كان بيننا وبينهم اتفاقية على ذلك. قال: [ حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ]، فتترك المؤمنين ولا تواليهم ولا تنصرهم ولا تحبهم، وتنصر وتحب الكافرين!قال: [ ثانياً: الباعث للناس على اتخاذ الكافرين أولياء هو الرغبة في العزة ورفع المذلة وهذا باطل، فالعزة لله ولا تطلب منه تعالى إلا بالإيمان وصالح الأعمال ] واتباع منهج الحق.قال: [ ثالثاً: حرمة مجالسة أهل الباطل إذا كانوا يخوضون في آيات الله نقداً واستهزاء وسخرية.رابعاً: الرضا بالكفر كفر، والرضا بالإثم إثم ]، كيف الرضا بالإثم إثم؟ جماعة يلعبون القمار وأنت معهم، فهذا رضاً منك وأنت آثم مثلهم، أو جماعة يشربون الحشيش وأنت معهم، فهذا أيضاً راضاً منك وأنت آثم مثلهم، أو جماعة يسبون في الصالحين وفلان وفلان وتسكت فأنت راضي بذلك وأنت آثم، وهكذا الرضا بالكفر بالإجماع كفر، والرضا بالإثم صاحبه آثم.قال: [ خامساً: تكفل الله تعالى بعزة المؤمنين الصادقين ومنعتهم، فلا يسلّط عليهم أعداءه فيستأصلونهم أو يذلونهم ويتحكمون فيهم ] واسمعوا إلى رسول الله وهو يقول في هذه القضية -هذا الحديث الفيصل-: ( إني سألت ربي )، أي: طلبت من الله مولاي، ( ألا يهلكها -أي: أمته- بسنة عامة )، يعني: بقحط وجدب أو وباء، ( وألا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم )، أما من أنفسهم فقد أكل بعضهم بعضاً، ( فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً )، وهو معنى قوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، فهذا الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم سأل ربه تعالى ألا يسلط على أمته عدواً من غير أنفسهم، فيقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، وحينئذٍ استوجبوا نقمة الله تعالى.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
09-05-2021, 04:25 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (71)
الحلقة (294)
تفسير سورة النساء (74)


من صفات المنافقين الكذب والغدر والمخادعة، حتى إنهم لفرط جهلهم يحسبون أنهم عندما يظهرون الإيمان وينفقون في سبيل الله فإنهم بذلك يثبتون لله ولعباده المؤمنين صلاحهم وحسن حالهم، بينما هم في الحقيقة يخادعون أنفسهم ويغررون بها، فالله عز وجل محيط بهم، عالم بكذبهم ونفاقهم، ويظهر ذلك من قيامهم لصلاتهم، وحالهم عند ذكر ربهم، فهم حائرون ضائعون ليسوا إلى أهل الإيمان ولا إلى أهل الطغيان، ومصيرهم في الآخرة الدرك الأسفل من النيران.
تفسير قوله تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الإثنين من يوم الأحد ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا هذا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:142+144].
ذكر بعض صفات المنافقين
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من المخبر بهذا الخبر العظيم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]؟ أليس الله؟ بلى والله، فهذا كتابه وهذا رسوله أوحى إليه هذا الكتاب، ومن جملة آي هذا الكتاب هذه الآيات من سورة النساء، فاسمع إلى هذا الخبر العظيم، يقول الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]، ولعل بين المستمعين والمستمعات من لم يعرف حقيقة النفاق والمنافقين.فأولاً: المنافق هو الذي يبطن الكفر ويخفيه ويستره في صدره، ويظهر الإسلام بلسانه وعمله، وهو لا يؤمن بالله ولا بلقائه ولا بمحمد ورسالته ولا بتوحيد الله، ولكن اضطر إلى أن يظهر الإسلام خوفاً على نفسه وماله، وقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم ضوابط لأصحابه حتى يعرفوا المنافق من المؤمن صادق الإيمان، وهذه الضوابط منها قوله صلى الله عليه وسلم: ( آية المنافق ثلاث )، أي: علامة المنافق من المؤمن الصادق المميزة له والمفرقة له ثلاث آيات: الأولى: ( إذا حدث كذب )، أي: إذا حدث أخاً من إخوانه أو إنساناً من الناس قريباً أو بعيداً فإنه يكذب، ويتلذذ بالكذب وخاصة إذا حدث مؤمناً صادقاً، ثانياً: ( وإذا وعد أخلف )، أي: إذا قال نلتقي ساعة كذا في مكان كذا فإنه يتأخر ولا يحضر، بل ويتلذذ بحضورك أنت هناك في الحر أو البرد؛ لأنه يرغب في أذيتك، فيعدك ثم يخلف وعده من أجل أن يؤذيك؛ لأنك ضده وعدوه، ثالثاً: ( وإذا أؤتمن خان )، أي: إذا ائتمنه إنسان على شيء ولو على كلمة فضلاً عن امرأة أو عن دينار أو درهم، فإنه يتلذذ بخيانتها؛ لأنه لا يؤمن بالله ولا يخاف الله، ولا يؤمن بالجزاء في الدار الآخرة، ويكره المؤمنين والمؤمنات.فيا رجال الإسلام خذوا هذا الضابط في نفوسكم فتستطيعون أن تعرفوا المنافقين من المؤمنين في مجتمعكم، لا بالسحر ولا بالضرب وبالعصا حتى يعترف، وإنما خذوا هذه الثلاث العلامات. مرة أخرى: ( آية المنافق )، أي: الدالة عليه، ( ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان )، ولنبرئ إلى الله جميعاً أن تكون فينا صفة من هذه الصفات.فأولاً: قد يحدث أحدنا ويكذب خطأً أو فهماً غير صحيح، لكن لا يتعمد الكذب، إذ لا يمكن أن يتعمد الكذب ويقصده ويقوله مؤمن بالله ولقائه.ثانياً: ( إذا وعد أخلف )، أي: إذا واعد أحدنا فيجب أن يفي، فإن عجز فلا حرج عليه، كأن واعدك اللقاء في مكان كذا فنسي، أو أنه نام وما استيقظ، أو حالت دون ذلك حوائل، أو يعدك بأن يعطيك كذا أو يأخذ منك كذا ثم ينسى أو يعجز، فهذا كله معفوٌ عنه؛ لعجزه ونسيانه، أما أن يعد ولا يفي وهو قادر على الوفاء، بل ويريد أن يؤذي هذا المؤمن فهذا هو المنافق، ولذا فلا ينبغي أن يوجد بين المؤمنين والمؤمنات من هذه صفاته.ثالثاً: ( إذا أؤتمن خان )، أي: إذا وِضع تحت يديك مال أو حيوان أو زرع أو امرأة أو أولاد يتامى، فيجب أن تحافظ على أمانتك، بل والله ترضى أن يضيع مالك ولا يضيع المال الذي هو أمانة عندك، وترضى أن تؤذى أنت في بدنك أو ولدك ولا ترضى أن يؤذى من أؤتمن عليه عندك وأنت المسئول عنه.فهل أنتم عازمون على صدق الحديث والوفاء بالوعد وحفظ الأمانة؟ نعم والله، فمن يوم أن قلنا: لا إله إلا الله ونحن هكذا، إذا وعدنا نفي، وإذا أؤتمنا لا نخن، وإذا حدثنا صدقنا، لكن إن وجدتم بين إخوانكم من على هذا المنهج السيئ فسببه أن إيمانه فيه شيء، إذ ما عرف الله ولا أحبه ولا خافه، ولا عرف ما عنده لأوليائه ولا ما لديه لأعدائه، وبالتالي كيف يخافه؟! عدنا من حيث بدأنا، إنه الجهل وظلمته.ويقول صلى الله عليه وسلم: ( أربع من كان فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق )، الثلاث الأولى والرابعة هي: ( وإذا خاصم فجر )، أي: إذا خاصم فإنه يخرج عن اللياقة والأدب والصدق والحق، وما يستقيم في مخاصمته، فيكذب ويزيد وينقص ويقول الباطل، ومعنى(فجر): أي: خرج عن الطريق وما استقام في خصامه، إذاً: يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من النفاق ومن أهله؛ لأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم.
بيان كيفية مخادعة المنافقين لله تعالى
وهذا كتاب الله عز وجل بين أيدينا، فهيا نسمع عن الله ما قال في المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ [النساء:142]، كيف يخادعون الله؟ يظهرون الإيمان والإسلام ويقولون: لا إله إلا الله، وإذا دعوا إلى المال أنفقوا، وإلى الجهاد خرجوا، فهذا خداع لله، ويظنون أن الله لا يعلم عنهم شيئاً، وهو تعالى: خَادِعُهُمْ [النساء:142]، ولذا لم يفضحهم، إذ لو شاء لأنزل: يا أيها الذين آمنوا إن عبد الله بن أبي وفلان وفلان -بأسمائهم- منافقون، فيفضحهم ويقتلون، ولكن يسترهم، وبالتالي فيظنون أن الله لا يعرف عنهم أو لا يقدر على فضحهم أو على تسليط الرسول عليهم، وهذا معنى خداع الله لهم.
من صفات المنافقين: القيام للصلاة بكسل
وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ [النساء:142]، أي: المفروضة، فإنهم يقومون كُسَالَى [النساء:142]؛ لأنهم لا يريدون أن يصلوا، إذ إنهم يقولون: لا فائدة من الصلاة! ولا لوم فهم ما آمنوا بلقاء الله وما عند الله، وهذه هي محنة وعلة الكفر وظلمة النفس.
من صفات المنافقين: مراءات الناس بأعمالهم
يُرَاءُونَ [النساء:142]، إذ لو أنهم يعرفون أن جارهم لا يطلع عليهم فإنهم لا يصلون، لكن من أجل أن يروا الناس أنهم يصلون، ولهذا فإن أثقل صلاة عليهم هي صلاة العشاء والصبح، فيكربون ويحزنون، فالعشاء وقت راحة واستجمام من الحرث أو الزراعة أو غيرها من الأعمال، وبالتالي فيشق عليهم أن يخرجوا متوضئين في الظلام، لكن لو أن هناك كهرباء فإنهم سيعرفون.إذاً: ما هو الحل؟ يخرج من يخرج منهم في أشد الألم، فيصليها وهي ثقيلة عليه كالجيل، والصبح كذلك، فيأتي المسجد في الظلام والناس نيام، لكن يخافون أن يتعهدهم المؤمنون: أين فلان؟ لمَ لم يحضر الليلة؟ هل صلى معنا؟ فهم يصلون لا لله وإنما للدفع عن أنفسهم المعرة والمذمة. يُرَاءُونَ النَّاسَ [النساء:142]، ما المراد بالناس؟ المؤمنون المسلمون حقاً، فالمنافقون يراءون بصلاتهم وبأعمالهم كلها؛ حتى يستروا على أنفسهم نفاقهم وكفرهم.ومن هنا معاشر المستمعين والمستمعات! الرياء شرك، والرياء يعني: مراءاتك الناس عبادة الله لتدفع عنك المعرة والمذمة، أو لتكتسب حمداً وثناء، أو لتدفع عنك البلاء والعذاب، فهذه العبادة باطلة وصاحبها في النار، ولذلك فاعبد الله بأي نوع من العبادات ولا تلتفت إلى أحد، بل لا هم لك إلا الله، سواء كان رباطاً أو جهاداً أو إنفاقاً أو صياماً أو صلاة، لا تلتفت إلى مخلوق أبداً، والرسول يقول: ( إياكم والشرك الأصغر )، قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: ( الرياء )، يحسن أحدنا صلاته ويزينها من أجل أن يقال: فلان صلاته حسنة. فاحذروا الرياء أيها المؤمنون! والآية واضحة في ذلك: يُرَاءُونَ النَّاسَ [النساء:142]؛ لأنهم ما عرفوا الله ولا عرفوا ما عنده ولا أحبوه ولا خافوه، وبالتالي فماذا يصنعون بهذه الصلاة؟ يروها الناس ليحمدوهم، أو حتى لا يذموهم أو يكفروهم، ولذا فلنعمل على تطهير قلوبنا من هذه الشركيات.
من صفات المنافقين: قلة ذكر الله تعالى
وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، فمثلاً في الصلاة ما يقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، وإن ذكر فمرة واحدة في الركوع والسجود، أما خارج الصلاة فلا يذكرون الله أبداً، إذ كيف يذكرونه وهم لا يحبونه ولا يخافونه بل وما عرفوه؟! ما يريدون أن يعلموا أبداً، أما المؤمنون فلا يراءون في عبادتهم غير الله تعالى، ويذكرون الله كثيراً.روى مالك في الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان صلاة المنافقين أنه قال: ( تلك صلاة المنافقين، ثلاث مرات )، وبينها فقال: ( يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان )، أي: ما يصلي العصر وإنما يأكل يضحك يلعب مع أولاده حتى إذا كادت الشمس أن تغرب أو تقع على قرني الشيطان، أي: أن الشيطان يصور نفسه كأنه كبش أو ثور ويحمل الشمس على رأسه، وقد زين الشيطان للناس عبادة الشمس من دون الله تعالى، وبعيني هاتين قد رأينا عابداً للشمس في الهند وهو واقف يعبد الشمس حتى غربت، ثم أخذ يسعى كما نسعى بين الصفا والمروة!والشاهد عندنا في قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في رواية مالك: ( يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان أو على قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلا )، أي: نقر أربعاً كما ينقر الديك الحبَّ.وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود )، أي: لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها المصلي صلبه وهو راكع أو ساجد، أما أن يقول: الله أكبر، الله أكبر فهي باطلة، وهذه قد تورط بها بلايين المسلمين والجهال، وخاصة قبل هذه الدعوة الإصلاحية الجديدة، فقد كانت الصلاة تؤدى بسرعة عجيبة، وليس فيها طمأنينة ولا خشوع؛ لأنهم ما عرفوا الله تعالى، والآن وبعد أن جدت هذه الصورة فلا بأس بها، وسببها هي المعرفة، فعند جماعة التبليغ الصلاة ذات الخشوع، فعلموا الناس كيف يخشعون في الصلاة.إذاً: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، في الصلاة أقل ما تسبح في الركوع تقول: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، وفي السجود سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات، وإن رفعت قلت: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وهذا أدناه، وإن جلست بين السجدتين قلت: ربي اغفر لي وارحمني وعافني واهديني وارزقني، أما الله أكبر الله أكبر فتدخل في سلك المنافقين والعياذ بالله.

يتبع

ابوالوليد المسلم
09-05-2021, 04:25 AM
تفسير قوله تعالى: (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ...)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:143]. مُذَبْذَبِينَ [النساء:143]، أي: مرة مع المسلمين ومرة مع الكافرين، فإذا رأوا المسلمين قد انتصروا كانوا معهم، وإذا رأوا الكافرين قد انتصروا كانوا معهم، فهم يمسكون العصا من الوسط، إن كان في الإسلام خير قالوا: نحن مع المسلمين، وإن كان هناك في الإسلام عذاب أو عقاب أو حرمان قالوا: نحن مع الكافرين، وعلة ذلك هو الكفر، إذ إنهم ما عرفوا الله ولا آمنوا به، ولهذا فهم في حيرتهم.والرسول صلى الله عليه وسلم قد ضرب لهم مثلاً يصف به حال المنافقين في تذبذبهم وحيرتهم، فقد جاء في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل المنافق كمثل الشاة العائرة -أي: المترددة بين قطيعين من الغنم- تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى )، ونحن ما نعرف ذلك، والذي يعرفه هم أصحاب الغنم، فالشاة العائرة ما تستقر، وإنما مرة هنا ومرة هناك، مرة مع هذا القطيع، ومرة مع ذاك القطيع، وكذلك المنافق فيوم مع المؤمنين، أو عام مع المؤمنين وعام مع الكافرين، فإذا رأوا الخير في الإسلام وأهله انضموا إلى المؤمنين، وإذا رأوا القحط والجدب والفقر انضموا إلى الكافرين، فنبرأ إلى الله من النفاق.والنفاق أشد من الكفر، قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، فأولاً: لأنهم كفار، ثم زيادة على كفرهم نفاقهم وكذبهم وتضليلهم وأذيتهم للمسلمين.مرة أخرى اسمعوا الآيتين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ [النساء:142]، ما لهم يا رب؟ أخبرنا عنهم؟! قال: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142]، أي: نشطين؟ لا والله، وإنما قَامُوا كُسَالَى [النساء:142]؛ لأنهم غير مؤمنين بالله ولقائه وما عند الله وما لديه، فكيف يقومون نشطين وهم لا يحبون الله ولا يعرفونه؟ إن أكثر بل عامة المسلمين الجهلة من العرب والعجم الذين ما يحسنون صلاتهم ولا يذكرون الله، علة ذلك والله جهلهم، وهذه هي الحقيقة، فما داموا أنهم آمنوا إذاً فإنهم يصلون حتى يقال: صلوا وكفى. يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ [النساء:142-143]، بين من؟ بين المؤمنين والكافرين، وذلك حسب المصلحة، كالشاة العائرة، فمرة مع هذا القطيع ومرة مع ذاك القطيع، فتبحث عن الطعام، فأنى وجدته استقرت.وأخيراً: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:143]، أي: إلى هدايته، فمن أضله الله والله ما وجدت له أبداً من يهديه ولا يهتدي، ولهذا يجب أن نخاف من الله أن يضلنا، فمن هم الذين تعرضوا لإضلال الله تعالى لهم؟ الذين تعمدوا الكفر والنفاق، فهؤلاء إذا مضت سنة الله فيهم فلن تهديهم أنت ولن تستطيع؛ لأنهم مكروا بالله ورسوله والمؤمنين، وهذا تحذير من أن يتعرض العبد لإضلال الله له، فإن من أضله الله لا يهتدي، جاء في قراءة سبعية: ( إن الله لا يُهدى من يضل )، وقال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النحل:37].وقد بينا لنا الحبيب صلى الله عليه وسلم عوامل الإضلال وهي: أن العبد إذا عرف معصية الله وتعمد فعلها ثم نهي فأبى أن ينتهي، كأن ذُكِّر فأبى أن يذكر، ووعظ فأبى أن يتعظ، وإنما واصل الجريمة بعد الجريمة، وذلك عاماً بعد عام، فإنه يصل إلى وقت يصبح إذا قلت له: اتق الله يسخر منك، فهذا لن يهديه الله؛ لأنه قد انتهى أمره، والرسول قد ضرب لذلك مثلاً فقال: ( إذا أذنب العبد ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو تاب واستغفر صقلت )، أي: مسحت وزال أثرها، فإن هو لم يتب ولم يستغفر ولم يندم ولم يقلع، وإنما زاد ذنباً آخر نكتت في قلبه نكتة أخرى، وهكذا حتى يغطى القلب كله، وذالكم هو الران الذي قال الله تعالى فيه: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، فلهذا التوبة تجب على الفور، فإياك أن تقول كما يقول الغافلون: غداً سأتوب، أو إذا جاء أبي سأتوب، أو إذا تزوجت سأتوب، أو حتى أفعل كذا، بل إذا زلت القدم ووقعت في معصية الله فعلى الفور استغفر الله وتب إليه وذرف الدموع، فينمحي ذلك الأثر كله، أما أن ترضى بالتأجيل فيخشى أن ساعة تأتي لا تقبل فيها توبتك.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ...)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]. شكا إلي أحد المستمعين وهو من أهل العلم فقال: إن بعض المستمعين تحيروا بالأمس وقالوا ما لا ينبغي أن يقال؛ لسوء فهمهم عفا الله عنا وعنهم، أما الشيخ فقد بين في صدق، وبينا غير ما مرة: أن الولاء والبراء يتغنى بهما إخواننا وما فقهوا ولا فهموا معنى الولاء والبراء، لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، فما معنى يوآدونهم؟ أي: يحبونهم، إذ المودة تعني الحب.وقلنا: لا يعقل أبداً أن يوجد قلب فيه الإيمان بالله وما عند الله، ويحب كافراً مشركاً مجوسياً يهودياً نصرانياً بقلبه كما يحب أمه وأباه، وذلك لنفي الله تعالى حيث قال: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [المجادلة:22]، حق الإيمان، أما الجهلة فيتخبطون، يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]، ولو كان أقرب قريب، والآية واضحة في ذلك. فمن صفات المؤمنين: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، وقد فسرنا الولاء بأنه الحب والنصرة، فالمؤمن يحب كل مؤمن ومؤمنة، والمؤمنة تحب كل مؤمنة ومؤمن، فما معنى الحب؟ الحب ضد الكره والبغض، فالذين يكرهون المؤمنين ويبغضونهم ما هم بالمؤمنين كما أخبر الله تعالى. وأما النصرة فإذا استغاثك أخوك المؤمن والكافر يضربه أو يعذبه أو يسلبه ماله فيجب أن تنصره، فإن أنت أحببت الكافر وأعطيته قلبك ووقفت إلى جنبه تنصره على المؤمنين، فوالله ما أنت بالمؤمن، وهذه هي الحقيقة.ويبقى ما بيناه واضطرب على السامعين فنقول: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد عقد معاهدة بينه وبين المشركين لمدة عشر سنوات؟ ثم أليس المشركون أولئك هم كفار بمعنى الكلمة؟ إي والله، إذ ليسوا أهل كتاب، وإنما عبدة أصنام، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الشروط ونفذها، حتى ذاك الذي جاء هارباً إلى الرسول فرده عليهم، فهذه المعاهدة بين المسلمين والكافرين إذا كانت لصالح الإسلام والمسلمين فإنها تجوز، ولا يقول قائل: هذه مودة للكافرين!أيضاً صالح الرسول صلى الله عليه وسلم أهل فدك وأهل وادي القرى، وبالتالي فأيما دولة إسلامية تقيم دين الله واضطرت للظروف والأحوال قوة وضعفاً على أن تعقد مصالحة أو معاهدة بينها وبين دولة كافرة لتدفع خطرها عنها، فإن ذلك جائز قد أذن الله تعالى لها في ذلك؛ حماية للمؤمنين ودينهم وأحوالهم، ويجب أن نفي أيضاً بتلك المعاهدة، فلا نخون أبداً، وإذا فرضنا أن نعلن الحرب عليهم فنعلمهم بذلك. إذاً: فاليهود أو النصارى أو غيرهم من الأعداء إذا اضطر أهل إقليم إلى معاهدتهم دفعاً لشرهم وإبعاداً لخطرهم، فليس هناك مسلم يقول: لا يجوز ذلك! وقد عرف الإسلام ذلك، لكن ما فهموا، وأنا على هذا الكرسي من أربعين سنة أو ثلاث وأربعين سنة وأنا أقول: آه، لو عرف المسلمون وبخاصة العرب لتصالحوا مع اليهود صلحاً مؤقتاً حتى لا يتركوا إخوانهم شاردين هاربين في كل مكان يشحتون لهم، فإذا اضطررتم إلى قسمة تلك الأرض فاقسموا وارضوا بالقسمة؛ لأنكم مقهورون أذلاء في العالم، وبذلك تحفظون شرف إخوانكم وحالهم، والذي يسمع هذا الكلمة يكفر الشيخ! بل ويقول: أي علم هذا؟ أي فقه هذا؟ والله لو تم قبول ذلك القسم وربيَ المسلمون الفلسطينيون تربية ربانية إسلامية، وكانت دولة القرآن هناك لاستولوا على أوروبا لا على إسرائيل فقط.والشاهد عندنا: لما كانت حرب الخليج وهي مؤامرة مظلمة المراد منها أو الهدف منها والله العظيم إطفاء نور الله العظيم، وإنهاء كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقد نسج خيوطها ووضع أسلاكها جماعات الماسونيه والتنصير المسيحية، وأرادوا أن يطفئوا هذه الأنوار، ويمزقوا راية لا إله إلا الله محمداً رسول الله، ولولا أن الله عز وجل دفعهم لتحقق مرادهم والعياذ بالله، فقد مكثوا أربعة أيام وهم واقفون بمدافعهم وطائراتهم من الجنوب ومن الشرق والغرب والشمال، ولكن الله أبى، ثم جاءت قوات الكفر، لمَ؟ قلنا لهم: هتلر النازي لما علا وارتفع واحتل فرنسا في نصف شهر، وبسط يده على شرق أوروبا في أيام، تألب عليه الكفر كله من روسيا شرقاً إلى أمريكا غرباً، ثم إن هتلر ألماني، وألمانيا مخ أوروبا، فيحترمون الألماني كما يحترمون الصالحين، فما بالوا به ودخلوا دياره ومزقوها وقسموها وأنالوهم البلاء والشقاء، والجهاد العربي يتعنتر ويرفع صوته: الآن نملأ الأرض بالجثث، الآن نحرقهم، فزحفوا لأجل تأديبه، وقالوا: السعودية هي التي أتت بالكفار، وقلنا لهم: والله الذي لا إله غيره ليجوز للمؤمن أن يستعين بالكافر إن احتاج إلى ذلك، لا أنه يستعين به ليقتل المسلمين، بل ليدفع به الكافرين، ووقع المسلمون وخاصة طلبة العلم في ورطة عمياء بلا بصيرة ولا معرفة.فلهذا خلاصة القول: إذا اضطرت دولة إسلامية سواء السعودية أو سوريا أو المغرب أو أي دولة فلها أن تعقد معاهدة مع دولة أخرى لتدفع خطرها وشرها عنها، على شرط أن تكون المعاهدة على أساس معين، لا على أساس أن نعبد معهم الصليب، أو يعبدون معنا، وإنما فقط لدفع الخطر إذا لاحت لنا مقدماته، وهذه المعاهدات جائزة، بل واجبة إذا خفنا أن هذه الديار ستهلك وتؤكل، بل يجب أن نستعين بالكافرين في ذلك.ويبقى لا بد من معرفة الولاء والبراء، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، فيمَ؟ في الحب والنصرة، أما أن نحب الكافرين بقلوبنا كما نحب أنفسنا وإخواننا فهذا يتنافى مع الإيمان، بل لا يوجد مؤمن حقيقي ويدخل حب كافرة أو عاهرة في نفسه، فقد يظاهر له الحب وما يقول: إني أبغضك، إذ ليس شرطاً، ولكن القلب موكول إلى الله عز وجل.وهنا لطيفة أخرى في سورة الأنفال وهي: أنه إذا كان بيننا وبين الكفار معاهدة، وإخواننا المسلمون حاربوا أولئك الكافرين، فلا يجوز لنا أن نقف إلى جنب إخواننا المسلمين، وذلك بحكم المعاهدة التي بيننا وبينهم، قال تعالى موضحاً ذلك: إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [الأنفال:72]، فالإسلام إذا وثق موثقاً أو وثيقة ما يهزأ ويسخر بها، بل ولا يحلها. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:144]، فتتركون المؤمنين ولا توالونهم ولا تصاحبوهم ولا تستعينوا بهم، وإنما تتخذون الكافرين أولياء لكم فتفتحون قلوبكم لهم، فهذا لن يثبت معه إيمان حقيقي. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:144]، فتتركون المؤمنين ولا توالونهم وإنما توالون الكافرين، وهذا العمل ليس بسليم ولا بصحيح، ثم الآن ماذا نقول؟ أين المسلمون؟ ممزقون مشتتون مطاردون.ثم قال تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا [النساء:144]، أي: أتريدون أن تسلطوا الله عليكم بسلطان وحجة قوية وهي أن يسلط الكافرين عليكم، وما سلط الله الكافرين على المسلمين قروناً عديدة إلا لأنهم كما قال تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا [النساء:144]، أي: واضحاً بيناً بأن يسلط عليكم الكافرين، وقد فعل، فقد استعمرت بلاد العالم الإسلامي من اندونيسيا إلى موريتانيا، وما نجا منها شبر إلا هذه البقعة؛ لأن فيها بيت الله ورسول الله.هذا والله تعالى أسأل أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا منا ينفعنا، وأن يلهمنا أن نسأل أهل الذكر إن كنا لا نعلم؛ حتى لا نتورط في الضلال. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
09-05-2021, 04:26 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (72)
الحلقة (295)
تفسير سورة النساء (75)


إن موالاة الكافرين ونصرتهم على المؤمنين لهو علامة بارزة من علامات النفاق، وقد بين الله عز وجل ما أعده في الآخرة للمنافقين، حيث جعل منزلهم في الدرك الأسفل من النار، فمن تاب منهم وأناب واعتصم بحبل الله وأخلص دينه له ووالى عباده المؤمنين فإن الله يتوب عليه ويؤتيه من لدنه أجراً عظيماً؛ لأن الله عز وجل القاهر فوق عباده لا حاجة له بعذابهم إن آمنوا وشكروا، فهو سبحانه الشاكر العليم.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله القرآن العظيم؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا هذا الرجاء، إنك ولينا وولي المؤمنين.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الأربع، والآية الأولى قد درسناها بإجمال في الليلة السالفة، وتلاوة الآيات الأربع بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء:144-147].هيا نكرر تلاوة الآيات ونتدبر؛ لأننا مأمورون بأن نفهم مراد الله من كلامه، بل لا بد وأن نحاول أن نفهم ما يريده الله منا، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء:144-147].
مناداة الله تعالى لعباده بعنوان الإيمان
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:144]، هذا نداء الله لنا معشر المؤمنين والمؤمنات! فالحمد لله، رب السموات والأرض، ورب العرش العظيم، ومن بيده كل شيء، ينادينا؟! الله أكبر، كيف فزنا بهذا الكمال حتى أصبحنا أهلاً لأن ينادينا الله؟! أما تذوقون المعنى الحقيقي لذلك؟ نضرب لكم مثلاً: لو أن الرئيس ناداك: أي فلان! فهل تفرح أم لا؟ أحسبك تنتفش ونغتر بذلك، فكيف بملك الملوك؟ برب السموات والأرض، ورب كل شيء؟! أما نفرح ونفتخر؟ فلبيك اللهم لبيك وسعديك، والخير بيديك، والشر ليس إليك.والذي شرفنا الله به حتى نادانا هو الإيمان بالله والتصديق الجازم بوجوده تعالى رباً وإلهاً، فلا رب غيره ولا إله سواه، كذلك والإيمان بأن محمداً رسول الله ونبي الله وخاتم الأنبياء، والإيمان بلقاء الله في الدار الآخرة، والإيمان بالملائكة والكتب وبكل ما أمرنا الله أن نؤمن به، ومن هنا جاء الشرف، ومن هنا جاء شرفنا وأصبحنا أهلاً لأن ينادينا رب العالمين؛ لأن الإيمان كما عرفتم صاحبه حي يسمع ويبصر ويعقل وينطق ويأخذ ويعطي.وأما الكافر فاقد الإيمان فهو في عداد الموتى، فهل تكلم ميتاً؟! قف على قبر وناد: يا عمر! يا عمر! افعل كذا، هل يسمع دعاءك؟ لا والله، ومن هنا تقرر عندنا يقيناً أن الإيمان بمثابة الروح، فمن آمن فهو حي، وأصبح أهلاً لأن يكلف بالأمر والنهي، ومن كفر فهو ميت، فهل تكلف ميتاً بأن يقوم فيتوضأ، أو أن تأمره بالصوم؟! لا والله، والدليل الشرعي العلمي المنطقي: أن أهل الذمة من أهل الكتاب تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله في دولة القرآن، لا يكلفون بصيام رمضان ولا بالصلاة، فإن قيل: كيف وهم مواطنون؟ قلنا: وإن كانوا مواطنين، فلا يكلفون بالصيام ولا بالصلاة، فإذا مر صاحب الهيئة، أي: الآمر بالمعروف وقال للذمي: صل! يقول له: أنا مسيحي، أنا يهودي، فهم أموات غير أحياء وما يشعرون، فهل عرفتم هذه الحقيقة أم لا؟كما أن هذا أيضاً يتوقف على كون الإيمان الذي حواه القلب هو الإيمان الصحيح الذي أراده الله تعالى من عباده وطالبهم به، لا مجرد إيمان مهزوز مدخول فيه الباطل، إذ صاحبه مريض يقوى على أن يقول مرة ويعجز مرة فلا يستطيع أن يقول، ويقدر على أن يفعل يوماً ويوماً آخر ما يستطيع، ولهذا يجب على المؤمنين أن يصححوا إيمانهم بالله تعالى.
الغرض من مناداة الله للمؤمنين
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:144]، من يجيب نداء الله؟ المؤمنون فقط، ولماذا ناداهم؟ قد تعلمنا وبينا للمؤمنين والمؤمنات: أن الله تعالى منزه عن اللهو واللعب، وأنه إذا نادى عباده فلا بد وأن ينادي لغرض سامٍ وشريف، وقد وجدنا بالتتبع أن نداءات الرحمن لأوليائه تسعون نداء، وتتبعناها فما وجدنا نداءً إلا ليأمرنا تعالى بما يعزنا ويسعدنا ويكملنا في الدارين، أو ينادينا لينهانا عما يشقينا ويذلنا ويخزينا في الدنيا والآخرة، أو نادانا ليبشرنا فتنشرح صدورنا وتطمئن نفوسنا ونثبت في مسيرتنا إلى دار السلام، أو ينادينا لينذرنا وليحذرنا من مواقف إذا لم نتنبه لها نسقط والعياذ بالله، أو يحذرنا من مواقف صاحبها لا ينجو إن وقع فيها، أو ينادينا ليعلمنا ما نحن في حاجة إلى معرفته. وقد جمعت هذه النداءات كلها ودرسناها هنا في بيت الله في ظرف ثلاثة أشهر أو يزيد، ووزع منها الآلاف، والآن وقف توزيعها؛ لأننا ما عملنا بما فيها، إذ لو انتفع بها المؤمنون لانتشرت في العالم الإسلامي بكامله؛ لأنها نداءات الله تعالى، أيناديك سيدك ولا تسمع؟! أيناديك سيدك ويطلب منك وتقول: لا؟ أأنت أقوى منه؟ أيناديك وينهاك وتقول: بل نفعل؟ مستحيل هذا لمن عرف سيده.كما قلنا: يجب أن يكون هذا الكتاب في بيت كل مسلم، بله يوجد في كل فنادق العالم، إذ اليهودي كالمسيحي كلاهما يعرف أن له رباً وإلهاً ينبغي أن يسمع منه، ويرى ما يطلب إليه وما يريده منه، والفنادق كلها كل سرير عنده كتاب مترجم بلغته العامة والخاصة، فهل فعل المسلمون هذا؟ والجواب: لا، لم؟ لأننا ميتون، وصدق الشاعر إذ يقول: لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:144]، ينهانا ربنا فيقول: لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:144]، والكافرون جمع كافر، والكافر هو الجاحد لوجود الله رباً وإلهاً، ولرسالة محمد صلى الله عليه وسلم للعالمين، وللقاء الله والبعث الآخر، ولدار النعيم أو دار الشقاء.الكافر هو الذي لا يعترف بوجود الله رباً وإلهاً، ولا بالقرآن كتاب الله الحاوي لشرعه وما يريده من عباده، والكافر برسوله وما جاء به، والكافر بالبعث الآخر والدار الآخرة، والكافر بملائكة الله، فهذا الكافر ميت لا يُنادى، وهذا الكافر الذي يحذر الله عباده المؤمنين من أن يتخذوه ولياً لهم من دون المؤمنين.وعلى سبيل المثال القريب: يوجد في قريتكم بعض المسيحيين أو اليهود أو الكفار، فهل يجوز لك أن تتخذ كافراً ولياً تحبه وتهاديه وتجلس معه وتكره المؤمنين وتبتعد عنهم؟! وهل هذا الفعل دل على إيمان أو على كفر؟ والله على كفر؛ لأن الكافر ميت، فهل تنتفع بالميت؟! الميت لا ينفعك، وأيضاً الكافر يبغضه ربك ويكرهه، وأنت تحب من يكره سيدك؟! أيعقل هذا؟ مولاك وسيدك يكره فلان وأنت تحبه؟ قد أعلنت الحرب على الله وخرجت عن طاعته، وشيء آخر: أن هذا الكافر وسخ، فماذا تستفيد منه؟ هو لا يذكر الله تعالى، ولا يصلي على نبيه، ولا يعرف حلالاً ولا حراماً، ولا أدباً ولا أخلاقاً، فكيف إذاً تواليه؟! قد تنصبغ بصبغته وتصبح مثله والعياذ بالله، ولكن الموالاة الكبرى هي أن يتخذ المؤمنون كفاراً يوالونهم ويحبونهم ويقاتلون معهم إخوانهم المؤمنين، وهذا قد حدث في ظروف أيام الأندلس، فقد انقسم المسلمون وتفرقوا وأخذوا يستعينون بالكافرين على إخوانهم المؤمنين! ومن ثم هبط العالم الإسلامي.
الوعيد الشديد لمن اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين
قال تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]، فيا من يوالون الكافرين فيحبونهم وينصرونهم ويطلعونهم على أسرارهم، ويجلسونهم في ديارهم وبين إخوانهم، والمؤمنون بعيدون لا يحبونهم ولا يساعدونهم ولا ينصرونهم ولا يقفون إلى جنبهم، فهؤلاء يهددهم الرب تعالى بقوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا [النساء:144]، أي: سلطاناً واضحاً وحجة قوية؛ ليسلطهم عليكم أو ينزل بكم بلاءه وعذابه، فلا إله إلا الله إن هذا الاستفهام عجيب! أَتُرِيدُونَ [النساء:144]، يا من يوالون الكافرين ويعادون المؤمنين، يا من يحبون الكافرين ويكرهون المؤمنين، يا من يقفون إلى صفوف الكافرين ويخلون صفوف المؤمنين، يهددهم الرب تعالى فيقول: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا [النساء:144]، أي: حجة قاطعة بتعذيبكم وتدميركم وتسليط الكافرين عليكم، وقد فعل، أما حكمنا الشرق والغرب وأذلونا؟ من سلط بريطانيا على ممالك الهند فداستها برجليها؟ من سلط فرنسا على شمال إفريقيا فأذلوهم؟ حتى هولندا العجوز، ثلاثة عشر مليوناً من الكافرين يسودون مائة مليون من إندونيسيا. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]، بأن يسلط عليكم الكافرين فيذلونكم، وما أنتم بالسامعين، بل ما زلتم مستمرين على موالاة الكافرين ومعاداة المؤمنين، فهذا القرآن كلام الله لا زلتم تقرءونه على الموتى! فهل ينفع ذلك؟! اجلس على القبر واقرأ له شيئاً من القرآن هل يستمع أو ينتفع؟! ومرة أخرى أقول: الموالاة هي أنك تحب الكافر وتنصره على أخيك المؤمن، فتحبه بقلبك والله يكرهه، وأولياء الله يكرهونه وأنت تحبه لمنفعة مادية أو وسخ دنيوي، ثم تنصره على إخوانك المؤمنين! فإذا أنت استجبت لله وتركت وقلت: آمنا بالله، انتهينا، نجوت وفزت، وإن أصررت فالله عز وجل سيسلط ذلك الكافر وأهله عليك.

يتبع

ابوالوليد المسلم
09-05-2021, 04:27 AM
تفسير قوله تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ...)
قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]. إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، وفي قراءة سبعية أيضاً: (في الدَرَك الأسفل) بالفتح.والمنافق هو من يبطن الكفر ويخفيه من التكذيب لله ولرسوله، وإنكار كتابه ولقائه، ويظهر الإيمان والإسلام، فيصلي ويتصدق ليحفظ دمه وماله بيننا، ما صدَّق بأن محمداً رسول الله، ما آمن بأن الله لا إله إلا هو ولا رب سواه، ولكن للضرورة مادام أنه يعيش بين المؤمنين وتحت رايتهم فلابد وأن يصلي وأن يصوم وأن يجاهد معهم، فهذا هو المنافق.وقد وضع لنا النبي صلى الله عليه وسلم ضوابط وعلامات لنعرف المنافق من المؤمن، فأولاً: إذا جربت المرء ووجدته كلما حدثك كذب عليك، مرة أولى وثانية وثالثة، بل طول العام، كلما أخبرك بشيء يكذب عليك؛ لأنه يريد عناءك وتعبك ومشقتك، فهذا منافق، وثانياً: كلما تعده ويعدك، كأن تلتقي به في مكان كذا، فيخلفك ولا يأتي؛ لأنه يريد أن يؤذيك، أو تعده أن تلتقي به في الساعة الواحدة ليلاً فلا يأتي، إذ هو نائم مع زوجته ويضحك ويقول: دع ذلك الكلب يقف في البرد! ويتلذذ بذلك، وكل ذلك لأجل النكاية بك وتعذيبك لأنه يكرهك، فهذا والله منافق أيضاً، إذ المؤمن لا يقوى على هذا، وثالثاً: إذا ائتمنته على شيء فقد يخونك، كأن تسافر وتأمنه على دكان، فترجع من سفرك فيقول لك: قد خسرنا، ما استفدنا شيئاً، وهو في الحقيقة تلذذ بالمال وأخذه، أو أمنته على بستان فخانك فيه، أو أمنته على زوجتك عند سفرك، وعند عودتك أخبرتك زوجتك أنه اعتدى عليها وأراد أن يؤذيها؛ لأنه يتلذذ بذلك، فهو يريد أن يؤذي المؤمنين، وهذا والله لمنافق، فهل فهمتم هذه التعاليم وهذه الضوابط التي جاء بها أُستاذ الحكمة ومعلمها: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129].وهكذا آية المنافق الدالة عليه، والكاشفة عنه، والمعرفة به، ثلاث: ( إذا حدث كذب )، لماذا يكذب؟ لأنه يتلذذ بالكذب عليك؛ لأنك مؤمن وهو يكرهك ويبغضك، وهو يوالي الكافرين ويتصل بهم من أجل تدميرك وتخريبك، وهذه هي طبيعته، سواء كان عربياً أو عجمياً، ( وإذا واعد أخلف )، ما هي مرة في العام أو مرة في الشهر، وإنما هذا دأبه ومهمته، ( وإذا اؤتمن )، حتى على سر من الأسرار، أو كلمة تقول له: لا يسمعها أحد، فيفشيها ويتلذذ بها.وأما الذين يقولون: إن النفاق عملي وعقائدي فلا قيمة لهذا، إذ الرسول ما قسم هذا التقسيم، وإنما فقط نقول: إذا كان المؤمن مضطراً إلى أن يكذب مرة في العام، أو في عشر سنوات، فجائز ذلك، إذ ليس هو بمعصوم، ثم يستغفر ويندم، أيضاً جائز أن يعدك ويعجز أن يوفي، وهذا قد يحدث مرة في العام أو في العمر كله، ثم يتوب إلى الله ويستغفر، كذلك إذا ائتمنته فمن الجائز أن تغره الدنيا ويأخذ الفلوس التي وضعتها عنده، ويقول لك: ما عندي لك شيء، فهذا قد يحدث مرة أو مرتين في حياته، أما أنه يتعمد هذا طول حياته والله ما هو بمؤمن، وإنما هو منافق والعياذ بالله، فهل فهمتم هذه الحقيقة أم لا؟ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، والنار هي عالم الشقاوة والخسران، وهل في هذا العالم دركات واحدة تحت وحدة؟ إي نعم، فكما أن الجنة درجات فوقية، وما بين الدرجة والدرجة كما بين الشمس والقمر، وبين الأرض والسماء، فكذلك النار دركات سفلية، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.قال القرطبي في تفسيره: الدرَك -بالإسكان والفتح- بالفتح قراءة نافع، وبالإسكان قراءة حفص، والنار سبع دركات، دركة تحت دركة، كدرجة تحت درجة في العلو، يقال فيما تعالى وارتفع: درجة -تحليل لغوي- وفيما هبط ونزل: دركة، والدركات هي كالتالي: جنهم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية.فأولاً: جهنم، والثانية: لظى، قال تعالى في سورة المعارج: كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج:15-16]، ثم الحطمة، قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ [الهمزة:5]، وهذه تحطم، ثم السعير، قال تعالى: لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك:5]، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:9].وورد أن ثلاثة في الدرك الأسفل وهم: الأول: المنافقون، والثاني: الذين طالبوا عيسى بأن ينزل الله تعالى عليهم مائدة من السماء، تكون عيداً لهم، ثم بعد ذلك كفروا بعيسى، وحاربوا دين الله، فهؤلاء يعذبهم الله عذاباً لا يعذب أحداً مثله، قال تعالى: قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:115] ، والثالث: آل فرعون؛ لقول الله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، أي: أقساه، وتعرفون أن فرعون ذبح وصلب الكثير من الناس، بل قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وهذه ما قالها حتى زعيم موسكو الشيوعية، وقال مرة: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، ولهذا من وافقه وسار في ركابه فهم معه في أشد العذاب. إذاً: عرفنا أن لجهنم سبع دركات، والجنة ما عرفنا، إلا أننا قد عرفنا أن لها ثمانية أبواب، قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، فمستحيل أبداً أن تجد من ينصرهم عند الله تعالى.
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله...)
قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:146].ثم قال تعالى وهو الرحمن الرحيم: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النساء:146]، نافقوا عاماً أو عامين أو عشرة، ثم رجعوا إلى الحق، فآمنوا بالله ولقائه ورسوله وكتابه، وأصلحوا ما أفسدوه، واعتصموا بالله، ونفضوا أيديهم من الكفار، وبعدوا عنهم، وأخلصوا دينهم لله، ولم يلتفتوا فيه إلى غير الله، فهؤلاء ماذا؟ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:146]، الذين ما نافقوا، ولكن إذا أدوا هذه المطلوبات فهم مع المؤمنين، تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ [النساء:146]، جميعاً، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:146].والمؤمنون ماذا لهم حتى يكونوا معهم؟ قال تعالى: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:146]، كم ملياراً؟ كم من دولاراً؟ إنه أجر عظيم، ألا الجنة دار السلام، لا الأجر بالإبل ولا بالدينار وبالدرهم، وإنما وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:146]، والعظيم إذا استعظم الشيء كيف يكون؟ اللهم اجعلنا منهم.
تفسير قوله تعالى: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ...)
قال تعالى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء:147]. مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء:147]، هل الله في حاجة إلى عبادتكم وصلاتكم؟! هل الله في حاجة إلى ذكركم وشكركم؟! لا والله.إذاً: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ [النساء:147]، هل الله محتاج إلى أن يعذبكم؟ هل إذا ما عذبكم يسقط عرشه؟! سبحان الله! مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء:147]، أي: شكرتم الله بذكره وطاعته، وآمنتم به وبلقائه. مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء:147]، وإليكم مثال الشكر من الله: بغي زانية في بني إسرائيل مرت بكلب عطشان يأكل الثرى من شدة العطش، فأخذت موقها الذي في رجلها، ودلته في بئر واستخرجت به الماء وسقت الكلب الظمآن، فشكر الله لها وغفر لها، ولذا فما من مؤمن ولا مؤمنة يعمل شيئاً لله ومن أجل الله، إلا شكر الله له ذلك، وأعطاه ورفعه أو كفر سيئاته وغفر ذنوبه؛ لأنه غني كريم، وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء:147].واسمعوا إلى الآيات مرة أخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء:144-147]، لا شيء، وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء:147]، فإذا شكرت اطمئن إلى أن الله قد علم شكرك وسيجزيك به أعظم الجزاء.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
الآن نقرأ الآيات من الشرح لتزدادوا معرفة.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ ما زال السياق في إرشاد الله تعالى المؤمنين إلى ما يعزهم ويكملهم ويسعدهم، ففي هذه الآية الأولى: يناديهم تعالى بعنوان الإيمان، وهو الروح الذي به الحياة، وينهاهم عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فيقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:144]، ومعنى اتخاذهم أولياء: موادتهم ومناصرتهم والثقة فيهم والركون إليهم والتعاون معهم، ولما كان الأمر ذا خطورة كاملة عليهم هددهم تعالى بقوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]، فيتخلى عنكم، ويسلط عليكم أعداءه الكافرين فيستأصلوكم، أو يقهروكم ويستذلوكم ويتحكموا فيكم ] وقد فعل.قال: [ ثم حذرهم من النفاق أن يتسرب إلى قلوبهم فأسمعهم حكمه العادل في المنافقين الذين هم رءوس الفتنة بينهم فقال: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، فأسفل طبقة في جهنم هي مأوى المنافقين يوم القيامة، ولن يوجد لهم وليٌ ولا نصير أبداً.ثم رحمة بعباده تبارك وتعالى يفتح باب التوبة للمنافقين على مصراعيه، ويقوله لهم: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النساء:146] أي: إلى ربهم فآمنوا به وبرسوله حق الإيمان، وَأَصْلَحُوا [النساء:146]، أعمالهم، وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ [النساء:146]، ونفضوا أيديهم من أيدي الكافرين، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ [النساء:146]، فلم يبقوا يراءون أحداً بأعمالهم، فأولئك الذين ارتفعوا إلى هذا المستوى من الكمال هم مع المؤمنين جزاؤهم واحد، وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:146]، وهو كرامة الدنيا وسعادة الآخرة.وأخيراً في الآية: بعد ذلك يقرر تعالى غناه المطلق عن خلقه وتنزهه عن الرغبة في حب الانتقام، فإن عبده مهما جنى وأساء وكفر وظلم، إذا تاب وأصلح فآمن وشكر، لا يعذبه أدنى عذاب، إذ لا حاجة به إلى تعذيب عباده، فقال عز وجل وهو يخاطب عباده: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء:147]، لا يضيع المعروف عنده، لقد شكر لبغي سقيها كلباً عطشان، فغفر لها وأدخلها الجنة ].هكذا يدرس القرآن أو يقرأ على الموتى؟ أسألكم بالله: لو أن أهل كل قرية في العالم الإسلامي، وأهل كل حي يجتمعون على كتاب ربهم، وذلك كل ليلة طول العام، هل يبقى فيهم جاهل أو جاهلة؟ لا والله، وإذا انتفى الجهل هل يبقى فاسق أو فاسقة، ظالم أو ظالمة، بخيل أو بخيلة؟ والله ما يبقى، إذ إن هذه سنة الله تعالى، وإذا طهروا وكملوا يسودهم الغرب أو الشرق؟! والله ما كان ولن يكون، لكن العدو عرف أن هذا القرآن هو الحياة فقال: أعطوه للأموات، فمن إندونيسيا إلى موريتانيا إذا سمعت من يقرأ القرآن في البيت فاعلم أن هناك ميتاً، فكيف يقرءون على الموتى؟! مجانين؟ وهل الميت يقوم فيتوضأ ويصلي؟ أو هل الميت يمد يده إلى جيبه ليساعدك؟ إذاً كيف تقرأ القرآن على الميت؟ آه، إنه مكر العدو بهم، ثم هل رأيتم جماعة يجلسون فيدرسون آية من آيات الله تعالى؟ ما رأينا.
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات ] وانظر ماذا يُستخرج من هذه الهدايات من أنوار؟ قال [ أولاً: حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ]، وقد دلت عليه الآية دلالة قطعية، فلا يحل لمؤمن أن يتخذ الكافرين أولياء ويترك المؤمنين.قال: [ ثانياً: إذا عصى المؤمنون ربهم فاتخذوا الكافرين أولياء سلط الله عليهم أعداءهم فساموهم الخسف ] وأذاقوهم مر العذاب، وقد حصل ذلك.قال: [ ثالثاً: التوبة تجب ما قبلها -أي: تقطعه- حتى إن التائب من ذنبه كمن لا ذنب له -سواء- ومهما كان الذنب ]، حتى ولو كان كفراً ونفاقاً.قال: [ رابعاً: لا يعذب الله تعالى المؤمن الشاكر لا في الدنيا ولا في الآخرة، فالإيمان والشكر أمان للإنسان ]، والكفر وعدم الشكر سبب في البلاء والشقاء للإنسان.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
12-05-2021, 04:47 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (74)
الحلقة (296)
تفسير سورة النساء (77)


يخبر الله عز وجل عباده المؤمنين أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، وبما أن عباده المؤمنين هم أولياؤه فيجب عليهم أن يحبوا ما يحب سبحانه، وأن يكرهوا ما يكره؛ لأن من شروط الولاية الموافقة وعدم المخالفة، فالجهر بالسوء إنما ينم عن فساد أخلاق وضعة نفس، إلا أن الله استثنى من ذلك من كان مظلوماً، إذ له أن يجهر بمظلمته بين يدي الحاكم ليرفع عنه الظلم.
فضل طلب العلم الشرعي وأثره على المجتمع المسلم
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، والسكينة مشاهدة، فأصغ بسمعك واسمع مع إخوانك الساعة والساعة والنصف، فلا ضجيج ولا كلام ولا شغب ولا نصب، وإنما كلنا ساكنون، لكن لو كنا في مقهى أو في مجلس من مجالسنا كيف تكون الأصوات والضجيج؟ لا سكينة، وكذلك الرحمة قد غشيتنا، وذلك حتى ينتهي المجلس فلا يظهر لك مظهراً من مظاهر العذاب، فلا كذب ولا سرقة ولا خيانة ولا شقاء ولا سب ولا شتم، أيضاً الملائكة لو كنا نقدر على رؤيتهم لرأيناهم والله يحفون بالحلقة، وذكْر الله تعالى لنا بين ملائكته أفضل العطايا وأسمى الكمالات، وكل هذا نحصل عليه ونظفر به ونفوز به من أجل أننا نجلس في بيته تعالى، فنتلو آية أو آيات من كتابه، ونتدارسها لنعرف مراد الله منها، فإن كان يأمرنا بشيء فعلناه، وإن كان ينهانا عن شيء تركناه، وإن كان يعلمنا تعلمنا وشكرناه هذا على العلم.وهذه هي الحلقة المفقودة في سلسلة حياة المسلمين، إذ لو دقت الساعة السادسة مساءً فتوضئوا ولبسوا أحسن ثيابهم، ثم حملوا أطفالهم ونساءهم وأتوا مسجد ربهم في القرية أو في الحي، في السهول أو في الجبال، فيجلسون بعد صلاة المغرب كجلوسنا هذا، ويجلس لهم مربٍ بالكتاب والسنة، ويدرسون ليلة آية من كتاب الله، وليلة سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون ويعملون، ويوماً بعد يوم، وهكذا طول العام وطول العمر، والله ما يبقى جاهلٌ ولا جاهلة، وإذا انتفى الجهل انتفى الباطل وانتفى الشر وانتفى الظلم وانتفى الخبث وانتفى الشقاء وانتفى البلاء، بل انتفى كل خسران في هذه الحياة.لعل الشيخ واهم! جربوا يا عباد الله! كيف كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحفادهم خلال ثلاثمائة سنة؟ هل كانت لهم مدارس وكليات وجامعات؟ لا، وإنما كانوا يجلسون في بيوت الله فيتلقون الكتاب والحكمة، ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله -ماذا يفعلون؟- يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم )، فهل رأيتم عالماً بحق زان أو فاجر أو ظالم أو سارق أو كاذب أو سفاك للدماء؟ لن يكون هذا، وما شذ وندر فلا حكم له، وإنما الفسق والفجور والخيانة والكذب كلها ثمار الجهل، فالذي ما عرف الله ولا عرف ما عنده وما لديه كيف يستقيم؟ هي يستقيم بالعصا والحديد والنار؟ ما يستقيم، إن البوليس والشرط قد ملئوا الدنيا، ومع ذلك تجد السرقات والتلصص والإجرام، فهل نفعت العصا؟ لا والله.واسمعوا إلى دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يبنيان الكعبة البيت العتيق: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، فقوله: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ [البقرة:129]، أي: في أولاد إسماعيل، رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، يعرف لغتهم ويعرفون لغته، لكن ماذا يفعل فيهم؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، وقد فعل الله ذلك وامتنّ علينا بذلك فقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، فهل يمكننا أن نكمل ونسمو ونطهر ونصفو بدون أن نتعلم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ مستحيل! وقوله: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ [الجمعة:2]، أي: يزكي أنفسهم ويطهرها بما يرشدهم إليه وينبههم عليه ويدعوهم إلى فعله أو إلى تركه.فما المانع يا معاشر المؤمنين أن نعمل ذلك؟! ما المانع إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل، فصاحب الدكان أغلقه، وصاحب المصنع أوقف الآلات وأغلقه، وصاحب المتجر كذلك، فيتوضئون ويتنظفون ويذهبون إلى بيت الرب تبارك وتعالى، سواء كان مبنياً من حجارة أو من خشب أو من طين، فيجلس النساء وراء الستارة، والأطفال دونهن، والفحول من أمثالكم أمامهن، وآية في الليلة تقرأ وتحفظ وتشرح وتُبين، وسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أخرى، ويعزم كل مؤمن ومؤمنة على أن يطيع الله فيما أمر أو فيما نهى.فإن قيل: يا شيخ! هذه ما تطاق، وهذا لسان الحال يقول هذا، فأقول: لماذا لا نقتدي بأهل الكفر في ذلك؟ أهل الكفر إذا دقت الساعة السادسة مساء وقف العمل، وذهبوا إلى المراقص والملاهي؛ لأنهم بهائهم وحيوانات لا عقل ولا ضمير ولا فهم، فهم قد فقدوا الصلة بالملكوت الأعلى، ونحن لمَ ما نأتي بيوت الله مع غروب الشمس لنصلي العشاءين، وما سألناه شيئاً إلا أعطانا، ولا استعذناه من شيء إلا أعاذنا؛ لأننا حققنا ولايته لنا؟! وهنا ما عرفنا ما هو الجواب؟ فليبقى الجهل مخيماً على قلوبنا، نساءً ورجالاً، فلا نرى الله ولا نرى آياته ولا نرى شيئاً من صفاته.وأذكر لطيفة هنا وهي: لما نمشي في حر الشمس فإننا نحجبها عنا بكف واحدة، مع أن الشمس أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، لكن مع ذلك بكف واحدة فقط أستطيع أن أحجبها فلا أراها ولا تضرني، إذاً فزلة واحدة فقط تحجب العبد عن رؤية الله تعالى، مع أن آيات الله تعالى ترى في كل ذرة، فكيف لا تعرفه؟ كل الكائنات شاهدة بأنها مخلوقة والله خالقها، وبأنها مدبرة والله مدبرها، ولذا فأينما تكونوا أنتم ترون الله عز وجل، أي: في آياته ومخلوقاته، وكلمة كفر أو شرك تحجب الإنسان فلا يعرف الله ولا يذكره ولا يفكر فيه.إذاً: فبلغوا إخوانكم في القرى والمدن بأن نجتمع في بيوت ربنا فنصلي المغرب ونبقى حتى العشاء، فنتعلم الكتاب والحكمة، ونحن على ذلك الحال تصلي علينا الملائكة فيقولون: اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم.
تفسير قوله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ...)

شرط الولاية موافقة الله تعالى وعدم مخالفته
والآن مع هذه الآيات القرآنية الكريمة من سورة النساء المدنية، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا * إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء:148-149]. لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، أرجو أن تحفظوا هذه الجملة وتعيشوا على نورها، إذ ما هي بصعبة أبداً، فتقولها في بيتك وبين أولادك وفي كل مكان، فإذا تكلم الولد أو البنت بكلمة سوء فقل لهم: يا أبنائي: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ [النساء:148]، فكيف تجهرون به؟! لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ [النساء:148]، يا أولياء الله! إن ربكم لا يحب الجهر بالسوء من القول فلا تحبوا الجهر بالسوء من القول، يا أولياء الله! مولاك وسيدك وإلهك وربك الرحيم بك أكثر من نفسك لا يحب الجهر بالسوء وأنت تحبه؟! أعوذ بالله، انقطعت صلتك بالله، إذاً ما هي ولاية الله تعالى؟ موافقته في محابه ومكارهه، أتريد أن تكون ولي الله؟ أحبب ما يحب واكره ما يكره، وإن أحببت ما يكره وكرهت ما يحب فأنت والله عدوه، إذ إن ولاية الله تعني الموافقة، فإذا وافقته فأنت وليه وهو وليك، وإن عاكسته وخالفته فأنت عدوه وهو عدوك. لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ [النساء:148]، وهذه الجملة أبلغ وأعظم من قول القائل: لا تجهروا بالسوء، أو يا أيها الذين آمنوا حرمت عليكم الجهر بالسوء، فإذا كان ربي لا يحب هذا فكيف نفعله؟! إن ولاية الله تعني أن تحب ما يحب وتكره ما يكره، وعداوة الله أن تحب ما يكره وتكره ما يحب.
معنى السوء
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ [النساء:148]، والجهر معروف، وهو رفع الصوت بحيث يسمع كلامك غيرك، وأما السوء فهو ما يسوء من قيل فيه كذا وكذا، أو فعل به كذا وكذا، وهو ضد الحسن، وبالتالي فالسب والشتم والتعيير والاستهزاء والسخرية والتكبر على المؤمنين والكذب والغش والخداع والباطل، كل هذا سوء، فيسوءك في نفسك فيصيبها بالظلمة النتن والعفن، وهو سيئات.
مشروعية الجهر بالسوء من القول إلا لمن ظلم
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، فإذا ظلمت ووقفت أمام الحاكم فلك أن تقول:: سبني فقال في كذا وكذا، أو شتمني فقال فِيّ كذا وكذا، أو قد تقول مثلاً: زنى بامرأتي، إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، فالمظلوم يذكر الظلم الذي وقع عليه أمام القضاء، بل ويجهر به، إذ كيف يعرف الحاكم والقاضي مظلمته؟! إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، فإن له أن يجهر بالسوء الذي قيل فيه أو عومل به.
سبب نزول قوله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ...)
قد ورد أن هذه الآية نزلت في صاحب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه نزل ضيفاً على أناس فأبوا أن يضيفوه، وبات جائعاً، فشكاهم وقال: بنو فلان نزلت عندهم ضيفاً فلم يضيفوني، فعتبوا عليه، وقالوا له: كيف تذكر هذا السوء وتسيء إلى إخوانك وتقول: ما ضيفوني؟! فنزلت هذه الآية علاجاً لمشكلته، فقال تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، وضيافة الضيف ليلة واحدة واجبة، ولذلك ما من مؤمن يأتيه أخوه ويقول: ضيفني هذه الليلة، إلا ووجب عليه وجوباً أن يضيفه، لاسيما في ذلك الزمن الذي ليس فيه مطاعم ولا فنادق، وإنما العائلة في القرية أو المدينة تطبخ لنفسها وتطعم وتُطعم، فإذا جاءك أخوك فقال: ضيفني هذه الليلة، فأنا قد جئت من بلد كذا، فيجب أن تضيفه تلك الليلة، ولو أن تجوع ويشبع هو، ودليل ذلك كما ذكرنا أن هذا المؤمن نزل ضيفاً على جماعة فما أضافوه، فشكاهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعتبوا عليه لمَ تقول هذا وتجهر بهذا السوء؟ فنزل قول الله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، أي: له أنه يجهر به كما علمتم، فيقول في المحكمة أو في أي مكان: قال في كذا وكذا، أو سبني بكذا وكذا، أو شتمني بكذا وكذا.
يتبع

ابوالوليد المسلم
12-05-2021, 04:48 AM
سعة علم الله وإحاطته الشاملة بكل شيء
وَكَانَ اللَّهُ [النساء:148]، وما زال، سَمِيعًا [النساء:148]، لأقوالكم، عَلِيمًا [النساء:148]، بأفعالكم، وإن أسررتم القول وإن أخفيتم العمل فالعوالم كلها بين يديه، لا يخفى عليه من أمر الخليقة شيء، وإن قلتم كيف هذا؟ قلنا: أما قال تعالى عن نفسه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]؟ فهل يخفى شيء على من هذا شأنه والعالم كلها كالنملة بين يديه ظاهره كباطنه؟ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا [النساء:148] فاحذروا أن يسمع ربكم السوء تنطقون به، أو تأتون وتفعلون المنكر، فإنه سميع لكل الأقوال، عليم بكل الأعمال، فربوا هذه في نفوسكم. لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء:148]، معاشر المستمعين والمستمعات! احذروا أن يسمع الله منكم كلمة سوء تقولها لامرأتك أو لولدك أو لجارك أو لخادمك أو لأي واحد، أو ما تستطيعون؟ والله لتستطيعون، فأنا ما أذكر في حياتي التي تجاوزت سبعين سنة، وخاصة عند مناهزتي البلوغ أن ذكرت كلمة سوء أبداً، ومن قال: قد سمعتها منك يا شيخ فليأت إليَّ، فلا سببت ولا شتمت ولا عيرت ولا قبحت أحداً قط، وأنا أقول هذا لتفهموا أن هذا ليس بمستحيل، وإنما عود نفسك فقط، فخذها بذكر الله عز وجل ومراقبته، ولو كان تعالى يعلم أننا ما نستطيع ألا نجهر بالسوء ما يعلمنا أنه لا يحبه حتى نحن لا نحبه. لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ [النساء:148]، فمن أحب الجهر بالسوء فقد عادى الله تعالى، إذ الولاية تعني الموافقة، فإن وافقتني في محابي ومكارهي فأنت وليي، وإن عاكستني وخالفتني، كأن أحب هذا وأنت تكره هذا، فكيف نتوالى؟ ومن أين يأتي الولاء؟ ولذا لابد يا أبناء الإسلام! أن تحبوا كل ما يحب الله حتى النظرة، ولذلك أيما شيء يبلغنا أن الله يحبه فيجب أن نحبه، وأيما شيء يبلغنا أن ربنا يكرهه فيجب أن نكرهه بقلوبنا، وبذلك تثبت ولايتنا لربنا، ونصبح مع ذلك البيان: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، يتقون ماذا؟ الحيات والعقارب؟ اللصوص والمجرمين؟ يتقون ما يغضب ربهم، فلا يعتقدون ولا يقولون، ولا يفعلون شيئاً علموا أن الله كرهه وحرمه على أوليائه، بل وطول حياتهم وهم يتقون. لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء:148]، فالمظلوم يذكر مظلمته، كأن يقول أمام الحاكم أو القاضي: قال لي: يا خنزير، أو قال لي: يا ديوث، وذلك لما يقول الحاكم: ماذا قال لك؟ فيقول: سبني، فيقول القاضي: ماذا قال لك؟ فهل يقول: لا أقول؟! إذاً: ما سبك، وبالتالي فلابد وأن تقول: قال لي كذا وكذا، وهنا قد جهرت بالسوء، لكن قد أذن لي ربي فيه. لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء:148]، فاحذروه وخافوه وراقبوه، ولا تفهموا أنكم وحدكم، إن شئتم سببتم وإن شئتم شكرتم، فإن الله يسمع أقوالكم ويرى أعمالكم ووجودكم.
تفسير قوله تعالى: (إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء...)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء:149]. ‏
علم الله الشامل لكل ما يفعله العبد أو يخفيه
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا [النساء:149]، أي: تعلنوه وتظهروه، أَوْ تُخْفُوهُ [النساء:149]، أي: تستروه، فالله عز وجل يعلمه ويثيبكم على ذلك ويجزكم، إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا [النساء:149]، ما الخير يا عباد الله؟ الخير ضد الشر، والخير ما يحسن والشر ما يسيء، والخير ما يُكسب الحسن، والشر ما يُكسب الأذى.إذاً: هذه نعمة الله للمؤمنين، فيخبرنا ويقول: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا [النساء:149]، أي: تعلنوه وتظهروه، سواء كان صلاة أو صياماً أو صدقة أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر، وأظهرت ذلك أو فعلتموه سراً، فإن الله تعالى يعلمه.
استحباب العفو عن المؤمن إذا بدا منه سوء
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ [النساء:149]، ما معنى: نعفو عن السوء؟ أساء إليَّ جاري، أو أخي فلان، فإننا نعفو عنه، فلا نرد السيئة بالسيئة، ولا الشتمة بأختها، ولا الضربة بضربة، وإنما نعفو ونصفح، ونتلقى الجزاء من الله عز وجل.وهذا الحبيب صلى الله عليه وسلم -من لا يحبه ما هو بالمؤمن، وهو كافر، ويكذب إن ادعى أنه مؤمن- يقول في الصحيح: ( ما نقص مال من صدقة )، فتتصدق من مالك الذي في جيبك أو في خزينتك أو في بستانك أو في بيتك، اعلم أن تلك الصدقة ما ينقص منها المال أبداً، وهذا وعد الله على لسان رسوله، وأبين لكم فأقول: إذا كان عندك ألف ريال فتصدقت بخمسين، فأنت تراها أنها قد نقصت، وهي في الحقيقة والله ما نقصت؛ لأن هذا الباقي ينفعك الله به أكثر من تلك الخمسين الريال لو بقيت، والله عز وجل يبارك لك ذلك الباقي فيصبح أفضل من ألفين بدل الألف، ( ولا زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً )، أي: ما من عبد يعفو عن مؤمن لوجه الله تعالى إلا أعزه الله، فإذا سبك فلان أو شتمك أو عيرك، فأنت تقول: سامحته، اتركوه ولا تردوا عليه، فإن هذا التنازل هو العفو، والله يرفعك به ويزيدك في عزتك وكمالك. لكن لو أنك رددت عليه فسببته فماذا استفدت؟ لا شيء، وإنما قابلن سوءاً بسوء، لكن لو أنك عفوت عنه، فإنه سيصبح يحترمك ويهابك ويعزك، ويزيدك الله بذاك العفو عزاً؛ لأنك قادر على أن تضربه أو تأخذ منه، لكن تركته لله فالله عز وجل يعزك ولا يذلك ولا يهينك، فهكذا ينبغي أن يكون المجتمع القرآني المحمدي.قال: ( ومن تواضع لله رفعه الله )، أي: من تواضع لأجل الله لا كبر ولا رياء، وإنما لين وانقياد وابتسامة وكلمة طيبة، وإن كان من أشرافنا، وإن كان من أغنيائنا، وإن كان من حاكمينا، فذاك التواضع والله لا يزيده الله به إلا رفعة، ولا تفهم أنك إذا تواضعت تذل وتهون، لا أبداً، بل تعلو وترتفع. إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء:149]، عفواً يعاملك بالعفو فيعفو عنك إذا زلت قدمك وسقطت في هاوية، بل ولا يؤاخذك مقابل عفوك لفلان، ولذا إن عفوت لوجه الله تعالى عمن ظلمك كالزوجة أو الابن أو الأخ القريب أو البعيد أو جاهل أو كافر أو مؤمن، فالله عز وجل يعفو عنك بأكثر، أي: قد تتعرض لعذاب الله فيعفو عنك، أو تزل قدمك بمعصية فيذكر الله عفوك عن عبده فلاناً فيغفر لك. إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا [النساء:149]، والعفو هو الذي يقدر على العفو، هل يوجد واحد بيننا ما عفا الله عنه؟ لو كان الله يؤاخذنا بكل سيئة والله ما بقينا إلى اليوم، ونحن أولياؤه فيقول لنا: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، أي: وما أصابكم من مصيبة يا عباد الله! يا أولياء الله! بسبب ما كسبت أيديكم، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، إذ لو ما كان يعفو عن كل ذنب والله نعيش إلى هذه اللحظة، بل لانتهينا من زمان، فالحمد لله أنه عفو قدير، وما هو بعاجز على أن يعفو عن عباده.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
نعيد تفسير هاتين الآيتين: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء:148]، سميعاً لأقوال الخليقة وكلامها، وعليماً بظواهرها وبواطنها وأحوالها، فلهذا يجب أن نراقبه، فإذا أردنا أن نقول الكلمة ننظر: هل هي مما يحبه الله أو مما يكره؟ فإن قلت: هذا مما نهى الله عنه ويكرهه، والله لا نقولها، وإن قلت: هذه يحبها الله، إذاً قلها وارفع صوتك بها، أو أردت أن تمشي خطوات إلى مكان كذا، أو أردت أن تعمل عملاً معيناً، فانظر هل هذا العمل مما يحبه الله؟ فإن كان مما يحبه الله فافعله، وإن كان مما يكره الله فاتركه، وهذه هي المراقبة لله تعالى، وأهلها هم الفائزون. لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ [النساء:148]، ما السوء يا عباد الله؟ السوء كل كلمة تسوء إلى من تقولها فيه، أو كل عمل تعمله يتأذى به إنسان، فهذا هو السوء والله لا يحبه، فهيا نحن أيضاً لا نحبه، أو نريد أن نخالف ربنا؟ وهل إذا خالفناه نبقى أولياء له؟ أعداء.معشر المؤمنين والمؤمنات! ولاية الله تتحقق بالموافقة، أي: أن توافقه فيما يحبه فتحبه بحبه، وفيما يكرهه فتكرهه بكرهه، فتلك هي الولاية، وإن كانت الآية الكريمة تقول: أولياء الله هم المؤمنون المتقون، وغير المؤمن يحب ما يحب الله ويكره؟ ما عرف الله، لذا لابد من الإيمان أولاً، ثم يتقون ماذا؟ يتقون ما يكرهه الله فيتجنبوه.إذاً: فالولاية هي الموافقة لله تعالى، فوافق ربك فيما يحب وفيما يكره فأنت وليه، وإن أردت أن تعاكسه أو تخالفه فأنت عدوه والعياذ بالله. إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ [النساء:149]، ما الذي يحصل؟ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء:149]، يثيبكم ويعطيكم ويجزيكم على إحسانكم بما هو أفضل، ويعفو إن عفوتم أكثر مما عفوتم أنتم عن عبيده وأوليائه. لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ [النساء:148]، هل يجهر الإنسان بالفعل؟ ما أظن أن إنساناً يفعل الفاحشة في الشارع، وكما قد قلت لكم: إن هذا المؤمن نزل ضيفاً على جماعة فلم يضيفوه، فشكاهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له الناس: لمَ تشكوهم إلى رسول الله؟ وعتبوا عليه، فأنزل الله تعالى بأنه لا عتبا عليه أبداً، إذ له الحق في ذلك؛ لأنه مظلوم، وهو قد ذكر ما ظلموه به، ولذا أغلب ما يقال أو يجهر به هو القول، وأما الفعل فأكثره لا يجهر به.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف: [ يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء، ولازم هذا أن عباده المؤمنين يجب أن يكرهوا ما يكره ربهم، ويحبوا ما يحب ربهم، وهذا شرط الولاية وهي الموافقة وعدم المخالفة ]، أي: أن شرط الولاية هي أن تحب ما يحب الله وتكره ما يكره الله، فوافق ربك فأنت وليه، وإن خالفته فأنت عدوه.قال: [ ولما حرم تعالى على عباده الجهر بالسوء بأبلغ عبارة وأجمل أسلوب، استثنى المظلوم فإن له أن يجهر بمظلمته لدى الحاكم ليرفع عنه الظلم، فقال تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ [النساء:148]، وما زال سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء:148] ].قال: [ ألا ] ألو، وإخواننا الزوار لما يسمعوا: ألو، يقولون: لماذا نقول: ألو؟ والجواب: لأننا ألفنا (ألو) وأصبح الطفل الصغير يحبو فيأخذ التلفون ويقول: ألو، ألو، وكذلك المرأة، فأصبحت كلمة شائعة عندنا، وقد سأل بعضهم: (ألو) ما هي؟ فقالوا: ألو هكذا خلقت، أي: لم نعرف ما هي؟ هل هي بريطانية؟ هل هي فرنسية؟ هل هي أمريكية؟ هل هي صينية؟ لا هذا ولا ذاك، وإنما وجدت هكذا مع التلفون، ونظيرها (أي) في لغة العرب، فهي مرة مبنية، ومرة معربة، ومرة كذا، وقد سئل سيبويه: ما حال أي؟ فقال: أيٌ هكذا خلقت، ما عندي فيها شيء، وكذلك (ألو) هكذا وجدت، ونحن قد سبقناهم بألف وأربعمائة سنة، إذ إن كل جملة خبرية في كتاب الله أو في لسان رسول الله أو العارفين بلغة القرآن، تبدأ بكلمة (ألا) فمعناها: انتبه، هل أنت تسمع ما أقول لك؟ أما (ألو) فما فهمنا معناها. قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، قل يا رب! من هم أولياؤك؟ فيجيبك الله عز وجل بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:63-64]، أتدرون ما البشرى؟ قد فسرها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو تُرى له )، ولا فرق بين أن تراها أنت أو يراها فلان ويخبرك بها. وهناك بشرى أخرى أيضاً عند سكرات الموت، واسمعوا إلى قول الله تعالى من سورة فصلت ومن سورة الأحقاف: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت:30]، لا رب لنا سواه، ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، ما اعوجوا، وإنما استقاموا في مشيتهم إلى دار السلام، فلا ميل إلى اليمين بترك واجب، ولا إلى الشمال بفعل حرام، وإنما استقامة سليمة حتى جاء الموت، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، أخبرنا عنهم يا رب، قال: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30]، مواكب، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30]، وتقول لهم: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، وهذا والله قبل أن يلفظ أنفاسه ويفارق حياته، وهذا هو صاحب الروح الطاهرة الزكية النقية، الذي آمن واستقام، أما آمن واعوج وانحرف، فيوماً يترك واجباً، ويوماً يفعل حراماً، فما هو بأهل لهذه الكرامة، أي: ملائكة تحتفل بموته، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] بها في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله.قال: [ ألا فليُتق عز وجل فلا يعصى بفعل السوء ولا بقوله، ثم انتدب عباده المؤمنين إلى فعل الخير في السر أو العلن، وإلى العفو عن صاحب السوء، فقال: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء:149]، فسيكسب فاعل الخير خيراً أبداه أو أخفاه -على حد سواء- وسيعفو عن صاحب العفو حينما تزل قدمه فيجني بيده أو بلسانه ما يستوجب به المؤاخذة، فيشكر الله تعالى له عفوه السابق فيعفو عنه ]، أي: أنت عفوت عن زيد أو عمرو، أبشر بأن الله سيعفو عنك في يوم من الأيام.قال: [ فيشكر الله تعالى عفوه السابق فيعفو عنه: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء:149] ].ثم إن هذه الآيات فيها ثلاث هدايات، فإن قيل: يا شيخ! وهل الآية فيها هداية؟ والله لا تخلو آية من هداية إلا من عمي، والآية معناها العلامة، أي: العلامة على شيء، والقرآن فيه ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، وكل آية تدل دلالة قطعية على وجود الله ونبوة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن أراد أن يعرف أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فليأخذ آية من كتاب الله، وليسأل نفسه: من أنزل هذه الآية؟ من قالها؟ كلام من هي؟ لن تجد جواباً إلا إذا قال قائل: الله عز وجل.وإن قلت: هذه الآية على من نزلت؟ على أبي جهل؟! على عقبة بن معيط؟! على فرعون؟! على من؟ ليس هناك جواب إلا: على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: فوالله لهو رسول الله أرسله للناس جميعاً.وصلى الله على نبينا محمد.

ابوالوليد المسلم
12-05-2021, 04:50 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (75)
الحلقة (297)
تفسير سورة النساء (78)


بين الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم حال يهود وأنهم قوم بهت جاحدون، فلا يؤمنون لنبي من أنبياء الله بسبب تعنتهم وكثرة أسئلتهم ومطالبهم، وهم حين سألوا رسول الله أن ينزل عليهم كتاباً كاملاً فيه ذكر أسمائهم، ذكر الله له أن هذا سجية من سجاياهم، فهم قد سألوا موسى أكثر من ذلك، حيث سألوه أن يريهم ربهم جهرة، فعاقبهم الله على ذلك، ثم اتخذوا العجل وأشركوا بالله، ثم عاقبهم الله على ذلك، وهم مع ذلك يظهرون تمردهم في كل مرة بسبب خسة طباعهم ودناءة نفوسهم.
تفسير قوله تعالى: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هاتين الآيتين الكريمتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:153-154].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا كلام الله عز وجل موجه إلى مصطفاه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك ليعزيه بذلك ويسليه حتى لا يعجب من كفر اليهود به وبما جاء به، ولا يعجب من حربهم له وخداعهم وغشهم له، ومؤامراتهم على قتله، فإنهم أهل للخبث والشر والفساد، وهذه هي حالهم من عهد آبائهم وأجدادهم إلا من رحم الله تعالى.فتأملوا الآيات ونحن نتلوها مرة أخرى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:153-154].
سؤال أهل الكتاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء
معاشر المستمعين والمستمعات! قول ربنا جل ذكره: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ [النساء:153]، من المخاطب بهذه الآيات؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما المراد بأهل الكتاب؟ هذا اللفظ يشمل النصارى واليهود، لكنه هنا خاص باليهود، إذ هم أهل كتاب، كما نحن والحمد لله أهل أعظم كتاب على وجه الأرض، والمراد بكتابهم هو التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى حاوية للشرائع والقوانين والآداب، وما يتوقف عليه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ [النساء:153]، أي: يطلبون منك يا رسولنا، أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ [النساء:153]، وبالفعل فقد قالوا: لن نؤمن لك نبياً ورسولاً حتى يُنزل الله عليك كتاباً من السماء كاملاً جامعاً، وحينئذ تكون هذه آية نبوتك ورسالتك، وتكون أسماؤنا في ذلك الكتاب وما نطلبه، فعلقوا إيمانهم على مستحيل، ولو أنهم قالوا: لن نؤمن فقط فممكن، أما هذا الطلب فإنه أمر عجب، وكأنهم أوحوا إلى العرب المشركين بمثل هذا، إذ قال تعالى عن المشركين العرب: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء:90-92]، فقد كان أهل الكتاب من اليهود والنصارى يوحون إلى المشركين ويعلمونهم.كما أن المشركين قالوا: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان:32]، أي: لماذا ينزل آيات وسوراً؟ وهذه كلها من إيحاءات اليهود، أما العرب فقد اضطربوا أن يسألونهم بوصفهم أهل كتاب وعلم، فيقولون لهم: قولوا له كذا وكذا؛ لأن همَّ اليهود ألا ينتشر الإسلام، وليبقى الجهل حتى تظهر دولة بني إسرائيل.
سؤال أهل الكتاب لنبي الله موسى أن يريهم الله جهرة
ثم قال تعالى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء:153]، أي: أكبر من إنزال الكتاب، فقد سألوه وطلبوا منه أن يريهم الله جهرة بلا حجاب ولا واسطة، فيشاهدونه بأعينهم! هذه الأعين التي ما شاهدت الملائكة إلى جنبهم، فكيف تستطيع أن تشاهد الله عز وجل وتنظر إليه؟! وهذا لو كان كسؤال موسى لربه فلا بأس به، إذ موسى عليه السلام لما كلمه ربه وسمع كلامه في جبل الطور قال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، اشتاقت نفسه لرؤية الله وهو يسمع كلامه وهو بين يديه، فقال: رَبِّ [الأعراف:143]، أي: يا رب، أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، فأجابه الله تعالى بقوله: إنك لن تراني [الأعراف:143]، أي: لا تقدر على رؤيتي ولا تستطيعها، ولكن لتطمئن نفسك وتهدأ، انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143]، أي: جبل من جبال الطور، فتجلى الرب عز وجل للجبل فاندك وأصبح غباراً، وما إن رأى موسى الجبل وقد تحلل حتى صعق مغمىً عليه، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، ثم قال الله تعالى له: يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144].لكن سؤال اليهود ليس كسؤال موسى، وإنما أرادوا به التعجيز والتحدي، أي: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، أما بدون ما نرى الله بأعيننا فلا نصدقك بأنك رسول ولا نؤمن بك.
أخذ الصاعقة لبني إسرائيل عند سؤالهم لموسى أن يريهم الله جهرة
ثم قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء:153]، والصواعق معروفة، وتسمعونها وتشاهدونها مع البرق والأمطار، فهم اشترطوا للإيمان أن يروا الله تعالى، فأدبهم الله عز وجل بهذه الصاعقة، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، ثم رد الله تعالى إليهم حياتهم، وقد فعل الله بهم هذا بظلمهم، إذ (الباء) للسبب، أي: بسبب ظلمهم، فما هو ظلمهم؟ الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فأي ظلم أعظم من تقول: يا شيخ! إن كنت مؤمناً فاسأل الله أن ينزل المطر علينا الآن؟ فهم يسألون ويطلبون فقط من باب التحدي والعناد والمكابرة، وذلك حتى لا يذعنوا للإسلام ويدخلوا فيه، فهذا هو الظلم بعينه، ولذلك أخذهم الله به، ولو شاء لأماتهم وأراح الحياة منهم.
اتخاذ بني إسرائيل للعجل في غياب موسى عنهم
قال تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [النساء:153]، فهم قد خرجوا مع موسى عليه السلام إلى جبل الطور ليأتيهم بالدستور الذي يحكمهم به، وهذا قد تم لهم يوم أن خرجوا من الديار المصرية، وأغرق الله فرعون وجنده، ونجاهم مع موسى وأخيه هارون، واجتازوا البحر، ومن عجائبهم: أنهم في طريقهم وهم قرابة ستمائة ألف مروا بقرية من القرى، فوجدوا أهلها يعبدون عجلاً، أي: عاكفين عليه، فقالوا: يا موسى! اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:138-139]، فانظر إلى العجب! لما استقلوا من سلطان فرعون، وموسى وهارون يقودانهم، في الطريق مروا بهذه القرية فوجدوها مشركين عاكفين على صنم، فقالوا: اجعل لنا يا موسى إلهاً كما لهم آلهة! فأي عقول هذه؟! أكثر من أربعين سنة وموسى يحاور فرعون وهم يسمعون الحجج والبراهين، وأعظم حجة وأعظم برهان أنه شق بهم البحر فنجوا وأغرق الله فرعون وملأه وكانوا أكثر من مائة ألف مقاتل، ثم بعد هذا يقولون: اجعلنا لنا إلهاً كما لهم آلهة! قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]، وهو كذلك، إذ الجهل آفة عظيمة. ثم مشوا ونزلوا منزلاً فقال لهم موسى: أنا عندي موعد مع ربي بجبل الطور، وذلك لآتيكم بالدستور والقانون الذي أحكمكم به؛ لأنهم قد استقلوا، فقد كان فرعون يحكم وينفذ أحكامه، فلما استقلوا فلا بد من دستور، وهذه اللطيفة رددناها في هذا المسجد مئات المرات، وقد قلنا: أيام ما كان المسلمون يستقلون يوماً بعد يوم، وكل سنة أو سنتين يستقل الإقليم الفلاني من إندونيسيا إلى موريتانيا، ما هناك شعب أو إقليم استقل ثم طالب بدستور السماء وقانون الله لعباده، وإنما يأتون بدساتير وقوانين المشركين الكافرين، بينما موسى الكليم عليه السلام ما إن استقل بنو إسرائيل حتى قال: اجلسوا هنا، وأنت معهم يا هارون، وذلك حتى آتيكم بالدستور الذي أحكمكم به.
ما يلزم عباد الله المؤمنين عند تمكينهم في الأرض
وأزيد أمراً أو فضيحة: لما أخذنا نستقل من إندونيسيا إلى موريتانيا، كان عبد العزيز قد أسس هذه الدولة وأقامها على دستور الله عز وجل لعباده، وهذا الدستور هو في آية من كتاب الله فقط، لا ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، قال الله عز وجل في سورة الحج المدنية المكية: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]، بمعنى: استقلوا وحكموا، أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، فـعبد العزيز رحمة الله عليه ما إن حكم حتى أقام الصلاة كما أمر الله، أي: أقامها كما أمر الله إقامة حقيقية، فلم يبق مواطن لا يصلي، بل ولم يبق مواطن يمر بالمسجد والناس يصلون، أو دكاناً أو مقهى أو مصنعاً مفتوحاً والناس في الصلاة، وعندنا على هذا شواهد وهو أن كبار السن كانوا يقولون: كان أهل القرية يقرءون أسماء الذين صلوا في صلاة الصبح، فإن غاب أحدهم قالوا: ائتوه إلى بيته، فإن كان مريضاً عودوه، وإن كان غائباً احموا دياره، وإن كان الشيطان قد تمرد به أو عبث به فائتوا به.ومن لطائف الحديث ولا بأس أن نذكرها: أن الهيئة إذا أذن المؤذن تنتشر في الأسواق وفي الشوارع وفي الأزقة، فإذا ضبطت مدبراً عن المسجد معرضاً عنه فبالعصا ترده إلى المسجد، وقد يكون على غير وضوء، فشاع في بين أهل الحكايات وأهل البلاد: صلاة سعودية لا وضوء ولا نية! يعني: أن هذا الذي دفعته الهيئة للصلاة ليس متوضئاً ولا يريد أن يصلي، لكن يجب عليه أن يصلي.وعلى كلٍ أقام عبد العزيز ورجاله الصلاة، فكانت تقام كأنهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالغني كالفقير، والعالم كالجاهل، والبعيد كالقريب، ولم لا وهو عبد العزيز يحدثكم من عرفه، فقد كان يقوم الليل ويبكي ويتملق بين يدي الله طول حياته، فكيف لا يأمر بإقامة الصلاة؟!واسمع إلى علة وفائدة إقام الصلاة، إذ قال عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، أي: يأمر الله رسوله وأمته معه بإقامة الصلاة، لم يا الله؟ ما فائدة هذا يا رب؟ الجواب: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، والله العظيم! إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى [العنكبوت:45]، أي: صاحبها ومقيمها، عَنِ الْفَحْشَاءِ [العنكبوت:45]، وهو كل ما قبح واشتد قبحه من الاعتقاد الباطل والقول السيئ والعمل الفاسد، وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، والمنكر وهو كل ما يخالف رضا الله عز وجل.وقد كررنا هذا القول آلاف المرات وقلنا لهم، وأنا آسف أننا نتكلم وليس بيننا من يبلغ أبداً، فقلنا لهم: هيا نمشي إلى المحافظ في أي بلد إسلامي، وندخل عليه ونقول: يا سيادة المحافظ! أعطنا قائمة بأسماء المخالفين للقانون أو لنظام اليوم أو هذا الأسبوع، فهذا سرق وهذا ضرب فلاناً وهذا فعل كذا وكذا، وهم الآن في السجن، وقد أقسمت غير ما مرة، والذي نفسي بيده! لن يوجد بين أولئك المساجين المجرمين المخالفين نسبة أكثر من (5%) من مقيمي الصلاة، ومن عداهم فتاركون للصلاة، بل في أي بلد إسلامي ادخل إلى الحكومة واسألها: أعطونا قائمة بأسماء المخالفين للقانون، سواء بالخيانة أو بالخبث أو بالظلم أو بالشر، فلا نجد أكثر من (5%) من مقيمي الصلاة، وخمسة وتسعون إما تاركو الصلاة وإما مصلون، والله يقول: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، وبالتالي كيف يتحقق الأمن؟ كيف يتحقق الاطمئنان؟ لما تكون النفوس طاهرة زكية. وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، فكوَّن عبد العزيز رحمة الله عليه هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمرضى والمصابون بصداع الكفر يتألمون ويتقززون ويكرهون الهيئة كراهية عجيبة، وقد سمعنا هذا بآذاننا.مرة أخرى: يقول الله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]، وسادوا وحكموا، أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، وكالصلاة الزكاة، فلم يأمر بها إقليماً أمراً حقيقياً عند استقلاله، ولم تجبى الزكاة سواء كانت من الأموال الناطقة أو الصامتة، وإنما أعرضوا إعراضاً كاملاً عن الله وقانونه في عباده، بينما أقام عبد العزيز دولته وجلب الزكاة من الشعير والتمر والشاة والغنم والذهب والفضة، وكل ذلك استجابة لأمر الله وطاعة له.والشاهد عندنا: أننا أخذنا نستقل بلداً تلو البلد، وهم يسمعون ويشاهدون الأمن والطهر الذي تحقق في هذه الديار بعدما كانت جاهلية جهلاء، فقد كان الحاج يؤخذ ويسلب نقوده وهو في طريقه إلى مكة، والشجر والحجر يعبد بالباطل كسائر بلاد العرب والمسلمين في تلك الظلمة، فتحقق توحيد وطهر وأمن لم تكتحل به عين الدنيا إلا أيام القرون الثلاثة، وقد عرف هذا المسلمون، لكن للأسف لما يستقل القطر يأتون بدستور من فرنسا أو إيطاليا أو أسبانيا أو بريطانيا! لم؟! إن الذي سيسألون عنه يوم القيامة وهو المفروض المحتوم شرعاً: أنه كان ينبغي أنه ما استقل إقليم إلا ويجيء رجاله من أهل الحل والعقد والمعرفة إلى عبد العزيز ويقولون: ابعث لنا قضاة ووالياً نائباً عنك في ديارنا الإسلامية التي استقلت اليوم وتحررت من دولة الكفر وسلطان الكافرين، فماذا تقولون؟ والله لهذا الواجب، ولو فعل المسلمون هذا لكانت اليوم الخلافة الإسلامية، لكنه الجهل ومرض النفوس وعدم البصيرة، إذ تستطيعون أن تستقلوا وأنتم حفنة من الناس بين العالم؟ انضموا إلى دولة الإسلام، وهذا الكلام الذي تسمعون والله الذي لا إله غيره! لواجبنا، وما كان يصح أبداً لإقليم أن يستقل ودولة القرآن قائمة وينفصل عنها، ومن ثَمَّ أعرضنا فأعرض الرحمن عنا، فما انتفعنا باستقلالاتنا ولا فزنا بسيادتنا، بل هبطنا إلى الحضيض، ولا نلوم إلا أنفسنا، قال تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76]، فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا [النساء:160]، فعلنا وفعلنا.نعود فنقول: ما إن استقل بنو إسرائيل من دولة الاستعمار الفرعونية حتى ذهب موسى يأتي بالدستور والقانون حتى يحكمهم بشرع الله عز وجل، فلما ذهب ما الذي حصل؟ قال تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ [النساء:153]، إذ إن موسى عليه السلام عهد إلى أخيه هارون عليه السلام بأن يرعى بني إسرائيل ويبقى معهم حتى يرجع موسى بدستوره، وما زال موسى عند ربه في جبل الطور بسيناء حتى أوحي إليه: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:83-84]، أي: لمَ استعجلت وأتيتنا يا موسى وتركت قومك في صحراء؟ قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [طه:84-86]، أي: تألم وتحسر، إذ كيف ترك أخاه مع بني إسرائيل فإذا بهم في ثلاثة أيام أو عشرة أيام أو أربعين يوماً وإذا بهم يعبدون العجل؟ ولا عجب! وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142]، فوجدهم يعبدون العجل، كيف ذلك؟ قالوا: إن بني إسرائيل يوم أن خرجوا من مصر كان جبريل على فرس يتقدمهم ليدلهم على المخرج الذي يخرجون منه، فكان السامري يشاهد فرس جبريل كلما وضع حافره على الأرض ورفعها نبت النبات الأخضر تحتها، فأخذ من ذلك التراب في صرة واحتفظ به على أن يكون له أثر، ولما استقر بنو إسرائيل بعد نجاتهم وذهاب موسى قال السامري لنساء بني إسرائيل: من كان لديها حلياً استعارته من القبطيات فلا يحل لها أن تأخذه بدون حق، والآن لا يمكن أن يرد هذا الحلي إلى نساء الأقباط، فاجمعوه عندنا نحرقه ونتخلص منه، وكانت فتيا إبليسية في نطاق العلم والمعرفة، فجمع الحلي ثم صهره وصنع منه عجلاً من ذهب وفضة، ثم قال لهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]، وكلاً يعرف الأمة الجاهلية، فالآن قد وجدت أمثال هذه بين العرب والمسلمين، فقد عبدوا القبور والقباب، فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]، فعبدوه، فصاح فيهم هارون وبكى، وما استطاع أن يفعل شيئاً خوفاً من تفرقة الأمة وتقاتلها وتعاديها لبعضها البعض، فسكت عليه السلام، لكن الجهل وظلمته غمتهم. والشاهد عندنا في قوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [النساء:153]، فأي بينة أعظم من أن ينفلق البحر أمامهم؟ ومما يلغز به فيقال: ما هي الأرض التي لم تر الشمس منذ أن كانت إلا مرة واحدة؟ إنها هذه الأرض التي انفلق عنها البحر إلى فلقتين كالجبل من هنا وهنا، وهي جافة ويابسة والشمس طالعة فيها، ثم مع هذا يعبدون غير الله ويطلبون موسى أن يجعل لهم إلهاً!

يتبع

ابوالوليد المسلم
12-05-2021, 04:50 AM
عفو الله عن بني إسرائيل عبادتهم العجل
ثم قال تعالى: فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ [النساء:153]، ولكن بالتوبة، فقد تابوا توبة قاسية، واقرءوا لذلك قول الله تعالى من سورة البقرة: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ [البقرة:54]، وهذا بأمر الله عز وجل، فقد اصطفوا صفين وتقاتلوا، فيقتل الأب ابنه والابن أباه، ودارت المعركة فسقط من بينهم أربعون ألفاً، فهذه هي التوبة الشديدة، فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54]، فكانت هذه عقوبة عبادة العجل، عبادة غير الله تعالى، ومنذ أربعين أو خمسين سنة وقبل هذه الحركة الإصلاحية في العالم كان المسلمون في ديارهم أسوأ من بني إسرائيل، ووالله بعيني أرى النساء عاكفات على القبور، جاثمات على الركب في كل بلاد العالم الإسلامي، وقلَّ من يدعو الله وحده، بل لا بد من يا الله! يا رسول الله! يا رب! يا سيدي فلان! فكانت جاهلية عمياء من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب؛ لأننا بشر وتستطيع الشياطين أن تضلنا إذا حرمنا النور الإلهي، وأبعدنا عن كتابه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا والله لمن كيد اليهود ومكرهم بالمسلمين، فقد حولوا المسلمين إلى جاهليات، وما زالوا يعملون ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:153]، وذلك لما قتل من قتل منهم، وتاب من تاب منهم، كان موسى قد أعطاه الله قوة وسلطان، فكان يؤدبهم ويرغمهم على عبادة الله وتوحيده وعبادته.
تفسير قوله تعالى: (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم...)
قال تعالى: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:154].
رفع الله للطور فوق رءوس بني إسرائيل لما امتنعوا عن التعهد بالعمل بما في التوراة
وقوله تعالى: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [النساء:154]، لما زلت أقدامهم ووقع الذي وقع قال لهم موسى: أعطوني أربعين رجلاً منكم من خياركم أذهب بهم إلى الله ليتوب عليكم، فأخذ منهم عدداً من خيار رجالهم، وانتهوا إلى جبل الطور، وسمعوا الله يخاطب موسى ويكلمه، فقالوا: إذاً أرنا الله جهرة، أرنا وجهه حتى نراه، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق أنهم يطبقون ما في التوراة أو الوصايا العشر، والعهد هو الحلف على أنهم لا يفرطون في شريعة الله لا بقليل ولا بكثير في هذا الذي قد حواه هذا الدستور، فكانت منهم زلة، ومن عجائبها: أنهم لما رفضوا أخذ العهد والميثاق، رفع الله الطور فوق رءوسهم، ثم قال لهم: تقبلون أو ينزل الجبل على رءوسكم؟ قال تعالى مصوراً ذلك المشهد العظيم: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف:171]، ولما خروا ساجدين كانوا ينظرون بعين وأخرى على الأرض، وإلى الآن فهذا سجودهم في بيعهم ومساجدهم، ومع هذا وافقوا وأعطوا عهدهم وميثاقهم، وما هي إلا أيام ونقضوه! ولا عجب فهم ينقضونه إلى اليوم.
أمر الله لبني إسرائيل بأن يدخلوا الأرض المقدسة ساجدين وحالهم مع هذا الأمر
وقوله تعالى: وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [النساء:154]، وهذا قد تم على عهد يوشع بن نون عليه السلام، ونعود قليلاً فنقول: كانت مدة بقاء بني إسرائيل في صحراء سيناء أربعين سنة، وسبب هذا التيه ذنوبهم ظلمهم وإعراضهم، وذلك لما خرج بهم موسى-والدستور معه-إلى أرض القدس أرض الأنبياء والمرسلين، وهو معهم في طريقهم إلى أرض القدس، وكان يملكها العملاقة الجبابرة، فاختار موسى عليه السلام من بني إسرائيل اثني عشر رجلاً من خيرتهم، وبعث بهم عيوناً وجواسيس إلى دولة العمالقة ليقوموا قوتها، ويطلعوا موسى وقومه على ما لديهم من قوة واستعداد للحرب، ومع الأسف ذهب أولئك الاثني عشر رجلاً وانهزموا، إذ إنهم رجعوا -كأنهم فاقدوا العقول-فمنهم من يقول: هذا العملاق، أو هذا الجبار أخذني ووضعني في جيبه، ووضعني بين أولاده يضحكون عليَّ ويلعبون بي، كيف نقاتل هؤلاء؟! وآخر يقول: هؤلاء القوم لا نستطيع أن نصل إليهم، والمهم أنهم هزموا بني إسرائيل هزيمة مرة.لكن قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، أي: أن الرجلان الحكيمان قالوا لهم: ما هي إلا أن تفاجئوهم وتدخلوا عليهم باب المدينة، فماذا قال بنو إسرائيل؟ قالوا: إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون! فكيف يخرج العدو من دياره بدون حرب وقتال ثم بعدها تدخل أنت؟! ثم قالوا لنبيهم موسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، أي: ما نستطيع أن نقاتل هؤلاء العمالقة، ولا أن ندخل تلك البلاد، فاذهب أنت وربك فقاتلوهم! فهل هذه الكلمة يقولها من عرف الله تعالى؟! ثم قال موسى عليه السلام لما رأى ذلك منهم: قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25]، فقد فسقوا وخرجوا عن طاعة الله ورسوله، فرد الله عليه فقال: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26]، وفعلاً في خلال أربعين سنة وهم يحملون أمتعتهم ويمشون في صحراء سيناء، فإذا جاءت القيلولة نزلوا، ثم يواصلون المشي مرة أخرى في الصحراء، فإذا جاء الظلام نزلوا، وهم هكذا في متاهات صحراء سيناء أربعين سنة حتى توفي موسى وهارون عليهما السلام . فماذا نقول عن هؤلاء اليهود؟! هاهم الآن يديرون كفة الناس، ومن قبل قالوا لنبيهم موسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:24-26]، وتوفي موسى وهارون عليهما السلام في خلال هذه الفترة، وقد بلغ بهم الحد أن قالوا: إن موسى هو الذي قتل هارون!والشاهد عندنا أنه بعد أن توفي موسى وهارون عليهما السلام قادهم يوشع بن نون، وهو فتى موسى وخادمه أو تلميذه الذي كان يلازمه، وقد عهد إليه بحكم بني إسرائيل، فقادهم يوشع بن نون بعد نهاية الأربعين السنة التي كتبها الله عليهم بأن يتيهوا في تلك الصحراء، وقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه في مساء الجمعة ولم يبق على غروب الشمس إلا ساعات، إذ لو غابت الشمس لا يحل لهم أن يقاتلوا، إذ السبت مكتوب عليهم، فلا يصح منهم قتال أبداً، فرفع يوشع رأسه إلى الشمس وقال: يا شمس! أنت مخلوقة وأنا مخلوق، أنت مربوب وأنا مربوب، أسألك بالذي خلقك أن تقف في مكانك، فوقفت الشمس وقفة كاملة، فخاض المعركة ودخل تلك البلاد قبل غروب الشمس واحتلها. إذاً: أمرهم هنا بأمر الله تعالى أن يدخلوا باب المدينة متطامنين لا في عنجهية وعنترية، بل لابد من تطامن ولين وسجود، وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [النساء:154]، يقال: سجدت الشجرة، إذا مال غصنها، وسجد البعير رأسه، إذا عكفه، فالسجود ليس شرطاً أن يكون على الجبهة والأنف، وإنما هو لين الجانب وطمأنينة الرأس، ولذلك أمرهم الله أن يدخلوا متواضعين شكراً لله وامتناناً له سبحانه وتعالى، وبما أعطاهم ووهبهم، وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58]، أي: احطط عنا خطايانا يا ربنا التي ارتكبناها، وأصابنا ما أصابنا بسببها، لكن لخبثهم ومكرهم دخلوا يزحفون على أستاههم ويقولون: حنطة أو حبة شعير في كذا.وهنا من لطائف هذه الآيات: كيف دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة؟ بعد أن حورب ثمان سنوات، وأخرج من دياره، وأخرج إخوانه معه، ثم فتح الله تعالى عليه مكة ودخلها في السنة الثامنة من الهجرة، دخل وهو على القصواء ولحيته تضرب في قربوس السرج أو في سرج راحلته، وذلك تواضعاً لله عز وجل، وامتثالاً لأمر الله في بني إسرائيل: ادخلوها سجداً، فهل عرفتم كيف دخل؟ تطامناً وتواضعاً لا مثيل له أبداً.واسألوني عن إخواننا العرب المسلمين لما يستقلون ماذا يفعلون؟ أمور فاضحة ما نستطيع أن نذكرها؛ لأنهم ما عرفوا الله ولا سلكوا هذا السبيل، وما بلغهم كيف دخل الرسول مكة، ووجد أهل مكة وجبابرتها وعتاتها وقد أذعنوا وانقادوا وطأطئوا رءوسهم وجلسوا حول الكعبة ينتظرون حكم الله تعالى فيهم، فناداهم: ( يا معشر قريش! ماذا ترون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء )، ولم يأمر بقتل أحد إلا بأربعة أنفار لباطلهم وشرهم وظلمهم وفسادهم، ونحن الآن أيما ثورة وانقلاب تحدث في بلد إسلامي يذبحون بعضهم بعضاً كالحيوانات.
نهي الله لبني إسرائيل عن الصيد في يوم السبت وتحايلهم على الشريعة
وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ [النساء:154]، وأصل (لا تعدوا): لا تعتدوا، وقرأ نافع: (لا تَعَدَّوا) بالتضعيف، أي: بإدغام التاء في الدال، فهما قراءتان سبعيتان، وهنا تعالى ذكر السبت، فأي سبت هذا؟ إليكم قصته: تعرفون أن أفضل الأيام هو يوم الجمعة، فهو اليوم الذي خلق الله فيه آدم عليه السلام، وهو اليوم الذي أهبطه إلى الأرض، وهو اليوم الذي تقوم فيه الساعة، وله فضائل أخرى تعرفونها، وهذا اليوم قد عرض على اليهود، وذلك على لسان يوشع بن نون فرفضوا، وقالوا: نستريح يوم السبت، فصرفهم الله قبل كل شيء بأقداره، وصرفتهم الشياطين عن يوم الجمعة، فكتب الله عليهم يوم السبت أنه يوم عبادة ويوم ترك للعمل، وبالتالي فيجب أن يتركوا العمل إذا دخلت ليلة السبت، ويقبلون على الله عز وجل، فلعبت بهم الشياطين وزينت لهم صيد الحوت والسمك في يوم السبت، قال تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ [الأعراف:163]، أي: يعتدون، فِي السَّبْتِ [الأعراف:163]، فكيف يصنعون بفتاواهم؟ قالوا: نلقي بالشباك في الليل فتمتلئ بالسمك ونأخذها يوم الأحد وهي مملوءة، وهذه هي الفتاوى التي ضلت بها أمم، إذ يفتي بها مغرضون ومبطلون وضلال من علمائهم ورجالهم. وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:154]، فما كان منهم إلا أن احتالوا على الشريعة وصادوا السمك، وحصلت لهم محنة كبيرة نذكرها في قوله تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163]، وكانت هذه فتنة من الله تعالى، إذ إنه في يوم السبت الحيتان يلعبن أمامهم، ويظهرن بصورة عجب، وذلك للإغراء بهم، ويوم أن ينتهي السبت ما يظهر من السمك شيء، كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163]، فيكفينا هذه الآية، أي: نختبرهم ونبلوهم بسب فسقهم، إذ لولا فسقهم ما كان الله ليبتليهم بهذا الابتلاء، فالسمك يوم السبت يشرع لهم ويظهر ويتعالى على البحر حتى يغريهم به، فحملهم ذلك على أن صادوه، وغير السبت لا يظهر شيء منه، قال تعالى: كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163]، فالأمة كالفرد، فإذا فسق أو فسقت فإنه يبتلى بالذنوب ويأثم، حتى إنه قد يقع في الكفر والعياذ بالله تعالى. معاشر المستمعين! من أنزل هذا الكلام؟ إنه الله رب العالمين، فهذا كتاب الله القرآن الكريم، فهل يصح أن نقرأه على الموتى ونترك الأحياء محرومين مبعدين منه؟ يكفينا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـابن مسعود: ( يا ابن أم عبد! اقرأ علي شيئاً من القرآن، فيقول: وعليك أنزل وعليك أقرأ؟ فيقول: إني أحب أن أسمعه من غيري )، وحسبنا ما سبق أن علمناه: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم )، لكن للأسف هجرنا القرآن، والذي حملنا على هجرانه هم أعداؤنا، وقد انحنينا أمامهم وسلمنا الأمر لهم، فهم الذين أبعدوا هذه الأمة عن القرآن لتموت فيملكوها ويسودوها، فهل من توبة يا عباد الله؟ أهل البيت يجتمعون في بيتهم فيقرأ قارئ عليهم آية ويتدبرونها، والعمال في ساعة الراحة يسمعون آية ويتدبرونها، وكذلك بيوت الله يجب أن نملأها بوجودنا طالبين رضوان الله وعفوه ومغفرته، وذلك من المغرب إلى العشاء، فنقرأ كتاب الله ونتدبره، إذ كيف تجول هذه الظلمة؟! وكيف يبعد هذا الشر والفساد؟! وكيف نخرج من ورطة الذل والمسكنة؟! قد أذلنا الشرق والغرب وأصبحنا نمد أيدينا متسولين، لم وباب الله مفتوح؟! والله الذي لا إله غيره! ما أقبلت عليه أمة في صدق إلا رفعها الله وأعزها، والمثل واضح، كيف كان العالم الإسلامي في القرون الثلاثة؟ كانوا أعز الناس، فقد سادوا وقادوا البشرية، هذا والله تعالى أسأل أن يتوب علينا، وأن يغفر ذنوبنا إنه غفور رحيم.

ابوالوليد المسلم
12-05-2021, 04:52 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (76)
الحلقة (298)
تفسير سورة النساء (79)

لعن الله تعالى بني إسرائيل لجحودهم وعتوهم عن أمره سبحانه وتعالى، وقد ذكر الله بعض أفعالهم التي جعلتهم يستحقون اللعن، فذكر منها سبحانه نقضهم للعهود والمواثيق وخاصة عهدهم بالعمل بما في التوراة، وكفرهم بآيات الله المنزلة على عيسى ومن بعده ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقتلهم أنبياء الله، وقولهم قلوبنا غلف، وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً، وادعائهم قتل عيسى عليه السلام.
تفسير قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم والأيام الثلاثة بعده ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الخمس، فهيا نتغنى بها أولاً ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها؛ لنكون بالفعل قد تدارسنا كتاب الله، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:155-159].تأملوا يفتح الله عليكم، فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [النساء:155]، هذه أربع جرائم، بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:155-159].نوجز في شرح هذه الآيات ثم نأخذ في بيانها من الكتاب، فأولاً: هذه الآيات نزلت من أجل تسلية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وحمله على الصبر والثبات، وذلك مما يعانيه من اليهود وما يطرحونه من فظائع الكلام، لأنه كان في المدينة ثلاث قبائل من قبائل اليهود الكبرى، وهم بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير، وكان فيهم العلماء، ووراءهم من جهة الشام خيبر وفدك إلى غير ذلك، فكانوا يؤلمون النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل الله تعالى عليه هذه الآيات تفضحهم وتكشف سوءتهم وتريهم الحق لو أرادوا قبوله، وفي نفس الوقت هي تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. ‏
من أسباب لعن اليهود نقض العهود والمواثيق
فَبِمَا نَقْضِهِمْ [النساء:155]، أي: بسبب نقضهم ميثاقهم، فما آمنوا بعيسى ولا التزموا بشريعة التوراة، فقد قتلوا زكريا وقتلوا ولده يحيى، والميثاق المأخوذ عليهم أيام موسى قد نقضوه وحلوه وما التزموا به، وهذه جريمة باقية على جباههم. فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155]، وقد ذمهم الله تعالى على نقض الميثاق، والميثاق هو العهد المؤكد باليمين، وميثاقنا نحن المسلمين هو أن كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقد عقد مع ربه عقداً وميثاقاً، وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]، فمن شهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقد وجب عليه ألا ينقض هذا العهد، ونقضه يكون بعبادة غير الله، أو بترك عبادة لله تعالى، أو اتباع غير رسول الله، والميثاق الذي بيننا وبين الله إن وفينا به أكرمنا بنعيم دار السلام، وإن نقضناه كما نقضه بنو عمنا من اليهود فالمصير معروف، ولذلك من قال: أشهد أن لا إله إلا الله فيجب عليه أن يعبد الله الذي شهد له بالعبادة، ثم كيف يشهد أنه المعبود الحق ولا يعبده؟! أيضاً ألا يعبد معه غيره؛ لأنه قال: لا يعبد إلا الله، فكيف يعبد معه غيره بأي نوع من أنواع العبادات؟! ولذا ومن شهد أن محمداً رسول الله فيجب أن يمشي وراءه لا أمامه أو عن يمينه أو عن شماله، وإنما يتبعه، فيأكل كما يأكل، ويشرب كما يشرب، فضلاً عن أن يجاهد كما يجاهد، ويصوم ويصلي كما صام وصلى عليه الصلاة والسلام، وإلا فقد خان عهده ونقضه.
من أسباب لعن اليهود كفرهم بآيات الله المنزلة على محمد وعيسى عليهما السلام
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155]، أولاً، وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ [النساء:155]، ثانياً، فقد كفروا بالقرآن الكريم، وكفروا بآيات الله في الإنجيل، وكفروا بآيات الله في التوراة التي تحمل الهداية والوصايا الربانية.
من أسباب لعن اليهود قتلهم الأنبياء
وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ [النساء:155]، كم نبياً قتلوا؟ يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقتلون سبعين نبياً في يوم واحد، وفي المساء أسواقهم عامرة يبيعون ويشترون، وكأن شيئاً لم يحدث، وذلك لقساوة قلوبهم. وعلى سبيل المثال فقد قتلوا زكريا وولده يحيى بنص القرآن، كما أنهم حاولوا قتل عيسى وصلبه، وحاولوا قتل النبي الخاتم محمد ثلاث مرات حتى سقوه السم والعياذ بالله. وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [النساء:155]، وهل يقتل نبي بحق؟ إن هذا من باب المبالغة، وفرضاً لو كان قتله حقاً فلا بأس، ولكن هم قتلوا الأنبياء بغير الحق.
من أسباب لعن اليهود قولهم قلوبنا غلف حتى لا يقبلوا دعوة الإسلام
وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [النساء:155]، وغلف جمع: أغلف، والأغلف هو المملوء والمغطى بالعلم، فلا يحتاج إلى معرفة، ولك أن تقول: غلف بمعنى: قلوبنا مملوءة، أي: ما عندنا ما نأخذ من علمك يا محمد، أو لسنا في حاجة إلى ما تقوله لنا، أو ما نحن بحاجة إلى هذا العلم يا محمد، فقلوبنا ملأى بالعلم والمعرفة قبلك، وقد كانوا يقولون له هكذا حتى لا يؤمنوا به ولا يتابعوه.
طبع الله على قلوب اليهود بسبب جرائمهم الشنيعة
فرد الله تعالى عليهم بقوله: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا [النساء:155]، أي: على تلك القلوب، فتراكمت عليها الذنوب والآثام والجرائم فأصبحت أكواماً على تلك القلوب، فغطتها وحجبتها من أن تقبل الهداية. بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء:155]، و(الباء) هنا سببية، أي: بسبب كفرهم، وكفرهم أنواع. فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:155]، أي: ما دام أن الطبع قد وقع على القلب فقلَّ من يؤمن، ولذا فقد كانت دعوة الرسول بين اليهود كذا من السنين، ومع ذلك لم يؤمن أكثر من عشرة أنفار من علماء اليهود، وهذا إخبار الله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:155] .
تفسير قوله تعالى: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم ...)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [النساء:157].ومع ربنا في بيان هذه الجرائم اليهودية، قال تعالى: وَقَوْلِهِمْ [النساء:157]، أي: وبقولهم، إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء:157]، وهذه صيغة التبجح والتعنتر، وهل يتبجح العاقل بالكفر؟! وهل لمؤمن أن يقتل مؤمناً ويقول: قتلته؟! إن هذا قلبه ميت، لكن هؤلاء يتبجحون بأنهم قتلوه، وهل فعلاً قتلوه؟ قال تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، وذلك لما حاصروا برجالهم بيته ومنزله، وما فتح لهم الباب فاقتحموه، فرفعه الله عز وجل من السقف وألقى الشبه على رئيس شرطتهم يهوذا، فلما شاهدوه ظنوا أنه عيسى، فاجتمعوا عليه وسحبوه وأخرجوه من البيت، ثم أعدوا له المشنقة وصلبوه على خشبة وقتلوه وهو على تلك الخشبة. ولذا لو يجتمعون كلهم ويقولون: إن الذي صلب هو عيسى، والله يقول: ليس بعيسى، فمن تصدقون؟ الله، إذ إننا لا نحتاج إلى كلامهم الباطل، مع أنهم قد كتبوا في هذا الكثير من الكتب، بل وجادلوا النصارى على أنهم قد قتلوا عيسى علبه السلام، ونحن يكفينا فقط كلام ربنا: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ [النساء:157]، والصلب هو الوضع على عود أو على خشبة ثم القتل. وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ [النساء:157]، بعدما صلبوه صار الشك بينهم، فمنهم من يقول: عيسى، ومن يقول: ليس بعيسى، وما وجدوا من يحل مشكلتهم، حتى الذين قالوا: قتلناه هم في شك أيضاً، إذ إنهم يدعون أنه بعد ثلاثة أيام من دفنه نبشوا عن قبره فما وجدوا إلا الكفن، أين ذهب عيسى؟! الله أعلم، وكلها أباطيل وترهات وأكاذيب، ونحن والحمد لله قد بين الله لنا الطريق حتى لا نرتاب ولا تشك أبداً.
تفسير قوله تعالى: (بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:158]، أي: رفعه الله إلى الملكوت الأعلى كما رفع محمداً صلى الله عليه وسلم، فقد خرج عليه الصلاة والسلام من بيت أم هانئ بجوار المسجد وأجريت له عملية غسل القلب وتطهيره بماء زمزم ليصبح أهلاً لأن ينزل بالملكوت الأعلى، ثم أسري به إلى بيت المقدس، وعرج به إلى الملكوت الأعلى، وتم ما علمتم من حوار بينه وبين ربه في فرضية خمسين صلاة، ثم عاد عليه الصلاة والسلام، قالت أم هانئ رضي الله عنها: وفراشه ما زال دافئاً ما برد. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، أي: إلى الملكوت الأعلى في جواره، وسينزله في آخر الزمان، ونزوله علم وعلامة من علامات قيامة الناس، إذ قال تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا [الزخرف:61]، فإذا نزل عيسى على المنارة البيضاء بمسجد دمشق فقد انتهى أمر الإيمان والإسلام أو الإيمان والكفر، إذ المؤمن مؤمن والكافر كافر. وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا [النساء:158]، أي: غالباً لا يغالب أبداً، ولا يحال بينه وبين أمر يريده، حَكِيمًا [النساء:158]، أي: حكيماً في كل أعماله وحكمه وقضائه.
تفسير قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب ليؤمنن به قبل موته...)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:159]. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:159]، و(إن) هنا نافية بمعنى: (ما)، أي: ما من أهل الكتاب أحد، إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، أي: قبل موت الكتابي لا قبل موت عيسى، وذلك أن النصراني كان يقول في عيسى: هو ابن الله، وهذا كفر والعياذ بالله، وكان يقول: هو ثالث ثلاثة مع الله، وهذا أيضاً كفر بالله تعالى، ولما يجيء ملك الموت وأعوانه لقبض روحه، تغرغر النفس وتنتهي الحياة فيعرف أن عيسى عبد الله ورسوله، وأن تلك الترهات والأباطيل والخرافات كلها باطلة.وكذلك اليهودي ما إن يحتضر ويأتي ملك الموت لقبض روحه، ويكون بانقطاع عن الدنيا، حتى يعلم أن عيسى عبد الله ورسوله، وليس بساحر ولا دجال ولا أمه زانية عاهرة، إذ إن اليهود يقولون: إن مريم البتول قد زنت بيوسف النجار وكان عبداً صالحاً، كذبوا ورب الكعبة، ولعنة الله على الكاذبين، ونحن والحمد لله بعدنا عن اليهود وبعدوا عنا، وإلا فهذه العجائب في كل يوم يوجدونها ويثيرونها. وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ [النساء:159]، أي: على اليهود والنصارى، شَهِيدًا [النساء:159]، أي: على كفر الكافرين وإيمان المؤمنين.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هيا نتلو الآيات مرة أخرى ونأخذ في شرحها من الكتاب لنزداد علماً وبصيرة، قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:155-159]، أي: يشهد على إيمان المؤمنين وكفر الكافرين.

يتبع

ابوالوليد المسلم
12-05-2021, 04:53 AM
معنى الآيات
قال الشارح غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ ما زال السياق في الحديث عن اليهود وبيان الجرائم التي كانت سبباً في لعنهم وذلهم، وغضب الله تعالى عليهم، وهذا تعداد تلك الجرائم الواردة في الآيات الثلاث الأولى في هذا السياق المبارك الكريم، وهي: أولاً: نقضهم العهود والمواثيق وخاصة عهدهم بالعمل بما في التوراة ]، وتذكرون لما أخذ موسى السبعين رجلاً ليتوب الله عليهم بعد جريمة عبادة العجل، لما انتهوا أخذ الله عليهم الميثاق أن يعملوا بالتوراة فرفضوا وقالوا: ما نستطيع، نحن ضعاف، فرفع الله الجبل فوقهم فقال: تقبلون أو نسقطه فوقكم؟ فقالوا: آمنا بالله، ونعاهده أن نعمل بها، وما إن عادوا حتى نقضوها، فهذه واحدة.قال: [ ثانياً: كفرهم بآيات الله المنزلة على عبد الله عيسى ورسوله والمنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم، ثالثاً: قتلهم الأنبياء كزكريا ويحيى وغيرهم، وهم كثير في عهود متباينة، رابعاً: قولهم: قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] حتى لا يقبلوا دعوة الإسلام، وما أراد الرسول إعلامهم به، وكذبهم الله تعالى في هذه الدعوى، وأخبر ألا أغطية على قلوبهم، ولكن طبع الله تعالى عليها بسبب ذنوبهم، فران عليها الران فغطاها فمنعها من قبول الحق اعتقاداً وقولاً، هذا ما تضمنته الآية الأولى، وهي قوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155]، والباء سببية ] كما بينا، أي: فبسبب نقضهم، قال: [ والميم صلة ]، وذلك لتقوية الكلام، قال: [ والأصل فبنقضهم، أي: بسبب نقضهم، وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:155]، أي: إيماناً قليلاً، كإيمانهم بموسى وهارون والتوراة والزبور مثلاً، خامساً: كفرهم بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، سادساً: قولهم على مريم بهتاناً عظيماً، حيث رموها بالفاحشة، وقالوا: عيسى ابن زنا لعنهم الله.
زعم اليهود قتلهم لعيسى عليه السلام وافتخارهم بذلك
سابعاً: قولهم متبجحين متفاخرين: أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وهو رسول الله، وأكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، أي: برحل آخر ظنوه أنه هو فصلبوه وقتلوه، وأما المسيح فقد رفعه الله تعالى إليه، وهو عنده في السماء كما قال تعالى في الآية: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:158] أي، غالباً على أمره، حكيما في فعله وتدبيره.وأما قوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ [النساء:157] ] أي: هل هو عيسى أو يهوذا؟ قال: [ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [النساء:157]، هذا إخبار من الله تعالى بحقيقة أخرى وهي أن الذين طوقوا منزل المسيح وهجموا عليه ليلقوا عليه القبض من أجل أن يقتلوه، هؤلاء اختلفوا في هل الرجل الذي ألقي عليه شبه عيسى هو عيسى أو غيره؟ ]، ما استطاع واحد أن يثبت شيئاً معيناً، قال: [ إنهم لم يجزموا أبداً بأن من ألقوا عليه القبض وأخرجوه فصلبوه وقتلوه هو المسيح عليه السلام ]، فهم دخلوا المنزل فرفع الله عيسى إليه من السقف، ومع هذا ألقوا الحديد الشبه وسحبوه، وما عندهم اليقين الجازم أنه عيسى، وإنما هم مختلفون في ذلك.قال: [ ولذا قال تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [النساء:157] ]، أي: باليقين، [ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:158]. أما الآية الأخيرة في هذا السياق ] والآية الأخيرة هي قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:159].
إيمان اليهود والنصارى بعيسى عند معالجتهم لسكرات الموت وعدم انتفاعهم بذلك
قال: [ أما الآية الأخيرة في هذا السياق فإن الله تعالى أخبر أنه ما من يهودي ولا نصراني يحضره الموت ] أي: ساعة الموت، [ ويكون في انقطاع عن الدنيا إلا آمن بأن عيسى عبد الله ورسوله، وليس هو بابن زنى ولا ساحر كما يعتقد اليهود، ولا هو الله ولا ابن الله كما يعتقد النصارى ].وكذلك الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا بلقائه ماذا يشاهدون عند سكرات الموت؟ يعرفون أنهم قد هوت بهم الهاوية وزلت أقدامهم، وأنهم من أهل الشقاء والبلاء، قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]، ففي هذه الآية المجرمون الظالمون تهددهم الملائكة بإخراج أرواحهم بالضرب وإن كنا لا نشاهد ذلك.قال: [ أما الآية الأخيرة في هذا السياق فإن الله تعالى أخبر أنه ما من يهودي ولا نصراني يحضره الموت ويكون في انقطاع عن الدنيا إلا آمن ]، وصدق يقيناً، [ بأن عيسى عبد الله ورسوله ]، أي: عبد من عباده الصالحين، ورسول من رسله المبعوثين لهداية الخلق وإصلاح فاسدهم، [ وليس هو ابن زنى كما يقول اليهود ]، واليهود إلى الآن وإن كانوا يخفون هذا أمام النصارى، يقولون: إن عيسى ابن زنا؛ لأن مريم زنت بـيوسف بن النجار، وهو عبد صالح، وهذا الكلام يروج له، ولولا أن الله عصمنا وأبعدنا عن اليهود فقد يقبله الغافلون منا، ويئولون الآيات ويحرفونها.قال: [ ولا ساحر ]، إذ قالوا: إن عيسى ساحر، فتلك الآيات والمعجزات العظام من إحياء الموتى، ويخلق من الطين صورة لطائر فيطير، وإنزال مائدة من الملكوت الأعلى لم تعرف الدنيا مثلها، وأكلها الآباء والأبناء منها، كل هذه قالوا عنها: إن عيسى ساحر. ومما يروى عنهم أن عيسى مر في الشارع وإذا بجنازة طفل صغير، وأمه تبكي عليه، فقالت لعيسى: يا روح الله! ادع الله أن يرد علي ولدي، فدعا الله فانتفض الولد في النعش وقال: حطوه، ومشى مع أمه، فماذا قال اليهود؟ قالوا: هذه مؤامرة تمت بين عيسى وهذه الأم، وطفلها ما مات، وإنما كفنته وادعت أنه قد ميت، ولما مرت بعيسى قالت له: ادع الله لي أن يرد علي ولدي، فدعا والولد ما مات، وهذا هو مكرهم وكيدهم.وقد عرفتم أن العلة هي أنهم يريدون أن يبنوا مجدهم ودولة ومملكة إسرائيل الكبرى، ولهذا هم لا يقبلون نظاماً ولا حزباً ولا جماعة خارجة منهم، ويدل على هذا أن اليهودي لا يزوج ابنته من غير اليهودي إلا لحيلة ومكرة سياسية؛ ليبقى هذا الشعب كما هو من عهد موسى، فهل بلغكم أن يهودية تزوجها مسيحي أو مسلم؟ لا والله، لكن اليهودي قد يتزوج غير اليهودية، ولا يدخلها في ملته إلا في حالات خاصة للكيد والمكر فقط، وللإبقاء على شعب الله المختار كما يزعمون، وأذكركم دائماً فأقول: كان المسيحي لا يستطيع أن يفتح عينيه في اليهودي، وذلك من شدة بغضه له، فهو ينظر إليه على أنه قاتل إلهه، فكيف ينظر إليه؟!إذاً: كيف أصبح اليهود الآن في قلب العالم الصليبي يديرون أمواله وحياته كاملة؟ بالسحر؟ نعم هم يفعلون السحر، بمبدأ البلشفة: لا إله والحياة مادة؟ إن هذا المبدأ الشيوعي هو الذي سخر لهم المسيحية بكاملها، فقد كفر أكثر المسيحيين بوجود الله وأصبحوا بلاشفة، فهذه روسيا العظمى أنكرت وجود المسيح، وتغلغلت الشيوعية حتى دخلت بلاد المسلمين، والذي صنع هذا والله هم اليهود، وذلك حتى يخففوا الضغط عنهم، إذ لو أن المسلمين أو العرب بالذات يكونون دولة في إسرائيل وتبقى إلى الآن والله ما كان، فأولاً: ضربوا القلوب ومزقوا أنوار الله فيها، وهم ما زالوا يحلمون في يوم ما أنهم سيسوسون العالم ويسودونه، فهل عرفتم السر أم لا؟ وإن فشلت الشيوعية فهناك مجالات أخرى، وهي نشر الفسق والفجور في العالم بأسره، وذلك حتى لا يبقى حياء ولا مروءة ولا كرامة، وإنما تهبط البشرية كالبهائم. قال: [ ولا هو الله ولا ابن الله كما يعتقد النصارى، ولكن هذا الإيمان لا ينفع صاحبه؛ لأنه حصل عند معاينة الموت ]، أي: لما يؤمن المسيحي بأن عيسى عبد الله ورسوله وهو يغرغر، أو يؤمن اليهودي بأن عيسى عبد الله ورسوله وليس بساحر ولا ابن زنا، لا ينفعهم ذلك الإيمان أبداً.قال: [ لقول الله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18] ]، يقول تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17]، حقاً وصدقاً، لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:17-18]، فهل يتوبون بعد الموت -أي: يوم القيامة- وتقبل توبتهم؟قال: [ هذا ما دلت عليه الآية الكريمة: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] ]، لا قبل موت عيسى، وإن قال بهذا من قال؛ لأن أهل الكتاب موجودون من قرنين، فلا يؤمن إلا بعد وجود عيسى، وذلك أن عيسى ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب ويقتل الخنزير كما أخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فهل ينفع النصارى يومئذ إيمانهم به؟ والله ما ينفع، وهل ينفع اليهودي إيمانه به؟ والله ما ينفع. قال: [ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] ]، أي: موت اليهودي الكتابي أو النصراني، [ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:159]، أي: يشهد على كفرهم به وبما جاءهم به، ووصاهم عليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ودين الحق الذي جاء به ].
هداية الآيات
هيا نستخرج درر هذه الآيات أو بما يسمى بهداياتها: [ أولاً: بيان جرائم اليهود ] وهل بينت هذه جرائم اليهود؟ كم جريمة؟ سبعة، أول جريمة يرحمكم الله نقضهم الميثاق ثاني جريمة كفرهم بآيات الله ثالثاً قتلهم الأنبياء بغير حق رابعاً قولهم: (قلوبنا غلف) كذبوا على الله ورسوله، كفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً. هذه الجرائم لولا أن الله بينها من يبينها لنا؟ هم يقولون عنها؟ هم يخفونها. [ بيان جرائم اليهود ] والجرائم جمع جريمة، من الجرم الذي هو القبح والظلم والشر والفساد. [ ثانياً: بطلان اعتقاد النصارى في أن عيسى صلب وقتل ] وإلا لا؟ [ بيان بطلان اعتقاد النصارى في أن عيسى صلب وقتل ] والله ما صلب ولا قتل أبداً، خالقه قال: رفعته إلي وتقول أنت: قتل أو صلب؟ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] . قال: [ بطلان اعتقاد النصارى في أن عيسى صلب وقتل، أما اليهود فإنهم وإن لم يقتلوا عيسى فهم مؤاخذون على قصدهم حيث صلبوا وقتلوا من ظنوه أنه عيسى ] اليهود ما نجوا لأن الله رفع عيسى ما قتلوه، هم في حكم من قتل لأنهم قتلوا الشبيه به، متعمدين ذلك قاصدين قتل عيسى، فلهذا دائماً نقول: اليهود جريمتهم أنهم قتلوا محمداً صلى الله عليه وسلم. الذي يطعمه السم ليموت ما قتلوه؟ أوضح من هذا هنا شرق المدينة على كذا كيلو متر في بني النظير جاءهم صلى الله عليه وسلم في أمسية يطلب منهم مساعدة مالية بحسب الاتفاقية التي بينه وبينهم ليسدد دية نفرين ماتا، فأفرشوا له الفراش تحت الجدار في الظل والمباني كانت كما تعرفون طابق واحد، وقالوا: أبشر يا محمد ودخلوا البيت وتآمروا قالوا: فرصة ذهبية نأتي بمطحنة راحة ونطلقها من فوقه على رأسه وتنتهي المشكلة إلى الأبد. والله لقد جاءوا بالمطحنة وقد طلعوا بها وقبل أن يلقوها عليه أوحي إليه باللاسلكي الإلهي قم فقام ومشى وراءه أصحابه ووصل إلى المدينة وأعلن نقضهم للميثاق والمعاهدة وأعلن الحرب عليهم، وما هي إلا ساعات حتى طوق بني النظير برجاله والحادثة في سورة الحشر مبينة ومفصلة يعتبرون قتلوه وإلا لا؟ قتلوه، لو كانوا هم من أنفسهم عفوا قالوا: اتركوه ما نقتل نبياً لا ما قتلوه، أما وقد عزموا ولكن الله عز وجل أنجى رسوله ونجاه فهم في عداد من قتل النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا لم يقتلوا محمداً قتلوا أنبياء قتلوا رسل عيسى وزكريا ويحيى. قال: [ فهم مؤاخذون على قصدهم ] وإلا لا؟ [ حيث صلبوا وقتلوا من ظنوه أنه عيسى عليه السلام.ثالثاً: تقرير رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ونزوله في آخر أيام الدنيا ] أما قال تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:158] سينزل عيسى وبلغنا أنه يكمل ثلاثين سنة أو ثلاثة وثلاثين ليكون عمره كعمر الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. وأخبرنا الرسول قال: كأني بابن مريم في فج الروحاء يلبي بحج أو عمرة أو بعمرة وحج، وعند المالكية قرأنا في كتب الفقه من يقول من الجائز أن عيسى يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: الروضة الشريفة أستغفر الله الحجرة الشريفة فيها ثلاثة قبور وبقي مكان قبر آخر رابع، لعل الله تعالى احتفظ به وأبقاه لعبده ورسوله عيسى عليه السلام، لا تقل هذا يا شيخ؟ قد يسمع الناس ويقولون: ندفن نحن، والله لو تجتمع الدنيا كلها على أن تدفن مع رسول الله أحد من المشركين ما قدروا، يصرفهم الجبار أو يرسل عليهم النار، من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: [ تقرير رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ونزلوه في آخر أيام الدنيا ] أي السماء الدنيا أو الثانية؟ السابعة حيث الجنة دار السلام. رابع أنوار الهداية قال: [الإيمان كالتوبة عند معاينة ملك الموت لا تنفع ولا تقبل أبداً ]. عرفتم؟ الكافر إذا آمن عند معاينة الموت يدخل في الإيمان؟ والله ما يقبل منه لأنه كشف الغطاء ورأى الآخرة كذلك المذنب سواء بزنا بربا بخمر بأية جريمة بقتل نفس إذا شاهد ملك الموت وقال: أتوب ما ينفع، ما تقبل توبته فلهذا أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نعجل بالتوبة وأخذها المسلمون سلف عن سلف إلى يوم القيامة أن التوبة يجب أن تكون على الفور لا يصح أن تقول: بعد عام بعد أن أتزوج أن أوظف بعد أن يأتي فلان، هذا انزعه من قلبك التوبة أجرمت قل: أستغفر الله وأتوب إليك لا تدري متى تسقط لا يصح تأخير التوبة أبداً. ثم الاستمرار في المعصية قد يكون في يوم من الأيام ران على قلب العبد وحينئذ إذا ذكرته بالله يضحك، قيل لشخص هلك وهو مولع بالباطل والأغاني وكذا هم يقولون عند موته على الفراش لا إله إلا الله وهو يغني مات على ألفاظ الغناء وهو يموت، لم؟ لأنه توغل ذلك الظلام فيه والران على قلبه ختم على قلبه ما يقبل أبداً لا إله إلا الله.والله تعالى أسأل أن يبصرنا بعيوبنا وأن يتوب علينا ويعود بنا إلى رضاه وساحة رضوانه، اللهم آمين.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
12-05-2021, 04:54 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (77)
الحلقة (299)
تفسير سورة النساء (80)



بعد أن بين الله عز وجل الوراثة بالنسب وما يأخذه كل وارث، جاء هنا وذكر وراثة الزوجين أحدهما للآخر، وهما من فئة الوارثين بالمصاهرة، فإن ماتت الزوجة فلزوجها النصف مما ترك، أما إن خلفت أولاداً فينزل نصيبه إلى الربع، وأما الزوج إن مات فترث الزوجة الربع، وإن كان له أكثر من زوجة تشاركن في الربع، وهذا كله في حال لم يخلف أولاداً، فإن خلف أولاداً فللزوجات الثمن يشتركن فيه.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل.وأذكركم ونفسي بأننا مع آيات الوصية، والآية الأولى نعيد تلاوتها، فتأملوا معانيها، وتذكروا ما علمتم من أحكامها، ومن غلط فسوف يصحح غلطه، ومن جهل إن شاء الله يتعلم.تلاوة هذه الآية الكريمة بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11].نبتدئها بالأسئلة ولنستمع إلى الإجابة.
معنى قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم)
قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، من الله الذي يوصينا؟ ربنا، خالقنا إلهنا، معبودنا الحق الذي لا معبود لنا سواه. يوصينا في أولادنا بأي شيء؟ وما هذه الوصية؟ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، هذه الكلمة مجملة، بين لنا: يوصينا في ماذا؟ قال: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، هذه جملة بيانية؛ لأن الأولى تقتضي سؤالاً. اسمعوا عباد الله: يوصيكم ربكم في أولادكم، فتتطلعون أو لا؟ بأي شيء؟ قال: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]. هلك زيد وترك بنين وبنات ذكوراً وإناثاً، فكيف نقسم التركة عليهم؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]. ترك ولداً وثلاث بنات، فالتركة تقسم من خمسة؛ للولد اثنان، ولكل بنت واحد، هذه خمسة.ترك عشرة آلاف، للولد ألفان، ولكل بنت ألف.. وهكذا: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].والأنثى لها واحد، والذكر له مثل حظ الأنثيين. هذه الجملة واضحة.الجزء الأول: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، هلك هالك وترك أولاداً بنين وبنات، كيف نقسم التركة عليهم؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، أتعجز عن هذه الكلمة؟ مات إبراهيم بن سعد وترك أولاده بنين وبنات فكيف تقسم هذه التركة؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].ترك بنتين وولداً: الولد له النصف، والبنتان لهما النصف.. وهكذا: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].
معنى قوله تعالى: (فإن كن نساء فوق اثنتين)
ثم قال تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النساء:11]، ما ترك ذكوراً بل ترك بنات صغيرات أو كبيرات، (فإن كن) أي: المتروكات، (نساء فوق اثنتين) فلهن (ثلثا ما ترك). ترك إبراهيم ثلاث بنات.. أربع.. خمس.. ست.. سبع.. عشر بنات، ما حظهن؟ لهن ثلثا ما ترك. نقسم التركة على ثلاثة، ثلثان للبنات سواء كنّ اثنتين أو ثلاث أو عشر، والثلث الباقي للعصبة كالعم والأخ وابن الأخ .. العصبة الأولى رجل ذكر.الأولى: هلك هالك وترك أولاداً بنين وبنات. كيف تقسمون عليهم التركة؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، إذا أعطينا للولد ألفاً، نعطي البنت خمسمائة.. وهكذا.فإن ترك نساء فقط: اثنتين، ثلاث، أربع خمس بنات، كيف نقسم التركة عليهن؟ نعطي البنات الثلثين، والثلث للعصبة.وإن كنّ سبعين بنتاً، حظهن ثلثا التركة، دل على هذا قوله: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11].وإن كان الرجل ترك بنتاً واحدة، ما ترك ولداً ولا مجموعة من البنات، كيف نقسم هذه؟ ماذا نعطيها؟ نعطيها النصف، والنصف الباقي للعصبة، قال تعالى: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11]، وإن كانت واحدة فقط فلها من التركة النصف.
معنى قوله تعالى: (ولأبويه لكل واحد منهما السدس...)
وإن كان له أبوان، أم وأب أيضاً: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11]، ما المراد بالأبوين؟ الأم والأب، هذا يسمى من باب التغليب، نغلب اسم على اسم، كالقمران، في الشمس والقمر.إذاً: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا [النساء:11] أي: الأم والأب السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ [النساء:11] قلّ أو كثر إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11] هذا القيد، أقول: متى يرث الأب والأم السدس فقط؟ إذا كان ولدهم الذي مات له ولد، إذا كان الهالك ترك أباه وأمه وترك أولاداً، واحد.. ثلاثة.. عشرة، ماذا يرث الأب والأم؟السدس: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ [النساء:11] فقط الأم والأب، كيف نقسم التركة؟ الأم الثلث والأب الثلثان الباقيان، على قاعدة: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]. فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11]، هذا الهالك الذي خلف أمه وأباه، وله إخوة ولم يكن له أبناء فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11] لا أخ واحد، اثنان، ثلاثة فأكثر، فما الحكم؟ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]، نزلت من الثلث إلى السدس، من نزلها؟ هذا الولد حجبها، هذا يسمى حجب نقصان، كانت ترث الثلث الآن ورثت السدس فقط، والأب يأخذ كل شيء، لِم؟ لأن الأب ينفق على الأولاد ويزوجهم وما إلى ذلك، والأم ليس لها في ذلك شيء.اسمع الآيات: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11] الميت له إخوة فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] وباقي المال للأب، لماذا تحجب الأم من الثلث إلى السدس، ووجود الإخوة هؤلاء؟ الأب يقوم عليهم، ويتولى إنفاقهم وتزويجهم وما إلى ذلك، وهي لا علاقة لها بذلك، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11] هذا الهالك، له إخوة فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11].الإخوة لا يرثون؛ لأن الأب موجود، كيف يرثون مع الأب؟ فالأب لا يرث معه الابن. يقول تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] بماذا؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] قاعدة عامة فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النساء:11]، ما فيهم ذكر، مات الرجل وترك بناته اثنتين فأكثر: فَلَهُنَّ [النساء:11] ماذا؟ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11]، والثلث الباقي؟ للعصبة. وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً [النساء:11] ليس مجموعة بنات، وإنما واحدة ماذا لها؟ النصف. وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11]، وللأبوين، الأبوان موجودان؟ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ [النساء:11] بقيد: إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11] والثلثان الباقيان للأب. فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]، حجبت، كانت تأخذ السدس، وجود هذا الأخ للميت حرمها، فتأخذ السدس فقط، هذا الأخ حرم هذه الأم. فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، قوله: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11]، هذا عدد أو انفراد، فإن كان له أخ فقط ما تحجب بالأخ، لابد وأن يكون له إخوة، اسمع الآية الكريمة: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]، ما قال: فإن كان له أخ، لماذا؟ لأن الإخوة كما قدمنا الأب هو الذي يقوم عليهم، فله الحق أن يأخذ الثلث الباقي، وإن كان أخ فقط ما يؤثر فيها، تأخذ هي الثلث، ما ينفق أبوه على شيء، على واحد بدل مجموعة. فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11].ذكرنا سر تقديم الوصية على الدين؛ وذلك لأن الدين أهله واقفون بسيوفهم، لا يشك أحد في أن ينالوا نصيبهم، وأما الوصية لله، أهلها أموات غرباء مسجد .. فقدم تعالى ذكر الوصية على الدين؛ لأن الدين أصحابه موجودون ما يتنازلون.
مسائل في علم الفرائض
مسألة: رجل عنده أولاد مات ولده، هل إخوته يرثون أخاهم وأبوهم موجود؟لا. هو العاصب.أفتونا رحمكم الله: في مؤمن هلك، وترك بنين وبنات، كيف تقسمون التركة؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]. لا خلاف في هذا، نقسم التركة عليهم: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، إذا أعطينا للرجل ألفين، نعطي للبنت ألفاً.. وهكذا.هذا الرجل الذي هلك وترك بنين وبنات وقسمنا التركة، فرضنا ترك نساء ما ترك أولاداً، ترك بنتين فأكثر؟فلهما الثلثان، والدليل على الحكم الأول: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].والدليل على الثاني؟ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11].وإن فرضنا: هلك هالك وترك بنتاً فقط؟البنت لها النصف.هلك هالك لكن يوجد له أب وأم ، ماذا نعطيهم في هذه الحالة؟لكل واحد منهما السدس، في الأول لما كانوا بنين وبنات، وفي الثاني لما كانوا بنات فقط، ولا في الثالث لما كانت واحدة، الأبوان لكل واحد منهما السدس.فإن فرضنا: أن له ولد: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11]، واحد، اثنين، عشرة كما قدمنا، ذكراً أو أنثى، ولد يحجب الأب والأم من الثلث إلى السدس، انتبهتم؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ [النساء:11] فقط، ما ترك بنتاً ولا ولد، المال يقسم بين الأب والأم للذكر مثل حظ الأنثيين، الأم الثلث والأب الثلثان.فإن فرضنا بأن كان له إخوة، اثنان ثلاثة فأكثر، الأم تنزل من الثلث إلى السدس، يقال حجبها الأولاد، الأب هو الوارث، يأخذ الباقي، والولد ليس له قيمة.إذاً: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا [النساء:11]، الأم يحجبها الإخوة من الثلث إلى السدس.كذلك: لو قسم الهالك التركة قبل موته؟ يجوز، لكن هل يدري متى يموت، قد تأتي أموال جديدة، قد تخرج الأموال، الأحسن ما يفعل هذا، إلا إذا خاف ضياع أموال ورثته في ظروف معينة.

يتبع

ابوالوليد المسلم
12-05-2021, 04:54 AM
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
إذاً: نتلو هذه الآية تلاوة أخرى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ [النساء:11] فقط فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11] والثلثان الباقيان للأب، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11] لا أخ واحد فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]، حجبت من الثلث إلى السدس لوجود الإخوة، أخ واحد ما يحجبها، ماذا تقول؟كما تقدم، لا فرق بين الذكر والأنثى؟ الإخوة الإخوة، لا يرثون مع وجود الوالد، فقط الأم الرحيمة لما يتعدد الإخوة لا ترث إلا السدس، لو ما في إخوة له، أو أخ واحد لها الثلث. فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، وقوله: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ [النساء:11] إذا تساءلتم: لِم يعط الثلث ولا يعطي الخُمس؟ لا، هذا ما هو شأنكم، أليسوا آباء وأبناء؟ هل تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً؟ ما تدري، فلهذا سلموا لله تعالى هذه القسمة، وقولوا: آمنا بالله.وقوله: فَرِيضَةً [النساء:11]، ما هي سنة أو واجب أو مستحب، هذا فرض مفروض لا بد من تطبيقه.وقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11]، إذا فهمت معنى الصفتين؛ سلمت لله في هذا الحكم.أولاً: العلم الذي أحاط بكل شيء، يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، يعلم ما تجيء به الأيام والليالي، فهو أحق بأن يقسم أو لا؟ أما أنت ما تعلم ما يجيء به الغد؟ فكيف تعطي هذا النصف أو الثلث؟ثانياً: الحكمة، من شأنه تعالى أنه لا يضع شيئاً إلا في موضعه، تلك الأكوان كلها، الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه، فإذا علمت أن الله عليم حكيم، تتأسف أو تقول: لِم؟ أو ما هذه القسمة؟ يجب أن تطأطئ رأسك، وتقول: آمنت بالله، آمنت بالله. ‏
أسباب الميراث
اعلموا: أن أسباب الميراث ثلاثة: النسب، والمصاهرة، والولاء.أسباب الميراث ثلاثة: النسب: ابن، أب، أخ، هذا النسب.والمصاهرة: زوجة، زوج.والولاء: انتهينا منه، ما عندنا جهاد ولا عبيد، وإن قالوا: يوجد في موريتانيا عبيد، جاهدوا من حتى أخذوهم؟الجهاد في الإسلام فريضة قائمة إلى يوم القيامة، لماذا؟ لأن المسلمين مأمورون بأن يدخلوا البشرية في رحمة الله، ما تنزل الملائكة تقود بريطانيا أو إيطاليا إلى الإسلام؛ لأن الدار دار امتحان، من يدعوهم إلى الإسلام؟ المسلمون الذين ذاقوا لذاذة الإسلام، وعاشوا في أنواره وعدله ورحمته، هذا الجهاد باقٍ ما بقيت الدنيا، وإن يقف في بعض الظروف يقف، لكن لابد وأن يعود ويتجدد، فالمجاهدون إذا هزموا العدو الذي رفض الإسلام ورفض الخضوع لحكمه وأبى إلا أن يقاتل .. إذا هزمناه ماذا نصنع بالنساء والأطفال؟ نصب عليهم البنزين ونحرقهم، كما يفعلون هم -لعنة الله عليهم- ماذا نصنع بهم.. نسجنهم.. نعذبهم؟حرام هذا عندنا، نقسمهم على المجاهدين، والمجاهد إذا أخذ اثنتين ثلاث أربع، يستطيع يهب لمن يشاء من إخوانه، وإن احتاج إلى أن يبيعها، كعاملة يبيعها، وإن شاء عتقها، وأصبح مولاها، هذه العتيقة إذا ماتت من يرثها؟ الذي عتقها، هذا هو الولاء: ( الولاء لمن أعتق ) عرفتم؟ مادام قد أعتقها وحررها، أصبح وليها أو لا؟ إن ماتت وتركت مالاً من يرثه؟ معتقها: ( الولاء لمن أعتق ).إذاً: هذه الآية الأولى في ميراث النسب أو المصاهرة.
تفسير قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم ...)
يقول الله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12] هذه واضحة: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12] (أزواجكم) هنا بمعنى زوجاتكم أيها الفحول! وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12] أي: زوجاتكم، بشرط أو بدون شرط؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ [النساء:12] شرط (إن) أو لا؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ [النساء:12] افرض في ولد؟ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12] هذا الإرث بالنسب هذا؟ بالمصاهرة، تزوج رجل امرأة فماتت، ماتت كما ماتت فاطمة الزهراء ، ماتت من يرثها؟ الزوج يرث ماذا؟ ما نصيبه، ما حظه؟ النصف، اللهم إلا أن يكون لها ولد أو أولاد سبعون.. ينزل الزوج من النصف إلى الربع، يكفي الربع وأولادها ماذا يأخذون؟ لو ما كان لها أولاد نعم أحق الناس بمالها الزوج، أليس كذلك؟ أعطاه الله النصف، والنصف الباقي لأبيها.. للورثة.اسمع: وَلَكُمْ نِصْفُ [النساء:12] من أعطانا؟ الله، لكم، عطية الله: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ [النساء:12]، الرُّبْع والرُّبُع كله واحد مِمَّا تَرَكْنَ [النساء:12] أي: الزوجات، كما قدمنا، ولكم نصف ما ترك زوجاتكم مما تركن: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12] ما الذي يقدم في القسمة؟ الدين أولاً، ثم الوصية والباقي للورثة. لِم قدمت الوصية؟ لأن الوصية من يعطاها؟ جهة ربما غير موجودة؛ فللاهتمام بشأنها والخوف من ضياعها تذكر هي أولاً، والدين معلوم هو الأول، في القسمة الدين أولاً، إذاً: ما أبقى الدين شيء، لا بد من الدين ثم الوصية إن بقي شيء، بقي شيء بعد الوصية قسمت التركة، ما بقي شيء مع السلامة.أعيد هذا الجزء من الآية، اسمع ما يقول تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ [النساء:12]، ما قال (مما تركنا) مما ترك النساء، الزوجات: مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا [النساء:12]، (يوصين) هذا جمع النساء أو لا؟ لو واحدة قال: توصي أو يوصي، الرجال يوصون، والنساء يوصين، يوصون قوية أو لا؟ كالفحولة، والنساء يوصين، رقيقات الحواشي، ضعيفات البنية.ثم قال تعالى: وَلَهُنَّ [النساء:12] أي: الزوجات الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النساء:12] أيضاً أنتم، وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ [النساء:12].مات الرجل وما ترك ولداً ولا بنتاً، الزوجة ماذا تأخذ؟الربع، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النساء:12] أيها الرجال، ما قال: (مما تركن) كالأولى، مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، من بعد وصية توصون بها غيركم، أو دين تثبتونه وتقررونه.هنا إذا كان الهالك قد ترك زوجتين أو ثلاث أو أربع، وليس فوق الأربع زوجة قط، فهذا الربع أو الثمن كيف يقسم؟ يقسم إذا كانت واحدة لها الثمن، وإذا كانت زوجات اثنتين لهما الثمن، ثلاثة الثمن، أربع الثمن فقط.قال الحذاق من العلماء: لأن الأصل في النكاح زوجة واحدة، فأعطاها الله تعالى الربع، فإذا زاحمتها أخرى، ضرة من الضرات قسم الثمن بينهن، فالأصل أن الرجل يتزوج امرأة، كما تزوج آدم حواء، فهذا الزوج إذا مات تأخذ زوجته الربع والباقي للورثة، فإن كان له ولد، أو أكثر بنين أو بنات، تأخذ الثمن وحسبها ذلك ويكفيها، فإن زاحمتها ضرة أو ضرتان ما لهما إلا ذلك الجزء يقتسمونه؛ لأن الغالب أن الرجل يكتفي بالمرأة، فإذا تعذر وما اكتفى وأضاف، له أن يضيف اثنتين أو ثلاث، إذا إلى وصل الرابعة وقف السيل، انتهت طاقته وقدرته، مع الشرط الذي ما ينسى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:12] ذلك أمر واسع.إذاً: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12]، المراد بالأزواج هنا الزوجات أو الرجال؟ الرجال؛ لأن الأصل في الزوج ما يجعل الفرد زوجاً، انتبهتم؟ كل ما يجعل الفرد زوج هو زوج، آدم فرد أو لا؟ زوجه الله وجعله زوجاً بحواء، الرجل فرد زوجه الله بامرأة، أصبح هو زوج وهي زوج أيضاً.المرأة الفردة تزوجها أنت، يقال: زوجوا البنت أو لا؟ كيف زوجوها؟ أعطوها للرجل أصبحت زوجة. وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ [النساء:12] هذا القيد لا بد منه أو لا؟ لا ترث النصف إلا بقيد، ألا وهو: أن لا يكون للرجل ولد: فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ [النساء:12].إذاً: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ [النساء:12]، ماتت المرأة الزوجة، ورثها زوجها كذا؟ ماذا يرث كم؟ النصف، وإن كان لها ولد؟ ينزل من النصف إلى الربع، حجب نقصان .. بنت .. ولد .. عشرة كله واحد، لأن لفظ (ولد) اسم جنس.قال: فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ [النساء:12] بقيد أو لا؟ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12] وَلَهُنَّ [النساء:12] أي: الزوجات، عرفنا حق الزوج والزوجة؟ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النساء:12] أيها الرجال: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ [النساء:12] أو أكثر فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النساء:12].وهنا تأتي تلك الفريضة التي لا تنسى، وهي أن الزوجات إذا تعددن ليس لهن إلا ما ترثه الواحدة.هلك هالك وترك أولاداً، لها الثمن هذه الزوجة، فإن كانت لها ضرة أو ضرات يقتسمن الثمن فقط بلا خلاف بإجماع الأمة.واللطيفة قبلتموها أو لا؟ بعضكم يقبل والبعض لا؛ لأن الأصل أن الزوجة واحدة، كذا أو لا؟ فالتي تأتي بعدها تزاحمها أو لا؟ أخذت عليها ليلة في أربع ليالي، أخذت عليها كذا، وأخذت عليها أيضاً التركة، وهي ترضى لأنها ساعدتها، وقامت إلى جنبها وخدمت مع الزوج؛ فتفرح بأن تقتسم معها هذا الفرض الربع أو الثمن.وهكذا يورث الله الولاء والحب بين المؤمنين والمؤمنات، ولا تستطيع امرأة ولا رجل أن يولي رأسه، اسكت! هذه فريضة الله، ذي وصية الله، في من يعصي الله في وصيته؟ أيهما أبلغ الوصية أو الأمر؟ الوصية أعظم من الأمر، والله العظيم، نبين لك أو لا؟ يا راضي ! غداً إن شاء الله تعال الساعة الثامنة؟ هذا أمر أو لا؟ وإذا كتبتُ وصية أوصيك يا فلان بأن لا تتخلف على كذا، أيهما أشد؟الوصية؛ ولهذا قال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النساء:11] ما قال: يأمركم، الوصية أبلغ من الأمر، هذا معروف، الذي يوصي ولده كالذي يقول: يا ولدي افعل كذا؟ الوصية أعظم.( لا وصية لوارث ) نعم، الوارث ما يوصى له، يكفيه حظه، كيف نوصي له؟ هذه الآية من سورة البقرة نسخت بهذا الحديث، هذا من عجيب أن السنة نسخت الآية.( لا وصية لوارث )؛ لأن الله قال من سورة البقرة: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180]، هذه مجملة، لما جاءت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، بينت ذلك، فنسخت تلك الآية، وجاء الحديث فوضحها: ( لا وصية لوارث ).قال: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ [النساء:12] من الزوج هذا أو من زوج آخر، لها ولد أو لا؟ جاءت به ربيب، من زوج مات أو طلقها، أصبحت أم ولد أو لا؟ فإذا ماتت الزوج يأخذ النصف؟ ما يصلح، وهذا الولد! مطلقاً ولد من هذا أو من غيره. وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النساء:12] إذا مات الزوج وما عنده ولد ماذا ترث المرأة؟الربع، وإن كان له ولد منها أو من نساء أخريات مطلقاً، كبار أو صغار، تنزل من الربع إلى الثمن لوجود من يأخذ هذا المال.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نسمعكم الآن شرح الحكمين أو إرث المصاهرة. ‏
معنى الآيات
يقول المؤلف غفر الله لنا وله وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات: كانت الآية قبل هذه في بيان الوراثة بالنسب ] الآية الأولى كانت في بيان الوراثة بالنسب أو لا؟ من نسبك؟ أنت تنسب لأبيك أو لا؟ هذي تنسب لأمها أو لا؟ هذا النسب، نسب الأم والأب والقبيلة [ كانت الآية قبل هذه في بيان الوراثة بالنسب، وجاءت هذه في بيان الوراثة بالمصاهرة ].ما معنى المصاهرة هذه؟ تعرفون الصَّهْر أو لا؟! بالنار! لا إله إلا الله، انصهر فيها وانصهرت فيه، أصبحا كجزءاً واحداً.قال: [ والوارثون بالمصاهرة هما: الزوج والزوجات ] فقط [ قال تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12] فمن ماتت وتركت مالاً ولم تترك ولداً ولا ولد ولدٍ ذكراً كان أو أنثى فإن لزوجها من تركتها النصف، وإن تركت ولداً أو ولد ولدٍ ذكراً كان أو أنثى فإن لزوجها من تركتها الربع لا غير؛ وذلك لقول الله تعالى: فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ [النساء:12] أي: الزوجات، وهذا من بعد سداد الدين إن كان على الهالكة دين، وبعد إخراج الوصية إن أوصت الهالكة بشيء؛ لقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا [النساء:12] أي: الزوجات أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، هذا ميراث الزوج.أما ميراث الزوجة من زوجها: فهو الربع إن لم يترك الزوج ولداً ولا ولد ولدٍ، ذكراً كان أو أنثى، فإن ترك ولداً أو ولد ولدٍ فللزوجة الثمن فقط، وهذا معنى قوله تعالى: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12].هذا وإن كان للزوج الهالك زوجتان أو أكثر فإنهن يشتركن في الربع بالتساوي إن لم يكن للهالك ولد، وإن كان له ولد فلهن الثمن يشتركن فيه بالتساوي ].والحمد لله رب العالمين.

ابوالوليد المسلم
12-05-2021, 04:55 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (78)
الحلقة (300)
تفسير سورة النساء (81)


إن الله عز وجل اتخذ إبراهيم خليلاً، وما استحق إبراهيم عليه السلام لهذه الخلة إلا بعد أن تعرض لصنوف من الابتلاءات والمحن، والتي وقف إزاءها بكل إيمان وتسليم، فتعرض عليه الصلاة والسلام للإلقاء في النار، وتعرض هو وزوجه سارة للفتنة عند ملك مصر، وترك زوجه هاجر وابنه إسماعيل بواد غير ذي زرع بأمر من الله عز وجل، ثم آخر ذلك امتثل لأمر ربه طائعاً حين أمره بذبح ولده إسماعيل، فلما أن كاد ينفذ فيه أمر ربه فداه سبحانه بذبح عظيم، فاستحق بذلك إبراهيم أن يكون خليل الرحمن.
تفسير قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الخمس، فهيا نتغنى بها عدة مرات ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد ربنا تعالى منها، فإن كان عقيدة عقدناها في قلوبنا فلا تنحل عقدتها حتى نلقى ربنا، وإن كان مراد الله منها أمراً تهيئنا للنهوض به، وصممنا على القيام به؛ لأنه أمر مولانا وسيدنا ومالك أمرنا، إذ كيف لا نطيعه؟! وإن كان نهياً عن عقيدة فاسدة، عن خلق سيء، عن عمل باطل، فإننا من الآن وكلنا عزم وتصميم ألا نأتي ما حرم الله علينا، وإن كانت الآيات تحمل بشرى استبشرنا وحمدنا ربنا وطلبناه المزيد، وإن كانت تحمل تحذيراً من خطر أو وقوع في شر، حذرنا مستعينين بربنا سائلين أن يقينا كل مكروه، وتلاوة هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:163-166].
تقرير مبدأ الوحي الإلهي
معشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الآيات ترد على اليهود الذين فضحهم الله بالأمس وأزح الستار عنهم في الآيات التي درسناها، إذ لما بلغهم ذلك خافوا واضطربوا وأعلنوا عن مكرهم وخداعهم، وقالوا: إن محمداً لا يوحى إليه، وما قاله من كلام إنما هو من تلقاء نفسه، وليس وحياً من الله وكلامه، والله ما أوحى إليه ولا يوحي إليه، وأشاعوا هذه بين أقوامهم للخروج من الورطة التي تورطوا فيها، فرد الله تعالى عليهم بقوله: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى [النساء:163] النبيين والمرسلين، فكيف تستطيعون يا يهود أن تنكروا الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أوحى إلى الأنبياء والمرسلين من قبله؟ ثم بأي حجة وبأي منطق أو حق تقولون ذلك؟
أول الرسل إلى الأرض هو نوح عليه السلام
إِنَّا [النساء:163]، أي: رب العزة والجلال والكمال، أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [النساء:163]، يا رسولنا! محمداً صلى الله عليه وسلم، كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163]، ونوح -هذا الاسم- مشتق من النوح، من ناح ينوح نوحاً، إذا بكى وناح، ونوح عليه السلام هو أول المرسلين الذين حملوا رسالة التوحيد؛ ليدعو إلى عبادة الله وحده دون سواه، وهو أول رسول حارب الشرك، وقد عاش مع قومه أكثر من ألف سنة، أي: تسعمائة وخمسين سنة كان فيها داعياً إلى الله عز وجل، ولاقى من جهلة قومه ما لاقى وصبر، وأخيراً رفع كفيه إلى ربه ودعا على قومه، واستجاب الله عز وجل دعاءه فأغرقهم أجمعين، اللهم إلا نيفاً وثمانين رجلاً وطفلاً وامرأة، وغرقت البشرية كلها، وكانت في إبان عهدها الأول، وقصة نوح مكررة في القرآن الكريم، وحسبنا السورة المسماة باسمه وهي سورة نوح بين سورة الجن وسورة المعارج.
تعريف الوحي
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163]، والوحي والإيحاء من وحى يحي وحياً، إذا ألقى إليه الكلمات بمعانيها دون حروفها، فهو كالإشارة والرموز، وأوحى إليه يوحي إيحاءً، إذا أبلغه مراده بطريقة الإيحاء، أي: السريع الخفي، فقد يكون الرجل بين إخوانه ويلقى إليه، ويفهم عن الله والحاضرون لا يعرفون شيئاً.والوحي: إعلام سريع قد يُعلم الله تعالى به غير الأنبياء والمرسلين، كما أوحى إلى أم موسى في شأن ولدها أن تضعه في تابوت وترمي به في اليم حتى لا يأخذه فرعون ورجاله، ومريم البتول أيضاً أُوحي إليها، فقد أعلمت بطريق خفي من قبل ربها تبارك وتعالى.
ابتلاء الله لإبراهيم بقذفه في النار
وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [النساء:163]، ومعنى لفظ (إبراهيم) باللغة السريانية أو العبرية: الأب الرحيم، ، وإبراهيم سرياني من أرض بابل بالعراق، وهو خليل الرحمن عز وجل، ولم يسبق إلى الخلة إنسان قبل إبراهيم عليه السلام، ولم يظفر بها بعد إبراهيم إلا سيد المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ قال عليه الصلاة والسلام: ( لو كنت متخذاً غير ربي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن يكفي خلة الإسلام )، وقد ابتلي بما لم يبتل به غيره، فقد ألقي عليه السلام في النار، وذلك أنهم أججوا له النار أربعين يوماً، بل وكانت المرأة تنذر لآلهتها بحزمة من الحطب تلقيها في نار إبراهيم! وفعلاً وضع القيد في يديه ورجليه وألقي بمنجنيق؛ لأن النار كانت شديدة الالتهاب لم يقدر أهلها أن يقربوا منها، وقد عرض له جبريل يمتحنه في تلك الساعة الحرجة فقال له: ألك حاجة يا إبراهيم؟! فقال: أما إليك فلا، ولما عرف الله وأقبل عليه وتنكر لما سواه ولم يبال به، عرف أنه لا ينقذه من هذه النار إلا مولاه، فقال تعالى للنار: كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فصدر أمر الله تعالى إلى النار وهي مخلوق من مخلوقاته، تعرف عن الله وتسمع وتطيع كسائر المخلوقات، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فلم تعد النار إلا على القيد الذي في يديه ورجليه، ثم خرج منها يتفصد عرقاً، وودع القوم وقال: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، فكانت أول هجرة تقع على الأرض من عبد من عباد الله الصالحين، ولذلك كان أول من هاجر من ديار الكفر والشرك والظلم والشر والفساد إبراهيم الخليل بن آزر، وقال إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:99-100]، فكان هذا من البلاء.
ابتلاء الله لإبراهيم في زوجه
ثم اتجه غرباً نحو ديار الشام وتجاوزها إلى الديار المصرية، وذلك مع زوجه سارة بنت عمه وابن أخيه لوط، وكأنه تركه في الديار الفلسطينية ولم يواصل معه السير متجهاً غرباً، وقد حدث أن بعض المجرمين أخبروا ملك مصر بأن غريباً من الرجال معه فتاة حسناء جميلة، وأنها لا تليق إلا به، فقال: أتوني بها، وجاء أولئك يطلبون امرأة إبراهيم عليهما السلام، فقال لها إبراهيم: يا سارة! إنه لا يوجد على هذه الأرض مؤمن إلا وأنت، فأنا أخوك وأنت أختي، فإذا سألك الطاغية عني فقولي: هو أخي، ولا تقولي: إنه زوجي؛ لأنها إذا قالت: إنه زوجي، سيقتله ليتخلص منه ثم يتزوج بامرأته، لكن كلمة: (أخ) لا يبالي بها، إذ الأخ يزوج أخته من شاء.ومن عجائب تدبير الله وآياته وكراماته لأوليائه وصالح عباده رجالاً أو نساءً، أنهم لما حسنوا ثيابها وأصلحوا حالها، ووضعوها على سرير الطاغية ليداعبها ويكلمها ويؤانسها، فكان كلما وضع يده على كتفها يصاب بالشلل الفوري، فتيبس يده ويصرخ، ويقول لها: ادع مولاك، ثلاث مرات، ثم في الأخير قال: أخرجوها عني، لقد أتيتموني بشيطانة، ولكن مع هذا فقد أعطاها خادمة وبغلة ومالاً، ثم جاءت إبراهيم فقالت: أهلك الله العدو وخيبه وأذله وأخزاه، وهذه الجارية لك فخذها، وكانت الجارية هي هاجر أم إسماعيل، إذ إن إبراهيم عليه السلام تسراها لنفسه، ثم شاء الله أن تحمل بإسماعيل، وسارة لها سنوات كثيرة وهي مع إبراهيم لم تلد أبداً، فلما أنجبت هاجر إسماعيل أخذت سارة الغيرة وآلمتها، كيف أن هذه الجارية تلد وأنا لا آلد؟! والآن قلب إبراهيم كله سيكون مع طفله وجاريته، فماذا يصنع إبراهيم؟ وهو ما يصنع إلا بتدبير الله له، فأمر هاجر أن تحمل ولدها وأن تخرج معه ليلاً، وكانت عليها السلام تعفي أثرها بدرعها، ومشى بها إبراهيم من أرض القدس حتى وصل بها الوادي الأمين مكة قبل أن تعرف مكة، وهنا قد يقول قائل: كيف وصل بها؟ من الجائز أن البراق الذي حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس قد حمل إبراهيم إلى مكة مع هاجر وطفلها.

يتبع

ابوالوليد المسلم
12-05-2021, 04:56 AM
ابتلاء الله لإبراهيم بأمره بترك زوجه وطفله في واد غير ذي زرع
وكانت هذه أيضاً عظيمة من العظائم، وبلوى من البلايا، أي: أن يترك امرأته وطفله في وادٍ ما به أنيس ولا شجر ولا ثمر ولا زرع، من يقوى على هذا؟ لكن صبر إبراهيم عليه السلام، وهذا مظهر من مظاهر التكلان على الرحمن، فيا عباد الله! هل نحن متوكلون، أم أننا ندعي التوكل، أم لا ندعيه ولا نحن فيه؟ لما تركها مع إسماعيل الطفل الرضيع، ومعها جراب فيه بعض الطعام، وما طعامه إلا الخبز الجاف وشن فيه ماء، وتركهما وقفل راجعاً إلى الشام إلى بيت القدس، فلما أدبر وتركها وراءه مع طفلها، نادته: أن يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ أي: بأن تتركني وطفلي في هذا الوادي وليس معنا أحد؟ ثلاث مرات، فقال: إي يا هاجر! أمرني ربي، قالت: إذاً فاذهب فإنه لا يضيعنا، فأين إيماننا؟ وأين معرفتنا بالله؟ وذهب إبراهيم وترك هاجر وإسماعيل.وتمضي الأيام ويعود إبراهيم يتعهد تركته، وفي يوم من الأيام مرت قافلة من قوافل العرب وهي قبيلة جرهم، واحتاجوا إلى الماء وهم في طريقهم إلى ديارهم، فشاهدوا طائراً يحوم في السماء، فقالوا: لابد أن يكون هناك ماء، وفعلاً فقد كانت هناك بئر زمزم الشفاء والدواء، فلما جاء طالب الماء لهم والمرتاد له وجد إسماعيل ووالدته حول زمزم، وكيف نبع ماء زمزم؟ أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بأن إسماعيل عطش لما نفد الماء الذي كان معهم، فأخذ يتلوى في الأرض من شدة العطش، وهاجر عليها السلام لا أقول: تبكي، ولكن أقول: قلبها يحترق على ابنها؛ لأنه ربما قد يموت عطشاً بين يديها، فنظرت فرأت أقرب جبل منها الصفا، فمشت إلى الصفاء مسرعة، فصعدت فوقه ونظرت يميناً وشمالاً علها ترى ماء أو من يحمل الماء أو من يرشدها إلى الماء، فما وجدت، فهبطت من الصفا فقابلها جبل المروة فمشت، ولما وصلت الوادي أسرعت حتى تجاوزت الوادي، وهذا هو الوادي الذي نسرع فيه نحن الساعين، وهي سنة سنها لنا نبينا عليه السلام إحياء لذكرى هاجر أم إسماعيل، ولكن يعفى المؤمنات من الإسراع في ذلك المكان، إذ يمشين على عادتهن فقط، أما الرجال فإنهم يسرعون إحياءً لذكرى هاجر أم إسماعيل، ثم صعدت على المروة مرة أخرى والتفتت يميناً وشمالاً، فما رأت شيئاً، واستمرت تجري وتسعى بين الجبلين سبع مرات، ولهذا فالسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم وإذا بها تسمع هاتفاً يهتف فتقول: أسمعت أسمعت، فنظرت فإذا بجبريل عليه السلام واقفاً على رأس إسماعيل وإسماعيل يتلوى من شدة العطش، فلما وصلت هاجر مسرعة وهي تقول: أسمعت أسمعت، هل من غياث؟ فضرب جبريل الأرض بعقبه ففارت زمزم، وأخذت هاجر تجمع التراب وتحيطه بها حتى لا تسيح في الأرض، ولذا قال الحفيد الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في كما في صحيح البخاري: ( رحم الله أم إسماعيل لو تركته لكان عيناً معيناً تسيل الدهر كله، ولكن حصرته فأصبح بئراً )، وسمي زمزم من الزم، كما تزم أنت الحيوان أو الفرس، وزمزم آية من آيات الله في البلد الحرام، إذ قال تعال: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، فأي بئر في العالم تبقى آلاف السنين لا تنضب؟ وها أنتم تشربونه دائماً في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كانت بئراً من الآبار لجفت، ولما جاءت السيول في عهد الجاهلية وردمت البئر وغطته هيأ الله جد نبينا فحفر زمزم واستخرج ماءها مرة أخرى.وبقيت هاجر هناك وجاءت قبيلة جرهم -كما قدمنا- تطلب الماء، فنزلت إلى جنبها، وهنا لطيفة أخرى وهي: أن رجالات جرهم قالوا لها: هل تأذني لنا يا امرأة بالنزول هنا معك؟ والعجيب أنها أمة أو قبيلة برجالها وسلاحها وكثرة أفرادها تطلب الإذن من امرأة معها طفل يرضع! إذ لو كانوا أشراراً لقالوا: أبعدوها من هنا، فكيف تحللون هذه الظاهرة؟ إن تحليل هذه الظاهرة -واسمعوا وعوا- هي: أن البشرية كانت في أيامها الأولى أفضل وأكمل منها اليوم، فقد كان الكمال فيها من عهد آدم وشيث وإدريس ونوح، ثم أخذ ينقص شيئاً فشيئاً حتى وصلنا الآن إلى هذه الحال، بل وما زلنا لا يأتي يوم إلا والذي بعده شر منه، فانظر إلى ذلك الالتزام والاحترام، عجوز مع طفل في واد وقبيلة بكاملها تطلب الإذن منها أن تسمح لهم بالنزول عند الماء! فقالت: نعم، على شرط أن يكون الماء مائي ولا حق لكم فيه، فإن شئت أعطيتكم أو منعتكم، فقالوا: نعم.ولعل السامعين ما فهموا كلمتي هذه، أقول مرة أخرى: البشرية كانت في طهر وكمال، ثم أخذت تنقص شيئاً فشيئاً، إذ إن الذي خلق آدم هو الله تعالى، والذي وهبه أخلاقه وكمالاته البشرية هو الله تعالى، وتوارث أولاده هذه الصفات وهذه الكمالات، وبالتالي فالبشرية كانت في كمال من الأخلاق، والعرب المشركون كانت أخلاقهم أرفع من أخلاقنا نحن المؤمنين في مجالات كثيرة.
ابتلاء الله لإبراهيم بأمره بذبح ولده إسماعيل
وكان إبراهيم عليه السلام يتعهد تركته، فيأتي من أرض المقدس إلى مكة المكرمة، فجاء يوماً وإذا بإسماعيل الذي كان رضيعاً قد أصبح غلاماً زكياً طاهراً نقياً، وقد قارب أن يعمل مع أمه ولو يخرج لها الماء، فجاء إبراهيم وناجى إسماعيل وقال له: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، ورؤيا الأنبياء وحي، وهذا خاتمهم صلى الله عليه وسلم كانت الستة الأشهر الأولى من نبوته تأتيه في المنام، يقول صلى الله عليه وسلم: ( الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة )، ومعنى (جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة): أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عاش نبياً ورسولاً ثلاثاً وعشرين سنة، والسنة فيها اثنا عشر شهراً، أي أن فيها جزأين كل جزء مكون من ستة أشهر، عندها نضرب ثلاثاً وعشرين سنة في اثنين فينتج ستة وأربعون جزءاً، جزء واحد منها وهو ستة أشهر كانت مناماً.فلهذا الرؤيا الصالحة من العبد الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ [الصافات:102]، أي: الغلام الزكي الطاهر، يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، فأين أبناؤنا؟ وأين آباؤنا؟ هل آباؤنا يستشيروننا في قضية كهذه وبهذا اللفظ؟ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، أي: أنه قد أوحي إليَّ أن أذبحك، وأنت انظر ما الذي تراه يا إسماعيل! فماذا قال الغلام الزكي؟ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، أي: افعل ما يأمرك الله به، سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، وقال لـهاجر: طيبيه وطهريه وألبسيه أحسن ثيابه، ثم خرج به إلى منى حيث تراق الدماء.ومن عجيب هذه الحادثة أن إبليس اعترضه في العقبة عند الجمرة الأولى، وذلك ليصرفه عن تنفيذ أمر ربه، فطرده إبراهيم ورماه بسبع حصيات كما نفعل في حجنا، فهرب إبليس ومشى إسماعيل مع إبراهيم حتى وصلا مكان الجمرة الوسطى، فوقف له فقال له: ماذا يفعل ربك بهذا الصغير؟ مالك يا إبراهيم؟ أين يذهب بعقلك؟ ربك لا يحتاج إلى ذبح هذا الولد، فعرفه فلعنه ورماه بالحجارة، ثم مشى حتى وصل الجمرة الثالثة، وهناك تله للجبين، أي: صرعه على الأرض، والمدية في يده، فأي ابتلاء أعظم من أن يؤمر العبد بأن يذبح طفله؟! والله إن المدية لفي يديه، وأراد أن يضعها على حلق الغلام، بل قد وضعها لكنها كلَّت وأصبحت خشبة، والتفت إبراهيم وإذا بجبريل عليه السلام آخذ بكبش أملح وقال: اترك هذا واذبح هذا، قال تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].
أمر الله لإبراهيم بأن يبني بيتاً في الوادي الأمين
ثم تمضي الأيام والأعوام ويؤمر إبراهيم بأن يبني لله بيتاً في ذلك الوادي الأمين، وانظر لو أن شركة من الشركات أمرت بذلك والله لعجزت، ويبني إبراهيم البيت مع إسماعيل، وكأنكم وهما يتقاولان ويبنيان البيت: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، ولما ارتفع البناء وعجز إبراهيم عن رفع الحجارة أكثر حتى يعلو البناء، طلب من إسماعيل أن يأتيه بحجر يصعد عليه، فجاءه بالحجر المعروف -المقام- من جبل أبي قبيس، وعلا فوقه، وكلما بنى جانباً أداره حتى انتهى ما بين الحجر والباب، ثم جاءت السيول فرجعت به إلى مكانه الآن من عهد إبراهيم، وهنا قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124]، وهذه الكلمات هي الأوامر القاسية الشديدة، وقد استعرضناها واحدة بعد أخرى، وهنا حق لإبراهيم أن يتوج بتاج العز والفخار، وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، فأنت إمام الناس بالامتحان والنجاح، فأي امتحان أعظم من هذا الامتحان؟ ذبح الولد، وقبله الهجرة، وقبله كذا وكذا، قال: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124]، وهذه هي الرحمة الإبراهيمية إذ إنه هو الأب الرحيم، قال: ومن ذريتي يا رب اجعل فيهم الأئمة، وهذا ما يسمى بولاية العهد، فهو طلب ولاية العهد في ذريته، فقال الله تعالى له: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، فأبناؤك الصالحون المستقيمون العادلون فنعم، أما الظالم فلا ينال عهدي، ولهذا من أراد أن يعهد إلى ولاية فينبغي أن يختار أعدل أولاده وأصلحهم وأرحمهم، وهذا قد علمناه الله عز وجل، ولا تختار فاجراً من فجار الأولاد وتقول: هذا يخلفني! بل اختار أصلحهم وأتقاهم وأبرهم وأعدلهم وأقدرهم على المهمة، بل وهذا في كل من يريد أن يولي غيره على مهمة من المهام حتى في بيتك.ثم أخبر الله عن إبراهيم الأب الرحيم أنه قال بعدما بنى البيت وسكن إسماعيل وأمه: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:37]، وقال: (من ذريتي)، لعله كان يتطلع إلى ذرية آخرين، وقد رزقه الله إسحاق من سارة ابنة عمه، ولعل في هذا الوقت كانت سارة قد ولدت، قال تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]. رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، وقال: (ليقيموا الصلاة)، أي: يا رب! ارزقهم من الثمرات من أجل أن يصلوا، ولذا فاعلموا يا معشر المسلمين! أن سر الحياة هو أن يُعبد الله فيها، بل علة هذا الوجود بكامله هو أن يُعبد الله فيه، ولذلك أنزل آدم وحواء إلى الأرض من أجل أن يُعبد الله فيها، وأعظم عبادة ولا تساويها أخرى هي إقام الصلاة؛ لأنها تجعل العبد متصلاً بربه ويقف بين يديه ويناجيه ويكلمه خمس مرات في الأربعة والعشرين الساعة، ولهذا فإن تارك الصلاة كافر ما آمن بالله ولا عرفه، والمقيم للصلاة هو العابد لله تعالى، وقد فهم هذا إبراهيم لما قال: رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:37]، أي: إن أقاموا الصلاة فاجعل لهم كذا وكذا، إذ هو قد فهم أننا ما خلقنا إلا للعبادة، وبين هذا تعالى في كتابه فقال عز من قائل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].ثم قال إبراهيم في دعائه: رَبِّ إِنَّهُنَّ [إبراهيم:36]، أي: الأصنام، أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي [إبراهيم:36] أي: على ملتي وديني، فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي [إبراهيم:36] فاحرقه بالنار؟! ومن عصاني فجوعه؟! ومن عصاني فاطرده؟! لا، فماذا قال؟ فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36]، أي: اغفر له وارحمه. وهذا عيسى عليه السلام قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، وما قال: اغفر لهم، وإنما إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ [المائدة:118]، فمن يعترض عليك؟ هم عبيدك ولك أن تعذبهم، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118].وهنا يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر موقف الرسولين الكريمين ويدعو لهذه الأمة بالمغفرة والرحمة، ويشفع لها في عرصات القيامة.هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع، وأن يغفر ذنوبنا، وأن يستر عيوبنا، وأن يفرج كروبنا، وأن يشفي أمراضنا، وأن يجمعنا دائماً على ذكره وحبه وحب أوليائه.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
18-05-2021, 04:19 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (79)
الحلقة (301)
تفسير سورة النساء (82)


جاءت هذه الآيات تكذيباً لليهود الذين زعموا أنه لم يوح إلى أحد من البشر غير موسى عليه السلام، فذكر الله عدداً من الأنبياء والرسل، ثم أخبر نبيه عن وجود آخرين لم يقصهم عليه أرسلهم سبحانه إلى أقوامهم، وفوق ذلك أخبره أنه كلم موسى تكليماً، فأسمعه كلامه بدون واسطة، فكيف ينكر اليهود ذلك كله، وقد بعث الله الرسل مبشرين لمن آمن بالجنة، ومنذرين من أشرك وكفر بالنار.
تابع تفسير قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين.وها نحن مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:163-166].
تقرير الوحي الإلهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الآيات الخمس الكريمة ترد على أهل الكتاب دعاواهم بأن الرسول النبي الخاتم محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بنبي ولا رسول، وادعوا أنه ليس هناك من يشهد له بالنبوة ولا بالرسالة، أما الأنبياء الصادقون قبله فقد كانوا يتواجدون في الوقت الواحد أو في البلد الواحد فيشهد هذا لهذا، وهذا الذي يدعي النبوة ليس هناك من يشهد له بأنه نبي أو رسول، فجاءت هذه الآيات تبطل تلك الدعاوى وتجتثها من أصولها، وحسبنا أن يشهد الله عز وجل له، ثم أبعد شهادة الله تطلبون شهادة؟! ما قيمة شهادة العباد بالنسبة إلى شهادة رب العباد؟! فهيا بنا نتدارس هذه الآيات تدبراً وتأملاً.قوله: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [النساء:163]، هذا إخباره تعالى عن نفسه، إِنَّا ، أي: رب العزة والجلال والكمال، أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ، أي: هذا القرآن الكريم، وهذه الشرائع وهذه الأحكام وهذه الآداب، فهل كنت يا محمد تعلم شيئاً من ذلك؟ وهل كان أحد يعرف أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم -قبل أن نبأه الله بعد أن بلغ الأربعين من السنين من عمره- سيكون رسولاً؟ إذاً من أوحى إليه بهذا القرآن؟! إنه الله تعالى، وليس هذا ببدع ولا بغريب، إذ أوحينا إليك كما أوحينا إلى الرسل والأنبياء من قبلك، فأية غرابة في هذا الباب ما دام أن الله عز وجل يوحي إلى الأنبياء والمرسلين وأنتم تعترفون بذلك؟! فلمَ إذاً ينفى الوحي عن النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم؟!
نبذة مختصرة عن نبي الله نوح عليه السلام
كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ [النساء:163]، وقد علمنا ومن حقنا أن نعلم أن نوحاً كان أول رسول حمل الرسالة إلى البشرية وهي متورطة في الشرك والآثام، وأما ما قبل نوح وهما إدريس عليه السلام وشيث من ولد آدم، فما كانوا في أمم أشركت بالله عز وجل غيره وعبدت سواه، وكسلت وهبطت حتى ينقذها الله بنبوة ورسالة، أما نوح عليه السلام فحسبنا أنه أرسل إلى قوم يعبدون خمسة تماثيل، وهذه التماثيل الخمسة هم في الواقع عباد صالحون، وهم: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، إذ قال تعالى حاكياً قولهم: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ [نوح:23]، أي: لا تتركن، آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، فهؤلاء قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا عباداً صالحين، فلما ماتوا وضعوا على قبورهم تماثيل تمثلهم بحجة الرغبة في العبادة والطاعة والإقبال على الله تعالى، والتوسل والاقتداء بهؤلاء الصالحين، لكن مع مرور الزمان جاء جيل ظنهم أنهم آلهة وعبدوهم من دون الله تعالى، ولهذا حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من كل عمل من شأنه أن يتولد عنه الشرك والعياذ بالله.
نبذة مختصرة عن نبي الله إبراهيم وأبنائه عليهم السلام
وأما إبراهيم عليه السلام فهو أبو الأنبياء، وعامة أنبياء بني إسرائيل من ولد إبراهيم عليه السلام، ومعنى إبراهيم باللغة السريانية: الأب الرحيم، وقد كلفه الله بأوامر فنهض بها فاستوجب بذلك الإمامة، ولنقرأ قول الله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، ونذكر من هذا أنه كلفه بأن يذبح ولده إسماعيل قرباناً لله رب العالمين، فما تردد في ذلك أبداً، بل أطاع ربه ووضع طفله إسماعيل بين يديه ليذبحه تقرباً إلى ربه عز وجل.واليهود والنصارى لا يجحدون نبوته، إذ الكل يؤمن بإبراهيم نبياً ورسولاً، وإسماعيل هو ابن إبراهيم الخليل، وهو ابن هاجر التي أهداها ملك مصر إلى سارة زوج إبراهيم وابنة عمه، فتسراها إبراهيم فأنجبت له إسماعيل، ثم بعد فترة أنجبت له إسحاق، وإسحاق هو ابن سارة وقد ولد بعد إسماعيل، قال تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، ويعقوب هو ابن إسحاق، وهذه تسمى بالبشرى المزدوجة، أي: بشره بولد يولد له ويكبر ويتزوج ويولد له ولد آخر، وهذا لا يقدره عليه إلا الله تعالى.
بيان من هم الأسباط عليهم السلام
وأما الأسباط فهم أحفاد يعقوب عليه السلام، والأسباط جمع: سبط، والحقيقة هو ابن الابن، وهؤلاء الأسباط كانوا اثني عشر رجلاً، وكانوا أنبياء، واليهود يعرفون هذا ويؤمنون به.
نبذة مختصرة عن نبي الله عيسى عليه السلام
وأما عيسى عليه السلام فهو روح الله وكلمته، وعبد الله ورسوله، وقد أراد الله عز وجل أن يخلق هذا المخلوق على خلاف سنته في تواجد بني آدم وتكاثرهم في الأرض، فأمر الله تعالى ملكه جبريل عليه السلام أن ينفخ في كُمِّ درع أم عيسى مريم عليها السلام، وبالفعل نفخ في كم الدرع فسرت النفخة -وهي روح- فدخلت في جوف مريم عليها السلام، وما هي إلا أن هزَّها الطلق وألجأها إلى مكان لتلد فيه تحت نخلة في قريتهم التي كانوا بها، فكان عيسى بكلمة التكوين، أي: كن، فكان، والذي عليه أكثر أهل العلم: أنه ما مكث في بطنها أكثر من ساعات، وتجلت حقيقة أنه عبد الله ورسوله في أنه وهو يرضع قالت لهم أمه: اسألوه، فأنطقه الله فقال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:30-33]، ثم قال الله تعالى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [مريم:34]، وقد أنزل الله عليه الإنجيل، والإنجيل بعد التوراة، إذ إن بني إسرائيل كانوا يعيشون على التوراة التي أوحاها الله إلى موسى الكريم منذ قرون، لكن الله نسخ بالإنجيل بعض الأحكام التي كانت في التوراة، وأقر أحكاماً أخرى، وأضاف أيضاً إلى ذلك أحكاماً أخرى، لكن لا منافاة بين التوراة والإنجيل.وقد ولد عيسى في بيت لحم، وأخذ الخصوم يحاربونه، بل أدى بهم الحال إلى أن عزموا على قتله، وبالفعل حاصروه في بيته ورفعه الله تعالى من روزنة البيت وألقى الشبه على رئيس الشرطة الذي دخل ليخرجه، فلما تباطأ دخلوا عليه فألقوا القبض على ذاك الشرطي أو المسئول وظنوه عيسى، فأخذوه وصلبوه وقتلوه، وهم مختلفون هل هو عيسى أو لا؟ أما عيسى فقد رفعه الله تعالى إليه، قال تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:158].وقد آمن بعيسى عليه السلام بعض الصلحاء والمعروفين بالحواريين، وأحداثهم في سورة المائدة وفي غيرها، والشاهد عندنا: أن عيسى رفع إلى الملكوت الأعلى، والحواريون نشروا دعوته التوحيدية الإسلامية في جنوب أوروبا، وانتشرت الدعوة الإسلامية التي جاء بها عيسى عليه السلام، فكاد اليهود ومكروا فبعثوا بولس، وأخذ يتقرب إلى الحاكم المسيحي، واستطاع أن يفسد الديانة المسيحية كما كانت على عهد عيسى، حتى قيل: لم يعبد النصارى ربهم عبادة حقيقية تزكي نفوسهم وتؤهلهم للجنة إلا سبعين سنة، ويدل لذلك أن الإنجيل الآن هو خمسة أناجيل، بل قد عبثوا بالإنجيل فقسموه إلى أكثر من خمسة وثلاثين إنجيلاً، ثم بمرور الأيام والفضيحة اجتمعوا وحولوا الخمسة والثلاثين إلى خمسة أناجيل.إذاً: الذي مكر بالمسيحيين هم اليهود، ولا زالوا إلى اليوم يمكرون بأي دين يظهر؛ لأنهم يريدون أن يكونوا هم أهل الدين فقط، كما قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيسى سينزل من الملكوت الأعلى في آخر أيام هذه الحياة، وإنا لمنتظرون، وسوف ينزل فيحكم ويملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً، ولكن العلامة المؤكدة له ولظهوره أن تتغير أحوال المسلمين، ويحكمهم إمام صالح اسمه محمد بن عبد الله المهدي، وينزل عيسى والمهدي يؤم ويحكم هذه الأمة، وإذا نزل عيسى فقد أغلق باب التوبة، فالمؤمن مؤمن، والكافر كافر، والبار بار، والفاجر فاجر؛ لأنها العلامة الكبرى من علامات قيام الساعة.
نبذة مختصرة عن نبي الله أيوب عليه السلام
وأما أيوب عليه السلام فقد ذكر تعالى قصته وأنه مرض ثمانية عشر سنة، ثم سأل ربه بتلك الدعوة: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، فاستجاب الله له وكشف ضره.
نبذة مختصرة عن نبي الله يونس عليه السلام
وأما يونس عليه السلام فقد قال فيه نبينا: ( لا تفضلوني على ابن متَّى )؛ لأن يونس باللغة السائدة إن صح التعبير فشل في الدعوة وما استطاع مقاومة المعاندين والمشركين من قومه، فما كان منه إلا أن تركهم وخرج من بلادهم، ولم يثبت كثبوت محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك خاف الرسول على أصحابه من أن يقولوا: إن يونس قد ضعف أو أن يونس كذا وكذا، فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا تفضلوني على يونس بن متَّى )، ولما ملَّ يونس وسئم من عناد قومه وانصرافهم عنه ومقاومتهم لدعوته ترك البلاد وخرج، فلما وصل إلى شاطئ البحر صادف السفينة تريد أن تقلع فركب معهم، والتدبير لله عز وجل، ولما أصبحوا في البحر قال ربان السفينة: إن الشحنة أو الحمولة ثقيلة، فخيروا أنفسكم، إما أن تسقطوا واحداً منكم وإما أن تغرقوا كلكم، فأقرعوا فيما بينهم فخرجت القرعة على يونس، قال تعالى مصوراً ذلك: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141]، فما كان منهم إلا أن ربطوه بحبل ورموه في البحر، فأمر الله سمكة من السمك العظيم أن تفتح فاها ليدخل يونس في بطنها، وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:139-142]، ثم أخذ يسبح: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فلما سمعت ملائكة العرش صوت يونس في قعر البحر وفي بطن الحوت شفعوا له عند الله تعالى، فأمر الله تعالى تلك السمكة أن تلفظه على شاطئ البحر، وكان قد نضج لحمه من حرارة بطن الحوت، إذ إن من يمكث كذا يوماً أو أسبوعاً في بطن الحوت فإن لحمه سيتهرى، وبعد أن ألقته السمكة على الشاطئ شاء الله أن ينبت عليه شجرة اليقطين، وذلك لتصبح كمستشفى خاصاً بنبي الله يونس، وتعرفون ورق الدباء؟ إذ إنه ورق ناعم والذباب لا يقع عليه، كما سخر الله له واحدة من الغزلان تأتي بنفسها وتدني بثديها ويرضع منها، فهذا غذاؤه وهذا دواؤه حتى تماثل للشفاء، ولنقرأ ذلك: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات:145-146]، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب اليقطين، أي: يحب ثمره وهو الدباء، وكان يلتقطها من حافتي القصعة، وهي ناعمة حقيقة، ولا ألذ منها إذا أُحسن طبخها.ولما تماثل للشفاء عاد إلى قومه، فوجدهم ينتظرونه بفارغ الصبر، قال تعالى: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات:145-148]، فلم تؤمن أمة بكاملها إلا أمة يونس، إذ ما من أمة بعث الله فيها رسولاً أو نبأ نبياً إلا آمن البعض وكفر البعض إلا أمة يونس فقد آمنوا عن آخرهم، وكان عددهم مائة ألف وزيادة، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات:148]، أي: إلى نهاية آجالهم وإلا استوجبوا العذاب، وقال العلماء: لما خرج يونس من بلادهم تجلت سحب سوداء في سماء تلك المدينة، فنصح بعض المصلحين في تلك الأمة أن العذاب قد قرب، وأن عليهم أن يتوبوا إلى الله تعالى، وأن يصرخوا بين يديه، فتقول الروايات: أبعدوا الأطفال عن أمهاتهم ليصرخوا وليبكوا، وحتى الحيوانات أبعدوا صغارها عن كبارها، وضجت البلاد كلها بالبكاء لله عز وجل، فتقشعت تلك السحب وآمنوا، وهذا تدبير من رب العزة والجلال، فعاد يونس فإذا بهم يستقبلونه بحفاوة ويقبلونه.
نبذة مختصرة عن نبي الله هارون عليه السلام
وأما هارون فهو أخو موسى عليه السلام، وقد ولد قبل موسى بسنة أو بسنتين في العام الذي كان لا يقتل فيه ذكور بني إسرائيل من قبل جنود فرعون، والسبب في ذلك: أن السحرة أو رجال السياسة قالوا لفرعون: إن دولتك أو سلطانك سيكون زوالها على يد هذه الفئة من بني إسرائيل؛ لأنهم أولاد الأنبياء، ولا بد وأن يكون لهم يوم يملكون، وقد حصلت أيضاً تجربة وهي أنه لما قدم موسى إلى فرعون وهو يحبو، فإذا به يحاول أن يقف فمسك بلحية فرعون وجذبها، فتطير فرعون وقال: إذاً هذا هو، وهم بذبحه، وهذا مبين في سورة القصص، فشفعت له آسية وقالت: جربه أو امتحنه، فامتحنوه فجاءوا بطبق فيه جمر وآخر فيه تمر، وقالوا: إن تناول التمر فهو واع وبصير وقد أراد إهانة فرعون بجذب لحيته، وإن تناول الجمر فهو صغير لا يفرق ولا يميز بين الحسن والقبيح، فأخذ الجمر وألقاها في فمه فكانت سبب لُكنة لسانه، ولما كبر موسى وحمل الرسالة عابه فرعون بهذه اللكنة، إذ لم يكن فصيحاً.وعلى كلٍ لما أصدر فرعون أمره بقتل ذكور بني إسرائيل قام رجال الدولة وقالوا: ستنتهي اليد العاملة إذا قضينا على بني إسرائيل كلهم، فمن الرأي أن عاماً نقتل وعاماً نعفي، ففي عام الإعفاء ولد هارون، وفي عام القتل ولد موسى، فأوحى الله تعالى إليها بما بينه في كتابه العزيز: أن ضعيه في التابوت وألقيه في اليم إلى آخر القصة.إذاً: هارون هو أخو موسى وشقيقه، وموسى هو الذي سأل ربه أن ينبئه ويرسله معه، وقد استجاب الله عز وجل له، وخلف موسى في بني إسرائيل أيام ذهابه إلى المناجاة، ومات في التيه في صحراء سينا قبل موسى، وقد اتهم اليهود موسى بقتل أخيه، وهذه من أخلاقهم إلى الآن.

يتبع

ابوالوليد المسلم
18-05-2021, 04:19 AM
نبذة مختصرة عن نبي الله سليمان عليه السلام
وأما سليمان عليه السلام فهو ابن داود عليه السلام، وهو أحد ثلاثة الذين ملّكهم الله المعمورة من أقصاها إلى أقصاها، وهم: ذو القرنين، وسليمان، وبختنصر، كما أنه أوتي من الكمالات ما لم يؤتها غيره، ومنها: أنه يفهم نطق الطير، قال: وعُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ [النمل:16]، فإذا صاح الطير فإنه يعرف ما يقول، وهذه من أعظم الكرامات والمعجزات، وعُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ [النمل:16].ومما يذكر عن فهمه للطير أنه سئل مرة عن صياح صرد وهو طائر معروف إلى الآن، فقال لهم: يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب، وهي كلمة حق، أي: لدوا أيها الوالدين من الرجال والنساء للموت، إذ لو لم نلد ماذا سيأخذ الموت؟ والذين يبنون العمارات والمنازل إنما يبنونها لتكون خراباً وإن بلغت عنان السماء، بل والله لا بد وأن تئول إلى خراب، وكانت هذه موعظة عجيبة من هذا الطائر.
نبذة مختصرة عن نبي الله داود عليه السلام
وأما داود عليه السلام هو أبو سليمان عليه السلام، وقصته موجزة في سورة البقرة، وهو أنه كان في جيش يقوده طالوت لقتال جالوت، وذلك أن بني إسرائيل لما استعمروا وشردوا وطردوا كما هي حالهم في وقت مضى، سألوا الله عز وجل بواسطة نبي من أنبيائهم أن يملك عليهم رجلاً يجاهدون معه ويستردون ملكهم ويعودون إلى ديارهم، وهذا مبين بإجمال في سورة البقرة، قال تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ [البقرة:248] الآية، ثم جاءهم الأمر من الله بأن فلاناً هو الذي سيقودكم، فحملهم الكبر وقالوا: كيف يحكمنا هذا ويقودنا ولم يؤت كذا وكذا من المال والجسم، فألزمهم الله بقبول ولايته، وذلك أنه أعطاهم آية يندهشون أمامها ويسلمون له، وهذه الآية هي أن الملائكة تأتيهم بالتابوت من أرض بابل بالعراق التي احتلها العدو، وبالفعل جاء التابوت وفيه آثار موسى وهارون، فما كان منهم إلا أن سلموا له، أي: سلموا بقيادة طالوت لهم، ومشى معهم ليحارب من احتل بلادهم، وامتحنهم في الطريق ليرى الصابر من العاجز الجزع الذي لا يقاوم ولا يقاتل، فقال لهم: سوف نمر بنهر فلا تشربوا منه، ومن أُلجئ واضطر إلى الشرب فلا يزيد على غرفة يغرفها بيده، وما إن وصلوا إلى النهر حتى أكبوا عليه كالبهائم، ولم ينج إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً على عدة أهل بدر، والباقون قال لهم: أنتم لا تصلحون للقتال، فعادوا منهزمين قرابة أربعين ألفاً، وقاتل طالوت بثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً وانتصر، وسبب الانتصار هو أن جالوت خرج من جيشه يطالب المبارزة، وكان جباراً من الجبابرة، فنادى طالوت: من يبارزه؟ من يبارزه؟ فما استطاع أحد أن يخرج إليه، فخرج إليه داود وكان شاباً صغيراً، فتقاتلا فنصره الله على جالوت، ومن ثم رفعه الله تعالى، وأصبح ولي عهد ثم أصبح هو الملك، وأوحى الله إليه ونبأه وأرسله.ومما أعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن داود أنه كان يأكل من عمل يده، وكان يصوم يوماً ويفطر يوم، ومع هذا كان لا يقعد عن الجهاد، وقد كان ينسج الدروع، قال تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ [الأنبياء:80]، أي: لتحفظكم من عدوكم، وهنا يروى أن لقمان الحكيم عليه السلام مر بداود وهو عند منزله ينسج الدروع للقتال ويبيعها، فوقف لقمان وهم أن يسأله لماذا هذه؟ أو ماذا تصنع بها؟ فأدركته الحكمة فسكت، فلما فرغ داود من نسج الدرع أخذ يقيسه على جسمه، ثم قال: نعم لبوس الحرب أنتِ، فقال لقمان عليه السلام: الصمت حكمة وقليل فاعله، إذ لو ما صمت وسأل كان أهان نفسه وأذلها، وسأل عما لا يعنيه ولا حاجة له به، لكن لما صبر وصمت وآثر الصمت على النطق استفاد العلم بدون ما سأل.كما أن داود عليه السلام حكم فترة من الزمن، ولما توفي ولى ولده سليمان، وهناك أيضاً حادثة أشير إليها وهي أن سليمان كان أمام المحكمة وهو طفل يلعب مع الأولاد، فاختصمت امرأتان في طفل لهما، فلم خرجتا من مجلس القضاء سألهما سليمان: بم حكم أبي؟ قالوا: حكم بكذا وكذا، والقضية هي أن امرأتين نامتا في مكان ما، فجاء فاختطف ذئب أو حيوان فأخذ أحد الطفلين لهما، ولما استيقظت إحداهن وجدت أن طفلها غير موجود، فضمت إليها طفل جارتها، وقالت: هذا ولدي، فبكت الأولى وترافعا وتقاضيا عند الملك داود، فحكم بالطفل للكبرى اجتهاداً، إذ الصغيرة لا يمكن أن تصدق، ثم كيف تلد وهي لازالت صغيرة؟ بينما الكبرى معقول أن تكون هي أمه، فقال سليمان لأبيه: اذبح هذا الولد، فالتي ترضى بذبحه ليست بأمه، فلما قال: هاتوا الولد ليذبح، صاحت الأم وقالت: لا يذبح، إنه ليس بولدي، بينما الأخرى قدمته ليذبح، إذ لو كان طفلها وفلذة كبدها فإنها لا تعطيه ليذبح.وهناك حادثة أخرى وهي حادثة الزرع، وقد قال الله فيها كما في سورة الأنبياء: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79]، والشاهد عندنا هو أن سليمان تربى في حجر داود، وكان من أنبياء الله ورسله.
بيان المراد بالزبور في قوله تعالى: (وآتينا داود زبوراً)
وقوله تعالى: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [النساء:163]، والزبور هو الكتاب، وهو مأخوذ من الزبر الذي هو الكتب، والزبور مائة وخمسون سورة، وليس فيه حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هو حكم ومواعظ، والتوراة هي التي تطبق ويحكم بها وتنفذ أحكام الله فيها، أما الزبور فهو كتاب فقط فيه عظات وحكم فقط، وكان داود عليه السلام إذا قرأه بصوته الحسن يلتف حوله الإنس والجن والطير والحيوان.
تفسير قوله تعالى: (ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك ...)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ [النساء:164]، أي: ورسلاً أرسلناهم يا نبينا وقصصنا عليك قصصهم في القرآن الكريم. وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]؛ لأنه لا فائدة من ذكر قصصهم، إذ لا يستفيد منها شيئاً، مع أن هناك أمماً في شرق أوروبا وفي الصين وفي اليابان وفي مناطق بعيدة ما أوحى الله تعالى على نبينا من شأنهم شيئاً، إذ ليس هناك فائدة في ذلك، لكن الجهات القريبة من الجزيرة هي التي ينتفع أهل القرآن بمعرفة قصصها، وإلا ما من أمة إلا وقد نبأ الله فيها وأرسل إليها رسولاً، بل ما خلت أمة من نذير قط، لكن الذي ذكر تعالى لنا هذه المنطقة حول الشرق الأوسط، أما الرسل الذين أرسلوا خارج الشرق الأقصى أو الغرب الأبعد فما ذكر تعالى عنهم شيئاً، ولكن نؤمن إيماناً يقينياً أنه ما من أمة إلا وقد خلا فيها نذير، ولهذا قال تعالى: وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]؛ لأنه لا فائدة في قصصهم والتحدث عنهم؛ لأن العرب واليهود وغيرهم ما عرفوا هؤلاء ولا سمعوا عنهم، فما يستفيدون من قصصهم والحديث عنهم.ثم قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وهذه حجة أخرى، إذ إن اليهود يعترفون بأن موسى عليه السلام الكليم قد كلمه الله كفاحاً بلا واسطة في جبل الطور، وهذا الذي كلم موسى تكليماً لا يرسل نبياً آخر محمداً ويوحي إليه، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، و(تكليماً) مصدر لتأكيد الكلام لا مجرد إيحاء وإعلام سريع، وإنما كان كلاماً حقيقة، ويدل لذلك أنه لما سمع موسى كلام ربه قال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، فلولا أنه سمع كلام الله حقيقة ما كانت تتطلع نفسه إلى رؤية الله عز وجل، أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143]، فعجز عن رؤية الجبل لما تهدم وتحطم.
تفسير قوله تعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ...)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:165]. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [النساء:165]، أي: مبشرين أهل الإيمان وصالحي الأعمال، ومنذرين أهل الشرك والذنوب والآثام، وعلة ذلك: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، فلولا الرسل الذين يُرسلون لكان لأهل البلاد حجة يوم القيامة ولقالوا: يقولون: ما جاءنا من نذير، وبالتالي فكيف نعبدك؟ ما بلغنا أمرك ولا نهيك، فلمَ تؤاخذنا؟ إذاً فلقطع هذه الحجة ما خلت أمة إلا وأرسل الله فيها رسولاً أو بعث فيها رسولاً، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، وحتى الأمم التي تُهلك وتدمر، ما دمر الله أمة ولا قرية ولا أهلك بلاداً إلا بعد إقامة الحجة عليها، أو قبل أن يرسل الرسول ويدعوهم ما أهلك الله أمة لا بالجوع ولا بالمرض ولا بغير ذلك. وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:165]، غالباً قاهراً لا يمانع فيما يريد أن يفعله، وحكيماً في كل أفعاله، إن أعطى لحكمة، وإن منع لأخرى، وإن أعز لحكمة، وإن أذل لحكمة، لا يصدر أبداً أمره إلا مع حكمة مسلَّمة لا ينازع فيها العقلاء.
تفسير قوله تعالى: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه ...)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:166]. لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ [النساء:166]، يا بني إسرائيل! يا من أنكرتم على محمد نبوته ورسالته، وقلتم: من يشهد له؟! فمثلاً داود شهد لسليمان، ويحيى شهد لزكريا، ومحمد من يشهد له؟ لا أحد، إذاً تريدون من يشهد له؟ الله هو الذي شهد له، أبعد شهادة الله تطلبون شهادة؟! إن شهادة البشر كلهم لا تساوي شهادة الله؛ لأن الله عليم حكيم. لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166]، أنك أهْلٌ لهذه الوظيفة، وأنك متهيئ لحمل هذه الرسالة، وَالْمَلائِكَةُ [النساء:166]، أيضاً، يَشْهَدُونَ [النساء:166]، أبعد شهادة الملائكة تطلبون شهادة؟ إن جبريل هو الذي يأتي بالقرآن، فكيف لا تُقبل شاهدته؟! وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:166].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
نسمع بعد هذه البيانات موجز لهذه الآيات فلنتأمل.
معنى الآيات
قال الشارح: [ روي أن اليهود عليهم لعائن الله لما سمعوا ما أنزل الله تعالى فيهم في الآية السابقة أنكروا أن يكون هذا وحياً، وقالوا: لم يوح الله تعالى إلى غير موسى ]، أي: لما نزلت الآيات الأولى وأبطلت حجتهم، فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا [النساء:160] إلى غير ذلك، ذكر أربعة أو خمسة عيوب من عيوبهم، فقالوا: ما نسلم أن هذا يوحى إليه، إذ ما أوحى الله إلا إلى موسى فقط.قال: [ فرد الله تعالى عليهم بقوله: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163] ]، فأي حجة بقيت لهم؟ قال: [ فذكر عدداً من الأنبياء، ثم قال: ورسلاً، أي: وأرسلنا رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل، أي: قص عليه أسماءهم وبعض ما جرى لهم مع أممهم، وهم يبلغون دعوة ربهم، وأرسل رسلاً لم يقصصهم عليه، وفوق ذلك أنه كلم موسى تكليماً، فأسمعه كلامه بلا واسطة، فكيف ينكر اليهود ذلك ويزعمون أنه ما أنزل الله على بشر من شيء، وقد أرسلهم تعالى رسلاً مبشرين من آمن وعمل صالحاً بالجنة، ومنذرين من كفر وأشرك وعمل سوءاً بالنار، وما فعل ذلك إلا لقطع حجة الناس يوم القيامة، حتى لا يقولوا: ربنا ما أرسلت إلينا رسولاً، هذا معنى قوله تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، أي: بعد إرسالهم، وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا ، غالباً لا يمانع في شيء أراده، حَكِيمًا [النساء:165]، في أفعاله وتدبيره.هذا بعض ما تضمنته الآيات الثلاث، أما الآية الرابعة، وهي قوله تعالى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:166].فقد روي أن يهوداً جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وأبلغهم أنه رسول الله صدقاً وحقاً، ودعاهم إلى الإيمان به وبما جاء به من الدين الحق، فقالوا: من يشهد لك بالرسالة إذ كانت الأنبياء توجد في وقت واحد فيشهد بعضهم لبعض، وأنت من يشهد لك؟ فأنزل الله تعالى قوله: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ [النساء:166]، يريد بإنزال الكتاب إليك شهادة منه لك بالنبوة والرسالة ]، أي: كيف ينزل عليه الكتاب وما هو برسول ولا نبي؟ لا يعقل هذا أبداً.قال: [ وبكل ما تحتاج إليه البشرية في إكمالها وإسعادها، إذ حوى هذا الكتاب أعظم تشريع تعجز البشرية لو اجتمعت أن تأتي بمثله، أليس هذا كافياً في الشهادة لك بالنبوة والرسالة؟ بلى، والملائكة أيضاً يشهدون، وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:166]، فلا تُطلب شهادة بعد شهادته تعالى لو كانوا يعقلون ].
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: تقرير مبدأ الوحي الإلهي ]، أي: تقرير وجود وحي يوحيه الله تعالى إلى من يصطفي من الناس، فما من نبي إلا وأوحى الله إليه، ومعنى الإيحاء: الإعلام السريع الخفي يقع في قلب الرجل فيفهم عن الله تعالى ما طلب منه، إذ إن الله يعد الإنسان إعداد خاصاً بتطهير روحه وتزكية نفسه، ثم يلقي إليه بذلك الحكم أو المعنى فيجده في نفسه وهو موقن بأن هذا كلام الله تعالى، كما تسمع أخاك يكلمك فلا تشك أبداً في أنه كلمك، والله عز وجل قد كلم موسى وكلم نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم كفاحاً، أي: وجهاً لوجه، إلا أن نبينا في الملكوت الأعلى وموسى في الملكوت الأسفل، كما أنه كان سبحانه يبعث بالملك فيكلمه نيابة عن الله.والشاهد عندنا: تقرير مبدأ الوحي، والوحي قد انقطع، إذ آخر من يوحى إليهم الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.قال: [ ثانياً: أول الرسل نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.ثالثاً: إثبات صفة الكلام لله تعالى ]، إذ الله يتكلم، فقد كلم موسى، وكلم محمداً، وكلم من شاء أن يكلم من أنبيائه ورسله، وصفة الكلام صفة كمال لا صفة نقصان، لكن لا يخطر ببالك أن كلام الله ككلامك، إذ الله عز وجل سميع بصير، فهل يخطر ببال عاقل أن سمع الله كسمع المخلوق أو بصره كبصر المخلوق؟ مستحيل أبداً.ودائماً اجعلوا هذه الظلة على رءوسكم: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فاذكر يد الله، وقدم الله، وكلام الله تعالى، وكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربنا، ولكن لا يخطر ببالك شيء اسمه يشبه كلام الله أو ذات الله أو صفات الله، إذ سبحانه وتعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].قال: [ رابعاً: بيان الحكمة في إرسال الرسل، وهي قطع الحجة على الناس يوم القيامة ]، فلو سئلت: لم يرسل الله الرسل؟ لكان الجواب: من أجل ألا يحتج الناس يوم القيامة لما يأتي الحساب والجزاء فيقولون: ربنا ما أرسلت إلينا رسولاً، لم تعذبنا؟ فإرسال الرسل من أجل قطع الحجة على البشر يوم القيامة، وهذا الوجه الأول، والوجه الثاني: إرسال الرسل من أجل هداية الخلق وإصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم، لا لمجرد العبادة فقط.قال: [ خامساً: شهادة الرب تبارك وتعالى والملائكة بنبوة خاتم الأنبياء ورسالته ] وتذكرون شهادة الله لنفسه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، فهذه شهادة الله عز وجل لنفسه، وهو أعلم بنفسه وبخلقه وكائناته أنه لا إله إلا هو، لكن لو قيل لك: كيف عرفت أنه لا إله إلا الله؟ فأيسر جواب أن تقول: لأن الله قد شهد بذلك، وملائكته شهدوا بذلك، وأهل العلم شهدوا بذلك، فكيف لا أشهد أنا؟ هل أنا أعلم منهم؟مرة أخرى: هذه الجملة: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، أكبر حجة لك إذا سئلت: كيف شهدت أن لا إله إلا الله؟ فتقول: أنا شهدت ذلك بشهادة الله وبشهادة ملائكته وأنبيائه ورسله؛ لأن أهل العلم هم الأنبياء والرسل، فهل تقبل شهادة بعد شهادة الله تعالى؟قال: [ خامساً: شهادة الرب تبارك وتعالى والملائكة بنبوة خاتم الأنبياء ورسالته ]، إذاً فكيف يكفر به النصارى أو اليهود، والله يشهد له بأنه نبيه ورسوله فقال: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ [النساء:166]؟!قال: [ سادساً: ما حواه القرآن من تشريع وما ضمه بين دفتيه من معارف وعلوم أكبر شهادة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة ]، أي: أن القرآن قد حوى العلوم والمعارف بكل فنونها وأصنافها، وأعظمها التاريخ البشري، فهل صاحبه لا يكون رسولاً؟! يأتيك ورقة من رجل مكتوب فيها كلمة فتصدق أن هذا قد بعثه فلان، فكيف إذاً بصاحب هذا الكتاب العظيم الجليل وتقول ما هو برسول؟! كيف يعقل هذا الكلام؟! ولكن الشهوات والأهواء والأطماع والعادات السيئة ودفع الشياطين لهم، جعلهم ينكرون الحق، وليس بعجيباً هذا ولا غريباً، والهداية بيد الله تعالى.فاللهم اهدنا، اللهم اهدنا، وخذ بأيدينا إلى رضاك يا رب العالمين.وصلى الله على سيدنا محمد.

ابوالوليد المسلم
18-05-2021, 04:21 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (80)
الحلقة (302)
تفسير سورة النساء (83)


إن الكافرين المعرضين عن منهج الله لا يكتفون بالإعراض عن الحق ورفضه، وإنما يسعون جاهدين للصد عن سبيل الله ومنع نور الهداية أن يصل إلى الناس، وليس هذا فحسب بل إنهم يظلمون الناس ممن أرادوا سلوك طريق الهداية، ويستعملون معهم كل الوسائل الممكنة لردعهم وصدهم عن السبيل، فمن كان هذا حاله فإنه في ضلال بعيد، ولن يغفر الله له ولن يهديه إلى طريق النجاة، وإنما سيهديه إلى طريق جهنم التي يستحقها كل من كفر بالله وأعرض عن سبيله.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالاً بعيداً)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع هذه الآيات من سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، فهيا بنا نتغنى بتلاوة هذه الآيات الأربع قبل تدريسها ودراستها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:167-170].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! إن صاحب هذه الأخبار هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، الذي لو قدرناه حق قدره لما استطعنا أن نتكلم ولكنا نقع على الأرض، ولكن تدبير الله عز وجل، إذ يخبر تعالى ويؤكد خبره فيقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:167]، فأولاً: بالله، إذ إنهم جحدوا ألوهيته لعباده، وجحدوا أسماءه وصفاته، وجحدوا آياته، وجحدوا أقداره وشرائعه وقوانينه، وجحدوا لقاءه والوقوف بين يديه، فهؤلاء الكفار أضافوا إلى كفرهم أن صدوا الناس عن سبيل الله حتى لا يؤمنوا به ولا يعبدوه ولا يوحدوه. وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:167]، وسبيل الله أو الطريق الموصل إلى الله هو الطريق الموصل إلى رضاه على عباده ثم إنزالهم في جواره في دار السلام، وهذا الطريق واضح بين على جنباته الأعلام الهادية المرشدة، ولكن الذين كفروا عموا وصموا وجهلوا، فلهذا صدوا عن سبيل الله تعالى.لكن أين هذا الطريق الموصل إلى رضا الله وجواره؟ إنه الإسلام، إنه الدين الإسلامي دين الله الذي ارتضاه للخليقة جمعاء، فقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، ولا دين سواه، إذ يوصل أصحابه إلى رضا الله وإلى جواره في دار السلام.وبالأمس كنا مع اليهود والنصارى، ووقفنا على كفرهم وعنادهم، وقد أبطل الله دعواهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا شاهد له من الأنبياء يشهد بأنه نبي، فقال تعالى: لكن أنا أشهد، فهل بقي سؤال بعد هذا؟ أتطلبون من يشهد له بالنبوة من الأنبياء والمرسلين، والله عز وجل يشهد؟ فأي شهادة تعادل شهادة الله تعالى؟!ولذا كان المفروض أن يطأطئوا رءوسهم وأن ينحنوا وأن يقولوا: آمنا بالله، شهدنا أن لا إله إلا الله وأنك يا محمد رسول الله، ولكن أصروا على الكفر والجحود والتكذيب والعناد، فأصدر الله أحكامه عليهم، فاسمع هذا الحكم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:167]، أي: عن الإسلام، وذلك بالإشاعات المغرضة والأباطيل الفاسدة والفتاوى المنكرة، إذ هذا موقف اليهود دائماً وأبداً. قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:167]، أي: لا يستطيعون معه الرجعة، إذ قد ضلوا وتاهوا تيهاناً لا يمكنهم العودة معه إلى بلادهم وديارهم.معاشر المستمعين والمستمعات! كثيراً ما نبين الضلال البعيد بالمعنى القريب، فأقول: نحن الآن بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فالشام وراءنا واليمن أمامنا، والغرب عن يميننا والشرق عن شمالنا، فلو أن شخصاً أراد أن يسافر إلى مكة فاتجه شاماً ومشى يوم وليلة، ثم قيل له: إلى أين ستذهب؟ فقال: إلى مكة، فقيل له: إن مكة وراءك، فارجع، فقال: الحمد لله لا زال معي بعض الزاد، وما زلت قادراً على أن أعود، فعاد والحمد الله، لكن إن مشى وتجاوز الشام ووصل إلى حدود أوروبا، فهل يبقى له زاد؟ ينفد ماءه وطعامه، ولا يقوى على أن يعود، بل ويهلك هناك وما وصل إلى غايته بعد، ولا فاز ولا ظفر ببغيته، فهذا هو الضلال البعيد. إذاً: في باب العمل الصالح والعمل الفاسد، شخص غرته الحياة الدنيا بزخارفها فاطرح في أحضانها يأكل الربا ويزني ويغني، وسنة كاملة وهو في هذه المحنة، ثم سمع نداء الله فوصل إلى قلبه أن: يا عبد الله! لم أعرضت عنا وانصرفت عنا؟ ما الذي غرك؟ ما الذي أصابك؟ ألست المؤمن ابن المؤمنيَن في ديار الإسلام والمسلمين؟ تب إلى الله، ثم على الفور اغتسل وصرخ بين يدي ربه: أستغفر الله، أستغفر الله وأتوب إليه، فهذا ضلاله قريب، ولهذا أمكن أن يعود، لكن إن قضى أربعين أو خمسين سنة في الزنا والجرائم والموبقات والآثام، وأصبحت من طباعه، فإذا لم يكذب ما يستريح، وإذا لم يفجر ما يسعد، فهذا ضلاله بعيد والعياذ بالله، ولا يستطيع أن يرجع. ومثال أقرب من هذا: أيام ابتليت هذه الأمة بالتدخين تقليداً للكافرين؛ لأنهم استعمروهم واستغلوهم وتفوقوا عليهم وعلموهم، وأصبحوا أئمتهم ومعلميهم، أقبل الناس على التدخين، فكم من شخص لما يسمع بتحريم التدخين، وأنه لا يحل لمؤمن أن يلوث فمه وهو يجري اسم الله الأعظم على فيه، فإنه عند باب المسجد يدوس العلبة بنعليه، ويتخلى عنه؛ لأنه ما تأصل فيه تأصلاً كبيراً، والذي عاش خمسين أو ستين سنة وهو يدخن، وعلبة السيجارة لا تفارقه عند نومه وعند يقظته، فهذا قل أن يرجع؛ لأن ضلالهم بعيد والعياذ بالله، فخذوا هذه الحقيقة، إذ إن هؤلاء كفروا وأضافوا إلى الكفر جريمة أخرى، فما أصبحوا أهلاً أبداً لأن يعودوا إلى الله فيستغفروه ويتوبوا إليه ويعبدوه، فكفروا وصدوا عن سبيل الله.وهنا لطيفة من لطائف العلم وهي: نحن لسنا بيهود ولا نصارى، لكن ذكر الصد عن سبيل الله يزيد في كفر الكافرين وبعد البعداء، ولهذا ينبغي أن نفهم أن الله لا يرضى عن عبد يصد آخر عن دين الله، بل إن هذا مما يغضب الله تعالى علينا ويسخطه، فلنحذر أن يرانا الله نصرف مؤمناً أو مؤمنة عن دعوة الله، وذلك بأن نزين له القبائح أو نحسن له الباطل أو نشجعه على فعل منكر مما هو معلوم لدى المستمعين، ولو كان المصدود ولدك أو امرأتك أو أخاك، إذ المفروض فينا أن ندعو إلى سبيل الله القريب أو البعيد، فكيف إذا رآنا الله نصرف عباده عن دينه وعبادته؟!وهنا أقول للذين يستوردون الحرام ويعرضونه على المسلمين ويبيعونه في أسواقهم: إن هؤلاء يصدون عن سبيل الله وهم لا يشعرون، فالذي يستورد صور الخلاعة والدعارة ومجلات الباطل والشر والفساد وكتب الإلحاد وما إلى ذلك ليبيعها فيكسب من ورائها مالاً قد صد عن سبيل الله، وكذلك الذي يستورد أنواع التدخين من الأفيون والكوكايين والحشيشة وغيرها من أجل المادة ليبيع ويستفيد فقد صد عن سبيل الله وهو لا يشعر، والذي يفتح دار بغاء أو دار غناء أو دار باطل ومنكر، ويصد شبيبة المسلمين عن دينهم بما يعرض أمامهم ويزين لهم فقد صد عن سبيل الله، والذي يبتدع بدعة من البدعة، ويصور له الشيطان خرافة من الخرافات ويدعي الولاية، وأنه يدعو إلى الرحمن وإلى عبادة الله وهو جاهل ما عرف الله ولا الطريق إليه، واستغل ذلك الموقف، وأخذ الناس يقبلون يده ورجله، وهو صارف لهم عن طريق الله، فقد صد عن سبيل الله، نسأل الله تعالى أن يعافينا مما ابتلى به غيرنا، وألا يرانا نصد عن سبيله لا إنساناً كافراً ولا مؤمناً. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:167]، فأنى لهم أن يتوبوا ويعودوا؟ وإذا لم يتوبوا ولم يعودوا إلى الله فكيف لهم أن يدخلوا دار السلام بعد فقدهم هذه الحياة؟! ما إن تؤخذ أرواحهم منهم وتسلب من أبدانهم حتى تلقى في عالم الشقاء، فمن ينقذها؟وهذا كله منطبق تمام الانطباق على اليهود والنصارى والمشركين من باب أولى، لكن اليهود والنصارى كفروا وصدوا وصرفوا الناس عن الإسلام، وإلى الآن النصارى وخاصة المسئولين منهم ورجال الدين يصدون عن سبيل الله، أما اليهود فلا تسأل.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا [النساء:168]. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا [النساء:168]، أي: كفروا وظلموا أنفسهم وغيرهم، والكفر والظلم لا ينجو صاحبهما، فلو كان كافراً فقط ما ظلم فمن السهولة أن يعود إلى الطريق ويمشي في طريق السعادة والكمال، لكن كفر وظلم.
تعريف الظلم وبيان خطره على العبد
معاشر المؤمنين والمؤمنات! هل تعرفون الظلم؟ القاعدة اللغوية الشرعية هي: أن وضع الشيء في غير موضعه هو الظلم، فإذا سئلت عن الظلم فقل: هو وضع الشيء في غير موضعه، فعلى سبيل المثال: الآن نحن في هذه الحلقة ندرس كتاب الله عز وجل، والملائكة والله تحفنا، والسكينة مشاهدة نراها، فلا ضجيج ولا صخب ولا بكاء ولا كلام؛ لأن السكينة نزلت علينا، والرحمة قد غشيتنا بدليل أنه لا يتأذى أحد منا الآن بأي أذى، لكن لو قام أحدنا وأدخل أصبعيه في أذنه وأخذ يغني في الحلقة، فهذا قد وضع الشيء في غير موضعه، وهو ظالم، وأوضح من هذا: أن يدفع الرجل من عن يمينه وعن شماله الجالسين لطلب الهدى وينام بينهم، فهذا قد ظلم، إذ ليس هذا محل النوم، أو يأتي إلى الشارع ممر المؤمنين والمؤمنات ويضع الحجارة أمامهم، فهذا قد ظلم، فكيف إذا نام في الشارع؟!ونتتبع ما جاء في الشريعة: الذين يرتكبون الذنوب كالكذب والسرقة والخيانة والغش والخداع وبغض المؤمنين وسبهم وشتمهم وأخذ أموالهم والاعتداء على أعراضهم، كل هذه الذنوب سبب في الظلمة والعفن والنتن الذي يوضع على النفس، إذ المفروض في النفس البشرية أن تبقى طاهرة نقية كأرواح الملائكة، وذلك في إشراق هذا النور، لكن إن هو ارتكب هذه الذنوب فإن هذه النفس البشرية تصاب بالظلمة والعفن والنتن، ويكون بهذا قد ظلم نفسه، إذ بدل أن يزيد في طهرها وصفائها ونورها وإشراقاتها -لأنها تنزل بجوار الله بعد ساعات أو أيام- فإنه يخبثها ويلوثها فتعفن وتنتن وتصبح مبغوضة لله وللملائكة، بل ولا يرضاها الله عز وجل أن تكون في جواره أبداً، فنفسك مظلومة أيها العاصي، فما حملك على أذيتها؟ وهل ترضى من يأتيك بالأوساخ ويلطخك بها ويلبسك لباس العفن والنتن؟ لا ترضى بذلك؛ لأن هذا ظلم، وهذه الأوساخ إنما ضعها في المزبلة ولا تحطها عليَّ، إذاً: ونفسك تصرخ فتقول: لم خبثتني ولوثتني يا ظالم؟معشر المستمعين! تأملوا يفتح الله عليكم، لما يولد المولود كأن هذه النفس هو هذا النور، إذ لا ذنب عليها أبداً، فلا يعرف خداعاً ولا غشاً ولا ظلماً ولا شراً ولا فساداً أبداً، وإنما كأرواح الملائكة، فإذا ترعرع وكبر وأصبح أهلاً لأن يتلقى ما يؤثر على نفسه من خير أو شر، ثم إذا بلغ وأصبح عاقلاً وارتكب الإثم نكت في قلبه أو على نفسه نكتة سوداء فيحجبها عن شيء كثير من الخير والنور، وكلما أذنب ذنباً زيد النكت على القلب، فإذا تكاثرت الذنوب وغشيت النفس وغطتها أصبح لا يعرف المعروف ولا يؤمن به، وأصبح سلوكه كله سلوك المبطلين الفاجرين المفسدين، فتأثرت نفسه، إذ إنه هو الذي ظلمها وصب عليها هذه الأوساخ.إذاً: ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم، وما من ظالم لنفسه إلا وقد ظلم غيره، فالذي يدني الباطل من الناس ويغريهم عليه ويحرضهم عليه ويزينه لهم حتى يصرفهم عن الصلاة أو عن العبادة أو عن الطاعة أو عن توحيد الله، فقد ظلم غيره، إذ ما دام أنه قد ظلم نفسه فسوف يظلم غيره، ولا يوجد ظالم لنفسه إلا وقد ظلم غيره، ونحن في القرية نبني مسجداً لا نبني ملهى أو ملعباً، وذلك لأننا مسلمون، فإن بنينا ملعباً أو ملهى فقد ظلمنا أنفسنا وغيرنا.واسمعوا إلى هذا البيان النبوي: ( الظلم ظلمات يوم القيامة )، والذي يمشي يوم القيامة في الظلام هل يدخل الجنة؟ كيف يمشي؟ إليكم هذه الصورة أو هذه الشاشة قرآنية فتأملوها: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، فاذكروا هذا أيها المؤمنون ويا أيتها المؤمنات! إن هذه ساحة فصل القضاء، ساحة العدل والقضاء الرباني في عرصات القيامة، يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، كيف هذا؟ لأنهم لما جُمعوا في ساحة فصل القضاء، فالمنافق مع المؤمن، والموحد مع المشرك، وإذا بالمؤمنين تشرق وجوههم بالأنوار من آثار هذه العبادات المزكيات للنفوس البشرية، وما إن يراهم المنافقون الكافرون حتى يقولوا: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]؛ لأن وجه هذا المؤمن كأنه البدر، فيقول المنافق والظلمة تعلوه: انظر إليَّ، فماذا يقول لهم المؤمنون؟ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13]، أي: يقال لهم: يا معاشر من يعيشون في الظلمة! يا من صرخوا من شدة الظلام وما عرفوا كيف يمشون على الصراط؟ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13]، في أي ساحة؟ هم يظنون أنهم يرجعون وراءهم في الأرض التي هم عليها، والمراد: عودوا إلى الدنيا واقتبسوا النور منها، أما في هذا اليوم أو في هذه الحياة فلا يُطلب النور ولا يُقتبس أبداً، وإنما هذا في الدار الدنيا، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ووحدوا الله وأخلصوا قلوبكم ووجوهكم له، ثم تكتسبون هذه الأنوار، إذ إنها ليست هنا في الدار الآخرة، وما إن رجعوا حتى يضرب بينهم وبين السعداء بسور، قال تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [الحديد:13-14]، أي: ألم نكن معكم في المدينة النبوية في بلد كذا؟ قَالُوا بَلَى [الحديد:14]، أي: كنتم معنا، وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ [الحديد:14]، أي: فتنتم أنفسكم بالشهوات والأهواء، وغرتكم الحياة الدنيا [الحديد:14]، فما عبدتم الله عبادة تزكي النفس وتطهر الروح، وإن عبدتموه تملقاً وخوفاً فقط لا لوجه الله، فتلك العبادة لا تنتج الطاقة النورانية، بل هي عبادة باطلة.

يتبع

ابوالوليد المسلم
18-05-2021, 04:22 AM
الشرك بالله من أفظع أنواع الظلم
ومن أفظع وأبشع أنواع الظلم الشرك بالله تعالى، وحرام على مؤمن أو مؤمنة يسمع هذا الكلام ويعرض عنه، ونبرأ إلى الله أن يكون بيننا هذا، ولكنها الغفلة وعدم المبالاة، وهذه هي الحقيقة أن الظلم أفظع أنواعه وشرها هو الشرك بالله عز وجل، فإن قيل: كيف ذلك يا شيخ؟! بين لنا.فأقول: لما يمر الشيخ الآن وتمشي وراءه وتسلبه قلمه تكون قد ظلمته، أو ما إن دخل إبراهيم المسجد حتى أخفيت نعله ومشيت، تكون أيضاً قد ظلمته، أو نظر إليك مؤمن فصفعته على خده فقد ظلمته، وبالتالي فالعبادات هي حق الله عز وجل، فهو مالكها وصاحبها، إذ ما خلق هذا العالم الأرضي وأعده وهيأه للحياة، وجاء بآدم وحواء وبارك في نسلهما وتكاثر النسل وكثرت البشرية من أجل والله أن يعبدوا الله، لا ليحرثوا لله ولا يزرعوا له، وإنما أعد هذه الحياة بكل ما فيها كنزل أو كفندق عظيم، ثم جاء بآدم وحواء وزوجه بها، وأنجب البنين والبنات، وانتشروا في الأرض، كل ذلك من أجل أن نعبد الله تعالى.إذاً: العبادة كلها حق لله تعالى، فمن أخذ منها شيئاً وأعطاه لغيره فقد ظلمه أعظم الظلم، واعتدى على الله، وليس كاعتداء على فلان، كأن أخذت شاته أو زنبيله، وإنما اعتداء عن حق الله الذي استوجبه بخلق الإنسان ورزقه، وخلق الحياة كلها من أجله.وهناك في تلك الروضة في مجلس أقدس من هذا وأبرك وإن كنا لنا بعض الشيء منه، سألهم النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت سورة الأنعام وفيها: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [الأنعام:80]، من هؤلاء الذين حاجوا إبراهيم؟ إنهم البابليون، وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ [الأنعام:80]، أي: كيف يعقل هذا؟ أتريدون أن تصرفوني عن ربي لنكفر به ونجحده كما فعلتم أنتم، وهو الذي هداني وعرفت الحق؟ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا [الأنعام:80]، إذ لو كان ما استثنى ومشى ثم عثر في حجرة لقالوا: لقد آذته الآلهة! وهذا قد حصل الآن في المدينة، وذلك أن أحد المهاجرين جاء مهاجراً فمرض، فقالوا: قد آذاه الرسول؛ لأنه ما يدعوه ولا يستغيث به، كما أنه يمنع الناس من دعائه والاستغاثة به! إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ [الأنعام:80-81]، إذاً، أَحَقُّ بِالأَمْنِ [الأنعام:81] أنا أم أنتم؟ أي: الذين أشركوا بربهم أو الذي وحد ربه وما أشرك معه غيره؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]؟ والجواب من الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، الآن أيما عامل من أبنائنا فهم هذه هل يعرف؟ من أحق الناس بالأمن من النار؟ الذي آمن وما أشرك بربه، الذين آمنوا أولاً ولم يخلطوا إيمانهم بظلم؛ لأن اللبس هو الخلط، فالثوب تخلطه مع بدنك، أي: لبسته، آمَنُوا [الأنعام:82]، أولاً، وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، والظلم هنا والله إنه للشرك، لكن إن عبدوا الله ولم يشركوا في عبادته كائناً من كان أبداً، فهؤلاء لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فكبرت عن الأصحاب وقالوا: يا رسول الله! من ينجو منا إذاً؟ أي: ما منا أحد إلا وقد لبس إيمانه بظلم، فهذا عق أباه، وهذا أكل مال فلان، فمن ينجو إذاً من ذلك؟ إذ إنه ما من أحد إلا ويقع في ذنب في يوم من الأيام، ففرج الحبيب عنهم بما أوتي من العلم والحكمة فقال: ( إن هذا الظلم ليس هو ظلمك لنفسك بغشيان ذنب أو ارتكاب محرم، وإنما هو الشرك بالله تعالى )، ثم قال لهم: ( ألم تسمعوا قول لقمان الحكيم إلى ولده وهو بين يديه يربيه ويعلمه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؟ )، فهذا لقمان النوبي الحبشي الأسود الذي عايش داود عليه السلام، وهو القائل: الصمت حكمة وقليل فاعله، وضع طفله بين يديه ليربيه، ولا أدري هل أنتم تضعون أطفالكم بين أيديكم تربونهم؟ ولنخرج بعد صلاة التراويح فلننظر أين نجد أولادكم؟ وما زال لقمان يعظ ابنه حتى مات بين يدي، ولنذكر الآيات الكريمة التي حملت هذا النور الإلهي عن لقمان: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:16-18]، فهذه هي العظات وهذه هي العبر التي قالها لقمان الحكيم لابنه، وما كان نبياً ولا رسولاً، وإنما أكرمه الله وأعلى قدره وسجل كلامه الذي كلم به ولده، وذلك حتى نعلم، ونحن بعد آلاف السنين كأننا نعيش مع لقمان، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان:16]، وهذه هي التي مزقت قلب الغلام.والشاهد عندنا هو قوله: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13]، لم يا أبتاه؟ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، ففرح أصحاب رسول الله وحمدوا الله وصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم.
بعض مظاهر الشرك
ونستعرض معكم الآن ولا تكربوا ولا تحزنوا بعض مظاهر الشرك التي عشناها وعاشها آباؤنا وأجدادنا قروناً عديدة، فاسمعوا: الذي ينادي ميتاً قد مات من سنين عديدة ويقول: يا سيدي فلان! اشفع لي، أو ادع الله لي، أو أعطني كذا، أو كن في جواري، فهذا النداء وهذا الإقبال بالقلب والوجه واللسان على عبد من عباد الله الموتى والله لمن أعظم الشرك، وإنه لظلم عظيم، إذ إنه ترك خالقه الذي وهبه سمعه وبصره، والذي بيده حياته ومماته، علام الغيوب، مالك الملك، المحيي المميت، وينادي ميتاً من الأموات، فأي عقل هذا؟ لولا الشيطان زين هذا وحسنه والله ما يقدر عليه، إذ هو عاقل، فكيف تأتي إلى قبر أخيك أو أبيك في المقبرة وتقول: يا بني! قم وأعطني كذا وكذا؟ هل هناك عاقل يفعل هذا؟ لا شك أنهم سيضحكون منه، إذ كيف ينادي ميتاً من ألف سنة وبينه وبين بلاده ألف كيلو متراً؟! وكم وكم نودي عبد القادر الجيلاني؟! يا عبد القادر! يا سيدي! يا مولى بغداد! يا راعي الحمراء! يا راكب كذا! بل وفي المغرب يوجد من يناديه، وبين المغرب والعراق ألف كيلو، وألف سنة من يوم أن مات عبد القادر، فكيف تناديه؟! هل يسمعك؟ وهل يقدر على أن يعطي؟ آلله أذن لك وقال: ادع؟ إن الله يقول: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا برهان له فإنما حسابه عند ربه [المؤمنون:117]. وهكذا قبل أن توجد هذه الحكومة الربانية القرآنية المحسودة من الجن والإنس الذين يعملون ليل نهار على إبطالها وإحباطها، لا أعانهم الله ولا أقدرهم عليها، فتأتي إلى الروضة وتسمع نداءات أمتك: يا رسول الله! يا أبا فاطمة! أنا جئت من كذا وكذا، وترى البكاء والصراخ، فلا إله إلا الله! وبين يدي الله ما دعا بربع ما يدعو غير الله تعالى! ومن أراد أن يشاهد وينظر فليذهب إلى ضريح عبد القادر في العراق، أو إلى البدوي في مصر، أو إلى سيدي مبروك في الجزائر مثلاً، أو محيي الدين في الشام، وليشاهد وليسمع.
بيان سبب تفشي مظاهر الشرك في الأمة
وإن قيل: ما سبب هذا؟قلنا: إنه الجهل الذي صبه علينا العدو، أعني: اليهود والنصارى والمجوس، فهم الذين حرمونا من العلم وطلبه، وأدلل وأبرهن للأبناء والإخوان على الحقيقة هذه، وهي أن العدو هو الذي صرفنا عن العلم الذي به نحيا وبه نعرف الله والطريق إليه: أما سبق أن علمتم أن علماءنا منذ أكثر من ثمانمائة سنة يقولون: القرآن الكريم تفسيره خطأ إن أصاب، أي: صوابه خطأ وخطؤه كفر، وأهل المذهب المالكي يراجعون حاشية الحطاب على خليل يجدون هذه العبارة: تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر، إذاً: كيف نفسر كلام الله؟ يجلس الشيخ طوال أيام الشتاء يعلم الناس كيف يتوضئون وكيف يصلون فقط، أما تفسير كلام الله فلا، بل إذا قلت: قال الله فإنه يغلق أذنيه بأصبعيه حتى لا تنزل الصاعقة، إذ كيف يفسر كلام الله تعالى؟! والدليل الواضح: هل يجتمع المسلمون الآن في عصر النهضة والصحوة كما يقولون على تفسير كلام الله تعالى؟! لقد صرفونا عن القرآن لنموت، إذ القرآن روح ولا حياة بدون روح، وقد جاء هذا مبين في سورة النحل وفي سورة غافر وفي سورة الجاثية أو الدخان، فمن سورة الشورى قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، والروح الذي أوحاه الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن الكريم، وسمي روحاً لأن الحياة لا تقوم إلا به، إذ الروح فيها الحياة، سواء في النملة أو في طائر العقاب أو في البقر أو في الإنسان، فالروح هي الحياة، وكذلك القرآن روح متى فقده الآدمي مات، وأصبح في عداد الأموات، فلا يعي ولا يفهم ولا يأخذ ولا يعطي. وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فالقرآن نور، فماذا صنع الأعداء؟ قالوا: خذوه من أيدي المسلمين وحرفوه، ولا ننسى حرب الصليبيين على القرآن وقد فشلوا، لكن قالوا: الانتصار على أن نأخذ القرآن من أيديهم ما نستطيع، إذ إنه محفوظ في صدورهم، نساؤهم كرجالهم، إذاً الطريقة هي أن نصرفهم عن دراسته وفهمه والعمل به، وقد نجحوا أعظم نجاح، فقد حولوا القرآن ليقرأ على الموتى.ومن اللطائف: أن حاكماً فرنسياً في مدينة من مدننا بالجزائر ما عنده بصيرة ولا علم، فد رأى الكتاتيب في المساجد يقرءون القرآن بالألواح، فقال للمسئولين تحته من العرب: ما فائدة هذه الكتاتيب؟ الحكومة تبني المدارس وتأتي بالمعلمين وتوزع الكتاب، فأمر بإغلاق الكتاتيب وإيقافها، فجاءه ذو حيلة وبصيرة بتدبير الله عز وجل فقال: يا مسيو! قد أزعجت الناس، والآن هم يقلقون ويضطربون كيف تمنع أولادهم من القرآن؟ فقال لهم: فأي فائدة من هذا؟ قال: إنهم يقرءونه على الموتى، فيأكلون به اللحم والرز، فقال: فقط من أجل هذا؟ قال: نعم، قال: إذاً اقرءوا، فأصبحتَ وللأسف إذا دخلت القرية أو المدينة من إندونيسيا إلى موريتانيا وسمعت القرآن في بيت تعلم أن هناك ميتاً، إذ لولا الميت ما يجتمعون على أن يقرءوا القرآن أبداً، فمن فعل هذا؟إنه الثالوث الأسود المكون من المجوسية واليهودية والصليبية أعداء الإسلام، إذ إنهم رأوا الأنوار الإلهية تغمر أرض الإسلام والمسلمين، وهم في ظلمة أسوأ الظلمات، فالقبح والشر والفساد يغشاهم ويغطيهم، فقالوا: كيف ينجو هؤلاء ونخفر نحن؟ هل نترك ديننا وندخل معهم؟ إذاً نهون ونزول، إذاً لا بد من حربه، وسعوا لإطفاء ذلك النور لولا الله عز وجل.
قيام دولة التوحيد على أرض الجزيرة العربية على يد الملك عبد العزيز
وعندنا مثال وانقلوه، ولكن للأسف ليس هناك من ينقل: عرفتم كيف استعمرنا الشرق والغرب؟ ما سبب استعمارهم لنا؟ والله إنه لجهلنا وظلمنا وفسقنا وإشراكنا بربنا، فعم ديارنا الظلام وغشاها وغطاها، وما أصبحنا أولياء الله فيها، فمن ثم سلط علينا أعداءنا وأعداؤه لتكون ذكرى للذاكرين، وحاشا لله أن يسلط على أوليائه أعداءه، والله يقول: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، لكن لما هبطنا وعبدنا غيره عبدنا كم واحداً؟ حفنة من التراب أو كوماً من التراب تجد المؤمنات عاكفات حولها! بل ليس هناك من يقسم بالله إلا من نذر، حتى إنه في بعض المحاكم أصبحوا لا يحلفون الظالمين بالله؛ لأنهم سيحلفون سبعين مرة ولا يبالون، وإنما احلف له بسيدي فلان، وفعلاً هبطنا فركبوا علينا، بل وزغردوا وهللوا وكبروا: انتهى الإسلام.وأراد الله عز وجل أن يقيم الحجة له على خلقه، إذ قد أصبح الإسلام مكروهاً ومبغوضاً عند اليهود والنصارى، فالإسلام الذي يذل أصحابه ويهينهم ويسلط عليهم أعداؤهم فيسوموهم الخسف والعذاب، يُقبل أبداً، وإنما قد انتهى أمره، وشاء الله عز وجل أن يقيم الحجة له، فجاء السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن من آل سعود مع مجموعة من طلبة العلم ودخلوا الرياض وأعلنوا عن دولة القرآن، وأخذت هذه الدولة في الانتشار حتى سادت هذه البلاد وعلت فوقها راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهدموا القباب والقبور، وطهروا الأرض من الشرك، إذ إن الشرك في تلك الأزمنة وخاصة في هذه الديار أكثر من أي ديار أخرى، وكأننا ما سمعنا بكتاب الله وقرآنه، فطهرت البلاد في فترة من الزمن قليلة وسادها أمن وطهر، وأقسم بالله ما عرفته أمة الإسلام إلا في القرون الثلاثة الأولى، إذ إن الإنسان كان يمشي ويحمل الذهب على رأسه لا يخاف إلا الله، بل والله لدكاكين الذهب مفتوحة الأبواب الليل والنهار، فكان أمن وطهر لا نظير لهما، وسبب تحقق ذلك أنه أقام دولته القرآنية على قواعد أربع وضعها الله لإقامة الدولة الإسلامية، وهي في قوله تعالى من سورة الحج: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]، أي: حكموا وسادوا، ماذا فعلوا؟ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، فلا فلسفة ولا شيطنة ولا وطنية ولا قوانين.وهذه الدعائم الأربع هي: الأولى: إقام الصلاة، ولذلك لن تجد سعودياً وطنياً يمشي والصلاة قائمة أبداً، بل ولن تجد باباً مفتوحاً أبداً والصلاة قائمة، والثانية: أخذ الزكاة، والثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفعلاً ظهرت دولة أشبه ما تكون بدولة الراشدين، وما إن شاهد ذلك العدو من الإنس والجن حتى أخذ يضرب ويحطم، لكن يأبى الله إلا أن تظهر حجته على البشر، وفعلاً فقد استقل المسلمون في الشرق والغرب، لكن لم تشأ أمة من تلك الأمم أن تقيم دولتها على هذه القواعد الأربع، والتي ما قامت عليها دولة إلا سادت وعزت وطابت وطهرت وأمنت، فمن صرف المسلمين عن هذا؟ أمس كنا تحت إيطاليا والآن استقللنا، فلم لا نذهب إلى عبد العزيز ونقول: كيف نقيم دولتنا؟ومرة أخرى وسوف تسمعون هذا يوم القيامة: كان الواجب والله على كل إقليم من إندونيسيا إلى موريتانيا إذا استقل عن فرنسا أو بريطانيا أو أي دولة أخرى، أن يأتي إلى السلطان عبد العزيز ويطلب منه قضاة وآمرين بمعروف وناهين عن المنكر، وذلك حتى يطبقوا شرع الله فيهم، لكن لما كاد العدو ماذا صنع؟ تستقل دويلات حول المملكة وتأبى أن تنضم إلى السعودية، حتى لا يؤمر فيها بمعروف ولا ينهى فيها عن منكر، وحتى لا تقام فيها صلاة ولا يحرم فيها ما حرم الله، والله ليس إلا هذا، سواء كان هذا من كيد الثالوث وتعليماته أو من جهلنا، ولو أن كل إقليم يستقل وانضم إلى دولة الإسلام، أي: دولة عبد العزيز، لعادت لنا الخلافة الراشدة، لكن للأسف كل دولة لما تستقل تعرض عن الله وذكره، فلا تأمر بصلاة ولا بجباية زكاة، بل واستعاضوا عن الزكاة المفروضة بالضرائب القاتلة الفادحة، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، فكيف نعز؟ وكيف نسود؟ وكيف نطهر حتى يرضى الله عنا ويدخلنا دار السلام؟فمن فعل هذا بنا؟ إنه العدو، أعني: اليهود والنصارى والمجوس، فهيا نخرج منهم ونبتعد عن ساحتهم، وكل مظاهر البذخ والباطل والشر نتركها، لكن للأسف ما أفقنا بعد، إذ ما زلنا نمشي وراءهم.وصلى الله على نبينا محمد.

ابوالوليد المسلم
18-05-2021, 04:29 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (81)
الحلقة (303)
تفسير سورة النساء (84)


الكفر بالله عز وجل مع الصد عن سبيله، وظلم المؤمنين به والسالكين لطريقه والمصدقين برسالاته هو الضلال البعيد، وقد توعد الله سبحانه وتعالى هؤلاء الكافرين الظالمين بحرمانهم من مغفرته سبحانه، وحرمانهم من طريق الهداية، إذ مآلهم النار، خالدين فيها وبئس القرار.
تابع تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالاً بعيداً ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا هذا الفوز الكبير، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء المباركة الميمونة المدنية، وما زلنا أيضاً مع هذه الآيات الأربع التي تلونها بالأمس ورددناها وأخذنا في شرحها وبيان ما تحمله من الهدى والنور، والآن نكمل إن شاء الله دراستها، فهيا بنا نتغنى بها أولاً متأملين متدبرين متفكرين فيما تحمله من الهدايات الإلهية، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:167-170].
الكفر بالله تعالى مع الصد عن سبيله هو الضلال البعيد
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه أحكام الله تعالى وأخباره، فهو الذي أوحاها إلى رسوله ومصطفاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد حواها كتابه القرآن العظيم، فالخبر الأول المؤكد بأداة التوكيد: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:167]، ويقابل الكفر الإيمان. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:167]، أي: لم يؤمنوا، وإنما كفروا بالله خالقهم ومالك أمرهم، وجحدوه سبحانه وتعالى، وأبوا أن يعترفوا بألوهيته، وأبوا أن يعترفوا برسالاته التي يرسل بها رسله، وأبوا أن يؤمنوا بلقائه والوقوف بين يديه للحساب والجزاء بعد نهاية هذه الدنيا، بل وأضافوا إلى كفرهم -والكفر موت، بل أسوأ من الموت- صدهم عن سبيل الله غيرهم بعد أنفسهم. وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:167]، وسبيل الله هو دينه الإسلام، وهو الطريق الموصل إلى رضاه والنزول بجواره في دار الكرامة يوم القيامة، فهم قد صدوا أنفسهم أولاً، وما اكتفوا بذلك، وإنما أخذوا يصرفون الناس عن الدخول في الإسلام بالأكاذيب والأباطيل والادعاءات، وتقبيح الإسلام وتشويه ما فيه من النور والهدى، وهذا شأنهم، فهم أئمة الضلال ودعاة الباطل، فلا هم لهم إلا أن يترأسوا ويسودوا ويعيشوا في دنياهم، ولا يضرهم أن يهلك الناس عن آخرهم. كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:167]، أخبر تعالى عنهم بأنهم ضلوا الطريق الموصل إلى الرضوان الإلهي، الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، الموصل إلى الطهارة والصفاء والحب والولاء، فهذا الطريق قد ضلوه والضلال بعيد، فأنى لهم أن يهتدوا ويعودوا، فنبرأ إلى الله تعالى من الجريمتين: جريمة الكفر، وجريمة الصد عن سبيل الله.وقد نبهت أبناءنا وإخواننا إلى أنه لا ينبغي لأحد منا أن يصد عن سبيل الله ولو بكلمة، فإياك يا عبد الله! وإياك يا أمة الله! أن يراك الله وأنت تصرف عن دينه ولو عن شعيرة من شعائره، ولو عن فضيلة من فضائله، ولو عن سنة من سننه، فإما أن تدعو إلى سبيل الله، وإما أن تكف لسانك ويدك ولا تدعو إلى غير سبيل الله، كما قد لفتنا النظر إلى أن الذين يوجدون أسباب الصد والصرف عن سبيل الله يعتبرون صادين وصارفين عن سبيل الله، فالذي يفتح مقهى يملؤها باللهو والباطل من أجل الدينار والدرهم، ويشاهد إخوانه لا يخرجون للصلاة ولا يجيبون نداء الله، وإنما هم يلعبون ويضحكون، وهو فرح بذلك مسرور؛ لأنه يحصل على مال، فقد صد عن سبيل الله، إذ كان المفروض إذا أذن المؤذن أو دقت ساعته أن يغلق باب مقهاه ويقول للجالسين: الآن أجيبوا ربكم، إنكم مدعوون إلى مولاكم، اذهبوا فأدوا واجبكم، ثم عودوا إن شئتم، والذين يستوردون أو يفتحون استديوهات للتصوير، فهؤلاء أيضاً صدوا عن سبيل الله، أما الذي يفتح بنكاً على مصراعيه في بلد إسلامي، فهو يدعو الناس إلى الوقوع في هذه الكبيرة العظيمة، وهو أيضاً قد صد عن سبيل الله، وكذلك الذي يفتح دكان حلاقه يحلق وجوه الفحول من أجل أن يأخذ الريال والدرهم، فقد صد عن سبيل الله تعالى، والذي يستورد ملابس الخلاعة والدعارة، وما عرف بلباس العواهر، فينشره بين المؤمنات في بلاد المسلمين فقد صد عن سبيل الله.
الواجب في حق من وقع في الذنب سرعة الرجوع والتوبة
قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:167]، كل ما أريد أن أقوله للمستمعين والمستمعات: نحذر في حياتنا أن يرانا الله نصرف مؤمناً أو مؤمنة عن طريق الله، لا بكلمة ولا بنظرة ولا بأية حركة، والمفروض أننا ندعو إلى سبيل الله لا أن نصد عنه، وقد بينت لكم أن الضلال إذا بعد فصاحبه لا يرجع، ومن هنا قال أهل العلم: التوبة عندنا معاشر المسلمين والمسلمات! تجب على الفور، ولا يحل التراخي فيها أبداً، فإياك أن تقول: أتوب يوم أن يحصل كذا، أو عندما يجيء كذا، أو عندما يحصل لي كذا، فهذا لا يصح أبداً، وإنما الواجب إذا زلت القدم، وسقط عبد الله في المعصية، أن يرفع صوته: أستغفر الله، وكله نية صادقة ألا يعود لهذه الرذيلة ولا ينغمس في هذه البؤرة من الإثم والذنوب، أما حتى أتزوج، أو حتى أوظف، أو حتى يعود كذا، فهذا باطل، فعلى الفور يا عبد الله تب إلى الله تعالى، فأنت ما تريد تلك السقطة ولا الزلة، لكن أوقعك فيها عدوك الشيطان وأعوانه، فإذا أفقت وعرفت أنك زللت وارتكبت إثماً يغضب ربك، فعلى الفور تمسح ذلك الأذى، واغسله بدموعك واستغفارك، فإن من واصل الذنب يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام، فإنه يصبح ضلاله بعيداً، وحينئذٍ أنى له أن يعود، لا يستطيع.وتذكرون ما جاء في سورة المطففين، إذ قال تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، ويقول الرسول الحكيم والمبين لكلام الله ولمراد الله منه: ( إذا أذنب العبد ذنباً )، صغيراً كان أو كبيراً، إذ النكرة دالة على العموم، ( إذا أذنب العبد )، أو الأمة، والرسول منهجه هو القرآن، إذ لا يذكر النساء من أجل أن الفحول لا يريدون أن تذكر نساؤهم في كل ميدان، ( إذا أذنب العبد ذنباً وقع على قلبه نكتة سوداء )، أي: مظلمة، ( فإن هو تاب )، بالاستغفار والعزم ألا يعود، ( صقل ذلك المكان )، ومسح، وأصبح كالزجاجة يقع فيها شيء فيحجبها ثم تمسحه فيُمسح، وتعود كما كانت والله العظيم، فإن هو لم يتب وأذنب ذنباً آخر وقعت إلى جنب الأولى نكتة أخرى، وإذا لم يتب وزاد الثالثة والرابعة والخامسة، فيغطى القلب كله بظلمة الذنوب والآثام، فيقول عليه السلام: ( فذلكم الران الذي قال الله تعالى فيه: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] ).ولذلك فالتوبة هي الرجعة الصادقة إلى الله عز وجل، فإن كان ذنبي ترتب عن ذمي لمؤمن أو سبي له أو تعييري له، فآتيه وأطرح بين يديه، وأطلب منه أن يعفو عني أو يقتص مني، وإن كان مالاً أخذته منه بغش أو خداع أو بأي ضرب من ضروب الحصول على المال بغير الطريقة الشرعية، كالسرقة مثلاً، فنأتيه ونطرح بين يديه ونقول له: أتوب إلى الله، يا أخي! سامحني، والذي في ذمتي لك أسدده يوم أن يغنيني الله أو يعطيني الله تعالى من فضله. أما الذنوب المتعلقة بترك واجب من واجبات الله، أو غشيان محرم مما حرم الله، فالتوبة هي المبادرة الفورية على الندم والاستغفار والعزم الأكيد على ألا يعود إلى ذلك الذنب، والله تعالى يقول في التوبة النصوح: (يا أيها الذين آمنوا) لبيك اللهم لبيك، سبحان الله! ربنا نادانا، الحمد لله، من نحن حتى ينادينا رب العالمين؟! الذي يطوي السموات بيمينه يوم القيامة، والذي يقول للشيء: كن فيكون، والذي خلق هذا الكوكب النهاري، أعني: الشمس، وهو أكبر من أرضنا بمليون ونصف مليون مرة، هذا الواهب للحياة والموت ينادينا وما نفرح ولا نسر! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [التحريم:8]، فما معنى قوله: (توبوا) يا شيخ؟ ترجع إلى الحق والصواب بعد أن فارقته واعتزلته، وقال: توبة نصوحاً، ولم يقل: ناصحة، قال أهل العلم: التوبة النصوح هي التي لا يعاود صاحبها الذنب أبداً، كما لا يعود اللبن في الضرع، فمن حلب شاة أو بقرة أو بعيراً وأخذ اللبن في إنائه، فهل يمكن أن يعود اللبن في الضرع؟ مستحيل، حتى بالإبرة لا يستطيع، فالتوبة النصوح هي التي لا يعاود المذنب ذلك الذنب أبداً، فيجعل هذا من باب المستحيل أن نعود إلى الخنا والزنا والباطل والشر بعد أن تبت منه وأنقذني الله منه.
قبح الجمع بين الكفر بالله تعالى والظلم وبيان جزاء ذلك
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا [النساء:168]، وهذه أخرى، فهل بعد الكفر من ذنب؟ ما إن كفر هلك، وحرم رضا الله وجواره، لكن إذا أضاف الكفر ظلماً، فإن ضرره يعود على المجتمع البشري، فهو كالأول، ما اكتفى بكفره وإنما يحمل الناس على الكفر ويدعوهم إليه بصدهم وصرفهم عن رضا الله وطلب هداه، وهذا أيضاً في القبح كالأول، فهو قد كفر وظلم، ولا شك أن اليهود والنصارى متورطون في هذا، وعندنا أبناؤنا الذين أسلموا يعرفون عن القسس والرهبان كيف يصدون عن الإسلام بشتى الوسائل والحيل، فيبنون المستشفيات ويوزعون الأموال ويوزعون كذا من الطعام والشراب لأجل إدخال الناس في بؤرة الكفر، فاليهود كفروا وظلموا، إذ إنهم يصدون عن سبيل الله لا من أجل أن يتهود الناس، وإنما يريدون أن تبقى لهم عقيدتهم ودينهم خاص بهم، بخلاف النصارى فإنهم يريدون أن يتنصر الناس ويصبحون على دينهم.ثم يقول تعالى مبيناً الجزاء على كفرهم وظلمهم: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا [النساء:168]، اللهم إلا طريق جهنم فنعم، فإنه يهديهم إليه ويسوقهم، وهم سائرون فيه سالكونه حتى نهايتهم إلى جهنم. لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ [النساء:168]، أولاً، وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا [النساء:168]؛ لأن المغفرة يا معاشر الأبناء والإخوان! سببها التوبة والرجعة الصادقة إلى الله تعالى، وهؤلاء أضافوا إلى كفرهم ظلماً، فهم غير مستعدين والله للتوبة، فلهذا كيف يغفر لهم؟ من لم يتب لا يغفر الله له، بل لا بد من توبة صادقة، فلما كانوا على هذه الحال فالله لا يغفر لهم، ولا تقل: وإن تابوا، فإن باب الله مفتوح لعباده من الإنس والجن، فما من إنسي ولا جني يقارف ذنباً أو يرتكب كبيرة أو يكفر أو يشرك بالله، ثم يتوب إلى الله، فالله عز وجل يقبله، ولنذكر الحديث: ( إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار )؛ لأن الله غني غنىً مطلق، وهو ليس في حاجة إلى عبادة زيد أو يهاب أو يخاف كفر زيد أو عمرو، لكن كما قدمنا أن الإنسان إذا توغل في الظلم والشر والكفر قد لا يرجع ولا يتوب، أما طريق جهنم وهو الكفر والشرك والذنوب والمعاصي فهذا مفتوح والشياطين تدعوا وتؤهل وتسهل لكل من أجابهم.
عقيدة أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة
خَالِدِينَ فِيهَا [النساء:169]، وهنا حقيقة علمية عقدية، وهي: اعلموا يرحمكم الله! أن أهل التوحيد والإيمان الذين ما كفروا ولا أشركوا، ولكن قارفوا ذنوباً وارتكبوا جرائم، ثم ماتوا قبل التوبة منها، فهؤلاء يوم القيامة إما أن يغفرها الله لهم فلا يدخلهم عالم الشقاء، وإما أن يدخلهم النار ويلبثون فيها دهراً ثم يخرجهم منها بإيمانهم وصالح أعمالهم التي عملوها؛ لأن الله يخبر عن نفسه فيقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40].مرة أخرى: يا معشر المستمعين والمستمعات! هذه عقيدة رسول الله وأصحابه، عقيدة سلف هذه الأمة، وليست اعتزالية ولا خارجية ولا جهمية ولا باطنية، وإنما هي العقيدة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأن هذه الأمة ستفترق كما افترقت الأمم، وقد أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع ما أخبر به، فقد افترقت هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، وذلك بزيادة فرقة عن النصارى، ومن أراد الوقوف على أسماء هذه الفرق فعليه بتفسير القرطبي رحمه الله في سورة آل عمران عند قول الله تعالى: وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فقد ذكرها طائفة بعد أخرى.والشاهد عندنا: لما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن افتراق هذه الأمة كالأمم السابقة، إذ الكل بشر والعدو واحد وهو إبليس عليه لعائن الله، قال عليه السلام: ( كلها في النار إلا واحدة ففي الجنة )، فألهم الله أحد أصحابه فقام وقال: ( من هي الفرقة الناجية يا رسول الله؟ )، فأجاب صلى الله عليه وسلم بجواب يجب أن نحفظه الآن، وحرام عليك يا بني ألا تحفظه وتخرج من الدرس ناسياً له، إذ لو حفظنا هذا الجواب ما ضل فينا ضال، والجواب هو: قال: ( هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )، إذاً الفرقة الناجية هم الذين يكونون على ما كان عليه رسول الله وأصحابه عقيدة وعبادة وقضاء وآداباً وأخلاقاً، بل قل ما شئت، تفكيراً وذوقاً وفهماً، فلهذا نعمل الليل والنهار على أن نكون مثل رسولنا وأصحابه في عقيدتنا وفي صلاتنا وفي عباداتنا وفي آدابنا وفي أخلاقنا، حتى يتوفانا ربنا ويلحقنا بهم، فلا بد من بذل جهد، ولا بد من معرفة.فعقيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هي: أن من مات كافراً أو مشركاً فهو مخلد في النار لا يخرج منها أبداً، ومن مات من المؤمنين مقارفاً للذنوب، ولكن له أعمال صالحة، ولكن مات على كبيرة الذنب، فهذا يوم القيامة هو بين أمرين: بين أن يغفر الله له، فمن يرد على الله حكمه؟ أو يدخله النار فيمكث فيها ما شاء الله أن يمكث، ثم ينقذهم الله منها ويخرجهم ويدخلهم الجنة دار السلام، لكن الخوارج يقولون: من مات على كبيرة من كبائر الذنوب لن ينجو من النار، وهذا مضادة للكتاب والسنة، فما الذي حملهم على هذا؟ سوء فهم، وقد أصروا عليه للحفاظ على تلك الكتلة أو تلك الجماعة من أجل أن تفوز بالسيادة والحكم بين الناس.إذاً: معشر المستمعين والمستمعات! من مات على الكفر أو الشرك بالله، فهذا خالد في دار الخلد لا يخرج من النار أبداً، أما إن كان مؤمناً موحداً غير مشرك ولا كافر ولكن قارف ذنوباً وله صالحات أيضاً، وشاء الله أن يموت على شرب الخمر أو على إتيانه الزنا أو على أكله الربا بدون توبة، فكيف تحكمون على هذا العبد؟ فوضوا أمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له، وإن شاء أدخله النار فطهره فيها ثم يخرجه، والله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40].وأعود إلى ما أوصيتكم به: من هي الفرقة الناجية من فرق أمة الإسلام؟ هم الذين يعيشون في عقيدتهم على ما كان عليه رسول الله وأصحابه، فلا ننسى هذا، فنتعلم كيف كان الرسول يعتقد؟ وكيف كانت عقيدة أصحابه؟ وكيف كانوا يعبدون الله؟ حتى في التيمم كيف يتيممون؟ وهذا يتطلب منا طلب العلم، وملازمة أهل العلم ليل نهار حتى نتعلم كيف نعبد الله عبادة تزكي أنفسنا وتطهر أرواحنا؟ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا [النساء:168]، فلنحذر الكفر والظلم، وقد قلت لكم: الظلم أنواع، وهو يوم القيامة ظلمات كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ( الظلم ظلمات يوم القيامة )، والذين يجدون أنفسهم يوم القيامة في ظلمة لا يدخلون الجنة، وقد شاهدنا هذا لما انطفأ النور عنهم ووقفوا حيارى ينادون أهل الجنة: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ [الحديد:13]، فرجعوا، وفجأة ضرب بينهم وبين أهل النور بسور له باب، باطنه فيه الرحمة بالجنة، والآخر بالعذاب، قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ [الحديد:13]، فالنساء موجودات أيضاً في هذه الآية، يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13]، فهل عرفتم النكتة في: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13]؟ أي: عودوا إلى الدار التي يكتسب فيها النور، أما هذه الدار فلا كسب فيها، فهل يعودون إلى الحياة مرة ثانية ويؤمنون ويوحدون ويعبدون الله عز وجل؟ مستحيل، فقد انتهت الحياة الدنيا، وبالفعل يظنون أنهم يكذبون عليهم، فيرجعون وعلى الفور يحال بينهم وبين أهل النور، بِسُورٍ لَهُ بَابٌ [الحديد:13]، واحد، بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:13-15]، وهذا كلام الله الذي نقرؤه على الموتى ونحرم منه الأحياء!

يتبع

ابوالوليد المسلم
18-05-2021, 04:29 AM
الشرك بالله تعالى أفظع وأبشع أنواع الظلم
أقول: ما هو أفظع أنواع الظلم؟ ما هو قتل أبيك أو أمك فقط، أو سرقة جارك، أو الزنا بامرأة جارك، أو بانغماسك في البنك تأكل الربا، إن أفظع وأعظم أنواع الظلم هو الشرك بالله عز وجل؛ لأنه ذنبٌ لا يُغفر إلا بالتوبة النصوح قبل أن يغرغر، أما إذا حشرجت في الصدر فلا ينفع توبة، وحشرجة في الصدر الروح هي أن تؤخذ الروح من الجسم شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى الحلقوم، فلا ترجع بعد ذلك، ويشاهد المحتضر ملك الموت وأعوانه أمامه، وهنا إذا قال: أتوب إلى الله، استغفر الله، وهذا على فرض، وإلا فإنه لا يلهم لهذا أبداً، قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:17-18]، إذاً أفظع أنواع الظلم هو الشرك بالله تعالى، والشرك بالله تعالى كأن تعلق الصليب في عنقك وتعبد المسيح، أو اتخاذك تمثالاً من ذهب أو من فضة أو من طين أو من خشب في بيتك وتنحني أمامه وتسجد بين يديه.وبالتالي فالشرك هو عبادة غير الله كيفما كان المعبود، حتى لو كان جبريل أو ميكائيل عليهما السلام، إذ قد عبد المشركون من العرب الملائكة وقالوا: إنهم بنات الله، وأن الله قد أصهر إلى الجن فأنجب الملائكة، فأنكر الله عليهم فقال: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات:153-154]، فعبادة غير الله هي الشرك الأعظم، سواء كان المعبود ملكاً في السماء أو نبياً في الأرض أو ولياً صالحاً بيننا، أو كان غير ذلك، فالله عز وجل لم يسمح ولم يأذن ولم يرض لعبد من عباده أن يعبُد غيره، إذ خلقه ورزقه وحفظه من أجل أن يعبده، فإذا رآه يلتفت إلى غيره ويعبده بأي نوع من أنواع العبادة فقد أغضب عليه ربه عز وجل، وظلم مولاه، واعتدى على حقه، إذ حق الله ثابت علينا وهو: أن نعبده مقابل خلقنا ورزقنا وحفظنا، ومقابل إيجاد هذه الحياة كلها لنا ومن أجلنا.
الدعاء هو العبادة ولا يجوز صرفه لغير الله
واسمعوا! والذي نفسي بيده، لا يرضى الله عز وجل عن عبد ينادي غيره ويتركه هو، وذلك لينقذه أو يسعفه، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )، ومعناه: من لم يدع الله ما عبد الله تعالى، ومعناه: من دعا غير الله فقد كفر بالله، إذ الدعاء هو العبادة، فلا عبادة تصح أبداً من عبد يدعو غير الله أو لا يدعو الله تعالى.ومن لطائف الدرس: أن جماعة من المتصوفة وغلاتهم احتالوا على مريدين وقالوا لهم: كيف تدعون الله؟ الله ما يعرفكم؟! ما يعلم بحاجاتكم حتى ترفعون إليه أيديكم وتقولون: أعطني كذا وكذا، وافعل لي كذا وكذا؟! ووضعوا لذلك قاعدة لا تحفظوها، فقالوا: حالي يغني عن سؤالي، أي: هو يعرف مرضي إن كنت مريضاً، وجوعي إن كنت جائعاً، وغربتي إن كنت غريباً، فلمَ ندعوه؟ ومعنى هذا الكلام: لا تدعوا، واستشهدوا لهذا بقضية خاصة وهي أن الخليل إبراهيم عليه السلام يوم أن حكم عليه بالإعدام بأرض بابل بالعراق، وأججت النيران، وأعدت إعداداً خاصاً، وجيء به بالفعل مكتوف اليدين والرجلين، ووضع في المنجنيق ودفعوه إلى النار؛ لأنهم ما استطاعوا أن يقربوا منها، فقد كانت من مسافات بعيدة ملتهبة وحارة جداً، حتى الطير لا يستطيع أن يحوم فوقها، فلما ألقي عرض عليه جبريل على الفور فقال له: ألك حاجة يا إبراهيم؟ فقالوا كذباً عليه: حالي يغني عن سؤالي! ونحن قد أخبرنا حفيده صلى الله عليه وسلم بأنه قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، أي: لا حاجة لي عندك، وإنما حاجتي عند ربي، فصدر أمر الله عز وجل إلى النار، إذ هي مخلوقة من مخلوقاته، ومربوبة من مربوباته: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، وقد علمنا من قبل نبينا صلى الله عليه وسلم أن الله لو ما قال: وَسَلامًا [الأنبياء:69]، لمات إبراهيم في النار بالبرد، إذ البرد قاتل كالحر، والآن يموتون في الثلج، لكن قوله: بَرْدًا وَسَلامًا [الأنبياء:69]، فخرج -بعدما احترق القيد من يديه ورجليه- وهو يتفصد عرقاً، فانبهر ذلك الشعب واندهش، وقال: هيا نترك هذه الديار وأهلها، فخرج مع ابن أخيه لوط وزوجه سارة، إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [العنكبوت:26] سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، ولا يدري أين يذهب، وقد هداه ربه عز وجل، والشاهد عندنا في كلمة: حالي يغني عن سؤالي، إذ معناها: لا تدعو الله!! أعوذ بالله، إنه لا أعظم من الدعاء، فاصرخ يا عبد الله بين يدي ربك، إذ إن هذه أعظم عبادة لله تعالى، حتى قيل: إن الدعاء مخ العبادة، فمخ الحيوان إذا زال مات، وكذلك إذا نزع الدعاء ما بقيت عبادة.ولنا صورة دائماً نمثلها للحاضرين: قف يا إدريس! وارفع يديك إلى الله، فماذا تقرءون في هيئته هذه؟ أنا أقرأ وأنتم تسمعون: إن هذا العبد فقير محتاج إلى الله تعالى، والدليل أنه رفع كفيه إلى السماء، وهي علامة على فقره، والله يحب من عبده أن يعلن عن فقره، وأنه لا غنى له عن ربه، وثانياً: أن هذا العبد قد علم وأيقن أن ربه يسمع كلامه وإن أسره وأخفاه، فهو بين يديه يسمعه، ولولا أنه يعلم أن الله يسمعه هل يدعو بهذا الدعاء فقط؟ وإذا رفع صوته فربه قريب منه في الملكوت الأعلى؟ لكن علم هذا العبد أن الله عليم بذات الصدور، وأنه يعلم السر والنجوى، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم ما في الظلمات، وما في الليل والنهار، وما في البر والبحر، وبالتالي فهذا مؤمن بأن الله يسمعه ويراه، وثالثاً: لولا علمه أن الله يرى مكانه في المدينة أو في مراكش أو في الليل أو في النهار فكيف يدعو هنا؟ ليذهب إلى مكان يراه الله، أو إلى كعبته وبيته، إذاً هو مؤمن بأن الله يراه حيث ما كان، وأضف إلى هذا: لو عرف أن غير الله يعطيه حاجته لعمل بيديه هكذا، أي: مدها إلى من يطلب منه، لكنه ما رفع يديه إلا إلى أعلى، علماً منه أنه لا يوجد أبداً في الكون من يعطيه أو يقضي حاجته إلا الله تعالى، وإلا لنكَّس يديه إلى أسفل، أو قال يا فلان.فهل عرفتم أن الدعاء هو العبادة؟ إذاً فادعوا الله عز وجل وابكوا وعفروا وجوهكم في التراب، وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، إذ إن أعظم حالة لاستجابة الدعاء وأنت ساجد بين يدي الله تعالى، فتعفر وجهك بين التراب، لا على هذا الحرير، والدموع تسيل، فلا ترفع رأسك حتى تُعطى حاجتك، واقرءوا: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، وقال عليه الصلاة والسلام: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد )، واحفظوا هذه الكلمة عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فهيا بالبالون نطلع خمسين عاماً في السماء، هل نقرب إلى الله أكثر ممن هو هنا؟ والله ما كان، حتى لو تخترق السموات السبع ما تقرب من الله كما تقرب منه وأنت ساجد ووجهك في التراب على الأرض؛ لأن الملكوت كله في يديه وقبضته.معاشر المستمعين! إن الشرك أعظم ذنب وصاحبه إن لم يتب منه فهو خاسر خسراناً أبدياً.
ذكر بعض مظاهر الشرك بالله تعالى
كما يجب علينا أن نعرف مظاهر الشرك مظهراً بعد آخر، وذلك حتى ننقذ إخواننا من الشرك، والحمد لله فقد أنقذ الله بهذه الدعوة من المؤمنين والمؤمنات الكثير، وذلك ممن كانوا يعيشون والله على أفظع الشرك، فقد كانوا يستغيثون ويدعون ويصرخون وينادون بأسماء غير أسماء الله تعالى! وقد كانت قلوبهم متعلقة بالأولياء وبالقبور والأضرحة، ولذا فقد كانوا يحلفون بها ويستغيثون بها وينذرون لها ويحبون فيها ويبغضون فيها، والحمد لله قد نجانا الله من ذلك، ونجى أيضاً من عاشرناه.وخلاصة القول: من الآن إياك يا عبد الله ويا أمة الله أن تحلف بغير ربك، صادقاً كنت أو كاذباً؛ لأن الحلف بغير الله شرك في عظمة الله عز وجل، إذ إن الذي تحلف به يكون قد عظمته وأعطيته منزلة حتى أصبح لأن يُحلف به، ومعناه أنك رفعته إلى مستوى الألوهية والربوبية، فإياي وإياكم أن يسمعنا الله نحلف بغيره، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في رواية الترمذي في جامعه الصحيح: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، صدقت يا رسول الله، إذ لما نقول: وحقك، ورأسك، وسيدي فلان، يكون قد عظمته، وأعطيت من عظمة الله لهذا المخلوق عظمة وأشركته فيها، وهذا أمر واضح للمتأمل.والرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: ( ألا )، ألو، أستغفر الله، ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ألو، لكن أنتم تعرفونها أكثر من ألا، ( ألا إن الله ورسوله ينهيانكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، وفعلاً فقد كانوا يحلفون بآبائهم، وقد كانوا يحلفون باللات والعزى، إذ إن الرجل أسلم أمس، فلا يستطيع أن يترك الحلف بإلهه الذي عاش معه أربعين سنة، إذ إنه ما يشعر حتى يقول: واللات أو والعزى، فكانت مشكلة عالجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أستاذ الحكمة ومعلمها، فقال عليه السلام: ( من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله )، وهل استفاد إخواننا الذين تعودوا: بحق سيدي عبد القادر، والنبي؟ قل: لا إله إلا الله تمحها على الفور، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وبعضهم قد عاش في مكة على القمار سنين عديدة، فما يدري إلا وقد بدون شعور أو بدون قصد: تعال أقامرك، فقال عليه الصلاة والسلام: ( ومن قال: تعال أقامرك فليتصدق )، بصدقة مطلقاً، فإنها تمحو هذه الكلمة، فهذا هو العلاج للمجتمع الذي تعود على القمار؛ لأنه بقوله: تعال أقامرك أو ألعب معك، يكون قد زلت قدمه، ومع هذا قد تدست النفس، فإنه يحتاج إلى محو وإزالة هذا الأثر بصدقة ولو بحفنة تمر.وأما من يقول: علي الطلاق، أو بالطلاق، أو والطلاق، فما هو الطلاق؟ جبل أحد هذا؟ ماذا عليه؟ إن هذه من ألفاظ الجهال، إذ حقيقة الطلاق يا عباد الله أن المؤمن وهو ولي الله، والمؤمنة وهي ولية الله، إذا تأذى هذا الرجل من امرأته وصبر وبقي في آلامه، فإن سيده ومولاه لا يرضى له أن يعذب طول حياته، فله أن يطلق، وكذلك المؤمنة أمة الله، فإن تأذت من هذا الزوج، وصبرت عاماً وعامين، فإن الله لا يرضى لأمته أن تعذب، فلها عند ذلك أن تطلب الطلاق، إذ إن الطلاق هو لرفع الضرر على عباد الله الصالحين، فكيف أصنع؟ نأتي باثنين من الرجال العدول، ونجلس معاً في البيت، ونقدم لهم طعاماً أو شراباً، ثم نقول لهما: أشهدكما أني قد طلقت فلانة، يا فلانة أنت طالق، ابق في بيتك حتى تنتهي عدتك، ثم الحقي بأهلك، فهذا هو الطلاق، وأي طلاق غير هذا فهو بدعة وضلال ومنكر.مرة أخرى: يكون الطلاق عندما يؤذى عبد الله أو أمة الله عاماً أو عامين، ولا يستطيع أن يصبر أكثر من ذلك، إذ كيف يرضى الله بأذيته وهو وليه؟ وكذلك المؤمنة لا يرضى الله لها أن تبقى معذبة، ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، إذاً: فأذن الله في الطلاق، فكيف نطلق؟ علي الطلاق؟! وبالطلاق؟! وبجامعة الأيمان؟! كل هذه ألفاظ مبدعة محدثة، إذ إن الطلاق هو أن تأتي باثنين من عدول القرية أو من جماعتك أو من حيك، وتدخلون المنزل وتقول لهما: أشهدكما أني قد طلقت فلانة، فقط بهذه الكلمة، وهي تسمع، ثم يقول لها: يا فلانة! ابق في بيتك، وكلي واشربي واستريحي حتى تنتهي العدة، وهي ثلاثة حيض أو أقراء، ثم تذهبين إلى أهلك، وإن قالت: لا، اسمح لي من الآن اذهب إلى بيتنا، فلا يمنعها، ثم يسألها: هل لك عندنا شيء؟ قالت: نعم، لي عليك ألفين ريال من يوم كذا، فيعطيها إياها، وإن قالت: أمتعني وأكرمني بشيء فأنا الآن ذاهبة إلى بيت أبي، فأعطها ألف ريال، ومع السلامة يا أمة الله، فهذا هو الطلاق، وهذا هو الإسلام، وهذا الموضوع طويل كموضوع الشرك، وسنعود إليه إن شاء الله يوم غد.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
18-05-2021, 04:31 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (82)
الحلقة (304)
تفسير سورة النساء (85)


بعث الله عز وجل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام، وأنزل عليه القرآن، وأمره بتبليغ دينه لكل من على وجه البسيطة من الإنس والجن، وأمر الناس من جانب آخر باتباع هذا النبي الخاتم، الذي ختمت برسالته الرسالات، وجاء الكتاب المنزل عليه مهيمناً على الكتاب كله، مبيناً لهم أن إيمانهم به هو خير لهم، ومن كفر منهم فإن الله غني عنه.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم حقق رجاءنا، فإنك ولينا ولا لي لنا سواك.ومازلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع، ولكنا سندرس الآية الرابعة الأخيرة منها، وتلاوة هذه الآيات الأربع تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين بعد أعوذ بالله من الشيطان: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:167-170].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! علمنا -والحمد لله- أن الصد عن سبيل بعد الكفر صاحبه ضال ضلالة لا يهتدي بعده، فيا ويل من كفر وصد عن سبيل الله، وذلك لقول ربنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:167].ثانياً: أن الذي يكفر ويزيد فوق كفره ظلماً، أي: ظلم نفسه وظلم غيره، إذ الظلم يتناول أولاً ظلمه لنفسه ثم ظلمه لغيره، وقد يظلم ربه فيأخذ حق سيده ومولاه ويعطيه لعبيده ومخلوقاته، ألا وإن الشرك من أعظم أنواع الظلم، إذ هو اعتداء على حقوق الله عز وجل، فهذا الذي كفر وظلم يخبر تعالى عنه أنه لن يغفر له، ولن يهديه طريق السلامة والنجاة والسعادة، ولكن سيهديه طريق جهنم والخزي والعذاب الأبدي، وتأملوا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:168-169]، فما هو بالصعب أبداً ولا الشاق الممتنع، فالله أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن، فهو والله يكون، فلا يعجز أن يدخل البشرية كلها والجن كلهم والملائكة كلهم في عالم الشقاء، إذ إنه على كل شيء قدير.ومن أراد أن ينظر إلى قدرة الله فليرفع رأسه إلى الشمس، ويسأل علماء الفلك: من أوجد هذا الكوكب العظيم؟ بنو فلان؟! الدولة الفلانية؟! إن هذا الكوكب كتلة من النار، فمن أوجد هذه الكتلة من النار؟ ما مادتها؟ إن هذا الكوكب العظيم أكبر من كوكبنا الأرضي بمليون ونصف المليون مرة، فمن أوجده؟ من سخره وأداره في فلكه لحكمة أرادها؟ أبعد هذا تشك في قدرة الله تعالى يا ابن آدم؟! وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284].
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم...)
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:170]. ‏
نداء الله للخلق كافة وإخبارهم بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء:170]، هذا النداء عام، فيشمل الكتابي والمشرك والمؤمن والكافر والأبيض والأصفر، أي: كل بني آدم، ولكن في الدرجة الأولى يتناول اليهود والنصارى؛ لأنهم كفروا بالنبي الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، مع علم علمائهم ورجال العلم عندهم أنه النبي الخاتم محمد بن عبد الله الذي يخرج في جبال فاران، والله ليعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولكن الحفاظ على المنصب والكرسي والطعام والشهوات حرمهم أن يعترفوا بالحق، قال تعالى: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، قال عبد الله بن سلام الحبر العظيم من بني إسرائيل من اليهود في المدينة، وقد أسلم أول من أسلم: والله إني لأعرف رسول الله أكثر مما أعرف ابني، لم؟ قال: لأن أم ولدي يمكن أن تخونني وأنا لا أدري، أما هذا فوالله لرسول الله، وقد ورد ذكره في الكتب السابقة، كالتوراة والإنجيل، إذ إن فيهما صفات ونعوت رسول الله، بل تكاد هذه الكتب أن تنطق بها، واسمع ما قاله عيسى عليه السلام لبني إسرائيل: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، وهو موجود في الإنجيل.والشاهد عندنا: ثقوا وصدقوا بأن التوراة والإنجيل تحملان صفات رسولنا ونعوته التي تكاد أن تنطق بها، لكن أعداء الله وأعداء البشرية وأرباب المادة وعباد الشهوات والشياطين والأهواء، قد جحدوا الحق بعدما عرفوه، ولا تعجب، بل ولا غرابة في هذا، إذ إن المسلمين بينهم وفيهم من جحد الحق وأنكره وتنكر له وكذب به أيضاً، لا لشيء إلا لمصالح دنيوية هابطة ولشهوة البطن والفرج.فاسمع يا عبد الله! إلى نداء الحق جل جلاله وعظم سلطانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ [النساء:170]، ما قال: قد جاءكم رسول، وإنما (الرسول) المعهود عندكم، والمعروف بينكم، والذي جحدتموه وأنكرتموه وكذبتموه، وقلتم فيه ما قلتم، الرسول الأعظم الأكمل في رسالته وكمالاته، وإنه والله لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العدناني، من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام.فهذا النداء ينبغي أن تصغي إليه الآذان، إذ إنه نداء خالقنا ومالك أمرنا ومولانا، فهو يقول لنا: قد جاءكم الرسول، فقولوا: مرحباً به، وأهلاً وسهلاً بمجيء حبيب الله ورسوله ومصطفاه، لكن قالوا: لا، هذا يريد أن يحكم ويسود، ويريد أن يستغلنا وأن يستعبدنا، فأخذوا يحرفون كلام الله ويبدلونه ويغيرونه، فيا ويلهم من عذاب جهنم، وثَّم يذكرون حالهم ويبكون ولا يجديهم البكاء، وتتمزق قلوبهم حسرات ولا ينفعهم ذلك في شيء.إن هذه إنعامات الله وإفضالاته علينا، إذ إنه ينادي البشرية بعنوانها العام: يا أيها الناس! قد جاءكم الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم بالحق يحمله إليكم من أجل أن تكملوا في دنياكم وتسعدوا فيها وفي أخراكم، وما جاء ليجمع أموالكم أو ليتسلط عليكم أو ليسودكم، وإنما جاء بالحق يحمله، من أين؟ قال: مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:170]، فكيف نرد ما جاءنا من ربنا؟! مجانين نحن لا عقول لنا؟! أيجيئنا رسولٌ يحمل الهدى والنور من ربنا وسيدنا وخالقنا والذي إليه مصيرنا فنرده؟! لماذا لا نقول: أهلاً وسهلاً ومرحباً؟! لكن إبليس وأعوانه وقفوا في الطريق؛ لأنهم ما يريدون لهذا الآدمي أن يكمل أو يسعد أبداً، ولذا حسبنا أن نسمع كلمة العدو وهو بين يدي الله تعالى، وهو يحلف بالله فيقول: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، أي: فبعزتك يا الله لأغوين بني آدم عن آخرهم، لم يا عدو الله؟ قال: لأنني أُبلست وأيست من الخير بسببهم، بل وطردت من الجنة وحق عليَّ القول بأنني من أهل النار، وبالتالي فسأعمل أيضاً على إضلالهم وإغوائهم حتى يدخلوا معي النار.وأنت يا أبا مرة! يا عدو الله، يا عدو الإنسانية! ألست أنت الذي أخرجت أبانا وأمنا من دار السلام بفتنتك؟ بل أنت ما أبلست ولا طردت إلا لأنك تكبرت، إذ أمرك مولاك أن تسجد لآدم، فحملك الكبر كيف تسجد لهذا المخلوق من الطين وأنت المخلوق من النار؟ فمن سبب الشقاء إذاً؟ أنت يا إبليس عليك لعائن الرحمن.ولذلك لما خلق الله آدم بيديه، وهذه ميزة خاصة بآدم، ونفخ فيه من روحه، أمر ملائكته أن يحيوه، وذلك بأن يسجدوا لآدم، فسجد الملائكة كلهم، كم ملياراً؟ والله لا تعرف عددهم، وهذا الملعون عدو الله الذي يوجد الفتن بيننا، ويوغر صدورنا، وينفخ فينا الخبث والباطل، قال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]؟ أي: كيف أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]؟ ثم قال: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ [الإسراء:62]، أي: إذا طولت في عمري إلى آخر الدنيا سأفعل وسأفعل بأولاده وذريته كذا وكذا.إذاً: إبليس عدو الله هو السبب، لكن لسنا بأنعام ولا أبقار ولا أغنام، فينفخ فينا روح الباطل فننتفخ ونهتز، بل يجب أن نحذر هذا العدو، وعندك مشعل من نار لا يقوى هذا العدو أبداً على أن يقرب منك إذا قلته، ألا وهو قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإذا شعرت به وحام حول قلبك، فاستعمل هذا الجهاز الإلهي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنه يرجل عنك بعيداً.ولكن معاشر المستمعين! هذه القضية تحتاج إلى إيجاد جهاز سليم صحيح، فالذي لا يملك هذا الجهاز لا يستطيع، فاسمعوا هذه الآية من سورة الأعراف، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202].فتأملوا هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:201]، اتقوا ماذا؟ الحر والبرد والجوع والظمأ؟ لا والله ، وإنما اتقوا الله ربهم، فلم يجاهروا بمعاصيه، ولم يعلنوا العصيان والخروج عن طاعته، وإنما إذا قال: صوموا صاموا، وإذا قال: أفطِروا أفطَروا، وإذا قال: امشوا مشوا، وإذا قال: قفوا وقفوا، وبهذا يتقى الله عز وجل، إلا أنه لابد من معرفة فيمَ نطيع الله تعالى؟ وما هي أوامره التي نقف عندها وننهض بها؟ وما هي نواهيه ومحرماته التي نتجنبها ونبتعد عنها؟ لابد من العلم، أحببنا أم كرهنا، إذ من لم يعلم لن يصل إلى مستوى الكمال بحال من الأحوال. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:201]، فانظر إلى حالهم: إِذَا مَسَّهُمْ [الأعراف:201]، طيف، طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، فالعدو يحوم كالطائرة الغازية للعدو حول مركز حي في البلد، وإذا بالأجهزة المتهيئة لذلك تشعر بها وتطردها، والذي ما عنده جهاز صالح فإن الشيطان يحوم ويدخل قلبه، ويتصرف فيه ويسخره كالبقرة، فيقوده ويدفعه إلى الجرائم والشهوات التي قد تشمئز منها الحيوانات.وتأملوا هذه الكلمة من كلام الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:201]، أي: ربهم، بماذا؟ بطاعته، في ماذا؟ فيما أمرهم به ففعلوه، وفيما نهاهم عنه فتركوه، فأصبحت قلوبهم مشرقة وأرواحهم زكية، والأنوار تملأ قلوبهم، إذ ما إن يحوم الشيطان حول قلوبهم حتى يتفطنوا له ويلعنوه فيبعد، والذي ما عنده إشعاع ولا نور ولا حراسة، يأتي إليه الشيطان وينزل على قلبه، ثم يسخره كما يشاء، والرسول الكريم قد علمنا فقال: ( إذا اعتراك الشيطان -أي: اعترضك- وأنت في الصلاة فالتفت عن يسارك وقل ثلاث مرات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنه يرحل )، وبالتالي فما من إنسان يشعر بأنه يريد أن يرتكب معصية قد زينها له العدو، فتفطن وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والله لقد نجا، ولا يقع في تلك المعصية. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ [النساء:170]، و(أل) في (الرسول) للتفخيم والتعظيم، وللإجلال والإكبار، وهي للعهد، أي: الرسول المعهود عندكم في التوراة والإنجيل، ومع ذلك تحاولون تحريف كلام الله تعالى، وتقولون: هذا الرسول ليس هو، وهذا الرسول كذا وكذا، وهو في الحقيقة الرسول المعروف، وقد جاءكم بالحق، فهل جاء رسول الله بالباطل؟ والله لو تجتمع البشرية وتأخذ تحلل وترتب وتقدم وتؤخر في شريعته الثابتة عنه في كتابه، والله ما عثروا على شيء اسمه باطل، لا في الآداب ولا في الأخلاق ولا في السياسة ولا في الحرب ولا في السلم ولا في التقنين ولا في التشريع، إذ مستحيل أن يكون هناك باطل يحويه كتاب الله وتثبته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يتبع

ابوالوليد المسلم
18-05-2021, 04:31 AM
بيان مجيء الحق من الله تعالى
ومن أين جاء هذا التشريع والتقنين والآداب والعبادات وهذه الكمالات؟ أي: من أين مصدرها؟ قال: مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:170]، قالوا: مَن ربنا؟! سبحان الله! قل لي: من ربك أنت؟ كوكب؟! هل رأيت الكوكب قد صنعك؟ جبل؟ هل رأيت الجبل قد صنعك؟ إنه لا يسعك إلا أن تقول: ربي اسمه الله، أي: خالقي ورازقي وواهب حياتي ومعطيني ما طلبته منه، ولا رب سواه عز وجل.ملحوظة: قبل المذهب الشيوعي البلشفي الأحمر، والذي قد أراحنا من الصليبية! مزقها؟ داسها؟ ماذا فعل بها؟ سلبها عقيدة وجود الله والإيمان به وبلقائه، إذ إن ثلاثة أرباع المسيحيين ملاحدة بلاشفة، وثلاثة أرباع الصليبيين في هذا القرن لا يؤمنون بالله ولا بالجنة ولا بالأنبياء ولا بالرسل، فمن فعل بهم هذا؟ بنو عمنا اليهود؛ لأنهم حجر عثرة في طريقهم من أجل إيجاد مملكتهم وسيادتهم، وقد قلت ألف ما مرة: أيام كان المسيحي يؤمن بالله وبلقائه وبدار السلام، كان ينظر إلى اليهودي لا يستطيع أن يفتح عينيه فيه أبداً، وذلك لشدة بغضه له؛ لأنه قد قتل إلهه وصلبه كما يزعم! وبالتالي فكيف ينظر إليه؟! فاستطاعوا بهذه الحيلة العجيبة أن يرموا النصارى بالبلشفة ولا إله والحياة مادة، كما واستطاعوا أن يكسبوا مغانم كبيرة لا يشك في هذا ذو علم ومعرفة، وهم الآن يتحكمون في أوروبا وأمريكا والعالم، وقد نجحوا، لكن الذي أردت أن أقوله: إنه قد تهيأت لنا أوروبا وأمريكا واليابان، فقبل وجود البلشفة والشيوعية الحمراء كان لا يستطيع المؤمن أن يؤذن في أوروبا أو يدخلها أبداً، لكن شاء الله وهو يدبر، وهو العليم الحكيم، أن تأتي هذه البلشفة وتهبط تلك العقيدة وتزول، وتصبح أوروبا كأمريكا داراً مفتوحة للإسلام والمسلمين، فتجد فيها المساجد والتعليم، ووالله لقد صلينا في المطارات، وقبل ذلك لا يمكن أن يظهر مسلم أبداً.فهيا نغتنم هذه الفرصة وننشر دعوة الله في تلك الديار التي فتح الله لنا أبوابها، وقد نادينا وصرخنا: يجب أن تتكون لجنة عليا للعالم الإسلامي يشارك فيها كل قطر وإقليم بعالم أو عالمين، وتضرب تلك اللجنة العليا فريضة على كل مؤمن بدرهم أو دينار في العام أو في الشهر، فتوجد ميزانية ضخمة لا تعادلها أي ميزانية في الدنيا، وتقوم فقط بنشر دعوة الله في تلك الأرض التي فتح الله لنا أبوابها، وتبعث بالمرشدين والمعلمين البصراء، وتبني المسجد وتعطي تكاليف المسجد من الإمام وما إلى ذلك، وتوزع الكتاب في هدوء، وتربي تلك الجماعات، وتنتزع من نفسها ذاك الشرك والخرافة والضلالات والحزبيات والوطنيات، فيصبح المسلمون في أوروبا أو في أمريكا جسم واحد، لا قبلي ولا بربري ولا عربي، لا حنفي ولا شافعي ولا مالكي، وإنما مسلم فقط، وكأنهم الملائكة، وما إن ينظر إخواننا الكفار هذه الأنوار حتى يتدفقوا عليها، إذ من يكره هذه الأنوار؟! فيشاهدون المسلمون وهم كلمة واحدة، والصوت ليس مرفوعاً، فلا ضجيج ولا صخب ولا حرب ولا قتال، وإنما الطهر والصفاء والمودة والإخاء، والتعاون على البر والتقوى، والبعد عن الإثم والعدوان، وكأنهم كالملائكة، ووالله ما تمضي خمسة وعشرون سنة وإلا تدفق الناس على الإيمان والإسلام، لكن للأسف الفرصة الآن قد ضاعت، فالفتنة دائرة في بلاد العرب، إذ إنهم يقتلون النساء والأطفال، ويذبحون بعضهم بعضاً، ويفعلون الأعاجيب، فيقولون: انظروا إلى هذا الإسلام! ووقفوا الآن موقفاً، وأنا أخشى ذلك، وقد قلت لكم: والله إن لم نستقم حقاً ونعود فإن إخواننا المسلمين في أوروبا وفي أمريكا سيرمونا في البحر وينهون وجودنا، فما لنا لا نستيقظ ولا نفيق ولا ننهض ولا نتحرك؟! أين الصحوة هذه؟ إنها سكرة من أعظم السكرات، والعجب أنهم سموها صحوة!
الهدف من مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ [النساء:170]، يحمله معه، مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:170]، لا من جهة من الجهات، ولا طائفة من الطوائف، ولا زعيم من الزعماء، ولا ملك من الملوك، وإنما مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:170]، إذاً: فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:170]، أي: آمنوا بهذا الرسول خيراً لكم من الكفر ألف مرة، إذ إن إيمانكم يكن خيراً لكم من الكفر، فهذه دعوة الله بين أيدينا نحن بني آدم على هذه الأرض، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ [النساء:170]، ولا تقل: جاء من ألف وأربعمائة سنة، لا، إذ إن رسالته هي هي، وكلماته التي قالها محفوظة بالحرف الواحد، إذ ما ضاع منها شيء أبداً، قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا [النساء:170]، وهذا أمر الله، وآمنوا، أي: صدقوا بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامشوا وراءه يصل بكم إلى دار السلام، فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:170]، فالله هو خالق الخير والشر، يعلمنا أن إيماننا به خيرٌ لنا من الكفر به، وهو والله لكذلك، خير لنا في الدنيا والآخرة على حد سواء.
غنى الله المطلق عن عباده
ثم قال تعالى: وَإِنْ تَكْفُرُوا [النساء:170]، فهل معنى ذلك أنكم انتصرتم؟ أي: إن رفضتم أمر الله وما قبلتموه وكفرتم به، فهل معناه: أنكم سوف تغلبون الله، ولا تبالون بسلطانه ولا بدولته؟! يقول تعالى: فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النساء:170]، فكل شيء في الملكوت الأعلى والأسفل بيده سبحانه وتعالى، فأين تذهبون؟ أنتم كالنعاج فقط بين يدي الله، فلا تفهموا أنكم إذا رددتم أمر الله وقلتم: ما نؤمن بهذا الرسول ونكفر به، تظنون أنكم غلبتم الله، واستطعتم أن تعجزوه؛ لأنكم ما آمنتم، لا، إذ إن له ما في السموات وما في الأرض، وهم في قبضته وملكه، فيعطي ويمنع، ويرفع ويضع، ويحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
إثبات صفتي العلم والحكمة لله تعالى
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا [النساء:170]، بخفايا الأمور وبظواهرها وعلانيتها، عليماً بالكافر من هو؟ وبالمؤمن من هو؟ والبار والفاجر والصالح والطالح والحاضر والغائب والحي والميت، حكيماً [النساء:170]، والحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه، ومعنى هذا: إن كفرتم فقد وقعتم في المحنة ولن تخرجوا منها، ألا وهي خزي الدنيا وعذاب الآخرة؛ لأن الملك جل جلاله يملك كل شيء فينا، ومما يملكه فينا رقابنا، فهو يسوقنا حيث شاء، ويدخلنا حيث يريد، وهو حكيم، والحكيم لا يضع أبداً أهل الإيمان والطهر في أتون جهنم، ولا يضع أهل الكفر والشرك والنفاق والمعصية في دار السلام، إذ حاشاه سبحانه وتعالى عن ذلك.
معنى الإيمان برسول الله ولوازمه
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ [النساء:170]، الحق الكامل المعروف عندكم في كتبكم، وقد جاءكم بالحق مصحوباً به يحمله إليكم، ألا وهو دين الله الإسلام، وبناء على هذا: فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:170]، أي: الإيمان خير لكم من الكفر، وَإِنْ تَكْفُرُوا [النساء:170]، وقد فعلوا، فلتعلموا أن لله ما في السموات وما في الأرض، وأنتم من جملة ما يملك سبحانه وتعالى، وسوف يجزيكم بعملكم، فإنه عليم بخلقه، حكيم في قضائه وتدبيره، فلا إله إلا الله! فمن يبلغ هذا لأهل الكتاب من اليهود والنصارى؟ ومن يقرأ هذا عليهم؟ لا نستطيع الآن، لكن أيام كنا سادة وقادة، وكانت الأنوار تغمرنا والعالم يتطلع إلى وجودنا، مشينا وغزونا وفتحنا ونشرنا دين الله تعالى، أما اليوم والظلام معتم علينا، ونحن في محنة الجهل والظلم والشر والفساد، فمن يقبل منا الإسلام؟! لقد صرفناهم عن الإسلام! بل وصددناهم صداً كاملاً بسلوكنا وبعجزنا وضعفنا وبمكرنا وخداعنا لبعضنا البعض!معاشر المستمعين! نعود مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، فأولاً: هل نحن مؤمنون به أم لا؟ يا رب! آمنا برسولك الذي أرسلته إلينا بالحق، فاجعل إيماننا خيراً لنا يا ربنا، ويبقى السؤال التالي وهو: ما هو الإيمان بالرسول؟ الإيمان به يعني أن تؤمن به رسولاً لله تعالى، ولا يتم هذا ولا يصدق صاحبه فيه إلا إذا أطاع رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ إذ الذي لا يطيع رسول الله ما آمن به، والذي لا يطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوامره ونواهيه الملزمة للفعل والترك ما آمن به أيضاً، وهو القائل: ( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني )، فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي دليل الإيمان وبرهانه، والذي يأمره الرسول فلا يمتثل، وينهاه فلا يترك، ويرغبه فلا يرغب، ويخوفه فلا يخاف، فكيف نقول: إنه قد آمن؟ وفوق الطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم الحب له عليه السلام، إذ من لم يحب رسول الله ما آمن به، واسمعوه وهو يقرر هذه الحقيقة فيقول فداه أبي وأمي: ( والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )، أي: والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم، ويصبح المؤمن بحق، والصادق في إيمانه، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، فهل نحب رسول الله فعلاً؟ ولذا فالحب له عليه السلام: أن يحب شيئاً فتحبه بحبه، ويكره شيئاً فتكرهه لكرهه، وهذه علامة الحب، أي: علامة الحب، فإذ كان يحب المحبوب شيئاً فتحبه بحبه وإن كان غير موافق لمزاجك وطبعك، وغير محقق لرغبتك، لكن مادام حبيبك يحبه فأنت تحبه، وإذا كان حبيبك يكره الشيء فإن كنت محباً صادقاً فتكره ذلك الشيء، وإن كانت نفسك تريده وترغب فيه وتتلذ به، لكن مادام الحبيب قد كرهه، فتحمل نفسك على كرهه والابتعاد عنه، وقد سمعتموه وهو يقول: ( والذي نفسي بيده! )، وهو الله تعالى، ( لا يؤمن أحدكم )، معاشر المؤمنين والمؤمنات! ( حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ).وقد جاء عمر إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيه فقال له: ( يا رسول الله! والله إنك لأحب إليَّ من ولدي ووالدي والناس أجمعين إلا نفسي، فقال عليه السلام: والله لا تؤمن حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر )، أي: الآن آمنت يا عمر، فهل بلغكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سمع زمارة راع في السفر فأدخل أصبعيه في أذنيه وأبى أن يسمع؟ هو يكره الزمارة، والزمارة هي البيانو والكمان وغيرها من آلات اللهو والعبث، فكيف أنت تصغي إليها وتجعلها في غرفتك، بل وتجلس أنت وأبناؤك دونها تسمعون؟! وهل هذا يحب رسول الله؟! لا، ووالله لولا الجهل لقلنا: ما آمن، إذ إن أغلب الناس جهال لا يعرفون ما يحب الله ولا ما يكره، وهذا مثال واحد فقط، ولذلك فإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب كذا فيجب أن تحبه وإن كان منافياً لغرائزك وطباعك وعاداتك، وذلك حتى تصبح المحب والمؤمن الصادق، واسمع إلى هذا البيان من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: ( كلكم يدخل الجنة إلا من أبى )، يخاطب أمته في صورة أصحابه، ( كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ )، أحمق هذا أو مجنون؟ كيف يأبى فلا يدخل الجنة؟! فقال عليه السلام: ( من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى )، فكلكم أيها المستمعون! تدخلون الجنة إلا من أبى فقال: لا أدخل، فهل يوجد عاقل يقول: أنا لا أدخل؟ قال: ( من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى )، أي: أبى أن يدخل.فأين أهل العلم والدرس في هذه الحلقة المباركة؟ ما السر في هذا؟ هل أراد فقط أن يستعبد الناس ويخضعهم لطاعته، وبذلك يدخلون الجنة أو لا يدخلونها؟ اسمع وهو يقول: ( كلكم يدخل الجنة إلا من أبى )، فإنه لا يدخل، فعجباً يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: ( من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى )، فهل يريد منا أن نطيعه ويستعبدنا ويستغل طاقاتنا وأن يرأسنا؟! إياك أن تفهم هذا، إن سر هذه يا معشر المستمعين هي: أن طاعة رسول الله هي طاعة لله تعالى، قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، أي: أن طاعة الرسول هي طاعة لله تعالى، والذي لا يطيع رسول الله والله ما أطاع الله تعالى، ومن لم يطع الله يكرمه ويدخله في جواره في دار السلام؟! حاشا وكلا والله، وإنما يدخله دار البوار ومقرات الفجار والكفار.والسر والحكمة في طاعة الله وطاعة الرسول معاشر المستمعين هي: أن هذه الطاعات عبارة عن عبادات مقننة بالكمية والكيفية والأزمنة والأمكنة والهيئات والصفات، فتولد وتنتج الحسنات المعبر عنها بالنور، فمن عمل بها طاعة لله ولرسوله زكت نفسه وطابت روحه، وأصبحت أهلاً للملكوت الأعلى حيث النور والملائكة، ومن عصى الله ورسوله فعمل بالملوثات لروحه والمدسيات لها والمخبثات لها، فأصبحت روحه كأرواح الشياطين والكافرين، فيستحيل في حقه أن يدخل دار السلام.وأمامكم هذه الآية الكريمة فاسمعوها، وهي بيان إلهي: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، أي: حتى يدخل البعير في عين الإبرة، وهذا مستحيل جداً، فكذلك صاحب الروح الخبيثة العفنة المنتنة بأوضار الشرك والمعاصي، يستحيل في حقه أن تدخل روحه دار السلام، وهذه هي الحقيقة، أي: أن طاعة رسول الله هي طاعة الله تعالى، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله تعالى، والسر في فعل الأوامر هي تزكية النفوس وتطهيرها والله العظيم، وإن أحببتم أن أريكم صورة، فخذوا هذا المثل: أعطوني عالماً بربه عارفاً بعبادة مولاه يعبد الله، وأحضروه أمامكم، هل يزني ويسرق ويكذب ويغش ويخدع ويتكبر ويسب ويشتم؟ لا والله؛ لأن روحه طاهرة، ونفسه زكية، وليس عليها ظلمات الخبث والنتن والشر والفساد، وأعطني مجرماً من مجرمي المدينة أو فاسق من فساق البلاد، وانظر إلى حاله، ستجد فيه الجهل وارتكاب الذنوب والمعاصي، فهذه هي الحقيقة التي يقول عنها صلى الله عليه وسلم: ( كلكم يدخل الجنة إلا من أبى )، أي: أن يدخل، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: ( من أطاعني يدخل الجنة ) لماذا؟ لأنه زكى نفسه وطيبها طهرها، ولأنه استعمل أدوات التزكية من أنواع العبادات من الحج إلى الجهاد، إذ هذه كلها موضوعة لتزكية النفس، كما أنه أبعد نفسه عن الشرك والخرافات والضلالات والبدع المدسية للنفس الملوثة لها، فمات وروحه طاهرة نقية، فأين ينزل؟ والله في الملكوت الأعلى، ومن لم يطع رسول الله فما أطاع الله، وعلى أي شيء تزكو نفسه؟ على لعب الكرة؟! أعطونا ألعاباً تزكو بها النفس؟ أغاني، رقص، أكلات، شطحات تزكو بها النفس؟ على عقاقير وضعها الجبار، فقولك: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم مائة مرة تمحو كل ما على نفسك من قذر ووسخ؛ لأنها فعالة، وصلاة ركعتين مستقبل بهما بيت الله الحرام، فتتكلم مع ربك وعيناك هكذا حياءً منه، تخرج بعدهما وكأنك كتلة من نور، فلو تُعرض لك الدنيا كلها أمامك والله لتعزف نفسك عنها ولا تقبلها.إذاً: الإيمان برسول الله يحمل صاحبه على أن يحب رسول الله أكثر من نفسه فضلاً عن غيره، وأن يطيعه في أمره ونهيه، ويؤثر طاعته على طاعة هواه ودنياه وأهله وقبيلته.
ذكر بعض الآداب التي تجب على المسلم تجاه نبيه عليه السلام
وأخيراً: الأدب معه صلى الله عليه وسلم، إذ إن الذين لا يتأدبون مع رسول الله فإيمانهم ليس بشيء، فاسمع يا عبد الله! إن من الآداب التي أمرنا الله بها مع نبيه صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات:1]، لبيك اللهم لبيك، مرنا يا ربنا، لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، امشوا وراءه، ولا تأتي عن يمينه وتريد أن تقنن وتشرع كما يشرع هو ويقنن، ولا تمش أمامه تهديه وتدل على ما هو خير ومصلحة! بل يجب أن تمشي وراء رسول الله، فما أحله هو الحلال، وما حرمه هو الحرام، وما قبحه هو القبيح، وما مدحه هو الممدوح، وما أعطاه هو المعطى، وما منعه هو الممنوع، ومن أراد أن يمشي أمام رسول الله هلك، ومن أراد أن يمشي إلى جنبه الأيمن والأيسر يتصرف كما يتصرف، فيبيح ويمنع بهواه، فهذا ليس والله بالمؤمن، لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].وهذا نداء آخر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات:2]، لبيك اللهم لبيك، مرنا يا ربنا، لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، فلا يحل لمؤمن الآن في مسجد عليه السلام وخاصة عند حجرته أن يرفع صوته، فهذا عمر رأى رجلاً من الطائف قد رفع صوته في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ائتوني به لأؤدبه، فجيء به ترتعد فرائصه، فقال له عمر: ما لك ترفع صوتك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل: يا عمر! إن هذا الرجل ليس من أهل البلاد، إذ إنه ما تأدب بعد ولا تعلم، فقال عمر: لو كنت من أهل المدينة لأوجعتك ضرباً، فهل عرفتم الأدب مع رسول الله؟ لا ترفع صوتك في حضرته عليه السلام، فكيف بالذي يترك العمل بسنة رسول الله ويعمل ببدعة ابتدعها الشيطان عدو الله؟! وهذا مالك وهو يدرس السنة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا أراد أن يدرس السنة يتطهر ويتطيب، ويستحي أن يرفع صوته في مسجد رسول الله وهو يعلم. ومن الآداب أيضاً مع رسولنا صلى الله عليه وسلم: ألا تناديه فتقول: يا محمد! لقول الله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63]، وإنما قل: يا نبي الله، أو يا رسول الله، أما يا محمد! فقد أسأت الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.إذاً: معاشر المؤمنين والمؤمنات! نسأل الله تعالى أن يحقق إيماننا به وبرسوله، اللهم إنا آمنا بك وبرسولك، وآمنا بكل ما أمرتنا أن نؤمن به، فأعنا ربنا على ذلك وثبتنا، وحقق لنا الإيمان يا رب العالمين، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك، وتوفنا وأنت راض عنا، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم اجمع كلمة المؤمنين، اللهم أذهب هذه الغفلة عنهم، رب أنقذهم يا رب العالمين، وحد كلمتهم واجمع قلوبهم على تقواك، ليتعانقوا ويتحابوا ويدفعوا الشر والبذاءة والأذى عنهم يا رب العالمين.
الأسئلة

حكم الصلاة خلف إمام يدعو الأولياء ويستغيث بهم
السؤال: هنا سؤال وهو: إمام يصلي بنا في ديارنا وهو يدعو الأولياء ويستغيث بهم! فهل تصح الصلاة خلفه؟الجواب: والله لا تصح، وحرام أن يبقى هذا الرجل يؤم الناس، بل ترفع به شكوى إلى حاكمكم ليبعده، إذ كيف مشرك يدعو ويستغيث غير الله، ويحاد الله بذكر فلان وفلان؟! لا يصح السكوت أبداً عن هذا، إذ الدعاء هو العبادة، فمن دعا غير الله فقد انمسخ وسقط، ووالله لو يموت قبل التوبة ما رأى الجنة ولا شم ريحها، وإن كان ابن النبي أو أباه؛ لأن حكم الله قاطع: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].فإن قيل: إذا الإمام يحلق لحيته، قلنا: حلق الإمام لوجهه شيء آخر، فلا تساوي الشرك بالحلق للحية، إذ إن حلق الوجه معصية وصاحبه آثم، لكن داعي غير الله مشرك هالك، وما هو بالمؤمن.فيا معاشر المستمعين! بلغوا إخوانكم: أنه لا يصح لمؤمن أبداً أن يقول: يا رسول الله المدد،! أو يا سيدي فلان أعطني كذا! أو يا مولاي فلان كن لي كذا! إذ إن الذي ينادي غيره إنما ينادي غائباً لا يسمع صوته ولا يرى مكانه، بل ولا يستطيع أن يعطيه حاجته، ومع ذلك فقد أشرك بالله وكفر به، ولم يعترف بكتابه ولا برسوله، والذي ندعوه في البر والبحر، في الظلام والضياء، في الحاجة وغيرها هو الذي يسمع الدعاء، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، فهذا الذي نرفع أصواتنا به، أما يا فاطمة! يا رسول الله! يا سيدي فلان! يا عبد القادر! والله لمغضبة لله عز وجل، ولو سمعها الرسول لغضب غضباً شديداً، ولذلك قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( قل: ما شاء الله وحده، ما زدت أن جعلتني لله نداً )، فكيف يرضى رسول الله بذلك؟ وكيف أن الله خالقك ورازقك وأنت بين يديه تعمى عنه وتقول: يا رسول الله! أعطني كذا، أو يا سيدي عبد القادر، أو يا فلان اعمل لي كذا؟! تغضب ربك هذا الغضب وأنت لا تدري، ولا نلوم أكثر؛ لأننا ما عرفنا، ما دلونا عن الطريق، فقد صرفونا عن الحق، ونحن أيضاً قد شردنا وبعدنا، إذ لا نجتمع على قال الله وقال رسوله، وإنما نقضي أوقاتنا في الملاهي والمقاهي، وهذا جزاؤنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
18-05-2021, 04:32 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم

- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (83)
الحلقة (305)
تفسير سورة النساء (86)



نهى الله عز وجل أهل الكتاب عن الغلو في الدين من التكلف والتنطع، والرهبنة واعتزال النساء، وغير ذلك من البدع التي حملهم عليها الغلو، كما حذرهم من قول غير الحق من زعم وجود الولد لله سبحانه وتعالى، مبيناً لهم أن هذا الذي ادعوه ولداً له سبحانه وهو عيسى عليه السلام لن يستنكف عن عبادة الله وحده، فهو عبده ورسوله وكلمته ألقاها على مريم، لأن كل من يستنكف عن عبادة الله فإن مصيره العذاب الأليم في نار الجحيم.
تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث، فهيا نتغنى بها بعض الدقائق ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، فإن كان عقيدة عقدناها في نفوسنا فلا تنحل بإذن ربنا حتى نلقى الله مولانا، وإن كانت أمراً من أوامره من أجل إسعادنا أو إكمالنا، فإننا نعزم على النهوض بهذا الواجب والقيام بهذا الأمر الإلهي، وإن كانت تحمل منهياً عنه؛ لأنه ضار ومفسد، عزمنا على التخلي عنه والابتعاد من ساحته، وإن كانت تحمل نوراً وهداية سألنا الله تعالى تحقيقها لنا، وأصبحنا من أهل النور والهداية، وإن كانت تحمل آداباً رفيعة وسامية، عزمنا على التأدب بها والتزامها؛ لنسمو ونكمل بين الناس، وإن كانت تحمل خلقاً أحبه الله ورسوله ورغب فيه، عزمنا على التخلق به مادمنا قادرين نعي ونسمع ونقدر على أن نفعل ونترك، ولذا فمن أجل هذا يُدَّرس كتاب الله عز وجل، وتلاوة هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:171-173]، إنه كلام عالي وسامي، ولا عجب إذ إنه كلام الله رب العالمين.
النهي عن الغلو في الدين
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]، من القائل؟ إنه الله عز وجل الذي أنزل هذا القرآن الكريم، على من أنزله؟ على نبيه ومصطفاه ومختاره الذي اختاره من بين البشر وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وها نحن في مدينته النبوية وفي مسجده وذاك قبره الشريف في حجراته الطاهرة، وكلنا يقين على ذلك، وما عندنا أدنى شك ولا وهم. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [النساء:171]، ومن هم أهل الكتاب؟ غالباً هم اليهود والنصارى، لكن في هذا السياق هم النصارى، واليوم النصارى هم المسيحيون أو الصليبيون، فيناديهم الرب تبارك وتعالى في كتابه ليبلغهم رسوله ما دعاهم الله إليه وأمرهم به ونهاهم عنه، وذلك من أجل أن يكملوا ويسعدوا لأنهم عبيد الله تعالى. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]، والغلو من غلا يغلو، إذا تجاوز الحد وازداد وابتعد، والغلو في الدين حرام، وهو الزيادة في الدين؛ لأن الدين إذا زيد فيه أو نقص منه فقد بطل مفعوله، فلا يزكي الأرواح البشرية ولا يطهرها ولا يحقق أمناً ولا طهراً ولا محبة؛ لأنه قد فسد بالزيادة أو النقصان.فأما اليهود فقد غلوا في سب عيسى وشتمه وانتقاصه، إذ رموه بالسحر، ورموا والدته بالزنا، فأفرطوا -والعياذ بالله- في الغلو، أو فرَّطوا أعظم تفريط في شأن عيسى عبد الله ورسوله، وأما النصارى فقد غلوا في عيسى حتى جعلوه هو الله، وجعلوه ابن الله، وجعلوه ثالث أقنوم من الأقانيم الثلاثة التي تكوِّن الله، وهذا كفر -والعياذ بالله- بشع قذر، إذ إن الله رب العالمين، ومالك الملك، وهو الذي أوجد العوالم كلها وأدارها ونظمها في الأكوان كلها، فهل يحتاج إلى ولد فينسب إليه فيقال: عيسى ابن الله؟ وهل هذا الرب العظيم الجليل يتكون من عناصر ثلاثة حتى يكون الإله الرب؟ لقد عبث بهم اليهود، فهم الذين أفسدوا عقيدة المسيحيين، وحسدوهم وأبغضوهم، إذ كيف يظفرون بعيسى وباتباعه والهداية على يديه؟ وما هي إلا فترة سبعين سنة واحتالوا على النصارى وجعلوهم من أبشع المشركين والكافرين والعياذ بالله رب العالمين.فاسمع الله عز وجل وهو يناديهم فيقول: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [النساء:171]، وأهل الكتاب المفروض فيهم أن يكونوا علماء صلحاء عرفاء عدولاً أوعياء مستقيمين. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [النساء:171]، ناداهم لينهاهم عن الغلو في الدين، فقال: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]، ونحن مثلهم، فلا يحل لنا أن نغلو في ديننا بزيادة كلمة أو حركة، واسمعوا قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( إياكم -احذروا- ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة )، أحدثت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعملها رسول الله وأصحابه، ولم يبينها لأمته، فاحذروا المحدثات، ( فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )، فإياكم يا معشر المسلمين! ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، فهاهو تعالى ينهى أهل الكتاب عن الغلو في الدين، فهل يسمح لنا بذلك؟ معاذ الله عز وجل.مرة أخرى: يا معشر المستمعين والمستمعات! إن الدين عبارة عن قانون أنزله الله عز وجل ووكل إلى رسوله بيانه، وهذا القانون أُنزل وشرع من أجل أن يسعد الإنسان عليه في هذه الدار، ويكمل ويسعد عليه في الدار الآخرة، فمن هنا إذا زاد فيه من زاد فقد أفسده، ومن نقص منه شيئاً فقد أفسده أيضاً.وعندكم مثال محسوس لا يجهله إلا من لا عقل له، وتأملوه: صلاة المغرب ثلاث ركعات، فقد نزل جبريل وعلم رسول الله في مكة وصلى به ثلاث ركعات، فلو قال قائل: نحن في فراغ وفي شوق إلى لقاء الله فنصلي المغرب أربع ركعات! وصلى أربع ركعات، فهل يفتيه عالم فقيه في المسلمين ويقول: صلاتك صحيحة؟ والله ما كان، بل كل فقيه يقول له: صلاتك باطلة؛ لأنك زدت فيها ركعة، وكذلك لو قال قائل: نحن في شغل وفي تعب، وسوف نصلي العصر ثلاث ركعات! وصلوا العصر فعلاً ثلاث ركعات، فهل يوجد عالم في الإنس في بني آدم من فقهاء الإسلام من يقول: صلاتكم صحيحة؟ الجواب: لا والله، ولو قال آخر: يا معشر المسلمين! إننا في شوق إلى عبادة الله، وطالما كنا مفرطين، فهذه السنة نصوم واحداً وثلاثين يوماً! وفعلاً صمنا واحداً وثلاثين يوماً، فهل يوجد فقيه فيقول: لا بأس وصيامكم صحيح؟ لا والله، بل صيامكم باطل فاسد، أو لو قلنا: إن هذا العام نكتفي بتسعة وعشرين يوماً، وصمنا تسعة وعشرين يوماً وأفطرنا وما زال من رمضان يوم، فهل يوجد من يقول: صيامكم صحيح؟ والله ما يوجد، بل باطل، ومعنى بطلانه: أن هذه العبادة لا تزكي النفس ولا تطهرها ولا تؤهل الإنسان للكمال والإسعاد إلا إذا أداها كما نزلت من السماء وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن هذه العبادة لا تزكي النفس، أو لا توجد الطهارة والصفاء في الروح البشرية التي بين جنبينا، ومن هنا فالزيادة في الدين كالنقصان، فإن قال قائل: يا شيخ! إن هذا بعيد، فأقول: أرأيتم من قال: أنا لا أغسل وجهي إلا أربع فقط ما نكتفي بثلاث، فيزيد غسلة رابعة متعمداً، فهل تجد فقيهاً يقول له: لا بأس؟ لا والله؛ لأنها عبادة مقننة بتقنين حكيم، فالزيادة تبطلها والنقص يبطلها، فإما أن تؤدى كما هي وإلا ما تنتج أو ما تولد النور للقلب البشري.وها نحن نسمع ما يقول تعالى لأهل الكتاب فيقول: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]، أي غلو، وأي زيادة.
حرمة القول على الله بغير علم
قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171]، أي: الثابت القطعي الثبوت بوحي الله تعالى في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الثابت بالعقل السليم الصحيح، فلا تقولوا على الله قولاً إلا أن يكون حقاً ثابتاً، أما أن نقول: الله له ولد أو له زوجة! فبأي حق أثبتنا هذا؟ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171]، أي: لا تكذبوا على الله فتقولون: قال الله كذا وهو ما قال، ولا حرم الله كذا والله ما حرم، ولا أحل الله كذا والله ما أحل، ولا شرع الله كذا وهو ما شرع، إذ لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقول كلمة عن الله إلا إذا علمها يقيناً في كتابه وفي هدي نبيه صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [الصف:7]، فهل يوجد من هو أظلم ممن يكذب على الله؟ لا والله، والذين يكذبون على الله إنما يكذبون لأجل تحقيق مصالح، أو لأجل الدينار والدرهم، أو من أجل حب العلو والرياسة والسلطان، أو من أجل أن يحصلوا على مادة فاسدة في هذه الحياة الدنيا.ونحن معاشر المؤمنين والمؤمنات! لا نكذب على إنسان فكيف نكذب على الله الرحمن؟! إذ الكذب حرام، فلا يحل لمؤمن أن يقول: قال فلان وهو ما قال، أو يقول: رأيت كذا وهو ما رأى، أو فعل فلان وهو ما فعل، فكيف إذاً يكذب على الله؟!
المعتقد الحق في عيسى عليه السلام
ثم قال تعالى مبيناً غلوهم وباطلهم: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [النساء:171]، والمسيح هو عيسى عليه السلام، وسمي بالمسيح لأنه ممسوح الذنوب، إذ إنه لم يقارف ذنباً قط، وقد عاش ثلاث وثلاثين سنة ولم يذنب ذنباً قط، وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا في حديث الشفاعة الكبرى أو العظمى يوم القيامة، إذ يأتي الناس إلى آدم وهم في عرصات القيامة في ساحة فصل القضاء، فيعتذر آدم على أن يكلم لهم الله ليقضي بينهم ويحيلهم إلى نوح، ونوح يحيلهم إلى إبراهيم، وإبراهيم يحيلهم إلى موسى، وموسى يحيلهم إلى عيسى، فكل من أحيل إليه ذكر ذنباً وقال: كيف أكلم ربي اليوم وقد غضب غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله؟ عليكم بفلان، ثم قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ( إلا عيسى فإنه لم يذكر ذنباً قط )، ومع هذا قال: عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم.وإذا نزل من السماء -ولا ندري متى ينزل غداً أو بعد غد؟- فإنه يحج ويعتمر، والحبيب يقول: ( كأني بابن مريم في فج الروحاء ملبياً بحج وعمرة أو بعمرة أو حج )، لكن لا يفرحن النصارى واليهود بنزوله فيقولون: حينئذ نسلم، إذ لن يجزهم إسلام ولم ينفعهم إيمان؛ لأن الساعة قد دقت وانتهى العمل، فالمؤمن مؤمن والكافر كافر، قال تعالى في هذه الحقيقة، وهي إذا ظهرت علامات الساعة أغلق باب التوبة: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنعام:158]، فيؤمنون، أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام:158]، عز وجل فيؤمنون، أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]، فيؤمنون، ثم ماذا قال تعالى؟ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، ونزول عيسى من العلامات الكبرى.والمسيح عيسى بن مريم ليس له أب، إذ لو كان له أب لسماه الله عز وجل، وإنما له أم اسمها مريم بالعبرية، وبالعربية: خادمة الله.قال تعالى في الإخبار عنه: رَسُولُ اللَّهِ [النساء:171]، وليس هو ابن الله، وإنما رسول الله أرسله إلى اليهود فقط، فرسالته خاصة وليست عامة كرسالة الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، فلهذا ناداهم فقال: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:6]، أما محمد: أَيُّهَا النَّاسُ [الأعراف:158]، أبيضهم وأسودهم.ثم قال تعالى أيضاً في الإخبار عنه: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [النساء:171]، ما هذه الكلمة التي ألقاها إلى مريم؟ اللفظ يدل دلالتين سليمتين صحيحتين: الأولى: اقرءوا من سورتها: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:16-19]، إذاً فهذه الكلمة هي كلمة الله عز وجل التي بعث بها عبده ورسوله جبريل فبلغها مريم، أي: ألقاها إلى مريم.والثانية: كلمة التكوين؛ لأن عيسى كان بكلمة الله (كن)، إذ بعث الله جبريل عليه السلام وأمره أن ينفخ في كم درعها، فنفخ فسرت النفخة الهوائية فدخلت في بطنها وقال الله لعيسى: كن، فكان. إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ [النساء:171]، وهذا أولاً، وثانياً: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [النساء:171]، وثالثاً: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، أي: روح من الله عز وجل، فجبريل هو الذي نفخها، والذي أمره أن ينفخ هذه الروح هو الله عز وجل.وهنا النصارى قالوا: إن كلمة (منه) في الآية: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]معناها: أن عيسى جزء من الله عز وجل! وقد حدث على عهد الرشيد العباسي أن طبيباً نصرانياً كان عنده في مجلسه وهناك عالم جليل، فقال هذا النصراني: سبحان الله! الله يقول في كتابه العزيز: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، وأنتم تقولون: ليس هو بجزء من الله! فكيف ذلك؟ فألهم الله ذلك العالم الجليل فقال له: اسمع قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]، ثم قال: إذاً هذه الأكوان كلها جزء من الله أو عيسى وحده فقط؟! فأسكته وأسلم وتاب إلى الله عز وجل ونجا من عذاب الله.

يتبع

ابوالوليد المسلم
18-05-2021, 04:32 AM
نهي الله لأهل الكتاب أن يقولوا: إن الله ثالث ثلاثة
قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ [النساء:171]، وهذا نهي من الله تعالى، انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:171]، أي: كفوا عن هذا الباطل وهذا الهراء والكلام الماجن. وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:171] لماذا؟ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النساء:171]، أي: إنما الله معبود واحد، و(إله) بمعنى: معبود، فلا ثاني ولا ثالث، ما هو إلا الله الواحد الأحد، فالذي أوجد الخلائق هو الذي يعبد، والموجود هو في حد ذاته محتاج إلى أن يعبد من أوجده، بل الخلائق كلها مفتقرة إلى الله والله غني عنها، فكيف يوجد من يعبد مع الخلائق؟ إن المعبود هو الخالق الغني فقط، أما ما عداه فيجب أن يَعبد لا أن يُعبد مع الله، فلهذا كلمة الحق: (لا إله إلا الله) لن ينقضها ذو عقل أبداً، وتنقض بأحد أمرين: إما بأن يوجد مع الله إله آخر أو ثاني أو ثالث، ومن ثَمَّ نقول: لا إله إلا فلان وفلان وفلان، وما نقول: إلا الله، أو تنقض بأنه لا وجود لله، فإن قلنا: تنقض بوجود آلهة، فأين الآلهة التي خلقت مع الله وأدارت الحياة والكون؟ لا أحد، وإن قلنا: يوجد إله خلق ورزق، فنقول: دلونا عن إله خلق أو رزق أو دبر الكون؟ إذاً فلم يبق إلا كلمة: (لا إله إلا الله) التي لا تنقض بحال من الأحوال لا بالنفي ولا بالإثبات، ومن أراد أن يدخل في الإسلام من عهد آدم إلى اليوم فلا بد وأن يعترف يقيناً على علم أنه لا يوجد من يُعبد إلا الله، وثَمَّ ينبغي ألا يعبد إلا الله الذي اعترف أنه لا إله إلا هو، وألا يعترف بعبادة غير الله كائناً من كان، إذ لا يستحق العبادة إلا الله.ثم يقول الله تعالى لهم: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [النساء:171]؛ لأن اليهود يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل يقتلون الرسل، والنصارى أيضاً لمَ ما يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم كما يؤمنون بزكريا وموسى وعيسى وإبراهيم؟ ثم هل من المنطق أو الذوق العقلي أو العرفي أن ملكك أو حاكمك يأمرك بأن تقول كذا وكذا، أو تصدق بكذا وكذا، فتقول: نعم يا سيدي إلا فلاناً فأنا ما أؤمن به أو لا أقول به! فهل يقبل هذا الكلام؟ وهل يعتبر مطيعاً لحاكمه؟ يقطع رأسه، فكيف تؤمنون برسل الله وتقولون: هذا ما نؤمن برسالته؟ إن الرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، فالذي يكذب واحداً كفر بإجماع المسلمين من عهد آدم، والأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً، فلو أنكر وقال: أنا لا أؤمن برسالة يوشع فهو كافر؛ لأن من كذب الله في جزء اعتبر أنه قد كذبه في الكل، وما أصبح مؤمناً أبداً. وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ [النساء:171]، أي: أن الله ثالث ثلاثة، وهذه للمسيحيين، انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:171]، أي: من الآن قولوا: لا إله إلا الله، أما أن عيسى ابن الله، أو أن الله وابنه وروح القدس -جبريل- هي الله، أو أن عيسى وأمه والله عز وجل، وكلها أباطيل وترهات لا يقبلها عقل ولا فهم آدمي أبداً ولا تقبل. انتَهُوا [النساء:171]، أي: انتهوا عن هذا القول وعن هذا الاعتقاد، خَيْرًا لَكُمْ [النساء:171]، أليس انتهاؤهم به خيراً لهم؟ نعم؛ لأنهم إذا انتهوا فقد أسلموا ودخلوا في رحمة الله تعالى، لكن ما داموا أنهم يصرون أن الله جزء من ثلاثة أجزاء فهذا هو الكذب والكفر والعياذ بالله، والقول على الله بدون علم، فهل الله أعلمهم بأنه مكون من ثلاثة أقانيم؟ثم قال تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النساء:171]، لا ثاني له ولا ثالث له، و(إله) أي: معبود واحد، لماذا كان المعبود الأوحد؟ لأنه لا يُعبد بالقلب والإذعان والخضوع والحب والطاعة إلا الذي وهبني حياتي، وأعطاني سمعي وبصري، وأعطاني عقلي وفهمي، وأعطاني ذاتي، وأوجد لي هذه الأرض وما فيها من نعيم لأعيش عليها، فهذا هو الذي أعبده، أما الذي حاله كحالي ومثله مثلي فهو فقير محتاج مخلوق مربوب، فكيف أرفعه إلى مستوى الإلهية وأدعوه مع الله أو أتقرب إليه مع الله؟! لا يعقل هذا ولا يقبل أبداً.معاشر المستمعين! وهل المسلمين نجوا من هذا الخلط والخبط والسقوط؟ ما نجوا، بل ما إن انتهت القرون الثلاثة التي أخبر عنها رسول الله بأنها خير القرون حتى ظهرت الضلالات في أمة الإسلام، فوجد أولئك الذين يدفنون أخاهم ويبنون عليه قبة ويجعلون على قبره تابوتاً ويكسونه بالأزر الحريرية، ثم يوقدون الشموع له، ثم يأتون ويعكفون حوله، ثم يحلفون به، ثم يتقربون إليه ويدعونه ويستغيثون به، فكم إلهاً عبدوا؟! وما انتهت هذه المشكلة إلا في هذه البلاد على يد السلطان عبد العزيز تغمده الله برحمته، فهو الذي هدم القباب والقبور وقطع الأشجار وصرف الناس بالحديد والنار عن عبادة غير الله، أما العالم الإسلامي عربه كعجمه القباب إلى الآن، وإن اتضح الحال وعرف الناس ربهم، لكن ما زال آلاف أو ملايين يستغيثون بالأولياء ويستعيذون بهم ويدعونهم: يا سيدي! يا فلان! وكأنهم آلهة، وما قرءوا هذه الآية: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:171]، أي: تنزه وتقدس أن يكون له ولد. لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:171]، فلو أن شخصاً يملك مدينة بكاملها، فهل تنسب إليه خروفاً من الغنم أو شاة من الماعز وتقول: هذه له؟! إن الذي يملك كل ما في الكون يكون له ولد يعينه؟! ماذا يصنع به؟ سُبْحَانَهُ [النساء:171]، أي: تقدس وتنزه وتطهر أن يكون له ولد، لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:171]. وقضية نسبة الولد أن اليهود تورطوا فيها وقالوا: عزير ابن الله، وهذا في كتاب الله ويعترفون به، ومن العرب قبيلة كبيرة اسمها: بنو لحيان كانت تقول: إن الملائكة بنات الله! بل إن هناك أمماً ينسبون إلى الله عن جهل أشياء وأشياء، ولهذا احفظ هذه الكلمة: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:171].
تفسير قوله تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله...)
قوله تعالى: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا [النساء:172].ثم قال تعالى واسمعوا يا بني إسرائيل واسمعوا يا أهل الكتاب، ولنسمع نحن أيضاً: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172]، أي: أن المسيح عليه السلام والملائكة المقربون لن يتكبروا أو يأنفوا أن يكونوا عبيداً لله تعالى، فالمسيح العبد الطاهر النقي الصالح ما يتكبر ويقول: كيف أطأطئ رأسي لله أو أعبده؟ وكذلك الملائكة المقربون، فماذا تعرفون عن الملائكة؟ جبريل عليه السلام والله له ستمائة جناح، ولما تجلى وظهر لرسول الله في مكة سد الأفق كله بأجنحته، وهذا ملك تحت العرش رأسه ملوية ورجلاه في تخوم الأرض السابعة، فهذه العظمة عندهم وهذه القدرة والله ما يستنكفون عن عبادة الله، بل يسبحون الليل والنهار لا يفترون.فعيسى عليه السلام لا يتكبر ولا يستنكف أبداً ويقول: لا أكون عبد لله، بل هو عبد الله ورسوله، وأنتم تريدونه أن يكون مثل الله، فأين يُذهب بعقولكم؟ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ [النساء:172]، عنها فلا يعبده، فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا [النساء:172]، في ساحة واحدة من آدم إلى آخر مولود، في ساحة فصل القضاء، في أرض غير هذه، في عالم غير هذا، فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا [النساء:172]، للحساب أولاً ثم الجزاء.
تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ...)
قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:173]. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:173]، من هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟ نسأل الله أن نكون منهم، آمنا بالله ولقائه، آمنا بالله ورسوله، آمنا بالله وبعبادته ولم نعبد غيره، بل لو نقطع أو نصلب أو نحرق فلا نعبد غير الله أبداً، فهؤلاء آمنوا إيماناً كاملاً صادقاً لا دخن فيه أبداً، فآمنا بالله وبكل ما أمرنا الله أن نؤمن به، سواء أدركناه بعقولنا أو عجزنا عن إدراكه لضعفنا وقلة قدرتنا، آمنا بالله وبكل ما أمرنا الله أن نؤمن به من شأن الغيب والشهادة، ولا نفرق بين أحد من رسله. آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النساء:173]، ما هي الصالحات التي عملوها؟ هل البدع يقال فيها: صالحة؟ لا والله، وإنما عملوا الصالحات، أي: عبدوا الله تعالى بما شرع لهم، فلا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير، لا في الزمان ولا في المكان، وسر ذلك أن هذه العبادات -منها كلمة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم- مشروعة لتزكية النفس وتطهيرها، فمثلاً ركعة الوتر إن أديتها كما هي فإنها تولد لك النور كالذي تولده أمامك الآلات وذلك في قلبك فتزكو به نفسك وتطيب وتطهر، فإذا طبت يا عبد الله وطهرت فحاشا لله أن يبعدك من جواره، بل ينزل ملائكته ليرفعوك إليه.واسمع هذا البيان مرة أخرى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:173] أولاً؛ لأن الأعمال الصالحة بدون إيمان باطلة، ولا تتأتى أيضاً ولا يأتي بها عبد على الوجه المطلوب، وإذا فعلها نافقاً فقط فإنما ليضلل الآخرين أو ليخدعهم، فالإيمان أولاً والعمل الصالح ثانياً، والعمل الصالح كل العبادات كالصلاة والزكاة والصيام والرباط والجهاد والذكر وتلاوة القرآن، حتى إماطة الأذى عن طريق المؤمنين عبادة تعبدك الله بها، فهذه هي التي تزكي النفس، وأصحابها قال الله فيهم: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ [النساء:173]، أي: مقابل أعمالهم، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:173]، فلا يجزيهم فقط بالحساب الدقيق، صلى كذا ركعة، تصدق بكذا دينار، وإنما يجزيهم ويزيدهم من فضله، وهذا هو الصنف الأول.وأما الصنف الثاني فقد قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا [النساء:173]، عن عبادة الله والاعتراف بألوهيته وطاعة رسوله، والاستنكاف هو الاستكبار، مثل أنف، فلا يريد أن يطأطئ رأسه أو يعترف بالحق، إذ كيف يعفر وجهه بالتراب؟! أو يقول: كيف أنقض ما اعتقدته عن أمي وأبي؟ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:173]، ولكي تعرف العذاب الأليم راجع صفحات القرآن تقف على صنوف العذاب وألوانه، إذ إن العذاب الأليم ذاك الذي يسلب الإنسان كل عذوبة في حياته، وحسبنا منظر من مناظر عذاب الدار الآخرة، قال تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19]، والخصمان هم المؤمنون والكافرون، فالمؤمنون قالوا: لا إله إلا الله، والكافرون قالوا: الآلهة متعددة، هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:19-22]، والشاهد عندنا في العذاب الأليم الموجز في هذه الكلمات مبين ومفصل غاية التفصيل والبيان في كتاب الله عز وجل. وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا [النساء:173]، أي: عن عبادة الله واستكبروا عنها، استنكفوا واستكبروا أن يوحدوا الله، أن يقولوا: لا إله إلا الله، فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:173]، فهل في ساحة القيامة والجزاء يجدون ولياً يتولاهم أو ناصراً ينصرهم؟ مستحيل، إذ لا ناصر لهم إلا الله، فإذا خذلهم الله فمن ينصرهم؟!
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معاشر المستمعين! نسمعكم الشرح الموجود في الكتاب لنزداد يقيناً ومعرفة، فتأملوا.
معنى الآيات
قال [معنى الآيات: ما زال السياق مع أهل الكتاب، ففي الآية الأولى نادى الرب تبارك وتعالى النصارى بلقب الكتاب الذي هو الإنجيل، ونهاهم عن الغلو في دينهم من التنطع والتكلف، كالترهب واعتزال النساء ]، فالرهبان عند النصارى يعتزلون النساء، فلا يجامعون النساء ولا يتزوجون، وإنما ينقطعون إلى الصوامع ولا يخرجون منها، وبذلك يوقفون الحياة، وهذا كله ابتداع ابتدعوه وغلو غلوا في دين الله.قال: [ وما إلى ذلك من البدع التي حمل عليها الغلو، كما نهاهم عن قولهم على الله تبارك وتعالى غير الحق، وذلك بنسبة الولد إليه تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وأخبرهم بأن عيسى لم يكن أبداً غير رسول الله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم، حيث بعث إليها جبريل فبشرها بأن الله تعالى قد يهبها غلاماً زكياً، ونفخ -وهو روح الله- في كم درعها فكان عيسى بكلمة التكوين وهي (كن)، وبسبب تلك النفخة من روح الله جبريل عليه السلام، فلم يكن عيسى الله ولا ابن الله، فارجعوا إلى الحق، وآمنوا بالله ورسله جبريل وعيسى ومحمد عليه الصلاة والسلام، ولا تقولوا زوراً -وبهتاناً- وباطلاً: الله ثالث ثلاثة آلهة، انتهوا عن القول الكذب يكن انتهاؤكم خيراً لكم حالاً -الآن- ومآلاً -يوم القيامة- إنما الله سبحانه وتعالى إله واحد لا شريك له ولا ند ولا ولد، سبحانه تنزه وعلا وجل وعظم أن يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة -أي: زوجة- ولم يكن ذا حاجة، وله ما في السموات وما في الأرض خلقاً وملكاً وحكماً وتدبيراً، وكفى به سبحانه وتعالى وكيلاً شاهداً عليماً، فحسبكم الله تعالى رباً وإلهاً، فإنه يكفيكم كل ما يهمكم، فلا تفتقرون إلى غيره ولا تطلبون سواه، هذا ما دلت عليه الآية الأولى.وأما الآيتان الثانية والثالثة، فقد أخبر تعالى أن عبده ورسوله المسيح عليه السلام لن يستنكف أبداً أن يعبد الله، وينسب إليه بعنوان العبودية فيقال: عبد الله ورسوله، حتى الملائكة المقربون منهم فضلاً عن غيرهم لا يستنكفون عن عبادة الله تعالى وعن لقب العبودية، فهم عباد الله وملائكته، ثم توعد الله تعالى كل من استنكف عن عبادته واستكبر عنها من سائر الناس بأنه سيحشرهم جميعاً ويحاسبهم على أعمالهم، فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات، آمنوا بألوهيته تعالى وحده، وعبدوه وحده، بما شرع لهم من أنواع العبادات وهي الأعمال الصالحة، فهؤلاء يوفيهم أجورهم كاملة، ويزيدهم من فضله الحسنة بعشر أمثالها، وقد يضاعف إلى سبعمائة ضعف.وأما الذين استنكفوا واستكبروا، أي: حملتهم الأنفة والكبر على عدم قبول الحق والرجوع إليه، فأصروا على الاعتقاد الباطل والعمل الفاسد، فيعذبهم تعالى عذاباً أليماً، أي: موجعاً، ولا يجدون لهم من دونه ولياً ولا نصيراً، فينتهي أمرهم إلى عذاب الخلد جزاء بما كانوا يعملون ].
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: حرمة الغلو في الدين، إذ هي من الأسباب الموجبة للابتداع والضلال ]، الغلو في الدين محرم؛ لأنه سبب في الابتداع والزيادة في دين الله، والزيادة في الدين تفسده وتبطل مفعوله، وهذه قصة ثلاثة تعهدوا فقال أحدهم: أنا لا أطأ النساء حتى الموت، وآخر قال: أنا أصوم ولا أفطر أبداً، وآخر قال: أنا أصلي ولا أنام، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستدعاهم وقال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما أنا فأصوم وأفطر، وآتي النساء، وأصلي وأنام )، ونهاهم عن الغلو؛ لأن الغلو إذا انفتح أفسد الدين.قال: [ ثانياً: حرمة القول على الله تعالى بدون علم مطلقاً، والقول عليه بغير الحق بصورة خاصة ]، فهل يجوز لأحد أن يقول: الله صفته كذا وكذا بدون علم؟ أو الله أمر بكذا وهو ما أمر؟ ليس هناك أفظع من القول على الله بدون علم.قال: [ ثالثاً: بيان المعتقد الحق في عيسى عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله، كان بكلمة الله ونفخة جبريل ]، أي: كان بكلمة الله: (كن) فكان، ونفخة جبريل التي أمره الله أن ينفخها، وجبريل هو روح الله وروح القدس.قال: [ رابعاً: حرمة الاستنكاف عن الحق والاستكبار عن قبوله ]، فاحذر يا عبد الله! أن يبلغك عن الله أو عن رسوله شيئاً وتستنكف وتستكبر عنه.قال: [ خامساً: بيان الجزاء الأخروي وهو إما نعيم وإما جحيم ]، فهل هناك شيء آخر؟ الجزاء الأخروي إما نعيم وإما جحيم، والله أسأل أن ينجينا من عذابه، وأن يبعدنا من كل موجبات عذابه.وصلى الله على نبينا محمد وآله.

ابوالوليد المسلم
24-05-2021, 05:21 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (84)
الحلقة (306)
تفسير سورة النساء (87)







ينادي الله عز وجل الناس في أرجاء الأرض ممتناً عليهم بأنه بعث إليهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجعله برهاناً على قدرته وعظمته، حيث بعثه وهو أمي إلى أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، وأنزل عليه القرآن معجزة أبدية، أذهلت ألباب العرب الفصحاء، وعقدت ألسنتهم أن يأتوا بمثله، وقد جعل الله ثواب من يؤمن برسوله ويصدق بكتابه أن يدخله في رحمته وفضله ويهديه صراطاً مستقيماً.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هاتين الآيتين الكريمتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:174-175].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! لقد سبق في الآيات السابقة أن الله عز وجل قد أبطل حجج اليهود ولا حجة لهم والله، ولكن أبطل ترهاتهم وأباطيلهم ودعاواهم الباطلة الكاذبة، إذ قالوا: لا نشهد أبداً برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نقر بها ولا نعترف بها؛ لأن الأنبياء من قبله كانوا يشهدون لبعضهم البعض، وهو وجدت في وقت لا نبي فيه ولا رسول، فكيف إذاً نؤمن به ونقبل رسالته؟! فرد الله تعالى عليهم بحجج لإقامة الحجة عليهم، وآخر ما سمعتم قول الله تعالى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:166]، أي: أتطلبون شهادة مخلوق وترفضون شهادة الخالق؟! أتطلبون من يشهد لي بالنبوة والرسالة والله خالقي وخالقكم قد شهد لي بالرسالة؟! وَالْمَلائِكَةُ [النساء:166]، فجبريل الذي يتردد عليَّ صباح مساء يحمل أنوار الله إلي في هذا الكتاب، ثم بعد تحتاجون إلى شهادة أخرى؟! فألقمهم الحجر وقطع حجتهم وأذلهم وأخزاهم.أما النصارى فقد تبجحوا وقالوا وقالوا، لكن قال تعالى لهم: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ [النساء:172]، أي: عيسى بن مريم، أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172]، وأنتم ما شأنكم؟ كما علمهم أن عيسى ما هو بابن لله، ولا هو ثاني اثنين مع الله، ولا ثالث ثلاثة، وإنما هو عبد الله ورسوله، عبد كسائر عبيده الذين خلقهم لعبادته، ورسوله أرسله برسالته إلى بني إسرائيل، وكونه ولد بدون أب فهذا أمر الله تعالى، فلقد أوجد آدم بلا أب ولا أم، وأوجد حواء بدون أم، وأوجد البشرية كلها من أب وأم، أما عيسى فقد كان بكلمة الله أو كلمة التكوين، كما قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، فهو روح من الله، إذ أرسل الله جبريل روح الله عليه السلام، فوجد البتول العذراء في مكان في ديارها فبشرها فقال: إني رسول ربكِ إليكِ لأهب لكِ غلاماً زكياً، فنفخ من فيه في كم درعها فسرت النفخة إليها ودخلت فرجها، وقال تعالى لعيسى: كن، فما هي إلا ساعة وإلا والطلق يهزها، فتذهب إلى جذع النخلة لتنتظر متى يسقط هذا الولد، وما إن سقط حتى صاح إخوانها وأعمامها وأقرباؤها كيف هذا يا بتول؟ كيف جاء هذا؟ فقالت: كلموه، فقال تعالى مصوراً ذلك المشهد: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:29]، فأنطق الله عيسى فقال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [مريم:30-34].فهل عرفتم عن عيسى بن مريم شيئاً؟ ماذا تقولون أيها المؤمنون؟ إنه عبد الله ورسوله، فلم يتجاوز هذا المستوى، وإنما عبد الله ورسوله أرسله إلى بني إسرائيل فكذبوا برسالته وحاربوه وصلبوه وقتلوا من شبه به، وما زالوا إلى الآن يتبجحون بأن عيسى ابن زنا وساحر ودجال. والآن بعد أن أسقط الله بنيان المفسدين من يهود ونصارى ومشركين، ناداهم بهذا النداء العام، والذي يدخل فيه العرب والعجم، والأبيض والأسود، والكتابي والمشرك، بل وكل واحد؛ لأن لفظ (الناس) يدخل فيه كل إنسي من بني الناس من ذرية آدم، وقيل: ما سمي الإنسان إنسان إلا لأنه من الأنس، أو لأنه من ناس ينوس إذا تحرك، وعلى كل لا حاجة لنا إلى هذا، فكلمة الناس تشمل كل البشر عرباً وعجماً.
إطلاق البرهان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه دليل على وجود الله وعلمه ورحمته
يَا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء:174]، هذا نداء الله لكم يناديكم في كتابه القرآن العظيم ليقول لكم: قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:174]، والبرهان هو محمد بن عبد الله العربي من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهو برهان أكثر من قوة الشمس وإشعاعها، وأكثر من نور القمر، على أنه رسول الله، وعلى أنه لا إله إلا الله، وعلى أنه لا يستحق أن يُعبد إلا الله تعالى، وعلى أنه لا سعادة ولا كمال للآدميين إلا إذا آمنوا به ومشوا وراءه وقادهم إلى السعادة والكمال.وإن قلت: ما دليل البرهنة والبرهان عل ذلك؟ فأقول: إن من أبسط الأدلة هي أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم قد عاش في مكة، وأهلها لا يقرءون ولا يكتبون، إذ يندر بينهم من يكتب أو يقرأ، وقد عاش عليه السلام هذه الفترة فلم يجلس أبداً بين يدي معلم يعلمه، لا في مسجد ولا في مدرسة، بل آباؤه وأجداده أميون لا يقرءون ولا يكتبون، وقد عاش أربعين سنة وهو فترة من أولاد العرب وفترة من شبانهم وفترة من رجالهم حتى بلغ الأربعين سنة، وفي هذه الفترة حدثت آيات وبراهين نبوته خارقة للعادة، وسنذكر منها نبذاً:
بعض براهين نبوته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها
لما ولدته أمه آمنة رأت رؤيا قبل ولادتها أن نوراً خرج منها أشرق له الشرق والغرب، أو لاحت أنواره في الشرق والغرب، وأضاء قصور بصرى والشام، وهذا أقوى برهان، ثم أخذته أمه وأعطته بواسطة جده عبد المطلب من يرضعه، فبعثوا به إلى صحراء بني سعد، فأخذته حليمة السعدية ترضعه وهو يتيم، فشاهدت العجب العجاب من أمره، فالغنم التي كانت قد جف لبنها وانقطع من جدب ذلك العام وقحطه عادت ذات ألبان غزيرة، وفي يوم من الأيام وهو يلعب مع طفل من أطفال بني سعد، فإذا بعملية جراحية تُجرى له في قلبه، فيشاهد ذلك الطفل الرجلين يضجعانه على الأرض، فيصرخ ويأتي إلى أمه السعدية: أخي قتلوه، أخي قد قتل، فذهبوا إليه فإذا به مصفر الوجه يعاني من تعب، حيث قد أخذت منه تلك اللحمة أو تلك القطعة التي هي مقر الشيطان، والتي ينزل فيها ويلقي بالوساوس والفتن، ثم عاد بعد أربع سنوات إلى مكة، وأخذ ينمو نماءً عجباً، وكان يرعى غنماً بمقابل على عادتهم في رعي الأغنام، وفي ليلة من الليالي أقامت قريش حفلاً أو عرساً من الأعراس لأحد أغنيائها، وأخذوا يعدون العدد لحضور العديد من الناس المتفرجين، وبلغ رسول الله الخبر وهو في البادية -خارج مكة- فقال لأخيه الذي يرعى معه أو زميله: اسمح لي أن أذهب الليلة لأشهد حفلاً في مكة، وأنت تتحمل مسئولية الغنم، فجاء بفطرته ليحضر العرس، فوجدهم يعدون الدفوف والطبول والنيران، فأخذه النوم فنام، ووالله ما استيقظ إلا على حر الشمس، وما سمع صوت دف ولا مغنية، ولا رأى راقصاً ولا راقصة، فمن حفظه؟ إنه الله تعالى. وأخرى: لما أخذوا يجددون بناء الكعبة على عهد أبي طالب، فاختلفوا: من الذي يضع الحجر الأسود في مكانه؟ وكادوا يقتتلون، وكل قبيلة تقول: نحن أولى بهذا، ووقف البناء وانتظروا كيف المخرج من هذه الفتنة؟ فجاء محمد صلى الله عليه وسلم الغلام الحسن فقال لهم: ضعوا الحجر في لحاف، ولتأخذ كل قبيلة بطرف منه حتى تشاركوا كلكم في حمله، ثم أخذه ووضعه بيده الشريفة، وانطفأت نار الفتنة التي لو اشتعلت لكان يموت المئات والآلاف، فمن وفقه لهذا؟ إنه الله، فهذه مظاهر النبوة وإعداداتها وإرهاصاتها.وفي مرة من المرات خرج وهو شاب مع عمه أبي طالب إلى الشام، فرآه الراهب فقال لعمه: إن لابنك هذا شأناً عظيماً، وأنا أخاف عليه من اليهود، فارجع بابن أخيك، فشهادة هذا الراهب قاطعة وبرهان قوي على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمَّ ما صار يخرج إلى الشام إلا مرة خرج في تجارة لخديجة، فالمرة الأولى كان مع عمه؛ لأن عمه أبا طالب كان يحبه حباً جماً، إذ كان لا يستطيع أن يفارقه، فأخذه معه إلى الشام وهو طفل؛ لتتجلى تلك الأنوار لذلك القس والراهب، ويعترف بأن هذا نبياً من أنبياء الله تعالى.وأخرى: لما خرج أبو سفيان في تجارة إلى الشام، فدعاهم هرقل عظيم الروم وأجلس من يعرفون لغة العرب إلى جنبه، وأخذ يسأل أبا سفيان عن هذا النبي الذي ظهر، فكان كل ما يسأله سؤالاً يجيبه أبو سفيان، وما إن فرغ أبو سفيان حتى قال هرقل: لو قدرت على أن أغسل قدميه لفعلت، فكانت شهادة من هذا الملك على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.ثم إن أعظم شهادة قبيل الوحي الإلهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم شعر بأن المجتمع ليس ملائماً له؛ لما يشاهد من المنكر والباطل والشرك والفساد، فكان عليه السلام ينقطع إلى غار حراء، وهو في جبل يقال له: جبل حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد؛ ليخلص من مشاهدة الشرك والباطل والخبث والفساد، وفي الغار في رمضان فوجئ صلى الله عليه وسلم بجبريل في صورة إنسان من كُمَّل الناس وأفاضلهم، وينزل بين يديه ويضمه إلى صدره ويقول له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]، ثلاث مرات، وهنا بدأ الوحي الإلهي، وقبله ستة أشهر كان لا يرى الرؤيا إلا جاءت كانفلاق الصبح.إذاً: سمى الله محمداً صلى الله عليه وسلم برهاناً، برهان على ماذا؟ حجة قوية قاطعة على ماذا؟ أولاً: على أنه نبي الله ورسوله، فالذي يأتي بهذه العلوم والمعارف التي يحويها القرآن الكريم، والذي يأتي بعلوم الأولين والآخرين، وعلوم السماء والملكوت الأعلى، وعلوم كل الكائنات والذرات، هل يقال فيه: إنه غير نبي، ثم نطلب دليلاً على نبوته أو برهان عليه؟! لقد أخبره الله عن عالم الملكوت الأعلى في كتاب الله، فمن يقوى على أن يتكلم بها أو يخبر عن شيء منها؟ إنه ما من ذرة في هذا الكون إلا وفي هذا القرآن إشارة أو عبارة واضحة صريحة، فكيف لا يكون هذا برهان على أنه نبي الله ورسوله؟! وكما قدمنا: حسبنا أن الله تعالى يسميه برهاناً، أي: قد شهد له بالرسالة، والآن هو سبحانه يعلم البشرية كلها على أنه برهان، وبالتالي فلا يحتاج إلى برهان، ونور لا يحتاج إلى نور يُعرف به، فهو في حد ذاته نور وبرهان.وعليه فمحمد صلى الله عليه وسلم برهان أولاً على أنه رسول الله، وثانياً: على أنه لا إله إلا الله، وثالثاً: على أن عامة ما عليه البشرية يوم أوحى الله إليه الهبوط، إذ لا دين لها حق تعبد الله به، فمن يوم أن بعثه ربه تعالى رسولاً للناس أجمعين، ما كان على الأرض دين لا يهودية ولا نصرانية ولا غيرها من سائر الأديان يُعبد الله تعالى بها، وتؤهل العابدين إلى السعادة والكمال في الدنيا والآخرة.
يتبع

ابوالوليد المسلم
24-05-2021, 05:21 AM
القرآن نور لما يحصل به من الاهتداء إلى سبيل النجاة
ثم قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء:174]، فالنور المبين الذي أنزله الله تعالى هو القرآن العظيم، فإن قيل: بين لنا وجه النور؟ فأقول: ما من عبد إنسياً كان أو جنياً آمن بالقرآن، وفهمه وعمل بما فيه، والله ما شقي ولا ضل أبداً، بل ما من أمة أو ما من جيل أو ما من شعب أو ما من قرية أخذوا بالقرآن إلا استنارت الحياة أمامهم، وانتهى الظلم والظلمات، وكانوا أطهر الناس وأعزهم وأشهدهم، وأكبر دليل وأقوى برهان على أن القرآن نور: كيف كان العرب في الجاهلية؟ كانوا قبائل شتى، وكيف كانت ديارهم؟ كانت ظلاماً فوق ظلام، فالغزو والقتل وسفك الدماء والوثنية بأبشع صورها، فما من بيت إلا وفيه صنم يُعبد، بل يحملون الأصنام على الإبل حيثما نزلوا في شعب أو وادي وعبدوه، ولنذكر ذلك الأعرابي الذي كان له صنم يعبده، فجاء يوماً لعبادته وهو في شعب من شعاب الأرض، فوجد ثعلباً رفع رجله ويبول عليه كشأن الثعالب والكلاب، فنظر الأعرابي نظرة فاحصة واندفع فقال: رب يبول الثعلبان برأسهلقد ذل من بالت عليه الثعالبوتركه ولم يرجع إليه قط، وأدرك هذا بالفطرة، كما أنهم كانوا يقتلون أطفالهم ويذبحونهم، وذلك مخافة الفقر والجدب والقحط، بل ويقتلون بناتهم خشية العار، وما إن شاعت في تلك البلاد أنوار القرآن الكريم حتى أصبحت مضرب المثل في الكمال البشري، ولم تكتحل عين الوجود بمثلها في الكمال والعز والطهر أبداً، وقد أخفى هذا المغرضون وحرفوا التاريخ الحق لهذه الأمة، وفي الحقيقة والله ما رأت الدنيا أمة أطهر ولا أصفى ولا أعدل ولا أعز ولا أكرم ولا أرحم ولا أعلم من تلك الأمة في قرونها الثلاثة، بسبب ماذا؟ بالاشتراكية؟ بالشيوعية؟ بالفلسفات الكاذبة؟ باليهودية؟ النصرانية؟ بالمجوسية؟ بماذا؟ بالقرآن العظيم، بنور الله تعالى.ومن الأمثلة التي تحضرنا الآن: أن علياً رضي الله عنه ادعى أن الدرع التي مع اليهودي هي درعه، وحاكمه إلى القاضي شريح، فقال القاضي لـعلي : من يشهد لك على أن الدرع درعك؟ فقال: ولدي الحسن أو الحسين، فقال القاضي: الابن لا يشهد لأبيه، وحكم بالدرع لليهودي، وما إن صدر الحكم حتى قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والدرع درعك يا علي، ودخل في رحمة الله، فتأمل كيف أن السلطان أو الملك يحكم عليه قاضيه بأن هذا الدرع لفلان اليهودي، ولا يقبل شهادة ابنه وولده؟! وخلاصة القول: والله ما عرفت البشرية كمالاً بمعناه إلا بأنوار القرآن الكريم.
حرص أعداء الإسلام على إطفاء نور القرآن وانتزاعه من صدور المسلمين
وبرهنة أخرى: لما عرف العدو المكون من المجوس واليهود والنصارى أن هذا النور هو الذي أحيا هذه الأمة قالوا: يجب أن نقطع هذا النور عنهم وأن نطفئه، ففي مؤامرات سرية خلال سنين متعددة قالوا: إن هذا القرآن أو هذا النور هو الذي أحياهم، وهو الذي أنار الحياة لهم، ولن نفلح معهم إلا إذا أطفأناه، واجتهدوا وعملوا وعقدوا مؤتمرات لذلك، وفي الأخير قالوا: نحوله ليقرأ على الموتى، فصرفوا المسلمين عن قراءة القرآن إلا على الموتى، وبالتالي لا تجد اثنين تحت شجرة أو تحت جدار أو تحت ظل يقول أحدهما للآخر: اقرأ علي من القرآن، بل ولا تجدهم في بيت أو في مسجد يقول أحدهم للآخر: أسمعني شيئاً من كلام الله، وإنما إذا سمعت قراءة القرآن فاعلم أن هناك ميتاً، ووالله العظيم لقد أصبح القرآن لا يقرأ إلا على الأموات، ولا يصح لواحد أن يقول: قال الله، إذ قالوا: تفسير القرآن الكريم صوابه خطأ وخطؤه كفر، وراجعوا حواشي المصنفات الفقهية تجدون هذا الكلام، ومعنى ذلك أنك إذا فسرت آية وأصبت فأنت مخطئ، إذ لا حق لك في التفسير، وإن أخطأت فقد كفرت والعياذ بالله، فألجموا الأمة وكمموها، وما أصبح من يقول: قال الله، إذاً ماذا يصنعون بالقرآن؟ قالوا: يقرءونه على موتاهم فقط.ومن قال: كيف هذا يا شيخ؟ فالبرهان: أما أذلونا وسادونا واستعمرونا وحكمونا من إندونيسيا إلى موريتانيا؟ ثم كيف يحكمون المسلمين ويسوسونهم ويسودونهم ويذلونهم؟ وهل لو كانوا أحياء والنور بين أيديهم يُفعل بهم ذلك؟ لا والله، إذ إن القرآن روح ونور، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، وإلى الآن لو أن أمة من الأمم أو بلداً من البلاد أو قرية فقط أقبلت على القرآن تدرسه وتقرؤه وتعمل به لأصبحت ككوكب في السماء بالنسبة إلى البلاد الأخرى.
سيادة دولة الإسلام بتمكين شرع الله وحفظ كتابه
والشاهد عندنا فلا ننكره ولا نجحده، بل حرام علينا إن فعلنا ذلك: ألا وهو هذه الدولة المسلمة، أي: دولة عبد العزيز رحمه الله تعالى، فتصفحوا التاريخ قبل ثمانين سنة كيف كانت هذه الديار؟ والله هنا في مدينة الرسول يأتي الرجل فيأخذ باب بيتك ويبيعه في السوق ولا تستطيع أن تتكلم، بل لا تتصوروا الظلم والفساد الذي كان في العالم بكامله، لكن هذه الديار بالذات ما إن رفعت فيها راية لا إله إلا الله محمد رسول الله وهي تقول: إن أرضاً تظللها كلمة لا إله إلا الله لا يُعبد فيها إلا الله، فما ترك عبد العزيز ورجاله قبة ولا شجرة ولا قبراً ولا في كامل هذه الديار إلا أزالوها، ولم يبق يعبد إلا الله فقط.ثم ماذا تم؟ ساد هذه البلاد أمن وطهر ما رأتهما إلا في القرون الذهبية الثلاثة، وأقسم بالله على ذلك، وسبب هذا هو القرآن، وجربوا ذلك أيها المسلمون، وقد وضع الله للدولة الإسلامية أربع دعائم، قال تعالى في بيان ذلك من سورة الحج: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ ، أي: حكموا وسادوا، أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، فقوله: (أقاموا الصلاة)، كيف يقيمونها؟ يقيمونها بحيث يؤدونها في بيوت الله، فلا يتخلف رجل إلا مريض أو ممرض، والصبح كالظهر وكالعصر وكالمغرب وكالعشاء، وقد طبق هذا عبد العزيز وأولاده بصورة عجب، ووالله لو أن الإمام في القرية لا في مدينة الرسول فقط، عنده قائمة بأسماء أهل القرية كلهم، فيتفقدهم في أوقات الصلوات، فإذا ما أجاب واحد منهم عند التحضير وسكتوا سأل: أين فلان؟ فيذهبون إلى بيته، فإن كان مريضاً أعادوه، وإن كان مسافراً عرفوا ذلك، وإن عبث به الشيطان أدبوه.(أقاموا الصلاة) بحيث إذا أذن المؤذن لا يمكنك أن ترى رجلاً إلا ذاهب إلى المسجد، وبذلك حصل الذي حصل من الأمن والطهر والصفاء. وأما هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل قرية، وليس في حاجة إلى بوليس، وإنما رجال يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا أطيل في هذا الباب، فالله يقول: نور، فماذا نقول؟ إذا لاح النور في أرض هل يبقى فيها ظلام؟ ومن هنا من أراد الله كماله وسعادته يقبل على هذا القرآن العظيم، فإنه نور الله وروح الله، فلا حياة بدونه ولا هداية بدونه. يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، لبيك اللهم لبيك، قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:174]، فهو الذي قد أرسله، وهو الذي قد خلقه، وهو الذي أنعم به علينا، وهو الذي أوجده لنا، مِنْ رَبِّكُمْ ، أي: من خالقكم أيها المخلوقون، من رازقكم أيها المرزوقون، من مدبر حياتكم أيها المدبرون، ففوقكم الله هو الذي أنعم بهذا الإنعام عليكم من ربكم، وما أرسلته جهة من الجهات، ولا طائفة من الطوائف، وإنما مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء:174]، ألا وهو القرآن العظيم.وعندنا ما نقول به: أنتم تشاهدون العالم الإسلامي كيف هبط أولا ؟ أسألكم بالله، هل يوجد بلد ما يشكو أهله من الخبث ومن الظلم ومن الشر ومن الفساد ومن الجوع ومن الكذب ومن أنواع الهبوط البشري؟ فهيا نطبق القرآن الكريم حتى نرى هذا النور وهذه الروح، وتحيا بها أمة وتستنير بحياتها، فلو أن أهل قرية فقط في جبل أو في سهل يؤمنون ويعلنون عن إسلامهم الحق، أي: إعطاءهم قلوبهم ووجوههم لربهم، إذ الإسلام هو إسلام القلب والوجه لله تعالى، قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، فأهل القرية عرباً كانوا أو عجماً فقط يعلنون عن إسلامهم الحق، وباسم الله يجتمعون في مسجدهم الجامع، فإن كان ضيقاً وسعوه، وإن كان ما عندهم القدرة على التوسيع فيوسعونه بالأخشاب وباللبن، وليسوا في حاجة إلى الحديد والإسمنت، والمهم أن يتسع لنسائهم وأطفالهم، وقد أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، فإذا دقت الساعة السادسة مساء ومالت الشمس إلى الغروب، فيغسلون أيديهم وينفضونها من العمل، فالصانع كالتاجر كالفلاح، ويتطهرون ويأتون بنسائهم وأطفالهم يريدون ربهم، وكلهم قلبه متعلق بربه، فيصلون المغرب ويجلسن النساء من وراء الستائر، والأطفال كالملائكة صفوفاً صغاراً لا يتكلمون ولا يتحركون، والفحول أمامهم، ويجلس لهم المربي العليم الرباني، وليلة آية من هذا النور الإلهي، كهذه الآية التي درسناها وندرسها، فيقرءونها بصوت عجيب، ويتغنون بها فتحفظ في ربع ساعة، ثم يأخذ المربي الحكيم فيبين لهم مراد الله منها، فإن كانت تحمل عقيدة اعتقدوها، وإن كانت تحمل واجباً عزموا على النهوض به، وإن كانت تحمل منهياً أو مكروهاً صمموا على تركه والتخلي عنه، وإن كانت تحمل أدباً من الآداب عزموا على التأدب بها، وإن كانت تحمل خلقاً من الأخلاق عزموا على التخلق به، والليلة الثانية يأخذون حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المبينة والمفسرة، فيحفظون ذلك الحديث، وتوضع أيديهم على ما يحمله من هدى وخير ونور، وهكذا يوماً بعد يوم، ووالله ما يبلغون السنة إلا وهم أشبه بالملائكة في السماء، فلا تسمع من أحدهم كلمة سوء أو نظرة شزراً أو معاملة سيئة، بل ولا يمكن أن ترى أو تسمع بخبث بينهم أو يظلم بعضهم بعضاً، أو جوع أو عري إلا إذا جاعوا كلهم أو عروا كلهم.ومن ثم توقن أن رسول الله برهان، وأن هذا القرآن نور، وصاحب النور لا يضل أبداً، ومن طلب برهنة فقد قدمنا، إذ كيف كانت ديار العرب؟! ما إن ارتفعت فيها راية لا إله إلا الله وسادتها حكومة القرآن حتى أصبحت مثلاً للكمال البشري.
تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ...)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:175]. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ [النساء:175] أي: آمنوا بالله واعتصموا بحبل الله وبنور الله وبالقرآن العظيم وبياناته النبوية، فهؤلاء يعدهم الرحمن وعد الصدق، ألا وهو فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ [النساء:175]، فهل يخلف الله وعده؟ مستحيل.إن البشرية كلها وليس العرب والمسلمون والعجم فقط، وإنما البشرية كلها من يرفع يده ويقول: إن الإقليم الفلاني في أوروبا الشرقية أو في الغربية، أو في أمريكا الشمالية، أو في الجنوبية، أو وراء الشرق الأقصى، أو الصين، أو اليابان، يدلنا على قرية أو مدينة سادها الطهر والعدل والمودة والإخاء والصفاء، فليرفع يده؟ لا يوجد أحد، إذ إن الدنيا قد تعفنت من الخبث والشر والفساد والعمى والضلال، فقد جربوا الشيوعية، وصاحوا وضجوا: الشيوعية! فماذا أكسبت أهلها ومعتنقيها ودعاتها؟ انفضحت سوأتها في خمسة وسبعين سنة، وهبطت وأصبحوا شر الخلق، ولطالما تبجح بها حتى العرب الهابطون، لكن ما أعطتهم طهراً ولا صفاء ولا مودة ولا محبة ولا إخاء ولا كمالاً بشرياً؟ إذاً فماذا أنتجت لهم؟ الطرق على اختلافها، من المتصوفة وغيرها، فماذا حققت لأمة الإسلام في بلادها؟ هل أطفأت نار الفتن؟ وهل أبعدت الزنا واللواط والجرائم والموبقات والسحر والتدجيل والتكذيب؟ ماذا فعلت؟!هيا نعود إلى الله تعالى، ووالله الذي لا إله غيره لا ترتفع أمة وهي هابطة إلا بهذا القرآن الكريم فقط، وما تأتي من طريق المتحمسين: الجهاد، الجهاد، وهم يوقدون في بلاد المسلمين أشر من الاستعمار، فوالله لن ينتج هذا نوراً ولا هداية، إذ إن الطريق الصحيح هو أن أهل القرية يؤمنون بالله، ويعطون وجوههم وقلوبهم لله، فيجتمعون في بيت ربهم يتعلمون الكتاب والحكمة ويزكون أنفسهم يوماً بعد يوم حتى تلوح أنوار الهداية بينهم، وحينئذ إذا قالوا: يا فلان! أنت إمامنا، قال: مرحباً، فيأمرهم بأمر الله فقد فيمتثلوا، وينهاهم بنهي الله فيمتثلوا، وكلهم مستعد لطاعة الله ورسوله وأولي الأمر.أما بهذه الصيحات وهذه الانتفاضات وهذه الدماء التي تسيل هنا وهناك، وهذا الترويع، فقد أصبح الكفار يضحكون علينا ويقولون: هل هذا هو الإسلام؟! يقتل بعضهم بعضاً؟! وهل المسلم يقتل مسلماً؟! فصرفنا قلوب البشر عن الإسلام بهبوطنا، وبذلنا وبفقرنا وبجهلنا، وبظلمنا وفسادنا، ولا سبب إلا أن العدو الماكر الثالوث الأسود المكون من المجوس واليهود والنصارى قد عرفوا سبب حياتنا وسبب هدايتنا، فحالوا بيننا وبين سبب الهداية والحياة، فأبعدونا عن القرآن والسنة فمتنا، ولما متنا تمزقنا وتشتتنا، وأصبحنا أحزاباً وجماعات وطوائف، فالقرية الواحدة فيها العديد من الفرق، ولما استقللنا أصبحنا ثلاثة وأربعين أمة أو دولة، فلا إله إلا الله! يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أبيضكم وأسودكم، عربكم وعجمكم، قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ، فلا توجد جهة بعثت به أبداً مع عميل لها، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء:174]، أي: موضح للحياة بكاملها.أتعرفون هذا النور المبين؟ اسمعوا إلى أبي هريرة وهو يقول: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى علمنا كل شيء حتى الخراءة، أما كيف نجامع؟ أو كيف نقاتل؟ أو كيف نكتب؟ أو كيف نصلي؟ فلا تسأل، ولكن أبعدونا عن النور المحمدي وعن القرآن، فأصبحنا على ما نحن عليه اليوم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء:174]، ألا وهو القرآن. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ [النساء:175] رباً ولا رب سواه، وإلهاً ولا إله غيره، ولا معبود يعبد سواه، فآمنوا بأسمائه وصفاته وبحقه على خلقه من عبادته وحده دون من سواه، وَاعْتَصَمُوا بِهِ [النساء:175]، أي: بالقرآن، فالحلال ما أحله القرآن، والحرام ما حرمه القرآن، والواجب ما أوجبه القرآن، والمحرم ما حرمه القرآن.ثم قال تعالى في وعد الصدق: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ [النساء:175]، والمراد من الرحمة هنا: الجنة دار السلام، والمراد بالفضل هنا: النظر إلى وجه الله الكريم، إذ لا أسعد أبداً من عبد لم ير وجه ربه، فلهذا لما ينعمون في ذات النعيم يناديهم ربهم ويرفع الحجاب عن وجهه وينظر إليهم ويسألهم، فما هناك أعظم من أن ينظر المؤمن إلى وجه الله الكريم، فتغمرهم فرحة ما عرفوها لا في الطعام ولا في الشراب ولا في اللباس ولا في الحياة بكلها. وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ [النساء:175]، فالذين اعتصموا بالقرآن يضلون؟ والله ما يضلون، ولذلك لما اعتصم السلف الصالح بالقرآن والله ما ضلوا، لكن لما تركوه وحولوه إلى أمواتهم ضلوا وما هداهم الله تعالى. وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:175]، أي: لا اعوجاج فيه ولا انحراف أبداً، وسكت تعالى عمن لا يؤمنون بالله ولا يعتصمون بحبله، إذ إن مصيرهم معروف، فماذا يقول فيهم؟ إذاً فسيدخلهم في جهنم ويزيدهم عذاباً فوق العذاب، ويحرمهم النظر إلى وجهه الكريم، ويخلدهم في عالم الشقاء، وهذا أمر ضروري، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، فهل هذه السنن تتبدل؟ يعني: أصبحنا في يوم الطعام لا يشبع؟! أعوذ بالله، الحديد أصبح ما يقطع؟! أبداً، وبالتالي فسنن الله لا تتبدل.إذاً فالأخذ بهذا الكتاب العظيم، بهذا الدين الإسلامي على النحو الذي عرفتم، وهو أن يجتمع أهل القرية، أو أهل الحي مقبلين على الله في صدق يتعلمون الكتاب والحكمة، يوماً بعد يوم، حتى تستنير قلوبهم وتتضح الحياة لهم ويصبحون ربانيين وأولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ومن ثم يعزون ويسعدون ويكملون، أما بدون الأخذ بهذا النور وهذه الهداية فهيهات هيهات أن تنفعنا النسبة: مسلمون أو مؤمنون، والله ما تجزئ إلا من استعصم وتمسك بهذا الحبل العظيم.وأخيراً أسمعكم الآيتين: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:174] وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء:174]، أي: القرآن الكريم فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:175]، وأما الذين لم يؤمنوا به، ولم يعتصموا بحبله، فسيدخلهم العذاب والشقاء والخزي والذل والعار في الدنيا، والخلود والبوار في دار البوار يوم القيامة.فالله تعالى أسأل أن يتوب علينا، وأن يرجع بنا إلى كتابه وأنواره حتى نكمل ونسعد، ونشعر بالطمأنينة والطهر، ونرضى بلقاء ربنا ونفرح به في دار السلام، اللهم حقق لنا ذلك يا رب العالمين.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
24-05-2021, 05:22 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (85)
الحلقة (307)
تفسير سورة النساء (88)


بين الله عز وجل في أوائل هذه السورة حكم من مات وخلف مالاً، وليس له آباء ولا أبناء ولا زوج وله إخوة من الأم فإنهم يرثونه، فإن كان واحداً فله السدس، وإن كانوا أكثر من واحد فهم شركاء في الثلث، أما في هذه الآية وهي آخر آية في السورة فقد بين نصيب الإخوة الأشقاء أو من أب، فالأخت الواحدة لها من أخيها نصف ما ترك، والأختان لهما الثلثان، والأخ يرث مال أخته كاملاً، والإخوة مع الأخوات يرثون الأخ أو الأخت فيكون للذكر مثل حظ الأنثيين.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم... ) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الفضل واجعلنا من أهله يا ذا الفضل العظيم.وها نحن مع آخر آية من سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، سورة الأحكام الشرعية، هذه الآية هي آية الكلالة، وقبل الشروع فيها أذكر نفسي والمستمعين والمستمعات بما اشتملت عليه الآيتان اللتان درسناهما بالأمس، وذلك بعد قراءتهما تذكيراً للناسين: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:174-175].
هداية الآيات
قال الشارح: [ من هداية هاتين الآيتين الكريمتين: أولاً: الدعوة الإسلامية دعوة عامة، فهي للأبيض والأصفر على حد سواء ]، وأخذنا هذا من قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء:174]، فلفظ (الناس) عام في البشر كلهم، لا فرق بين العرب والعجم، ولا بين الأبيض والأصفر، وإنما دعوة الإسلام دعوة عامة، وينبغي أن تنشر في العالم بأسره، وليست خاصة بجيل من الأجيال ولا بقبيلة من القبائل، وإنما هي دعوة الله للبشرية جمعاء من أجل أن تطهر وتكمل وتسعد في حياتها الدنيوية، ثم تسعد في الحياة الخالدة الباقية في العالم الأعلى.فقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء:174]، أخذنا منه أن الدعوة الإسلامية دعوة عامة، فهي للأبيض والأصفر على حد سواء.قال: [ ثانياً: إطلاق لفظ البرهان على النبي صلى الله عليه وسلم ]، فنبينا اسمه محمد وأحمد، وقد سماه الله برهاناً، قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:174]، والبرهان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ قال: [ لأنه بأميته وكماله الذي لا مطمع لبشري أن يساميه فيه، برهان على وجود الله وعلمه ورحمته ]، أي: أن محمداً صلى الله عليه وسلم برهان على أنه نبي الله ورسوله، فلا يحتاج إلى حجج أخرى تقوى أو تضعف، فهو أمي لم يقرأ ولم يكتب، فيخرج على البشرية بعلوم ومعارف ما كانت تعلمها ولا تحلم بها، فكيف لا يكون رسول الله؟!قال: [ ثالثاً: القرآن نور ]، إي والله فالقرآن نور، والنور يستفاد منه في الظلام، والحياة كلها ظلام، فلا شمس تغني ولا القمر، ولكن النور الذي به النجاة هو القرآن العظيم، فمن آمن به وقرأه وعرف ما يحمله من الهدى والنور، وأخذ يعمل به فقد نجا، واهتدى إلى دار الكمال والسعادة، ومن رماه وراء ظهره ولم يؤمن به ولم يقرأ ما فيه ولم يتعرف إلى ما يحمله من الشرع والهداية الإلهية، فهو والعياذ بالله في عداد الخاسرين.قال: [ ثالثاً: القرآن نور من أجل ما يحصل به من الاهتداء إلى سبل النجاة وطرق السعادة والكمال ]؛ لأن الله تعالى قال: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ماذا؟ ما قال: قرآناً، وإنما قال: نُورًا مُبِينًا [النساء:174]، وفي آية أخرى قال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، فهيا نبلغ البشرية أنها إذا لم تؤمن بالقرآن وتعمل بما فيه فهي والله لفي الظلام، ولا يمكنها أن تهتدي لسعادتها وكمالها في الدارين إلا بهذا النور، والواقع شاهد على ذلك، فانظر إلى الشرق والغرب، وانظر إلى البشرية في عصور رقيها وحضارتها، هل تجاوزت موضع شبر البهائم؟ هل خلت من الخبث ومن الظلم ومن الشر ومن الفساد؟ والله لم تخلو منه ولن تخلو.قال: [ رابعاً: ثمن السعادة ودخول الجنة الإيمان بالله ورسوله ولقائه والعمل الصالح، وهو التمسك بالكتاب والسنة المعبر عنه بالاعتصام ]، إذ قال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ [النساء:175]، ألا وهي الجنة دار السلام، وَفَضْلٍ [النساء:175]، أي: ويزيدهم من فضله من أنواع الإنعامات والإفضالات، ومن النظر إلى وجهه الكريم.
تفسير قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة...)
والآن مع آخر آية من سورة النساء، وتلاوة هذه الآية الكريمة بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176].
سبب نزول الآية
تسمى هذه الآية بآية الصيف، وقد ذكر أهل العلم أن سبب نزول هذه الآية الكريمة: أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه وعن والده مرض كما يمرض الناس -ووالده هو عبد الله بن حرام، وقد استشهد في غزوة أحد- فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: زاره في مرضه، وزيارة المريض سنة، وتسمى بعيادة المريض، ولذلك إذا مرض أخوك ومضى على مرضه ثلاثة أيام فإنه يسن لك أن تزوره، إذ إن هذه الزيارة من حقه عليك، وعلى كل عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر، وأبو بكر هو خليل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فأغمي على جابر بن عبد الله من شدة المرض، والإغماء ينتاب المريض ساعة وساعة، وذلك أن المريض قد يفقد شعوره من شدة الألم، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صب عليه من فضل وضوئه، أي: توضأ في إناء وبقي في الإناء شيء من الماء فأخذ منه وصبه على جابر رضي الله عنه، فأفاق فقال: يا رسول الله! اقض في مالي، أي: احكم يا سول الله! في مالي، وكان له تسع أخوات، فلم يرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزلت هذه الآية الكريمة.
ميراث الكلالة
قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ [النساء:176]، أي: يستفتونك يا رسولنا! من الذي يستفتيه؟ جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء:176]، أي: الله هو الذي يفتيكم فيها، والكلالة قد تقدم نوع منها في أول السورة مع آيات الفرائض، وهذه الآية أيضاً في الكلالة.فالكلالة: أن يموت إنسان ولم يترك ولداً، ولا ولد ولد، ولا أباً، ولا جداً، فيرثه إخوته الذين يحوطون به كالإكليل، فإن كان إخوته من أمه فالأخ له السدس، وإن كانوا اثنين فأكثر فلهما الثلث، وإن كان الإخوة من أب وأم، أو من أب كهذه الآية، إِنْ امْرُؤٌ [النساء:176]، إنسان ذكر أو أنثى، هَلَكَ [النساء:176]، يقال: هلك يهلك إذا مات، فكل من مات فقد هلك، لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:176]، أي: ما له ولد، وليس له والد، إذ لو كان له والد فإن الوالد يرث ولده، ولا يرث معه أخ، لا ولد ولا والد ولا ولد ولد؛ لأن ولد الولد يقوم مقام الولد مباشرة، وَلَهُ أُخْتٌ [النساء:176]، أي: من أبيه أو شقيقة، فما لها من تركة أخيها الذي توفي وما خلف ولداً ولا ولد ولد ولا أباً؟ فلها النصف فرضاً خاصاً بها، والنصف الباقي للعصبة، قال تعالى: فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [النساء:176] ولا ولد ولد، أيضاً أخوها يرث مالها كله إذا لم تترك ولداً ولا ولد ولد، وهو يرثها بشرط إن لم يكن لها ولد، وهذه هي الأخت.وإن فرضنا أنهما أختان، فقد قال تعالى: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ [النساء:176]، كأن مات إنسان وترك أختين له من أبيه وأمه أو من أبيه فقط، ولم تترك الأختان ولداً ولا ولد ولد، فقد قال تعالى: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ [النساء:176]، والثلث الآخر للعصبة كالأعمام وأبناء الأعمام أو لبيت المال. وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً [النساء:176]، إخوة: بنت وولد، أو بنتان وولدان، أي: خليط من الرجال والنساء، من الذكران والإناث، فهنا قال تعالى: فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:176]، فالذكر يأخذ اثنين، والأنثى تأخذ واحداً.ثم قال تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ [النساء:176]، أي: هذا الذي يبين، أَنْ تَضِلُّوا [النساء:176]، أي: لئلا تضلوا أو خشية أن تضلوا، إذ الضلال هو أن توزعوا المال على غير الوجه الذي يرضي الله عز وجل، أو تعطوا المال لمن لا يستحقه فيكون هذا من الضلال قطعاً وعدم الهداية، فكراهة أن تضلوا أنزل الله هذه الآيات وبين هذا الحكم. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء:176]، أي: كراهة أن تضلوا، أو لئلا تضلوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176]، فلا يخفى عليه شيء، فاقبلوا إذاً بيانه وحكمه، وقسمته وارضوا بها، فإن الله عليم بأحكامه وقضائه.الآية مرة أخرى: يَسْتَفْتُونَكَ [النساء:176]، هذا الخبر من جاء به؟ الله عز وجل، يَسْتَفْتُونَكَ [النساء:176]، أي: يسألونك، فمن هو الذي يُسأل ويُستفتى؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً الله يكلم الرسول مباشرة؟ إي نعم، إذ كيف لا يكون رسول الله إذاً؟ أين يُذهب بعقول اليهود والنصارى والمجوس؟ أيكلمه مباشرة وتقول: ما هو برسول الله؟ والله ما نفوا رسالته ولا جحدوها ولا أنكروها ولا كذبوا بها إلا لجهلهم ومصالح دنياهم، إذ هل تشك في رجل يكلمه الله ويحدثه في مئات المواطن وتقول: ما هو برسول؟! يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا [النساء:174-175]، أي: بهذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء هم أهل الجنة ودار السلام، وأهل الإنعام الذي لا حد له في الملكوت الأعلى، ومن كفر وكذب وعاش على الشهوات والأهواء فمصيره معلوم، ألا وهو الخسران الأبدي في دار البوار والشقاء. يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء:176]، أي: أعلمهم يا رسولنا! بأن الله هو الذي يفتيكم؛ لأن الرسول ما عنده علم قبل أن يوحى إليه، قال: إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:176]، ولا والد، ولا ولد ولد؛ لأنه يورث كلالة، وهو من الإكليل الذي يوضع على الرأس، فالذي يرثه إخوته يكونون قد أحاطوا به، إذ ما هم أسفل فيكونون أولاداً، ولا هم فوق فيكونون آباءً وأجداداً. إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ [النساء:176]، فما نصيب هذه الأخت من أخيها الشقيق أو لأب؟ ترث نصف ماله، وإن ماتت هي فأخوها يرث كل مالها، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فما دام أنها ورثت النصف عند موت أخيها، فهو يأخذ نصفين، والنصفان هو كل المال. فَإِنْ كَانَتَا [النساء:176]، أي: الأختان، اثْنَتَيْنِ [النساء:176]، أو أكثر، فما القسمة؟ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ [النساء:176]، لا زيادة، مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً [النساء:176]، كأن هلك هالك وترك إخوة له خليطاً من النساء والرجال، أو من البنين والبنات، فكيف يقتسمون تركة أخيهم؟ للذكر مثل حظ الأنثيين.لماذا للذكر مثل حظ الأنثيين؟ تمشدق وتمنطق وتكلم الملاحدة والزنادقة والهابطون إلى الحضيض، ولو استحوا وخجلوا، بل لو كان لهم عقل لعلموا أن واهب المال يعطي ويمنع من شاء من ماله، فكيف يعترضون عليه فيقولون: لم تعط فلاناً كذا وكذا؟ إن هذا ليس مالك، بل هو مال الله تعالى، ثم هل يعقل أن رب الجلال والكمال الرحمن الرحيم يجور في قسمته ولا يعدل؟! من يخطر هذا بباله فهو كافر، ومع هذا فقد بين لهم أولو العلم والنهى، وعرفوا أن المرأة ما كانت ترث لا في الجاهلية ولا في الصين ولا في اليابان ولا في الروس وفي الأمريكان، بل ولا في العالم نهائياً، فجاء الإسلام فورثها وأعطاها نصيبها بحسب حالها، فالمرأة قد ضمن الله لها عيشها، فما دامت طفلة في حجر أبيها فيجب على أبيها أن ينفق عليها، حتى وإن جاع لتشبع هي، وإذا بلغت سن التكليف وتزوجت فيجب على زوجها أن ينفق عليها حتى وإن جاع وهي تشبع، وإن أصبحت أم أولاد ومات الوالد -أي: الزوج- فعلى أولادها أن ينفقوا عليها وجوباً وإن ماتوا جوعاً.إذاً: ضمن الله قوتها، وما كلفها أن تحمل المسحاة أبداً وتصبح فلاحة، ولا أن تحمل القدوم وتصبح نجاراً، ولا أن تحمل الدنانير وتصبح تاجرة جوالة في الأسواق، بل أراحها الله تعالى، ثم بعد هذا يقولون: لمَ يعطيها الثلث فقط؟ لم ما يسويها بأخيها؟ إن أخاها عليه تكاليف ينهض بها، ومنها أنه ينفق على أبويه وعلى امرأته وأولاده، وهي كذلك يُنفق عليها، فكيف تعطى ما يعطى الرجل الذكر؟! ولكن: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، وما هناك عمى إلا الحسد فقط، فقد حسدوا هذه الأمة على أنوار الله التي تغمرها في حياتها، فلم تسموا بهذا الكمال وتعز وتسود وهم يعيشون كالحيوانات؟ يَسْتَفْتُونَكَ [النساء:176]، يا رسول الله! قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء:176]، والكلالة هي أن يورث الرجل من قِبل إخوانه وأخواته، فأبوه غير موجود، وأولاده وأولاد أولاده غير موجودين كذلك، فالذي يرثه هم الذي يحوطون به كالإكليل، فإن كانوا إخوة لأم فالواحد له السدس، وإن كانوا اثنين فأكثر فلهم الثلث، وإن كانوا إخوة لأب أو أشقاء فقد بين تعالى ذلك، إذ قال تعالى: إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:176]، ولكن له أخت، وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا [النساء:176]، في كل مالها، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [النساء:176]، وإلا ليس هو إكليل، فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ [النساء:176]، فأكثر، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:176]، فالذي يقول: لم ما سوى الله بين البنين والبنات فأولاً: والله ما عرف الله ولا آمن به، وثانياً: لو فهم فقط فهم البادية أن الله هو رب هذا المال يعطيه من يشاء، فأي وجه له أن يعترض؟ إن هذا ماله يعطيه من أراد. وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ [النساء:176]، قولوا: الحمد لله، إذ الله جل جلاله، والغني عنا وعن وجودنا يتولى البيان لنا ولا نحمده؟! يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ [النساء:176]، كراهة، أَنْ تَضِلُّوا [النساء:176]، فتهلكوا، إذ ما يريد ضلالكم أبداً، بل يريد سموكم وكمالكم وعزكم؛ لأنه وليكم وأنتم أولياؤه.

يتبع

ابوالوليد المسلم
24-05-2021, 05:23 AM
ذكر ما تنال به ولاية الله تعالى
بم ثبتت هذه الولاية؟ بالقبلية المعروفة؟! بالشيك والدينار والدرهم؟! يا زائري المسجد النبوي! مرحباً بكم في مسجد نبيكم، وهنيئاً لكم زيارتكم مسجد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وعندنا لكم سؤال وهو: بم نلنا ولاية الله وأصبح الله ولينا ونحن أولياؤه؟قال أحد الأبناء: باتباع سنة الرسول، هذا فيه إجمال، وهذا آخر يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، وهذا لو سألنا وقلنا: ما هو الحكم الإلهي الذي أصدره الله على عباده؟ لقلتَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].نحن نقول: بم تنال الولاية؟ كيف أصبحنا أولياء يا من يرغب أن يكون ولي الله الذي لا خوف عليه ولا حزن، لا في الدنيا ولا في الآخرة؟ بم نحقق ولاية الله تعالى؟ فالجواب: بالإيمان والتقوى تتحقق ولاية الله عز وجل للعبد، والدليل قول الله تعالى من سورة يونس عليه السلام: أَلا [يونس:62]، أتعرفون (ألا) هذه؟ ألو، فإن قيل: لمَ هذا الشيخ يقول في مسجد الرسول: ألو؟ فالجواب: لأننا اعتدنا ألو، ألو، حتى البنت التي تزحف تأخذ السماعة فتقول: ألو، وكذلك النساء والرجال والعوام كلهم تعودوا على ألو، وعندنا في القرآن (ألا) ما نفهم لها معنى أبداً، واسأل عامة الناس عن (ألا) ما يجيبك.إن (ألا) معناها: أأنت حاضر لتستمع وتتلقى عني؟ هل ألقي إليك بالخبر أو لا؟ فهذه (ألا) أخذوا منها (ألو)، ولم لا يقولوا: ألا؟ لأن (ألا) قرآنية ومن كلام الله، فجاءوا بألو فقط، وقد بحث أحد الإخوان قديماً خمسين سنة مع النصارى ومع اليهود عن معنى ألو؟ فقالوا: (ألو) هكذا وجدت مع التليفون، فلا نعرف لها معنى، فقلنا لهم: سبقكم سيبويه العالم اللغوي إذ سألوه عن (أي) في لسان العرب، فمرة تأتي مبنية ومرة معربة ومرة كذا، فما لها؟ فقال: (أي) هكذا خلقت، وكذلك (ألا)، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لو يأتي هذا برقية من حاكم من الحكام فإن أهل البلاد سيطيرون من الفرح بهذا النبأ.
أوصاف أولياء الله تعالى وذكر جزائهم
قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، فمن هم أولياء الله؟ الذين لا خوف عليهم لا في هذه الحياة ولا في البرزخ ولا يوم القيامة، ولا يحزنون اليوم ولا بعد اليوم أبداً، ووالله ليجوع ولا يحزن، ووالله ليمرض ولا يحزن، ووالله ليموت أولاده واحداً بعد الواحد ولا يحزن، لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].وكأن سائلاً يقول: من هم يا رب أولياؤك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال تعالى في الجواب: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، أي: آمنوا بالله رباً وإلهاً، وآمنوا برسله أنبياءً ورسلاً، وآمنوا بكتبه، وآمنوا بلقائه، وآمنوا بكل ما أمرهم الله أن يؤمنوا به، سواء أطاقته عقولهم أو لم تطقه، وَكَانُوا ، دائماً وأبداً، يَتَّقُونَ [يونس:63]، أي: يتقون غضب الرب وسخطه، وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، إذ الله لا يتقى بالأسوار العالية، ولا أن تدخل في السراديب تحت الأرض، وإنما يتقى الله عز وجل بطاعته فيما أمر به ونهى عنه، فالمأمور يُفعل والمنهي يُترك، وبهذا يتقى الله عز وجل.ثم قال تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، وهذا خير عظيم، فبكم يقدر؟ لَهُمُ الْبُشْرَى [يونس:64]، الأخبار السارة المثلجة للصدر، والذي تجعل وجهك كأنه قمر من فرحه وسروره، فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:64]، اليوم، وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64].وقد فسر الحبيب صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته البشرى فقال: البشرى في الحياة الدنيا هي: ( الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له )، فهل فهمتم معشر الأبناء والإخوان! البشرى العظيمة التي لهم من نصيبهم ومن حظهم أعطاهم الله إياها؟ فوالله لا تموتن يا ولي الله حتى تبشر، إما أن تراها أنت أو يراها عبد صالح ويقصها عليك ويقول لك: رأيتك في كذا وكذا. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:64]، وأخرى أيضاً عندما يكون الولي على سرير الموت في محط العناية كما يسمونها، وقد قال الأطباء: أخوكم قد انتهى أمره، وهو كذلك حتى يأتي فوج من الملائكة كله نور، أي: ملك الموت وأعوانه، فيشاهدهم ويبتسم في وجوههم ويكاد يطير من الفرح، وينسى الدنيا وما فيها، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، أي: ما اعوجوا، وما انحرفوا، وما مالوا، وما زاغوا، وإنما استقامة إلى باب دار السلام، إذ يفعلون أوامر في حدود طاقتهم، وينتهون عن المناهي، فهذه هي الاستقامة، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ بماذا؟ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
سر تبشير المؤمن بالجنة عند موته
معشر المستمعين! يا أهل هذه الحلقة المباركة! ما السر في هذا الكمال والإسعاد؟ ألا إنه طهارة أرواحهم وزكاة نفوسهم؛ لأن فعل الأوامر آلة لتزكية النفس والله وتطهيرها، بل أعظم من الماء والصابون للأبدان والأجسام، ولأن المنهيات أوساخ وأدران تلوث النفس البشرية فتحولها إلى عفنة ومنتنة كأرواح الشياطين، وهم قد تركوا المحرمات فأبعدوا أنفسهم عنها، فبقي طهرها وصفاؤها، فتأتي الملائكة وكأنهم جنس واحد يتكلمون معها، ويتحدثون إليها، ويبشرونها، إذاً فطهارة الروح وزكاة النفس هو الذي أهلهم لهذا الكمال. وأعطيكم مسألة علمية أيها الزوار، لكن مع الأسف ما لا تبلغون، بل ما بلغنا أن زائراً فهم مسألة في المسجد النبوي وبلغها في بلاده أبداً، ولذا فاسمعوا، لقد عاشت أمتنا قروناً لا تعرف ولياً من أولياء الله يمشي في الشارع، أو يبيع ويشتري في السوق، أو يحرث الأرض، إذ ما تعرف الولي إلا الذي قد مات وبني على قبره قبة، ورفع فوق قبره تابوت من خشب، ووضع عليه الأزر الحريرية، وأصبح يزار فتوضع النقود إلى جنبه، وتوقد الشموع في قبره.واسلوا العجائز عندكم يخبرنكم بذلك، فتجد الواحد منهم يقول: وحق سيدي عبد القادر، وحق سيدي مبروك، وحق سيدي إدريس، وحق مولاي فلان، فما فيه ولي حي أبداً، لكن لما يموت يُعبد من دون الله، وأقول: هيا نمشي إلى قرية من القرى عرب وعجم، على شرط ما يكون قد بلغهم هذا الكلام، فندخل على القرية ونلقى أول رجل نقول له: يا سيد! أنا جئت من بلاد بعيدة وأريد أن أزور ولياً من أولياء هذه البلاد، دلني عليه؟ والله ما يأتي بك إلا إلى ضريح، ولا يفهم أن في القرية ولياً بين الناس، ومن أراد أن يجرب فليجرب، وقبل هذا والله لو تدخل إلى القاهرة المعزية وتقول: أنا الآن نزلت من الباخرة أو من الطائرة، وقد جئت فقط لزيارة ولي من أولياء هذه البلاد، فدلني يا فلان؟ والله ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، والملايين في السوق ما فيهم ولي! والسر في ذلك أن العدو الثالوث الأسود المكون من المجوسية واليهودية والصليبية قد عزموا على إطفاء نور الله من قلوب الناس، وإبعادهم عن رحمة الله، إذ قالوا: لمَ يفوز المسلمون بدار السلام؟ لمَ يفوزون بالطهر والسلام؟ لم يفوزون بالعز والكرامة ونحن نعيش كالبهائم؟ إذاً يجب أن نسوي بيننا وبينهم.فاحتالوا على المسلمين وحصروا الولاية في الموتى، ومن ثم فإن الرجل المسلم في القرية أو في المدينة يزني بامرأة مسلم والله العظيم، أو يزني ببنت مسلم، أو مسلم في القرية يسرق مال مسلم، أو مسلم في القرية يسب آخر ويفلق رأسه لأجل كلمة قالها، ولا طهر ولا أمن ولا صفاء؛ لأنهم ما عرفوا أنهم أولياء الله، وأن الله يقول: ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، ويدلك على أن الولي عندهم هو الميت أنهم ترتعد فرائصهم عند زيارته، إذ لا يستطيعون أن يقولوا كلمة سوء عند قبره، بل يعظمونه ويحترمون أهله وذويه لأنهم من إخوان الولي الفلاني، وأما عامة المسلمين فافجر بنسائهم، واسرق أموالهم، وسب واشتم ولا تخف؛ لأنهم ليسوا بأولياء الله! وبهذه الأذن سمعت في القرية مجموعة من الرجال يتحدثون كما تتحدث عوام الناس، فقالوا: فلان كان إذا زنا لا يمر بسيدي فلان، وإنما يمر من جهة أخرى في القرية حتى لا يمر بالولي وهو ملطخ بالزنا! يخون أخاه المؤمن في أهله، ويفجر عن طاعة ربه فيزني وقد حرم مولاه الزنا، ولا يبالي بالله ولا بشيء أبداً، ويخاف أن يمر على ضريح فلان! أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، فمن هم يا رب أولياؤك؟ عبد القادر الجيلاني؟ البدوي؟ العيدروس؟ إن أولياء الله هم المؤمنون المتقون، فلا يحل لك أن تنظر نظرة شزراً في وجه هذا المؤمن التقي، وحرام أن تقول فيه كلمة واحدة تزعجه، وحرام أن تنال منه ولو لطمة بإصبعك، ولو فلس من ديناره ودرهمه، فكيف تزني بامرأته أو تفجر بابنته؟!
سر انحطاط المسلمين في العصر الحاضر
لكن للأسف فعل بنا هذا الأعداء ومددنا أعناقنا وسكتنا، فما سر هذا؟ إنه الجهل، فمن جهلنا؟ هم حملونا على أن نبعد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة لن تعلم إلا إذا كانت في كل ليلة تجتمع في بيوت ربها بنسائها وأطفالها ورجالها، في قراها ومدنها، وطول العمر تشتغل من صلاة الصبح إلى غروب الشمس في دنياها، أما هذا الوقت فهو وقت التلقي للكتاب والحكمة وتزكية النفس البشرية، فيجب أن يكونوا في بيوت الله تعالى، كما كانت على عهد رسول الله، فهذا أبو بكر وعمر كانا يتناوبان هذه الجلسة.ونحن قد أبعدونا عن القرآن بالمرة، وحولوه إلى الموتى فمتنا، وذهب النور حتى كرامة المؤمن وولايته حصروا الولاية في الأموات فقط، إذ الأحياء ما فيهم ولي فافعل بهم ما شئت، وما أفقنا إلى الآن، فدويلاتنا عشرات، ومذاهبنا وطرقنا وأحزابنا عديدة، فلا مودة ولا إخاء، ولا تلاقي لا حب لا ولاء؛ لأننا لسنا بالفعل حقاً بأولياء الله، فأبعدونا عن ولاية الله تعالى.فنقول: إنا لله وإنا إليه راجعون للعزاء، لكن باب الله مفتوح، فمن أراد أن يحقق الولاية والله للباب الله مفتوح، فمن الآن يعزم كل مؤمن على أن يعرف الله معرفة حقيقية، ويؤمن الإيمان الصحيح كما هو في كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، ويمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، ولا همَّ له إلا رضا ربه عز وجل، إذ هو ولي الله تعالى، فلو رفع يديه وسأل مولاه شيئاً لأعطاه إياه.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
نتلو الآيات: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176].
هداية الآيات
قال [ من هداية الآية الكريمة: أولاً: جواز سؤال من لا يعلم من يعلم ]، بل وجوب سؤال من لا يعلم من يعلم، أما قال تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ [النساء:176]؟ فهذا جابر قد سأل، وهناك آيتين في كتاب الله توجب السؤال، وذلك من سورة النحل ومن سورة الأنبياء، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فكل من لا يعلم يجب عليه أن يسأل، ولو يركب ناقته ويرحل حتى يسأل، ومن ثم لا جهل في أمة الإسلام، وقد مضت فترة في القرون الذهبية لا جهل في النساء ولا في الخدم ولا في العبيد، وإنما كلهم علماء؛ لأنهم استجابوا لأمر الله: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فكل من لا يعلم يجب أن يسأل حتى يعلم، فهل يبقى إذاً جاهل أو جاهلة؟ مستحيل.قال: [ ثانياً: إثبات وجود الله تعالى عليماً قديراً سميعاً بصيراً، وتقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ سؤال الأصحاب وإجابة الرب تعالى بواسطة وحيه المنزل على رسوله يقرر ذلك ]، أي: وجود الله عليماً حكيماً سميعاً، وأن محمد نبي ورسول، وبعض الآية يقرر هذا بكامله، أي: إثبات وجود الله، أيكون الله معدوماً ويُسأل ويجيب؟ وهل هناك ميت تسأله ويجيبك؟ وهل هناك غائب تسأله ويجيبك؟ كيف يجيب وهو غير موجود؟!قال: [ ثالثاً: بيان قسمة تركة من يورث كلالة من رجل أو امرأة، فالأخت الواحدة لها من أخيها نصف ما ترك، والأختان لهما الثلثان، والإخوة مع الأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين، والأخ يرث أخته إن لم يكن لها ولد ولا ولد ولد، والإخوة والأخوات يرثون أختهم للذكر مثل حظ الأنثيين، إذا لم تترك ولداً ولا ولد ولد ]. وصلى الله على نبينا محمد.

ابوالوليد المسلم
24-05-2021, 05:24 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (86)
الحلقة (308)
تفسير سورة النساء (89)



حوت سورة النساء الكثير من الأحكام الشرعية والهدايات الربانية، حيث ذكر الله فيها لعباده وسائل تزكية النفس والارتقاء بها، وذكر أحكام النساء وما يتعلق بذلك من نكاح ونفقات وغيره، وأحكام اليتيم وكفالته، كما قرر فيها سبحانه مبدأ التوارث، وبين أحكام التركة وكيفية تقسيمها، كما بين المحرمات من النساء وأسباب التحريم وما يترتب على ذلك من أحكام.
بعض ما حوته سورة النساء من الهدايات والأحكام الشرعية
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن قد فرغنا بالأمس من دراسة سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وظننت أننا اليوم سندرس العقيدة من كتاب عقيدة المؤمن، وقد تبين لي خطئي، وها نحن الآن نريد أن نستحضر بعض الذي حوته سورة النساء من الهدايات والأحكام الشرعية.
مناداة الله للخلق جميعاً بأن يتقوه
إن هذه السورة المباركة الميمونة قد دعت البشرية كلها أبيضها وأصفرها إلى أن يتقوا ربهم؛ لأنهم لا يسعدون ولا يكملون إلا على تقوى ربهم، إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، ولو عرفوا عظمته وجلاله وكبرياءه وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته لما خرج عن طاعته واحد منهم، وحسبهم أن يعرفوا أنهم مقهورون ومملوكون ومحكومون ومدبرون، وأن مالكهم ومدبرهم وحاكمهم هو الله سبحانه وتعالى، فإن أرادوا السعادة فليعبدوه، وإن أرادوا الشقاء فلهم دار البوار والعياذ بالله، والعجيب أنه من يريد الشقاء؟ ولكن الذي يعرض عن طاعة سيده فقد أراد الشقاء أحب أم كره، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]، فأعلم البشرية بأصل خلقتها.فيا ابن آدم! أنت مخلوق مم؟ ما هي مادة خلقك؟ إنها الطين اللازب، إنها الحمأ المسنون، إنه الصلصال كالفخار، فهذا هو أبوك آدم، وأنت أصل وجودك هو الطين، فهل تتكبر يا ابن الطين؟ كيف ترفع رأسك وتستأنف أن تسجد لمولاك وتطرح بين يديه؟ وأما والدتك وجدتك حواء، فقد أخبر العليم الحكيم على أنه خلقها من آدم، وذلك من ضلعه الأيسر، فعلم البشرية أصل خلقتها ومبدأ وجودها.
وجوب صلة الأرحام وحرمة قطعها
ثم أمرنا الله أن نتقيه وأن نصل أرحمانا، فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، ورقيب بمعنى: مراقب، وبالتالي كيف نستطيع أن نقول كلمة سوء وهو يسمعنا؟! وكيف نمد أيدينا أو نمشي بأرجلنا إلى شيء يكرهه وهو معنا يعلم حركاتنا وسكناتنا؟ إن هذه تربي في الإنسان المؤمن ملكة مراقبة الله عز وجل، فيصبح دائماً بين يدي الله، فلا يقوى ولا يقدر على حركة يعلم أنها تتنافى مع رضا الله جل جلاله وعظم سلطانه.
جواز نكاح أكثر من واحدة إلى أربع مع الأمن من الحيف والجور
ثم ذكر الله لنا حكماً عظيماً وهو: أن من أراد أن يزوج يتيمة في حجره فلا يبخسها حقها في مهرها وصداقها، وذلك لكونه وليها أو الوكيل عنها، وكذلك لا ينبغي لمؤمن أن يتزوجها ويبخسها مهرها، إذ إن هذا لا ينبغي أن يأتي من مؤمن يؤمن بالله ولقائه، وله أن يتزوج غيرها إذا خاف ألا يعدل معها أو أن يبخسها حقها ، وذلك أن الله تعالى قد فتح له هذا الباب، وبالتالي فله أن ينكح واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، قال تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، فهذا هو إذنه سبحانه وتعالى، ثم أليس هو المالك للنساء والرجال؟ بلى، فلو منع ما يمنع، ولكن أذن لعباده، فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى [النساء:3]، أي: اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، ولعلمه وحكمته وعظيم رحمته، يقول: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا [النساء:3]، بين الاثنتين أو الثلاث أو الأربع، فماذا تصنعون؟ فَوَاحِدَةً [النساء:3]، ولا تزيدوا على ذلك، أي: إذا ما قدرت على العدل، أو عرفت أنك لا تقوى عليه، فلا تزد على امرأتك أخرى.
وجوب إعطاء النساء مهورهن وحرمة الأكل منها بغير طيب نفس صاحبة المهر
ثم علمنا ما يجب لاستحلال الفرج، ألا وهو المهر أو الصداق، وبالتالي فلابد لمن أراد أن يتزوج امرأة بيضاء أو صفراء أن يعطيها مهراً، وله أن يؤجله بعلمها ورضاءها، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، وأركان النكاح أربع، وبدون هذه الأركان فالنكاح فاسد وباطل، بل وهو زنا وعهر، ومن بين هذه الأركان الأربعة: المهر، وأما باقي هذه الأركان فهي: الشهود، فلابد وأن تشهد اثنين من عدول المؤمنين على أنك تتزوج فلانة، ومن هذه الأركان أيضاً: الصيغة، كأن تقول: فلان زوجني ابنتك أو وليتك، فإذا قال: زوجتكها على مهر كذا وكذا، فتقول: رضيت بها، وقبلتها زوجاً لنفسي.كذلك من الأركان: وجود الولي، إذ هو الركن الأعظم من أركان النكاح، ولذا فلابد للمرأة أن يكون لها ولي يتولى عقد نكاحها، فإن لم يوجد لها أب ولا أخ ولا جد ولا عم، فالقاضي ولي من لا ولي لها، فإن انعدم القضاء في الصحراء أو في القرى، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: فليتولى عقد نكاحها ذو الرأي من عشيرتها من أهل البلاد، أي: صاحب الحصافة العقلية، والرأي السديد، والوفاء والكمال.
النهي عن إعطاء المال للسفهاء الذين لا يحسنون التصرف فيه
ومن هذه الأحكام الإلهية التي تسعدنا وتكملنا لو آمنا بها وعرفناها وطبقناها في حياتنا: يقول تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5]، فالآن الدنيا كلها قائمة على المال، إذ المال قوام الأعمال، والمال قد كفر الناس من أجله، وارتدوا من أجله، وباعوا دينهم من أجله، وباعوا أعراضهم من أجله، وحاربوا وقتلوا وسفكوا من أجله، والقرآن الكريم قد وضع قواعده للدنيا بما فيها، فأموالكم التي جعلها الله لكم قياماً، ماذا تصنعون بها؟ قال: لا تعطوه السفهاء، كالمرأة التي لا تحسن التصرف، وكالولد أو الرجل الذي لا يحسن التصرف، ولو نعمل بهذه فقط ما افتقرنا، فمن هو إذاً هذا السفيه؟ سفيه العقل هو الذي لا يحسن التصرف، والآن تستطيع أن تقول: كل المبذرين والمسرفين في المال هم ممن نهى الله عباده أن يعطوهم أموالهم، وقد جاء الحجر عليهم.وحسبنا أن نذكر أن هذه السورة العظيمة حوت سلالم الرقي والكمال والسعادة البشرية، وهي من مائة وأربعة عشرة سورة، وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5].
أمر الله للأولياء أن يختبروا اليتيم إذا بلغ سن الرشد
كما أمرنا بابتلاء اليتيم إذا بلغ سن الرشد، وذلك إذا أردت أن تعطيه أمواله التي ورثها من أبيه أو من أخيه، فامتحنه أولاً ثم أعطه إياه، كأن تعطيه دراهم أو دنانير وتقول له: اشتر لنا كذا وكذا، وبع لنا كذا وكذا، وأنت تراقب سلوكه، فإن وجدته حاذقاً حصيف الرأي لبيباً، فأعطه ماله وأشهد عليه، وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2].وقد عاش المسلمون في عصر جهالاتهم إلى اليوم، ولذلك تجد الولي يكون عنده مال اليتيم، فيأخذ من مال يتيمه ويترك ماله، وذلك كأن أراد شاة فيأخذ من غنم يتيمه ويترك غنمه ولا يأخذ منها شيئاً، ويقول: هذا ما زالت حياته مستقبلة، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2].
تقرير مبدأ التوارث في الإسلام
كذلك من الهدايات في هذه السورة: تقرير مبدأ التوارث الذي كان مجهولاً بين العرب، فقد كانت المرأة لا حق لها في الإرث، وكذلك الولد الصغير قبل البلوغ لا حق له في الإرث والمال، إذ المال فقط للرجال الأبطال الذين يدافعون عن القبيلة، ويقاتلون دون شرفهم، فقررت هذه الآية أن لهم جميعاً نصيباً من الإرث، فقال تعالى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7]، فقد كان العرب لا يورثون النساء، وذلك بحجة أنهن لا يدافعن ولا يحمين القبيلة، فالمال يرثه الذكر دون الأنثى، والصغار قالوا: يأكل ما تيسر، فيورثون الرجال فقط، فجاءت سورة النساء تحمل هذا الهدى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7].
استحباب إعطاء من حضر قسمة التركة من قريب أو يتيم أو مسكين
ثم جاءت الرحمات الإلهية، ونحن أصحاب القرى نعرف هذا، وذلك أننا لما نجز التمر أو نحضر الشعير أو البر لنقسمه على الورثة، يأتي الفقراء والأقارب يتطلعون، فإن كان صاحب المال حي قلبه وحي الضمير، فإنه يضرب لهم شيئاً فشيئاً قبل أن يقسم، فيصرفهم بما يعطيهم، وإن كان صاحب المال شحيحاً فلا يلتفت إليهم، قال ابن عباس: هذه الآية ما عمل بها الناس، وهي قوله تعالى: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8]، أي: أعطه حفنة من البر أو الشعير وقل له: سامحني، هذا الذي تيسر لي، أما أن يرجعوا بلا شيء وهم يشاهدون إخوانهم يقسمون المال بين ورثتهم، فلا ينبغي هذا للمؤمنين.
بيان ما جاء في التركة وقسمتها
ثم جاء بيان التركة وقسمتها، فقال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، مع أن العرب ما كانوا يحلمون بهذا، ولا كان الجن ولا الإنس يعرفون هذا قبل هذه الآية المباركة الكريمة، يُوصِيكُمُ [النساء:11]، والوصية لها شأنها عند العقلاء والأحرار، وليست كالأمر فقط، يُوصِيكُمُ [النساء:11]، من؟ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، بماذا؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فلهذا لو قال قائل: كيف أسوي بين ابنتي وولدي؟! لو قال هكذا فمعناه: أنه خان الله في وصيته والعياذ بالله، يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].ثم بين كيف تقسم التركة مع الأولاد، وذلك إذا توفي الوالد وترك الأولاد، ثم بين إرث المرأة من زوجها، كم ترث منه؟ وكم يرث الزوج من امرأته؟ وما هي الكلالة؟ فبين ذلك غاية البيان، ثم قال: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام:151].
نسخ حكم المكث في البيت حتى الموت بالنسبة لمرتكبي فاحشة الزنا
وبعد ذلك جاء حكمٌ منسوخ بحسب العلم الإلهي والرحمة الربانية، فقد كان الرجل أو المرأة إذا زنا في بداية الأمر يسجنان فقط، قال تعالى: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:16]، وما هي إلا فترة من الزمان حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب الزاني جلد مائة والرجم بالحجارة )، فنسخ الله الحكم السابق حين تهيأت النفوس لقبول الحكم الثاني، فقال تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، ثم فجأة نزلت: ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالاً من الله والله عزيز حكيم )، وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً ).

يتبع

ابوالوليد المسلم
24-05-2021, 05:25 AM
بيان ضرورة التعجيل بالتوبة
وتتوالى الأحكام وبيانها في سورة النساء المباركة الميمونة، فقد جاء بيان التوبة فيها، فيا عباد الله! عجلوا بالتوبة، فالذي يباشر المعصية ويتعاطاها هو في أخطر الظروف والأحوال، إذ قد يموت على الفور فلا ينجو أبداً ولا يسعد، والتوبة في صالح المجتمع، وليست في صالح الفرد فقط، يقول تعالى وقوله الحق: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17]، فالتوبة هي الرجوع من مقارفة الشر وموطن الفساد إلى مكان الطهر والصفاء، والتوبة هي ترك المعصية التي يباشرها عبد الله أو أمته، سواءً كانت رباً أو زناً أو سرقة أو خيانة أو غشاً أو خداعاً أو ترك واجباً من الواجبات أو غشيان محرم من المحرمات، والتوبة هي العودة إلى الطريق السوي، إلى ساحة الطهر والصفاء ورضا الله عز وجل، فانفض يديك يا عبد الله وأعلنها: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، وكلك عزم على ألا تعود إلى هذا الذنب أبداً ما حييت، ولو تاب أهل المدينة الآن لتغير الوضع في صورة عجيبة، إذ التوبة إصلاح الفرد وإصلاح المجتمع بكامله؛ لأن هذه الذنوب أصابت الآخرين، فإذا زنيت فأنت قد أصبت ذاك الذي زنيت بامرأته أو ابنته.يقول تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ [النساء:17]، الحق الصحيحة المنجية المزكية المطهرة، ما هي؟ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، وما قال: يعملون الزنا، أو الربا، أو يقتلون النفس، وإنما قال: السُّوءَ [النساء:17]، فما هو السُّوءَ؟ اذهب إلى الطبيب الجسماني يعلمك السوء في بعوضة تلسعك، أو عقرب تلدغك، أو ريح شديدة حارة تؤذيك، أو برد كذلك، أو شبع يقعد بك، أو جوع يحطمك، فيعلمك السوء في بدنك، وهذه الآية تعلمك السوء في روحك الذي هو مركز حياتك، أو المحطة التي بها وجودك وحياتك. إذاً: السوء هو ما يسيء إلى النفس البشرية فيقع عليها كالعفن أو النتن، فهو أذى يؤذيها ويحجبها نور الله عز وجل، ولهذا كل إثم هو سوء، وكل ذنب هو سوء، وكل معصية هو سوء؛ لأن أي مخالفة لتعاليم الله وأوامره وقوانينه يفعلها العبد عامداً عالماً إلا أصابت نفسه بالأذى والسوء.
خطر إتيان العبد للذنوب والمعاصي بعلم وإصرار
ثم قال تعالى: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، أما الذي يعمل السوء وهو يتحدى الله ورسوله، والإسلام وأهله، ويسخر ويضحك من المؤمنين، فهذا لن يتوب، بل ولا تقبل له توبة، لكن الذي يعملها بجهالة، كأن غم الجهل على نفسه فأتى المعصية، فهذا قد يتوب الله عليه، لا أن يتحدى فيقول: لا أؤمن بأن هذا حرام أو هذا حلال، إذ إن الذين تحدوا الله قد ماتوا بين أيدينا على غير الإسلام، فتأملوا قول مولانا: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، لا بعلم.والجهالة لها أنواع، وقد عرفنا منها: أن يقول: لو كان هذا حراماً ما فعله الشيخ الفلاني، فيسهل عليه أن يفعل الجريمة، أو لو كان هذا يغضب الله فلماذا لم ينزل فيه قرآن؟ أو لو كان هذا حراماً فلمَ فعل فلان كذا وكذا؟ أو يقول: إن شاء الله لما أحصل على وظيفة نترك هذا! أو لما يأتيني كذا نترك بيع كذا وكذا! فهذه كلها أنواع من الجهالات التي تجعل العبد يفعل تلك المعصية لا متعمداً متحدياً، أما الذي يأتيها على علم فيتحدى الله في شرعه وقوانينه ويخرج عن طاعته، فهذا لن يتوب، ولن تكون له توبة، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، أي: يتوبون من قرب لا من بعد، والقرب والبعد نسبي فقط.والمراد من هذا يا عبد الله! إذا قلت كلمة سوء فالآن قل: استغفر الله، ولا تقل: غداً سأتوب، أو وقعت في زلة أو في سقطة، قم فانفض الغبار عن يديك واجلس وأنت تصرخ: أتوب إلى الله وأستغفره، أما أن تواصل الإثم والجريمة عاماً بعد عام حتى تصل الثلاثين السنة من عمرك، فقد تبلغ مستوى لن تتوب فيه أبداً ولا تقبل التوبة، وهذا ملاحظ ومجرب، فالذي باشر معصية فقط وتاب منها سهل عليه التوبة، والذي عاش خمسين سنة يشرب الحشيش كيف يرجع؟ والذي تعوَّد من صباه للسب والشتم والغيبة والنميمة حتى بلغ أربعين سنة، كيف يتوب من ذلك؟ قد تأصلت فيه تلك المعصية وأصبحت من طباعه، وكذلك الذين لازموا التدخين سنين طويلة يقول لك: ما نستطيع أن نتركه، أما لو دخن اليوم وبعد أسبوع وقيل: يل عبد الله! هذا ضرر بك، هذا حرام مغضب الله عليك، فإنه يتركه بسهولة، بخلاف إذا تضلع فيه وتمكن منه، وحسبنا أن يقول العليم الحكيم: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17].
حرمة عضل النساء وإبطال قانون الجاهلية القائم على أن ابن الزوج يرث امرأة أبيه
أيضاً من هدايات سورة النساء: بيان عادة جاهلية مسحها من ديوان أهل الجهل، وهي أنه كان الرجل إذا تزوج أبوه ومات عن امرأته فالولد يرثها، فإن شاء تزوجها أو زوجها وأخذ المهر، فأنزل الله قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19]، فأبطل الله هذه العادة نهائياً، فإذا مات أخوك فللمرأة بعد انتهاء عدتها أن تتزوج من تشاء، ومهرها لها فقط، وكذلك امرأة أبيك، فإن مات أبوك عن امرأة فلاحق لك في أن تزوجها وتأخذ مهرها، أو تعضلها وتمسكها في البيت حتى تموت، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19].
حرمة نكاح ما نكح الآباء من النساء
ثم جاء التعليم الإلهي في تصحيح قاعدة الأسرة، فبين تعالى محرمات النكاح، فبدأ بامرأة الأب فقال: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:22]، فامرأة أبيك حرام عليك وإن لم ترضعك، وإن لم تتربى في حجرها، ما دام أنه قد وطئها والدك فهي كأمك، سواء كانت شرقية أو غربية، وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، ومضى، فالله غفر لكم ما كان في جاهليتكم.
بيان المحرمات من النسب والرضاعة
كما بين سبحانه وتعالى في هذه السورة المحرمات من المناكح ومن الرضاعة، وذلك تبييناً شافياً، واسمعوا هذه الآية الكريمة، يقول تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، وقال الرسول الكريم: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب )، أي: يحرم بالرضاع ما يحرم من النسب، فأخذ المجتمع يطهر يوماً بعد يوم؛ لأن هذا القرآن الكريم ما نزل في يوم واحد، وإنما نزل على مبدأ التربية والترقي، وذلك يوماً بعد يوم، فسبحان الله! ما أعظم سورة النساء!
بيان دعائم المجتمع الإسلامي
كما جاء في هذه السورة أيضاً: دعائم المجتمع الإسلامي ، فقال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، ثم قال: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34]، وبين إذا حصل نزاع أو صراع -كما يقولون- أو خلاف بين الزوج وامرأته، أو بين الرجل والمرأة، فقد عالج الله ذلك الموقف: فأولاً: يعظها، وثانياً: يهجرها في الفراش، وثالثاً: يصفعها، ثم إذا لم يتم شيء فالحكمان يصلحان بينهما، فهل كانت العرب تعرف هذا؟ لا والله، وهل الصين واليابان والأمريكان وكل بلاد الكفر يعرفون هذه الهداية الإلهية؟ من أين لهم وهم محرومون من نور الله؟ ونحن ما حمدنا الله، ولا أثنينا عليه ولا شكرناه؛ لأننا نعيش في غفلة وفي ظلمة وجهل.
بيان الحقوق العشرة في سورة النساء
ومن الهدايات في هذه السورة العظيمة: العشرة الحقوق، قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36]، فهذه عشر حقوق سجلها الله في كتابه، وأمر عباده مؤمنين ومؤمنات على أدائها لأصحابها، وإلا فهم ظلمة خارجون عن النظام متعرضون للغضب والعذاب والنكال، وأعظم هذه الحقوق: حق الله تعالى، وإن قلت: وهل لله حق علي؟ أنسيت أنك مخلوق؟ من خلقك؟ من فتح عينيك؟ من أنطقك فنطقت؟ من أقدرك على أن تمشي فمشيت؟ من أوجد لك الدار والسماء والأرض؟ إن الذي يعطيك عصا فقط له حق عليك، وبالتالي حق الله مقابل خلقه ورزقه لك وتدبيره لحياتك، فإياك أن تهضم الله حقه، فإن قيل: كيف أهضم حق ربي؟ تعصيه ولا تعبده وتعبد عدوه، فأي بشاعة أو قبح أعظم من هذا؟ أي: أن خالقي ورازقي ومدبري المفتقر إليه في كل لحظة من لحظات حياتي، أعرض عنه ولا أذكره ولا ألتفت إليه، وأطيع عدوه إبليس الذي يسوقني كالنعام لمجازر البشر ومفاسد الحياة!وثاني هذه الحقوق: حق الوالدين، فأنت من نطفة ماء أبيك، وأمك قد حملتك في بطنها تسعة أشهر، وتحول دمها إلى لبن حلو أبيض تشربه، فكيف تنسى هذا الحق وتسبها وتشتمها وتفضل امرأتك عليها، بل ويضربون أمهاتهم وآباؤهم والعياذ بالله؟! ما عرفوا الله عز وجل.
بيان عدل الله ورحمته في المجازاة
يقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، ضع هذا النور في قلبك، فالله لا يظلم عبده مثقال ذرة، وإن تك لك حسنة واحدة يضاعفها إلى عشرة إلى سبعمائة ضعف، فأي كرم أعظم من هذا؟ وأي فضل أعظم من هذا؟ وأي إحسان أعظم من هذا؟ ثم تستحي أن تقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، والله لو تقلها طول النهار في الشارع ما وفيت الله حقه.لكن البشر كالبهائم يأكل الزبدة ولا يقولون: الحمد لله، أو يشربون العسل ولا يعرفون الحمد لله، أو يأكلون ألذ الطعام، أو يلبسون أحسن الثياب ولا يعرفون الحمد لله، فمن سقاك؟ ومن كساك؟ ومن آواك؟ ومن أطعمك؟ فاذكر هذه الآلاء وهذه النعم يا هذا، واحمد المنعم سبحانه وتعالى، واخرج من دائرة البهيمة فأنت آدمي.وقد ذكرت لكم قصة وهي: أننا حضرنا غداء عند أستاذ في بريدة، ولهذا الأستاذ شيخ كبير مثلي، فوالله ما إن وضعت السفرة وأخذنا نأكل الطعام إلا وهذا الشيخ: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، حتى فرغ الآكلون من أكلهم، فمن هم الحمَّادون؟ نحن والحمد لله أمة الحمد، وهذه نعوتها في التوراة والإنجيل.
تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن
وآية عجيبة أخرى، وقد تأثر بها النبي صلى الله عليه وسلم حتى بكى، ففي يوم من الأيام قال لـعبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه: ( يا ابن أم عبد -هذه كنيته- اقرأ علي شيئاً من القرآن ) فعجب عبد الله بن مسعود وقال: عليك أنزل وعليك أقرأ يا رسول الله؟! قال: ( إني أحب أن أسمعه من غيري )، فأتحداكم معشر الحاضرين نساءً ورجالاً من هو الذي قال في يوم من الأيام لأحد إخوانه: تعال من فضلك اقرأ عليَّ شيئاً من القرآن؟ أنت وإياه؟ الحمد لله، بيننا سعد السعود والمسلمين لا اليهود.وتذكرون الطيب العقبي أيها الجزائريون! يا من حاربتموه وقلتم: إنه وهابي، إن الطيب العقبي خريج هذا المسجد النبوي، يقول عن نفسه: كنا نخرج من المسجد النبوي بعد العصر إلى أحد، ونأتي بسبعين ثمانين بيتاً من الشعر ننظمها كأجود ما تكون، هذا العقبي الذي لم تكتحل عين الوجود بأعلم من هذا الرجل ولا أبر ولا أتقى ولا أصلح، وهو مؤسس جريدة القبلة وبعدها أم القرى الموجودة الآن، وقد عاش في هذه الديار، وجاء من بلاده بلاد عقبة بن نافع الفاتح لإفريقيا، فقد جاء رضيعاً مع أسرته آل العقبي، فلما كانت الحرب الأولى وخافت الدولة العثمانية من المجاعة رحلت أهل المدينة والحجاز إلى الشام وإلى تركيا وإلى حيث شاءوا خوف المجاعة عليهم، فسافر الشيخ رحمه الله تعالى.والشاهد عندنا: هو الذي ذكر هذا الحديث: ( يا ابن أم عبد! اقرأ علي شيئاً من القرآن )، فحضر للدرس عامل في الميناء، وهو عامي لا يقرأ ولا يكتب، فأخذها وكان يأتي إلى قرانا الصحراوية أيام العطلة عنده، فكان يجلسني بين يديه وأنا غلام في الثامنة أو التاسعة، ويتربع في جلسته ويقول: يا أبا بكر! أسمعني شيئاً من القرآن، وأقرأ عليه القرآن وهو والله ما يقرأ ولا يكتب، وإنما فقط فهم هذه وقررها الشيخ الطيب في نادي الترقي، وأخذها هذا العامي وطبقها فيَّ، وذلك في المسجد، فيثني ركبتيه ويقول: اقرأ علي شيئاً من القرآن.فهل فهمتم هذه؟ أنتم تقرءون القرآن على الموتى، فمن إندونيسيا إلى موريتانيا إذا سمعت القرآن في منزل فاعلم أن هناك جنازة، فيا من يقرءون القرآن على الموتى، تعالوا فبينوا لنا هذا الطريق؟ هل أنت توبخ هذا الميت فيقوم ويتوب؟ أو لما تأمره أو تنهاه يستجيب؟ مات، وهل قرأ الرسول على الأموات؟ أعوذ بالله، فكيف إذاً تقرأ على ميت؟! بين لي؟ ما يفهمون! والله يقول في سورة يس: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70]، لينذر من كان ميتاً أو من كان حياً؟ حياً، قال تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:69-70]، وما قال: من كان ميتاً، فلا إله إلا الله! ثم قرأ عبد الله بن مسعود: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، حتى انتهى إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:41-42]، قال: وإذا بعيني رسول الله تذرفان الدموع، ويقول: ( حسبك، حسبك )، فكيف تنسى هذه الآية العظيمة؟! فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ [النساء:41]، أي: أمتك، شَهِيدًا [النساء:41]، كادت نفس الرسول أن تطير.كما جاء في هذه السورة بيان للوضوء والغسل والتيمم، وذلك قبل أن تعرف الأمة الوضوء أو الغسل أو التيمم.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
24-05-2021, 05:26 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (87)
الحلقة (309)
تفسير سورة النساء (9)


جعل الله عز وجل من أسباب الإرث النسب، وهذا الصنف يرث فيه الآباء والأبناء للذكر مثل حظ الأنثيين، والصنف الثاني يرث بالمصاهرة، وفيه يرث الأزواج والزوجات، فمن لم يكن له أبناء ولا آباء ولا زوج فإنه يورث كلالة، فيرثه من يحوطونه من الإخوة والأخوات، فإن كان واحداً من أمه فله السدس، وإن كانوا أكثر من واحد من الأم أيضاً فهم شركاء في الثلث.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن في سورة النساء ومع آيتي التركات والوراثة:
معنى قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم ...)
الآية الأولى اشتملت على بيان وصية الله تعالى لنا بتقسيم التركة حسب علمه تعالى وحكمته؛ إذ قال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، مات مؤمن وترك أهلاً وأولاداً، أربع بنات وثلاثة أولاد، إناث وذكر واحد.هنا التركة تقسم حسب علم الله وأمره: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، إذا أخذ الرجل ألفاً تأخذ المرأة نصفه، أخذت المرأة ألفاً يأخذ الذكر ألفين.. وهكذا، قاعدة عامة مشى عليها المسلمون منذ أن نزل هذا القرآن إلى اليوم: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، يجب على العامي أن يحفظ هذه الجملة: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]. فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً [النساء:11] ما ترك ذكوراً، ترك بنات كبيرات أو صغيرات: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النساء:11] فماذا يعطون؟ ثلث التركة، والثلث الباقي لأولى رجل ذكر من العصبة، وإن لم يكن عدداً من البنات وكانت بنت واحدة فلها النصف، اسمع الآية: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11].وإذا كان هناك أبوان: أبا الميت وأمه، فقال تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:11] مع الذكور والإناث، أو مع الإناث فقط، أو مع البنت الواحدة، مادام الميت ترك ولداً ذكراً أو أنثى، الأب والأم السدس.إذاً: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11]، الولد يطلق على الذكر والأنثى بمعنى المولود. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ [النساء:11] فقط، مات سعيد ولم يترك ولداً، وإنما ترك والده إبراهيم وأمه زليخة، فكيف يقتسمان التركة؟ الثلث للأم والثلثان للأب: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]. فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11]، مع الأب والأم عنده إخوة له هو فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] حجبت من الثلث إلى السدس ببركة هؤلاء الإخوة. فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]، فإن كان له أخ فقط ما يحجبها، ذراعه ما هو طويل، ما يغطيها أبداً، أما إذا كانوا اثنين وثلاثة نزلوا بها من الثلث إلى السدس؛ وذلك كله: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، وقدمت الوصية؛ لأنها عادة لا يوجد من يدافع عنها، وصية للمسجد أو لطلبة العلم أو فقراء، بخلاف الدين فكل من له دين يقف عند الباب يطالب بدينه، ذي لطيفة قرآنية!قد يقول قائل: لِم قدمت الوصية عن الدين، مع أن الدين أوجب أو لا؟ الوصية إذا كانت أكثر من الثلث باطلة، أليس كذلك؟ ولكن الدين الريال والمليون أصحابه يطالبون في الدنيا والآخرة. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا [النساء:11] أي: الميت أَوْ دَيْنٍ [النساء:11].ثم قال تعالى: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ [النساء:11] كلهم هؤلاء: لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا [النساء:11]، إذاً: فلا تتململوا وتقول: لِم أعط السدس، لِم أعط الثلث؟ لم أعط الكل؟ ما هو شأنكم أليسوا بآبائكم وأبنائكم؟ أنتم.. أنتم. لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النساء:11]، فرض هذه الفريضة لا تقبل أبداً الاحتيال ولا الإيقاف ولا التصرف لا بد من إيجادها، ومن الفارض لها؟ العليم الحكيم.لو كان الذي فرضها جاهل يراجع القضية ما عنده علم، لكنه الذي علم وأحاط علمه بكل شيء، وعلم بالأشياء قبل أن يوجدها، ولولا ذلك العلم والله ما نوجد في الحياة عام واحد وانتهت، كيف بآلاف السنين؟حكيم، لو كان أحمقاً لا يفرق بين الحق والباطل، ممكن أعطى السدس والحق أنها تستحق الثلث؟ يقع وهذا احتمال أو لا؟ لكنه الحكيم، هو خالق الحكمة وواهبها، فكيف تنقصه، فلا يضع الشيء إلا بموضعه.وأؤكد لكم: هذه البشرية كلها لو تريد أن تنتقد الله في حكم من الأحكام! وتريد أن تستبدله بما هو خير، والله الذي لا إله غيره ما حصلت ولا وصلت إلى هذا المستوى، مستحيل.هذه الآية الأولى فيها بيان ماذا؟ الوراثة بالنسب.
معنى قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم ...)
الآن مع الآية التي فيها وراثة بالمصاهرة؛ إذ علمنا أن أسباب الميراث ثلاثة، ما هي؟النسب، والمصاهرة، والولاء، من منكم يذكر آية فيها ذكر النسب والمصاهرة؟قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [الفرقان:54]، إما بفلان بفلان، وإما فلان زوج فلانة، كل البشر هكذا، إما نسباً وإما صهراً. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا [الفرقان:54] آدم فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [الفرقان:54].الآن آية النسب عرفناها: كيف نوزع تركتها. مع الآية الثانية أو بعضها، وهي آية المصاهرة، قال تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12]، إذا مات الرجل.. لا، إذا ماتت السيدة -باللغة المصرية- إذا ماتت السيدة فلزوجها نصف تركتها، وإذا مات السيد فلزوجته ربع التركة؛ بشرط: ألا يكون هناك ولد. وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ [النساء:12] أي: الزوجات: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا [النساء:12]، والمرأة توصي أو لا؟ نعم توصي، لها حق في الثلث، توصي به للمسجد، للفقراء، لطلبة العلم، للحجاج، للمسافرين: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، والمرأة قد يكون عليها دين أو لا؟ إي نعم، وَلَهُنَّ [النساء:12] أي: النسوة الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النساء:12] أيها الرجال: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، هذه آية المصاهرة مختصرة، واضحة.رجل مات وترك زوجته، ماذا ترث الزوجة هذه؟ترث الربع إن لم يكن له ولد، فإن كان له ولد أو أولاد؛ فلها الثمن.العكس: الزوجة ماتت ولم تترك ولداً، وتركت مبلغ عند الراجحي مليون ريال، فللزوج كم؟ النصف، فإن كان لها ولد منه أو من غيره فله الربع فقط.تأملوا: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ [النساء:12]، أي: الزوجات الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النساء:12] أيها الرجال إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ [النساء:12].
معنى قوله تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة ...)
ننتقل إلى باقي الآية لا بأس، ونراجع، يقول تعالى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ [النساء:12]، هذه ما جاءت في الآية الأولى لحكمة: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [النساء:12].هذه الجملة تسمى: الكلالة، إرث الكلالة، ما هي الكلالة؟ هي أن يهلك الهالك- وكلنا هالك إلا وجه الله- ولا يترك أباً ولا أماً ولا ولداً ولا بنتاً، وترك إخوته من أمه؛ فإن كان أخ فقط له السدس، فإن كانوا اثنين فأكثر فهم شركاء ولهم الثلث.لِم سميت الكلالة كلالة؟ لأنها كالإكليل على الرأس؛ لأنهم يحيطون به، ما هم أصول ولا فروع، ولكن يحيطون به، وستأتي كلالة وهي: إخوة من الأب والأم في آخر سورة النساء، غداً إن شاء الله، لكن هذه كلالة خاصة بالإخوة للأم.اسمع النص: يقول الله تعالى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ [النساء:12] أي: يوجد رجل يُورَثُ كَلالَةً [النساء:12] أي: ما عنده أب ولا أم ولا ولد، أَوِ امْرَأَةٌ [النساء:12] إذ لا فرق بين الرجل والمرأة، الذي يورث كلالة من هو؟ رجل ما ترك أباً ولا ولداً، أو امرأة ماتت وما تركت أباً ولا ولداً، ورثها إخوتها لأمها، لا فرق بين الرجل والمرأة. وَإِنْ كَانَ [النساء:12] أي: وإن وجد رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ [النساء:12] تورث كلالة: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:12]، مات الرجل ولم يترك أباً ولا أماً، ولا ولداً، ولكن ترك أخته فقط، كم لها؟السدس.ما ترك أختها ترك أخاً، كم له؟ السدس: فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا [النساء:12] على انفراد: السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء:12]، اثنين، ثلاثة عشرة.. عشرين: فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12]، انظر إلى ما تقدم، تجد هذه هي تركة المرأة، هذا هو إرث المرأة، المرأة ترث السدس مع الولد أو لا؟إذاً: هذا الولد، انفرد بالأخ هذا يرث كما ترث المرأة السدس، فإن كانوا أكثر من ولد، أكثر من أخ؟ شركاء في الثلث؛ لأن المرأة إذا لم يوجد ولد تأخذ الثلث.هيا نتلو الآية وتأملوا: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء:12] كان بمعنى: وجد، (كان) تامة: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء:12]، ما معنى: يورث كلالة، أي: يرثه من يحيطون به من غير الآباء والأولاد.(كلالة) وسميت بذلك لأنهم الإكليل على الرأس، ومن يرث هذا الميت؟ليسوا بأصول ولا فروع، لا أب ولا ابن ولا أم ولا بنت، يرثه من؟ إخوته الذين يحوطون به.قال: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [النساء:12]، إما ترك أخاً أو ترك أختاً لأمه: فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:12]، يأخذ السدس ومع السلامة، والباقي للأعمام، لأبناء الأخ: ( لأولى رجل ذكر )، وهم العصبة.قال: فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء:12] ثلاثة أربعة إخوة لأمه: فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12].لطيفة! أنتم الآن إن شاء الله فهمتم: أن الميت إذا مات وما ترك أباً ولا ولداً ولا أماً، ترك إخوته لأمه فقط، كيف يأخذون التركة؟ إن كان واحد أو واحدة أخذ السدس، كانوا اثنين.. ثلاثة فأكثر أخذوا الثلث، والباقي لمن؟ للعصبة؛ عمه ابن عمه، ابن أخيه مثلاً.

يتبع

ابوالوليد المسلم
24-05-2021, 05:26 AM
المسألة الحجرية أو الحمارية
في قضية تسمى بالحجرية، أو الحمارية نتجت عن هذه، وهي -سلمكم الله-: أن تموت امرأة وتترك زوجها وأمها وإخوة لأمها، وأخاً لأبيها أو لأبيها وأمها، كيف نقسم هذه التركة؟نقول: الزوج صاحب النصف، ما نتردد، والأم ترث الثلث، ما في من يحجبها عن الثلث؟وأما الإخوة لأم، فإذا كان الزوج له النصف، وهو ثلاثة من ستة، والأم لها اثنان وهي الثلث من ستة، وبقي واحد يرثه الإخوة لأم والأخ الشقيق أو لأب ليس له حظ هنا، لأنه ما بقي شيء.هذه القضية رفعت إلى عمر ، فشكا الأخ للأب أو الشقيق، قال: يا عمر افرض أن أبانا حجراً، أليست أمنا واحدة، كيف نحرم؟ فسموها الحجرية.أو: يا عمر : افرض أن أبانا حماراً أليست أمنا واحدة، لِم نحرم نحن؟ قال: ما بقي لكم شيء، الزوج صاحب النصف، والأم صاحبة الثلث، والإخوة للأم لهم السدس.قال: [ وهذا ما يعرف بالحجرية أو الحمارية أو المشتركة يعني: أن تموت امرأة وتترك زوجها وأمها وإخوة لأمها وأخاً لأبيها وأمها: فللزوج النصف، وللأم السدس -لأن الأولاد حجبوها من الثلث- وللأم السدس، والباقي للإخوة لأم، ولا شيء للإخوة لأب، أو لهما معاً، وسميت بالحمارية؛ لأنهم لما منعوا قالوا للقاضي بينهم: هب أن أبانا حماراً، أليست أمنا واحدة، كيف ما تعطينا، وقالوا: هب أن أبانا حجراً، أليست أمنا واحدة، وطالبوا بتشريكهم في الإرث فسميت بالمشتركة ].
حكم الجور في الوصية من قبل مورث الكلالة
نعود إلى آية الكلالة، يقول تعالى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ [النساء:12] وإن كانت امرأة لا فرق بين الرجل والمرأة: (يورث كِلالة) أي يرثه من يحوطون به، لا الآباء ولا الأولاد، من الإخوة، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:12]، كذا البنت لها السدس ولد له السدس؛ لأنه واحد فقط، والباقي للعصبة: فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء:12]، ثلاث أخوات مثلاً أو إخوة: فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12] فقط؛ وذلك مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ [النساء:12]، هذه اللطيفة ما جاءت في الأولى؛ لأن المورث يعرف الوارثين له: إخوة لأم، والإخوة للأب والأشقاء ممنوعين، فيوصي، أو يدعي أن لفلان عليه دين كذا، فإذا ثبت أنه ادعى ديناً وهو لا وجود له، أو أوصى بوصية وهو غير صادق فيها فهذه قسمة باطلة، ولا يصادق على الوصية ولا على الدين؛ لأن هذا الدين أراد به الإضرار بالذين يرثون وهو لا يريد أن يرثوا، لاسيما وقد يحرم ابن امرأته من أخ لأب أو لأم وأب.فقال تعالى: أَوْ دَيْنٍ [النساء:12] حال كونه غَيْرَ مُضَارٍّ [النساء:12]، ومضار بمعنى مضارر، للتبعيض أدغمت الراء في الراء: غير مضارر، وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ [النساء:12].. هذا الذي قرأناه كله وصية من الله، وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [النساء:12]، ووصية الله يجب أن تنفذ أو لا؟وسبق أن قلت لكم: إن الأمر أهون من الوصية، الوصية آكد، وكل العقلاء ينفذون الوصية، بخلاف الأمر، وصية هذه في المصاهرة وفي النسب وصية من أين؟ مصدرها الله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [النساء:12] هنا، حليم رحيم.إذاً: فلا يرضى أبداً أن يضيع حق عبد من عبيده؛ بسبب التعصب أو الشعور بأن فلاناً آذاه، أو ما نال منه خيراً طول حياته؛ يحاول أن يخرجه من التركة بأن يوصي بأشياء ليست لازمة، أو يدعي ديوناً ويسجلها ولا يوجد ثمة ديون، فلحلم الله تعالى لا يرضى بهذا.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
الآن نعود من جديد، أولاً: أوصانا الله عز وجل بأن نوزع تركاتنا عند وفاة أحدنا على الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، كذا أو لا؟ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، ما ترك هذا الولد بنين وبنات، بل ترك بنات فقط، فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11]، ثلث وثلث تثنية ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11]، وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً [النساء:11] فقط، ما هم نسوة، فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11] بالإجماع، والباقي بالعصبة الأقرب فالأقرب الذكور، وَلِأَبَوَيْهِ [النساء:11] هذا الذي مات وترك بنين أو بنات، مات وترك بنات، مات وترك بنتاً واحدة، ما يكون للأب والأم مع وجودها؟ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11]، فإن لم يكن له ذكر أو أنثى وورثه أبواه فلأمه الثلث والباقي للسيد للأب: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11] يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، والباقي للأب بكامله، بالعصبة وبالفريضة: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11] ولو كانوا شيوخاً مثلي ومثلك، ما في فرق بين الكبير والصغير، ولا الذكر والأنثى. فرغنا من هذه .. هيا إلى المصاهرة.المصاهرة: معناها: أن يموت زوج أو تموت زوجة؛ لأن كلاً منهما يصهر في الثاني ويصبحا كجسم واحد: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12]، يعني: هنا زوجاتكم إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ [النساء:12]، لا من هذا الزوج ولا من غيره؛ إذ من الجائز أن يكون للمرأة ولد من هذا الرجل، وأولاد من رجل آخر: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ [النساء:12] إن فرضنا، فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ [النساء:12] فماذا للرجل؟ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ [النساء:12]، وهذا مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، وهن أي الزوجات: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النساء:12] أيها الرجال الأزواج إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ [النساء:12] ماذا؟ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12].وسبق أن نبهنا أنه لا فرق بين أن تكون الزوجة واحدة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع .. إذا كان نصيبها الثمن يقتسمن الثمن كلهن، وإذا كان نصيب الزوجة الربع فيقتسمن الربع، ولهذا إذا توفي وهي تأخذ الربع ما تقبل الضرة، ما تسمح له أن يتزوج بأخرى، فمن هنا مادام هذا الزواج إضافي يجب أن يتحمل النقص إذاً، لما كانت واحدة الربع في ذلك أخذته، لكن لما جاءت أخرى تساعدها على الفراش والطعام والرحى والطحن وما إلى ذلك، لا بد وتقتسم معها هذا الربع، وإن بلغن أربعاً. هذا بالإجماع بلا خلاف بين المؤمنين. مات الرجل وترك زوجتين .. ثلاث، وترك أولاداً؛ فلهن الثمن يقتسمنه بينهن، مات ولم يترك ولداً ولا بنتاً، وإنما الزوجات فلهن الربع يقتسمنه كالواحدة.اسمع الآية: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ [النساء:12] ماذا؟ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ [النساء:12] أي: الزوجات: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ [النساء:12] من هؤلاء الزوجات: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النساء:12] بشرط أو لا؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ [النساء:12]، يجوز الثمُن والثمْن، الربُع والربْع الخمُس والخمْس لغات فصيحة.
مفهوم الكلالة ومن يرثه
والآن مع إرث الكلالة. ما الكلالة؟ أن يموت المؤمن ولا يترك أباً ولا جداً ولا ولداً ولا أولاد ولد ولا أماً، من يرثه؟ من يحوطون به من إخوته لأمه أو إخوته لأبيه وأمه، إلا أن الآية التي فيها هذا أتت متأخرة في آخر سورة النساء، لكن إن شاء الله نبينها. عمر على جلالته عاتبه الرسول عتاباً شديداً في هذه القضية؛ لكثرة سؤاله وتردده عليه فيها.اسمع الآية: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ [النساء:12]، أي: وجد رجل يُورَثُ كَلالَةً [النساء:12]، أو وجدت امرأة تورث كلالة، وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [النساء:12] ما هم بآبائه ولا أولاده، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:12]، إن وجد واحداً، أما إن كانا مع بعضهما البعض فلهما الثلث، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء:12] اثنين فأكثر فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12]، ما في أكثر من الثلث، مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ [النساء:12] حالية هذه، غير مضار به أحداً؛ إذ يوجد من الضالين أو الضائعين يحسد الورثة، يكتب ويشهد اثنين بأن فلاناً كفل علينا خمسمائة بسبب كذا وكذا، همه أن يحرم ويضر بهذا الدين، ما هو بدين أو وصية، أراد أن يموت وأولاده وإخوانه فقراء، وحسدهم، فقال: أوصينا بالثلث في بني فلان، ولم يرد وجه الله، فقط أراد حرمان هؤلاء الورثة، لمرض نفسه، هل يقبل هذا؟ ما يقبل؛ لأن الله اشترط هذا القيد: غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [النساء:12]، ما قال: حكيم كالأولى، بل حليم ما يرضى الظلم والاعتداء، عبيده كلهم في مستوى واحد، ما يرضى أن يؤخذ حق واحد لا بالكذب ولا بالاحتيال.
مسائل في الميراث
الآن من باب التكرار نسأل ونجيب.مسألة: مات رجل وترك أولاداً، وما ترك أباً ولا أماً، كيف تقسم هذه التركة؟نقسمها للذكر مثل حظ الأنثيين لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].مسألة: هلك هالك رحمة الله عليه، ما ترك أولاداً بنين أو بنات بل ترك بنات اثنتين أو ثلاث أو أربع، ماذا نصنع بالقسمة؟لهن ثلثا ما ترك، والثلث الباقي للعصبة، والدليل: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11] .مسألة: هلك هالك وما ترك إلا بنتاً فقط اسمها زليخة، وترك أعمامه وإخوانها، فهذه البنت ماذا نعطيها؟من أدبنا مع الله نقول: نحن لا نعطيها، بل الله يعطيها، الله ما ينزل يقسم بين التركات، الله أعطاها، أعطها من التركة هذه النصف؛ لأن الله أعطاها كذا، والدليل على ما نقول: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11].مسألة: هلك هالك وترك بنتاً فأخذت النصف، وأباه وأمه ما لهما؟البنت تأخذ النصف، والأبوين لكل واحد منهما السدس والباقي للأب تعصيباً؛ لقول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ [النساء:11].لماذا يأخذ الأب السدس هنا؟ لأن له ولد، الولد هو المانع، فلأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ [النساء:11] ، فلأمه الثلث ولأبيه ولأبيه الثلثان الباقيان.والأب هو العاصب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ).مسألة: ماتت امرأة وتركت زوجها وليس لها ولد، كم للزوج؟النصف؛ لقول الله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ [النساء:12]، فإن فرضنا أنها تركت ولداً، فلزوجها الربع، ما الدليل؟ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ [النساء:12].مسألة: هلك رجل وترك زوجة فقط ما أنجب ولا أنجبت، هذه الزوجة ماذا ترث من تركة زوجها؟ تأخذ الربع والباقي للعصبة أولاد العم أو الإخوة شأنهم. فإن هلك وترك أولاداً ماذا ترث زوجته منه؟الثمن فقط بلا زيادة ولا نقصان، ما الدليل؟ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النساء:12]، بينا أنه لا فرق بين الزوجة أو الزوجات في هذه القضية، الإرث واحد، الربع يقتسمنه، الثمن يقتسمنه.وأخيراً: ما هي الكلالة؟أولاً: ما هي آية الكلالة؟آية الكلالة هي: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ [النساء:12] وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ [النساء:12] تورث كلالة، فما الحكم؟ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [النساء:12] أو إخوان من أم هؤلاء انتبهتم؟ لا من الأب ولا أشقاء. ترك أخاً أو أختاً أو أخوين أو أختين من أمه، فما الحكم؟ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:12] إن كان واحداً فله السدس، واحدة لها السدس، كانوا اثنين فأكثر هم شركاء في الثلث لا للذكر مثل حظ الأنثيين، بل يقتسمون الثلث بالسوية، عرفتم؟ له أخت من أمه وأخ من أمه، يأخذان الثلث يقتسمانه بالتساوي، والآية الكريمة هي قوله تعالى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [النساء:12] أي: من أمه.في مسألة الحجرية أو الحمارية لما منعهم القاضي من حظهم وقسم، أعطى للزوجة النصف، وللأم الثلث، والباقي للإخوة للأم، والإخوة الأشقاء أو لأب ما حصل لهم شيء، قالوا: لم ما نعطى؟ افرض أن أبانا حماراً، لكن أمنا واحدة، فقال: هذا الذي أعطاكم الله، عرفتم الحمارية أو الحجرية أو المشتركة أو المشترِكة.وصلى الله على نبينا محمد.

ابوالوليد المسلم
24-05-2021, 05:28 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (88)
الحلقة (310)
تفسير سورة النساء (52)


يبين الله سبحانه وتعالى حال المنافقين في المدينة، وما كانوا عليه من الخديعة للمسلمين والغش لهم، فعادوا بعد الإيمان إلى الكفر، ومن الهداية إلى الضلال، ومن كان هذا حاله فلن يكتب الله له الهداية أبداً بما كسبت يداه؛ فهم مع كفرهم وعتوهم يتمنون للمسلمين لو يكفرون مثلهم ويرتدون عن دينهم ليكون حالهم واحداً، حسداً من عند أنفسهم.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين.وها نحن مع سورة النساء المدينة المباركة، ومع هذه الآيات الخمس، وقد شرعنا البارحة في دارسة آية منها وما وفيناها حقاً، فهيا بنا إليها أولاً، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا * فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:87-89].والآيات سياسة حربية في أعلى الدرجات، ومردها إلى إمام المسلمين، وإلا فما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى الشرك والمشركون من الجزيرة؛ لأن آخر ما نزل هو قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5]، وذلك حتى لا يجتمع دينان في الجزيرة، ويبقى خارج الجزيرة فإلى إمام المسلمين، إذ قد يضطر إلى هذه التوجيهات الإلهية ويعمل بها، وسوف نقف عليها إن شاء الله قضية بعد أخرى.
وجوب توحيد الله في عبادته
قد علمنا بالأمس أن الله تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنه لا إله إلا هو، وتقرر وتأكد وثبت باليقين أنه لا إله حق إلا هو، ولا معبود حق أو معبود يستحق العبادة إلا الله تعالى، فلو بحثت في الشرق أو في الغرب أو في السماء أوفي الأرض عمن يستحق أن يعبد، والله ما وجدت ولن تجد، لماذا يا هذا؟والجواب: لأن الذي نحبه بقلوبنا، ونذل له، ونخضع بألسنتنا وجوارحنا له، ذاك الذي وهبنا حياتنا، فخلقنا ورزقنا وحفظنا، وخلق الأشياء في الكون من أجلنا، حتى الجنة والنار، فهذا الذي نعطيه قلوبنا، وهذا الذي بيده كل شيء، وإليه مصير كل شيء، فكيف لا نركع له ونسجد؟! ومن عدا الله سواء كان ملائكة في السماء أو ملائكة في الأرض أو أنبياء أو صلحاء أو أياً كان لا يستحق أن يكون إلهاً، وما اتخذ الجهال من آلهة فهي إنما آلهة باطلة.وإن شئت أن تضحك: فهذا النصراني الذي يعبد الصليب ويعلقه في عنقه، هو رمز إلى أن عيسى بن مريم قد صلبه اليهود، ووالله ما صلبوه وما قتلوه، ولو كان رباً إلهاً خالقاً مدبراً يقتله أعداؤه؟! أي فهم هذا؟ وأي سقم هذا؟ وأي مرض هذا؟! فالذي يُعبد وتنحني له وتركع وتسجد له يقتله عدوه؟! وهل يصح أن يكون هذا إله؟! إنهم يضحكون عليهم ويسخرون منهم، وأما الأصنام والأحجار والأشجار فهي عبارة عن تماثيل أمام العابدين، وهم يعتقدون أنها تستمد خيراتها وبركاتها من الله، فهم يتقربون بها إلى الله تعالى، ولذلك عبدوها بدل أن يعبدوا الله عز وجل.والخلاصة: لو يصلب أحدنا أو يحرق أو يقتل على أن يقول: يوجد إله مع الله، مستحيل أبداً، إذ لا وجود له، فلا إله إلا الله! وهذه شهادة الله التي حفظناها، وما زلنا نتوسل بها إلى الله، شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ [آل عمران:18]، الذين يجوبون العوالم، فقد شهدوا أنه لا إله إلا الله، وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، أي: من الرسل والأنبياء إلى أتباعهم من أهل العلم، فالكل شهدوا أنه لا إله إلا الله، فكيف توجد لي إلهاً آخر؟!وكما قلنا: هذه الآية بلغوها لإخوانكم، فإذا لم تستطيع أن تستدل على وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته بآيات الكون ولا بآيات القرآن، فعلِّمه فقط، فيقول: أنا أشهد بشهادة الله، أي: مادام أن الله قد شهد فأنا أشهد بأنه لا إله إلا الله، والله لكان من أهل الشهادة، وإذا زاد: (والملائكة) أيضاً، فأنا أشهد بما شهد الله وما شهد به الملائكة، وأولوا العلم أيضاً، وبالتالي أصبح يقيناً ثابتاً مستقراً في نفسه، شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ [آل عمران:18]، أيضاً شهدوا، وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، شهدوا، وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، أبدأ بالرسل والأنبياء وبالعلماء التابعين لأنبيائهم والعالمين بكتب ربهم.وصاحب هذه الشهادة لا تثبت له ولا تصح ولا تقبل ولا يثاب عليها إلا إذا حققت أمرين ضروريين: الأول: أن تعبد الله الذي شهدت ألا معبود إلا هو، فإن لم تعبده فأين أنت من شهادتك؟ فكيف تعلن أنه لا معبود بحق إلا الله ولا تعبده؟! إذاً أنت متهم بأنك تكذب، إذ لو كنت صادقاً فيما علمت وشهدت لعبدت قبل الناس.الثاني: ألا ترضى بعبادة غيره، فإن كنت تجالس من يعبدون غير الله، فتضحك وتأكل وتشرب معهم، وأنت مقتنع بعبادتهم، فإن هذا الموقف يقدح في شهادتك. مرة أخرى: الأمران هما: الأول: أن تعبده وحده، وثانياً: ألا ترضى أبداً بعبادة غيره حتى ولو كان العابد أباك أو أمك؛ لأنك تقرر وتعلن أنه لا يستحق العبادة إلا الله، فكيف إذاً ترى من يعبد غيره وترضى بذلك؟!والآن بم يعبد الله عز وجل؟ يجب على من شهد أنه لا معبود إلا الله أن يعرف بم يعبد الله؟ وكيف يعبده؟ ولا يصح أن يبقى في قريته أو على رأس جبله، بل يجب عليه أن يسأل أهل العلم كيف نعبد الله؟ وبم نعبده؟ لأنه إذا لم يعلم كيف يعبد الله وبم يعبد هل يستطيع أن يعبد؟لا والله، ولهذا فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، فما هي أنواع العبادات؟ الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، العمرة، الجهاد، الرباط، ذكر الله، تلاوة كتابه، صلة الأرحام، البر، التقوى، وكلها ينبغي للمؤمن والمؤمنة أن يعرفها ويعرف كيف يؤديها؟ فمثلاً: الصلاة عبادة قطعاً، وهي عمود الدين، فإذا لم يعرف كيف يصلي فهل ينفعه علمه؟ لا والله، يقول: أنا أعرف أن الصلاة عبادة، إذاً كيف تصلي؟ ما علمت بعد، إذاً تعلم: كيف تتطهر؟ وكيف تستقبل بيت الله؟ وكيف تنوي أنك بين يديه؟ وكيف تعلن عن دخولك في العبادة؟
الإيمان بالبعث والجزاء
إذاً: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [النساء:87]، هذا المبتدأ، وعزتي وجلالي يقول: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [النساء:87]، فهل (إلى) صلة بمعنى زائدة، ويصبح الكلام: ليجمعنكم يوم القيامة؟ وهو والله لحق، ليجمعنا يوم القيامة، ويصح أن تبقى (إلى) على معناها، أي: ليجمعنكم في الأرض في قبوركم، ثم يوم القيامة يخرجكم من قبوركم، وها نحن الآن نتجمع في الأرض، أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25-26]، فالأحياء على ظهرها، والأموات في بطنها، فإذا ما تبنوها تدخله في بطنها، والآخرون كالقمل يمشون على ظهرها، فإذا مات أحدهم تستل وتدخله في بطنها، فهل هناك من يخرج عن الأرض؟ لا، وإنما نتجمع، وهذا التجمع ليوم القيامة حيث يوم الجزاء والحساب الدقيق، ثم إما النعيم المقيم أو العذاب الأليم. لا رَيْبَ فِيهِ [النساء:87]، أي: ليوم لا ريب في وقوعه، ولا شك أبداً في أن يوم القيامة آت لا محالة، وقيل: في يوم القيامة لأننا نقوم من مضاجعنا تحت الأرض، فهل يبقى إنسان لا يقوم فتجحده الأرض أو هناك من يغطي عنه؟ والله لا يتخلفن إنسي ولا جني، وإنما الكل يقوم، فهذا هو يوم القيامة الذي لا ريب فيه أبداً، وكيف نعلم أنه لا ريب فيه؟ قد نفى الخالق أن يكون في هذا اليوم شك في قلب إنسان، ومن أصدق من الله قولاً وحديثاً ووعداً؟ ولذا فما علينا إلا أن نقول: آمنا بالله، وقد حلف الله جل جلاله على أنه سيجمعنا تحت الأرض وذلك ليوم القيامة، وسيجمعنا يوم القيامة ويحشرنا في ساحة واحدة، أبيضنا وأصفرنا، ويجري الحساب في فترة من الزمن مقدارها خمسون ألف سنة من أيامكم هذه.ثم تستقر الحياة على ما هي عليه، فأهل الكمال والطهر والصفاء، وأهل التوحيد وعبادة الرب في الملكوت الأعلى، وأهل الكفر والشرك والفسق والفجور في أسفل سافلين من الكون، وما بقيت سماء ولا أرض، وإنما عالمان: علوي وسفلي، فالعلوي فوق هذه السموات السبع، إذ إن هذه السموات السبع تتبخر وتصبح وردة كالدهان، أي: حمراء تسيل، وكل الذي فيها يذوب ذوباناً، فأين السموات؟ انتهت، وعالم دار السلام فوق ذلك، والعالم السفلي ما هو تحت هذه الأرض، ولا هذه الأرضين السبع، وإنما هو عالم آخر، فهل هناك من هو أصدق حديثاً من الله تعالى؟ ها هو تعالى يحلف أنها سيجمعنا ليوم القيامة، فهل يبقى في نفوسنا شك؟ وهل جربنا على الله كذباً أو خلف وعد وعدنا؟ مستحيل أبداً، فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87].إذاً: الإيمان بالله والإيمان بالبعث الآخر هما العقيدة التي إن فقدها الإنسان تمزق وتلاشى، بل وصار شر الخلق، إذ إن الإيمان بالله يعني الإيمان بأن الله موجود حي قيوم ذو جلال وإكرام، ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى، وبيده كل شيء وإليه مصير كل شيء، وهو الخالق، وهو الرازق، وهو المدبر، وهو الله الذي لا إله إلا هو، والثاني الإيمان بالبعث الآخر والحياة الثانية، وما يتم فيها لعباد الله تعالى.فالعقيدة مبناها على هذين المعتقدين، فإذا حصل أدنى ريب أو زلزال أو ضعف في الإيمان بالله أو في البعث الآخر هبط الآدمي، ولا يستطيع أن يستقيم ولو يوماً واحداً، بل لا بد وأن يكذب ويفجر، وذلك إذا لم ترسخ هذه العقيدة في قلب الآدمي، ذكراً كان أو أنثى، وهو أنه لا إله إلا الله، وأن البعث والدار الآخرة حق، فإذا لم تكن هذه في نفسه ما يستطيع أن يستقيم، بل لا بد وأن يعوج، ولا بد أن يكذب ويسرق ويفجر، وممكن أن يقتل أمه، ومن هنا جاءت الآيات القرآنية مثل قوله: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، وقوله تعالى: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232]، حتى النساء الحيض التي تؤمن بالله واليوم الآخر ما تجحد الحيض وتكذب وتقول: أنا طاهرة، وهذه أدنى مسألة، وكذلك إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يكتمن ما في أرحامهن.إذاً: علموا البشرية أنها لا تستقيم على منهج الحق إلا إذا آمنت بالله حق الإيمان، وآمنت بالبعث الآخر والجزاء والحساب، وبدون هاتين القاعدتين من قواعد الإسلام وأركانه لا يمكن للعبد أن يستقيم، لكن قد يستقيم عاماً أو عامين ثم يهبط ويعوج وينحرف، وكل انحراف واعوجاج في الإنسان مرده إلى الكفر بالله واليوم الآخر، أو إلى ضعف إيمانه بالله واليوم الآخر، ولا تتردد في هذا.وهذا ما أفادنا من قول ربنا: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، وهذا كالتعليل والتشجيع لأن نعمل الحسنات ونتجنب السيئات، إلى أن نشفع فيما هو حبٌ لله ورضاه، ولا نشفع فيما هو غضب لله وسخطه، ولنعيش على السلام والطهر والصفاء، وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، لم؟ لأن الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة.والآن مع هذه الآيات نأخذ في بيانها، فأولاً: أعيد إلى أذهانكم أن هذه الآيات كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وستسمعون ما كان يجري في هذه الديار، والذي استقر: أننا لا نقول: هذه الآيات منسوخة، وذلك أحسن وإن قال من قال، وإنما نقول: هذه الآيات عمِل بها في وقتها، ثم قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم نسخ الله كل أمر يوقف القتال في هذه الجزيرة، أي: كل أمر يقر الشرك وبقاؤه في هذه الديار، وذلك بقوله: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]، لماذا؟ فالرسول قريب سيرحل إلى الملكوت الأعلى، وهذه هي قبة الإسلام وبقعة النور ومصدر الحياة، فلا ينبغي أن يوجد فيها شرك ولا كفر أبداً.وقد أوصى الرسول ونفذ عمر: ( لا يجتمع دينان في الجزيرة )، أي: في هذه الجزيرة، إذ لا يحل أن توجد كنيسة ولا بيع ولا معبد للمجوس أبداً، إذ إن هذه قبة الإسلام وبيضته، وأعيد إلى أذهان بعض السامعين أن مسيو الفرنسي كتب في الجريدة يقول: لمَ نمنع السعودية من إقامة ديننا ونحن نسمح ببناء المساجد في ديارنا؟! فكتبت كلمة رددت فيها عليه وترجمت، وقد قلت له: يا مسيو! المملكة هي عبارة عن قبة الإسلام، فهل منعناكم من وجود كنيسة في سوريا أو في العراق أو في مصر أو في المغرب أو في أي مكان؟ لا أبداً، لكن الجزيرة قد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يجتمع فيها دينان، وإن أردت أن تعلم فأقول لك: أرأيت لو نبني مسجداً في كنيستكم الكبرى، هل تسمحون بذلك؟ مستحيل، إذ كيف يصح أن نبني مسجداً في وسط كنيسة؟! إن هذا ظلم، إذاً: هل يجوز أن تبني كنيسة في داخل المسجد؟ فالمملكة عبارة عن مسجد، فلا يصح أن تبنى فيها كنيسة، ثم بكى وقال: إخواننا يعملون في ليلة من الليالي ما يسمونه قدوس أو قداس، فتأتيهم رجالات الأمر بالمعروف فيطاردونهم ويخرجونهم ويسفرونهم، فلماذا؟ فقلنا له: يا مسيو! لا تعجب، فإن أهل الخرافة بيننا والضلالة وأهل الجهل لما يقيمون مولداً من هذه الموالد تطاردهم الهيئة وتبعدهم، وهذا ليس خاصاً بكم فقط، فسكت.والشاهد عندنا: أنه لا يجتمع دينان في جزيرة العرب، أما وراء الجزيرة فهناك كنائس موجودة، وما قمنا بهدمها ولا أمرنا بهدمها، ولذا أردت أن أقول: إن هذه الآيات العظيمة لا نقول بنسخها؛ لأن إمام المسلمين في أي وقت قد يحتاج إليها سياسياً وحربياً، أما أن نقول بالنسخ فلا؛ لأن الجزيرة قد نسخ الله فيها الشرك وأبطله، ويبقى خارج الجزيرة، فإمام المسلمين ينتفعون بهذه الآيات، وإليكم بيان ذلك.

يتبع

ابوالوليد المسلم
24-05-2021, 05:28 AM
تفسير قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ...)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88]. فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88]، سبق أن من المنافقين من كان يثبط عن القتال ويقول: دعنا أياماً أو أعواماً حتى نستعد ونتسلح، وآخرون قالوا كذا، وجاء السياق كاملاً في هذا الباب، حتى الشفاعة فيشفع لآخر فيقول له: ما هناك حاجة إلى أن تخرج أنت، دعهم يموتون، وآخر يقول كذا، والآن هذه (الفاء) لها علاقة بما تقدم، وإنما جملة: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [النساء:87]، ذكرت لبيان أن الله سيجزينا يا أهل الإحسان على إحساننا، وسيجزي أهل الإساءة على إساءتهم؛ لأنه العدل الرحيم، وذلك يوم القيامة الذي لا ريب فيه. فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88]، أي: جماعتين، ففئة تقول: ارحموهم والطفوا بهم، وفئة تقول: شددوا عليهم واضربوهم واقتلوهم، وهذا قد حصل بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تظن غير هذا، إذ الحماس والاندفاع موجود في المؤمنين دائماً، فالله عز وجل يقول: فَمَا [النساء:88]، أي: أي شيء جعلكم تختلفون؟ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا [النساء:88]، والارتكاس كالانتكاس، فالأعلى يصبح أسفل، أَرْكَسَهُمْ [النساء:88]، أي: انتكسوا، فقد كانوا مؤمنين وأصبحوا كافرين، وقد كانوا عابدين وأصبحوا ظالمين، وقد كانوا رحماء وأصبحوا قساة، فالانتكاس والارتكاس هو الانقلاب، وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ ، بسبب ماذا؟ بِمَا كَسَبُوا [النساء:88]، لا أنه ظلمهم ومسخ قلوبهم ونكس رءوسهم، لا أبداً، وإنما بِمَا كَسَبُوا [النساء:88]، فهذه (الباء) السببية، أي: بسبب كسبهم الباطل، وكسبهم الشر، وكسبهم النفاق، وكسبهم الظلم والاعتداء، وكسبهم بغض الله ورسوله والمؤمنين، فمن ثم نكس الله قلوبهم. ثم قال لنا: أتريدون أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88]، يا عمر؟! يا فلان؟! أتريدون أن تهدوا إلى الإيمان والإسلام والصراط المستقيم من أضله الله؟! إن ذلك ليس بممكن، إذ إن الذي أضله الله لا يقوى البشر على هدايته، إذاً فكيف ندعو إلى الهداية وإلى الإسلام؟ ندعو، لكن إذا عرف شخص الحق وتعمد خلافه، وأعلن حربه، فمثل هذا لن يهديه الله، وذلك عقوبة له؛ لأن الظلم والشرك والكفر أصبح وصفاً لازماً له لا ينفك. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88]، إلى هدايته أبداً، والخطاب لرسول الله، ومن يضلل الله حسب سنته في الإضلال فلن تجد له يا عبد الله سبيلاً، أي: الطريق إلى هدايته، وذلك مهما بذلت واحتلت وتصرفت.وهنا أذكركم بأن من استمر على المعصية يوماً بعد يوم، وشهراً بعد آخر، وعاماً بعد عام، فسيأتي يوم يصبح عبد الله أو أمته لا يستطيع أن يترك تلك المعصية، حتى لو يسمع كل ليلة القرآن بكامله، فقد انتهى أمره، ولهذا قال العلماء: التوبة تجب على الفور، فلا يصح أن تقول لأخيك: تب غداً إن شاء الله، أو خليك كما أنت عليه حتى تتزوج، أو حتى تتوظف، أو حتى تكمل دراستك، أو ابق على ما أنت عليه حتى أعود إليكم من سفري، فهذا كله باطل، إذ التوبة التي فرضها الله عندما تقع في الذنب تقول: أستغفر الله، أما أن تؤجل فيا ويلك، فإن التأجيل يورثها في نفسك وتستقر، وتصبح إذا قيل لك: اتق الله، تسخر وتضحك، فالتوبة تجب على الفور، كإنسان سقط في الطريق أو عثر، فلا يقول: غداً نقوم، وإنما على الفور يقوم ويواصل مشيه.فيا عباد الله! ويا أولياء الله! التوبة تجب على الفور، فمتى شعرت بارتكاب الذنب وعلمت، فالهج بكلمة: أستغفر الله، وإن ذرفت الدموع فذلك خير، وأنت عازم على ألا تعود خشية أن تتوالى السيئات ويطبع على القلب، والرسول صلى الله عليه وسلم وهو المبين المفسر لكتاب الله يقول: ( إذا أذنب العبد ذنباً وقع نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب واستغفر صقل قلبه، وإن لم يتب وزاد ذنباً آخر نكت في قلبه نكتة سوداء إلى جنب الأولى وثالثة إلى جنب الثانية ورابعة حتى يختم على القلب، وذلكم الران الذي قال الله تعالى فيه: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] ).وعندنا مثل حي فأين الذين يعون؟ وهذا المثال هو: لو أن امرأة أو فتاة مسلمة عاشت زمناً على لباس إلى نصف الساق أو إلى الركبتين، والرأس مكشوف وهي تحمر وتحسن وتخرج في الشوارع، وفي يوم من الأيام مرت بك وقلت لها: يا أمة الله! أما تستحين من الله؟ فكيف تواجهك؟ تخرج لسانها وتضحك عليك، وتقول: هذا رجعي، ولن تتوب، بينما فتاة منذ أسبوعين غرر بها الساقطات والهابطات، لم أنتِ متململة في هذا الإزار الأسود؟ اكشفي عن وجهك، أخرجي فأنتِ حرة، واستجابت لهن وخرجت، فلقيتها في الشارع وقلت لها: أما تخافين الله يا أمة الله؟ فهل تخرج لسانها وتضحك منك؟ لا، بل تهرب أو تغطي وجهها، ومثال آخر: لو عثرت على ولدك وهو يدخن، كأن دخل المدرسة الثانوية ولاقى الأصحاب فأصبح يدخن معهم، فهل يستطيع أن يدخن أمامك؟ ما يستطيع أبداً؛ لأنه يخجل ويستحي منك، لكن إذا واصل التدخين وأنت تراه، بل وتعطيه السيجارة، أو تقول له: اشتري علبة لي وأخرى لك، فهذا بعد فترة من الزمان يصعب عليه أن يترك التدخين. ولذلك كل من رأى أنه يباشر ذنباً من الذنوب أن يعزم من هذه اللحظة عن التخلي عنه وتركه، وإلا ستمضي فيه سنة الله ولا يستطيع أن يتوب، وهذا قوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88]، فكيف يضله الله؟ بالقهر؟! إنما حسب سنته تعالى، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، فهذه سنن لا تتبدل، وكذلك مواصلة الجريمة وألفتها واعتيادها يوماً بعد يوم يجعلك لا ترجع عنها أبداً، لا سيما من كان يحارب الله علناً، كأن يدعو إلى الكفر والنفاق والباطل والشر والفساد، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88].
تفسير قوله تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ...)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:89].ثم قال لنا: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا [النساء:89]، من يخبر بهذا الخبر؟ خالق القلوب، وَدُّوا ، أي: أحبوا، لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، فالحشاشون واللوط والمجرمون كلهم يودون أن يكون كل الناس مثلهم، وكذلك الضالعون في الفساد يودون أن يكون كل الناس مثلهم، وهذا واضح من قوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89].والآن الثالوث المكون من المجوس واليهود والنصارى يعملون الليل والنهار كادحين عاملين من أجل إطفاء نور الإسلام؛ ليكون البشر مثلهم، بل والله الذي لا إله غيره يريدون ألا يبقى إسلام ولا مسلمون، كما كانت الشيوعية تدعو، وقد فشلت وتحطمت، وهذه سنة الله عز وجل، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، أما أن تبقوا بأنواركم ودعوتكم وسيادتكم وجهادكم فما يريدون هذا.ثم قال تعالى: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ [النساء:89]، من هم الأولياء؟ الذين تحبونهم وتنصرونهم، وقد تقررت هذه الحقيقية يا أبناء الإسلام! فما هو الولاء؟ الحب والنصرة، فمن لم يحب المسلمين والله ما هو بمسلم، ومن لم ينصر المسمين والله ما هو بمسلم، فالحب والنصرة ذلكم هو الولاء، واقرءوا قول الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، فمن قال: لا فقد كذّب الله تعالى، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، فما معنى أولياء بعض؟ أي: يحبون بعضهم بعضاً، وينصرون بعضهم بعضاً، فالذي لا يحب المؤمنين والله ما هو بمؤمن، والذي لا ينصرهم ويرى العدو يهزمهم ويكسرهم وهو فرح بذلك، والله ما هو بمؤمن.قال تعالى: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ [النساء:89]، أي: تحبونهم وتوالونهم وتنصرونهم، حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89]، وهنا مجموعة كانت في مكة قد تظاهرت بالإيمان، أو مجموعة كانت خارج مكة من جهة الشمال، أو من جهة أي بلد آخر، وكانت تأتي إلى المدينة لتستفيد، وأنهم يعملون على الهجرة لكن منعوا، وإذا عادوا إلى مكة يسجدون للصنم ويوافقون المشركين في شركهم، وبينهم وبين المؤمنين المهاجرين في المدينة صلات، فقال تعالى في شأن هؤلاء: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89]، أي: حتى يهاجروا في سبيل الله، لا للمادة والمال أو للنجاة بالنفس والأولاد، وإنما الهجرة في سبيل الله تعالى، فإن تولوا بعد الهجرة وعادوا إلى الشرك والكفر، فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:89]، إذ ما هم أهلٌ لأن يوالوكم وتوالوهم، أو تنصرونهم وينصرونكم، والموضوع ذو أثر كبير، وغداً إن شاء الله نواصل الحديث في هذا.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
30-05-2021, 04:22 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (1)
الحلقة (311)
تفسير سورة المائدة (1)


الوفاء بالعهود والمواثيق شأنه عظيم، لذلك فقد افتتح الله سورة المائدة بالتنبيه عليه، ثم بين الله في تتمة الآية أنه أحل لعباده بهيمة الأنعام، واستثنى من ذلك ما سيأتي ذكره في سياق الآية التالية، وبالإضافة إلى ما حرم فيها حرم الله كذلك سائر الصيد على كل محرم حتى لو كان خارج الحرم، أما داخل الحرم فإنه لا يحل صيده لا لمحرم ولا غيره، وبعد ذلك حذر الله عباده تحذيراً عاماً من إتيان حرمات الله أو استحلال شعائره سبحانه.
بين يدي سورة المائدة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم حقق لنا هذا الفوز واجعلنا من أهله إنك ربنا وولينا ولا ولي لنا سواك.وقد ختمنا سورة النساء، ولنستفتح بحمد الله سورة المائدة، هذه السورة من آخر ما نزل من سور كتاب الله عز وجل، فهي -إذاً- سورة الأحكام، وقد اشتملت على العديد من الأحكام الشرعية، والسورة آياتها مائة وعشرون آية، وهي مدنية بدون ما شك من آخر ما نزل.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ...)
ومعنا الآن آيتان عظيمتان هيا نتغنى بهما ثم بعد ذلك نتدارسهما.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:1-2]. هيا نتدارس هاتين الآيتين الكريمتين. ‏
مقاصد نداء المؤمنين بلفظ الإيمان
أولاً: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:1]، من الذي ينادي المؤمنين هنا؟ إنه الله، هذا نداء الله جل جلاله وعظم سلطانه يوجهه إلى المؤمنين خاصة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:1]، لماذا وجه إليهم هذا النداء؟ لأنهم أحياء؛ لأن المؤمن حي يسمع ويبصر وينطق ويعمل، والكافر ميت.يا من آمنتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً! يا من آمنتم بالله وكتبه ورسله ولقائه وقضائه وقدره! أيها المؤمنون أولياء الله! أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وسبق أن علمنا أن الله لا ينادينا إلا لأمر يريد أن يأمرنا بفعله، أو ينادينا لينهانا عن شيء يضرنا ويفسد نفوسنا، أو ينادينا ليبشرنا بما يزيد به صالح أعمالنا، أو ينادينا ليحذرنا وينذرنا مما هو خطر علينا في دنيانا أو أخرانا، أو ينادينا ليعلمنا ما به نعرفه ونطيعه فنكمل ونسعد.فالله إذا ناداك أصغ بأذنك واسمع، وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول: إذا سمعت (يا أيها الذين آمنوا) فأعرها سمعك، فإنك منادى، أعطها أذنك واسمع: فإن أمرت فافعل وإن نهيت فاجتنب، وإن بشرت فاستبشر، وإن أنذرت فاحذر، وإن علمت فتعلم، وحاشا الله أن يناديك لا لشيء.
عموم الأمر بالوفاء بالعقود وشموله لأنواعها المشروعة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:1] نادانا ليأمرنا بالوفاء بالعقود: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، هذا أمر أم لا؟ أوفوا أيها المؤمنون بالعقود. والعقود: جمع عقد، وهي عقود الإيمان والتوحيد، من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله؛ فقد عقد عقداً على نفسه أن يعبد الله وحده ولا يترك عبادته بحال من الأحوال، وأن يمشي وراء رسول الله ويتبعه ولا يتقدم عليه ولا يمشي عن يمينه ولا عن شماله، بل يمشي وراءه، يقول ما يقول الرسول ويفعل ما يفعل الرسول، وهذا عقد وهذا عهد، فكل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله قد عقد بينه وبين الله عقداً فيجب أن يفي به، والوفاء به -كما قلت-: أن تعبد الله، وأن تعبده وحده، وأن لا ترضى بعبادة غيره؛ لأنك شهدت وعقدت عقداً بينك وبينه أنه لا إله إلا هو، وأن تطيع رسول الله بعد حبه وتعظيمه وبعد الإيمان به، أن تطيعه فيما يأمر به وينهى عنه من واجب المأمورات ومحرمات المنهيات.ثم تأتي العقود العامة: الصلاة، إذا استقبلت البيت وقلت: الله أكبر ناوياً صلاة تصليها فهل يجوز أن تبطلها؟ أن تنقضها؟ لا يجوز فذلك حرام، إذا عقدت عقداً فوف به، قلت: لبيك اللهم عمرة، ومشيت مائة كيلو وبعد ذلك تقطعها تقول: لقد تركنا مشاغلنا. أيجوز هذا؟ إنه عقد بينك وبين الله! شرعت تتوضأ فغسلت يديك بعد وجهك ثم قلت: سوف نتوضأ في ساعة أخرى. فما يجوز، لا تنقض العقد الذي بينك وبين الله.وتأتي العقود الأخرى عقود البيع والشراء والإيجار والكراء وسائر العقود التي بينك وبين الناس، يجب الوفاء بها ويحرم نقضها ونكثها وعدم الوفاء بها، قلت: بعت. فقال: اشتريت، فلا يحل أبداً أن تقول: رجعت عن البيع. إلا أن تقول: أقلني لوجه الله. ارحمني فأنا ضعيف ما شعرت بكذا، فيمكن أن يرحمك أخوك، أما أن تعقد ثم تتراجع فلا، استأجرت سيارة منزلاً طيارة أي إيجار أي اكتراء أي شيء يجب الوفاء، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، فلهذا المؤمنون الصادقون لا ينكثون عهداً ولا ينقضون عقداً أبداً، وإن اضطر أحدهم -كما مثلت- فإنه يتلطف مع من عقد له ويسأله بالله أن يرحمه أو يلطف به ليحل العقد بنفسه.هذا نظام حياتنا معاشر المؤمنين عملاً بهذا الأمر الإلهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وعهود المرأة وعقود الزواج والنكاح أيعبث بها ويلعب بها؟! بالأمس تزوجتها على كتاب الله وسنة رسول الله ثم تسبها وتطلقها خمسين طلقة، ما حملك على هذا، أي نقض في العهود أكثر من هذا؟!بايعت إماماً يجب أن تفي بيعته حتى الموت، أما أن تعاهده وتبايعه ثم تخونه وتبايع آخر فلا يحل هذا في الإسلام أبداً، أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]. وكذلك السياسية الدولية، عقدنا عقداً مع دولة كافرة يجب أن نفي لها بعقدنا ولا نقول: هذه كافرة، وكذلك إذا عقدت عقداً مع يهودي أو مجوسي عدو لله ورسوله يجب أن تفي بعقدك؛ لأنك مؤمن حي وأما هو فكافر ميت.فهل نحن بعد هذا مستعدون للطاعة؟ إي ورب الكعبة، كيف نرضى بالكفر بعد الإيمان وهو تعالى ينادينا تشريفاً لنا بعنوان الإيمان ويأمرنا بأعظم شيء؛ إذ الحياة كلها قائمة على الوفاء، فلولا الوفاء بالعهود لأكل الناس بعضهم بعضاً، وأصبحت الدنيا ناراً مستعرة؟
معنى قوله تعالى: (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم)
ثم قال تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ [المائدة:1]، هذا امتنان منه تعالى، هذا فضل منه جل وعز، وهو أنه أحل لنا ما كان محظوراً علينا، أحل العقدة التي كانت تحول بيننا وبين أن نأكل اللحوم، فأخبرنا بأنه أحل لنا بهيمة الأنعام: الإبل، البقر، الغنم، الضأن، والماعز، امتن علينا بأنه أحلها لنا، أليس هو مالكها؟ لولا إذنه هل يجوز أن تأكلها وتذبحها؟ لا يجوز. فهذه منته: أولاً: خلقها لنا، ثم أذن لنا في أكلها، قال: رُفع الحظر وانحلت العقدة فكلوا من بهيمة الأنعام، فهيا نشكره: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.هل نحن خلقنا البقر أو الإبل أو الماعز؟ خلقها الله، ولو أنه ما أذن لنا في أكلها لكانت كالذئاب والكلاب ما نأكل منها أبداً، إذاً: له المنة، فالحمد لله.. الحمد لله، ما أعلمنا بهذا إلا لنحمده ونشكره. أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ [المائدة:1]، الإبل والبقر والغنم بنوعيها الضأن والماعز.ثم قال تعالى: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1]، إلا الذي سيقرأ عليكم بعد الآية الثانية، وهو ما حرم علينا بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة:3]، إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1] في المستقبل بعد آيتين، فذلك غير مباح، ما أحله، أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ [المائدة:1] اللهم إلا ما سيتلى عليكم من الحرام فاعرفوا أنه محرم. ولم سميت البهيمة بهيمة؟ قيل: لأنها مبهمة ما تنطق وما تبين وما تعقل وما تفهم، فهي بهيمة، والناس قد يشتم أحدهم أخاه يقول له: أنت بهيمة، لأنه ما فهمه وما عرف عنه، فالبهيمة سميت بهيمة لبهمة فيها، ما تعرف هذا ولا ذاك، هذه البهيمة أحلها الله عز وجل لنا.ولو كانت غير بهيمة لما أحلها لنا، لو كانت تنطق وتعقل وتفهم لما حلت لنا؟ أيحل لنا أكل بعضنا؟ لكن هذه البهيمة أذن لنا في أكلها لنعبده طول حياتنا.
لا يحل الصيد لمحرم
وقوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:1]، هذا استثناء آخر، إذا كنت محرماً يا عبد الله، أو كنتِ محرمة يا أمة الله؛ فلا يحل لك أن تصيد أرنباً ولا غزالاً ولا يربوعاً ولا حيواناً، اللهم إلا صيد البحر، أنت على سفينتك محرم في طريقك إلى جدة فرميت بسلتك تصطاد الحوت فلا بأس، فالمالك هو الذي أذن.إذاً: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [المائدة:1] والحال: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:1]، أما من كان حلالاً فليصد ما شاء أن يصيد، باستثناء أن لا يصيد في الحرم، صيد الحرم حرام لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يصيد في الحرم أرنباً ولا غزالاً ولا ضبياً ولا حيواناً أبداً ولا طيراً ولا حماماً إلا ما أذن الشارع فيه كالحيوانات المؤذية التي تؤذي.
المراد بالحرم وبيان عظيم حرمته
والحرم ما هو؟ أولاً: حرم مكة، وهو معلوم، حوالي ثمانية عشر ميلاً من جهة الشرق قريباً من عرفة، وهناك توجد علامة وضعتها الدولة لنهاية الحرم، ومن الجهة الشمالية جبال التنعيم حيث ميقات عائشة كما يعرف الناس، وهو أقرب مكان إلى الحرم، ومن الجهة الغربية البحرة تقريباً وتقع الحديبية دونها، فهذه الأرض ومكة- وشرفها في وسطها- لا يحل فيها صيد حيوان.والمدينة أيضاً؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( إن إبراهيم عليه السلام حرم مكة وإنى حرمت المدينة ما بين لابتيها )، وقال: ( المدينة حرام ما بين عير إلى ثور )، فالمدينة حرام، فلو مررت بحيوان في الطريق تحت شجرة مستظل لا يحل لك أن تزعجه وتبعده من الظل وتجلس مكانه.و(عير): جبل في جنوب غرب المدينة، كالحمار، ولهذا يسمى بالعير لأنه رابض هناك، ووراء أحد الحل، لكن أحداً نفسه وما دونه إلى المسجد من الحرم، وجبل ثور وراء أحد ملاصق له من الجهة الشمالية الشرقية، فقوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ [المائدة:1] والحال أنكم محرمون، فالمحرم لا يصيد سواء كان في أي مكان ما دام قد أحرم وقال: لبيك اللهم حجة أو عمرة، ولو كان في فلسطين فإنه لا يحل له أن يصيد وهو حرام. والشاهد عندنا في قول ربنا: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:1]، فالمحرم لا يحل له أن يصيد في أي مكان، لو أحرم من بلاد بعيدة وخالف السنة فهل يجوز له هل له أن يصيد وهو محرم؟ لا يحل له، لكن الحلال لا يصيد بالحرم، الحلال بخلاف المحرم لا يحل له أن يصيد في الحرم. والحرم حرمان: الحرم المكي والحرم المدني، فذاك حرمه إبراهيم وهذا حرمه الحفيد محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: ( إن إبراهيم قد حرم مكة وإني حرمت المدينة )، وقال في تأكيد هذه الحرمة: ( المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً )، لو يفهم هذا الحديث مؤمن ويبلغه لارتعدت فرائصه ولما استطاع أن يرتكب سوءاً في هذا البلد، كيف وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؟! كيف ولا يقبل منه فرض ولا نفل؟! من أحدث فيها حدثاً أو نصر وآوى محدثاً.ولكن جهل الناس تركهم يقعون في هذه وهم لا يشعرون، إذا لم تستطع أن تستقيم في المدينة فارحل منها ولا تقم فيها أبداً نفسك، ما تقوى على أن تعبد الله فيها ارحل إلى مكان آخر، هذا الكلام تكلمنا به منذ ثلاثة وأربعين عاماً ونحن على علم بما نقول، إذا لم تستطع أن تقيم في هذا الحرم فاخرج إلى بلد آخر فزمر أو غنِّ أو احرق وجهك أو اكشف وجه امرأتك! أما هنا فلا.أعيد القول: الحديث في الموطأ وفي البخاري وفي مسلم وفي الصحاح كلها: ( المدينة حرام من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً )، لا فرض ولا نفل، كيف يعيش هذا العبد؟!

يتبع

ابوالوليد المسلم
30-05-2021, 04:22 AM
معنى قوله تعالى: (إن الله يحكم ما يريد)
وقوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ))[المائدة:1]، الأمر له والحكم له، يحل ما شاء ويحظر ويحرم ما شاء، لا رأي لنا ولا عقل فيما أحل الله أو حرم. (( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ))[المائدة:1]، فها هو ذا تعالى حكم علينا أولاً بالوفاء بعقودنا بيننا وبين الله ورسوله، وبيننا وبين إمام المسلمين، وبيننا وبين كل مسلم ومسلمة، ثم امتن علينا بقوله: (( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ ))[المائدة:1]، هذه منته، هو الذي إن شاء حظر وإن شاء أباح وأذن، الملك ملكه، إذاً: فله الحمد والمنة أنه امتن علينا بإحلال بهيمة الأنعام لنا، واستثنى منها ما سيتلى من تلك العشر المحرمات من بهيمة الأنعام، وقوله: (( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ))[المائدة:1] أي: حال كونكم غير محلي الصيد، فلا يحل لمحرم ولا محرمة أن يصيد؛ لأنه تلبس بالعبادة، لما قال: لبيك اللهم حجاً أو عمرة كان كمن أحرم بصلاة الظهر: الله أكبر، فهل الذي دخل في ظهر أو عصر أو نافلة يعبث أو يتكلم أو يعمل شيئاً؟ الجواب: لا، فكذلك المحرم دخل في هذه العبادة فلا يتكلم إلا من ضرورة، لا يأكل ولا يشرب إلا من حاجة، فكيف إذاً يلهو ويلعب والصيد منشؤه اللهو واللعب، فيحرم الصيد حتى ولو كان قد جاع، في هذه الحالة لا يصيد، بل يصبر على جوعه. ولو صاد لك إنسان فقال: أنت محرم وأنا أصيد وأطعمك؛ فلا يحل لك أن تأكل؛ لأنه صاد من أجلك، أما إذا صاده لنفسه وأعطاك فأكلت فلا بأس. فقوله تعالى: (( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ))[المائدة:1] هذه هي الآية الأولى.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ...)

عدد نداءات القرآن للمؤمنين وغاياتها
أما الآية الثانية فهي نداء رباني آخر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:2]! أجيبوا! لبيك اللهم لبيك.وقد نادانا الله تعالى في القرآن تسعين نداء، ما بقي حكم من أحكام الشرع إلا وحوته هذه النداءات: في الحرب.. في السلم.. في السياسة.. في المال.. في الاقتصاد.. في العبادات.. في العقائد.. في كل شئون الحياة.وتبين بالاستقراء والتتبع أنه ما نادانا إلا لواحدة من خمس: إما ليأمرنا بما فيه صلاحنا، أو ينهانا عما فيه شرنا، أو يبشرنا بما يزيد في عملنا، أو ينذرنا ليخوفنا فنترك ما حذرنا منه، أو ينادينا ليعلمنا ما نحن في حاجة إلى علمه ومعرفته، إذاً: فالحمد لك يا رب العالمين، اللهم لك الحمد. اللهم لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [المائدة:2]، هذا النداء فيه ما هو محكم وفيه ما هو منسوخ.
النهي عن استحلال شعائر الله تعالى
أولاً: قوله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ [المائدة:2]، شعائر الله: معالم دينه، ما من عباده إلا وهي من شعائر الله، ومناسك العمرة والحج هي شعائر الله، كل عبادة مشعرة بأن الله هو المعبود الحق، وأن هذا عَبدُه يعبده، فكل الشئون الدينية مشاعر وشعائر، فلا يحل لنا أن نحل شعائر الله، فنستبيح ما حرم الله، فنستبيح ما نهى الله عنه أو نهى عنه رسوله، فهذا اللفظ واضح عام عندنا أم لا؟ كل معالم الدين ومظاهره يجب ألا نحلها، يجب أن نقف عندها ونحترمها ولا نعتدي عليها، كل مشاعر الدين.
النهي عن استحلال القتال في الشهر الحرام وبيان نسخه
ثم قوله تعالى: وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ [المائدة:2] هذا منسوخ، كان الشهر الحرام -وهو رجب وغيره من الأشهر الحرم- إذا هل هلاله لا يبقى القتال أبداً، وانتهت الحرب، إذ كان العرب يتمتعون بهذه الأشهر الحرم من تدبير الله تعالى لهم ورحمته بهم، حتى يتم بينهم سلم وعدم اعتداء، فيتجولون ويتجرون ويتنقلون في الجزيرة وفي غيرها، إذا دخل الشهر الحرام وقف السلاح، لم تسمع صوت سلاح أبداً، لكن لما جاء الإسلام وقامت دولته ما بقي حاجة إلى هذا.إذاً: فقوله تعالى: وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ [المائدة:2] منسوخ؛ لأن الله تعالى قال في الإذن: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5].
النهي عن استحلال الهدي والقلائد
وقوله تعالى: وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ [المائدة:2]، الهدي: ما يهدى إلى الحرم من بعير أو بقرة أو كبش، هذا الهدي، كان العرب يهدون للرب وهم مشركون، يهدون الهدي إلى الحرم لله تعالى ليأكل سكان الحرم وخاصة الحجيج والفقراء والمساكين، هذا الهدي إذا رأيناه مهدى للحرم لا يحل أكله أبداً، وكيف نعرفه؟إذا كان بعيراً فإنه يجرح من سنامه من الجهة اليمنى فيسيل دم فيعمم على وبره، فيعرف بين الناس أن هذا هدي، لو وجدته وحده في الصحراء لا يحل لك أن تقربه، هذا مهدى لله ولحرمه، أو بقرة كذلك، والغنم لا تجرح، ولكن تعلق قلادة في عنقها وتمشي بها، من رآها يقول: هذه للحرم. فلا يختطفها منك ولا يقاتلك من أجلها، فإذا كنت خائفاً من بني فلان أن تمر بديارهم وأنت ذاهب إلى الحرم فعلق في عنقك من شجر الحرم، فيقولون: هذا من أهل الحرم فلا يؤذونك! هذا تدبير الله عز وجل.وقد جاء في السورة في آخرها قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [المائدة:97].إذاً: قوله تعالى: وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ [المائدة:2]، الشهر الحرام قلنا: إن تحريم القتال فيه منسوخ، يجوز القتال فيه إذا أمر إمام المسلمين بالقتال.والهدي والقلائد هل يجوز أن نعتدي عليها؟ لا أبداً، لو أن شخصاً قلد عنقه لحاء من قشر من شجر الحرم فإنك تقول: هذا كان بالحرم أو هو في طريقه إلى الحرم فلا تؤذوه، ففي الإسلام من باب أولى، في الإسلام لا نؤذي مؤمناً سواء ذهب إلى الحرم أم ذهب إلى أوروبا.
معنى قوله تعالى: (ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً)
وقوله تعالى: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة:2]، هذا أيضاً منسوخ بقوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5]، وأعلن الرسول: ( لا يحج بعد العام مشرك أبداً ). وقد كان في الزمان الأول قبل هذه الآية إذا كان الحجاج محرمين ذاهبين إلى مكة يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً -أي: تجارة ومالاً ودعاء الله- فلا تعترضوهم ولا تؤذوهم، ثم صار هذا منسوخاً أيضاً.مرة ثانية: يقول تعالى منادياً لنا بإيماننا: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ [المائدة:2]، فعلمنا أنه لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحل شعيرة من شعائر الإسلام لا بفتيا يفتي بها ولا بعمل يعمله، يجب أن يحفظ دين الله بيننا.ثانياً: الشهر الحرام كان محرماً على الناس أن يقاتلوا فيه، ثم لما قامت دولة القرآن على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ الله ذلك، فما بقي للشهر الحرام حرمة القتال فيه.ثالثاً: الهدي والقلائد، وهذه محرمة إلى الآن، إذا أراد شخص أن يهدي إبلاً أو بقراً أو غنماً إلى الحرم وأعلمها فلا يحل لك أن تعتدي عليها بحال من الأحوال.رابعاً: آمو البيت الحرام الذين يذهبون للتجارة فيه أو للدعاء؛ لأن المشركين كانوا يحجون للتجارة ويحجون لدعاء الله وسؤاله وطلب حاجاتهم منه، وهو ربهم ويستجيب لهم، قال تعالى: وَلا آمِّينَ [المائدة:2]، قاصدين، الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ [المائدة:2]، ماذا؟ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ [المائدة:2]؛ لأنهم يتجرون يحملون البضائع ويبيعونها في الحج أو يشترون أخرى ويبيعونها في بلادهم، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [المائدة:2].ثم قال تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، أذن لنا: إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا، أي: اصطادوا خارج الحرم، أما داخل الحرم فلا صيد، سواء كنت محرماً أو غير محرم، فلا يحل الصيد أبداً.
معنى قوله تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا)
ثم يقول تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2]. في صلح الحديبية كان بعض المؤمنين ما زال في نفوسهم تغيظ على المشركين؛ من أجل أنهم منعوهم من مكة وردوهم بدون أن يعتمروا، ففي نفوسهم بغض لهؤلاء وشنآن، فقال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2]، فتمت تلك العهدة وذلك العقد وذلك العهد، فكان الرجل يمر بقاتل أبيه فما يلتفت إليه، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2]، فلهذا قدمنا أنه لا يحل الاعتداء على أي إنسان كافراً كان أو مؤمناً، والاعتداء هو الظلم ومجاوزة الحد، فلا يجوز في مال ولا في عرض ولا بدن. وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ [المائدة:2]، لا يحملنكم، شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [المائدة:2]، عام الحديبية، أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2] عليهم أو على واحد منهم أو أكثر.
أحكام زكاة الفطر

شروط قبولها وتزكيتها للنفس
معاشر المستمعين! بعض الإخوان يقولون: حدثنا عن زكاة الفطر بعض الحديث، فأقول: في الحقيقة هي صدقة الفطر، ولكنها زكاة لأنها تزكي النفس وتطهرها كسائر العبادات، ما من عبادة شرعها الله تعالى وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم فيفعلها العبد إيماناً واحتساباً وإخلاصاً لله إلا عملت في نفسه الزكاة والطهر والصفاء، والله العظيم، ولا تتخلف أبداً إذا استوفت الشروط وهي: أن تكون مما شرع الله وبين رسوله صلى الله عليه وسلم.ثانياً: أن يفعلها كما بينها الرسول بلا زيادة ولا نقصان ولا تقديم ولا تأخير.ثالثاً: أن يفعلها إيماناً بالله وأن يخلصها لله وحده، فلا بد أن تطهر نفسه وتزكيها.
مقدارها الواجب إخراجه وما تخرج منه من القوت
زكاة الفطر أو صدقة الفطر بينها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال عبد الله بن عمر : ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب )، هذه أنواع الطعام.والصاع: أربعة أمداد، والمد: حفنة بكفي الرجل المتوسط لا القصير ولا الطويل، أربع حفنات بحفنة الرجل المعتدل هي الصاع، المد حفنة، والمدان حفنتان، والثلاث ثلاث حفنات، والأربعة صاع، مما يقتات ويكون غالب قوت أهل البلد، ننظر إلى البلد الذي نحن فيه ما هو أكثر طعام يأكلونه، فإن قالوا: الأزر، إذاً: فالأرز، وإن قالوا: أكثر ما يأكل أهل البلاد التمر، إذاً: نعطي من التمر، أو أغلب ما يأكلون الأقط، ما عندهم إلا اللبن المجفف فنعطي منه، نعطي صاعاً من تمر أو شعير أو أرز أو أقط أو طعام آخر، هذا المقدار، هذه هي الكمية.
من تجب عليه زكاة الفطر
تجب على من؟ على الذكر والأنثى، والكبير والصغير، والرضيع والمفطوم، وإنما لا تجب على الجنين في بطن أمه، ومن أراد أن يستبشر خيراً ويخرج عما في بطن زوجته فله ذلك، لكن الوجوب لا وجوب أبداً، لا بد أن يكون حياً يرزق بيننا.والذي يعيل أفراداً هو الذي يجب أن يخرج زكاتهم، مثلاً: تعيل اثنين أو ثلاثة من الفقراء طول رمضان وهم معك إذاً: تخرج عنهم زكاتهم، خادم أو خدم معك طول العام في بيتك أنت الذي تخرج صدقتهم وزكاتهم، أما ضيف استضفته ليلة أو ليلتين فما أنت بملزم بأن تخرج زكاة فطره.
وقت إخراجها
هذه الصدقة -معاشر المستمعين- يجوز إخراجها قبل العيد بيومين إلى ثلاثة للضرورة. وإخراجها لمن يكون؟ للفقراء والمساكين، للذين ما يجدون ما يقتاتونه يوم العيد، فمن رحمة الحبيب صلى الله عليه وسلم أن قال: ارحموا فقراءكم وسدوا حاجتهم ولا تضطروهم إلى أن يسألوا يوم عيد ويوم فرح المؤمنين.إذاً: فلو أخرجت قبل العيد بيوم أو يومين للضرورة فلا بأس، وأفضل أوقاتها من صلاة الصبح إلى صلاة العيد، أفضل وقت، وبعد صلاة العيد كأنما هي صدقة، بعد زوال يوم العيد تصبح صدقة من الصدقات وليست بزكاة الفطر؛ لأنها ما انتفع بها الفقراء والمساكين.إذاً: فلنحرص على أن نقدمها قبل وقت نهايتها، لكن لو حجزها في جانب ينتظر صاحبها أن يأتي فممكن أن يعفى عنه، فهو أبعدها وقال: يا فلان! تعال لتأخذ زكاة الفطر. وتأخر هذا الإنسان إلى ما بعد الظهر أو حتى المساء فنسأل الله تعالى أن يثيبه عليها، أما أن لا يخرجها إلا بعد زوال يوم العيد فهي صدقة يثاب عليها لكن ما هي بزكاة الفطر التي يبقى الصيام معلقا بها، فلا يقبل صوم الصائم حتى يدفع زكاة الفطر هذا شرط، زكاة الفطر قبول الصيام متوقف عليها، حتى لا يبقى في القرية أو المدينة مؤمن أو مؤمنة جائع بيننا وأهل القرية شباع.ولو أن الدولة هي التي تجمعها وهي التي تقوم بتوزيعها فشأنها؛ إذ إمام المسلمين يطاع في هذا إذا كان صادقاً.وبعض الناس يمرون بمن يبيع البر فيعطيه الفلوس ويقول: أخرج الزكاة عني. فإذا كان ثقة تطمئن إليه أنه صادق ويعطيها لمستحقيها فلا بأس، وإذا كنت تشك أنه ما يخرجها أو يخرجها لمن لا يستحقها فما يجوز، لا تعطه.
حكم إخراجها نقوداً
معاشر المستمعين! زكاة الفطر يتجلى فيها الرحمة المحمدية، ما كانت الديار هكذا ملأى بالخبز واللحم، كانت هذه الديار عامة -والعالم بأسره- فيها الفقير الذي لا يجد ما يقتاته، وآخر يأكل ويشرب في شبع، فجاءت الرحمة المحمدية في هذا اليوم؛ لتخلد هذه السنة إلى يوم القيامة، ولو أصبح المال تحت أرجلنا فلا بد أن تمضي هذه السنة، فيجب أن نعرف كيف نخرجها:أولاً: لا يحل لنا أن نخرجها نقوداً في ديار تأكل اللحم وتأكل الخبز والأرز، لكن في بلاد أمريكا وأوروبا قد يوجد من لا يعرف أن يخبز الخبز ولا من يطبخ الأرز ممن أكلهم كله في المطاعم، في هذه الحالة للضرورة تعطي الفقراء نقوداً، تقوم الصدقة كما تساوي وتعطيهم نقوداً، وتسأل الله أن يتقبل منك، أما في البلاد التي فيها التمر والبر والأرز والناس يطبخون ويطحنون ويأكلون؛ فإن أردت أن تفوز برفع صومك وقبوله فلا تخرج عن هذه أبداً.
مكان إخراجها
وأخرج زكاة الفطر في قريتك أو مدينتك، وبعض الإخوان يقولون: أنا هنا وأهلي في مصر؟ نقول: إذا كنت تعلم أنهم زكوا عنك فلا تزك، وإذا ارتبت أو شككت أخرجت زكاة نفسك، وهم إذا عهدوا إليك أن تخرج زكاتهم فأخرجها عنهم هنا، وتبرأ بذلك ذمتك وذممهم، وإن كنت لا تعلم على كل حال فأخرج زكاة نفسك واترك أسرتك لأنفسهم.هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم دائماً بما ندرس ونتعلم ونسمع.

ابوالوليد المسلم
30-05-2021, 04:24 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (2)
الحلقة (312)
تفسير سورة المائدة (10)


امتن الله عز وجل على المؤمنين وذكرهم بنعمة عظيمة من نعمه، ألا وهي نجاة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم من القتل على يد أعدائهم اليهود، حينما ذهب إليهم ليطلب منهم معاونته في دفع دية قتل رجلين خطأ على يد أحد المسلمين، وهذا وفق ما كان متفقاً عليه في وثيقة العهد التي وقعها معهم، وعلى إثر محاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم ثم إجلاؤهم من المدينة.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم لنا هذا الفوز فإنك ربنا وولينا.وها نحن ما زلنا مع سورة المائدة، ومع هذين النداءين الكريمين: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة:8-11].
الأمر بالقيام بعبادة الله تعالى والشهادة بالقسط
بالأمس تدارسنا النداء الأول، وخلاصته أن علمنا أن الله نادانا وهو مولانا وملكنا، ومن بيده أمرنا، نادانا ليأمرنا بأن نقوم لله عز وجل بعباداته خير قيام، من الوضوء إلى الصلاة، إلى كل العبادات: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ [المائدة:8]، كما أمرنا أن نشهد لله وأن نعدل في الشهادة، ولا نميل يميناً ولا شمالاً، لا حيف ولا جور، ولو كنا نشهد على أقرب قريب، إذ قال عز وجل: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ [المائدة:8]، أي: بعباداته وما فرض عليكم وما شرع لكم من سائر العبادات، منها الوضوء والتيمم والغسل، شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ [المائدة:8]، أي: بالعدل، ما من مؤمن يدعى لأداء شهادة على صديق أو على عدو أو على كافر، على قريب من أقربائه أو بعيد من الناس، إلا وعليه أن يعدل في شهادته، إن علم شيئاً يقوله كما علم؛ لأن الله أمرنا بأن نكون شهداء بالقسط، ومن حاف وجار وما عدل فقد فسق عن أمر الله وتعرض لعذابه وسخطه.ثم لفت نظرنا إلى أننا قد يكون بيننا وبين أفراد عداوة، فهذه العداوة لا تحمل على أن نشهد شهادة الزور، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ [المائدة:8]، أي: لا يحملنكم، شَنَآنُ [المائدة:8]، والشنآن: البغض والعداء، عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا [المائدة:8]، ولا يحملنا بغض شخص على أن نشهد عليه بالباطل، سواء كان قريباً أو بعيداً، وقال: اعدلوا، وبين لنا أن هذه العدل يقربنا من تقوانا لله، إذ هدفنا في الحياة أن نحقق تقوى الله عز وجل، ومما يساعدنا على تقوى الله ملكة العدل في النفس، فالذي تكون له ملكة العدل ما يحيف في عبادة الله تعالى ولا ينقصها: هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، ثم أمرنا مرة ثانية بتقواه: وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:8]، فيما علمتم، فيما أمرتم به، فيما نهيتم عنه، فيما دعيتم إليه، وعلل فقال: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8]، مطلع على أحوالنا الظاهرة والباطنة، في السر والعلن، في الجهر والخفاء، بل يعلم ذات الصدر، فإذا آمنت يا عبد الله بأن الله عليم خبير -والخبير: من يخبر الأشياء في بواطنها، والعليم قد يعلمها ظاهراً فقط- إذاً: فليتق الله عز وجل، فلا يفسق عن أمره ولا يخرج عن طاعته في كل ما أمر به ونهى عنه، وهكذا تكمل فينا هذه الأخلاق الفاضلة ونصبح أمناء سعداء أطهاراً أصفياء في الحياة.
الوعد العظيم للمؤمنين بالأجر والمغفرة
ثم من باب الترغيب والترهيب ليزيد في إقبالنا عليه وفي بعدنا عن معاصيه قال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:9]، وعدهم بأي شيء؟ ووعد الله لا يخلف، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:9] أولاً وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:9] ثانياً، وعدهم بماذا؟ بين لنا يا ربنا ما وعدتهم به؟ قال: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [المائدة:9]، هذا أبلغ من جملة: وعدهم مغفرة وأجراً عظيماً، فهي جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً، كأن السائل يقول: بم وعدهم؟ نريد أن نطلع على هذا، ماذا يحمل هذا الوعد؟ فقال: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [المائدة:9]، يغفر ذنوبهم ويدخلهم الجنة، يغسلهم ويطهرهم وينظفهم ويطيبهم ويزفهم كالعرائس إلى دار السلام، هل هناك أعظم من هذا الأجر؟ والله لا أعظم منه، من هؤلاء الذين فازوا بهذا بالعطاء الإلهي والوعد الرباني؟ إنهم مؤمنون عملوا الصالحات، ما عملوا الطالحات، والصالحات: الأعمال المزكية للنفس المطهرة لها، وضدها الأعمال الفاسدة الملوثة للنفس والمخبثة لها، والصالحات فاض بها الكتاب الكريم، وبينتها سنة سيد المرسلين، اسأل الكتاب يخبرك عن الصالحات ويخبرك عن الطالحات، فالصالحات: اعملوا، والطالحات: لا تفعلوا.
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم)
ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا [المائدة:10]، عرفنا جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات: تطهيرهم وإدخالهم الجنة، وَالَّذِينَ كَفَرُوا [المائدة:10]، ما آمنوا، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [المائدة:10]، فلم يعملوا بما فيها من العبادات؛ لأن الآيات تحمل بيان العبادات وأنواعها، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [المائدة:10]، (الْجَحِيمِ): شدة التهاب النار وعظم حرارتها، واقرءوا قول الله تعال: فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات:97].فالبابليون لما حكم سلطانهم على إبراهيم بالإعدام قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات:97]، فبنوا بناية ضخمة وملئوها بالحطب والفحم وأشعلوها، حتى صارت سوداء مظلمة، فالجحيم شدة التهاب النار، وَالَّذِينَ كَفَرُوا [المائدة:10]، ما آمنوا، وَكَذَّبُوا [المائدة:10]، ما عملوا، أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [المائدة:10]، أي: أهل النار الملتهبة التي لا يفارقونها ولا يخرجون عنها، متى هذا؟ يوم موتهم. وهكذا بشر المؤمنين وأنذر وخوف الكافرين. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [المائدة:9]، وتوعد الذين كفروا وما آمنوا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [المائدة:10]، الذي كذب بالشريعة التي يعبد الله بها، أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [المائدة:10]، أهله الذين لا يفارقونه.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم...)
النداء الثاني: يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:11]، يأمرنا بذكر النعم، لماذا؟ من أجل أن نشكره عليها، اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:11]، لم نذكر النعمة؟ حتى نشكرها، فالذي لا يذكر النعم هل يشكرها؟ كلا.ولذا تجد في القرآن الكريم: يا بني إسرائيل اذكروا نعمة الله إذ كنتم كذا وكذا. فلماذا يطالب بذكر النعمة؟ من أجل أن يشكروها، فالذي لا يذكر نعمتك عليه والله لا يشكرها أبداً، والذي يذكر فيقول: فلان أعطانا، حملنا، أركبنا؛ مستعد أن يشكر، ولكن إذا كان يقول: ما عندنا شيء، ما نعرف عنه شيئاً، فهل سيشكر؟ وكيف حالنا مع نعم الله، أنفاسنا التي نرددها من نعم الله عز وجل، نظرة ببصرك من نعم الله، إصغاء وسماع بأذنك من نعم الله، نطقك، كل حياتك نعمة الله، فأين الشكر؟ فلهذا لو لم نعص الله أبداً إلا بتقصيرنا في الشكر لكنا عرضة للعذاب.

يتبع

ابوالوليد المسلم
30-05-2021, 04:24 AM
سبب نزول الآية الكريمة
هنا يقول تعالى لأصحاب رسول الله: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [المائدة:11]، يذكرهم بحادثة ذاك الحربي الذي جاء ووجد الرسول نائماً مستظلاً بظل شجرة في غزوة من الغزوات، فلما وصل أخذ السيف وجرده وقال للرسول: من يمنعك مني اليوم؟ ونجى الله تعالى رسولنا وسقط السيف من يده، وأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟ فقال: كن خير آخذ، ووعد الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يقاتله في المستقبل، وألا ينضم إلى قوم يقاتلونه، هذه واحدة.لكن التي في الآية وهي أقرب إليها -كما سيأتي في الشرح- هي أن بني النضير لما ذهب إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم يطالبهم بدية العامريين؛ لأن وثيقة المصالحة أو المعاهدة بينهم من بين موادها أنهم يساعدون بعضهم في دفع الديات، فالعامريان قتلهما مؤمن ظناً منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمنهم، فجاء قومهما يطالبون بالدية، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان في نفر ونزلوا بديارهم، فتآمروا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وأرادوا أن يلقوا عليه رحى من السطح، ولكن الله عز وجل أخبره بواسطة جبريل وانصرف، وستأتي القصة مفصلة في الدرس إن شاء الله.إذاً: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:11]، متى؟ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ [المائدة:11]، من شرار الخلق، أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [المائدة:11]، بالانتقام، بالقتل، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [المائدة:11]، وهل الرسول صلى الله عليه وسلم هو لكل مؤمن ومؤمنة؟ أي نعم إلى يوم القيامة، لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عبدنا الله، ولا عرفنا الله، ولا استقمنا على منهج الله، ولا توالينا إلى يوم القيامة، كل مؤمن ومؤمنة الرسول له، فحفظ الله رسوله حفظه للمؤمنين أجمعين إلى يوم القيامة، والخطاب واضح: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [المائدة:11]، ما قال: إلى نبيكم فقط، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ [المائدة:11]، أي: أيدي بني النضير، عَنْكُمْ [المائدة:11]، أي: عن رسولكم.
حقيقة تقوى الله تعالى وثمرتها العظيمة
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة:11]، والأمر بالتقوى، وخاصة في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه السورة من أخريات ما نزل، وتقوى الله -كما علمتم- إذا فقدها الإنسان هبط، وتمزق وتلاشى وخسر، وإذا رزقها وحافظ عليها فاز بكرامة الولاية في الدنيا وكرامة السعادة في الآخرة.وتقوى الله دائماً لا ننسى أنها: خوفنا من الله الذي يملكنا وما نملك وإليه مصيرنا، نخافه خوفاً يحملنا على طاعته وعدم معصيته، إذا أمرك أن تقتل ولدك تقتله، أمرك أن تنتحر فتنتحر، فتقوى الله عز وجل خوف يملأ النفس، سببه معرفتك بعظمة الله وجلاله، بقدرته وإنعامه، هذا الخوف يجعلك ما تستطيع أن تقول كلمة تعرف أنه لا يريدها، ما تستطيع أن تتحرك حركة تعرف أنه يكرهها، وبذلك يسهل عليك أن تؤدي الواجبات بارتياح وطمأنينة نفس وتتجنب المنهيات بسعادة أيضاً وانشراح صدر، هذه التقوى ملاك الأمر، من لم يتق الله فجر، خرج عن طاعته، أغضب ربه عليه، وكيف ينجو وكيف يسعد، وفوق ذلك أن تقوى الله عز وجل ليست خاصة بالعبادات، تقواه في الحياة بكاملها، فلا تلصص ولا إجرام ولا خلاف ولا بغض ولا عداء، فالتقوى تساعد على المودة والتعاون والحب والولاء بين المؤمنين، فهي تحفظ علينا دنيانا كما تحفظ ديننا وأخرانا، ولهذا في آيتين كرر لفظ التقوى ثلاث مرات.
التوكل على الله تعالى من خصال المؤمنين
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ [المائدة:11]، لا على سواه، فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة:11]وعلى الله لا على غيره، هذا قصر حقيقي، التوكل مقصور على الله ولا يصح التوكل على غيره كيفما كانت الحال، وَعَلَى اللَّهِ [المائدة:11]، وحده، فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة:11]، أهل الإيمان الكامل، ومعنى هذا: لما ننهض بالواجبات والتكاليف قد تعترضنا العقبات والأزمات، قد تعترضنا جماعات الشياطين من الإنس والجن، فلا يحملنا الخوف على أن نترك ما أمرنا به أو نرتكب ما نهى عنه، نتوكل عليه ونمضي في طريقنا حتى نحقق رضا الله لنا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة:11]، فإنه يكفي من توكل عليه.إذاً: نلفت النظر أيضاً كعادتنا إلى أن الذين يتعاطون المحرمات ويريدون أن يعيشوا عليها خوفاً من الفقر أو المجاعة نقول لهم: توكلوا على الله ولا تبيعوا ولا تشتروا ما حرم الله عليكم، وإن جعتم اليوم فستشبعون غداً، وإن جعتم فقد جاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذين يبيعون المحرمات من أجل الخوف من الفقر أو الجوع نقول لهم: أين التوكل على الله عز وجل؟ وننبه الذين يبيعون المجلات التي فيها صور الخلاعة، يبيعون الأفلام، يبيعون أشرطة الأغاني، لم يبيعون هذه المحرمات في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الذين يعملون في بنوك الربا لم لا يتركون هذا العمل حتى تغلق تلك البنوك؟ لو خرج العمال فهل ستبقى مفتوحة؟ وخاصة في المدينة، حيث لا يستطيعون أن يأتوا بيهود ونصارى، فالمؤمنون إذا قالوا: لن نشتغل، حولوها إلى مصارف إسلامية، فإنها تتحول وتربح وتصبح أفضل مما كانت بمليون مرة. والشاهد عندنا: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة:11]، يفوضون أمرهم إليه، ويطرحون بين يديه، ولا يخيبهم أبداً، وقد يمتحنهم الشهر والشهرين والعام والعامين ليظهر كمالهم والروح الحقيقي، فليصبروا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
والآن مع شرح هذه الآيات في التفسير نفسه فتأملوا. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ ما زال السياق الكريم ] أي: سياق الآيات [ في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يكملهم ويسعدهم، ففي الآية الثامنة أمر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا قوامين لله تعالى بسائر حقوقه عليهم من الطاعات، وأن يكونوا شهداء بالعدل لا يحيفون ولا يجورون في شيء، سواء كان المشهود عليه ولياً أو عدواً، ونهاهم أن يحملهم بغض قوم أو عداوتهم على ترك العدل وقد أمروا به ] أي: بالعدل [ ثم أمرهم بالعدل وأعلمهم أن أهل العدل هم أقرب الناس إلى التقوى؛ لأن من كانت ملكة العدل صفة له كان أقدر وأقوى على أداء الحقوق والواجبات، وعلى ترك الظلم واجتناب المنهيات، ثم أمرهم بالتقوى مؤكداً شأنها؛ لأنها ملاك الأمر، وأعلمهم بأنه خبير بما يعملون؛ لتزداد ملكة مراقبة الله تعالى في نفوسهم فيفوزون بالعدل والتقوى معاً، هذا ما دلت عليه الآية الأولى. أما الآية الثانية: فقد تضمنت بشرى سارة لهم ]، وهي قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:9]، بماذا؟ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [المائدة:9]، [ فقد تضمنت بشرى سارة لهم، وهي أن ربهم قد وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة لذنوبهم والأجر العظيم لهم وهو الجنة، وقلت: بشرى سارة لهم لأنهم هم أهل الإيمان وصالح الأعمال رضي الله عنهم وأرضاهم.أما الآية الثالثة: فقد تضمنت وعيداً شديداً للكافرين المكذبين بآيات الله وحججه التي أرسل بها رسله وأيدهم بها، ولازم لكذبهم وكفرهم خبث أرواحهم، ولذا فهم لا يلائمهم إلا عذاب النار، فكانوا بذلك أصحاب الجحيم الذين لا يفارقونها أبداً ]، لأن الصحبة ملازمة، فلان صاحبي: ملازمني، أصحاب الجحيم ملازمون لها أبداً، وهي ملازمة لهم، أي: لا يفارقونها أبداً.[ وأما الآية الرابعة: فقد ذكرهم تعالى بنعمة عظيمة من نعمه ]، وهي نجاة نبيهم من مؤامرة اليهود والكفار عليهم، [ فقد ذكرهم تعالى بنعمة عظيمة من نعمه هي نجاة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم من قتل أعدائه وأعدائهم وهم اليهود؛ إذ ورد في سبب نزول هذه الآية ما خلاصته: أن أولياء العامريين اللذين قتلا خطأ من قبل مسلم حيث ظنهما كافرين فقتلهما، جاءوا يطالبون بدية قتيلهم ]، جاءوا إلى المدينة يطالبون الرسول بالدية؛ لأن الذي قتل مسلم، [ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الخلفاء الراشدون الأربعة ] أبو بكر وعمر وعثمان وعلي [ وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين إلى بني النضير] شرق المدينة [يطالبونهم بتحمل شيء من هذه الدية بموجب عقد المعاهدة]، الاتفاقية التي تمت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود، فهي مصالحة أو مهادنة، [إذ من جملة موادها] وبنودها [تحمل أحد الطرفين معونة الطرف الآخر في مثل هذه الحالة المالية ]، لو أنهم هم فرضت عليهم دية لجاءوا يطالبون ليعطيهم الرسول صلى الله عليه وسلم حسب المعاهدة، [ فلما وصلوا إلى ديارهم شرق المدينة ]، أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، [استقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحفاوة والتكريم ]، يهود! استقبلوه بالحفاوة: مرحباً، أهلاً وسهلاً، نزلت بدياركم، ستقضى حاجاتكم، استقبلوه بالحفاوة والتكريم، [ وأجلسوه مكاناً لائقاً تحت جدار منزل ]، ما هناك عمارات معروفة من طابق واحد أو اثنين، بل في الظل فرشوا تحت الجدار وأجلسوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.قال: [ وأجلسوه مكاناً لائقاً تحت جدار منزل من منازلهم وأفهموه أنهم يعدون الطعام والنقود ]، اطمئن يا محمد، فحن نعد الطعام ونعد النقود، أموال تجمع من أفراد عديدين.قال: [ وقد خلوا ببعضهم وتآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم ]، فالفرصة سانحة، والذي دبر هذه هو حيي بن أخطب ، [ وقالوا: فرصة متاحة فلا نفوتها أبداً. وأمروا أحدهم أن يطلق من سطح المنزل حجر رحى كبيرة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم فتقتله، وما زالوا يدبرون مكيدتهم حتى أوحى الله تعالى إلى رسوله بالمؤامرة الدنيئة] الهابطة الساقطة، [فقام صلى الله عليه وسلم وتبعه أصحابه ]، قام ومشوا وراءه، [ودخلوا إلى المدينة وفاتت فرصة اليهود واستوجبوا بذلك اللعن وإلغاء المعاهدة وإجلاءهم من المدينة، وقصتهم في سورة الحشر ]، قال تعالى في هذه القصة: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ [الحشر:1-3]، هذه الآيات نزلت في بني النضير، من هو الذي أخرج بين النضير على قوتهم وقدرتهم؟ الله. هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الحشر:2]، ما إن تجمع الرسول برجاله وأحاطوا بالمنطقة حتى استسلموا وانقادوا للخروج.قال: [ والمقصود من هذا بيان المراد من قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [المائدة:11]، أي: بالقتل للنبي صلى الله عليه وسلم، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [المائدة:11]، حيث أوحى إلى رسوله ما دبره اليهود فانصرف وتركهم لم يظفروا بما أرادوا، وهو معنى: فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [المائدة:11] ]، ونحن نقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، حيث نجى الله نبينا ورسولنا من قتل اليهود، لو قتلوه لما وصل هذا النور إلينا.قال: [ ثم أمر الله تعالى المؤمنين ]، من هم؟ نحن المؤمنين، ومن شك فما هو مؤمن، فما حملك على ألا تؤمن؟ وبم أمرهم؟ قال: [ بتقواه ]، يا عباد الله! بم تتقون الله؟ هل عندكم قدرة تكافئ قدرة الله؟ لا والله. إذاً: بم نتقيه؟ بالإسلام له والطاعة والانقياد، أمر ففعلنا، ونهانا فانتهينا، بهذا تتم لك تقوى الله وتظفر بالنجاة، يبقى فقط أنه يجب أن تعرف ما أمر الله به وما نهى عنه، فإن لم تجد في القرية من يعرف ذلك فارحل إلى قرية أخرى، ما وجدت في قرى منطقتكم فارحل إلى منطقة أخرى، جاء الناس من الأندلس إلى المدينة يتعلمون الحلال والحرام والطاعات والمنهيات، إذ ليس من المعقول: أن عبداً لا يعرف أوامر الله ولا نواهيه ويتقيه، كيف يتقيه ما دام لا يعرف المأمور به فيتركه وهو لا يدري، ولا يعرف المنهي عنه فيفعله وهو لا يدري! فلا بد من معرفة ما نتقي الله فيه، وهي أوامر ونواه من العقائد إلى الأقوال إلى الأعمال.وما هبطت أمتنا وسادها الشرق والغرب ومزقها إلا بعد أن جهلت وما عرفت فيما تتقي الله، وإلى الآن سكرى، اليوم سمعنا خبراً عجيباً من رجل صالح يقول: إنه سمع في الإذاعة أن البوسنة والهرسك أخذت تجهز شبيبتها وتبعث بها إلى الروافض في إيران، فيا للمصيبة.. يا للمحنة! هذا جزاؤنا لأننا معرضون، إذا تقوت تلك الأمة فستعرف ماذا تفعل بكم! فاليهود والنصارى أرحم منهم، ونحن في سكرة بحب الدنيا وأوساخها.قال: [ ثم أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه؛ إذ هي سلم كمالهم وسبيل نجاحهم ]، التقوى سلم الكمال وطريق النجاح، وهي عبارة عن امتثال أمره وأمر رسوله، واجتناب نهيهما، مع معرفة ما يأتي:أولاً: بدون علم ما نستطيع أن نتقي الله.ثانياً: مع الفرقة والنزاع والصراع لن نقوم بالواجبات، لو كان أمرنا واحداً فنحن المسلمين فقط يوم يوجد القتال في البوسنة والهرسك نتولى طرد ذلك العدو وإبعاده، وننشر دعوة الله في إخواننا، لكن هل تحركت أمتنا؟قال [ ثم أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه؛ إذ هي سلم كمالهم وسبيل نجاحهم، وهي عبارة عن امتثال أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، واجتناب نهيهما، وأرشدهم إلى التوكل عليه تعالى في جميع أمورهم بقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122] ].بالمناسبة: كتبت كلمة وبعثنا بها إلى جريدة (المسلمون)، وما نشروها، لأننا هابطون، قلت: آن الأوان لأن تكون تركيا هي المركز، بلاد واسعة شاسعة في أوروبا، فعلى كل دولة إسلامية أن تبعث بفريق من جيشها، هذه تبعث خمسة ألاف وهذه تبعث عشرين ألفاً، وهذه عشرة وكذا فيتجمع على الأقل مليون مقاتل، ما إن تتجمع تلك القوات حتى تنهار تلك القوى الكافرة، ولكنا قد حررنا تلك الأمة المضطهدة المعذبة وغمرناها بنور العلم والإسلام والمعرفة، ولكن هزمنا أنفسنا فهزمناها، الآن المسيحيون من جهة يدخلون وينشرون الباطل والكفر، والمجوسية أيضاً، فلا إله إلا الله! وا حسرتاه!
هداية الآيات
[ هداية الآيات:أولاً: وجوب القيام بحق الله تعالى على العبد وهو ذكره وشكره بطاعته ]، لقوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ [المائدة:8].[ ثانياً: وجوب العدل في الحكم والقول والشهادة والفعل ومع الولي ومع العدو سواء.ثالثاً: تأكيد الأمر بتقوى الله ]، فلابد منها.[ رابعاً: الترغيب والترهيب بذكر الوعد والوعيد ]، كما تقدم.[ خامساً: وجوب ذكر النعمة حتى يؤدى شكرها ]، فالذي لا يذكر النعمة والله ما يشكرها، فلنجري نعم الله على ألسنتنا؛ حتى نقول على الأقل: الحمد لله، نركب السيارة وننزل وما نعرف: الحمد لله! نأكل ونشرب وما نعرف: الحمد لله! ننام ونقوم وما نعرف: الحمد لله! إذاً فكيف نشكر؟[ سادساً: وجوب التوكل على الله تعالى والمضي في أداء ما أوجب الله تعالى ].اللهم أيقظ المسلمين من غفلتم، وابعثهم بعثاً جديداً إليك يا رب العالمين ليعبدوك ويوحدوك وتتحد كلمتهم على رضاك ومحبتك، اللهم يا ولي المؤمنين تولنا ولا تتركنا لغيرنا يا رب العالمين.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
30-05-2021, 04:25 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (3)
الحلقة (313)
تفسير سورة المائدة (11)


يخبر الله سبحانه وتعالى عن اليهود أنه قد أخذ ميثاقهم على عهد موسى عليه السلام بأن يعملوا بما في التوراة، وأن يقاتلوا الكنعانيين ويخرجوهم من بيت المقدس، وبعث منهم اثني عشر نقيباً، فهؤلاء اليهود قد نقضوا عهدهم وميثاقهم، فكان جزاؤهم عند الله سبحانه وتعالى أن لعنهم، وجعل قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه، ونسوا كثيراً مما جاءهم به أنبياؤهم، فلا تصلح أحوالهم ولا يستقيم أمرهم.
تفسير قوله تعالى: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). فهنيئاً لكم معشر الدارسين والمستمعين.ما زلنا مع سورة المائدة المباركة الميمونة، وألفت نظر المستمعين إلى أننا لا نرتل الآيات ترتيل أهل القرآن؛ من أجل أن نفهم معنى مراد الله عز وجل، هذا هو السر، وإلا فلو رتلنا فإن أكثر المستمعين لا يتفطنون لمعنى الآية. يقول تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:12-13].
المراد ببني إسرائيل
قول ربنا جل ذكره: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:12]، هذا إخبار من الله، الله يخبر عن نفسه: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:12]، من هم بنو إسرائيل؟ اليهود، لم قيل فيهم: بنو إسرائيل؟ لأن إسرائيل لقب ليعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، هم بنو إسرائيل، ويحتفظون بنسلهم وذريتهم، فلهذا ما اختلطت بهم الأمم ولا الشعوب، ما يزوجون بناتهم لغيرهم، ولا يتزوجون من غيرهم إلا نادراً، فاحتفظوا بهذه النسبة، وهم المعروفون بعد ذلك باليهود، وقيل في تسميتهم باليهود: إنهم لما فعلوا تلك الجريمة، وطلب الله تعالى منهم التوبة قالوا: هدنا إليك يا ربنا، أي: رجعنا، فقيل فيهم: يهود، من هاد يهود: إذا رجع تائباً.
مناسبة الآية لما قبلها
إذاً: من أخذ عليهم الميثاق؟ الله عز وجل. وقد نقضوه: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ [المائدة:13]، وما هو الميثاق؟ العهد الموثق المؤكد باليمين ذلك هو الميثاق؛ لأنه يربط صاحبه ربطاً كاملاً، وهنا ذكر تعالى هذا لنذكر نحن ميثاقنا مع ربنا، فقد تقدم ذلك في الآيات السابقة، ويكفي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة:8-11]، فنحن عاهدنا ربنا ووثقنا المعاهدة عندما قلنا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]، فما من مؤمن ولا مؤمنة شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إلا وقد عاهد الله على أن يعبده وحده وبما شرع في كتابه وعلى لسان رسوله، ويجب الوفاء بذلك حتى الموت، ومن أشرك بالله أو أعرض عن عبادته فقد نقض ميثاقه، ولا عجب أن يحدث النقض، وقد حدث في بني إسرائيل أبناء الأنبياء.ثم المناسبة أيضاً في الآية: أنه تقدم لنا أن الله عز وجل طلب منا شكره على نجاة نبينا من قتل اليهود، وعرفنا كيف تآمر بنو النضير على قتله صلى الله عليه وسلم، وبالفعل هموا وعزموا وأرادوا، ولكن الله سلم ونجى نبينا من غدرهم وخداعهم، فكانت نعمة على كل مؤمن ومؤمنة أن يذكرها ويشكر الله عليها، ولا عجب فها هم بنو إسرائيل أمامكم، واسمعوا ماذا يجري فيهم وما تم لهم، فقال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:12]، ونقضوه مئات المرات.
معنى قوله تعالى: (وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً)
وقوله: وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا [المائدة:12]، النقيب فوق العريف، النقيب ذاك المسئول الذي ينقب على الأمور ويبحث عنها ويصلحها وينظمها، والجمع: نقباء، قالت العلماء: هي درجة أعلى من العريف. إذاً: هؤلاء النقباء اختارهم موسى عليهم السلام، وكانوا اثني عشر نقيباً، كل قبيل أو سبط من أسباطهم، أو كل عائلة أو أسرة من أسرهم أخذ منهم رجلاً من خيرتهم، وبعث بهم ليتحسسوا أو ليزنوا قوة العمالقة وقدرتهم على القتال في فلسطين، وهذا يوم خرج موسى ببني إسرائيل في صحراء سيناء وكان الذي كان كما سيأتي؛ حيث جبنوا وما استطاعوا أن يقاتلوا؛ فكتب الله عليهم التيهان أربعين سنة في تلك الصحراء. ولما كان موسى يقودهم في الطريق ليقاتل العمالقة من كفار ومشركين ويخرجهم من أرض القدس بعث هؤلاء النقباء ليعرفوا قيمة قتال الكافرين، وقدرتهم على القتال، فأصيبوا بالخور والجبن والضعف، إلا رجلين منهم فقط، كما سيأتي بيانه في الآيات.
معية الله تعالى لعباده المؤمنين
قال تعالى: وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ [المائدة:12]، باسم الله، قاتلوا العمالقة تنتصروا عليهم، أنا معكم، ومع هذا ما فعلوا، فالنقباء جاءوا يقولون العجب، يروى أن أحدهم قال لهم: إن عملاقاً أخذني وجعلني في جيبه، ووضعني بين أطفال يلعبون بي ويضحكون علي! ومن عاش أيام حرب ألمانيا الأخيرة سمع من العجب أكثر من هذا، فانهرموا فقالوا: لن نقاتل، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].وكتب الله عليهم التيه أربعين سنة: يرحلون وينزلون، ويرحلون وينزلون، وأمدهم باللحم والعسل في تلك الصحراء، آية من آيات الله، ومات موسى عليه السلام وقبله هارون عليه السلام، ثم قادهم يوشع بن نون ، بعدما مات الجيل المهزوم وجاء جيل جديد، بعد أربعين سنة، كل من كان عمره أكثر من عشرين سنة وأربعين مات، فغزا بهم ودخل بيت المقدس وطهرها.والشاهد في قوله تعالى: وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ [المائدة:12]، وهل قال الله لنا: إني معكم؟ الجواب: نعم. أما قال في عشرات الآيات: أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194]، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:19]؟ فهيا اعملوا جاهدوا فالله معكم، الخور والجبن والضعف لا يصح، وإلا فكيف يخبر الله بأنه مع المتقين ولا نتقيه، يخبر بأنه مع المحسنين ولا نحسن سلوكنا ولا أعمالنا؟
اشتراط إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لتحقق الوعد الإلهي
وقوله تعالى: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ [المائدة:12]، انظروا إلى هذا الوعد الإلهي: وعزتي وجلالي لئن أقمتم الصلاة. وإقامة الصلاة هي أنه إذا أذن المؤذن وقف العمل، الفلاح يلقي بالمسحاة، الحداد يلقي بالآلة، التاجر يغلق باب تجارته، نادى المنادي فوقف العمل وأقبلت الأمة إلى بيت الرب، فيقيمون الصلاة يصلونها كما أمر الله وبين رسوله، وذلك طول الحياة، الصيف كالشتاء والخريف كالربيع، وحالة الجوع كحالة الغنى، هذا إقام الصلاة؛ لأنها عبادة يومية تلازم الحياة إلى نهايتها، فالمقيمون للصلاة أولئك الذين يتحدثون مع الله ويتكلمون معه ويناجونه خمس مرات في اليوم والليلة، إيمانهم لا يضعف، عقيدتهم لا تتزعزع كمالهم لا ينقص، بل يزدادون كمالاً وثباتاً، ومظهر تلك الإقامة: أنه لا يبقى في المدينة ولا القرية فحش ولا منكر ولا باطل ولا خبث ولا شر ولا فساد، وإن قلت: ها نحن نقيم الصلاة ونشاهد هذا، قلنا: فهل الذين يقيمون الصلاة تجدهم في السجون يتعاطون الحشيش أو الأفيون؟ والله لا أحد منهم، هل الذين يقيمون الصلاة تراهم يشهدون الزور في المحاكم؟ هات واحداً منهم؟ هل الذين يقيمون الصلاة ترى بينهم من يسب ويشتم الناس؟ فالذين خرجوا عن نظام الله في طاعته وطاعة رسوله إما تارك صلاة أو مصلون غير مقيمين للصلاة، يدخلها ويخرج منها ما عرف ماذا كان يقول ولا مع من كان قائماً. لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ [المائدة:12]، أي: أعطيتم الزَّكَاةَ [المائدة:12] ثانياً، من كان عنده مال صامت أو ناطق، بين لنا رسولنا كيف نزكي الإبل والبقر والغنم، إذا حال الحول على غنمك أو بقرك أو شاة ضأنك فزك، هذا هو المال الناطق، والصامت كالغلال: البر والقمح والشعير والتمر والثمار، حصدت باسم الله فأخرج الزكاة، والصامت أيضاً: الدينار والدرهم، حال الحول على ما عندك وهو يساوي قيمة سبعين جرام ذهب فأخرج زكاته.
صورة مثالية لحياة إسلامية اجتماعية
لو كان أهل القرية أهل الحي من أحياء المدن يجتمعون في بيوت ربهم اجتماعنا هذا، وذلك كل ليلة طول العمر، يتلقون الكتاب والحكمة بالنساء والرجال والأطفال، النساء وراء ستارة والأطفال دونهن في صفوف كصفوف الملائكة وعليهم من يراقبهم والفحول أمام الجميع، ويدرسون كتاب الله كما ندرس الآن طول الحياة، هل يبقى بينهم ظالم جاهل؟ لا يبقى، يصبحون كالملائكة، هذه القرية صندوقها الحديدي أو الخشبي في محراب المسجد؛ لأن مسجد القرية أو الحي يصبح كخلية النحل، يبيت الناس ركعاً وسجداً يبيتون يتلون كتاب الله، لا يخلوا أبداً المسجد من الصالحين طول النهار والليل، ما يغلق باب المسجد، وفيه صندوق يقول المربي: معاشر المؤمنين والمؤمنات! من وجبت عليه زكاة فليأت بها ليودعها في هذا الصندوق، من وجبت عليه كفارة فليودعها في هذا الصندوق، من أراد أن يتصدق عن أبويه فليأت بصدقته، هذا الصندوق يمتلئ، والله ما يبقى في قريتهم أو حيهم من يسأل الناس أو يمد يده أو يفكر في أن يسرق أو يسلب أو يرتكب جريمة، وتظهر ثمار الزكاة، فإن قلت: ما نستطيع أن نفعل هذا يا شيخ؟ إذاً: فليبق هذا الهبوط والسقوط والبلاء والشقاء.
أركان الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل وجزاء الوفاء به
والشاهد عندنا: أن بني إسرائيل هؤلاء أخذ الله عليهم هذا العهد والميثاق: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي [المائدة:12]، عامة الرسل، كل من أرسله الله فهو رسول، من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي [المائدة:12]، ومع الأسف أنهم كفروا بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهم كفروا بالرسل، وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي [المائدة:12]، هذا مما أخذ عليهم من العهد، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ [المائدة:12]، قويتموهم ونصرتموهم، معظمين مبجلين لهم، لا مهينين ولا محتقرين لهم، وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [المائدة:12]، أيضاً، وهو غير الزكاة، الصدقات تسمى: قرضاً، من أراد أن يقرض الله فالله يقبل القرض، ويرد عليك بالأضعاف: الحسنة بعشر، حتى يسد باب الفقر وتنتهي الخلة بين المؤمنين.ثم ذكر الجزاء فقال: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [المائدة:12]، التي قارفتموها وارتكبتموها، وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [المائدة:12]، الأنهار تجري من تحت الجنة، من تحت قصورها ومن تحت أشجارها وما فيها من نعيم، فالدنيا الزائلة فيها أنهار، فكيف بالدار الخالدة؟ وقد عرفنا الأنهار في الجنة في كتاب الله، نهر الماء غير الآسن، واللبن الذي لم يتغير طعمه والخمر التي هي لذة للشاربين والعسل المصفى.

يتبع

ابوالوليد المسلم
30-05-2021, 04:26 AM
وعيد الله لبني إسرائيل في نقض ميثاقهم
ثم قال لهم: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [المائدة:12]، أخطأ الطريق الموصل إلى السعادة والكمال، بل تاه في متاهة الضياع والخسران، هذا مما أخذ الله على بني إسرائيل، وتوعدهم، ونحن مثلهم أم لا؟ نحن أولى بهذا، اسمع ما أعطانا نحن: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55]، بماذا؟ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، هذا لنا أو لبني إسرائيل؟ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [النور:55] يا أمة محمد، وعدهم بماذا؟ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ [النور:55]، أي: يجعلهم خلفاء يسودون العالم ويحكمون الناس، وهل فعل أو لم يفعل فعل؟ لقد فعل، فثلاثمائة سنة وراية الإسلام في عنان السماء ولا استطاع الشرق ولا الغرب أن ينال منها منالاً، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]، كانوا في المدينة ما يستطيع أحدهم أن يتبول في الليل، وبدل الله الخوف بالأمن، ولكن: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، وقال لبني إسرائيل أيضاً: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [المائدة:12].
تفسير قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ...)
ثم قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ [المائدة:13]، نقضوا، فَبِمَا نَقْضِهِمْ [المائدة:13]، و(ما) هذه زائدة لتقوية الكلام، الأصل: فبسبب نقضهم، لكن (ما) هنا تلفت النظر، فَبِمَا نَقْضِهِمْ [المائدة:13]، أي: بنقضهم، ينقضون ماذا؟ العهد والميثاق، فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [المائدة:13]، ماذا فعلنا بهم؟ لَعَنَّاهُمْ [المائدة:13]، ومن لعنه الله هل يسعد، يكمل، يطيب ويطهر؟ لقد أبعده من ساحة الخير كاملة.قال تعالى: لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [المائدة:13]، تعرفون قساوة القلب: يذبح طفله، ويشرب دم أبيه وأمه ولا يبالي، وهذا معروف به اليهود، وانتقل إلى غيرهم، والشاهد عندنا: أن القلب القاسي ذاك الذي لا يرق ولا يعطف ولا يرحم، لا يرى إلا حاجته ومصلحته. قال تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة:13]، نوع من بيان القساوة، يحرف كلام الله عن موضعه فيضع بدل هذه الكلمة كلمة أخرى؛ ليضلل الناس، فأي قساوة أعظم من هذه؟ لو كان قلبه يرق أو يخاف فلن يقدم على هذا، كلام الله يبدله للمصلحة أو الفائدة! وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13] على ألسنة أنبيائهم ورسلهم، حظاً كبيراً. وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ [المائدة:13] يا رسولنا عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [المائدة:13]، (خَائِنَةٍ): طائفة خائنة أو خيانة بمعنى واحد، وإلى الآن لو كنا بصراء وسادة نكشف خفاياهم ونعرف خيانات رجالهم ونسائهم، هذا إلى يوم القيامة: وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [المائدة:13]، وهذا يذكر بحادثة بني النضير، أما انكشفت سوأتهم وظهرت خيانتهم؟ وبعدها بنو قريظة خانوا وانضموا إلى الأحزاب وأرادوا أن يقاتلوا معهم، وإلى الآن وإلى يوم القيامة، ومع هذا قال له: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [المائدة:13]، لا تؤاخذهم واصفح عنهم، أعرض عنهم أعطهم صفحة وجهك ولا تلتفت إليهم. فهل هذا منسوخ بالأمر بقتالهم؟ ذلك جائز، وجائز أن يكون كل من يحصلون هذا الفساد ونحن أقوياء وقادرون وحكام وعالمون أنه يصفح عنهم إمامنا وذلك لأن الله يحب المحسنين: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:13]، هل قتل الرسول من بني النضير رجلاً واحداً؟ تآمروا على قتله بالفعل واعترفوا وطوقهم برجاله كذا يوماً، وأخيراً قال: اخرجوا، وأذن لهم أن يحملوا أموالهم معهم، حتى الأبواب في المنازل أخذوها، حتى الأخشاب التي لهم حاجة إليها حملوها، هذا امتثال أمر الله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:13].
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
مرة ثانية: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:12]، وأخذ الله ميثاقكم أيها المؤمنون، إذاً: فاثبتوا لا تتزعزعوا مهما كانت الظروف والأحوال، لا تخونوا عهدكم مع ربكم، أقيموا الصلاة وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر.قال: وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا [المائدة:12]، وسيأتي بيان هذه الحادثة في الآيات الآتية إن شاء الله، وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ [المائدة:12]، وهو أيضاً معنا، إلا من يخون، أما إذا خنا العهد ونقضناه فهو بريء منا فلا ينصرنا ولا يؤيدنا وقد فعل، فهل نصر المسلمين على اليهود؟ما نصرهم؛ لأنهم أبوا أن يكون الله معهم، ما أقاموا الصلاة ولا آتوا الزكاة، ولا أمروا بالمعروف ولا نهوا عن منكر، أشاعوا الربا والزنا والباطل والكذب والخيانة، والشرك والخرافة والضلال، هذا هو العالم الإسلامي، وجاء يريد أن يقاتل اليهود! كلما يتحركون تؤدبهم اليهود إلى اليوم، فكيف يتم هذا؟ لأن الله ليس مع المسلمين، ما سبب ذلك؟ أنهم نقضوا العهد، هل أقاموا الصلاة؟ هل جبوا الزكاة؟ هل أمروا بالمعروف؟ هل نهوا عن منكر؟ ما هي إلا هذه البقعة القليلة، وها نحن نهدم بيد فسقنا وفجورنا! لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [المائدة:12] الجواب: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [المائدة:12]، وهذا عهد الله لنا أيضاً، ونحن خير منهم، والله لئن أقمنا الصلاة وآتينا الزكاة، وآمنا برسل الله وعزرناهم ولو بعد موتهم، نعظمهم ونجلهم ونحبهم، وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [المائدة:12] في مشاريع الخير والهدى لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [المائدة:12]، ومعنى هذا: أنه خسر الدنيا والآخرة، طريق السعادة والكمال ضل عنه وما اهتدى إليه. ثم قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [المائدة:13] يدل على قساوتها أنهم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة:13]يحرفون كلام الله، يضعون آية موضع آية تبيح لهم ممنوعاً، أو تحرم عليهم مباحاً، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13] هل المسلمون الآن ذاكرون لكتاب الله لأوامره ونواهيه؟ لقد نسوا حظاً كبيراً.قال: وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [المائدة:13] وها نحن نشاهد هذا في ديار المسلمين، كل عام تظهر خيانة وفساد وباطل وشر، في كل مكان، وكان ذلك مع اليهود.
تفسير قوله تعالى: (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به...)
وكان مع النصارى، حيث قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:14] قالوا: إنا نصارى نسبة إلى النصرانية ملة كاليهودية، وهل هي مشتقة من الناصرة لأن عيسى كان في قرية الناصرة، أو من قول الحواريين: نحن أنصار الله؟ الكل صحيح، النصارى هم عباد المسيح، هم المسيحيون هم الصليبيون.قال تعالى: أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ [المائدة:14] كما أخذناه على اليهود فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا [المائدة:14]، الذي أخذنا عليهم العهد والميثاق أن يقوموا به ويعملوا به، ويؤدوه من العقيدة إلى العبادة إلى طاعة الله، نسوا حظاً كبيراً وأعرضوا عنه. فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:14] إذاً: ذاك النسيان ورثهم العداوة والبغضاء، فاختلفوا فتباغضوا وتدابروا، كما أخبر تعالى عنهم فقال: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:14].
مكر اليهود بالنصارى وتحريفهم دينهم وتلبيسهم عليهم
النصارى -يا معشر المؤمنين والمؤمنات- رجال آمنوا بعيسى عليه السلام، وهم من بني إسرائيل، لما كفر اليهود برسالة عيسى ونبوته، وادعوا أنه ساحر وأنه ابن زنا، وألبوا عليه الأمة بكاملها فتح الله على بعض الناس فآمنوا بعيسى، وسموا بالحواريين وبأنصار الله.واليهود -كما علمتم- حكموا على عيسى بالإعدام وأعدموا من شبهه الله لهم، ثم نزح بعيداً عن بيت المقدس إلى الشمال، وكون جماعة تعبد الله وتوحده، ورفع عيسى وبقيت الجماعة تعبد الله قرابة سبعين سنة فقط بعبادة شرعية كما هي في الإنجيل والتوراة، ثم احتال اليهود عليهم لما شاهدوا رئيس الحكومة الرومانية أسلم ودخل في المسيحية، وأصبحت الدولة تحمل راية التوحيد والإسلام، فـبولس عليه لعائن الله تنصر، وهو من كبار اليهود، وانضم إلى قسطنطين، وأخذ يفسد عليهم في المسيحية، فحولها إلى خرافات وضلالات، وهو الذي أفسدها عليهم، وأصبحت العداوة والبغضاء بينهم؛ لأنهم اختلفوا، هذا يقول كذا وهذا يقول كذا، كما قال تعالى: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:14]، الإنجيل زادوا فيه ونقصوا منه، وتحول إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً! كل ذلك زيادات أضيفت إلى الإنجيل، وما هناك من يحفظه عن ظهر قلب، وأخيراً لما انفضحوا أمام العالم تجمعوا ووحدوا الإنجيل، وجعلوه خمسة أناجيل، فالعاجز كالقوي، والعليم كالجاهل يقول: كيف يصبح كتاب الله خمسة كتب؟! لا شك أن أربعة كلها كذب وخرافات وضلالات.والشاهد عندنا: في مكر اليهود بهم، وفي أن النصارى نقضوا عهد الله عز وجل، أمروا أن يؤمنوا بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يلتفوا حوله، ويرفعوا راية الإسلام، فآثروا الدنيا على الآخرة، والباطل على الحق لشهواتهم وأهوائهم، ونسوا حظاً كبيراً وكثيراً مما ذكروا به في التوراة والإنجيل، وعلى لسان عيسى عليه السلام.كذا يقول تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:14] أيضاً أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ [المائدة:14] كما أخذنا من اليهود فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:14]، وإذا نبأهم وأخبرهم بجرائمهم فمعنى ذاك: أنه يجزيهم عليها، وهل ينبئهم لا لشيء فقط؟! بل ينبئهم بجرائمهم وكفرهم وفسادهم ليجزيهم به ويؤاخذهم عليه: بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:14].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
على كل حال نسمعكم الآيات مرة أخرى من التفسير في هذه الصفحة؛ لتزدادوا إن شاء الله معرفة.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيتين: ما زال السياق الكريم في بيان خبث اليهود وغدرهم، فقد أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أن اليهود الذين أخذ الله ميثاقهم على عهد موسى عليه السلام بأن يعملوا بما في التوراة وأن يقاتلوا الكنعانيين ويخرجوهم من أرض القدس، وبعث منهم اثني عشر نقيباً؛ هؤلاء قد نكثوا عهدهم ونقضوا ميثاقهم، وأنه لذلك لعنهم وجعل قلوبهم قاسية، فهم يحرفون الكلم عن مواضعه، فقال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ [المائدة:13] أي: فبنقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة ويطيعوا رسولهم لَعَنَّاهُمْ [المائدة:13] أي: أبعدناهم من دائرة الرحمة وأفناء الخير والسلام وجعلنا قلوبهم قاسية شديدة غليظة، لا ترق لموعظة، ولا تلين لقبول هدى، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة:13] فيقدمون ويؤخرون ويحذفون بعض الكلام، ويؤولون معانيه لتوافق أهواءهم، ومن ذلك تأويلهم الآيات الدالة على نبوة كل من عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وذلك في التوراة، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13]، أي: وتركوا كثيراً مما أمروا به من الشرائع والأحكام معرضين عنها ناسين لها كأنهم لم يؤمروا بها، فهل يستغرب -إذاً- ممن كان هذا حالهم الغدر والنقض والخيانة؟ وَلا تَزَالُ [المائدة:13] يا رسولنا تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة:13] أي: على طائفة خائنة منهم، كخيانة بني النضير، إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [المائدة:13] فإنهم لا يخونون، كـعبد الله بن سلام وغيره، وبناء على هذا فَاعْفُ عَنْهُمْ [المائدة:13] فلا تؤاخذهم بالقتل وَاصْفَحْ [المائدة:13] عنهم فلا تتعرض لمكروههم، فأحسن إليهم بذلك إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:13]. هذا ما دلت عليه الآية الأولى. أما الآية الثانية في هذا السياق فقد أخبر تعالى عن النصارى وأن حالهم كحال اليهود، لا تختلف كثيراً عنهم، فقد أخذنا ميثاقهم على الإيمان بي وبرسلي وبالعمل بشرعي، فتركوا متناسين كثيراً مما أخذ عليهم من العهد والميثاق فيه، فكان أن أغرينا بينهم العداوة والبغضاء كثمرة لنقضهم الميثاق، فتعصبت كل طائفة لرأيها، فثارت بينهم الخصومات وكثر الجدل، فنشأ عن ذلك العداوات والبغضاء، وستستمر إلى يوم القيامة، وسوف ينبئهم الله تعالى بما كانوا يصنعون من الباطل والشر والفساد، ويجازيهم به الجزاء الموافق لخبث أرواحهم وسوء أعمالهم، فإن ربك عزيز حكيم ].وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
30-05-2021, 04:28 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (4)
الحلقة (314)
تفسير سورة المائدة (12)


يخاطب الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب من يهود ونصارى بأنه أرسل إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم فكذبوه وجحدوا نبوته وحاربوه، وهو نبي مرسل من عند الله، والدليل على ذلك أنه بين لهم كثيراً مما كانوا يخفون من كتبهم والأحكام التي كانت مسطورة فيها، فهذا النبي الذي كذبوا وجحدوا به جاءهم بالنور المبين من ربه، وعليهم اتباعه إن أرادوا النجاة والفوز في الآخرة.
تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة المائدة المباركة الميمونة، مع هاتين الآيتين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15-16].
المقصود من نداء اليهود والنصارى بلفظ أهل الكتاب
اسمع هذا النداء نداء الله لهم، قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:15]، من هم؟ اليهود والنصارى؛ لأن اليهود أهل كتاب هو التوراة، والنصارى أهل كتاب هو الإنجيل، الأصل التوراة والأصل الإنجيل، لكن التوراة زيد فيها ونقص منها؛ لأن الله ما تولى حفظها كما تولى حفظ القرآن، والإنجيل أصبح خمسة وثلاثين إنجيلاً ثم اجتمعوا على أربعة أناجيل في آخر شيء، لكن في الحقيقة هم أهل كتاب، فالنداء حق: (يا أهل الكتاب)، وفيه معنى الذم، يذمهم، يلومهم، يعتب عليهم، أهل كتاب ويضلون! أهل كتاب ويكفرون! أهل كتاب ويفسقون! أهل كتاب ويعمون وهم أهل النور! ما يناديهم تشريفاً لهم، وإنما ليذمهم، ويذكرهم بهبوطهم وسقوطهم.
بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لكثير مما يخفيه أهل الكتاب
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا [المائدة:15] من هو هذا الرسول الإلهي؟ هذا محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الإضافة إضافة عجيبة، إضافة تشريف، إضافة تعظيم، هذا رسول الله، ما قال: قد جاءكم رسول، أو أرسلنا إليكم رسولاً، قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا [المائدة:15] المبجل المعظم، وأنتم تؤمنون بنا وتخافوننا، وتطمعون فينا، ويأتيكم رسولنا فتحاربونه وتكذبونه وتكفرون به؟ أين يذهب بعقولكم؟ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ [المائدة:15] (قد) للتحقيق، وبالفعل جاء، فها هو ذا قبره وهذا مسجده وهذه أمته، ودعاهم ثلاثاً وعشرين سنة. قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا [المائدة:15] الإضافة للتشريف والتعظيم، قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ [المائدة:15] مهمته ورسالته التي جاء بها: أنه يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ [المائدة:15].وجاءهم ليدعوهم إلى أن يعبدوا الله عز وجل ويسلموا ويدخلوا الجنة، هذه دعوة عامة، لكن هنا لما تمردوا وطغوا ونقضوا العهود قال لهم: يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ [المائدة:15]، وهذا وحده كاف في أن يكون محمد رسول الله، ويستحيل أن يكون غير رسول الله؛ لأنه أمي عربي عاش أربعين سنة لم يعرف ألفاً ولا باء! ثم يبين خبايا أهل الكتاب وما يسترونه وما يخفونه، فكيف يتم هذا لمن لم يكن يوحى إليه، ورسولاً يرسله الله إلى الأرض؟! يبين لكم كثيراً من الشرائع والأحكام والآداب والعبادات التي تخفونها أنتم، ومن أبرزها أو أمثلها الرجم، لما زنا اليهودي واليهودية أمرهم الرسول أن يرجموهما فقالوا: ما في كتابنا رجم أبداً، فقط نركبه على حمار ونطوف به في الأحياء ونسوده بالفحم أو بكذا، ما عندنا رجم، فقال: هاتوا التوراة. فقرئت في المسجد، فقرأ القارئ ولما انتهى إلى موضع الرجم وضع يده عليها، فقال عبد الله بن سلام : ارفع يدك، وإذا فيها رجم الزانية والزاني. أقول: هذه علامات النبوة الصادقة، فمحمد رسول الله يستحيل أن يكون غير رسول الله، فهو لم يكن يعرف عن اليهودية ولا عن النصرانية ولا عن الإنجيل ولا التوراة شيئاً أبداً، كأبيه وأمه وقومه، فإذا به يبين لهم كثيراً مما يخفون ويجحدونه على البشر، إيثاراً للدنيا والشهوة والمنصب والتكالب على أوساخ الدنيا، جحدوا على إخوانهم وبني عمهم، صرفوهم عن الدخول في الإسلام بهذه الدعاوى، لولا مكر علماء اليهود وعلماء النصارى لكانوا يدخلون في دين الله في يوم واحد، لكن الرؤساء والزعماء والمسئولون هم الذين منعوهم وصرفوهم بما يكذبون عليهم ويبينون لهم غير الحق. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ [المائدة:15] أي: التوراة والإنجيل، فالكتاب للجنس. وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة:15] ويترك كثيراً مما ليس هناك حاجة إلى ذكره وبيانه، وإنما ذكر أشياء فضحهم بها، وأقام الحجة عليهم بأنها في بطون كتبهم، وقد بينها لهم، وأخرى تركها لأنها لا فائدة من ذكرها.
يتبع

ابوالوليد المسلم
30-05-2021, 04:28 AM
معنى قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)
ثانياً: (( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ))[المائدة:15]، يا أهل الكتاب! قد جاءكم من الله نور عظيم لا ترون شيئاً في الحياة إلا به، النور لولاه ما رأينا شيئاً، هل العين تبصر في الظلام؟ ما تبصر شيئاً، لا بد من نور الشمس أو نور القمر أو الكوكب أو نور المصباح، هذا النور بدون الإيمان به واتباعه وتعظيمه وإجلاله وحبه وإكباره والله ما ترون ما يسعدكم ولا ينجيكم، بصائركم لا ترى شيئاً إلا على هذا النور، فهل ظهرت هداية اليهود والنصارى بعد محمد صلى الله عليه وسلم إلى الآن؟ هل ظهر فيهم طهر وصفاء ومودة وحب وعز وكرامة؟ ما وقع شيء؛ لأنهم يمشون في الظلام، العهر والفجور والجرائم وأندية اللواط، والتلصص، والإجرام، وقتل البشرية، وتمزيق لحومها، قل ما شئت، أين النور الذي يهتدون عليه، كفروا به ورفضوه وأعرضوا عنه، فكيف يهتدون؟ (( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ ))[المائدة:15] ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا عبد الله! يا أمة الله! والله إن الذي لا يؤمن بمحمد رسولاً ويحبه ويعظمه ويمشي وراءه ما رأى شيئاً، إنه يعيش في الظلام، ولن يهتدي إلى سعادة ولا إلى كمال، إما أن تؤمن به وتحبه وتعظمه، وتسمع له وتمشي وراءه فتهتدي؛ إذ هو نورك بين يديك، وإما أن تعرض عنه وتكفر به ولا تبالي به؛ فوالله ما تخرج من الظلام سواء كنت يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو مسلماً، إلا أن المسلم لا يمكن أن يبتعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ ))[المائدة:15] هذا المصدر الذي جاء منه، الله هو الذي أرسله ونبأه وأعده إعداداً خاصاً وهو في أرحام أمهاته وأصلاب آبائه، قد جاء من الله نور وكتاب مبين، الكتاب المبين البين الواضح القرآن، إي والله إنه القرآن، ها نحن- وأكثرنا من العوام- نسمع هذا الكلام، فهل يحصل اضطراب في النفس وغموض؟ (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ))[المائدة:15] أي إنسان لا يفهم هذا الكلام؟(( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ))[المائدة:15] حقاً إن القرآن مبين، بين العقيدة، بين العبادة، بين الأحكام الشرعية، السياسية، المالية، الاقتصادية، الاجتماعية، الآداب، الأخلاق، بين ملكوت السماء وما فيه من كمالات، بين الأرض حتى الذرة، وكل شيء مبين في هذا الكتاب، مبين غاية الإبانة. وأما النور فهو الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ جاء في سورة النساء: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ))[النساء:174]، فالبرهان هو محمد صلى الله عليه وسلم، والنور المبين هو القرآن، وهنا النور المبين محمد، والقرآن هو البرهان، فلا إله إلا الله! محمد برهان على أنه رسول الله، فما دليل ذلك؟ استقامته، عاش ثلاثاً وستين سنة ما كذب كذبة! ما آذى أحداً، ما زاغ في أي ميدان، ما أخطأ خطيئة، قل ما شئت، أكبر من ذلك أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، ويحدثك عن الملكوت الأعلى بكل ما فيه، يحدثك عن تاريخ البشرية من آدم إلى يومه، كيف يتم هذا لولا أنه رسول الله؟ أي برهان أعظم من هذا؟ فالكتاب نور والنبي نور، والكتاب برهان والرسول برهان.
تفسير قوله تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ...)
قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ [المائدة:15] عظيم وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ [المائدة:15-16] هذا النور يهدي به الله من من الناس؟ من كان عربياً هاشمياً؟ قال: مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ [المائدة:16]، الذي يطلب رضا الله ويرغب فيه، ويحيا لأجله، ويعطي ويمنع من أجله، يحرث ويحصد من أجله، الذي يطلب رضوان الله يهديه الله، إذ هو يحمل الهداية، والذي ما يريد الله ولا يطلبه وما يقرأ القرآن ولا يتبع الرسول كيف سيهتدي؟ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ [المائدة:16] يهديه إلى أين؟ إلى سبل السلام، إلى طرق النجاة والسلام، من اتبع رضوان الله أي: اتبع رسول الله وكتاب الله، وطلب رضا الله عز وجل، فالله تعهد له بأن يهديه سبل السلام، ويخرجه من الظلمات إلى النور، هذه دعوة للبشر عامة، أهل الكتاب وغير أهل الكتاب، هذا وعد الله عز وجل. اسمعوا ما يقول: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [المائدة:16]، إن قيل: لم تصلون؟ قلتم: نريد أن يرضى الله عنا، لم لا تكذبون؟ نريد أن يرضى الله عنا، إنه يكره الكذب، لم لا تزنون؟ لم لا تفجرون؟ لأن الله يكره ذلك ويحول دون رضوانه، إذاً: كل العبادات التي نقوم بها طلب لرضاه عنا، لأن من رضي الله عنه أسعده، ومن سخط عليه أشقاه وعذبه، العلة هي الرضا، فرضا الله ينتج الجنة والجوار الكريم في دار السلام. يَهْدِي بِهِ [المائدة:16] أي: بالقرآن والرسول مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [المائدة:16]، الجهل كله ظلمة، وكذلك الكفر، الشرك، الفسق، الظلم، الإجرام، كل هذه ظلمات بعضها فوق بعض، فما هي الواسطة التي نخرج بها من هذه الظلمات؟ القرآن والسنة، الكتاب والسنة، فإذا لم نرجع في قرانا ومدارسنا وجبالنا وسهولنا إلى القرآن والسنة النبوية نتعلم ونعلم ونعمل؛ فوالله لن نفوز ولن نظفر بسبل السلام، إذا عطلنا الآلة التي بها نصل إلى هذا، وهذا واضح في أمة الإسلام في قرون عديدة، أعرضت عن الكتاب والسنة فضلت وهبطت، وسادها الغرب والشرق، وتاهت في متاهات الضلال. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:16]، صراط الذين أنعم عليهم، ألا وهو طاعة الله ورسوله، من أراد الفوز من أراد النجاة فليطع الله ورسول الله عقيدة وعبادة وقضاء وآداباً وأخلاقاً، هذا الذي هو على الصراط المستقيم، ولا ينتهي به إلا إلى دار السلام الجنة.وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
30-05-2021, 04:30 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (5)
الحلقة (315)
تفسير سورة المائدة (13)

افتراءات أهل الكتاب كثيرة، وادعاءاتهم الباطلة لا تنتهي، فقد ادعى النصارى أن عيسى بن مريم هو الله، ومنهم من ادعى أنه ابن الله، وادعى النصارى مع اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه، وذلك لما دعاهم الرسول إلى عبادة الله وخوفهم من عذابه إن هم كفروا وأعرضوا، وقد أمر الله نبيه أن يقول لهم: إن عيسى عبد الله، ولو شاء الله أن يهلكه فلن يعصمه منه أحد، ويخبرهم أن الله لا يعذب أولياءه وأحباءه، وإنما هم مستحقون لعقابه وعذابه.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). وها نحن مع سورة المائدة المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث، وهي قول ربنا جل ذكره: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:17-19].
هداية الآيات
أذكركم بالآيتين السابقتين قبل الشروع في دارسة هذه الآيات، الآيتان السابقتان هما قول ربنا عز وجل: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:13-14].قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [هداية الآيتين: من هداية الآيتين: أولاً: حرمة نقض المواثيق ونكث العهود ]، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة، لا يحل لآدمي أو آدمية أن ينقض عهداً أو أن ينكثه، أما لعن الله بني إسرائيل لنقضهم العهد أم لا؟ سواء كان العهد بينه وبين الله، أو بينه وبين الإنسان، يجب الوفاء بالعهود.[ حرمة نقض المواثيق ونكث العهود، ولا سيما ما كان بين العبد وربه ]، أتعاهد ربك ثم تنقض العهد؟ أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتتخلى عن عبادة الله؟ أتشهد أن محمداًرسول الله وتتبع غيره وتمشي وراءه وتتخلى عن سنة رسول الله؟ أي نقض أكثر من هذا النقض؟! [ ثانياً: الخيانة وصف لازم لأكثر اليهود ]، الخيانة صفة لازمة لأكثر أفراد اليهود، وقل من ينجو منهم من هذه الصفة الخبيثة، وهي نقض المواثيق. [ الخيانة وصف لازم ] لا ينفك [ لأكثر اليهود إلى اليوم، فقل من سلم منهم من هذا الوصف ]، أقول: من عشرات السنين ونحن في هذا المسجد النبوي الشريف ننصح للعرب حكاماً ومحكومين علماء وأميين أن: اتفقوا مع اليهود، خذوا بينكم وبينهم عهداً وميثاقاً؛ حتى يطمئن إخوانكم ويستقرون في ديارهم التي قسمت بينهم وبين أعدائهم اليهود بذنوبنا السابقة، اتفقوا معهم واعلموا أنها فرصة فقط من أجل أن تقووا إخوانكم وتعلموهم وتزودوهم بالطاقات، ثم اليهود سوف ينقضون العهد بأنفسهم، فاغتنموا هذه الفرصة، لا تقولوا: إذا اتفقنا مع اليهود فلا يمكن أبداً أن ننقض العهد ونبقى دائماً مفرطين في أرض الله وبلاده، بل سوف ينقضون العهد، فقووا إخوانكم وكثروا من عددهم بدل أنهم مشردون هنا وهناك في أنحاء العالم، فيصبحون قوة، وسينقض اليهود العهد وتغلبوا، وكان إخواننا يضحكون من هذا ويسخرون: كيف نتفق مع اليهود وكيف وكيف؟! ومضت خمسون سنة والآن رضينا بالقسمة، ويا ليتها القسمة الأولى! والشاهد في هذا: أننا نؤمن بكلام الله، وقد أخبر الله تعالى بأن اليهود ينقضون العهود؛ فلهذا خذ حذرك من عهودهم ومواثيقهم، فإذا كان لك هدف وغرض في العهد فاربطه معهم، لتحقق هدفك، واعلم أنهم سينقضون ذلك، وهذا كلام الله؛ فلهذا قلنا: الخيانة وصف لازم لأكثر اليهود، فقل من سلم منهم من هذا الوصف.أما المسلمون فلا ينقضون العهود أبداً، هذا الحبيب صلى الله عليه وسلم عقد عقداً مع بني قينقاع، فنقض العهد بنو قينقاع، فماذا فعل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أجلاهم، أبعدهم عن المدينة فقط، ما قتل رجالهم ولا سبى نساءهم، والتحقوا بأذرعات من أرض الشام.وبنو النضير خانوا عهدهم، نقضوا ميثاقهم، فحاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم برجاله ثم أجلاهم وأبعدهم، ما قتل منهم رجلاً ولا سبى امرأة ولا طفلاً، وبنو قريظة انضموا إلى المقاتلين والمحاربين لرسول الله، فنقضوا عهدهم ودخلوا في جماعة الأحزاب لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم.والشاهد عندنا في هذا الوصف الذي أخبر الله تعالى به عنهم، فلا تثق في اليهود، إن عاهدتهم عهداً أو ميثاقاً فتنبه له فقط، فسينقضونه.[ ثالثاً: استحباب العفو عندة القدرة، وهو من خلال الصالحين ]، يستحب للمؤمن إذا قدر على أن يغلب أو يأخذ يستحب له أن يعفو، لأنه كامل يزداد كمالاً، ويصفح ولا ينتقم، ولا يأخذ بالذنب، يستحب له ذلك ليكون أكمل الناس، وإن أخذ حقه فله ذلك على شرط: ألا يزيد على ما هو حقه، لكن العفو أفضل وخاصة بين المؤمنين وبين المسلمين، العفو حتى مع اليهود، عفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مأمور بهذا: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:13]، فكيف بما بينك وبين أخيك المؤمن وقد قدرت على أن تضربه أو تأخذ حقك منه ثم تقول: تركناه لله وعفونا عنك يا أخي علك تتوب؟![ رابعاً: حال النصارى لا تختلف كثيراً عن حال اليهود ]، تجمعهم كلمة: كفار، تجمعهم كلمة: أهل كتاب، تجمعهم كلمة: أعداء الله ورسوله والمؤمنين، لا تختلف كثيراً عن حال اليهود، [ كأنهم شربوا من ماء واحد ]، كأنهم رضعوا من ثدي واحد، ولعل السر -والله أعلم- أن روح اليهود تسري في أجسامهم، وأن تعاليم اليهود ومكرهم ينفخونه في النصارى! ولا يبعد هذا أبداً، كأنهم تلامذتهم وهم لا يشعرون، يربونهم على النكث والنقض والخيانة وما إلى ذلك.قال: [ وعليه فلا يستغرب منهم الشر، ولا يؤمنون على سر، فهم في عداوة الإسلام والحرب عليه متعاونون متواصون ]، فالآن لو يدخل العرب مع اليهود في حرب فالنصارى كلهم إلى جنب اليهود! من أين أخذنا هذا؟ من هداية هاتين الآيتين الكريمتين: فَبِمَا نَقْضِهِمْ [المائدة:13]، وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:14] الآية.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة

تحريف أهل الكتاب للتوراة والإنجيل وحفظ الله تعالى للقرآن الكريم
الآن مع هذه الآيات، حيث يقول تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة:15]. قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:14] من المنادي؟ الله جل جلاله. من هم أهل الكتاب؟ هم اليهود والنصارى، لأن اليهود عندهم التوراة، والنصارى عندهم الإنجيل، والتوراة والإنجيل كتابان أنزلهما الله على رسوليه: موسى وعيسى، لكن الحقيقة أن التوراة ثلثها من كلام الله، وثلثان من كلام أحبارهم وعلمائهم، والإنجيل لا يوجد فيه من كلام الله خمس ولا عشر، الإنجيل في يوم من الأيام حولوه إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً، فكم نسبة كلام الله فيه؟ وبعد أن كشفت عورتهم ووقعوا في محنة العار والذم حولوا الإنجيل إلى خمسة أناجيل: لوقا، وبرنابا، ويوحنا، ومتى، ومرقس.أما القرآن كتاب الله فلم يزد فيه حرف واحد، ولم ينقص منه حرف واحد وليست كلمة، وقد ذكرت لكم أن مؤتمرات سرية انعقدت من أجل إسقاط حرفين من القرآن الكريم فما استطاعوا؛ لأن الله عز وجل تعهد بحفظه، فقال عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وإذا تولى الله حفظ شيء فهل يمكن أن يؤخذ؟ مستحيل! ومن آيات ذلك أنه محفوظ في صدور النساء والرجال، فهل سيقتلون أهل القرآن كلهم؟ ما يستطيعون؛ فلهذا أرادوا أن يسقطوا كلمة (قل)، فبدل: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الأعراف:158] (يا أيها الناس)! وبدل: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] (يا أيها الكافرون)! كلمة (قل) هذه حيرتهم، قالوا: ما نستطيع أن نقنع العقلاء بأن القرآن كلام محمد لا كلام الله، وإنما محمد عربي صقلته حرارة الصحراء فخاض في هذه المعارض بذكائه، فما دمنا نجد (قل) فإنه لا يمكن أن يقول متكلم لنفسه: قل، إذاً: لا بد أن هناك من يقول له: قل ويعلمه، فإذا استطعنا أن نحذف كلمة (قل) في يوم من الأيام فسنقنعهم بأن هذا ليس كلام الله، هذا كلام محمد صلى الله عليه وسلم.

يتبع

ابوالوليد المسلم
30-05-2021, 04:30 AM
كشف ما أخفاه أهل الكتاب من الحق مقصد من مقاصد البعثة النبوية
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا [المائدة:14] من رسول الله هذا؟ هل هناك مؤمن يشك في هذا؟ من رسول الله؟ لا زكريا ولا عيسى ولا يحيى، قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا [المائدة:14] محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العدناني من ذرية إسماعيل، وقد قلت لكم: هذه الإضافة إضافة تشريف، الله أضافه لنفسه، ولولا كماله وعلو منزلته وسمو مقامه لما أضيف إلى الله، فالله الذي خلقه ورباه وهو الذي علمه وأرسله رسولاً إلى الأبيض والأسود وإلى الإنس والجن. قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا [المائدة:14]، والله إنه لمحمد يا أهل القرآن! يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ [المائدة:15]، وأحلف بالله! لقد أخفى علماء اليهود وأحبارهم من كلام الله الشيء الكثير، حتى لا يقول قائل: وكيف نعوت وصفات النبي صلى الله عليه وسلم الناطقة بنبوته، والمحددة زمانه ومكانه ورسالته؟ كل ذلك والله بدلوه وحرفوه، أخفوه إخفاء كاملاً، وأهل الإنجيل كذلك، القسس والرهبان حرفوا صفات النبي ونعوته التي نطق بها عيسى، ونزل بها كتاب الله الإنجيل، حرفوها وبدلوها وأخفوها، فالله تعالى يقول: قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة:15]، فبين ما هو ضروري للبيان، كنعوت الرسول، ومن ذلك أنه يخرج من بين جبال فاران، هكذا في الإنجيل والتوراة يخرج النبي الخاتم، وحرفوا وبدلوا كما فعل علماؤنا نحن أيضاً من رجالات الباطل والتصوف، حرفوا كلام الله، وبدلوا وغيروا، هذا شأن البشر إذا ضعفوا وانهزموا أمام الشيطان والدنيا والشهوات والأهواء.قال: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة:15] ما يذكره ولا يبينه، لكن بين أيضاً ما أخفوه، وهو نعوت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله إلى البشرية جمعاء، وأن الإيمان به واجب، وأن اتباعه يهدي إلى السلام، وإلى السعادة في الدنيا والآخرة، وأن الكفر به من أعظم أنواع الكفر وما إلى ذلك.
الرسول والقرآن نور وصراط موصل إلى الجنة
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة:15] النور محمد صلى الله عليه وسلم، فالذي يتبعه ويمشي وراءه هل يقع في المهالك؟ ما يقع، الذي يمشي وراءه هل تزل قدمه؟ هل يخطئ في عقله وفهمه؟ كلا؛ لأن النور أمامه، إذاً: والإسلام نور، من دخل في الإسلام أصبح يبصر ويفهم ويعي وينجو من المهالك والمعاطب ولا يخسر دنياه ولا آخرته. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [المائدة:16] فمن يطلب ويبحث عن رضا الله يهده الله سبل السلام، ويخرجه من الظلمات إلى النور، ومن لم يرغب في رضا فلا يبالي أسخط الله أم رضي، أحب أم كره؛ فلن يفوز، لكن وعد الصدق يَهْدِي بِهِ اللَّهُ [المائدة:16] أي: بالإسلام والكتاب، بالقرآن، بالنبي صلى الله عليه وسلم، من اتبع رضوان فالله عز وجل يهديه سبل السلام، ويخرجه من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديه إلى صراط مستقيم ليقرع باب الجنة.
تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم...)
ثم قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، (لقد كفر) أي: وعزة الله وجلاله لق كفر. لأن هذه اللام في موضع القسم: وعزتنا وجلالنا لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، وهل يوجد إنسان يقول: الله هو المسيح؟ إي والله، فالنصارى تفرقوا وانقسموا ولكنهم في الجملة معترفون بهذا الخطأ، ويقولون: عيسى هو الله، منهم من يقول: عيسى حل الله فيه فكان الله، ومنهم من يقول: عيسى ابن الله، فالإله -إذاً- مكون من الله ومريم وعيسى، هذا هو التثليث، المهم أنه عبث بهم الشيطان وسخر منهم واستهزأ بهم، حتى أصبح هذا القول لا يقوله ذو عقل، فالله رب السماوات والأرض ورب العالمين يحل في عيسى؟! كيف هذا؟ كيف يتحد مع عيسى؟ عيسى عبد الله ورسوله يصبح ابناً لله؟! قد يقولون: نحن نقول بالبنوة والأبوة من باب التشريف والتعظيم! والله لقد كذبوا، ولو أرادوا ذلك كفروا، فهل لو رأيت الآن رجلاً صالحاً منكم أقول: هذا ابن الله لأنه صالح؟ من قال ذلك يكفر لأنه كذب على الله عز وجل، نرى شجاعاً بطلاً فنقول: هذا أبوه الله، من باب التكريم والتشريف، هل يصح هذا؟ لا يصح، وهم ينطقون ويصرحون بأن عيسى ابن الله، فأي كفر أعظم من هذا؟! وإنما أكفرهم الشياطين وأصحاب المناصب وأصحاب الكراسي كما يقولون؛ ليعيشوا هكذا سادة على أقوامهم الهابطين الساقطين، وتفطن الكثيرون، بل مئات الملايين في العصور الأخيرة، وقالوا: ما عيسى إلا عبد الله ورسوله، ولكن منعتهم الشياطين والأهواء والدنيا أن يدخلوا في رحمة الله، ويدخلوا في الإسلام، وإلا فإنه يوجد كثير من الفلاسفة والحكماء ما يعترفون بأن عيسى ابن الله أبداً، ولا أنه ثاني اثنين ولا ثالث ثلاثة، لكن محجوبون بسبب شهواتهم وأهوائهم، ما يستطيع هذا الفيلسوف أن يغتسل في الليلة الباردة ويصلي بالليل والناس نيام، ما يستطيع هذا العالم أن يتخلى عن شرب الخمر وأكل الخنزير، ما يستطيع أبداً أن يحجب وجه امرأته، فعرفوا الإسلام فخافوا من تعاليمه، فوقفوا بعيدين مع علمهم بصحة الإسلام، وذلك فضل الله يدخل فيه من يشاء، ويعطيه من يشاء. ‏
معنى قوله تعالى: (قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ...)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ [المائدة:17] لهم يا رسولنا: إن كان الأمر كما تقولون فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [المائدة:17] ؟ هل أمريكا؟ أما أهلك أمه؟ أين مريم؟ أما أماتها؟ لقد ماتت، فهو تعالى يكلمهم ويخاطبهم بما هو أقرب إلى فهوم البشر عرباً وعجماً بكل بساطة: إن كان الأمر كما تقولون: إن عيسى هو الله وابن الله، فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك عيسى ابن مريم وأمه؟ هل هناك من يستطيع أن يمنعه؟ عيسى رفعه وسوف يميته ويهلكه، فمن يمنع عيسى من الله؟ وأمه ماتت أم لا؟ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [المائدة:17] في كل مائة قرن ملايين البشر تموت، فأين عيسى؟ وأين أمه؟ وأين الإله الموهوم؟ فهذه حجج منطقية ومع ذلك يصرون على الباطل: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [المائدة:17]. والمسيح لقب لعيسى عليه السلام؛ لأنه ممسوح القدمين؛ ولأنه إذا مسح على المريض يشفيه الله عز وجل، يقال: مسيح، أما المسيح الدجال فلأن عينه ممسوحة، وهذا سيأتي، والله أسأل ألا نراه، وعما قريب يظهر.وعيسى عليه السلام كان بكلمة التكوين: (كن)، قال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40].إذاً: فالله عز وجل أراد أن يأتي بهذه الآية، فقال لعيسى: كن فكان في بطن مريم، ساعة وإذا بالطلق يلجئها إلى النخلة وتلد عيسى وينطق بعدما سقط من بطنها، وقال: إني عبد الله. وقد خلق الله تعالى آدم من غير أم ولا أب، فآدم أبو البشر خلقه الله من طين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، فكان بشراً اسمه آدم، وحواء زوجه من أمها؟ لا أم لها، بل أخرجها الله من ضلع آدم الأيسر، قال لها: كوني فكانت، فخلق تعالى بشراً بدون أب ولا أم، وخلق بأب وبدون أم، وخلق عيسى بأم بدون أب، هذه أنواع الخلق: مخلوق بلا أم ولا أب، ومخلوق بأب بدون أم، ومخلوق بأم بدون أب، ومخلوق بأم وأب، ما هناك صورة أخرى.
بيان غنى الله تعالى عن خلقه واختصاصه بملك السموات والأرض وما بينهما
واسمع ما يقوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:17]، إذا تعلقت إرادته بشي ليكون فوالله لن يتخلف، سواء كان عظيماً عظمة السماء أو الكواكب أو دون ذلك، إذا أراد شيئاً فإنه يكون مهما ما كان، لأنه تعالى على إيجاد وتقدير كل شيء قدير، أعظم من (قادر).إذاً: الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما ويخلق ما يشاء هل يحتاج إلى ابن؟! يا مجانين! أيحتاج إلى ابن؟ أيحتاج إلى زوجة؟ نعوذ بالله، قالت الجن في صراحة: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:3] والصاحبة هي الزوجة؛ لأنها تصحب زوجها، وإلى الآن النصارى يعتقدون أن عيسى ابن الله، كيف عيسى ابن الله؟ قالوا: الله تزوج مريم؟ أعوذ بالله! هل الذي وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] يتزوج مخلوقة من مخلوقاته؟ كيف يفهم هذا الكلام ويفسر؟ فلا إله إلا الله!
تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه...)
ثم قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى [المائدة:18] قضية أخرى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، كان الصحابة يجادلون اليهود والنصارى يبينون لهم الطريق، يخوفونهم من عذاب الله ونقمته: ادخلوا في رحمة الله، أسلموا تنجوا، ما لكم طاقة على أن تعيشوا في عالم الشقاء، فيقولون: لا، نحن أبناء الله وأحباؤه فلا يعذبنا! كما يفعل عوام المسلمين والفساق والفجار، يقال لهم: اتقوا الله، اتركوا الزنا، اتركوا الربا، اتركوا الكذب، استقيموا، فيقولون: لا، نحن مسلمون، الجنة لنا ليست لغيرنا! فهؤلاء قالوا: نحن أبناؤه وأحبابه، فكيف يعذب الأب ابنه؟ وهل يعذب الحبيب حبيبه؟ فبماذا رد عليهم رسول الله وأصحابه؟ ماذا قال تعالى لهم؟ قال الله لرسوله ولكم أيضاً: قُلْ [المائدة:18] لهم: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة:18]؟ أليس فيكم من يمرض؟ أليس فيكم من يقتل؟ أليس فيكم من يصاب بكذا؟ والله لا يعذب أولياءه وأحباءه، فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة:18] ؟ أما مسخ منكم إلى القردة والخنازير؟ أيمسخ الله أبناءه وأحباءه قردة وخنازير؟ لو كنتم أبناء وأحباء كما تقولون فلن يعذبكم أبداً، وهل المحب يعذب حبيبه؟ هل الأب يعذب ابنه؟ مستحيل هذا، فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة:18]؟ والحقيقة: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18] ما أنتم فوق ولا تحت، أنتم مع البشرية، أبوكم آدم وأمكم حواء. بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18] وهو تعالى يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:18] يعذب من يشاء عذابه وتعذيبه، ذاك الذي يدعوه إليه فيعرض عنه ويدبر ولم يطعه، ذاك الذي يشاء الله عذابه.ويغفر لمن يشاء، وذاك هو الذي استجاب لنداء الله وطلب المغفرة من الله، لا تفهم هذا الإطلاق: أن الله يعذب الكفار والمؤمنين، أو يغفر للكفار والمؤمنين سواء، فمشيئته تعالى قائمة على أساس العدل والرحمة الإلهية. وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:18] ذاك الذي دعاه وبعث إليه رسوله، فكفر وكذب واستنكف، ذاك الذي يشاء الله تعذيبه، ويغفر لمن استجاب لندائه وآمن به وبرسوله وأطاعه.قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [المائدة:18]، قطع أعناقهم، قطع ألسنتهم، لله ملك ما في السماوات والأرض وما بينهما، الكل ملك الله، إذ هو خالقه ومدبره، والمصير والعودة إليه الإنس كالجن كغيرهم، الكل يصيرون إلى الله تعالى، أبعد هذا يحتاج إلى ولد أو زوجة؟
تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل...)
ثم قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا [المائدة:19] مرحباً به أهلاً وسهلاً، نحن قلنا هذا، وهم قالوا: لا، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ [المائدة:19] يبين لهم ماذا؟ الطريق، طريق السلامة طريق النجاة، طريق السعادة، طريق الكمال البشري، إي والله. عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [المائدة:19] انقطاع الوحي لفترة من الزمن وهي خمسمائة وسبعون سنة، هذا القول الراجح، فعيسى عليه السلام رفع، وما بعث الله بعده من رسول، وأما الذين ذكروا في سورة (يس) فمن أتباع عيسى وتلامذته، وأما خالد بن سنان الذي يعبد في المغرب والجزائر فقد قالوا: ابن خالة الرسول صلى الله عليه وسلم! وهذه خرافة وكذبة، فمن رفع عيسى عليه السلام انقطع الوحي، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، والفترة هي خمسمائة وسبعون سنة أو وتسع وستون سنة. قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [المائدة:19] حتى لا تقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، حتى لا تحتجوا علينا وتقولوا: كيف تعذبنا وما أرسلت إلينا من رسول يبشر ولا ينذر؟ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [المائدة:19]وهو محمد صلى الله عليه وسلم، بشير يبشر من؟ هل يبشر الفساق والفجار والظلمة والمشركين؟ ونذير لمن؟ هل للمؤمنين الربانيين الصالحين؟ لا، يبشر أهل الإيمان والتقوى، وينذر أهل الشرك والمعاصي، والله أسأل أن يجعلنا من أهل التبشير، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:19].وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
05-06-2021, 05:04 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (6)
الحلقة (316)
تفسير سورة المائدة (14)


تاريخ بني إسرائيل حافل بالكفر والصدود، ومخالفة أنبيائهم وعصيانهم لأوامرهم، ومن ذلك أن موسى ذكرهم بفضل الله عليهم بإرسال الرسل إليهم وجعلهم ملوكاً، ثم أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، فأخذوا يجادلونه ويتعللون بعدم قدرتهم على قتال من فيها من الجبارين، ولما أن أخبرهم بأن الله ناصرهم ومؤيدهم، زاد نفورهم وإعراضهم وأخبروا نبي الله أن يذهب ليقاتل وحده مع ربه، فحرمها الله عليهم، وضرب عليهم التيه أربعين سنة جزاء عنادهم وعتوهم.
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا الأمل يا ولي المؤمنين ويا متولي الصالحين. ما زلنا مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات المباركات:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:20-26].
فوائد ذكر قصة موسى عليه السلام مع قومه من بني إسرائيل
معاشر المستمعين والمستمعات! هذه الحادثة ثبتت وصحت، أثبتها الله عز وجل وصححها، أنزل بها كتابه ووضعها بين يدي رسوله والمؤمنين تتلى إلى يوم القيامة، وفوائدها:أولاً: والله إن هذا القرآن لكلام الله وتنزيله؛ إذ لا يقدر على هذا إلا هو.ثانياً: والله إن من نزل عليه هذا الكلام لن يكون إلا رسول الله، فهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.ثالثاً: التسلية والتعزية لما يعانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عجرفة اليهود وصلفهم ومكرهم وخداعهم.رابعاً: ليعرف المؤمنون أنهم يواجهون قوماً بهتاً أهل مكر وأهل هبوط وسقوط، ليعرفوا كيف يسوسونهم أو يعيشون معهم.وأعظم من هذا: ازدياد طاقة الإيمان في قلوب المؤمنين، ليواصلوا مسيرتهم إلى دار السلام أصفياء أطهاراً، لا إثم ولا ذنب ولا غش ولا خداع، ولا كفر ولا شرك ولا باطل.هذه ثمرة القصص، قال تعالى: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ [الفرقان:32] القصص يقصه من أنباء الرسل على رسولنا لأجل فوائد عظيمة، لكن من أبرزها تثبيت القلوب على الإيمان والصبر على طاعة الرحمن عز وجل.
ذكر سبب تسمية موسى عليه السلام
فهيا بنا نقضي هذه الدقائق مع بني إسرائيل. قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى أي: اذكر يا رسولنا، واذكروا أيها المؤمنون لتستفيدوا ولتنتفعوا بما تسمعون وتقرءون وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ [المائدة:20] هذا موسى بن عمران عليه السلام، أبوه اسمه عمران. وقد عرفتم موشي ديان عليه لعائن الرحمن، هو الذي حطمنا وغزانا في فلسطين، فموشى مركب من الماء والشجر، الماء (مو)، و(شا) الشجر، سبحان الله! لأن موسى عليه السلام أوحى الله إلى أمه إذا هي وضعته أن تضعه في صندوق من خشب يسمى بالتابوت وتلقيه في النيل؛ لأن رجال فرعون كانوا يتتبعون كل امرأة من بني إسرائيل تلد، فإن كانت ولدت أنثى تركوها، وإن ولدت ذكراً قتلوه، لماذا؟ لأن رجال السياسة العميان قالوا لـفرعون : هؤلاء لهم أصل ولهم شرف ومجد قديم، فسوف يطالبون في يوم من الأيام بالحكم، وهم الذين يسقط عرشك على أيديهم، فماذا نصنع؟ قال: اذبحوا الأطفال وأبقوا النساء، فالنساء الإسرائيليات خادمات يعملن، والذكور يذبحون كذا سنة، ثم قال رجال الاقتصاد أيضاً: الآن اليد العاملة تنقطع، إذا ذبحنا أولاد بني إسرائيل فمن سيخدم؟ من يحرث؟ من يزرع؟ فماذا تصنعون؟ قال كبراؤهم: نبقي على الذكور سنة بعد سنة، فعاماً نذبح الأولاد وعاماً نتركهم انتفاعاً بهم، فالعام الذي كان عام العفو ولد فيه هارون شقيق موسى، والعام الذي فيه الإعدام والذبح ولد موسى، فأوحى الله إلى أم موسى: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، قالت العلماء: أية بلاغة تسموا إلى هذا المستوى؟ بشرى أولاً بضمانة أن يجعله من الأنبياء والمرسلين في كلمة واحدة في جملة إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، إذاً قوله: (أرضعيه) يريد أن ترضعه اللبأ، واللبأ اللبن الأول الذي يتجمع في الثدي عند الولادة، وهذا اللبأ يلزمها إرضاعه، فلو أنها مطلقة وقالت: لا أرضعه، أو أبوه عدوي؛ فإنه يلزمها القضاء بأن ترضعه رغم أنفها الرضعات الأولى رضعات اللبأ، فإذا أرضعته ذاك اللبأ الذي يتجمد فحينئذ لها ألا ترضعه، أما هذا فإلزاماً، بدليل الآية: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص:7] أي: في البحر أو النهر أو الماء، وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7].فعبثت به الأمواج أمواج الماء، فعثر عليه بعض خادمات القصر تحت الماء والشجر؛ لأن النيل على طرفيه الأشجار لا سيما في ذلك الزمن، فقيل فيه إذاً: موشي: ماء وشا، وجد بين الماء والشجر فسمي موشى.
فضل موسى عليه السلام بتكليمه ربه بغير واسطة
هذا موسى الكليم فاز بأن كلمه الله كفاحاً وجهاً لوجه بلا واسطة، وفي الأرض لا في السماء، فسمي وعرف بالكليم، قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] دفعاً لما يقال من أنه مجاز أو غير ذلك، وقال: يا رب! أكلامك أسمع أم كلام رسول؟ قال: بل كلامي يا موسى، ومن ثم تاقت نفسه لأن يرى الله عز وجل، فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] أنت أعجز من أن تراني، ما تستطيع، ما عندك القدرة في مقلتيك على أن تراني، الملائكة لا تراه، فكيف تستطيع أن ترى الذي هو نور السماوات والأرض؟ ولكن الله رحمة بموسى وشفقة عليه وتحقيقاً لطلبه ورغبته قال: يا موسى! انظر إلى الجبل أمامك، فإن استقر في مكانه وثبت بعد أن أتجلى له فإنك تقوى على رؤيتي، وتجلى الله للجبل وظهر له، فتفتت الجبل وأصبح غباراً، ما إن رأى موسى الجبل وقد تفتت حتى أغمي عليه وصعق.ولا ننسى أن المصطفى النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم كلمه ربه أيضاً كفاحاً وبلا واسطة ولكن في الملكوت الأعلى، حتى إن جبريل الرائد لما أراد الله أن يتكلم مع محمد صلى الله عليه وسلم وقف جبريل، قال الرسول: معنا يا جبريل! قال: ما منا إلا له مقام معلوم، تقدم وحدك أنت، فمشى حتى انتهى إلى موطن موضع سمع فيه صريف الأقلام، وكلمه الله عز وجل كفاحاً، وفرض عليه الصلوات الخمس، وتردد عليه خمس مرات.
تذكير موسى عليه السلام قومه بنعم الله تعالى عليهم
قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ [المائدة:20] قومه بنو إسرائيل، أولاد إسحاق بن يعقوب بن إبراهيم عليهم السلام؛ إذ كانوا يعيشون في الديار المصرية، وسبب ذلك معروف عندنا في التاريخ، وهو أن يعقوب عليه السلام انتقل إلى مصر، وهو إسرائيل، ومعنى إسرائيل: عبد الله أو عبد الرحمن، عبد منسوب إلى الله عز وجل، كما عندنا: عبد الله أو عبد الرحمن، فإسرائيل هو يعقوب عليه السلام، ونزل في هذه الحادثة قرآن يقرأ في سورة يوسف عليه السلام، وكان من نتاج ذلك أن انتقل بنو إسرائيل إلى الديار المصرية، من أرض فلسطين أرض القدس إلى الديار المصرية، وتعرفون كيف ملك يوسف تلك البلاد وهو نبي الله ورسوله، ثم خرج الملك من يد أولاد يوسف وبني إسرائيل، وحكم فرعون والفراعنة.إذاً: فموسى قومه هم أولاد إسرائيل الذين تجمعوا في مصر وبلغ عددهم يوم خروجهم من مصر إلى أرض القدس ستمائة ألف، وهذا العدد في ذلك الزمان عدد كبير جداً.فموسى عليه السلام لما نصره الله على فرعون وغرق فرعون وجنده، وخرج موسى مع بني إسرائيل وكانوا قرابة مائة ألف متجهين إلى الشرق إلى أرض القدس، هنا وصلوا قريباً من أرض القدس، اجتازوا سيناء، فقال موسى لقومه يذكرهم بنعمة الله عليهم: يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:20] حتى تشكروا، وهذه الكلمة نكررها ونقول: يا أبناءنا، يا نساء المؤمنات! الذي ما يذكر النعمة بقلبه ولا بلسانه لا يمكنه أن يشكرها، أحببنا أم كرهنا، إذا لم تذكر يا عبد الله نعمة الله عليك فإنك لا تشكرها، فواجبنا أن نذكر نعم الله علينا التي في أجسادنا وفي أبنائنا وفي وجودنا، والله عز وجل علمنا في خطابه لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل اذكروا نعمة الله عليكم.. يا بني إسرائيل اذكروا نعمة الله عليكم.. في آيات عديدة، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [المائدة:11] في آيات كثيرة، والذين لا يشكرون الله هم الذين لا يذكرن نعمه.هل أدركتم هذه الحقيقة؟ الذي لا يذكر نعمة الله عليه والله لا يشكر، فكر في الطعام الذي بين يديك تأكله، من خلقه؟ ومن أوجده؟ تقول: الله، فقل: الحمد لله.. الحمد لله. من أقامك؟ وكيف استطعت أن تقوم، وكيف تمشي؟ من أقدرك على هذا؟ الله. إذاً: الحمد لله. وهكذا في كل جزئيات الحياة من ذكر شكر ومن نسي وترك كفر.ها هو موسى عليه السلام يقول: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:20] إذ كنتم مستعمرين مستعبدين مستغلين مستخدمين، فأنجاكم وسودكم وحرركم، وهذه الآن تقال للمسلمين: أيها المسلمون من إندونيسيا إلى موريتانيا! اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم مستعمرين لبريطانيا وهولندا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا، مستذلين مستضعفين مهانين مؤخرين، فمن أنقذكم؟ الله. اذكروا هذا تشكروه بألسنتكم وقلوبكم بطاعتكم له واتباعكم لهديه. هل المسلمون يذكرون هذا؟ هل خطب خطيب من الرؤساء والمسئولين وقال: هيا نذكر نعمة الله علينا؛ منذ كذا سنة كنا مستعبدين مستغلين مستعمرين، والآن حررنا الله وأنقذنا، فهيا نعبد الله عز وجل ونشكره؟

يتبع

ابوالوليد المسلم
05-06-2021, 05:05 AM
معنى قوله تعالى: (إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين)
ثم بين جزءاً من هذه النعمة فقال: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ [المائدة:20] البابليون والآخرون في الشرق والغرب محرومون من النبوة والأنبياء، وأنتم فيكم أنبياء، يكاد أن يكون في كل بيت نبي، أنبياء عديدون، بلغنا أنهم كانوا يقتلون سبعين نبياً في يوم واحد، إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة:20] هل كل واحد ملك؟ ما هو بمعقول هذا، الملك واحد، والأمة التي يملكها أمة؛ إذاً: ليس معناه أنه جعل كل واحد ملكاً، هذا لا يقال ولا يقبل، والله ما أراده الله، وإنما جعلكم ملوكاً أي: جعل منكم وفيكم الملوك.وتعرفون مملكة سليمان كانت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وقبل سليمان والده داود ملك، وقبل داود غيره ملك، جعل تعالى في بني إسرائيل ملوكاً، فموسى عليه السلام يذكرهم بذلك وبما يأتي بعد ذلك من نعم الله عليهم.والكلمة المأثورة عن الصحابة والسلف الصالح هي: أن من ملك داراً يسكنها، وزوجة يسكن إليها، وخادماً يساعده على أمور دنياه فهو ملك. إذاً: فجلنا ملوك، فهيا نشكر الله تعالى، على الأقل نقول: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله. وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ [المائدة:20] وأعطاكم مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:20]، المراد من العالمين عالمو زمنهم، تلك الفترة التي كان فيها البابليون والأقباط، فكانوا هم أشرف الناس على الإطلاق بما آتاهم من الملك والعلم والنبوة وما إلى ذلك، وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:20] لأنهم أنبياء أحفاد الأنبياء وأولاد المرسلين، هؤلاء كلهم أولاد إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.ذكرهم موسى بنعمة الله عليهم من أجل أن يطيعوا الله ورسوله، أن يستقيموا على منهج الله، أن ترتفع معنوياتهم، أن تذهب الخرافات من أذهانهم، أن تذهب الشهوات والتكالب عليها في دنياهم، يقول: أنتم على مستوى رفيع وأمة ممتازة مختارة في العالم، لستم كغيركم.وهذا -والله- صادق فينا لو كنا مستقيمين، وقد عرفنا من قبل رسولنا صلى الله عليه وسلم أنا لو أخذنا مسلماً ووضعناه في كفة ميزان، وأتينا باليابان والأمريكان وأوروبا الشرق والغرب وكل الكافرين ووضعناهم في كفة والله لرجحت كفة هذا المؤمن، فهل قيمتنا لبياض وجوهنا، لطول أجسامنا، لكثرة صنائعنا؟ لا، فقط لإيماننا بالله ولقائه، لمعرفتنا بربنا وحبنا له ورغبتنا فيما عنده، وسعينا المتواصل للحصول على رضاه وجواره الكريم، ولكن غفلنا وغفّلونا، ونسينا وأنسونا، وأبعدونا وأعرضوا بنا بعيداً عن هذه الحقائق.
الاستقامة على أمر الله تعالى طريق الأفضلية على العالمين
يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:20] أي: عالمي زمانهم، كانوا أفضل الشعوب والأمم، والآن والله لو استقمنا على الإسلام لكنا أفضل العالمين ولا فخر، ولآتانا الله ما لم يؤت أحداً من العالمين، لكن إعراضنا وإبعادهم لنا عن معين الهداية والكمال -وهو الإسلام- كاد يسوينا بهم، ولكن لا بأس أن نذكر إخواننا السعوديين بالذات، ماذا تقولون عنهم؟ والله لقد آتانا الله ما لم يؤت أحداً من العالمين: الأمن، والطهر، والصفاء، والشريعة الإسلامية والاعتزاز بها، والمآذن مملوءة بذكر الله والدعوة إلى الله، وإخواننا في العالم محرومون من هذا كله.فهيا نذكر لنشكر، والحال أننا ما نذكر ولا نشكر، هذا لسان الحال، هل رأيتمونا ذاكرين لهذه النعم؟ أبداً، قل من يذكرها.وقد علمنا أن الله عز وجل أنه إذا أنعم على عبد بنعمة ولم يشكره سلبها، سنة لا تتبدل: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:20]، وفي ذلك قول الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ [إبراهيم:7] تأذن كالمؤذن على المنارة، أعلن رسمياً لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].قال العقلاء: اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء، لا عذاب أشد من هذا، كان بالأمس يمشي على الأرض بعينيه يبصر النملة وما فوقها، وإذا به يفقد بصره في ساعة واحدة، فكيف حاله؟ سلبت النعمة، كان بالأمس آمناً مستقراً هادئ البال يبيت على فراشه ولا يخاف إلا الله، فأصبح يفزع ويطارد في كل مكان، أية حالة أسوأ من هذه الحالة؟ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].فهيا نشكر الله أولاً بقلوبنا فنعترف بنعم الله علينا، ثانياً: بألسنتنا لا نفتر، نذكر: الحمد لله إنا في خير، الحمد لله إنا في عافية، الحمد لله إننا تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.ثالثاً: ألا نجاهر بمعصية تغضب ربنا عز وجل، ولا نسمح لابن ولا لأب ولا لزوجة ولا لواحد أن يجاهر بمعصيته في أرض الطهر ودار الصفاء، فهل بلغنا؟ بلغوا، أعينونا. من أراد أن يعصي الله يا أبنائي فليخرج من هذه الديار، ما يعصي الله في ديار الإيمان والطهر تحت راية لا إله إلا الله، من أراد أن يعيش على الخرافة والضلالة وعبادة الأوثان فليرحل، ولينزل بديار أخرى تقبل ذلك منه، من أراد أن يشرب الحشيش ويروج الباطل فليرحل، من أراد أن يستبيح الزنا والربا فليخرج من ديار الإيمان وليفعل ذلك حيث شاء، حتى لا تسلب نعمة الله.
تذكير السعوديين بنعمة التوحيد
اذكروا نعمة الله عليكم يا معشر السعوديين، هذه الراية ما رفرفت في أرض ولا تحت سماء إلا في دياركم، أليس كذلك؟ تحمل: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما معنى هذا يا عبد العزيز تغمدك الله برحمته؟ قال: رفعنا هذه الراية وكتبنا فيها هذه الكلمة، هذه الأرض التي تظللها هذه الراية لا يعبد فيها إلا الله، فهدم القباب والقبور وقطع الأشجار والأوثان، وطهر هذه الأرض؛ إذ لا يعبد فيها إلا الله.و(محمد رسول الله) إلى ماذا ترمز؟ أنه لا يتابع ولا يقلد ولا يمشى وراء أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا مذهبية ولا طائفية ولا قبلية، محمد فقط هو الذي يمشى وراءه ويتابع.عرف العدو هذا وهو يعمل ليلاً ونهاراً على إسقاط هذه الراية، وويل للذين يمدون أعناقهم ويساعدونه على فتنته وضلاله ومحنته، ويل لهم، أولئك العصاة المذنبون المنغمسون في الجرائم والموبقات، مستورون عن أعين الناس وهم يعملون لصالح الشيطان وأعوانه.ونحن الذين لسنا بالسعوديين نعيش في الهند والسند وأسبانيا وإيطاليا أليست علينا مسئولية؟ أليست هذه ديار الله؟ أليس هذا حرم رسول الله وتلك بلد الله، وهذه راية لا إله إلا الله؟ هل يجوز لنا أن ننقد ونطعن ونسب ونشتم ونساعد أعداء الإسلام على تمزيق هذه الراية؟بعض الغافلين يقول: كيف هذا؟ فنقول: لا يجوز لك يا ابن الإسلام أن تقول في أي مؤمن أو مؤمنة كلمة سوء: يا زاني، أو يا فاجر أو يا لائط.. والله ما يجوز، وإن أردت أن تنصح ففي خلوة، أما أن تسب وتشتم وتقول: يجوز؛ فهذا والله ما يجوز، كيف يجوز في بلد راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، والعدو يعمل على تمزيقها وإسقاطها، ومع الأسف شاهدنا وعايشنا وعرفنا وسمعنا بهذه النعم، ليس هناك من يحمد الله على هذه البقية أو يشكر أبداً، الكل يريد أن تزول، وهم لا يشعرون أين يذهبون، أهكذا تشكر النعم؟ قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ [المائدة:20] يذكرهم كما نذكر نحن، اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:20].
تفسير قوله تعالى: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ...)
ثم قال لهم: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة:21]، هم خرجوا من مصر من طريق البحر الأحمر ومشوا في سيناء، والآن هم في طريقهم إلى القدس حيث كادوا يصلون إليها، ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة:21]، الأرض المقدسة هي أرض القدس من الفرات إلى البحر الأبيض إلى سيناء، هذه المنطقة، ومعنى (مقدسة) مطهرة، أرض قدس: أرض طهر، يجب أن يدوم فيها الطهر ولا يكون فيها الخبث؛ لأنها أرض أنزل الله فيها إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأنبياء والمرسلين، ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]، كتب لهم أن يعيشوا فيها وأن يعبدوا الله عز وجل عليها، واختارهم لذلك اختياراً ربانياً.وكانت تلك الأرض حينئذ يحكمها العمالقة الكنعانيون من أولاد كنعان ، جبابرة مشركون، هم الذين يملكون أرض القدس من حماة إلى نهر الأردن إلى سيناء، في هذا الظرف خاصة كان موسى يخاطبهم؛ إذ خرج ببني إسرائيل من مصر إلى أرض القدس، أرض آبائهم وأجدادهم.فقال: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [المائدة:21] لا تنهزموا، لا ترجعوا إلى الوراء مهزومين، الثبات وجهاً لوجه مع العدو إلى أن تنتصروا.هذا هو القائد الأعظم، فماذا قال لأمته وجيشه؟ ما كانت جيوشاً نظامية، بل كلهم جيش واحد في أيديهم الرماح أو السيوف، قال لهم: وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا [المائدة:21] ترجعون خَاسِرِينَ [المائدة:21] لأنفسكم ولدولتكم ولكل ما عندكم.
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ...)
فأجابوه قائلين: يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ [المائدة:23] الجبارون جمع جبار: الذي يجبر الناس على فعله وما يريده، إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة:22] مجانين هؤلاء فهل سييخرجون بالسحر؟! بمعنى: ادع الله أن يخرجهم وإذا أخرجهم سندخل! فاليهود أحياناً يهبطون هبوطاً عجباً، قالوا: لن ندخلها ما داموا فيها حتى يخرجوا منها، وهو يقول لهم: ادخلوها بسلاحكم بقوتكم طرداً لهؤلاء المعتدين الظلمة على أرض القدس، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة:22] أهكذا يقال للقائد؟ هل قيل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم؟ في أية غزوة أو معركة أو سرية؟ هذا ابتلاء وامتحان، لو شاء الله لما خلقهم أو لأماتهم في لحظة.
تفسير قوله تعالى: (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب...)
قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، قال رجلان من الذين يخافون الله عز وجل وعقابه ونقمه وهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ، هؤلاء من النقباء الاثني عشر، وقد تقدم لنا قول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ [المائدة:12] الآيات.فموسى عليه السلام لحكمته وسعة علمه -وكيف لا وهو يتلقى المعرفة عن الله- اختار من قبائل اليهود اثني عشر رجلاً من أفضلهم، وقال: ادخلوا بأية طريقة: تبيعون التمر، تشترون الماء، تعملون كذا، وأطلعونا على أسرار تلك الدولة وعن قواتها ومدى موقفها منا في القتال، وهذا لا بد منه، فأولئك الاثنا عشر رجلاً انهزم منهم عشرة، شاهدوا ما أرعبهم وخوفهم وهزمهم، فجاءوا يهرفون بما لا يعرفون، وقالوا: ما نستطيع قتال هؤلاء أبداً، وقد ذكر القرطبي قصصاً في هذا، حتى إن منهم من قال: إنه قد أخذني عملاق ووضعني في جيبه، وأتى بي إلى بيته ووضعني بين أطفاله يلعبون بي! وذكرنا في التفسير أن هتلر فعل هذا الفعل في الحرب العالمية الثانية، هتلر نفخ هذه الروح في أوروبا فانهزمت، واحتل في خمسة عشر يوماً منطقة كاملة، أدخل فرنسا تحت قدمه، حتى كان يقال: إذا وجدت سيجارة في الشارع فانتبه أن تنفجر فيك! فهول الدنيا لتخويف الناس، فانهزمت الجيوش بهذه الطريقة، والله العظيم! أصاب الرعب أوروبا واحتل مناطق كثيرة في نصف شهر بهذه الروح: التهويل.والشاهد عندنا أن هؤلاء العشرة هم الذين بددوا طاقة بني إسرائيل وهزموهم معنوياً، فقالوا: لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، لأنهم أعلموهم أن وصفهم كذا وكذا وكذا، ومن تكلم بكلمة تصعق أنت عنده، فقالوا: كيف نقاتلهم يا موسى؟ ما نستطيع، فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. إلى هذا الحد! قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا [المائدة:23] ما هلكوا كالعشرة الآخرين، ما هبطوا، بقي إيمانهم ونورهم وفهمهم ووعيهم، فماذا قالا هذان الرجلان؟ قالا: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة:23] باب القدس، والباب اسم جنس لأبواب المدينة، إذا دخلتم مفاجئين لهم الباب هزمتموهم، هذه هي المباغتة التي هي إلى الآن أنفع ما تكون في الحرب، وهذا ما حصل بعد أربعين سنة حيث قاد الجيش يوشع بن نون بعد موت موسى وهارون ودخل البلاد بهذه الطريقة، فاجأهم، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23] هذه كلمة الرجلين الكريمين من الاثني عشر، الذين ما ذهبت عقولهما ولا ذابت في تلك الترهات والأباطيل.
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها ...)
قال تعالى: قَالُوا [المائدة:24] معتذرين يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا [المائدة:24] حتى يخرج العمالقة، فهل هذا الكلام يقوله العقلاء؟! لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] عجرفة، سقوط، هبوط، اذهب أنت وربك فقاتلا واتركنا فنحن قاعدون.وهذه النفسية وهذه العقلية موجودة عندهم إلى الآن، عاشر اليهود وجالسهم تجد أشياء من هذا النوع إلى الآن وتعجب من عقولهم، يتوارثون هذا! فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].
تفسير قوله تعالى: (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين)
فماذا قال موسى؟ قال: قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي [المائدة:25] فقط وَأَخِي [المائدة:25] لا يملك إلا نفسه، فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25]، ما بقي أمل في أن يقاتلوا أو يدخلوا أو ينتصروا، انكشفت عورتهم وهبطوا بعد أن قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، انتهى أمرهم، فما كان إلا أن قال: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة:25] أيضاً لا يملك إلا نفسه، وهو أخوه هارون، فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25].فأجاب الرحمن بقوله: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:26].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
05-06-2021, 05:06 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (7)
الحلقة (317)
تفسير سورة المائدة (15)


الحسد جريمة عظيمة وذلك لما يترتب عليها من الآثار السيئة، ومن ذلك ما قام به قابيل من قتله لأخيه هابيل لما حسده على قبول قربانه الذي قدم، فكانت أول جريمة قتل على وجه الأرض، وصارت سنة القتل جارية في بني آدم، فكلما قتل إنسان إنساناً على مدى الدهر انبعثت هذه السنة، وحمل ابن آدم الأول من الإثم مثل ما يحمله القاتل.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتابه القرآن العظيم، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).معاشر المستمعين والمستمعات! في الدرس السابق من التفسير أخذنا هذه الآيات فنسمع تلاوتها أولاً، ثم نقف على نتائجها الطيبة رجاء أن ينفعنا الله تعالى بها.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:22-26].هذا الموقف الذي وقفه بنو إسرائيل لا يقفه ذو علم وبصيرة، وذو إيمان ويقين، وهو أنهم قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] هل يصدر هذا عن مؤمن عالم عارف بربه؟ هذه كلمة كفر إذا تعمدها العبد، ولكنهم جهال، إنه الجهل والهبوط والسقوط ولا لوم ولا عتاب، عاشوا أجيالاً تحت فرعون يسومهم الخسف والعذاب، فكيف يعرفون؟ كيف يعلمون؟ كيف يرتقون بآدابهم وأخلاقهم؟هذه نتائج البعد عن الله وكتابه وشرعه، فلا عجب أن يتعجرفوا هذه العجرفة ويقولوا لنبيهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].قال تعالى: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:26].هذه العقوبة التي عاقبهم الله بها، وهي أنهم يقضون أربعين سنة في تيهان، لا ينزلون منزلاً حتى يخرجوا منه، يتنقلون في صحراء سيناء أربعين سنة، ولولا منة الله ولطفه ورحمته عليهم حيث أنزل عليهم الغمام والمن والسلوى لكانوا يهلكون، ولكن بركة موسى وأخيه ويوشع وكالب ، بركة أولئك الصالحين نفعتهم بإذن الله، ثم لما مات هذا الجيل الهابط الساقط ونبتت نابتة صالحة فربيت في حجور الصالحين فتح الله عليهم ودخلوا أرض القدس وسادوا فيها وملكوا وحكموا.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها... ) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: بيان جبن اليهود وسوء أدبهم مع ربهم وأنبيائهم ]، لو كانوا علماء فهل سيقولون ذلك القول؟ لو كانوا شجعاناً أبطالاً فهل سيحجمون ويتأخرون ولا يقاتلون والله معهم وموسى يقودهم؟[ ثانياً: وجوب البراءة من أهل الفسق ]، يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يتبرأ من الفسق وأهله، ولا ينضم إليهم ولا يساندهم ولا يرضى عنهم، وإلا انتقل الفسق إليه وأصبح خليقة من أخلاقه وهلك مع الهالكين.[ وجوب البراءة من أهل الفسق ببغض عملهم وتركهم لنقمة الله تعالى تنزل بهم ]؛ إذ قال تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:26]، لا تحزن ولا تكرب واتركهم لله ينتقم منهم. ومن هم الفاسقون؟ الذين خرجوا عن طاعة الله ورسوله وعاشوا بعيدين عن شرع الله، هؤلاء يتحطمون ويخسرون، فموالاتهم والأسف عليهم والحزن على ما يصيبهم ليس من شأن المؤمنين؛ لأن الله قال لنبيه موسى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:26].[ ثالثاً: حرمة الحزن والتأسف على الفاسقين والظالمين إذا حلت بهم العقوبة الإلهية جزاء فسقهم وظلمهم لأنفسهم ولغيرهم ].ولو نظرنا إلى حال المسلمين فسنجد البلاء ينزل بهم والمحن والإحن والويلات، فهل نحزن ونكرب؟ لا نحزن ولا نكرب؛ لأنهم ظلموا أنفسهم وتعرضوا لعذاب الله، لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، فبدل أن نكرب ونحزن ندعوهم إلى أن يستقيموا على منهج الله، ندعوهم إلى أن يتوبوا إلى ربهم ليرفع البلاء عنهم، أما أن نكرب ونحزن لما أصابهم الله به بسبب فسقهم فهذا يتنافى مع توجيه الله لموسى؛ إذ قال: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:26].فلنحذر الفسق يا عباد الله، لا نخرج عن طاعة الله وطاعة رسوله ونحن أحرار غير مكرهين ولا ملزمين، فلنلزم باب الله نقرعه، نؤمن بما أمرنا أن نؤمن به وننهض بما أمرنا أن ننهض به، ونتخلى ونتجنب كل ما من شأنه أنه يبغضه تعالى ولا يريده.
تفسير قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً ...)
والآن مع هذه الآيات الجليلة العظيمة، فاسمعوا تلاوتها، وتأملوا لتفهموا كلام الله، لو كان آباؤنا وإخواننا يدرسون القرآن هكذا كل ليلة لعلموا كل ما فيه، لكن هجروه هجراناً كاملاً، ولا يقول أحد: قال الله، ويقرءونه على الموتى، يقرأ السورة من أولها إلى آخرها ما يعرف حكماً فيها، ولا هداية؛ لأنه ما رغب في ذلك ولا قصده ولا أراده ولا دعي إليه ولا جلس ليسمع ذلك ويتعلمه، كأنه لغة أجنبية يسمعها، وهذا عرفناه ومعروف.قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:27-31].كلام من هذا؟ هذا كلام الله، فكيف وصلنا؟ من طريق كتابه ورسوله، فهل البشرية تعرف هذا غير أهل الإسلام والقرآن؟ يقول تعالى: وَاتْلُ [المائدة:27] يا رسولنا، يا نبينا، هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى (اتل): اقرأ، فعلى من يقرأ؟ على الذين تآمروا على قتله من بني النضير، على أعدائه الألداء وخصومه الأشداء اليهود الذين كشف النقاب عن حالهم، وأراهم مواقفهم والعياذ بالله. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ [المائدة:27] يا رسولنا، وكانوا بالمدينة يسمعون، يجلسون مع الرسول ويسمعون القرآن أيضاً، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ [المائدة:27] والنبأ: الخبر العظيم، ما كل خبر يقال فيه: نبأ إلا إذا كان ذا شأن عظيم. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ [المائدة:27]، ولدي آدم، وهما هابيل وقابيل ، وعرفنا اسميهما بالوحي الإلهي، أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، فهابيل وقابيل هما ابنا آدم أبي البشر، أول إنسان هبط إلى هذه الأرض مع زوجه، خلقه الله في الملكوت الأعلى، في الجنة دار السلام، ثم لما عصى أبعده من دار النعيم إلى دار الابتلاء والعذاب والشقاء.اقرأ عليهم يا رسولنا نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [المائدة:27] النبأ بالحق الذي لا يمكن أن يتطرق إليه كذب أو باطل؛ لأن الله هو الذي أنزله بالحق، فهو ملازم مصاحب له.
معنى القربان وبيان ما قرباه
إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا [المائدة:27] أي: قرب كل واحد منهما قرباناً، والقربان ما يتقرب به إلى الله من الطاعات والعبادات، القربان: ما يقربك إلى الله، تقدم شيئاً لوجه الله ليرضى عنك ويقبلك، تتقرب به إليه لتكون من المقربين، وهل أنتم تتقربون؟ جلوسنا هذا قربان، من جاء ليسمع الهدى ويسمع كلام الله، وأراد أن يتقرب إلى الله، وهذا هو القربان.أعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر هذا القربان: أن قابيل كان عنده زرع فاختار الفاسد منه، والسيئ والذي ما يصلح، قالوا: ورأى سنبلة طيبة فأكلها أيضاً، لما قدم ذاك النصيب من السنبل تقرب به إلى الله، وشاهد فيه السنبلة ذات حب سمين فأكلها، فهذا قرب قرباناً، فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا [المائدة:27]، قربان هابيل تقبله الله؛ لأنه كان بطبيب نفس ورضا نفس، وحب التقرب إلى الله، ومن ماله الحلال، وقدمه لله عز وجل، وكانت تأتي النار لتأكله، فما هناك من يتصدق عليه.إذاً: أرادا أن يتملقا إلى الله ويتزلفا إليه، وفي وقتهما ما كان هناك فقراء ولا مساكين، هما أول من وجد، فكيف يتقرب؟ يختار أحسن شيء ويقدمه لله، وتأتي نار فتأكله، وهذا كان حتى في جهاد بني إسرائيل، فالغنائم ما تقسم عليهم كالمسلمين، ما أحلت لهم، تأتي نار فتحرقها.
نفسية الحسد في كلام قابيل وإفصاح هابيل عن شرط قبول العمل
إذاً: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا [المائدة:27] أي: من هابيل ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ [المائدة:27] وهو أخوه الثاني قابيل .فحمله الحسد، وهو طبع إنساني وغريزة بشرية قل من يسلم منها، وإن وجدت وعالجها العقلاء فإنها تزول ويبرأ العبد منها ويشفى، فقال له: لَأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27]، كيف يتقبل الله قربانك -وكان قدم كبشاً- وأنا لا يتقبل مني قرباني؟! إذاً: والله لأقتلنك. حمله على ذلك الحسد: كيف ستنجح وأنا ما أنجح، دخلنا الامتحان فكيف أنت توظف وأنا لا أوظف، وهكذا من هذا النوع. لَأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27] هذه لام القسم: والله لأقتلنك. فأجابه الأخ الكريم قائلاً: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فلو كنت متقياً له لتقبل منك، تقبل مني لأني من المتقين، ومن هم المتقون؟ المطيعون لله، الراغبون فيما عنده، المحبون له، العاملون بكل ما يرضاه ويحبه، الذين يتقون سخطه، غضبه، عقابه بفعل ما يحب أن يُفعل وبترك ما يحب أن يترك.وهذه الجملة ستبقى خالدة إلى يوم القيامة: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فالفجار لو تصدقوا بالملايين ما ينفعهم، فحين تتصدق بالمال حرام هل يقبل منك؟إذاً: إنما يتقبل الله دائماً وأبداً من المتقين، يتقبل منهم ما يتقربون به إليه صلاة، وصياماً، وحجاً، وجهاداً، ورباطاً، وصدقات، وأذكاراً، وتسبيحاً، ودعاء.. لا يتقبل إلا من المتقين، إما أن تكون منهم وإلا فكل أعمالك مردودة عليك بنص هذه الآية: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] فهيا نكن من المتقين.

يتبع

ابوالوليد المسلم
05-06-2021, 05:06 AM
تفسير قوله تعالى: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك...)
ثم قال له: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي [المائدة:28]؛ لأنه قال: لأقتلنك، فقال: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ [المائدة:28]، وبسط اليد مدها. لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ [المائدة:28] لماذا؟ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [المائدة:28] سبحان الله! أحداث مرت عليها آلاف السنين وننتفع بها نحن كأنها نزلت علينا! لم لا أبسط يدي إليك لأقتلك؟ لأني أخاف الله رب العالمين، وأنت لما كنت لا تخافه اقتل.ولا منافاة بين هذا وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من مات دون ماله فهو شهيد )، فإنه يجوز أن تدافع عن مالك حتى تموت وتقتل، ويجوز أن تفوض أمرك إلى الله ولا تقتل، فتقول للصائل: خذ هذه البقرة أو هذه الشاة ولا تقتل.إذاً: قال: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [المائدة:28]، من هم العالمون؟ كل مخلوق هو عالم، العوالم علوية وسفلية كلها الله خالقها وهو ربها، لكن إذا أطلق لفظ العالمين بهذا الجمع فيراد به العقلاء: الملائكة والإنس والجن، وكل ما سوى الله تعالى عالم، أي: علامة على وجود الله تعالى، فنحن الآن علامة على وجود خالق خلقنا، فنحن من العالمين.
تفسير قوله تعالى: (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار...)
قال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة:29]، أريد أن تبوء بمعنى: ترجع، باء يبوء: إذا رجع، ترجع إلى القيامة بإثمي وإثمك، إني أريد بعدم قتلك أن ترجع إلى الله بإثم قتلي وبإثمك أنت الذي فعلته قبل قتلي، تعود بحملين من الآثام، فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [المائدة:29] هذه جملة قالها تعالى وقالها هابيل : وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [المائدة:29].قال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ [المائدة:29] أن ترجع إلى الله يوم القيامة وأنت حامل إثمين: إثمي أنا بقتلي، وإثمك أنت من الجرائم والموبقات التي فعلتها، فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [المائدة:29] أي: أهلها الملازمين لها الذين لا يفارقونها؛ لأن النار عبارة عن عالم شقاء من دخله فهو مصاحب له، وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [المائدة:29] أي: الخلود في النار جزاء الظالمين.
تفسير قوله تعالى: (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين)
قال تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ [المائدة:30]. فَطَوَّعَتْ لَهُ [المائدة:30]، من هي هذه المجرمة الخبيثة المنتنة؟ نَفْسُهُ [المائدة:30]، زينت له وهونت عليه أن يقتله فقتله، لو كانت نفسه ما هي بمريضة ووقفت وقالت: كيف تقتل أخاك؟ كيف تزهق روحاً؟ ما كان يقدم على هذا، لكن النفس هي ذاته.فهل عرفتم قيمة النفس الآن أم لا؟ في العامة يقال: النفيسة، إنها النفيسة الخسيسة تزين الباطل وتحسن القبيح، وتدفع الإنسان إلى أن يفعل ما لا يحمد عليه، ونحن مأمورون أن نستعيذ بالله من شر نفوسنا: اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي. ولكن النفس إذا أنت روضتها وربيتها ومرنتها يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام تصبح زكية طيبة طاهرة، أما بدون رياضة ولا تربية ولا تمرين فوالله ما ينفع.وقد قال تعالى قصة يوسف عليه السلام حكاية عنه: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53]، وقال تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:1-2]، وقال تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].اللهم إنا نسألك نفساً مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك.. اللهم إنا نسألك نفساً مؤمنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك.وللنفس مراحل: أولاً: النفس الأمارة بالسوء، فإذا أخذت تروضها على الحق وتمرنها على الخير تصبح لوامة، واللوامة تدفعك أولاً إلى فعل المنكر أو الباطل، فإذا فعلته تشعر بالحزن والألم وتلومك: كيف تفعل هذا؟ فواصل علاجها عاماً بعد عام حتى تصبح مطمئنة لا تستريح إلا إلى طاعة الله، ما تقوى أبداً على معصية الله، ما تشعر بالهدوء والسكينة والطمأنينة إلا إذا انغمست في الذكر أو الصلاة أو العبادة.فالنفس أمارة بالسوء، والسوء: كل ما يسوء ويضر، هذه طبيعتها، فإن أخذت تروضها وتربيها بالعبادة والطاعات، وتمرنها على الأخلاق والآداب فترة من الزمن تصبح لوامة، تشعر بها أنها أخذت تلين الآن، بدليل أنك إذا فعلت معصية لامتك وتألمت، وبعد فترة من الزمن عام أو عامين أو عشرة أو ساعة بحسب ما وهبك الله من الرياضة تصبح لا ترتاح إلا للطاعة، إذا دخلت في الصلاة كأنك دخلت في جنة عدن.قال تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ [المائدة:30] هذه المريضة التي ما ربيت ولا روضت على الطاعة، طوعت له نفسه ماذا؟ قَتْلَ أَخِيهِ [المائدة:30] هابيل فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:30]، ومن أعظم خسرانه أنه ما من نفس تموت ظلماً إلا وعلى قابيل جزء ونصيب منها، ما من نفس تموت ظلماً في الأرض إلا وعلى قابيل نصيب وكفل من تلك الجريمة، لأنه أول من سن القتل، وفي الحديث: ( من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ).
تفسير قوله تعالى: (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه...)
قال تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ [المائدة:31] لأنه أول موت يقع، أول من يموت، فأخذ يحمله على ظهره والدم يسيل، فماذا يصنع؟ إذاً: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا [المائدة:31] والغربان تعرفونها وما أكثرها في ديارنا، طائر أسود غربيب، جاء هذا الغراب ومعه غراب آخر يسحبه ويجره قد قتله، فكان يبحث في الأرض برجليه ويرمي بالتراب على ذلك الميت لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي [المائدة:31] أي: يستر سَوْأَةَ أَخِيهِ [المائدة:31] أي: جثة أخيه الميت؛ إذ السوأة وإن كانت تطلق على العورة لكن تطلق على كل ما يقبح النظر إليه، وهل هناك من يستريح إلى نظر الميت؟ فقال هذه الكلمة وسجلها الله لنا: قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ [المائدة:31]، يلوم نفسه، أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي [المائدة:31] كما وارى الغراب سوأة أخيه، أي: جثة أخيه، فبذلك فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31].هذا كلام من؟ هل كانت العرب تعلم هذا وتسمع به؟ من من البشر سوى أهل الكتاب؟يقول تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:27-31].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
هيا مع هداية الآيات:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: مشروعية التقرب إلى الله تعالى بما يجب أن يتقرب به إليه تعالى ]، أخذنا هذا من قوله تعالى: قَرَّبَا قُرْبَانًا [المائدة:27] نتقرب بما يحب الله لا بما يكره الله، وهل تتقرب إلى الله بقتل مؤمن؟ ما هو بمعقول أبداً، هل تتقرب إلى الله ببرميل خمر توزعه؟ إذاً: مشروعية التقرب والتملق إلى الله تعالى بما يحب عز وجل، فما هي محاب الله؟ هي الذكر، الصلاة، الصيام، الصدقات، الجهاد، الدعاء.. العبادات كلها مشروعة للتقرب.والبدع والشركيات والخرافات التي يتقرب بها الجهال إلى الأنبياء والأولياء كلها باطل والله ساخط عليهم، ما هي بقربان، فتقرب بما يحب الله أن تفعله له وتقربه، لا بد من معرفة هذا، فالذين ما يعرفون محاب الله كيف يتقربون بها؟ وهناك أمر آخر: تتقرب إلى الله بترك ما يبغض الله، تقول: أتقرب إليك يا رب من الليلة بألا ألوث فمي برائحة الدخان، ويقبلك، أردت أن تطيب فاك بذكر الله.قال: [ ثانيا: عظم جريمة الحسد وما يترتب عليها من الآثار السيئة ]، أخذنا ذلك من قوله: (لأقتلنك)؛ لأنه شاهد أنه قبل الله صدقته وهو لم تقبل صدقة، فقال: إذاً: سأقتلك. لماذا يقبل الله قربانك ولا يقبل قرباني؟!ولهذا علمنا الله عز وجل، بل علم رسوله أن يستعيذ بالله تعالى من الحاسد: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5]، كل المحن والفتن والبلايا بين البشر أكبر سبب لها هو الحسد والعياذ بالله، والحسود لا يسود، والحسد تمني زوال النعمة عن أخيك لتحصل لك، وأقبح منه أن تتمنى زوال النعمة عن أخيك ولو لم تحصل لك، المهم ألا تراه بخير والعياذ بالله. قال: [ عظم جريمة الحسد وما يترتب عليها من الآثار السيئة ] حروب وفتن، والرسول صلى الله عليه وسلم حاربه اليهود وأرادوا قتله للحسد، والله! من أجل الحسد، كيف ينتقل الكمال للعرب والرسالة والنبوة ونحن محرومون؟! حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109].[ ثالثاً: قبول الأعمال الصالحة يتوقف على الإخلاص فيها لله تعالى ]، أن تريد بها وجه الله، لا وجه زيد ولا عمرو، أن تريد بها رضا الله لا الحصول على مال ولا على جاه ولا سلطان، تعمل العمل وأنت تريد به الله عز وجل، هذا هو الإخلاص الذي يسبب قبول العمل، وإلا فلا يقبل العمل.[ رابعاً: بيان أول من سن جريمة القتل، وهو قابيل ، ولذا ورد ] عنه صلى الله عليه وسلم [ ( ما من نفس تقتل نفساً ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل -أي: نصيب- ذلك بأنه أول من سن القتل ) ].المدينة -والحمد لله*- بلاد الرسول الطاهرة، فإذا جاء أحد الغافلين فاستورد الحشيش، فهل يكون أول من سنها أو لا؟ وكل من يشربها عليه إثم ذلك، المدينة ما كانت فيها باروكة، فتاجر جاء بالباروكة فكان أول من أتى بها وسنها أو لا؟ وكل من اشترى باروكة ولبسها هو أيضاً عليه إثم. قال: [ خامساً: مشروعية الدفن وبيان زمنه ].وقد سئلت هاتفياً فقال السائل: توفي أبي وإخواني في الشرقية وفي الجنوب، فهل يجوز أن نبقي عليه حتى يحضروا أو لا يجوز؟ فقلت: أيام لم تكن هذه الآلات التي تحفظ الجسم فلا يتغير ولا يحدث فيه أي شيء كان التأخير لا يجوز أبداً، ولا يحل أن تنقل ميتك من قرية إلى قرية أخرى، لا يجوز أبداً؛ لأنه يتعفن، فلا يحل.والآن لما كانت القضية بهذه الطريقة حيث ثلاجات الموتى يبقى الميت فيها شهراً أحياناً أو عشرة أيام ولا يتغير أي شيء، فنقول: إذا كان استعجالك للدفن فهو أفضل، فقد أمرنا بتعجيل دفن الميت، فهو أفضل بلا خلاف، لكن إذا كان يترتب على تأخيره بيان حقوق وعلمنا أنه لا يتأثر بالتأخير يوماً أو أسبوعاً فلا بأس.كذلك إذا كان إخوانه أو أبناؤه يحضرون في يوم واحد، وكان في الزمان الأول إذا كانوا في الرياض فلكي يحضروا يحتاجون إلى أربعين يوماً، فلا قائل أبداً بانتظارهم، لكن ما داموا يحضرون في يوم أو يوم وليلة ولهم رغبة في أن يقبلوا والدهم ويشاهدوه، فنقول: لو فعلوا جاز، ما أقول: فيه أجر، أقول: يجوز.وانظر كيف هنا لما مات هابيل علم الله عز وجل قابيل كيف يدفنه، فجاء بغراب قتل غراباً أخاه ثم أخذ يسحبه في الأرض، ثم أخذ يحفر الأرض برجليه ويرمي التراب عليه، فقال قابيل : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31].وهل الندم هذا ينفع قابيل؟ ما ينفعه أبداً، لماذا؟ لأنها ما هي بتوبة صادقة خوفاً من الله، كل ما في الأمر أنه حار: ماذا يفعل بهذه الجثة، ففعل كما فعل الغراب ودفنها، والتوبة التي تقبل أن تكون خوفاً من الله وخشية من الله وعزماً أكيداً ألا تعود لهذا الذنب ولو قطعت ولو حرقت ولو صلبت، أما مجرد التألم لقتل أخيه فما ينفع.قال: [ سادساً: خير ابني آدم المقتول ظلماً، وشرهما القاتل ظلماً ]، خير ابني آدم المقتول ظلماً من الآن إلى يوم القيامة، وشرهما القاتل ظلماً.وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
05-06-2021, 05:08 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (8)
الحلقة (318)
تفسير سورة المائدة (16)


إن قتل النفس البشرية وإزهاق الروح الآدمية لهي جريمة شنعاء، لذلك فقد بين سبحانه وتعالى أن من قتل نفساً واحدة فكأنما قتل الناس جميعاً، إلا أن الله عز وجل أباح القتل في ثلاثة أحوال؛ فمن قتل نفساً ظلماً وعدواناً جاز قتله، والثيب الزاني سواء كان رجلاً أو امرأة يجوز قتله، والمرتد عن دينه والخارج عن جماعة المسلمين وإمامهم.
تفسير قوله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). وأخرى -يا معشر المؤمنين والمؤمنات- هي قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )، فاللهم حقق لنا هذا الخير إنك ولينا وولي المؤمنين.ما زلنا مع سورة المائدة المباركة المدنية الميمونة، ومعنا هذه الآية المباركة الكريمة، هيا نتلو هذه الآية متأملين فيما تحمله من هدى ونور.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32]. ‏
صلة الآية الكريمة بما قبلها
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ [المائدة:32]، الإشارة هنا عائدة إلى قتل قابيل هابيل ؛ إذ تقدم في الآيات السابقة أن ابني آدم -وهما قابيل وهابيل- تقرب منهما هابيل إلى الله بقربان فقبله الله منه، وآية ذلك -أي: علامة قبول الله له- أن ناراً تنزل من السماء وتحرقه، وأن قابيل تقرب بقربان فلم يقبل منه، ولماذا تقبل من هابيل ولم يقبل من قابيل ؟ لأن هابيل اختار أطيب ما عنده وقدمه لله ونفسه طيبة مطمئنة راضية بهذا التقرب إلى الله، والآخر ما كانت نفسه طيبة ولا مطمئنة ولا اختار أطيب ماله ولا أجوده، بل اختار أفسده، وقيل: رأى سنبلة فيها حب جيد فأكلها ولم يقدمها، فلم يتقبل الله تعالى منه قربانه، فحمل الحسد قابيل على قتل هابيل وقال: لم يتقبل الله منك ولم يتقبل مني؟ فقتله. وهنا عرفنا أن الحسد أول معصية وأنها فتنة لا نظير لها، ما هناك داء أضر على البشرية من الحسد، وهو داء الأمم كلها، وقد عرفناها فينا، هذا الداء الخطير حمل قابيل على قتل أخيه هابيل، فلما قتله وكان أول ميت لم يدر ماذا يصنع؟ فحمله على ظهره فحيثما مشى كان معه، حيثما نزل ونام كان معه، إذاً: فبعث الله برحمته وحكمته وإحسانه إلى عبيده بعث غراباً يبحث في الأرض ليدفن غراباً من الغربان، وهذا الآدمي قابيل يشاهد، فلما رأى الغراب قد حفر الأرض ودفن أخاه الغراب فعل هو بأخيه كذلك.واسمعوا قول الله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي [المائدة:31]، أي: يدفن ويستر سَوْأَةَ أَخِيهِ [المائدة:31]، أي: جثة أخيه.إذاً: اسمعوا الآيات مرة أخرى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:27-31]، قال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ [المائدة:32]، ماذا فعل الله من أجل ذلك؟ قال: كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:32]، من هم بنو إسرائيل؟ عرفناهم: أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، فيعقوب يلقب بإسرائيل.وهم اليهود، وقد علمتم أنهم ما زالوا إلى الآن منحازين متكتلين متجمعين متوالين لا يتزوجون نساء غيرهم، ولا يزوجون نساءهم لغيرهم؛ ليبقى هذا الشعب كما هو على مر الأجيال والقرون، وعرفوا باليهود، من هاد يهود هوداً: إذا رجع؛ لأنهم لما ارتكبوا تلك العظيمة قالوا: هدنا إليك، فتابوا إلى الله، أي: من عبادتهم العجل.
الأسباب المبيحة للقتل
والشاهد عندنا في قول ربنا جل ذكره: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:32]، و(كتبنا) بمعنى: أوجبنا وفرضنا، عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:32]، ماذا كتب عليهم؟ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ [المائدة:32]، ما معنى قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ [المائدة:32]؟ قتل نفساً بدون مقتضي قتلها، بدون موجب القتل، وهل هناك ما يوجب قتل النفس؟ أي نعم. ثلاث خصال يجب أن نحفظها وأن تكون عندنا من البدهيات، ثلاث يقول فيهن الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث )، أي: بواحدة من ثلاث، ما هي يا رسول الله؟! قال: ( النفس بالنفس )، من قتل نفساً يستباح قتله، يجوز قتله، من قتل نفساً ظلماً وعدواناً استوجب القتل واستحق أن يقتل وقتله مشروع جائز مأذون فيه من الملك جل جلاله وعظم سلطانه، عبده قتل عبده، فأذن في قتله.قال: ( والثيب الزاني )، الثيب: هو غير البكر، هو من تزوج وماتت زوجته أو طلقها أو كانت عنده، الثيب: من تزوج زواجاً شرعياً، عقد على امرأة وبنى بها وخلا بها فأصبح ثيباً، هذا الثيب إذا زنى بامرأة جاز قتله، استحق القتل، هذا الثيب الزاني.أما البكر الذي لم يعرف الزواج وزنى فإن الحد هو أن يجلد مائة جلدة على ظهره أمام المسلمين، ويغرب سنة من بلده إلى بلد آخر حتى يمحى ذاك السواد الذي على وجهه، سنة لا يراه من أهل القرية أحد، وفيه حكمة أخرى أيضاً؛ لأن وجوده بين المواطنين يذكر الناس بالزنا، وذكر الباطل يهيج عليه ويدفع إليه، فأبعدوه سواء في صحراء أو في جبل، ويغرب سنة.والمرأة المؤمنة لا تغرب، فمن يقوم بشأنها إلا إذا كان لها مولى كعم وأخ فممكن أن تبعث إليه، لكن بوصفها محجوبة ما هناك من يقول: هذه زنت ورجمناها. والجلد هو جلد بالعصا مائة جلدة، ودليل ذلك ما هو معلوم لديكم: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، لا يرجمون في الخفاء أو يجلدون بالخفاء، أما الثيب فيرجم حتى الموت، وإذا رجم ومات طهر ونظف، كالثوب إذا تلطخ بالقاذورات والأوساخ وغسلته الغسل الحقيقي فإنه ينظف، كذلك الحد إذا أقيم على مؤمن طهره، فمن حكم مشروعية إقامة الحد تطهير النفس، زيادة على ما لذلك من آثار طيبة في المجتمع.قال: ( والتارك لدينه المفارق للجماعة )، هذا هو الحق الثالث، ( لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) خصال، ( الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة )، التارك لدينه: هو المرتد، مسلم وضع برنيطة على رأسه وصليباً في عنقه وقال: أنا تنصرت، أو قال: أنا لا أؤمن بالله ولا برسوله، أو قال: هو مجوسي، فيستتاب ثلاثة أيام، فلعله مرض لعله كذا، فإن أصر أعدم، وهل هذا الإعدام يكفر ذنبه؟ الجواب: لا، فإلى جهنم؛ لأنه كفر باختياره وإرادته. والمفارق للجماعة الذي يخرج على إمام المسلمين، الذي يخرج على إمام المسلمين ويتحزب مع جماعة ويعلنون الحرب لإثارة الفتنة والشغب والتعب والخلاف بين المسلمين، هذا الباغي بغيه يوجب قتله ويستحق القتل.

يتبع

ابوالوليد المسلم
05-06-2021, 05:09 AM
اجتماع الأسباب المبيحة للقتل في وصف الفساد في الأرض
إذاً: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ [المائدة:32]، ما الفساد في الأرض في الآية؟ الشرك بعد التوحيد، الكفر بعد الإيمان، أليس هذا هو الفساد؟ والخروج على إمام المسلمين وإثارة الفتنة ليقتل المسلمون بعضهم بعضاً، أي فساد أعظم من هذا؟ وكلمة: أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ [المائدة:32]، الرسول بلورها وقدمها في هذه الزهرة المستنيرة، فقال: ( لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس )، قتل نفساً ظلماً وعدواناً يقتل بها، ( والثيب الزاني )، الذي يفسد المجتمع الإسلامي بالزنا، ثالثاً: ( التارك لدينه المفارق للجماعة )، التارك لدينه فارق الجماعة بكفره، ولكن إضافة ( المفارق للجماعة ) يدخل ذاك الذي يعلن الحرب على إمام المسلمين ويخرج عليه؛ ليثير الفتنة والتعب والمصائب والويلات.هذه الآية دلت على هذه المعاني: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ [المائدة:32] الذي عرفتم وهو قتل قابيل أخاه هابيل حسداً -والعياذ بالله تعالى- كتبنا على أولاد إسرائيل إلى يوم القيامة: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ [المائدة:32]، وكلمة أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ [المائدة:32]، عامة، فالشرك فساد، كان موحداً فعلق الصليب أليس هذا بفساد؟ كان مؤمناً فأعلن عن كفره وارتد، فهل هذا فساد أم لا؟ كون عصابة وخرج على الإمام وأزهق الأرواح وقتل، فأي فساد أعظم من هذا؟ دلونا على جماعة خرجت على إمام المسلمين وأقامت دولة إسلامية، وعبد الله وحده ورفعت راية لا إله إلا الله، وأقيمت شريعة الله بين الناس؟ إن الذين خرجوا على علي قتلهم هو، فهم الذين مزقوا، والذين خرجوا على عثمان ماذا فعلوا؟ وقل ما شئت إلى الآن، فأيما جماعة ناشطة تريد أن تخرج على الحاكم وإن كان من كان فخروجها باطل باطل باطل؛ لأنه لا يعقب خيراً، لا يورث خيراً، ما هو إلا باطل؛ لأن الخير له طرق غير هذه.
معنى قوله تعالى: (فكأنما قتل الناس جميعاً )
قال تعالى: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، كيف؟ بعبارة واضحة: يعذب عذاباً أليماً في جهنم، عذاب ما فوقه عذاب، والذي يقتل البشر كلهم يعذب عذاباً ما فوقه عذاب، فتفطنوا لهذه الجملة: (فكأنما قتل الناس جميعاً)، أي: في التعذيب، فلو قتل الإنسان مليون واحد فإنه يقتل قتلة واحدة، ولكن يعذبه الله عذاب من قتل؛ لقوله تعالى: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، هذا من جهة.ومن جهة أخرى أيضاً -والقرآن كله نور- أن الذي يجرؤ على أن يقتل مؤمناً ظلماً وعدواناً مستعد لأن يقتل البشر كلهم، فالذي تفسد طبيعته ويموت قلبه ويقدم على قتل مؤمن مستعد لأن يقتل كل الناس ولا يبالي، ما دام قد مات قلبه وأقدم على قتل أخيه فهذا قد يقتل كل الناس إذا تمكن من قتلهم وأراد ذلك، ما بقي عنده وازع يمنعه أو يصرفه، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32].
معنى قوله تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)
وَمَنْ أَحْيَاهَا [المائدة:32]، أحيا نفساً، والذي يحيي ويميت هو الله، ولكن جعلنا الله نقدر على أن نحيي وعلى أن نميت، فحين يستوجب فلان القتل وأنت قادر على قتله وتتركه لله عز وجل أما أحييه؟إذاً: فيحصل لك الأجر كأنما أحييت الناس جميعاً، فالذي تمكن من قتل ظالم معتد عليه مستوجب للقتل فرحمه لله وترك عبد الله ليعبد الله وأبى أن يقتله من أجل الله، هذا كأنما أحيا الناس جميعاً، فهو أيضاً قادر على أن يحيي الناس كلهم، ونحن ألسنا كذلك؟ ما منا إلا من هو قادر على أن يحيي الناس جميعاً.ويحصل الأجر له كأنما أحيا الناس جميعاً، ما هو بأجر واحد فقط، وواهب الأجر ومعطيه هو الله الملك جل جلاله وعظم سلطانه، فمن أحيا نفساً استوجبت القتل فعفا عنها وتركها لله عز وجل هذا مستعد أن يحيي الناس كلهم إذا فعلوا، وحينئذٍ فجزاؤه جزاء من أحيا الناس جميعاً، هكذا يقول تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وهنا باب العفو والصفح مفتوح للمؤمنين، شخص يعتدي عليك ويستوجب القتل وتعفو عنه وأنت قادر؛ لأن الحاكم معك يقطع رأسه أمامك وأنت قادر على العفو فقل: عفونا عنه لله وتركناه لله. هذه حسنة من أعظم الحسنات تعطى عليها أجر من أحيا الناس جميعاً، ولهذا يعفو المؤمنون بعضهم عن بعض ويصفحون.
معنى قوله تعالى: (ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات)
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ [المائدة:32]، وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ [المائدة:32]، من هم هؤلاء؟ اليهود بنو إسرائيل، جاءتهم رسل الله، ورسل الله أعداد كثيرة، من بين رسل الله: موسى وهارون وبعدهما داود وسليمان وآخرهم عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وزكريا ويحيى رسل، وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ [المائدة:32] والله رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ [المائدة:32]، بالحجج بالبراهين القاطعة، بالبيان بالمعرفة، لكن مع الأسف أعرضوا، هل هناك معجزات أعظم من معجزات عيسى عليه السلام؟ جعله يمسح على الأبرص فيصبح جسمه كأحسن ما يكون، والبرص الآن الدنيا كلها فشلت في علاجه، فهل هناك طبيب يداوي البرص في العالم أو مستشفى؟ وأعمى ما يبصر يمسح على عينيه فتعودان على أحسن ما يكون، وميت يقال له فيه: يا روح الله! ادع الله فيدعو له فيقوم حياً! فأية بينة أعظم من هذه؟ ومع هذا كفروا به، كذبوا به، حاولوا قتله ويعتبرون قد فعلوا؛ لأن الجريمة ثبتت عليهم، ما دام أنه ألقى الله الشبه على رئيسهم وأخذوه ظانين أنه عيسى وعلقوه وصلبوه وقتلوه فكأنما قتلوا عيسى، ولهذا بينت لكم غير ما مرة أن اليهود يعتبرون قتلة النبي صلى الله عليه وسلم قضاء؛ لأنها مؤامرات تمت ليقتلوه، وإنما عجزوا وما تابوا فيعتبرون قتلة، والله يقول: وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:181]، قتلوا زكريا وولده يحيى، نبيان رسولان، قتلوا الأب والابن معاً، فهل هؤلاء فيهم خير؟ يرجى فيهم خير؟ وكيف نصنع؟
سعي اليهود لحكم العالم
إن اليهود يفكرون في أن يحكموكم ويسودوكم ويتحكموا فيكم ويذلوكم ويهينوكم، فأهدافهم ليس أنتم فقط بوصفكم مسلمين، هم يريدون العالم بأسره، يريدون مملكة بني إسرائيل لا من النيل إلى الفرات فحسب، فهذه خطوة أولى، ولكن يريدون العالم كله، هذا الذي جعلهم يعضون على دينهم بأسنانهم، ما يفرطون في اليهودية أبداً ولا يحاولون أن يتخلوا عنها بحال من الأحوال؛ لأنهم يفكرون بأن يسودوا العالم ويحكموه.وأبشركم -وهم على علم- بأن هلاكهم سيكون على أيدي المسلمين، ولا يقل أحد: ما نريد أن يسمعوا هذا، فقد سمعوا قبلك، وهم يدرسونه، وقالوا: لن يفعل بنا ما يفعل إلا المسلمون، فهيا نعمل ما استطعنا على ألا نبقي إسلاماً ولا مسلمين. هذا الكلام يعلمونه ويدرسونه، يعرفون أن نهاية بني إسرائيل تكون على أيدي المسلمين، درسوا الحديث الصحيح في مسلم وعرفوه، وهم يعرفون ذلك أيضاً من كتبهم، إذاً: ماذا يصنعون؟ قالوا: ما نسمح بوجود إسلام حقيقي في الأرض، حتى لا يوجد مسلمون تخاطبهم الأشجار والأحجار.ومن قال: كيف؟ قلنا: أما حاولنا حرب اليهود في فلسطين وعجزنا؟ فكيف نعجز؟ لأننا لسنا بالمسلمين الجديرين بكلمة الإسلام الحق، لو أسلمنا ففي أربع وعشرين ساعة يرحل اليهود، ما يقبلون القتل، يخرجون من فلسطين، نحلف لكم بالله أننا لو نعلن عن إسلامنا -أيها المسلمون الذين هم ألف مليون- فقلنا: لا إله إلا الله، وطبق شرع الله؛ لرحل اليهود بسرعة بدون قتال، لكن هم علمونا وجربونا وانتصروا علينا وهزمونا.
المعجزة النبوية في الإخبار بقتال اليهود
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لتقاتلن اليهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فتعال فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود ).الرسول يتحدث عن الله ويخبر بالغيب من الله، كيف يقول: ( لتقاتلن اليهود )، واليهود قد شردهم ومزقهم؟ أين اليهود الذين سنقاتلهم وهم حفنة في الشرق وحفنة في الغرب! كيف يتم هذا؟ الله أكبر! قد تم هذا، إنها معجزة محمد صلى الله عليه وسلم.المجموعة التي كانت هنا منهم بنو قينقاع شردوا، وبنو قريظة قتلوا، وبنو النضير التحقوا بخيبر وفدك والشام، فكيف يخبر فيقول: ( لتقاتلن اليهود )، وتمضي القرون ويعز اليهود بحيلهم ومكرهم وسحرهم وأباطيلهم، ثم يأتي زمان يعرف فيه المسلمون ربهم، ويقبلون على مولاهم في صدق فتتحد كلمتهم وتتحد قوانينهم وشرائعهم ويمشون في سبيل الهدى، ثم بعد ذلك يسلطهم الله على اليهود، نقمة الله على اليهود أعدائه، فيقاتلونهم يتتبعونهم حتى يقول الشجر: يا مسلم! هذا يهودي مختبئ ورائي، ويقول الحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي، ولا يقول: يا عربي. فعرف هذا اليهود وقالوا: هيا نشيع الشرك والخرافات والضلالات والفسوق والفجور والربا والزنا والباطل وعقوق الوالدين والتكالب على الدنيا وأوساخها والمزامير والأغاني حتى ما يوجد إسلام أهله يقاتلوننا.لو سمعوا هذا الدرس لقالوا: هذا الذي في المدينة دوخنا، فيعملون على قتلي، ولا يستطيعون. وأزيدكم: والله! إن كل مظاهر الفسق والفجور والشرك والباطل أصابع اليهود هي التي تنشئها وتدعو إليها، وإلا فأهل فكيف يصبح أهل القرآن أهل الإسلام ساقطين ماجنين هابطين ضلالاً ضائعين وأنوار الله تغمرهم؟ كيف يتم هذا؟ وجواب ذلك أن نقول: هل عندكم الدشوش في سطوحكم؟ ذلك الذي يلتقط لنا أصوات العواهر والمجرمين والكافرين والضالين ويعرض صورهم على أبنائنا وبناتنا ونسائنا ورجالنا حتى تموت القلوب، ونمد أعناقنا ليركب من شاء أن يركب، هل هذا بلغ المسلمون أم لا؟ والله الذي لا إله غيره لو كان مسلم بحق يسمع هذا الكلام لما بات التلفاز في بيته، وإذا سمع من سمع وهو طائش هائج فلن يبالي بهذا الكلام؛ لأن قلبه فارغ لا نور لله فيه، هذا هو الواقع.هذه الآلات والأغاني والمزامير والملاهي هي مفتاح الزنا والعهر، هي بابه، فكيف يصح هذا؟ ولكن ماذا نصنع؟ لماذا لا تفعلون شيئاً؟ انصحوا لبعضكم، أخوكم زوروه في بيته أو ادعوه إلى بيت أحدكم وقدموا له الحلوى وقدموا له طعاماً لذيذاً وأنتم تبتسمون وتقولون: يا أخي! أو يا أبتي! أو يا بني! أنت أخونا، أنت كذا، أنت في دار الإسلام، وعلمنا أن لك دشاً على سطح بيتك وهو يفسد عليك أسرتك، فهيا تشجع وقل: أعاهدكم ألا يبيت الليلة على سطحنا، فسيزيله، وكذلك الثاني والثالث والرابع، وهذا هو قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، فإن لم نفعل هذا فما تعاونا، ما مددنا أيدينا لبعضنا، نرى أخانا ساقطاً فنزيد في سقوطه، وهابطاً فنزيد في هبوطه، كيف يصح هذا إلا إذا كنا منحدرين إلى الهاوية، ومن يردنا؟
أخذ العبرة مما حل باليهود
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ [المائدة:32]، بنو إسرائيل أفضل منا، أكمل البشر أولاد الأنبياء؛ لتأخذوا العبرة، فإذا كان اليهود بنو إسرائيل أبناء الأنبياء عاملهم الله بهذه المعاملة، فكيف بالمسلمين؟إذاً: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ [المائدة:32]، ونحن عندنا بينات أم لا؟ كلها عندنا، ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32]، ما هو الإسراف هذا؟ أتدرون ما الإسراف؟ الخروج عن العدل وعن القسط وعن الحد المطلوب، الإسراف في الأكل في الشرب في الكلام في النوم في المعاملة في كل شيء: مجاوزة الحد، والذي يتجاوز الحدود يتحطم ويخسر.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
05-06-2021, 05:10 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (9)
الحلقة (319)
تفسير سورة المائدة (17)


شرع الله حد الحرابة حفظاً لدماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، فأيما رجل أو جماعة عملوا على ترويع الناس، والاعتداء عليهم، وقطع السبيل والإفساد في الأرض فقد جاز تطبيق حد الحرابة عليهم، وتكون العقوبة إما بالقتل، أو بالصلب، أو بتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، وأهل العلم على أن لولي الأمر اختيار إحدى هذه العقوبات حسب ما يرى من الحاجة إليه.
ذم الإسراف والتبذير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة ذات الأحكام الشرعية، ومعنا في هذه الليلة هاتان الآيتان الكريمتان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:33-34].قبل الشروع في دراسة الآيتين المباركتين نفي بما وعدنا، وهو أن نتكلم بإجمال على الإسراف وأهله، وذلك لأنا تلونا هذه الآية وهي قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32].الإسراف: مصدر أسرف يسرف إسرافاً: إذا تجاوز الحد المحدود وتعداه إلى غيره، والله تعالى يقول -وقوله الحق- من سورة الأعراف: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، مولانا سيدنا ربنا لا يحب المسرفين، فمن أسرف في أكله أو شربه أو لباسه أو شئونه في الحياة الدنيا تعرض لبغض الله له، أعوذ بالله.دلوني على عاقل يرضى أن يكرهه الله؟! كيف يسعد، والله يصرح بقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، إذاً: فهيا نقتصد في أكلنا وشربنا ولباسنا ومراكبنا ومساكننا أولاً.ومعنى الاقتصاد: الأخذ بالوسط لا تقتير ولا إسراف، القصد القصد.
أهمية الاقتصاد في كل أمور الحياة
وقد قدمت لكم أن علينا أن نقتصد حتى في النوم، لا تنم يا عبد الله من صلاة العشاء إلى طلوع الشمس، قم آخر الليل ولو بساعة قبل الفجر ولو مع الفجر، أما أن تنام ليلك كاملاً فما يجوز، اقتصد في نومك.وكذلك السهر والعياذ بالله من سهراتنا، والحمد لله فلا سهر عندنا، الذين يسهرون من الساعة التاسعة بعد صلاة العشاء يتعشون ويجلسون إلى الثانية عشرة أو الواحدة في اللهو وفي الباطل، لا هم مكبون على دراسة العلم والحكمة ولا هم رافعو أكفهم إلى الله يبكون بين يديه، ولكن يسمعون الأغاني ويشاهدون اللهو والأضاحيك ويشربون الشيشة والدخان ويهزءون ويسخرون أهذا عدل؟ أيجوز هذا الإسراف؟ إن الدقيقة الواحدة لن تستطيع أن تشتريها بملء الأرض ذهباً، فالزمن واهبه الله ومالكه، فكيف يجوز أن تبدده؟ كيف تنفقه ضد الله عز وجل واهبه لك؟ الاقتصاد في الكلام في المجلس، لا تتكلم وتضحك دائماً، ما يجوز، أنتم جماعة راكبون السيارة فلا يكن الوقت كله كلاماً، والله لا يجوز، تكلم بالكلمة تراها نافعة مجدية تحقق حسنة أو تحقق قرشاً كما قدمنا وعلمتم، فالإعراض عن كل ما لا يحقق لك حسنة لمعادك يوم القيامة أو درهماً لمعاشك اليوم، وما عدا ذلك لغو يجب الإعراض عنه.وبلغني أن طلبة -إن صدق القائل- يأتون إلى معرض الكتاب في الجامعة ويتصفحون الكتاب للشراء، إذا وجدوا حديثاً لا يعجبهم يمسحونه بالحبر بدون إذن صاحبه، إذا وجدوه كذا يقطعونه ويمزقونه، هذا إسراف، ما سبب هذا؟ دلونا يرحمكم الله؟ سببه أننا ما ربينا في حجور الصالحين، ما عشنا بين أبوين أو بين مشايخ أو أحباء نتلقى الحكمة والمعرفة والآداب والأخلاق الفاضلة من نشوئنا وبداية حياتنا، تركونا وأهملونا حتى بلغنا سن الرشد الخامسة عشرة والسادسة عشرة وأردنا أن ندخل إلى الإسلام وأن نتحمل وأن نكون من أولياء الله، قل من يسلم، لا بد من التربية، لا بد من ملازمة أهل البصيرة والنهى والأخذ عنهم والتلقي عنهم، وعدم التسرع في الرد والانتقاد لهم والطعن.إذاً: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، وأسرف اليهود في البغض للإسلام والأنبياء والقتل والدمار حتى بلغوا مستوى لا حد له، فكذلك الإسراف في المعاصي، في الزنا، زنى في عشرين سنة مرة فيعفى عنه ويغفر له إن تاب، شرب الخمر مرة في حياته أو مرتين فيتوب منها، أما أن يوالي الجريمة ويسرف فيها فلن يتوب منها، لن ينجو أبداً.فلا بد من القصد، والإسراف في كل شيء حرام، ما هو الغلو في الدين: يبيت طول الليل راكعاً ساجداً وامرأته تتململ على فراشها وأبناؤه يبكون، من كلفك بهذا! قم آخر الليل، صل أول الليل، أو هو طول الدهر صائم وأمه تبكي! ما هذا الصيام؟ لا يجوز فقد أسرفت، فالقصد القصد.

يتبع

ابوالوليد المسلم
05-06-2021, 05:11 AM
تفسير قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا ...)

معنى قوله تعالى: (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]، خزي في الدنيا، فهؤلاء إن كانوا مؤمنين غير كافرين وأقيم عليهم الحد وقطعت أيديهم ففي الآخرة يغفر لهم؛ لأن الحدود كفارة لأصحابها، أما إذا كانوا مع الجريمة كافرين فلهم عذاب عظيم يوم القيامة في الآخرة: وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].لاحظ: ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا [المائدة:33]، من هؤلاء الذين لهم خزي فقط في الدنيا؟ إنهم مؤمنون ومع هذا أجرموا وقتلوا، وأقيم الحد عليهم، فيطهرهم الحد، وإن كانوا غير مؤمنين: وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]، مع خزي الدنيا وذلها وعارها.
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ...)
ثم قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة:34]، جماعة حاربونا وعجزنا عنهم، وبعد ذلك تابوا وتركونا، وبعد عامين أو ثلاثة قالوا: نحن الفلانيون وتبنا، فماذا نفعل معهم؟قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة:34]، نحن طلبناهم فما استطعنا، قهرونا، بعد سنة تابوا وقالوا: نحن الفلانيون، فننظر: إذا أخذوا المال ردوه أو تقطع أيديهم، إذا فجروا بالنساء يقام عليهم الحد، إذا قتلوا يقام عليهم الحد، إلا أن يعفو صاحب المال أو صاحب النفس فله ذلك، والله غفور رحيم.فهؤلاء المجموعة عجزنا عن التسلط عليهم وفشلنا، سنة أو سنتين وهم يحاربوننا، بعد فترة انقطع ظلمهم ما وجدناهم، وبعد عامين عرفناهم فقالوا: تبنا إلى الله عز وجل، فكيف العمل معهم؟ إن قتلوا ننظر هل أهل المقتول سيعفون عنهم أو لا؟ إن قالوا: عفونا عنهم عفا الله عنهم، وأهل المال إذا قالوا: تنازلنا، فهؤلاء كانوا في جهالة وكذا والآن عفونا فكذلك عفا الله عنهم، وإن قال أصحاب النفس نريد أن يقتص منهم فإنه يقام عليهم الحد، والحدود كفارة لأصحابها، ومن تاب تاب الله عليه، هذه قاعدة، التوبة تجب ما قبلها على شرط أن تكون توبة صادقة ناصحة، ما فيها تردد.
معنى قوله تعالى: (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]، خزي في الدنيا، فهؤلاء إن كانوا مؤمنين غير كافرين وأقيم عليهم الحد وقطعت أيديهم ففي الآخرة يغفر لهم؛ لأن الحدود كفارة لأصحابها، أما إذا كانوا مع الجريمة كافرين فلهم عذاب عظيم يوم القيامة في الآخرة: وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].لاحظ: ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا [المائدة:33]، من هؤلاء الذين لهم خزي فقط في الدنيا؟ إنهم مؤمنون ومع هذا أجرموا وقتلوا، وأقيم الحد عليهم، فيطهرهم الحد، وإن كانوا غير مؤمنين: وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]، مع خزي الدنيا وذلها وعارها.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
والآن نسمعكم هداية الآيتين؛ لتذكروا ما قلت لكم.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيتين: من هداية الآيتين: أولاً: بيان حكم الحرابة ] ما الحرابة؟ قال: [ وحقيقتها: خروج جماعة اثنان فأكثر ويكون بأيديهم سلاح ولهم شوكة، خروجهم إلى الصحراء بعيداً عن المدن والقرى، يشنون هجمات على المسلمين فيقتلون ويسلبون ويعتدون على الأعراض، هذه هي الحرابة وأهلها يقال لهم: المحاربون، وحكمهم ما ذكر تعالى في الآية ].وهنا محنة الآن تحت شعار الجهاد في بلاد المسلمين، يهجمون على المواطنين ويسلبونهم ويأخذون نساءهم، فهل هؤلاء محاربون أو مجاهدون؟ إن المجاهد يقاتل المقاتل، أما المؤمن الذي في يده مسحاته أو قلمه كيف يقاتل؛ ألأنه مع الحكومة؟ إذا كنت تقاتل فقاتل الجيش، أما أنك تقتل أفراد الشعب وتسلب أموالهم وتعتدي على نسائهم فوالله ما هو هذا بالجهاد، وإنما هي الحرابة، وافهموا هذه.[ ثانياً: الإمام مخير في إنزال العقوبة التي يرى أنها مناسبة لاستتباب الأمن إن قلنا (أو) في الآية للتخيير، وإلا فمن قتل وأخذ المال وأخاف الناس قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ مالاً قتل، ومن قتل وأخذ مالاً قطعت يده ورجله من خلاف، فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ومن لم يقتل ولم يأخذ مالاً يُنفى ] ويبعد من البلاد وكفى.[ ثالثاً: من تاب من المحاربين قبل التمكن منه يعفى عنه، إلا أن يكون بيده مال سلبه فإنه يرده على ذوي أصحابه، أو يطلب بنفسه إقامة الحد عليه فيجاب لذلك ]، إما أن يرد المال، أو يقول للحاكم: أقم الحد علي وطهرني ولا بأس.[ رابعاً: عظم عفو الله ورحمته بعباده لمغفرته لمن تاب ورحمته له ]، هذا معنى قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة:33]، ما جزاؤهم؟ أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة:34]، أما إذا ألقينا القبض عليهم وفي أيديهم السلاح فأمرهم كما قدمنا، لكن تابوا قبل القدرة عليهم: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:34]، يغفر لهم ويرحمهم.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
05-06-2021, 05:13 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (10)
الحلقة (320)
تفسير سورة المائدة (18)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده (https://audio.islamweb.net/audio/index.php?fuseaction=ft&ftp=hadeeth&id=7016855&spid=142)). اللهم حقق لنا هذا الخير، إنك ولينا وولي المؤمنين.

ما زلنا مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:35-37].

نداء الله تعالى عباده المؤمنين


حقيقة الفلاح


مقاصد وأغراض نداء المؤمنين


إذاً: عند قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) نقول: لبيك اللهم لبيك، والخير بيديك، لو أن مؤمناً ما شعر حتى قال: لبيك اللهم لبيك، فهل يحمد على هذا أم لا؟ يحمد على هذا، سمع نداء ربه موجهاً إليه فقال: لبيك ربي، مر أفعل، انه أترك، حبب إليَّ أحب، بغض إليَّ أبغض، إني عبدك ولا هم لي إلا طاعتك.
وقد علم أهل هذه الحلقة المباركة -وزادهم الله علماً- أن الله تعالى حاشاه أن ينادينا للهو واللعب أو للباطل، لا ينادينا إلا لواحدة من أربع: ينادينا ليأمرنا بوصفنا عبيده خلقنا لطاعته، يأمرنا بأمرٍ من أجل إسعادنا وإكمالنا، وأما هو فلا يستفيد منه شيئاً، وليس في حاجة إلى شيء اسمه فائدة، إذ هو خالق كل شيء، يأمرنا بفعل أو قول أو اعتقاد ما من شأنه يزكي أنفسنا ويطهر قلوبنا ويعدنا لسعادة الدنيا والآخرة، أو ينادينا لينهانا: لا تفعلوا، لينهانا عما من شأنه أن يعوقنا عن السعادة والكمال، والله! ما نهانا الله عن شيء إلا لأنه يعوقنا عن الفوز والنجاح والسداد، فلهذا إذا نهاك مولاك فاستجب، كأنما قال لك والسم بين يديك وتريد أن تبتلعه: عبد الله! لا تأكل السم. فكل ما نهى الله عنه من اعتقاد فاسد أو قولٍ سيء أو عمل غير صالح؛ والله لضرره أكثر من ضرر السم؛ لأنه سيدنا ومولانا، ما ينهانا إلا عما فيه ضررنا وهلاكنا وشقاؤنا.
إذاً: ينادينا ليرغبنا، ليبشرنا؛ لأننا أولياؤه؛ لنزداد في الصالحات والتنافس فيها، وهو في صالحنا، أو ينادينا ليخوفنا، ليحذرنا مما من شأنه أن يضر بنا ويفسد علينا قلوبنا وحياتنا.
وينادينا ليعلمنا ما نحن بحاجة إلى العلم به والمعرفة؛ لما فيه كمالنا وسعادتنا، أما أن ينادينا لا لشيء فتنزه الله عن ذلك، وتعالى عن اللهو واللعب، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الدخان:38-39].


ذم الإعراض عن نداء الله تعالى


معشر المستمعين! هل يليق بعبدٍ يرغب في أن يخترق السبع السماوات وينزل في دار السلام أن يسمع هذا الكلام ولا يبالي به، ولا يحفظه ولا يهتم به؟
أنا أقول: لولا الغفلة لقلت: إن الذي يسمع هذا الكلام ولا يريد أن يفهمه ولا أن يعمل به والله ما له رغبة صادقة في النزول بالملكوت الأعلى، أو ما عرف الملكوت الأعلى ولا آمن به.
لقد نادانا ربنا في كتابه القرآن الكريم بتسعة وثمانين نداء: (يا أيها الذين آمنوا)، إما أن يأمرنا أو ينهانا أو يبشرنا أو ينذرنا أو يعلمنا.
وواجبنا أن نعلم تلك النداءات كلها، وأن نعرف كل نداء منها، وأن نعمل بما أمرنا بالعمل به، وأن ننتهي عما نهانا عن فعله، وأن نستبشر بما بشرنا، وأن نحذر ونخاف مما حذرنا، ونتعلم ما أراد أن يعلمنا، وهذا طريق السلام، وهذا سبيل السعادة في الدنيا والآخرة.
هل عرف المسلمون هذا؟ ما سمعوا به قروناً عديدة، ما سبب ذلك؟ فروا من بيوت الله وهجروها، أعرضوا عن كتاب الله، وضعوه على الرفوف فقط، أو حفظوه في الصدور ليقرءوه على موتاهم، من أجل أن يأكلوا طعاماً أو يتقاضوا أجوراً، وأكثر من ثمانمائة سنة وهم هكذا.

أمر المؤمنين بالتقوى


وهنا نادانا جل جلاله فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ )[البقرة:278]، نادانا ليأمرنا أولاً بتقواه: اتقوا الله، لو كان هناك سبع مفترس حول بيتك، أو في الحي الذي أنت فيه وناداك منادٍ فقال: يا فلان! احذر فالسبع موجود أمامك، فهل ستضحك ولا تبالي، ماذا تصنع؟ هل تفزع أم لا؟ لو ناداك منادٍ: يا عبد الله! انتبه، فبعد أربع وعشرين ساعة لن تبقى قطرة من الماء، فاحتفظ بما عندك من الماء أو تموت عطشاً وظمأً، فماذا ستقول؟ ستخاف على نفسك العطش والموت.

إذاً: فكيف يقول الجبار جل جلاله وعظم سلطانه: يا عبادي المؤمنين! اتقوني ثم لا نبالي؟ أعوذ بالله، أعوذ بالله أن نقف هذا الموقف.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ )[البقرة:278]الذي بيده كل شيء، وإليه مصير كل شيء، يملك الحياة والموت، والإعزاز والإذلال، والفقر والغنى، والصحة والمرض، وبيده كل شيء، يأمرنا أن نتقيه، فكيف نتقيه؟

بلغنا أن عالماً في جبال التبت يعرف معنى تقوى الله فهيا نمشي إليه، من منكم يسافر إلى جبال التبت ليعلمنا معنى قوله: اتقوا الله؟
والله لو كنا مؤمنين صادقي الإيمان، وقد سمعنا عنه هذا وأمرنا، ولكن لا نعرف كيف نتقيه، وقيل لنا: إن فلاناً يعلم ذلك؛ والله لرحلنا إليه، أو هل نقول: ما نعرف، ونقوم نرقص ونأكل؟ إذاً: فنحن بهائم، كفار ومشركون، لا وزن لنا ولا قيمة.
ولم يأمرنا بتقواه؟ علمنا قبل أنه هو الذي يحيي ويميت، يعز من يشاء ويذل من يشاء، يعطي ويحرم من يشاء، بيده كل شيء وإليه المصير، الجبار، العزيز، إذاً: كيف لا يتقى وقد طلب إلينا أن نتقيه؟

يتبع

ابوالوليد المسلم
05-06-2021, 05:13 AM
وسيلة تقوى الله تعالى

كيف نتقي الله؟ بماذا؟ ما هي الآلات والأدوات التي نتقي الله بها وهو فوقنا ونحن بين يديه لا يخفى عليه من أمرنا شيء، ظاهرنا كباطننا، وهو معنا يرانا ويقضي علينا، فكيف نتقيه؟ هل بلباس قوي، بكهوف في الأرض، بجبال فوق الأرض نصعد فوقها، بم تقي؟ كيف نتقي الله؟
من منكم -معاشر المستمعين- يقوم ويقول: بم نتقي الله يا شيخ؟ لنا رغبة في أن نتقيه، فعلمنا بم نتقي الله؟ أمرنا الله تعالى بتقواه فما أدوات الاتقاء حتى ننجو من غضبه وسخطه وعذابه؟
الجواب: معشر الأبناء والإخوان! الله يتقى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا لباس ولا حصون ولا سلاح، يتقى غضبه تعالى وسخطه وعذابه بطاعته، أطعه وأطع رسوله فيما يأمرانك به وينهيانك عنه، لقد اتقيت غضب الله حينئذ، وجعلت بينك وبينه وقاية أعظم من السماوات والأرضين، فإن لم تطعه فلا وقاية، ولو كان لك كل العسكر في العالم فوالله ما نفعوك في شيء.
الآن -والحمد لله- عرفنا بم نتقي الله، نتقيه بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في الأوامر الواجبة التي ألزم بها، وفي النواهي الدالة على التحريم والممنوعة عندنا، بهذا نتقي الله.

فائدة التقوى والطاعة

وسؤال آخر: هل فعل الأوامر التي أمر الله بها ورسوله، وترك المنهيات التي نهى الله عنها هل في ذلك فائدة الله، أم فائدتنا؟ لا شك أن فيه فائدتنا.
والله! لا نسعد ولا نكمل ولا نتحاب ولا نتوالى ولا نتصافى في الدنيا قبل الآخرة إلا على هذا الأمر وهذا النهي، لسعادتنا في الدنيا وكمالنا قبل الآخرة، فلا يأمرنا بفعل شيء إلا ليحقق سعادتنا وكمالنا، ولا ينهانا عن ترك شيء إلا من أجل أن يبعدنا عن شقائنا وخسراننا؛ لأنه العليم الحكيم.
من يبين لنا سر الأمر والنهي، ما فائدة طاعة الله ورسوله؟ الجواب: أن نتقي غضب الله وعذابه وسخطه، أليس كذلك؟
فيجب على كل مؤمن ومؤمنة من عقلاء المؤمنين والمؤمنات أن يتعلموا أوامر الله ونواهيه، وأوامر رسول الله ونواهيه، ولا محالة، على كل من دخل في رحمة الله في الإسلام أن يعلم أوامر الله كيف هي وما هي، ونواهيه أيضاً ما هي وكيف هي، وأوامر الرسول ونواهيه تابعة لأوامر الله ورسوله.
فهل هذا الأمر واضح؟ هل يجوز لمؤمن أو مؤمنة أن يعيش بعد البلوغ السنة والسنتين والعشر السنين أو الأربعين وهو لا يعرف ما أمر الله به ولا ما نهى الله عنه؟ فإذا كان ما عرف الأمر والنهي فهو كافر، أو فاسق أو فاجر من أهل الشقاء والخسران.


المساجد باب لتحصيل التقوى


يا ساسة! كيف الحل؟ هنا مشكلة تواجه العالم الإسلامي، دعنا من الذل والهون والفقر والضعف والفتن، اسكت عن هذا، فقط قل لي: كيف نطيع الله ورسوله لنكمل ونسعد؟
الجواب: يجب أن نتعلم ونعرف أوامر الله التي هي في العقيدة وفي القول وفي العمل، وأوامر رسوله كذلك في العقيدة والقول والعمل، ونواهي الله المتعلقة بالعقيدة الفاسدة والقول السيئ والعمل غير الصالح، فكيف نحصل على هذا؟
لقد بحثنا عن الطريق ونقبنا وفتشنا، حللنا وسرنا، وقعدنا وقمنا أكثر من أربعين سنة، فما الطريق؟
الطريق واحد: أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله في صدق: أسلمت لك يا ربِّ وجهي، ونجتمع في بيوت ربنا المساجد، سواء كنا في المدن أو كنا في القرى، كنا عرباً أو عجماً؛ لأننا دخلنا في الإسلام، كل ليلة لا يتخلف رجل ولا امرأة عن بيت الله في الحي أو في القرية، إلا المريض أو الممرض، والحيض من النساء يجعل لهن ستار وراء الجدار، ومكبر الصوت يبلغهن ويبلغ الصوت إليهن، كل ليلة نتعلم الأوامر والنواهي الإلهية والنبوية، وكيف نفعل وكيف نترك، وذلكم هو العلم، وبعد عام أو عامين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة -والله- ما يبقى جاهلٌ ولا جاهلة أبداً، ولسنا في حاجة إلى قرطاس ولا قلم ولا دواة، ولا مدرسة أبداً، طول النهار والمحراث في يدي وأنا أحرث الأرض، أو الحديد وأنا أصنع، وفي الليل نجتمع على كتاب الله وسنة رسوله طول العام، فلن يبقى بيننا جاهل ولا جاهلة، لا جاهل بالله وأسمائه وصفاته، ولا جاهل بما عند الله لأوليائه، وما لدى الله لأعدائه، ولا جاهل بأوامر الله ورسوله ولا نواهي الله ورسوله، ولا كيف يفعل المأمور ويتجنب المنهي، هذا هو الحل، وليس هناك حل آخر، والله لا وجود له.


دلائل انعدام التقوى في غير التربية المسجدية


ومن باب الاستدلال القريب نقول: إن الأبناء والإخوان الذين لازموا الحلقة سنين يعرفون الحلال والحرام، والواجب والمكروه، ما قرءوا ولا كتبوا، لكن سمعوا كلام الله وكلام رسوله، وحفظوه وفهموا مراد الله منه.
وبرهان آخر ودليل آخر: لو أراد المسئولون أن يطهروا البلاد بنظام خاص حتى لا يبقى لصٌ ولا مجرم، ولا زانٍ ولا كذاب، ولا سارق، ولا ساحر، ووضعوا أنظمة حديدية بالنار، فجعلوا في كل شارع خمسين عسكرياً، وقالوا:: سنعطي لكل من يستقيم على منهجنا راتباً كل شهر؛ فوالله! ما يتحقق أمنٌ ولا طهرٌ ولا صلاة، ولكن يتحقق بالعلم والمعرفة بالله عز وجل، أما جربنا الاشتراكية في عالمنا العربي والإسلامي أكثر من خمس وعشرين سنة؟ فما هي نتائجها؟ أعوذ بالله، أعوذ بالله! هل حققت الغنى؟ هل حققت العدل والقسط بين الناس؟ هل حققت الطهر والصفاء؟
الجواب: والله! لقد حصل العكس: الفقر والخبث، والظلم والشر والفساد، مع أننا تبجحنا وقلنا: اشتراكيتنا نوالي من يواليها، ونعادي من يعاديها! وصفقت الدنيا، فأين آثارها؟ أين هي؟
والتصوف، الطرقية، الزوايا، المشايخ في كل مكان، هل حققت تلك الطرق الصوفية شيئاً؟ هل رفعت ظلمة الجهل أم زادتها ظلمة أخرى؟
والدليل والبرهنة الصادقة قول ربنا جل ذكره: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )[فاطر:28]، والله! إن مشايخ طرق يفجرون بنساء إخوانهم، ويقدمها الرجل الفحل من أجل أن تنجب من شيخه ولداً! إلى هذا المستوى هبطت هذه الأمة!

لقد استقللنا وأخرجنا فرنسا من بلادنا وإيطاليا وأسبانيا وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا، فماذا حصل؟ هل سار الطهر فما أصبحت تسمع بجريمة؟ ما أصبحت تسخر من آخر ويسخر منك؟ ما بقي حسد في النفوس؟ ما الذي بقي؟ ما الذي حصل؟ قولوا: لا إله إلا الله.
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )[فاطر:28] العارفون به تعالى وبأوامره ونواهيه، وما عنده لأوليائه، وما لديه لأعدائه، أولئك الذين يخافون الله؛ لمعرفة سلطانه وقدرته وغضبه ورضاه، أما الجاهل فأنى له أن يستقيم؟!


خطوات عملية لتحصيل التقوى


لقد بلغنا أن الله عز وجل نادانا وأمرنا بتقواه في ذلك النداء، فهيا يا أبناء الإسلام نتقي الله، فكيف نصنع؟
أولاً: نعزم ونصمم على أن نتقي الله، هذه الخطوة الأولى، فإذا امتلأ القلب بهذا الخوف فحينئذٍ سوف نسأل: نتقي الله بأي شيء؟ ما هي الأوامر التي نعبد الله ونطيعه بها، وما هي النواهي؟ في صدق وفي علم، ونتعلم كيف نطيعه ونتعلم كيف نتجنب معاصيه في صدقٍ وجدٍ، فما يمضي علينا أربعون يوماً إلا وقد عرفنا الكثير من الأوامر والنواهي، واستجبنا لله وأصبحنا تضيء أنوارنا وتلوح في الأفق، كلام طيب، نظرة سليمة، معاملة صادقة، وينتهي الحسد والغل والغش والبغض والكبر، والأمراض كلها تنجلي.
معاشر الأبناء! لا أكثر عليكم، إننا مأمورون بأن نتقي الله، ولا بد من معرفة ما يحب الله وما يكره، فلنسأل أهل العلم، ما نكتفي بالكتاب، نسأل ونعلم، نجالس العلماء ونزاحمهم، ونطبق كل ما سمعنا وعلمنا حتى نرتقي يوماً فيوماً ونصبح في أيام عالمين بالله، متقين له، وذلك هو الفوز العظيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
09-06-2021, 03:48 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (11)
الحلقة (321)
تفسير سورة المائدة (19)


الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
معاشر المستمعين والمستمعات! مازلنا مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ )[المائدة:35-37].

حياة المؤمنين وشرفهم بنداء الله تعالى لهم

العلم بالتكاليف والقيام بها وسيلة تحقيق التقوى

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:35] عرفنا بم نتقي الله، إننا نتقيه بطاعته وطاعة رسوله، أي: بفعل ما أمرنا الله بفعله، واجتناب ما أمرنا باجتنابه، بهذا يتقى الله، أي: يتقى عذابه وسخطه وغضبه على عصاته، بم تتقي الله يا عبد الله؟ هل بسور عالٍ وبحصن حصين وبجيش عرمرم؟ بم تتقي الله وأنت بين يديه؟ الجواب: لا ينتقي الله إلا بطاعته، من أطاعه اتقى غضبه وسخطه، ومن عصاه وتمرد عنه وخرج عن طاعته ما اتقى الله أبداً، وتعرض للغضب الإلهي والسخط الرباني والعذاب والعياذ بالله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:35]، وطاعة الله وطاعة الرسول توجب أن تعرف أوامر الله ونواهيه، وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونواهيه، وإلا فلن تستطيع أن تتقي الله، فهل تريد أن تتقي عذاب الله وسخطه؟ إن ذلك بطاعته وطاعة رسوله. في أي شيء؟ في الأمر والنهي. ما هي أوامره وما هي نواهيه؟ اطلب هذا من أهل العلم أو من كتاب الرب وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، أما أن تشتغل بتجارتك وأعمالك ودنياك، وتقول: ما عرفت أوامر الله ونواهيه؛ فهذا ما ينبغي! والكلمة الخالدة كلمة الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، والمسلمة تابعة، وإنما لم تذكر تنزيهاً لها، واعترافاً بحرمتها أو احتراماً للفحول أن يذكر نساؤهم بينهم.

إذاً: الحبيب يقول: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، والمسلمة يا رسول الله؟ الجواب: هي كذلك. فلم ما قلت: والمسلمة؟ الجواب: احتراماً لكم وتقديراً لمواقفكم لا نذكر نساءكم، فما الفرق بينكم وبينهن؟ الكل يريد دار السلام والنجاة من الخزي والعذاب.
إذاً: هل يستطيع رجل أو امرأة أن يطيع الله ورسوله وهو لم يعرف أوامر الله وأوامر رسوله، ونواهي الله ونواهي رسوله؟ مستحيل. إذاً: وجدنا أنفسنا أمام الأمر الواقع، يجب أن نطلب العلم، كل يوم تعلم أمراً، اليوم عرفت من أوامر الله إقام الصلاة، فإياك أن تعصي الله، إياك أن تفرط فيها أو تؤديها على غير الوجه المطلوب أداؤها عليه، غداً عرفت وجوب الزكاة، بعده عرفت وجوب الحج، ثم عرفت بر الوالدين، ثم عرفت طاعة أولي الأمر، ثم عرفت الآداب.. وهكذا، ما هو بشرط أن يكون في يوم واحد، الليلة عرفت أن الغيبة حرام، قال تعالى: ( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا )[الحجرات:12]، بعد شهر عرفت أن النميمة حرام، بعد غدٍ عرفت أن الكذب حرام، وهكذا.

إذاً: يجب على كل مسلم ومسلمة أن يعرف أوامر الله وأوامر رسوله ونواهيهما؛ ليفعل المأمور على الوجه الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولينتهي عن المحرم نهياً كاملاً وانتهاء تاماً.

معنى قوله تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة)

وسائل مشروعة في طلب مرضاة الله


فباسم الله نستعرض الوسائل المشروعة:
اغتسل أحدكم قبل صلاة الفجر وصلى الصبح في طريقه إلى مكة ليعتمر، فهذه العمرة وسيلة تقربه من الله؛ لأن الله أحب ذلك ودعا إليه وأمر به فقال: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ )[البقرة:196].

أحدكم في منزله توضأ وأتى إلى المسجد ليسمع العلم ويحضر حلق الدرس تملقاً إلى الله وتزلفاً، أو من أجل أن يعرف ما يحب الله وما يكره، فهل هذا المجيء وسيلة أم غير وسيلة؟ إنه وسيلة.
شخص من الصالحين يمشي في شوارع المدينة، وكلما رأى شوكاً أو حجرة تؤذي المؤمنين أو عقرباً أزالها، لم يا عبد الله؟ قال: أتملق ربي في تنظيف الطريق لعباده، يتوسل إليه.
طبيب يضع كرسيه أمام المسجد بعد الصلاة: من أراد أن يشكو مرضه إلي فليتفضل، يضع يديه على قلبه على جسده، ثم يدفع إليه المريض مالاً فيقول: لا، نحن نتملق إلى الله فقط، يتوسل بعلاج أولياء الله ومداواتهم.
بل هنا طباخ يقول: لأحسنن طبخ هذا الأزر اليوم ليأكله الصالحون ويتلذذوا به، وأنا أتقرب بذلك إلى ربي، فهذا توسل.
إذاً: كل قول أو عمل أو نية صالحة تريد بها وجه الله أنت متملق إلى الله متزلف من أجل أن يقربك وتحظى بالقرب منه تعالى.

يتبع

ابوالوليد المسلم
09-06-2021, 03:50 AM
وسائل محرمة في طلب مرضاة الله

والوسيلة الممنوعة التي عرفها المؤمنون في عصور الجهل من مظاهرها: أنه يركب من المدينة على بعيره إلى قبر سيدي عبد القادر الجيلاني في بغداد، آلله أمرك بهذا تتوسل به إليه؟ لا؛ لأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى )، فكونك أنت تأخذ تذكرة بالطائرة من المغرب الأقصى أو من السودان أو من الشام لزيارة سيدي عبد القادر الجيلاني هذه وسيلة والله ما تصل بك إلى رضا الله، ما هي بوسيلة هذه، ما شرعها الله.
إن الوسيلة أنك -مثلاً- بعدما استراح الناس وصلوا العشاء وطعموا وأرادوا أن يناموا ذهبت إلى البقيع ووقفت على جداره وسلمت على أهله: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم السابقون ونحن إن شاء الله بكم لاحقون، وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اغفر لأهل البقيع وارحمهم، اللهم اغفر لأهل البقيع وارحمهم، ودمعت عيناك دموعاً ورجعت، فلم فعل هذا؟ فعله يتملق إلى الله يتزلف إليه؛ لأنه يسلم على أوليائه الموتى ويدعو لهم ويترحم عليهم، هل فعل هذا لأجل دينار أو درهم؟ فهذه وسيلة.
أما أن تأتي إلى قبر إدريس أو قبر البدوي أو العدناني -وما أكثرهم- وتحبو حبواً للوصول إليه، ما يستطيع أن يمشي، فلو مشى لقالوا: ما فيك تقدير للسيد، فيحبو وينزل على القبر يتمرغ ويتمسح، ويقول ويدعو: يا سيدي، يا كذا أنا كذا أنا كذا، ويكفر حتى ما يبقى له علاقة بالله، ويقول: توسلت! أهذا التوسل الصالحين؟! هل الميت يدعى، وإذا دعي فهل يجيب؟ الجواب: لا؟ ما قال تحت السماء إنسان: إن الميت إذا دعي سمعك وأجابك وقال: سأعطيك، فكيف إذاً تأتيه من قريتك من بلادك البعيدة، وتتململ حول قبره، وتدعو وتستغيث وتقول: أتوسل إلى الله عز وجل؟ أنت الآن تبتعد من الله وما تتوسل، أنت تتوسل للبعد من الله وعدم القرب منه، وعلة هذا الجهل، ما عرفوا، ما علمناهم، ما علموا، هذا هو السبب، لا سبب غيره، لو عرف أنه بهذه عصى الله ورسوله، وخرج عن طاعة الله ورسوله، وأنه في عداد المشركين والله ما يفعل هذا أبداً، إلا إذا كان قلبه ميتاً لا يؤمن بالله ولا بلقائه، مسلم صوري أراد أن يأكل أو يشرب بهذه العملية فهذا ممكن، أما من آمن بالله وعرف الله ثم يفعل هذا الشرك والباطل ليتقرب به إلى الله فلا!
وكذلك الذين يذبحون للأولياء ويجعلون لهم الأغنام والأشجار: هذه شاة سيدي عبد القادر ! اشترى مجموعة من الشياه في هذه الأيام؛ لأن الأمطار غزيرة والنباتات ظهرت، يريد أن يكتسب، فاشترى عشرين شاة وقال: هذه شاة سيدي فلان، ما تلده له وهي له، جعل شاة للولي توسلاً حتى يحفظ الله عز وجل باقي الغنم وتنجب وتلد، هذه رغبته، آلله أمر بهذه الوسيلة وأذن فيها؟ الجواب: لا، إذاً: هذه وسيلة باطلة، هذه تبعدك عن القرب من الله، ولا تعطيك أبداً درجة عند الله بحال؛ لأنك ابتدعت بدعة وأتيت بعمل الشرك.
وآخر أراد أن يغرس في وقت الغرس في الخريف خمسين نخلة من العجوة، قال: هذه نخلة سيدي رسول الله، وهذا أحسن من سيدي عبد القادر ، ومع هذا فوالله ما يجوز ذلك، وتبقى النخلة كلما تثمر لا يأكله هو ولا أهله، هذه لسيدي فلان! لم فعلت هذا؟ يقول: من أجل أن يبارك الله في النخل وينتج ويكون صالحاً، فهذا يسميه العلماء توسلاً، لكنه باطل ما ينفع وما يجدي أبداً.
قال تعالى عنهم: ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )[الأنعام:136]، المشركون كانوا يقولون: هذه الشاة للات وهذه الشاة لربنا عز وجل، هذه النخلة للعزى وهذه النخلة لربنا تعالى، ومع هذا ما قبل الله هذا وما رضي به، ثم سلكوا مسلكاً قبيحاً وهو التحيل؛ فالتي جعلوها لله إذا أنتجت -سواء كانت نعجة أو ناقة أو بقرة أو نخلة أو شجرة- وما أنتجت التي جعلوها لغير الله يأخذون التي لله فيعطونها للأخرى، والعكس لا، فإذا نتجت ناقة العزى وناقة الله ما نتجت لا ينقلون حقها، يتركونها لأوليائهم، فعابهم تعالى على هذا التصرف، ساء ما يحكمون من الحكم الباطل.

وكذلك النذور، يقول: يا سيدي عبد القادر، يا سيدي فلان، يا رسول الله! إذا تيسر أمري وأنجبت امرأتي ولداً فعلت كذا وكذا، وهذه وسيلة باطلة لا تبتغى ولا تطلب لله.


تعدد الوسائل المشروعة بتعدد الطاعات

وعدنا من حيث بدأنا: فتوسل إلى الله بمحابه، بالذي يحبه، افعله من أجله تزلفاً إليه وتقرباً، توسل إلى الله بترك مكارهه، ما يكرهه ونفسك تشتهيه أو أبوك يشتهيه اتركه لله تملقاً إلى الله وتزلفاً، ولن يكون التوسل بغير هذا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ )[المائدة:35]، هل عرف المؤمنون والمؤمنات كيف يتوسلون إلى الله، كم هي الوسائل؟ بلا عد، كل طاعة لله ورسوله وسيلة، تتوسل بها إلى الله، تذكر الله: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، عشراً، مائة، مائتين، مائة ساعة وأنت تحظى بالقرب من الله؛ لأن الله يحب هذه الكلمات، وهكذا.

أما البدع والخرافات والضلالات والشركيات بالذبح والنذر والعكوف على القبور والرحلة إليها لمسافات بعيدة فهذا من باب الشرك والباطل، ولا يصح لمؤمن ولا مؤمنة أن يأتيه أبداً.

معنى قوله تعالى: (وجاهدوا في سبيله)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:35]، ( وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ )[المائدة:35] والسبيل معروف: الطريق الموصل إلى رضا الله عز وجل، ما هو سبيل الله؟ هو أن يعبد الله وحده بما شرع لعباده من أجل أن يكملوا ويسعدوا في دنياهم وأخراهم، سبيل الله طريق الله الموصل إلى رضا الله عز وجل.

إذاً: جاهدوا في سبيله لا تخرجوا عن محابه ومساخطه، جاهدوا الكافرين المشركين الظالمين، حتى يعبدوا الله وحده، وحتى يتخلوا عن الظلم ويبتعدوا عن الشر والفساد، هذا الجهاد لا بد له من إمام يقود المجاهدين، إذا قال: قفوا وقفوا، إذا قال: سيروا ساروا، وإذا قال: ارجعوا رجعوا، لا يصح فيه العمل الفردي أبداً بحال من الأحوال، لا بد من إمام يقود المؤمنين إلى الجهاد في سبيل الله، أي: من أجل أن يعبد الله وحده ولا يشرك به سواه، من أجل أن تطبق قوانينه وشرائعه بين الناس ليطهروا ويكملوا ويسعدوا في دنياهم وأخراهم.
والآن إمامنا -أطال الله عمره وحفظه- لنا ما أعلن عن جهاد، فنحن الآن آمنون، ما علينا تبعة ولا مسئولية، لكن لو قال غداً: التعبئة العامة، العدو داهمكم فقد وجب، وحصل هذا في حرب الخليج واندفع الرجال، لكن إذا ما أمر إمام المسلمين فهذا يعود إليه لعدة أسباب:
أولاً: ضعفه وعدم قدرته على غزو أو فتح بلاد أعظم منه وأكبر، فاضطر إلى معاهدتهم، معاهدة السلم وعدم الاعتداء ليدفع شرهم عنا، أما عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟
ثانياً: لسنا بقادرين على أن نغزو ونفتح لضعفنا وعجزنا وقوة من نريد كذلك غزوهم ودخول ديارهم، هذه حالات وظروف ممكن أن تبقى سبعين سنة ما هناك جهاد، وقد يترتب الجهاد في كل سنة مرة، كلما يغزونا العدو يجب أن نغزوه.


نقد الجهاد بنية تحرير الوطن

(وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ )[المائدة:35]، هنا ألفت النظر: جاهدنا في سبيل الوطن لتحرير البلاد من إندونيسيا إلى موريتانيا، وما استطعنا أن نقيم دولة لله، ولا أن ننصب إماماً يؤمنا ويقودنا إلى رضا الله؛ لأن النية الدافعة الباعثة على الجهاد هي التحرير، تحرير الوطن من الاستعمار، وإني آسف لأن رجال السياسة غير موجودين عندنا، لكن نتكلم مع البهاليل ولا حرج، والله عز وجل يسمعنا، قاتلنا بريطانيا، قاتلنا فرنسا، هولندا، قاتلنا أسبانيا، إيطاليا، وما قاتلنا قتالاً في سبيل الله، فمن ثم لم ينتج لنا دولة إسلامية، ولا إماماً إسلامياً يقودنا، ما إن نخرج العدو حتى نكون الحكومة من ماذا؟ أمن أهل العلم والبصيرة والولاية لله؟ فسادتنا حكومات أشبه بالجاهلية، والله إن الحالة الدينية في بلادنا حين كان الاستعمار فيها أفضل منها الآن في الاستقلال، وأتكلم على علم وعلى بصيرة، أيام الاستعمار الفرنسي كان الخمر ممنوعاً ولا يباع، ما كانوا يلزمون مؤمنة أن تكشف عن وجهها أبداً، أو يسخرون منها، والآن أين نساء المؤمنين؟ في الشوارع غاديات رائحات، والخمر تصنع وتباع.. وقل ما شئت، وليس معنى هذا أني أرغب أن يعود الكفر إلى ديارنا، الذي يفهم هذا الفهم مسكين ضائع، نقول: لما جاهدنا ما جاهدنا على الأساس الذي وضع الله عز وجل في قوله: ( وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ )[المائدة:35]، ما قال: في تحرير البلاد، في إقامة الحكم الوطني، قال: ( فِي سَبِيلِهِ )[المائدة:35]، أي: من أجل أن يعبد وحده، وأن تطبق شرائعه، وتظهر أنوار دينه لتعم العالم وتغطيه.

عظمة جهاد النفس

الجهاد الثاني: جهاد النفس، وتذكرون حديث: ( رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر )، وإن ضعف الحديث فما يضرنا هذا، فجهاد النفس أصعب من جهاد العدو، جهاد العدو تحمل فيه سلاحك شهرين أو أربعة وترجع، ونفسك تجاهدها الليل والنهار طول العام حتى تموت وأنت في هذا الجهاد إن كنت من المجاهدين، أما إذا استسلمت لها فهي تقود إلى كل وبال ومفسدة، لكن من أراد أن يستقيم على منهج الله لا يتكلم بكلمة حتى يعلم أن الله أذن له فيها، لا ينظر نظرة حتى يعلم أن الله أذن له فيها، لا يأكل لقمة حتى يعلم أن الله أذن فيها، وهنا تواجه النفس، تدعوه إلى الطعام والشراب والنكاح والقول والعمل، فكيف يقهرها إذا لم يجاهدها الجهاد المرير.
(وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ )[المائدة:35]، نجاهد من؟ تقدير المفعول: أنفسنا، ونجاهد الكفار من أجل أن يطهروا، أن يصفوا، أن يكملوا، أن يسعدوا بعبادة الله وحده وبالتخلي عن الشرك والكفر، أليس كذلك؟

وبالمناسبة أقول وأستثني المملكة: لو أراد إقليم من أقاليم المسلمين أن يغزو بلاداً كافرة ليدخلهم في الإسلام، أليس يصبح جهادهم معرة؟ أنت ما أقمت الإسلام في ديارك، لا طهر ولا صفاء، لا مودة ولا إخاء، لا حب ولا ولاء، وتريد أن تدخل إيطاليا في هذا، أهذا عمل؟
إذاً: أنت لا تقيم دعوة الله ولا دينه في بلادك، وتطالب أن تدخل البلاد الأخرى، ففيم تدخل؟ أتريد أن يصبحوا سكارى كإخوانك أنت وعشاقاً وضلالاً ومشركين وخرافيين في كل مكان، هذا الذي تدخلهم فيه؟ ما يجوز أن تطلق ولا رصاصة من أجل هذا، ومعنى هذا: أن من أراد من ديار العالم الإسلامي أن يجاهد فليبدأ بنفسه، يطهر أمته بأساليب الطهارة، يزكيها، يرفع قيمها، يوحدها حتى تصبح ككتلة من نور حيثما توجهت أنارت الأرض.
(وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ )[المائدة:35]، لماذا يا رب؟ رجاء أن تفلحوا، لتستعدوا للفلاح: ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:35]، فمن يفلحنا؟ الله الذي جاهدنا من أجله، ينجينا من الخزي والذل والعار والفرقة والخلاف وعذاب النار يوم القيامة، ويدخلنا الجنة دار الأبرار بعد أن تصفو أنفسنا وأرواحنا ونتحاب ونتوالى ونتعاون في ديارنا هذه، هذا هو الفلاح: ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:35]، هذه (لعل) الإعدادية؛ لنعدكم بذلك ونهيئكم للفلاح.


الخطوات الإعدادية لجهاد النفس

معاشر المستمعين! هيا نجاهد، ادخلوا في هذه المعركة، ما دام أنه قد أمنكم الله وأراحكم فلا تحمل سيفاً ولا تشتريه أيضاً ولا يوجد في بيتك، فهيا نجاهد أنفسنا، أول خطوة: ألا نصلي صلاة إلا في جماعة المسلمين، جهاداً لهذه النفس الماكرة الخبيثة، فمن الليلة لا أصلي فريضة إلا في جماعة المؤمنين.
الخطوة الثانية: ألا نتكلم بكلمة لم نعرف أنها فيها رضا الله، ونلتزم الصمت، وإذا بالبلاد تتغير، إذا لازمنا الصمت بقيد ألا نتكلم إلا إذا أذن الله لنا في تلك الكلمة وكانت من مرضاته فلا تسأل عما يسقط من الشر ويتهدم من الفساد والبلاء بحفظ اللسان فقط.
نجاهد أنفسنا على ألا نقضي ساعة في لهو أو باطل أبداً، أيامنا كدقائقنا كساعاتنا لله، نجلس جلسة نذكر الله، نتعلم الهدى، نعبد الله، أما أن نجلس لنضحك ونتكلم بالباطل أمام التلفاز أو نلعب الورق فهل هذا جهاد للنفس؟ هذا انهزام للنفس، فلنجاهد أنفسنا لنتهيأ للفلاح الموعود بكتاب ربنا، نجاهد أنفسنا بحملها على طاعة الله وطاعة رسوله، فلا ترانا إلا نفعل المأمور ونتخلى ونبتعد عن المنهي غير المأمور، هذا هو الجهاد والفلاح مضمون: ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:35].

والله تعالى أسأل أن يجعلنا من المفلحين المجاهدين طول حياتهم، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
09-06-2021, 03:52 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (12)
الحلقة (322)
تفسير سورة المائدة (2)


أمر الله عز وجل المؤمنين باحترام شعائره سبحانه، فلا يصدون من أتى من المشركين قاصداً بيت الله الحرام سائقاً معه هديه وقلائده، ولا يتعاملون معهم كما فعلوا هم بالمؤمنين في عمرة الحديبية، حين صدوا النبي ومن معه من المؤمنين عن دخول بيت الله الحرام ونحر هديهم عنده، إلا أن الحكم بدخول المشركين إلى الحرم قد نسخ فيما بعد، فحرم الله دخولهم الحرم لأن عليهم نجاسة الشرك ورجسه.

تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه اليوم والأيام الثلاثة بعده ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع فاتحة سورة المائدة، وقد تناولنا بالدراسة منها الآيتين الأوليين، وما استوفيناهما دراسة وفهماً وعملاً وتطبيقاً، فإليكم تلاوة الآيتين وتأملوا وتدبروا:
بسم الله الرحمن الرحيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:1-2].

ذكر خبر الفيلسوف الكندي في الدلالة على إعجاز نظم القرآن الكريم

بين يدي شرح الآيتين: ذكر القرطبي في تفسيره القصة الآتية؛ لتعرفوا عظمة هذا القرآن وما احتوت عليه هاتان الآيتان من العجب والبيان.قال: إن أصحاب الكندي -والكندي هذا من فلاسفة العرب- قالوا له: أيها الحكيم! اعمل لنا كتاباً مثل القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه. تلطف، ما ادعى الدعوى الكاملة، فاحتجب أياماً كثيرة في بيته، ثم خرج إلى الناس إلى أتباعه وتلامذته من المشركين فقال: والله ما أقدر ولا أطيق ولا يطيق هذا أحد، قال: إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، قال: فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحل تحليلاً عاماً ثم استثنى استثناءً بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد! ما هو في جلد واحد بل في عدد من الجلود، وهو تعالى جاء به في سطرين! هذا قول حكيم من حكماء العرب.

سر نداء المؤمنين بلفظ الإيمان

بسم الله نراجع إجمالاً قبل الشرح:

أولاً: عرفنا أن الله عز وجل تفضل علينا -وله الحمد والمنة- إذ نادانا بعنوان الإيمان: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:1]، قلنا: لبيك اللهم لبيك.

وقد لا يشعر بعضنا بفضيلة نداء الرب تبارك وتعالى، فالبشر لو يناديه ملك من الملوك أو سلطان من السلاطين يكاد يطير من الفرح، وذو الجلال والإكرام رب السموات والأرض رب العالمين ينادينا وما نفرح؟! من نحن وما نحن حتى ينادينا؟ لو اجتمعنا كلنا ما كنا ككوكب في السماء.
ونادانا بعنوان الإيمان لسر عرفناه والحمد لله: وهو أن المؤمن حي يسمع النداء، والكافر ميت، المؤمن الصادق في إيمانه والله إنه لحي يعي ويفهم ويسمع ويبصر وينطق ويأتي ما يدعى إليه ويفعل، وينتهي عما نهي عنه ويترك، وذلك لكمال حياته، أما الكافر فهل يجيب إذا ناديته؟ يسمع (حي على الصلاة) على المآذن فهل يجيب النداء ويشهد صلاة الجمعة؟ الجواب: لا.
وبعبارة واضحة: المسلمون إذا كان تحت رايتهم ذميون من أهل الكتاب هل يكلفونهم بأعمال الإسلام؟ يأمرونهم بالصيام والصلاة والحج والجهاد والرباط والزكاة؟ والله ما يأمرونهم، لماذا؟ هل هم خائفون منهم؟ إنهم تحت دولتهم، فلماذا ما يأمرونهم؟ ما أمرهم الله ورسوله بذلك، لماذا؟ لأنهم أموات، والميت لا يكلف أبداً لا بأمر ولا نهي، فإذا نفخت فيهم روح الإيمان وسارت في أجسادهم أصبحوا أهلا لأن يفعلوا ويتركوا وذلك لكمال إيمانهم.

وجوب الوفاء بالعقود والعهود

نادانا الله تعالى ليأمرنا بما فيه خيرنا وسعادتنا وطهرنا وصفاؤنا وقل ما شئت من ألفاظ الكمال؛ إذ قال: ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )[المائدة:1]، من عقد عقداً مع امرأته مع جاره مع أخيه مع كافر من أعدائه يجب أن يفي، من عقد عقد نكاح، إيجار، حرب، سلم يجب الوفاء، هذا نظام حياة أهل الإيمان، إذا عاهدوا لن ينكثوا العهد أبداً حتى يكون غيرهم هو الناكث والناقض، لأنهم أحياء شرفاء كمل أقوياء لا يهبطون إلى تلك مستويات الأموات من أهل الكفر والشرك والنفاق. إذا عقد المؤمن عقداً فلن يحله أبداً، وإذا عاهد فلن يخون عهده ولن ينكثه، وحسبنا أن يأمرنا الله تعالى بقوله: ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )[المائدة:1]، ما بقي مؤمن ينكث عهداً ولا ينقض عقداً ولا يحل عقداً، وهذا هو الواقع الذي نعرفه.
منة الله تعالى على عباده بحل بهيمة الأنعام عدا ما حرمه

ثانياً: ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ )[المائدة:1]، يا عباد الله المؤمنون! ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ )[المائدة:1]، كلوا لحوم الإبل والبقر والغنم واشكروا الله واذكروه على نعمه وآلائه، هذه منة أم لا قيمة لها عندنا؟ لولا أنه أذن لنا في أكل لحوم الإبل والبقر والغنم فهل سنأكل لنتعرض لغضب الله وسخطه والخلود في عذاب الشقاء أبداً؟ لا والله، إذاً: هذه منة من أعظم المنن، ونعمة من أعظم النعم.وشيء آخر: من خلق الإبل والبقر والغنم؟ هل أمهاتنا وآباؤنا؟ هل نحن الذين أخرجناها من المصانع؟ من يملكها؟ الله، وقد أذن لنا في أكلها، إذاً: فالحمد لله.
(إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )[المائدة:1]، هذا الاستثناء اللطيف الذي تعجب منه الحكيم: ( إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )[المائدة:1] أي شيء يتلى علينا مما حرم علينا أكله، وقال: ( يُتْلَى )[المائدة:1]، وبعد آيتين فقط يأتي ما يتلي عليكم، في قوله تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3]، فهذه العشر تلاها علينا أم لا؟ تحمل بيان محرمات اللحوم.
تحريم صيد البر على المحرم وصيد حيوان الحرم

( إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:1]، لا إله إلا الله! ما هذا الاستدراك وهذا الاستثناء؟ ( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:1]، إياكم أن تصيدوا محرمين بحج أو عمرة، ما أحل الله ذاك ولا يحله لكم؛ لأن المحرم داخل في أعظم عبادة وأشرفها وأكملها، قلبه مع الله، جوارحه مسخرة لعبادة الله، فكيف يشتغل بالصيد فيصيد، حتى ولو كان جائعاً يقتله الجوع لا يصح له أن يصيد، ولا يأمر أحداً أن يصيد له أبداً وهو متلبس بهذه العبادة الجليلة العظيمة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:1]، أما إن كنتم حلالاً فصيدوا فقد أذن لكم في الصيد، وأي صيد؟ هو ما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكله، كل الصيد حلال إلا ما كان من ذوات الأنياب كالسباع وذوات المخالف، إذ النبي صلى الله عليه وسلم ( حرم أكل كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطيور )، حرم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى له بذلك أنابه عنه في أن يحرم على المؤمنين والمؤمنات أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطيور؛ لحكمة يعلمها الله عز وجل.
إذاً: ( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:1]، وهنا أيضاً علمنا أن الحرمين الشريفين مكة والمدينة لا يحل لنا الصيد فيهما ولو جعنا، لا يحل لنا الصيد، أي: لا يحل لأحدنا أن يصيد حمامة أو طائراً أو يصيد أي حيوان في الحرمين، بل الواجب إذا مررت بذئب أو بثعلب أو بأي حيوان تحت ظل شجرة ألا تزعجه، دعه في ظله، إلا ما كان يؤذي، فالذي يؤذي المؤمنين يقتل، لا يسمح له بالبقاء.

يتبع

ابوالوليد المسلم
09-06-2021, 03:52 AM
صور من إحداث المحرم في الحرمين

أحد الإخوان جاءني يعقب على كلمة أمس يقول: أنت قلت: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( المدينة حرم من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً )، فهل الطريقة التجانية تعتبر من الأحداث المنهية؟قلت له: نعم.
فقال: لم ما بينت؟
فقلت: في الحقيقة نحن ما بينا؛ لأننا لسنا دارسين لهذا الحديث، ولكنه عارضة عرضت، ولا بأس أن نبين فنقول:
الذي يفتح استوديوهاً في مكة أو المدينة للتصوير هذا والله لقد أحدث حدثاً من أقبح الأحداث، وهو كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، إما أن يتوب ويتوب الله عليه وإلا فهو آيس من الرحمة، لقوله: ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً )، لا فرض ولا نفل.
فهل يسمح الرسول لأحد أن يحدث في مدينته هذا الحدث، وهو الذي يقول: ( إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون )، من هو المصور الحق؟ أليس الله؟ اقرءوا آخر سورة الحشر في أسمائه تعالى، فهل يرضى أن يقال لك: أنت المصور؟تنازع الله عز وجل؟ فهذه وحدها كافية.
والذي يفتح دكاناً لبيع أشرطة الأغاني أغاني العواهر وفجار الرجال، ويبيع ذلك في المدينة ويشيعه بين بيوتها أما أحدث حدثاً؟ أي حدث أقبح من هذا الحدث؟!
والذي يفتح صندوقاً مالياً ويقول: تعالوا لترابوا معنا! خذوا العشرة بأحد عشر إلى شهر أو سنة، أليس هذا قد أحدث حدثاً؟
والذي يفتح صالون الحلاقة يحلق وجوه الرجال، صالون حلاقة مهمته أن يحلق وجوه الفحول، أما أحدث هذا؟ أيرضى الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحدث؟ هل كان موجوداً هذا؟ هل أذن الله به؟
إذاً: والذي يأتي بطريقة من طرق الهابطين ويأخذ يدعو الناس إليها في الحرمين، وعلى سبيل المثال: التجانية التي يقولون فيها: إن صلاة الفاتح مرة واحدة تعدل سبعين ختمة من القرآن، صلاة الفاتح تلك الصيغة التي ابتدعها من ابتدعها يقول: تعدل سبعين ختمة من القرآن، ومعنى هذا: لا تقرءوا القرآن أبداً، لا حاجة إليه.
وصلاة الفاتح هي: اللهم صل على محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم. هذه الصيغة تعدل سبعين ختمة من القرآن، فهل يبقي من يقرأ القرآن؟! ما الفائدة؟ نقرأ سبعين ختمة حتى نعطى أجر هذه الصلاة!
ومعنى هذا إغلاق الباب عن كتاب الله حتى ما يقرأ، وأعظم من هذا أنهم يقولون: إن صلاة الفاتح أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً للشيخ فلان، خرج في اليقظة وأعطاه صلاة الفاتح! كذبوا على رسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، وكذبوا على المؤمنين والمؤمنات.
هذا مثال وإلا فكل الطرق فيها من الباطل والشرك ما لا يذكر، فمن الخير أن نسلك سبيل سلفنا الصالح، ما عندنا طريقة إلا طريقة محمد صلى الله عليه وسلم، أنا مسلم فقل لي: قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
والذي يسلك الطريقة الحديثة طريقة التكفير والهجرة، ويأخذ ينشرها في الحرمين، وعثر عليهم وهم يوقدون نيران الفتنة في العالم، أليس هذا من أعظم الأحداث؟! هذه تكفر المؤمنين، قالوا: الحكام يحكمون بغير ما أنزل الله فهم كفار، والعلماء علموا ذلك وسكتوا فهم كفار، والأمة علمت بذلك وما حاربت فهي كافرة، ولم يبق من مسلم إلا ذلك الرجل الذي يحمل هذه البدعة!
وقد قلت غير ما مرة: من لم يستطع أن يستقيم في الحرمين فليخرج، يلتحق بأي بلاد، أما أن ينزل في مكة والمدينة ويتعاطى الخمر والحشيش والربا والزنا والباطل والمنكر؛ فهذا غير مسموح له أن يدخل في الحرمين الشريفين إلا عن توبة صادقة، ما استطعت أن تستقيم فالتحق ببلاد أخرى، هذا حرم رسول الله، وذاك حرم الله عز وجل.
اختصاص الله تعالى بحكم ما يريد

( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ )[المائدة:1]، أرأيتم كيف ختم هذه الآية بقوله: ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ )[المائدة:1]، يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ويأذن فيما يشاء ويمنع ما يشاء؛ إذ هو الرب العليم الحكيم لا اعتراض عليه؛ لعلمه الذي أحاط بكل شيء، ولحكمته التي ما خلا منها شيء، ولقدرته التي لا يعجزها شيء، فلهذا يحكم ما يريد، إياك أن تعترض على حكم الله وتقول: لم أحل الله هذا؟ أو لم حرم الله هذا؟ إنك تقول: لم أحللت يا فلان لأنه إنسان عاجز علمه محدود وطاقته محدودة، أما الله العليم الحكيم العزيز الحكيم فما تقول: لم؟! انتبه! من اعترض على الله كفر وخرج من الإسلام.( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ )[المائدة:1] هو لا ما تريدونه أنتم، مع العلم أنه لا يحل إلا ما فيه خير البشرية وسعادتها، ولا يحرم إلا ما فيها خسرانها وشقاؤها؛ لأنه ربهم مولاهم سيدهم، عبيده لا يريد لهم إلا السعادة والكمال.

نهي المؤمنين عن استحلال شعائر الله

ثم النداء الثاني: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:2]، لبيك اللهم لبيك، ( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ )[المائدة:2]، هذه محكمة غير منسوخة: ( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ )[المائدة:2]، ما شعائر الله؟ أعلام دينه، حتى قلم الأظافر، ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقصها ويبدأ بكذا، فائتها كذلك، ولا تقل: أيش في خلافه؟ حتى تناول الشراب والطعام، تناوله كما كان يتناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تقل: أيش في خلافه؟ إياك أن تحل شعيرة من شعائر الإسلام بإبطالها وإبعادها وتركها.ومن شعائر الإسلام مناسك الحج كلها، من (لبيك اللهم لبيك) إلى تعرية الرأس إلى أن تعود إلى بلدك، ( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ )[المائدة:2]، أية شعيرة من دين الله يجب أن لا تهمل ولا تضيع وألا يصرف عنها الناس، يجب أن يقام بها في الناس ليعبدوا الله بها.

منة الله تعالى على العرب بوضع القتال في الأشهر الحرم وبيان نسخ ذلك

وقوله: ( وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ )[المائدة:2]، هذا منسوخ، كان الشهر الحرام لا يحل حمل السلاح فيه، لا يحل القتال؛ لحكم عالية، بالأمس ذكرنا بإيجاز أنه كانت هذه البلاد لا سلطان لها ولا ملك ولا حاكم قروناً عديدة وهي تعيش على الفوضى، بلاد حارة فيها رمال وصحارى لا يأتيها ملك من الروم ولا من الشام ولا من غيرهما، ولكن لما كان فيها حرم الله بلد الله بيت الله دبر الحكيم العليم لسكان الحرم ليعيشوا سعداء أعزة كرماء؛ لأنهم حماة حماه وسكان حرمه، فقال تعالى: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ )[المائدة:97]، معاشهم، أهل الجزيرة في الحج والعمرة يتجرون في مكة ويربحون. ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ )[المائدة:97]، وأشهر الحرم أربعة، إذا كان الشهر الحرام لا تسمع قعقعة السلاح أبداً، أهل الجزيرة يتجولون من شرقها إلى غربها لا يخافون أحداً؛ لأن القتال حرام، ألقى الله في قلوبهم هذا.

النهي عن استحلال الهدي المهدى إلى البيت يإشعار أو تقليد

قال تعالى: ( وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ )[المائدة:2]، كما قال تعالى: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97]، إن أردت أن تهدي إلى سكان الحرم بعيراً أو بقرة أو قطيعاً من غنم، فماذا تصنع؟ أشعرها وأعلمها بأنها مهداة واخرج بها من أقصى الجزيرة لا يعترضك معترض ولا يأخذ إبلك أو غنمك أحد؛ لأنها مشعرة معلمة أنها للحرم.والإشعار -كما علمتم-: أن يجرح سنام البعير من الجهة اليمنى ويلطخ بالدم الوبر، إذا رآها العربي يقول: هذه مهداة، ولا يعترضها أبداً.
والقلائد أن توضع في رقبة الشاة قلادة لأنها لا تشعر، يقولون: هذه مهداة إلى الحرم، والرجل نفسه إذا علق لحاء من شجر الحرم في عنقه في كتفه في يده يمشي بين القبائل العربية لا يؤذيه أحد، يلتقي بقاتل أبيه أو أخيه فيغمض عينيه ولا يلتفت إليه، وبذلك يسود الأمن وتستريح الأمة فترة من الزمن، وهذا تدبير الله: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[المائدة:97].
إذاً: حرمة القتال في الشهر الحرام نسخت، أذن الله لرسوله والمؤمنين أن يقاتلوا في الشهر الحرام إذا قوتلوا، وأما فالحرم فحرمته باقية على ما هي عليه.

نسخ الإذن للمشركين بإتيان البيت للنسك والتجارة
ثم قال تعالى: ( وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا )[المائدة:2]، هذا أيضاً نسخ، أعلن الرسول بقوله: ( لا يحج بعد العام مشرك )، كان مسموحاً لهم بأن يأتوا يبتغون فضلاً من ربهم يسترزقون الله ويطلبون الرزق في حجهم وعمرتهم ويتجرون ويربحون، لكن هذا نسخ، فلا يحل لكافر مشرك أن يدخل الحرم أبداً.
نهي المؤمنين عن العدوان على من صدهم عن البيت في عمرة الحديبية

( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا )[المائدة:2]، هذا موجه إلينا عامة، وبخاصة الذين أوذوا في صلح الحديبية، حيث خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع ألف وأربعمائة رجل يريدون العمرة في السنة السادسة من هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، لما سمعت قريش بخروجهم أعدت عدتها وأعلنت الحرب، وقالت: لن يدخل محمد مكة أبداً، وتمت مفاوضات وسفارات شيبت الأطفال في الحديبية، وانتهت بأن يعود الرسول إلى المدينة ورجاله على أن يسمح لهم العام المقبل بالعمرة، فلا شك أن أولئك المؤمنين بقي في نفوسهم شيء وتألموا، فقال لهم تعالى: ولا يحملنكم ( شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا )[المائدة:2]، يجيء القرشي المكي ماشياً فما تعتدي عليه تقول: هذا ممن صرفونا عن العمرة! فلهذا لا نعتدي على أحد مشركاً كان أو مؤمناً، وإذا كان الكافر ما نعتدي عليه فهل نعتدي على مؤمن؟! إن الذين يفعلون ذلك ما عرفوا الله ولا آمنوا الإيمان المطلوب، أمؤمن ويقتل أخاه؟ أمؤمن ويسلب مال أخيه؟ أمؤمن ويروع أخاه المؤمن؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )، ( كل المسلم على المسلم حرام ) ما هناك جزء حلال، دمه، عرضه، ماله.

معنى قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ...)

ثم قال تعالى: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) [المائدة:2] تعاونوا يا عباد الله أيها المؤمنون على البر والتقوى، فإن قلنا: ما نستطيع، ما هناك تعاون فقد عصينا ربنا. وتعاونوا على ماذا؟ على الخير وفعله، وعلى تقوى الله باجتناب ما حرم الله وفعل ما أمر الله، والذي يلهم هذه يسعد في الدارين، الذي يأتي البر وينشره بين الناس ويتقي الله عز وجل يسعد ويكمل في الحياتين معاً.
(وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) [المائدة:2]، إياكم أن تتعاونوا على فعل الذنوب والآثام كما بينا، هذا يستورد كذا وهذا ينشر كذا وهذا يعمل كذا، والعدوان: الاعتداء، اعتدى أحد على أحد نوقفه عند حده، نقف إلى جانب المعتدى عليه حتى نرفع العدوان عنه.

وأخيراً يقول تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:2] إي والله إنه لشديد العقاب، أما ذقنا عذابه؟ أما أذل الله المسلمين وسلط عليهم الكافرين، فاستعمروهم واستغلوهم واستعبدوهم وأذلوهم وأهانوهم؟ فهل هو شديد العقاب أم لا؟ وكل مؤمن ومؤمنة يخرج عن طاعة الله يعذبه الله ويذيقه عذابه في الدنيا قبل الآخرة.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ ) [المائدة:2] لا تخرجوا عن طاعته، فإنه تعالى شديد عقابه، إذا عاقب فعقابه قاس وشديد.

ابوالوليد المسلم
09-06-2021, 03:53 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (13)
الحلقة (323)
تفسير سورة المائدة (20)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم لك الحمد على ما أوليت، ولك الحمد على ما أعطيت، ولك الشكر يا رب العالمين.
ما زلنا مع سورة المائدة المباركة الميمونة، وما زلنا مع الآيات الثلاث التي درسنا الآية الأولى منها، وها نحن مع باقي الآيات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ )[المائدة:35-37].

نداء المؤمنين وأمرهم بتقوى الله تعالى

معشر الأبناء والإخوان والمؤمنات الصالحات! عرفنا هذا النداء: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:35]، فمن المنادي ومن المنادى؟ المنادي: هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، والمنادون عباده المؤمنون والمؤمنات، الذين آمنوا بالله رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه، وآمنوا بكتبه ورسله وآمنوا بلقائه، هؤلاء المؤمنون يعتبرون أحياء، إي والله، والحي يسمع ويبصر، ويعطي إذا طلب منه ويأخذ إذا أعطي؛ وذلك لكمال حياته، فلهذا أمرهم بما يلي: أولاً: بتقواه عز وجل. ثانياً: بطلب الوسيلة إليه. ثالثاً: بالجهاد في سبيله.

الأولى: التقوى، والتقوى عرفناها ولا حاجة إلى تكرارها، وكيف نتقي الله؟ الجواب: أن تخافه بقلبك خوفاً يحملك على أن تطيعه ولا تعصيه، وبهذا تتقي غضبه وعذابه.
وهل علمنا أوامر الله ونواهيه حتى نفعل المأمور ونترك المنهي؟ الجواب: المفروض أننا عرفنا هذا، من ساعة أن دخلنا في الإسلام وشهدنا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونحن نتعلم في كل يوم -بله في كل ساعة- أوامر الله ما هي وكيف نؤديها، ونواهي الله وكيف نتركها ونتجنبها، والقرآن يفيض بهذه الأوامر والنواهي، وما التبس علينا فرسوله صلى الله عليه وسلم يبين ويشرح، إذ من المستحيل أن تتقي الله وأنت لم تعرف أوامره ولا نواهيه، ومن هنا تقررت القاعدة النبوية: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ).

يتبع

ابوالوليد المسلم
09-06-2021, 03:54 AM
أمر المؤمنين بطلب الوسيلة إلى الله تعالى
ثانياً: هيا نبتغي إليه الوسيلة، أي: نعمل على أن نقرب منه ونصبح من المقربين لديه، فما هي الوسائل؟ إنها حبه وطاعته وحب رسوله وطاعته، إنها هذه الأعمال الصالحة، سواء أعمال القلوب كالنيات الطيبة الطاهرة والعقائد المستنيرة أو الأقوال أو الكلمات التي شرعها الله نتقرب بها إليه، ككلمة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، كل عمل صالح تؤديه تقرباً به إلى الله يقربك الله وتقرب منه، هذا هو التوسل.
وبينا التوسل الباطل وحذرنا منه، وهو توسل الجهال والضلال بالذبح والنذر للأولياء والعكوف على قبورهم وزيارتهم من بلد إلى بلد، والاستغاثة بهم، ونداؤهم: يا سيدي فلان، ويا مولاي فلان! هذه -والله- ما هي بالوسيلة التي طلب الله من عباده أن يتوسلوا بها، نعم عطفك على فقير، مسحك دموع حزين، تنظيفك الطريق للمؤمنين هذه وسائل تتوسل بها إلى الله، أما أن تعرض عنه وتقبل على مخلوق من مخلوقاته فتستغيث بأعلى صوتك وتناديه وتقسم به وتحلف؛ فهذا شرك وما هو بوسيلة.
والأمر الثالث: الجهاد، وحمدنا الله أنه أراحنا اليوم من الجهاد، فالحمد لله.. الحمد لله، من منكم عنده مدفع في بيته أو نفاثة في سطحه يطير عليها ويجاهد؟
مقترح للدعوة في ديار الكفر تحقيقاً لمطلب الجهاد

وأصل الجهاد: هو بذل الجهد والطاقة البدنية والمالية والعقلية من أجل أن يدخل الناس في رحمة الله، وبعبارة أوضح: من أجل أن يعبد الله وحده، إذ هذا هو الجهاد في سبيل الله، الآن من إفضال الله وإنعامه علينا أنه أراحنا وإن كنا نقول: إننا تحت رقابة الله تعالى، ففرنسا فيها ثلاثة آلاف مسجد، بريطانيا فيها مثل ذلك، ألمانيا ذات المخ العظيم، هولندا، بلجيكا، حتى موسكو وأمريكا واليابان والصين، مفتوحة كلها، ما فتحها أسلافنا ولا فتحها آباؤنا وأجدادنا ولا فتحناها نحن، ولكن فتحها الله الفتاح العليم، بل في تلك البلاد حرية العبادة والتعبد أعظم منها في بلاد العرب والمسلمين، إلا ما شاء الله.
إذاً: ما نحن الآن في حاجة إلى حمل السلاح، لكن لم لا نكون لجنة إسلامية عليا يشارك فيها كل بلد إسلامي، وبطريق سري خفي؛ حتى لا نوقظ دعاة الماسونية أو الصليبية أو المجوسية، لجنة عليا يشارك فيها كل بلد إسلامي بعالم، فتكون لجنة مكونة من أربعين عالماً من خيرة العلماء المسلمين، ثم توضع خريطة للعالم بأسره من الشرق إلى الغرب، ونعرف في كل بلد كافر كم فيه من أعداد المسلمين، وكم مسجداً، وكم مركزاً، ونعرف حاجياتهم، وعندنا كتاب الله وسنة رسول الله والعالم الرباني ولي الله الذي يشرح ويبين الهدى ويدعو إليه.
ولا بد لهذه اللجنة من ميزانية فخمة ضخمة كأكبر ميزانية يساهم فيها كل مؤمن بدينار، لا بد من هذا، فريضة الجهاد، وتأخذ تلك اللجنة على الفور فتوجد مجلساً لتخريج الدعاة، لستة أشهر فقط، والكتاب موحد: منهاج المسلم، عقيدة المؤمن، أيسر التفاسير، كتاب المسجد وبيت المسلم، نداءات الرحمن، هذه الكتب ما فيها تعصب قبلي ولا إقليمي ولا وطني ولا مذهبي، المسلمون أمرهم واحد؛ لأنا لا نريد أن يبقى إخواننا في الشرق والغرب هذا حنفي وهذا مالكي وهذا شافعي وهم متباعدون متناحرون، انتهى أمر هذا، لا معنى له اليوم أبداً، الكتاب متوافر فيه: قال الله وقال رسوله، والعالمون بذلك متوافرون، فيدرسون الكتاب والسنة لكمالهم ورقيهم في آدابهم وأخلاقهم، بعد تصحيح عقائدهم وبعد إقبالهم على الله جل جلاله وعظم سلطانه.
إذاً: لا أحسب أنه يمضي ربع قرن إلا وقد لاحت أنوار الإسلام في الشرق والغرب، والحمد لله الذي أراحنا من السيف والقتال، وفتح لنا أبواب العالم.
قلت: وإننا لتحت رقابة الله تعالى، إذا لم نستجب لدعوة الله ونجاهد أنفسنا لنقيمها في الشرق والغرب؛ فسيأتي يوم يأخذون إخوانك المسلمين ويرمونهم في البحار ويطردونهم، ولا يسمحون لمن يقول: لا إله إلا الله، فالظروف مواتية، لكن من جعلها مواتية؟ الله مدبر كل شيء، كان من المستحيل أن يدخل الرجل إلى بلاد الكفر ويبيت فيها هكذا إلا غازياً أو مجاهداً، والآن يؤذن ويصلي ويكبر؟!
أقول: إنها فرصة ذهبية نخشى أن تفوت، وإن فاتت تحمل إثمها وتبعتها المسلمون الموجودون من أهل القدرة على العمل، والحمد لله الذي أراحنا الله من الدماء وسفكها.

نقد أفعال جماعات التكفير

وأما الجماعات التي تريد أن تنشر الإسلام بالمدفع في بلاد المسلمين فهذا خطأ فاحش، خطأ باطل، حرام، يحمل الظلم والبلاء، ولن يوجد الإسلام ولا أهله، بل إن بغض أعداء الإسلام للإسلام من سلوكنا نحن، فسلوكنا بغضهم وجعلهم ينفرون منهم، وقد يكون هذا سبباً في طردهم المسلمين من بلادهم وإغلاق أبواب المساجد، فهذا الجماعات الثائرة التي تكفر الحكام وتعلن الجهاد وهي أعجز ما تكون عن ذلك، إذ الأمة معرضة عنها، والحكومة ضدها، فكيف تنتصر؟! فلو عرفوا ما ينتج عن هذا البلاء من بلاء لماتوا خوفاً من الله عز وجل، ولكنه الجهل المركب، إذا كنتم تريدون إنارة العالم الإسلامي وإضاءته شرقاً وغرباً فأقبلوا على المسلمين زكوا أنفسهم وطيبوا أرواحهم، وهذبوا آدابهم وارفعوا معنوياتهم بتعليمهم الكتاب والحكمة، زوروهم في بيوتهم، قبلوا أرجلهم وأقدامهم وخذوهم إلى بيت الله وعلموهم؛ حتى إذا عرفوا حينئذٍ فما هم في حاجة إليكم، تصبح الأمة كلها على قلب رجل واحد، ويومها تلوح أنوار الإسلام في الشرق والغرب، فلا يسع الكافرين والمشركين إلا أن يطأطئوا رءوسهم أو يدخلوا في الإسلام.

تربية النفس جهاد مفتوح
قد يقال: إذاً -يا شيخ- أغلقت باب الجهاد! قلت: ما زال باب من أبوابه مفتوحاً، ألا وهو جهاد النفس، جاهد نفسك أن تلين وتنكسر وتتطامن وتتواضع ولا تقول إلا الحق ولا تنطق إلا بالمعروف ولا تسمع إلا الهدى ولا تقبل إلا على الخير، هذا الجهاد الأعظم: ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر )، جاهد أسرتك في بيتك ليصبح بيتك كمسجد لا يسمع فيه إلا ذكر الله، جاهد إخوانك في مجالسهم ولقاءاتهم بأن لا يذكر إلا الله، جاهد جيرانك، عرفهم بالله، وأحسن إليهم، واجذبهم إلى نور الله، هذه هو الجهاد في سبيل الله جهاد النفس، فما هي الجائزة؟ الفلاح؛ إذ قال عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ )[المائدة:35]، لم يا رب؟ ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:35]، لتتهيئوا ولتستعدوا للفلاح.

والفلاح عرفناه، سمعنا ربنا يقول: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )[آل عمران:185]، وما الفلاح إلا الفوز، ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا )[الشمس:9]، ما معنى: (أَفْلَحَ)؟ فاز. بم فاز؟ بجائزة نوبل؟ فاز بأن زحزح عن النار وأدخل الجنة دار الأبرار، هذا هو الفلاح والفوز، ما هو الربح في الشاة ولا البعير ولا الدينار ولا الدرهم، فهل أصبح هذا نوراً في قلوبنا معشر المستمعين والمستمعات أم لا؟ فليلتين ونحن مع هذه الآية، فهل استقر هذا في أذهاننا؟

لو دعاك داع إلى الجهاد فقل: أين الجهاد هذا؟
إن بعض الشباب يهربون الآن إلى الشيشان للجهاد؛ لأن نفوسهم ضاقت وتألمت وما وجدت من يشرح تلك الصدور ولا ينير تلك القلوب، والهمجية والبربرية والشهوات العارمة، فماذا يصنعون؟ فهموا الجهاد ليموتوا في الشيشان. الجهاد الذي ندعو إليه أن يقوم إمام مبايع من عامة المسلمين ونمشي وراءه يقودنا العام والأعوام وهو يربي ويهذب ويكمل، وحينئذٍ إذا رأى نفسه قادرة على أن يغزو ليفتح ديار الكفر وينيرها للإسلام فإنه يقول: الجهاد، هذا هو الجهاد.

ابوالوليد المسلم
09-06-2021, 03:56 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (14)
الحلقة (324)
تفسير سورة المائدة (21)

يقرر الله عز وجل في هذه الآيات حكماً شرعياً، وهو أن الذي يسرق مالاً يقدر بربع دينار فأكثر من حرز مثله خفية وهو عاقل بالغ ورفع إلى الحاكم فالحكم أن تقطع يده اليمنى من الكوع، سواء كان رجلاً أو امرأة، مجازاة له على ظلمه واعتدائه على أموال الغير، وبهذا يسقط عنه العقاب الأخروي، أما إن لم يعرف فإن الله يتوعده بالعذاب في الآخرة إلا أن يتوب ويصلح ما أفسده، وذلك بإعادة الأموال إلى أصحابها بأي طريقة كانت.
تفسير قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا ...)

تفسير قوله تعالى: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ...)
حكم رد المال المسروق بعد القطع
هنا ما حكم من سرق وقطعت يده: هل يطالب برد المال الذي سرقه أو يكفيه قطع يده؟ القول الذي يرى أنه هو الصواب والحق هو قول مالك رحمه الله، وهو أعدل وأرحم، يقول: السارق قطعت يده، فإن وجد ما سرقه فيجب أن يؤخذ منه ويرد إلى صاحبه، ما يكفيه قطع اليد، وإن لم يوجد ذلك المسروق، فالسيارة باعها، ننظر: إذا كان له مال يؤخذ من ماله بقدر ما سرقه، فإن كان لا مال له فماذا نصنع به وقد قطعت يده؟ قال: يكفيه قطع يده ولا شيء عليه، وهذا أعدل وأرحم.
فالسارق لما ضبط وقامت الحجة بالسرقة وقطعت يده هل يطالب برد المال المسروق أو لا يطالب؟ هناك من يقول: يكفي قطع يده، فقطع اليد يساوي نصف الدية للإنسان. والصحيح: أنه يطالب برد المال الذي سرقه، فإذا كان موجوداً بعينه فذاك، فإن لم يوجد بعينه وعنده أموال أخرى فيؤخذ منها ما يسدد لذاك المسروق منه ويعطى قيمته، فإن كان لا مال له فيكفيه قطع يده، وهذا أعدل وأرحم.

حكم السارق من مال ولده
ومسألة أخرى: إذا سرق الرجل من مال ولده؟ لك ولد غني -والحمد لله- وأنت أيها الأب فقير، أو عندك مال وما استغنيت وسرقت من مال ولدك وضبطت، فهل تقطع يد الوالد الذي سرق من مال ولده؟
الإجماع على أنها لا تقطع؛ ولذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أنت ومالك لأبيك )، فإذا سرق الوالد من مال بنته أو ابنه لا تقطع يده إجماعاً؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحب يوجهه: ( أنت ومالك لأبيك )، نص، إذاً: ما دام الولد لي فكيف تقطع يدي؟

حكم السارق من مال والده

حكم السارقة من مال زوجها والسارق من مال زوجته

وهنا مسألة أخرى: إذا سرقت الزوجة من مال زوجها ورفعها إلى القاضي فإنه يقطع يدها وإن قال: هذه زوجتي لا تقطع يدها! فما هو شأنك أنت، نحن نحكم بحكم الله عز وجل، لكن إذا كان الزوج عفا عنها، صفعها، طلقها، ولم يرفع أمرها إلى المحكمة لا تقطع يدها، فإذا سُرِقت أنت يا هذا وضبطت السارق وعفوت عنه، ما رفعت أمره إلى المحكمة، فلا تقطع يده.
وكذلك الزوج إذا سرق من مال زوجته، فالزوجة إذا كانت عفريتة ترفع أمرها إلى المحكمة وتقطع يده، لكن إذا ما رفعت أمرها إلى المحكمة فإنها تعفو عن زوجها أو تطالب برد مالها، ولا تقطع يده، فما هناك خلاف إلا في الابن والبنت إذا سرقا من مال الأب، وأما إذا سرق الأب أو الأم من مال أولادهما فلا خلاف في أنه لا قطع أبداً، أما الزوج والزوجة فكالأخ والأخ والعم والعمة، لا فرق.
وهنا مسألة أخرى: إذا كان الزوج شحيحاً والزوجة أخذت من ماله؟ هذه القضية رفعت إلى قاضي القضاة صلى الله عليه وسلم، رفعتها هند امرأة أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، وقالت: إن زوجي رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي؟ قال: خذي ما تحتاجين أنت وأولادك، بقدر ما تحتاجين إليه، لا تسرقي من جيبه أو من صندوقه ولا تدخريه، لكن خذي قدر الطعام أو الشراب أو الثوب الذي احتجته أنت أو ابنك، فالزوجة إذا أخذت هذا القدر ما يعتبر سرقة حقيقية، يعفى عنها، إذا كان منعه بخلاً، أما إذا كان يوسع عليها وينفق ثم هي تريد أن تتأتي المال وتسرق فإنه تقطع يدها، ومن ذلك التي تحول المال إلى إخوانها في القرية الفلانية.
يقول تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا )[المائدة:38]، ليس المراد أن يقطع اليدين الاثنتين، وإنما السارق تقطع يده، والسارقة تقطع يدها، ( جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ )[المائدة:38-39]، قالوا: من الإصلاح أن يرد المال الذي سرقه.

يتبع

ابوالوليد المسلم
09-06-2021, 03:56 AM
تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء...)

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات

معاشر المستمعين! إليكم معنى الآيات في هذه الورقة، فتأملوا مع ما سمعتم وفهتم.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ يخبر تعالى مقرراً حكماً من أحكام شرعه، وهو أن الذي يسرق مالاً يقدر بربع دينار فأكثر من حرز مثله ]، ليس شرطاً أن يكون الحرز دائماً صندوقاً ومفتاح من حديد، بل بحسب حاله، فشاة وجدها خارج الباب فما هي سرقة، لكن جعلها في الحظيرة والباب مغلق عليها في زريبة مثلاً هذا حرز عليها، فالضابط: (من حرز مثله).
قال: [ وهو أن الذي يسرق مالاً يقدر بربع دينار فأكثر من حرز مثله خفية وهو ] أولاً [ عاقل ] ثانياً [ بالغ ]، فإن كان مجنوناً فهل يؤاخذ؟ لا. وإن كان صبياً ما بلغ وسرق ألف دينار فلا تقطع يده، لا بد من البلوغ والعقل، المجنون لا تكليف عليه، والصبي الغلام كذلك.
ثالثاً: [ ورفع إلى الحاكم ] أيضاً، فإذا ما رفعت القضية إلى الحاكم فلا تقطع أنت يد السارق بنفسك، أو ابن عمك يأخذ يده ويقطعها، لا بد من رفعها إلى المحكمة؛ لتتأكد وتتحقق، قد تكون مؤامرة، بنو فلان اتفقوا على أن فلاناً سرقهم والمال في يده، لا بد من المحكمة.
قال: [ والسارقة كذلك ] ما هناك فرق بين الرجل والمرأة [ فالحكم أن تقطع يد السارق اليمنى من الكوع، وكذا يد السارقة ]، ما الكوع؟ عند الفقهاء يقال: فلان لا يفرق بين الكوع والبوع، فما الفرق بين الكوع والبوع؟ الكوع: في اليد، والبوع: في الرجل، كما قيل:
فعظم يلي الإبهام كوع وما يلي الخنصر الكرسوع والرسغ ما وسط
قال: [ مجازاة لهما على ظلمهما بالاعتداء على أموال غيرهما، وقوله: ( نَكَالًا مِنَ اللَّهِ )[المائدة:38]، أي: عقوبة من الله تعالى لهما تجعل غيرهما لا يقدم على أخذ أموال الناس بطريق السرقة المحرمة، ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ([المائدة:38]، غالب على أمره، حكيم في قضائه وحكمه، هذا معنى قوله تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا )[المائدة:38] ] الباء سببية: بكسبهما، أي: بما كسبا [ من الإثم، ( نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[المائدة:38].

وقوله تعالى في الآية الثانية: ( فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ )[المائدة:39] أي: تاب من السرقة ] يعني: ترك ما أصبح يفكر فيه ولم يعد يسرق [ بعد أن ظلم نفسه بذلك ]، فالسارق ظلم نفسه، صب عليها الآثام والذنوب.

جاءني أحدهم بعد الصلاة يتعنتر علي، قال: ما معنى قوله تعالى: ( إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ )[آل عمران:135]، قلت له: الفاحشة الزنا واللواط وكل قبيح شديد القبح، والظلم للنفس، فكل إثم ظلم للنفس، سرق، كذب، أخر الصلاة، سب فلاناً، كل هذا ظلم للنفس لأنه يصب عليها النتن والعفونة والظلمة.

قال: [ بعد أن ظلم نفسه ] بأكل مال الناس [ وَأَصْلَحَ [المائدة:39] نفسه بالتوبة ] فنفسه فسدت بالذنوب، فأصلحها بالتوبة [ ومن ذلك رد المال المسروق ] سواء كان دينارأ أو كان ألف دينار [ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ )[المائدة:39]؛ لأنه تعالى غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين.

وقوله تعالى في الآية الثالثة: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[المائدة:40]، يخاطب تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل من هو أهل للتلقي والفهم من الله تعالى ] وهم المؤمنون؛ لأنهم أحياء يتلقون ويفهمون [ فيقول مقرراً المخاطب: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[المائدة:40]، والجواب: بلى، وإذاً فالحكم له تعالى لا ينازع فيه، فلهذا هو يعذب ويقطع يد السارق والسارقة ويغفر لمن تاب من السرقة وأصلح، وهو ( عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[المائدة:40] ].


هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات.
من هداية الآيات:
أولاً: بيان حكم حد السرقة، وهو قطع يد السارق والسارقة ]، لقوله تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا )[المائدة:38].

[ ثانياً: بيان أن التائب من السراق إذا أصلح يتوب الله عليه، أي: يقبل توبته ]، كان يسرق ثم تاب وتاب الله عليه فيعفى عنه، لكن بشرط أن يرد المال إذا كان قادراً على رده ولو بالتدريج؛ لأن الإصلاح يكون بذلك.
[ ثالثاً: إذا لم يرفع السارق إلى الحاكم تصح توبته ولو لم تقطع يده ]، ليس شرط التوبة أن تقطع اليد، عزمه فقط على عدم السرقة توبة، فإن رفع قطعت، وإن لم يرفع فتوبته كافية، إلا أن المال إذا كان لديه فإنه يحاول أن يرده بعد عام أو عامين أو عشرة في كل مناسبة.
قال: [ وإن رفع ] أي: أمره إلى المحكمة [ فلا توبة له ]، لو قال: لقد تبت يا عباد الله، والله إني تائب من الآن لا أسرق أبداً فلا تقطعوا يدي فلا ينفعه، وقبل أن يرفع إلى القاضي نعم، قال: تبت وبكى بين يديك فاترك أخاك، لكن إذا رفع وحكمت المحكمة بقطع يده وأعلن عن توبته فلا تنفعه التوبة في قطع يده.
قال: [فإذا قطعت يده خرج من ذنبه كأن لم يذنب ]، مهما كان المال الذي أخذه، يده إذا قطعت غفر الله له.
[ رابعاً: وجوب التسليم لقضاء الله تعالى والرضا بحكمه لأنه عزيز حكيم ]، لو كان ضعيفاً فما نسلم له، لو لم يكن عنده حكمة يتخبط ويصدر أحكاما لا معنى لها فلن نقبل، ولكن ما دام عزيزاً حكيماً فكيف يجوز أن تنتقد حكمه أو ترده؟! وقد بينا أن من انتقد حكم الله وقال: لم، فإنه يكفر بذلك، فلم يسعنا إلا التسليم لله عز وجل.
إيضاح للموقف من الجهاد في الواقع الحالي

معاشر المستمعين! تعقيب: لما تكلمنا عن الجهاد الحق الشرعي قال بعض الإخوان: لماذا لا يدعو إلى الجهاد في البوسنة والهرسك وعند الشيشانيين؟ ولماذا يغفل هذا؟ وآخرون قالوا: لم الشيخ يقول كذا والناس يبكون على أولادهم والأمة هكذا، ما حق الشيخ يقول هذا!كل يقول بحسب فهمه ولا حرج.
وأقول: أولاً: لسنا بقادرين على إفهام كل سامع وسامعة، هذا لا يقدر عليه إلا الله، لكن شيخكم مستعد إذا أخطأ أن يعلن عن خطئه ويستغفر الله فيه ويطلب من السامعين أن يستغفروا له، هذه قاعدة منذ ثلاث وأربعين سنة، ما نرضى أن نقر الخطأ ولا يحل.
وجوب جهاد النفس
فالذي قلته وما زلت أقوله: أن الجهاد الذي أمرنا الله تعالى به في قول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:35]، هذا الجهاد إن كان جهاد النفس فهو واجب، على كل مؤمن ومؤمنة أن يجاهد نفسه؛ حتى لا يقع في أوضار الذنوب والآثام، لا سرقة، لا خيانة، لا غيبة، لا كذب، كل ذنب يجاهد نفسه حتى لا ترتكبه، لا تترك واجباً ولا تغشى محرماً، وهذا الجهاد متواصل حتى الموت على كل مؤمن ومؤمنة إلا إذا كان ما بلغ سن التكليف أو كان مجنوناً، فما منا إلا وهو يجاهد الليل والنهار: الدنيا، والشيطان، والهوى، والنفس، هذه أربع طوام، فليس منا مستريح لا له جهاد أبداً.

امتناع جهاد الكافرين بغير إمام
الموقف من الجهاد في الشيشان وأفغانستان ونحوهما

وأما قضية الشيشان والبوسنة والهرسك وأمس الأفغان؛ فنحن نقول: لما قاتلنا في الأفغان بنية أن تقوم دولة إسلامية تنشر الإسلام وتمتد رايتها حتى تظلل فلسطين، كذا كنا نأمل، وتبين لنا خلاف ذلك، سألنا عن العلة ما هي؟ وجدناها عدم البيعة لإمام، ما كانوا متفقين ولا متوافقين على بيعة رجل، كل واحد يريد أن يكون هو الإمام، فكيف كانت النتيجة: مرة أو حلوة؟ لقد كانت مرة أسوأ ما تكون، أليس كذلك؟ فإخواننا أيضاً في البوسنة والهرسك أو في الشيشان حالهم كهؤلاء.
وقلت -وكتبنا هذا في جريدة وما نشر-: لو أن الحكام المسلمين اتفقوا مع تركيا الإسلامية وجاءت كل دولة بخمسة آلاف أو عشرة آلاف جندي مسلح مدرب، وتكون عندنا نصف مليون، فنستطيع أن نقول للدولة المعتدية في الشيشان: قفي. أو في البوسنة والهرسك، أو ندخل، وما دام حكام المسلمين لا يعرفون هذا فكيف إذاً نقاتل مع الشيشان أو البوسنة والهرسك؟
تبقى مسألة هؤلاء الأحداث، فأنا أقول: إذا ما سمح له والداه أن يذهب إلى البوسنة فحرام عليه أن يذهب، إذا منعه الحاكم يجب ألا يذهب، وإذا كان ضعيفاً أيضاً لا بدن ولا علم ولا قدرة، وإنما يذهب فقط ليأكل طعامهم ويزاحمهم أيضاً فما ينبغي أن يذهب، فإن كان قادراً قوياً وعنده إذن من الحاكم ومن والديه وهو قادر على أن يجاهد فله أن يذهب ليقاتل دفاعاً عن إخوانه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
09-06-2021, 03:58 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (15)
الحلقة (325)
تفسير سورة المائدة (22)


(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ )[المائدة:42]، يكشف الله الغطاء عنهم ويسمع رسوله حالهم والمؤمنين: ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ )[المائدة:42]، أسألكم بالله هل الأغاني فيها حق؟ حين يغني عبد الوهاب أو الأطرش أو العاهرة أو فلان فهل كلامه حق؟ كيف يجوز سماعه؟

والذين يحكون الخرافات والضلالات ويأتون بالبدع والمنكرات ولا دليل من كتاب ولا سنة هل يجوز سماع كلامهم؟ والذين يروجون البضائع الهابطة وينوعونها من أجل المال؛ هل قولهم وترويجهم وكلامهم وما يكتبونه حق؟ كذب.
المؤمن الصادق لا يسمع هذا، إن سمع مرة فلا بأس حتى يعرف، ثم بعد ذلك يترك، لا يسمع نهاره أو طول حياته.
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ )[المائدة:42] كثيروا الأكل ( لِلسُّحْتِ )[المائدة:42]، السحت هو المحق، ما الذي يمحق الأجر ويبطله؟ الربا وأموال الناس المحرمة، السحت ما يسحت ولا يبقي فضيلة ولا حسنة في القلب، ويسحت حتى البركة في المال فما يبقي فيه بركة ولا منفعة.

معنى قوله تعالى: (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم)

التوجيه القرآني بشأن الحكم بين الكفرة والإعراض عنهم


حالات الجهاد تحت راية الإمام


عندنا موضوعان: الأول: الدعاء، والثاني: بيان الجهاد، حيث قال الإخوان: آخر الكلام ما فهمناه.
أما الجهاد فأقول: الله عز وجل قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:35]، فقلت لكم: الجهاد هو أن إمام المسلمين الذي بايعناه على إقامة شرع الله بيننا، وقلنا: سمعاً وطاعة، هذا الإمام إذا أراد أن يجاهد إذا تطلب الموقف الجهاد فهناك موقفان: موقف العدو الكافر المشرك يجهز ويعد العدة ويعلن عن حربنا، في هذه الحالة تلزم التعبئة العامة، ولا ينبغي أبداً لمؤمن أن يتخلف، إذا أعلن الإمام التعبئة العامة، أو قال: الذين أعمارهم من العشرين إلى الستين سنة الكل يدخلون الثكنات ويحملون السلاح، هنا أصبح الجهاد فرض عين، ونقاتل هذا الظالم هذا الكافر هذا المعتدي حتى نهزمه ونشتت شمله وننتصر عليه، إبقاء لديننا وحياتنا الطاهرة وإسلامنا العزيز، هذا موقف.

الموقف الثاني: أن يرى الإمام أن هناك دولة ما بيننا وبينها صلح ولا معاهدة، فهيا ندعوها إلى الإسلام، بعدما ينظر إلى قوة رجاله وسلاحه وقدرته على أن يقاتل هذه الدولة، فيقول: باسم الله، ويجهز جيشه ويغزو، وحين يصل إلى الحدود يراسلها، يتصل بالمسئولين شفوياً بالسفير أو بالكتابة، يقول لهم: إن شئتم ادخلوا في رحمة الله ادخلوا في الإسلام، هذا دين الله لكم، وهذه رحمته بعباده، وما نحن إلا مبلغين عن الله، فادخلوا في الإسلام تكملوا وتسعدوا وتطيبوا وتطهروا وقل ما شئت من الكمال، فإن رفضوا قالوا: ديننا أولى، نحن يهود أو نصارى أو مجوس ديننا قبل دينكم، ما نريد أن نفرط في ديننا ونستبدل به غيره، قلنا لهم: اسمحوا لنا أن ندخل لننشر الحق والهدى والخير بينكم، ونحن ضامنون أموالكم ودماءكم، نحن الحماة لكم، فإذا دخلت قواتنا وأخذت تنشر الأمن والرخاء والعدل والطهر والصفاء، لو جاء عدو يريد أن يغزو تلك البلاد فنحن الذين نقاتله، نحمي هذه الأمة ودينهم لا يمس بسوء، ولكن سوف يشاهدون أنوار الإسلام وتغمرهم ويخرجون من دينهم تباعاً واحداً بعد واحد كما حصل في الشرق والغرب، إذ ما أكره أحد على أن يدخل في الإسلام أبداً، لا من العرب ولا من العجم.
فإن رفضوا إلا القتال إذاً يستعين بالله إمام المسلمين ويقاتلهم حتى يخضعهم لقبول دخول الإسلام في ديارهم. هذان موقفان هما الجهاد في سبيل الله، اذكروا هذا ولا تنسوه، واسألوا أهل العلم أهل البصيرة الذين عرفوا حقيقة الإسلام:
أولاً: أن يعتدي الكفرة المشركون على ديارنا، فإمام المسلمين يعلن عن التعبئة العامة ويقاتل ذلك العدو حتى يقهره، لا خلاف في هذا، اللهم إلا إذا رأى أن تلك القوة أقوى من قوته، وتلك القدرة أقدر منه وسعى إلى مصالحة سياسية ليدفع العدو فله ذلك، على شرط أن يكون له رجال من أهل النور والبصيرة والهداية، فيقولوا: هذا العدو كذا وكذا، فمن الخير أن نسكن روعه وأن ندفعه بالتي هي أحسن بمعاهدة بيننا وبينهم تجارية أو غير تجارية، وله الحق في هذا، والدليل: مصالحة الرسول للمشركين في هذه الجزيرة في غير ما مرة وفي غير ما موطن؛ لضعف إخوانه وقلة عددهم.

يتبع

ابوالوليد المسلم
09-06-2021, 03:59 AM
كيفية جهاد العدو المحتل لبلد مسلم

الآن نعود إلى الجهاد، استعمرتنا بريطانيا أو فرنسا أو إيطاليا، الآن هاجمت بريطانيا بلداً وأدخلته تحت حكمها، فما المخرج من هذه المحنة؟ نقول: على العلماء وعلى المربين وعلى الهداة الصالحين أن يأخذوا في تطهير نفوس أمتهم وتزكية أرواحها وتهذيبها، وإطفاء شعلة الشهوات والمادة منها يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، حين ينظرون إلى ثلاثة أرباع الأمة قد أقبلت على الله حقاً وصدقاً، لم يبق كذب ولا خيانة ولا فجور إلا نادراً، وهم مسلمون بحق، حينئذ يبايعون إماماً لهم؛ لأنهم أصبحوا مسلمين، وحينئذ يعلن إمام المسلمين الجديد عن الجهاد لإخراج بريطانيا أو إيطاليا وفرنسا، وباسم الله عز وجل نجاهدهم، ما إن ننتصر حتى نرى الإسلام قائماً في الظاهر والباطن، هذا هو الذي يجب أن يكون، ولكن وا أسفاه مما كان، قاتلنا من إندونيسيا إلى موريتانيا وما كونا إماماً وأطعناه بطاعة الله ورسوله، وانقدنا لأمره ونهيه، وطهرت قلوبنا أولاً، وطهر سلوكنا، وجمعنا على عبادة الله، لذا لا يستقل الإقليم إلا والإسلام منبوذ ومطرود، أواقع هذا أو لا؟
أكبر برهان أن نقول: دلونا على إقليم من يوم أن استقل أعلن فقط عن فريضة إقام الصلاة على كل مواطن عسكرياً أو مدنياً، مع أن هذه الفريضة لا تكلفهم شيئاً، فقط تطهر قلوبهم وتزيد في آدابهم وأخلاقهم، هل جبيت الزكاة باسم الله؟ الجواب: لا، ما سبب هذه الخيبة وهذا الفشل؟
إن الشعب ما كان متهيئاً لعبادة الله، هذا خرافي وهذا ضال وهذا زان وهذا مشرك وهذا هابط، وهمهم الانتصار لأجل الكرسي والحكم والملك والدولة، إذاً: حصل ذلك، فأين الإسلام؟ ما حل بديارهم، ثم إن أكثر البلاد التي كانت مستعمرة لما استقلت فسدت أكثر مما كانت قبل ذلك، فسدت في آدابها وسلوكها وأخلاقها وعبادة الله، أنتم ما عاصرتم الدول، لكن كبار السن يعرفون هذا.
إذاً: هذا الجهاد إذا ما كانت بيعة للإمام وكانت الأمة مستعدة لتعبد الله عز وجل وتنشر دعوته، وأقمنا ثورة ضد الحكومة فهي أعمال باطلة والقتلى ليسوا بشهداء؛ وكل ذلك لأن كلمة (في سبيل الله) غير موجودة، ما قال: الجهاد فقط، قال: في سبيل الله، أي: بأن يعبد الله وحده، فإذا قاتلنا ولا نعبد الله ولا نطالب بعبادته فهل هذا سبيل الله؟ هو سبيل الشيطان.

أهمية تربية الناس وتهذيبهم في البلاد الإسلامية المحتلة

وعندنا مثل حي: إخواننا في الأفغان، والله! أتكلم على علم، لما انتشرت الشيوعية بينهم انتشاراً وكانت منتشرة في العالم الإسلامي بكامله إلا من رحم الله، لو كان هناك رشد ونوع من العلم والبصيرة، لكانوا سيهذبون إخوانهم ويؤدبونهم ويزيلون هذه الفتنة من قلوبهم ويعبدون الله عز وجل ولا يخافون من الشيوعية، فيقبلون أرجل إخوانهم، ويقول له: اترك هذا المبدأ أو هذا الكلام، أنت مسلم وهذا بلد إسلامي، لو فعلوا بصدق لما انتشرت الشيوعية في بلادهم، ولما احتاجوا إلى قتالها وقتالهم، فلما سكتوا وكانوا هابطين مثلنا وفتحوا أفواههم ورغبوا في الباطل انتشرت الشيوعية، من نشرها؟ هل نشرتها روسيا؟ لا والله، هم بأنفسهم، لما أعلنا الحرب على الشيوعية كان المجاهدون منا والمقاتلون الأعداء منا أيضاً، وأمدتهم روسيا، طلبوا منها المدد فأمدتهم، لا حرج في هذا أبداً، ومع هذا انهزمت الشيوعية، لما انهزمت لم ما رفعت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله وساد الطهر والأمن والصفا وتحرك المجاهدون؟ لقد كنا نقول بعد انهزام روسيا: والله لن ننتهي إلا إلى فلسطين. كنا نحلم بهذا إلى فلسطين، لكن الذي وقع هو الخلف والفرقة والدماء والدموع والبكاء والصياح والهول إلى اليوم، ما سبب ذلك؟ لأنهم ما بايعوا إماماً ليعبدوا الله تحت رايته، وذهبت بنفسي نائباً وهذا الدكتور أبو عظمة معي؛ أنابنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، وزرنا مخيمات القادة والأحزاب، وبكينا وبينا لهم فرفضوا، هل تكون العاقبة حميدة؟ والله لن تكون، لقد كانت سيئة، ما هناك من يكذبني، هذا هو الواقع؟
إذاً: في أي بلد آخر يحكمه الكفار إذا أردنا أن نقيم دعوة الله ويعبد الله فعلى المسئولين فيه أن يأخذوا في تهذيب الناس وإصلاح نفوسهم وتطهيرهم حتى يصبحوا أولياء الله، وهذا أمر ما يحتاج إلى مدفع ولا إلى رشاش، فإذا أقبلت أمة على الله نصرها الله، وإذا رفعت صوتها وكبرت أعانها الله، أما أننا نقاتل لنحكم فقط؛ فقد جربنا هذا في أربعين إقليماً من أقاليم الإسلام فهل استفدنا شيئاً، هل حققنا شيئاً؟

نقد تصرفات الجماعات التكفيرية المسلحة


وأخرى: الذين يطالبون بقتال في بلادهم ويقولون: الحكام كفار، والعلماء سكتوا فهم كفار والأمة كافرة

فما هي النتائج التي يمكن أن يظفروا بها؟ قد ينتقمون فقط ويشفون صدورهم من فلان وفلان، أما أن يقيموا دولة في تلك الأمة الإسلامية فهذا من باب ما لا يقع، لا وجود لهذا، كل ما في الأمر أنهم يسفكون الدماء ويروعون الآمنين والآمنات، وينشرون صورة قبيحة للإسلام الذي يقتل بعض أهله بعضاً.
والله الذي لا إله غيره! إني لأكلمكم على علم من الله، ما هو بهوى؟ يا أهل الإقليم الفلاني! اعملوا على إصلاح إخوانكم، قبلوا أرجلهم وأيديهم، أغلقوا المقاهي، أغلقوا المصانع الفاجرة، بالحكمة والموعظة حتى تطهر بلادكم، وحينئذ نرفع راية لا إله إلا الله ونكون أمة مسلمة، أما أن نتكالب على أوساخ الدنيا وأوضارها، وهذا يصلي وهذا يكفر ونريد أن نقيم في دولة إسلامية فمن أذن في هذا؟


شروط الخروج للجهاد في بلد محتل


وأخيراً: البوسنة والهرسك، اشتكى الناس، وقالوا: الشيخ يقول كذا وكذا، والذي قلته: هل هو جهاد؟ أقول: إن بايعوا إمامهم بيعة إسلامية، واستجابوا لأمر الله وأقاموا الصلاة واستتر نساؤهم، ومنعت الخمور، وقالوا: ربنا الله ولا إله إلا الله؛ فهذا جهاد، يريدون أن يعبد الله وحده، أما أن نقاتل الدولة الكافرة نقول: كيف تحكمنا وكيف تسودنا؟ هذا ما هو بالجهاد، هذا دفع ظلم إن شئتم.
ومن هنا: قلت: يا عبد الله! إذا كانت أمك وأبوك راضيين بخروجك والتحاقك بالبوسنة والهرسك فهذا أول شرط: لا تخرج إلا برضا أبويك، إذ الرسول قال: ( ففيهما فجاهد ).
ثانياً: أن تكون قادراً على أن تقاتل، لك قوة بدنية، قوة عقلية، تدريب عسكري، لك قدرة.
ثالثاً: أن يسمح لك الحاكم الذي أنت في دولته ويأذن لك بالخروج، بهذه الشروط الثلاثة لك أن تذهب لتقاتل مع إخوانك لتدفع عنهم الظلم الذي حل بهم:
أولاً: أن تكون قادراً؛ لأننا عرفنا جماعات ذهبوا إلى أفغانستان وذهبوا لكل جهة وما فعلوا شيئاً، وردوا البلايا والمحن، بل كانوا فقط يأكلون طعام المجاهدين هناك أو المقاتلين.
ثانياً: أذن لك أبواك أم لا؟ ثالثاً: أذن لك الحاكم أم لا؟ هذه ثلاثة شروط، أما المعاونة بالمال فمسموح بها للفقراء وللجرحى وللمرضى وكل ذلك فيه خير كثير، أما كلمة جهاد فلن يتم جهاد حتى تعلن كلمة لا إله إلا الله ويعبد الله.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
15-06-2021, 04:49 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (16)
الحلقة (326)
تفسير سورة المائدة (23)


أنزل الله عز وجل التوراة على موسى عليه السلام لما استقل بنو إسرائيل وخرجوا من سلطان الفراعنة، وجعل فيها الهدى والنور ليحكم بها في الناس النبيون من عهد موسى إلى ما قبل عهد عيسى عليه السلام، ثم كلف سبحانه الأحبار من أهل الكتاب أن يحكموا بما فيه كما حكم أنبياؤهم، ولا يخشون أحداً من الناس وإنما يطلبون بحكمهم وجه الله والحق، فلما جاء عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل مصدقاً لما في التوراة وأمره أن يحكم به، وأمر أتباعه أن يحكموا به من بعده.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات، لكن أريد أن أذكركم بالآيات قبلها، إذ هي كالسلسة الذهبية متصلة الحلقات، فاسمعوا تلاوة الآيات التي درسناها قبل هذه وتأملوا.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:41-43].
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: استحباب ترك الحزن باجتناب أسبابه ومثيراته ]، أما قال تعالى موجهاً رسوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41] من المنافقين واليهود؟إذاً: يستحب لنا الاقتداء برسول الله؛ أننا نترك الحزن ونبتعد عنه؛ وذلك بترك أسبابه واجتناب مثيراته.[ ثانياً: حرمة سماع الكذب لغير حاجة تدعو إلى ذلك ]، إن دعت الحاجة إلى أن تسمع في حادثة معينة، في قضية معينة وهم يسمعونك الكذب الذي قيل فلا بأس، أما بدون حاجة تستدعي أن تسمع فلا يحل لنا أن نسمع الكذب، سواء كان في صحيفة أو جريدة أو في إذاعة أو في مجلس أو من محب، من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، وهذا ذم لهم وتقبيح لحالهم وسوء فعالهم: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [المائدة:42]، هل المؤمنون الصادقون سماعون للكذب؟ الجواب: لا، وإن ابتلي المؤمنون بذلك حين لم يعرفوا الطريق، يجلسون الساعة والساعات وهم يسمعون الأباطيل والأكاذيب، وما سبب ذلك أنهم ما عرفوا.[ ثالثاً: حرمة تحريف الكلام وتشويهه للإفساد ]، حرام على مؤمن أن يحدث أو يتكلم بكلام ويحرف بعض التحريف أو يلوي لسانه حتى ما يأتي به على الوجه المطلوب، هذا المسلك يفعله اليهود وحرمه الله علينا، ذمهم بذلك وقال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [المائدة:41].[ رابعاً: الحاكم المسلم مخير في الحكم بين أهل الكتاب، إن شاء حكم بينهم وإن شاء أحالهم على غيره ]، القاضي المسلم إذا تحاكم إليه يهوديان أو نصرانيان أو كافران فهو مخير، إن شاء أن يحكم بينهم حكم، وإن شاء أن يتركهم تركهم، إذ لا خير فيهم.[ خامساً: وجوب العدل في الحكم ولو كان على غير المسلم ]، لقوله تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [المائدة:42]، ما أنت بملزم بأن تحكم بين يهود ونصارى، لكن إن حكمت فاحكم بالعدل؛ لأن الله يحب العدل وأهله.[ سادساً: تقرير كفر اليهود وعدم إيمانهم ] فدلت الآية على هذا وقررت كفرهم وعدم إيمانهم، إذ قال تعالى: وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:43]، وصدق الله العظيم. والآن مع الآيات التي نتدارسها الليلة إن شاء الله.
تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا...)
يقول الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [المائدة:44]، من المتكلم بهذا؟ الله جل جلاله، إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة:44]، من يحكم بالتوراة؟ النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا [المائدة:44] وعليهم، يحكمون بها لهم وعليهم، والنبيون: جمع نبي، والأنبياء قيل: أربعة آلاف نبي من موسى إلى عيسى، وقيل: ثلاثة آلاف أو ألف على الأقل، فالتوراة من أنزلها؟ الله تعالى، أنزلها على نبيه موسى عليه السلام، واسمع ما يقول تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة:44]، اسلموا قلوبهم ووجوههم لله، وهذه صفعة على وجه الكافرين من اليهود والنصارى، أبوا أن يسلموا وأنبياؤهم كانوا مسلمين على ملة إبراهيم ملة الإسلام، لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة:44]، أي: يحكمون كذلك بالتوراة، فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا [المائدة:44-45] أي: في التوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:45-47]. فهيا نتدارس هذه الآيات.قول ربنا جل ذكره: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [المائدة:44]، التوراة الكتاب المعروف، أنزله الله تعالى على نبيه موسى بن عمران، لما استقل بنو إسرائيل وخرجوا من سلطان الفراعنة، ووصف التوراة بأن فيها الهدى إلى كل كمال وإسعاد، إلى كل إعزاز إلى كل تطهير وصفاء، وفيها نور يلوح لأصحابها لا يغشون الظلمات ولا يتخبطون في الجهل والشر والفساد، حقاً جعل الله فيها الهدى والنور.ثم أخبر فقال: يَحْكُمُ بِهَا [المائدة:44] أي: بالتوراة النَّبِيُّونَ [المائدة:44]، النبيون من عهد موسى إلى عيسى، وكانوا أكثر من ألف نبي، يحكمون بها كما نحكم نحن بالقرآن، نحل ما أحل ونحرم ما حرم، نعطي هذا حقه ونأخذ من هذا ما أخذه بالباطل.وقوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة:44]، أسلموا لله قلوبهم ووجوههم، أنت مسلم يا عبد الله؟ قال: أي نعم، قلنا: ماذا أسلمت لله؟ قلبك مع الدنيا والشهوات والأهواء، أتكذب؟ فماذا أسلمت؟ إنه يقال: أسلم الشيء يسلمه: إذا أعطاه؛ فالإسلام معناه: أن نسلم قلوبنا لله، فلا تتقلب طول حياتنا إلا في رضا الله، ونسلم وجوهنا لله، فلا ننظر إلا إلى الله، هو الذي نرهبه، هو الذي نحبه، هو الذي نطيعه ونعبده، هذا الإسلام.قال: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة:44]، وهي إشارة أفصح من عبارة؛ أن الأنبياء من عهد إبراهيم إلى عيسى كانوا مسلمين، أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، واليهود والنصارى يحاربون رسول الإسلام والمسلمين ويدعون أنهم أهل كتاب! أنبياؤكم كانوا مسلمين فكيف تكفرون بالإسلام وتحاربونه؟ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا [المائدة:44] وهم اليهود، ونعم الأنبياء الذين طبقوا التوراة وحكموا بها من عهد موسى إلى عيسى، حتى عيسى نفسه كان يطبق التوراة، إذ هي أداة الأحكام وبيان الحلال والحرام، أما الإنجيل فمواعظ وحكم، ونسخ الله به بعض الأحكام تخفيفاً على الناس. يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ [المائدة:44]، الربانيون والأحبار أيضاً يحكمون بالتوراة ويطبقونها، والربانيون: جمع رباني، ويروى أن علياً قال: إني لرباني. والأحبار جمع حبر، وعبد الله بن عباس معروف بلقب الحبر، حبر هذه الأمة، فالرباني هو العالم المتبحر في علمه المربي لغيره، هذا هو الرباني، عبد عرف الله والطريق إليه، ثم أخذ يدعو الناس إلى ذلك ويربيهم فهو يقال فيه: رباني، قطعاً هو عالم ولا شك في ذلك، ولكن زاد على كلمة العلم والمعرفة العمل ثم التربية والتعليم لغيره، والأحبار: جمع حبر، العالم الذي يبين للناس ويعرفهم بشرع الله عز وجل.
معنى قوله تعالى: (فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً...)
ثم قال تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] هذا قيل للرهبان، للربانيين والأحبار من أهل الكتاب، نهاهم أن يخشوا الناس ويخافوهم، وأوجب عليهم خشيته وخوفه، وحرم عليهم بيع الأحكام الشرعية بالأثمان المادية، عطشت، جعت، مرضت، إياك أن تتنازل عن آية واحدة من أجل صحتك أو شبعك. وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [المائدة:44]، وليس المعنى أنه يبيع الآية، بل يبيع حكمها ومعناها، يجحد معناها، فيحل ما تحمله من حرام من أجل مصلحة دنيوية، وهذا معروف. وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، هذا نزل في التوراة وعرفه الله الربانيين والأحبار ودعاهم إلى القيام به وعرفوه، وبعد ذلك ما الذي حصل؟ اشتروا بآيات الله تعالى ثمناً قليلاً، باعوا الآخرة بالدنيا، إذاً: فهم في ذلك كافرون: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وقد بعثوا من فدك أو خيبر بعثاً يحاولون أن يطبقوا أهواءهم على الشريعة وينكروا الرجم الموجود في التوراة، وعلى كل حال نذكر هذا ونحن نشاهد واقع المسلمين وما هم فيه.قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:44] فاعتاض عنه غيره أو حوله وبدله وغيره لمنافع مادية فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] حقاً وصدقاً.
تفسير قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ...)
قال تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا [المائدة:45] أي: فرضنا في التوراة القصاص: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45] بحسب قوتها وضعفها، هذا في التوراة.ثم قال تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45]، من تصدق بسنه، ما طالب بكسر السن الآخر، من تصدق بذبح أبيه فلم يطالب بذبح أبي الآخر، من تصدق بأذنه؛ أصيب بالصمم من ضربة، وترك ذلك لله؛ فهذا له ذلك: فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45] أي: لذنبه، على شرط: أنه إذا أراد التوبة الحقة أن يأتي ويقول: أنا قطعت أذن فلان، أنا كسرت سن فلان، أقيموا الحد علي، فإن عفي عن هذا كان ذلك كفارة له، فإن لم يتقدم ولم يطالب بإقامة الحد عليه وقطعت أذنه أو كسرت سنه فذلك كفارة له، أما بدون أن تقطع يده أو رجله فلا، لا بد أن يكون تاب وأتى إلى الحاكم ليقول: أقم الحد علي، أو يقوله لأهل المظلوم. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، ما الظلم؟ وضع الشيء في غير موضعه، حكم الله تعالى بقطع اليد فحكمت أنت بالسجن سبع سنين، وضعت الشيء في غير موضعه أم لا؟ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:45] واستبدل بأحكام الله أحكام الهوى وما تمليه النفوس وما تمليه الشياطين، فهل هذا ظالم أو عادل؟ والله إنه لظالم، حكم الله بين أيدينا: فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، تقدم إليه خصمان فحكم بالباطل لأحدهما مقابل رشوة، وضع الحكم في غير موضعه، فهو ظالم، كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو ظالم.

يتبع

ابوالوليد المسلم
15-06-2021, 04:49 AM
معنى قوله تعالى: (فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً...)
ثم قال تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] هذا قيل للرهبان، للربانيين والأحبار من أهل الكتاب، نهاهم أن يخشوا الناس ويخافوهم، وأوجب عليهم خشيته وخوفه، وحرم عليهم بيع الأحكام الشرعية بالأثمان المادية، عطشت، جعت، مرضت، إياك أن تتنازل عن آية واحدة من أجل صحتك أو شبعك. وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [المائدة:44]، وليس المعنى أنه يبيع الآية، بل يبيع حكمها ومعناها، يجحد معناها، فيحل ما تحمله من حرام من أجل مصلحة دنيوية، وهذا معروف. وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، هذا نزل في التوراة وعرفه الله الربانيين والأحبار ودعاهم إلى القيام به وعرفوه، وبعد ذلك ما الذي حصل؟ اشتروا بآيات الله تعالى ثمناً قليلاً، باعوا الآخرة بالدنيا، إذاً: فهم في ذلك كافرون: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وقد بعثوا من فدك أو خيبر بعثاً يحاولون أن يطبقوا أهواءهم على الشريعة وينكروا الرجم الموجود في التوراة، وعلى كل حال نذكر هذا ونحن نشاهد واقع المسلمين وما هم فيه.قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:44] فاعتاض عنه غيره أو حوله وبدله وغيره لمنافع مادية فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] حقاً وصدقاً.
تفسير قوله تعالى: (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة...)
ثم يقول تعالى: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ [المائدة:46]، والحديث كله عن بني إسرائيل، فمن عند قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41] وهو يعلمه، وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:46]، قفينا على آثار الأنبياء والأحبار والربانيين بعيسى ابن مريم، وعيسى ابن مريم لا أب له، وإنما كان بكلمة (كن) الإلهية فكان، هذا هو روح الله، وكلمة الله التي ألقاها إلى مريم ، عيسى ابن مريم، ومعنى مريم: خادمة الله، يا من يسمي ابنته مريم! لتعلم أن معناها خادمة الله وعابدته. وهل تعرفون عن مريم هذه شيئاً؟ النصارى يعرفون عنها الترهات والأباطيل، واليهود يعرفون عنها الكذب والضلال والبهتان، ونحن نعرف عنها أنها بنت عمران، أمها حنة عليها السلام كانت لا تلد، فيها عقم أو عقر، وتاقت نفسها إلى الولد كسائر النساء اللائي لم يلدن إلى اليوم، فشاء الله أن تدخل حديقة المنزل وإذا بها تشاهد عصفوراً يزق أفراخه، العصور الصغير يأتي بالطعام في فيه ويصبه في أفواه أفراخه، فجاشت نفسها وهاجت من ذلك المنظر، وقالت: يا رب! إن أعطيتني ولداً فهو لك، خاص بعبادتك، نذرت لربها هذا النذر، وشاء الله أن تحمل، وحملت بـمريم ، وقالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا [آل عمران:36] خادمة الله مَرْيَمَ [آل عمران:36]، استعجبت من كونها ولدتها بنتاً، هي نذرت الولد لله يخدمه، بالجهاد، العلم، التعليم، ما يخدمها في شيء أبداً، ولا يأتيها بالماء، لكن البنت كيف تخدم الله إلا إذا حبست في مقصورة تعبد الله.وهذه الربانية وضعتها في قماطة وقالت لخادمة: اعرضيها على علماء بني إسرائيل من يأخذها؛ فهذه نذيرة الله، أنا نذرتها لله، فعرضتها على علماء بني إسرائيل الربانيين، وعلى رأسهم زكريا أبو يحيى، فكل تاقت نفسه لأن يأخذها؛ لأنها بنت رجل صالح توفي وهي في بطن أمها يتيمة، وقبل ذلك هي نذيرة، أي: منذورة لله، فمن يكرمه الله بأن تتربى في بيته؟ فاضطروا إلى القرعة، اضطروا إلى استعمال القرعة أو الاستهام، فجمعوا أقلامهم، هاتوا أقلامكم الطاهرة التي تكتب التوراة وتكتب العلم الرافع للإنسان والمطهر له، فجمعوا أقلامهم، وقالوا: نلقيها في النهر، فالذي وقف قلمه في الماء هو الذي أعطاه الله هذه النذيرة، أخذوا القلم الأول فكان يدحرجه الماء، والثاني يدحرجه الماء، ولما جاء قلم زكريا وقف كأنما غرس بالطين، قال تعالى: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، من الذي كفلها زكريا؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه، أخذها زكريا، وزوجته أخت لـمريم ، فهي عند خالتها، وزكريا نبي لله وأب لرسول الله، فماذا يصنع؟ تركها في مقصورة في المحراب في المسجد، ويأتيها بالطعام والشراب، وهي تتوضأ وتصلي، ما هناك مهمة إلا هذه، تذكر الله وتسبحه وتظل راكعة ساجدة، لهذا خلقت، ولهذا نذرتها أمها، وسبحان الله! كان إذا جاءها بالغداء والعشاء يجد عندها فاكهة في الشتاء وهي فاكهة الصيف، يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، فتعجب وقال لها: أَنَّى لَكِ هَذَا [آل عمران:37] يا مريم ؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37] هذه ربانية أم لا؟ قالت: هُوَ [آل عمران:37] أي: هذا اللون من الطعام من عند الله عز وجل، لا إله إلا الله، الله يخرق السنة ويبطلها إذا شاء، يبطل العادات، ففاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38]، أفاق من غفلة ما كانت تخطر على باله: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38] ماذا قال؟ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:38-39]، أين وجدته؟ هل في الحفل؟ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:39] بلغته رسالة الله: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ [آل عمران:39]، هذا يحيى، مصدقاً بكلمة من الله، أول من آمن بعيسى هو، قال: عيسى عبد الله ورسوله. إذاً: فلما بلغت الملائكة البشرى لنبي الله زكريا عليه السلام قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [آل عمران:41]، حتى أعرف الخبر هذا كيف يتم، ومتى يتم، اجعل لي علامة يا رب؟ قال: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41]، آيتان في هذا الباب، ثلاث ليالٍ سوياً ما يستطيع أن يتكلم مع أحد ولكن يذكر الله بأعلى صوته، في ذكر الله وتسبيحه وتقديسه تجد لسانه منطلقاً أفصح منا، لكن: أعطني الماء، صب كذا كل ذلك لا يستطيعه إلا رمزاً بالإشارة، فهل هذه أعظم آية أم لا؟ الفصيح البليغ يتكلم بما شاء وهنا ما يستطيع أن يتكلم بغير ذكر الله أبداً، ويطلب حاجته بالإشارة! إذاً: هذه بشرى الله لزكريا، وزكريا هذا دخل تحت شجرة هرب إليها وفتحت الشجرة أغصانها ودخل فيها فنشره اليهود بالمنشار مع الشجرة، ماذا فعل اليهود؟ قتلوا والده زكريا أولاً وقتلوا ولده يحيى، رسولان نبيان، ومريم العذراء البكر عليها السلام وهي في محرابها تبشر أيضاً ويأتيها رسول الله جبريل يبشرها فتتعجب: قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:20] كيف؟ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ [مريم:21].وما هي إلا أن هزها الطلق فلجأت إلى نخلة، وما إن وضعت حتى نطق عيسى: إني عبد الله. هذه هي مريم، ولدت عيسى من بطنها، نفخ جبريل في كم درعها فسرت النفخة إلى بطنها فقال الله: كن فكان، ففي ساعة واحدة وهي تبحث عن موضع الولادة، فَانتَبَذَتْ بِهِ [مريم:22] على الفور مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:22-25] في الشتاء تتساقط عليك الرطب.والشاهد عندنا ذكر عيسى بن مريم، فاليهود يقولون: عيسى ساحر لأنه يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأعمى والأبرص، هذا من سحره، وأمه يقولون عنها: فاجرة عاهرة إلى الآن، والنصارى قالوا: هذا ابن الله. وبعضهم قالوا: لا. هذا هو الله، هو الإله. وتخبطوا وضلوا لأن نور الله عموا عنه وأبوا أن ينظروا إليه، فالقرآن الذي أنزله الله هو الذي فيه بيان الحق في عيسى وأمه، عيسى عبد الله ورسوله وأمه مؤمنة طيبة صديقة، هكذا وصفها الله بالصديقية: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75].
معنى قوله تعالى: (وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة...)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ [المائدة:46] أولئك الأنبياء والرسل والربانيون والأحبار بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [المائدة:46]أي: من التوراة، وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ [المائدة:46] الإنجيل كتاب الله رابع الكتب الأربعة المعروفة عندنا في عقيدتنا: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فالقرآن الكريم هو الفرقان. ماذا في الإنجيل؟ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ [المائدة:46] لا يتنافى أبداً مع التوراة إلا ما نسخه الله من بعض الأحكام، وفيما عدا ذلك الإنجيل يوافق التوراة مثل القرآن مصدق الذي بين يديه من الإنجيل والتوراة. قال: وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [المائدة:46] فيه الهداية لسبل الرشد والخير، وفيه المواعظ للمتقين ينتفعون بها، الإنجيل أكثره مواعظ وحكم.
تفسير قوله تعالى: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه...)
ثم قال تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ [المائدة:47] أيضاً، فكما على أهل التوراة أن يحكموا بالتوراة كذلك على أهل الإنجيل أن يحكموا بالإنجيل. أولاً: أين الإنجيل؟ أصبح خمسة أناجيل فكيف يعرف الحق فيه؟ الإنجيل كان إنجيلاً واحداً فزيد فيه أربعة أناجيل أخرى فضاع الحق وما أصبح له وجود، لكن لو حكموه لوجدوا نعوت الرسول وصفاته، وأن من لم يؤمن بالنبي الخاتم هو كافر، ولكانوا آمنوا، فوالله إن به لنعوتاً لرسول صلى الله عليه وسلم وصفات له، وفيه الأمر بالإيمان به والدخول في دينه، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه لا بما افتراه المفترون وكذب به الكاذبون. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] الخارجون عن طاعة الله ورسوله البعيدون عن الحق وأنواره، هذا قضاء الله تعالى وحكمه عليهم.
طريق العودة إلى تحكيم شرع الله تعالى
والآن المسلمون من إندونيسيا إلى موريتانيا -باستثناء هذه البلاد- لم لا يحكمون القرآن؟ لم يتحاكمون إلى غيره؟ ماذا نصنع؟ نقول: الجهل، جهلوهم وأضلوهم وأبعدوهم عن طريق الله فهم في متاهاتهم. لو عادوا إلى الكتاب والسنة في يوم ما لحكموا شرع الله، وهنا بلغوا أنه لو أراد أهل بلد من بلادنا الإسلامية -لا أقول: أهل إقليم ولا دولة- أهل بلد فقط لو أرادوا أن يحكموا شرع الله فما أيسر ذلك وأسهله، يجتمعون في مسجدهم الجامع بنسائهم وأطفالهم، كل ليلة يصلون المغرب والعشاء ويتعلمون الكتاب والسنة، عام واحد وإذا بهم أطهاراً أصفياء أرقاء القلوب أزكياء الأرواح والنفوس، ومن ثم إذا حصل خلاف بين مؤمن وآخر فبدل أن يذهبوا إلى الشرطة أو الحاكم يأتون إمام المسجد يعرضون عليه القضية ويحلونها بالموعظة الحسنة، ويعيشون دهوراً لا يحكمون غير كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. لو أن أهل بلد من البلاد أخذوا على أنفسهم أن يجتمعوا كل ليلة طول عمرهم في بيوت الله التي بنوها بأيديهم، يصلون المغرب كما صليناها ويجلسون جلوسنا هذا ويتلقون الكتاب والحكمة حتى يؤذن العشاء فيصلون العشاء، أقول: والله بعد عام فقط يندر أن تظهر بينهم معصية، لا شرب خمر ولا حشيشة ولا زنا ولا لواط ولا ربا ولا كذب ولا قتل ولا اعتداء. وإن حصل شيء من هذا النوع مرة في مسجدهم فترفع قضيته إلى إمامهم ومربيهم ويصلح ما بينهم ويتسامحون، وما هم في حاجة إلى أن يقدموا قضيتهم إلى حاكم يحكم بغير ما أنزل الله، فلم لا نفعل هذا؟ لأن العدو من الإنس والجن لا يريدون أن يسعد المسلمون ويكملوا، وإلا فهذا الطريق ماذا يكلفهم؟ يعملون لدنياهم من بعد صلاة الصبح إلى قبل غروب الشمس في المصانع والمتاجر والمزارع، مالت الشمس إلى الغروب في الساعة السادسة فتوضئوا وتطهروا وغيروا ملابس العمل وجاءوا بأطفالهم ونسائهم إلى بيت ربهم الأطفال صفوف والنساء وراءهم والرجال والفحول أمامهم، بعد الصلاة مباشرة يأخذون ليلة آية من كتاب الله وأخرى حديثاً من أحاديث الرسول، العام فيه ثلاثمائة وستون ليلة، فيحفظون ثلاثمائة وستين آية وحديثاً، ويفهمون معانيها ويطبقونها كل ليلة، ما إن يعلموا الحكم في تلك الليلة حتى يطبقوه على أنفسهم ويتحلوا به على الفور، سواء كان أدباً أو خلقاً أو عقيدة أو عبادة. أسألكم بالله! بعد عام واحد كيف يكون أهل القرية؟ هل يبقى فيهم اللصوص والمجون والكذب والخيانة؟ هل تصدر فتيا من إمام المسلمين بأن الدش حرام ويعملونه؟ والله ما يعملونه. فهذا مثال. ومن ثم لا يحكمون غير شرع الله وغير كتاب الله أبداً ولا يلتفتون إلى حكومتهم ولا إلى باطلهم، مؤمنون مسلمون يتسامحون، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45]، يقول: تصدقت بدمي على أخي، ويباركه أهل الحي كلهم ويكبرون ويهللون. فكيف نعود؟ ما هناك طريق يا أبناء الإسلام إلا أن علماءنا يحملون هذه الرسالة ويتحولون إلى ربانيين، فيجمعون أهل القرية ويأتون إلى غنيهم وفقيرهم وإلى عالمهم وجاهلهم ليجمعوهم في بيوت الله في هذه الساعة من الليل ما بين المغرب والعشاء. ويأخذون بتزكية أنفسهم وتهذيب أرواحهم وتهذيب آدابهم وأخلاقهم، وهم يشاهدون ذلك يوماً بعد يوم، ما يسمعون بحادثة وقعت في القرية، ما يشاهدون جائعاً ولا عارياً ولا مظلوماً؛ لأنهم كجسم واحد ثبتت لهم ولاية الله، لو رفعوا أيديهم إلى الله أن يزيل الجبال لأزالها، ما المانع من هذا؟ سواء كنا في فرنسا أو إيطاليا أو ألمانيا أو بلجيكا وأمريكا، أبواب الله مفتوحة لا منع أبداً، فكيف ببلاد المسلمين وحكومات المسلمين، هل يمنعونهم أن يجتمعوا في بيوت الله؟ على سبيل المثال: أنصار السنة في الديار المصرية هل أغلقت مساجدهم؟ هل حوربوا؟ هل سجنوا؟ هل قتل منهم أحد؟ لم؟ لأن المسلك رباني، يتعلمون كيف يعبدون الله، هذا مثال فقط. أما الإثارات والتكالب على الدنيا وما إلى ذلك فهو الذي يسبب تلك الفتن، ومع هذا أقول: في أي مسجد يجتمع المسلمون على كتاب الله وسنة رسوله لا يؤذيهم أحد أبداً. وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
15-06-2021, 04:50 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (17)
الحلقة (327)
تفسير سورة المائدة (24)


بعد أن ذكر الله سبحانه إنزاله التوراة والإنجيل وما فيهما من الهدى والنور، أردف ذلك بذكر إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه مهيمن على كل الكتب التي نزلت قبله، لذلك فإن الحكم الذي يحكم به القرآن هو حكم الله سبحانه وتعالى، سواء وافق ما في التوراة والإنجيل أو لم يوافق، فهو الدستور الذي تقوم به الأمة، ومهما طلب الحق من غيره فإنما هو تحاكم إلى الأهواء والرغبات الشخصية والأعراف الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة، وها نحن مع هذه الآيات المباركات، أسمعكم تلاوتها أولاً ثم أعود بكم إلى بعض الأحكام التي درسنا آيها في الليلة الماضية. قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:48-50].
هداية الآيات
الآيات التي درسناها بالأمس أشير إلى هداياتها، فقد كانت تتضمن هذه الهدايات. يقول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات: أولاً: وجوب خشية الله بأداء ما أوجب وترك ما حرم ].في الآيات التي تدارسناها البارحة هذه الهداية، وهي وجوب خشية الله، وذلك بأداء وفعل ما أوجب والبعد عما نهى وحرم، فهذا أمر واجب، وجوب خشية الله أي: الخوف من الله بأداء ما أوجب وترك ما حرم، والذي يقول: أنا أخاف الله وأنا أخشاه ولا يفعل واجباً ولا يترك الحرام هل يصدق؟ لا يصدق؛ لأن الخشية خوف النفس وخوف القلب، فالذي خافت نفسه واضطربت ما يقدم على معصية الله فيتعرض لغضبه وعذابه. [ ثانياً: كفر من جحد أحكام الله فعطلها أو تلاعب بها فحكم بالبعض دون البعض ].كفر من جحد أحكام الله فقال: لا أعترف بهذه الشريعة ولا بما تحمله من أحكام في الدماء والحدود في الأموال في العبادات في العقائد، قطعاً هذا كافر، ومن يقول: ليس بكافر؟ كفر من جحد أحكام الله فعطلها، ولو وطبقها لكان الأمر غير هذا، لكن جحدها فعطلها أو تلاعب بها فحكم بالبعض دون البعض، فهذا كافر. [ ثالثاً: وجوب القود في النفس]، والقود هو قتل النفس بالنفس، [ والقصاص في الجراحات؛ لأن ما كتب على بني إسرائيل كتب على هذه الأمة ]، قال تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45].

يتبع

ابوالوليد المسلم
15-06-2021, 04:51 AM
ذكر بعض أحكام الديات
وهنا لا بأس أن نعلم بعض الأحكام، فالذي عليه أكثر أئمة الإسلام وهداته رحمهم الله أن المسلم لا يقتل بالذمي، المسلم لا يقتل بالذمي الكتابي اليهودي أو النصراني، فكلمة (النفس بالنفس) هذا اللفظ عام قيده رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أوحى الله إليه إذ قال: ( لا يقتل مسلم بكافر )، وسر ذلك هو أن المؤمن يذكر الله ويشكره ويعبده ولذلك خلقه ربه، والكافر لا يذكر ولا يشكر، فعطل الحياة كلها فلا قيمة لوجوده. فلو سألتم وأنتم أهل الإسلام: ما السر في خلق هذا الوجود؟ فالجواب: أراد الله أن يذكر ويشكر فأوجد هذه الحياة وأوجد آدم وذريته وأوحى إليهم أن: اعبدوني بالذكر والشكر، فمن ذكر وشكر رفعه إليه وأسكنه بجواره بعد موته، ومن ترك الذكر والشكر وكفر أنزله إلى الدركات السفلى من عالم الشقاء، فالذي يذكر الله ويشكره هل يجوز أن توقف ذلك الذكر والشكر منه بقتله؟ الجواب: لا. والذي لا يذكر ولا يشكر ما فائدة وجوده؟ لا شيء، فيقتل، هل فهتم هذا السر؟ فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يقتل مسلم بكافر )، سواء كان ذمياً أو غير ذمي، إذاً: يعطى وليه نصف دية المؤمن وكفى. ثانياً: لا خلاف أن في العينين دية، فمن فقأ عيني إنسان مؤمن فعليه دية، والدية مائة بعير أو قيمتها بالدراهم والدنانير، إذا فقأ الاثنتين ففي العينين الدية، وفي الواحدة نصف الدية، فقأ عين مؤمن بأن ضربه، لكمه، بحربه، بعود فأصبح لا يبصر فعليه نصف الدية. وفي عين الأعور الدية كاملة، ما عنده إلا هذه العين، خلق أعور أو أصابه مرض فعميت عينه، فصاحب العين الواحدة إذا فقئت عينه وجبت الدية كاملة، بخلاف ذي العينين حيث بقيت له عين يبصر بها فيأخذ نصف الدية، هذا كله إن لم يعف ويتصدق. وفي الأنف إذا جدع -قطع من هنا إلى آخره- الدية كاملة، فالأنف هو مظهر جمال الإنسان، إذا جدع وقطع فيه الدية كاملة، هذا الذي عليه جمهور أئمة الإسلام عليهم السلام. والدية في ذهاب السمع،ى أما مع بقاء شيء من السمع ففيه حكومة، يعني: اللجنة المختصة بهذا تقدر وتحكم بشيء، فلو ذهب السمع كله فأصبح أصم لا يسمع وجبت الدية، لكن إذا كان بقي له السمع وأوذي في سمعه ففيه الحكومة، فالقاضي ورجاله يحكمون بما يجب له. وفي السن الذي نزع أو كسر خمس من الإبل، السن بخمس من الإبل، كسر سنه أو قلعها بخمس من الإبل، للحديث الصحيح في ذلك. وفي الشفتين -إذا نزع شفته العليا والسفلى وتركه بأسنانه- الدية، وفي الواحدة نصف الدية، في الشفتين معاً الدية كاملة مائة بعير أو قيمتها، وفي الشفة الواحدة العليا أو السفلى نصف الدية. واختلف في دية المرأة، والذي عليه أمر الأمة أن المرأة ديتها نصف دية الرجل، وفيما دون النفس أصبعها كأصبع الرجل وسنها كسنه، وهذا أحسن ما قيل، فإذا بلغت ثلث الدية عادت بعد ذلك إلى النصف من دية الرجل. هذا كله مأخوذ من قول ربنا عز وجل: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا [المائدة:45] أي: في التوراة المنزلة على موسى عليه السلام أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45]، في الموضحة وفي أنواع الجروح الأطباء يقدرون ذلك والقاضي يحكم. ثم قال تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ [المائدة:45] لوجه الله فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45]، جرحتني أو كسرت مني سني فتركت ذلك لله، قتلت أبي فتنازلتُ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45]، كفارة لذنوبه، وقد ذكرت لكم أن القصاص كفارة، فمن قتل هل يبقى عليه إثم وقد قتل؟ القصاص كفارة لأصحابه، قطع يداً فقطعت يده فهل بقي عليه شيء؟ انتهى.لكن يحصل على الأجر إذا تقدم للمحكمة وقال: أقيموا علي الحد فإني تبت، أنا قتلت فلاناً والآن أطلب منكم القصاص. بعد هذا نعود إلى آياتنا المباركات فلنستمع إليها من الشرح.
هداية الآيات
الآيات التي درسناها بالأمس أشير إلى هداياتها، فقد كانت تتضمن هذه الهدايات. يقول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات: أولاً: وجوب خشية الله بأداء ما أوجب وترك ما حرم ].في الآيات التي تدارسناها البارحة هذه الهداية، وهي وجوب خشية الله، وذلك بأداء وفعل ما أوجب والبعد عما نهى وحرم، فهذا أمر واجب، وجوب خشية الله أي: الخوف من الله بأداء ما أوجب وترك ما حرم، والذي يقول: أنا أخاف الله وأنا أخشاه ولا يفعل واجباً ولا يترك الحرام هل يصدق؟ لا يصدق؛ لأن الخشية خوف النفس وخوف القلب، فالذي خافت نفسه واضطربت ما يقدم على معصية الله فيتعرض لغضبه وعذابه. [ ثانياً: كفر من جحد أحكام الله فعطلها أو تلاعب بها فحكم بالبعض دون البعض ].كفر من جحد أحكام الله فقال: لا أعترف بهذه الشريعة ولا بما تحمله من أحكام في الدماء والحدود في الأموال في العبادات في العقائد، قطعاً هذا كافر، ومن يقول: ليس بكافر؟ كفر من جحد أحكام الله فعطلها، ولو وطبقها لكان الأمر غير هذا، لكن جحدها فعطلها أو تلاعب بها فحكم بالبعض دون البعض، فهذا كافر. [ ثالثاً: وجوب القود في النفس]، والقود هو قتل النفس بالنفس، [ والقصاص في الجراحات؛ لأن ما كتب على بني إسرائيل كتب على هذه الأمة ]، قال تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45].
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:من هداية الآيات: أولاً: وجوب الحكم وفي كل القضايا بالكتاب والسنة ]، وجوب الحكم وفي كل القضايا حتى في سرقة مكنسة، ما هناك شيء لا يوجد له حكم في الكتاب والسنة، يجب الحكم في كل القضايا بماذا؟ بقانون فرنسا، إيطاليا، الأمم المتحدة؟ بل بالكتاب والسنة، قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم. هل يضيق القرآن والسنة عن أحداث الناس؟ والله لا يضيقان أبداً، عرفنا هذا من قوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:49]، هذا أمر الله للرسول أم لا؟[ ثانياً: لا يجوز تحكيم أية شريعة أو قانون غير الوحي الإلهي الكتاب والسنة ]، لأن القوانين أهلها جهال عميان لا بصيرة لهم ولا عدل فيها ولا رحمة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نحن عبيد الله فرض علينا وألزمنا أن نتقاضى ونتحاكم إليه، فإن قلنا: لا فقد كفرنا به وأعلنا الحرب عليه.وهل تتصورون أن هيئة من الهيئات العليا في العالم تستطيع أن توجد حكماً رحيماً عادلاً أكثر من أحكام الله؟ والله ما كان ولن يكون أبداً، فلا يجوز تحكيم أية شريعة أو أي قانون غير الوحي الإلهي الكتاب والسنة. [ ثالثاً: التحذير من اتباع أهواء الناس خشية الإضلال عن الحق ]، فالذي يتبع أهواء الناس وميولهم وما يريدون فإنهم -والله- يضلونه، فالرسول حذره الله أم لا؟ أما تآمروا وقالوا: هيا نقول له: نحن علماء، وإذا آمنا به اتبعك ناس وآمنوا، ولكن احكم بيننا بالباطل. فلو اتبعهم فماذا سيحصل؟ لكن حذره: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ [المائدة:49]. [ رابعاً: بيان الحكمة من اختلاف الشرائع وهو الابتلاء ]، لماذا يباح لهؤلاء كذا ويمنع عن هؤلاء كذا ويعطى هؤلاء ولا يعطى هؤلاء، لماذا؟ للامتحان للابتلاء، مولانا يبتلينا ليرى المطيع منا والعاصي، فيسعد ويكمل المطيع ويشقي ويعذب العاصي، فلهذا تجد الخلاف في الدول. [ خامساً: أكثر المصائب في الدنيا ناتجة عن بعض الذنوب ]، أكثر المصائب والويلات والفقر والمرض والذل والهون والحرب والفتن -والله العظيم- ناتجة عن الذنوب، أما قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ [المائدة:49]، والأظهر من هذه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
[ سادساً: حكم الشريعة الإسلامية أحسن الأحكام عدلاً ورحمة ]، إي ورب الكعبة، إي والله، حكم الشريعة الإسلامية أحسن الأحكام عدلاً ورحمة، فلو حكمنا اليهود أو النصارى في قضايا لكان أعدل وأرحم لهم، لكن لا يحكمون ولا نحكم، لا نحكم عليهم ولا لهم حتى يذعنوا لله ويدخلوا في رحمته، أما وهم مصرون على الكفر والشرك والعياذ بالله فحسبهم ذلك. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
15-06-2021, 04:52 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (18)
الحلقة (328)
تفسير سورة المائدة (25)


نهى الله عباده المؤمنين عن موالاة غير المؤمنين من اليهود والنصارى، وترك موالاة المؤمنين، لأن اليهودي هو ولي اليهودي، والنصراني هو ولي النصراني، ومن والى اليهود والنصارى من المؤمنين أصبح مثلهم فيحرم هداية الله سبحانه وتعالى، لأن الله لا يهدي القوم الظالمين، وأما المنافقون الذين في قلوبهم مرض فيظنون أن ولايتهم لهؤلاء تجعلهم في مأمن إذا دارت عليهم الدوائر، لكن الله عز وجل يبشر أولياءه المؤمنين بالفتح والتمكين وأن المنافقين سيصبحون نادمين.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل القرآن العظيم؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا الخير واجعلنا من أهله يا رب العالمين!وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الأربع، فهيا نتلوها ثم نتدبرها ثم نضع أيدينا على المطلوب منا فيها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ [المائدة:51-53]. هذه الآيات نزلت هنا في المدينة والنفاق له صولة، فتأملوا كيف تجري هذه الأحداث.
معنى قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)
قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] ومن تشبه بقوم فهو منهم، هذا الذي أراد أن يكون مثل فلان أخذ يجاهد نفسه لأن يكون مثله في منطقه في نظره في مشيته في أكله في شربه في معاملته، فهل يصبح مثله أم لا؟ ما هناك شك. امرأة أرادت أن تتشبه بعاهرة فتتشبه بها في منطقها حين تنطق، في لباسها، في مشيتها، في حركاتها، لا تزال تتكلف ذلك حتى تكون مثلها، رجل رأى شجاعاً فأحبه فأراد أن يكون مثله فأخذ يتشبه به في حمله السلاح وفي إلقائه وفي الوقوف فلا يبرح أن يكون مثله. فمن تشبه بقوم فهو منهم، والتشبه أن يقصد ويريد ويرغب في أن يكون مثله، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( المرء مع من أحب )، فمن ينقض هذه؟ المرء -أي: الإنسان- مع من أحب، فإن أحب فاسقاً فهو معه لأنه سيعمل الفسق مثله، من أحب عبداً صالحاً حباً حقيقياً فهو معه لأنه سيعمل بعمله حتى يكون مثله، وهكذا. ( المرء مع من أحب ) و( من تشبه بقوم فهو منهم )، والله تعالى هنا يقول: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ [المائدة:51] يا معشر المؤمنين فهو منهم، الذي يتولى اليهود والنصارى ويحبهم وينصرهم على الإسلام والمسلمين فهو والله منهم. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51] تعليل، فكونه منهم لماذا؟ لأن الله لا يهدي القوم الظالمين، أحب الكافرين ونصرهم، أليس هذا هو الظلم؟ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، بدل أن يحب المؤمنين وينصرهم أحب الكافرين ونصرهم فهو ظالم أم لا؟ والظالم هل يهديه الله إلى ما فيه سعادته وكماله؟ والجواب: لا، فهذا تعليل: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].

يتبع

ابوالوليد المسلم
15-06-2021, 04:52 AM
تفسير قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ...)
ثم قال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [المائدة:52] أي: مرض النفاق، والنفاق إظهار الإسلام والسلوك العملي في الصلاة أمام الناس حتى الجهاد، وإبطان الكفر وإسراره وإخفاؤه. فهذا رئيس المنافقين كان حليفاً لبعض اليهود، وعبادة بن الصامت كان حليفاً أيضاً لبعضهم، فاختلفا: فـعبادة بن الصامت تبرأ من أولئك اليهود، ولجأ إلى الله وركن إليه، وأما ابن أبي -وهو المريض- فسارع في موالاتهم ونصرتهم والتملق إليهم والاختلاء بهم والتحدث معهم، ويعلل ذلك فيقول: نخشى أن تصيبنا دائرة. يقول: لو أن الرسول مات أو الإسلام انكسر وانهزم فإلى من نفزع إذا لم نتخذ إخواناً لنا وأصدقاء من اليهود؟ وهذا التعليل واضح ويعلله كل إنسان. يقولون: يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52] من الدوائر: فقر أو حرب تأتينا فينكسر الإسلام والمسلمون فماذا نصنع؟ لا بد أن يكون لنا يد عند هؤلاء الجيران من إخواننا اليهود! هذه كلمته وهي كلمة كل من فيه مرض النفاق إلى يوم القيامة، الذي يواد الكافر وينصره ويقف إلى جنبه يقول: نخشى أن نصبح في يوم من الأيام في حاجة إليهم. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم [المائدة:52]، ما قال: يسارعون إليهم؛ لأنهم ما خرجوا عنهم، يقولون معللين ذلك: نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52] قال الله تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52] و(عسى) من الله تفيد التحقيق. فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة:52] فتح خيبر وما دونها وفتح مكة، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [المائدة:52] بأن يكشف أسماءهم في القرآن فتنزل آيات تفضحهم؛ فيصبحوا حينئذ على ما أسروا في أنفسهم من النفاق نادمين.
معنى قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)
قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] ومن تشبه بقوم فهو منهم، هذا الذي أراد أن يكون مثل فلان أخذ يجاهد نفسه لأن يكون مثله في منطقه في نظره في مشيته في أكله في شربه في معاملته، فهل يصبح مثله أم لا؟ ما هناك شك. امرأة أرادت أن تتشبه بعاهرة فتتشبه بها في منطقها حين تنطق، في لباسها، في مشيتها، في حركاتها، لا تزال تتكلف ذلك حتى تكون مثلها، رجل رأى شجاعاً فأحبه فأراد أن يكون مثله فأخذ يتشبه به في حمله السلاح وفي إلقائه وفي الوقوف فلا يبرح أن يكون مثله. فمن تشبه بقوم فهو منهم، والتشبه أن يقصد ويريد ويرغب في أن يكون مثله، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( المرء مع من أحب )، فمن ينقض هذه؟ المرء -أي: الإنسان- مع من أحب، فإن أحب فاسقاً فهو معه لأنه سيعمل الفسق مثله، من أحب عبداً صالحاً حباً حقيقياً فهو معه لأنه سيعمل بعمله حتى يكون مثله، وهكذا. ( المرء مع من أحب ) و( من تشبه بقوم فهو منهم )، والله تعالى هنا يقول: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ [المائدة:51] يا معشر المؤمنين فهو منهم، الذي يتولى اليهود والنصارى ويحبهم وينصرهم على الإسلام والمسلمين فهو والله منهم. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51] تعليل، فكونه منهم لماذا؟ لأن الله لا يهدي القوم الظالمين، أحب الكافرين ونصرهم، أليس هذا هو الظلم؟ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، بدل أن يحب المؤمنين وينصرهم أحب الكافرين ونصرهم فهو ظالم أم لا؟ والظالم هل يهديه الله إلى ما فيه سعادته وكماله؟ والجواب: لا، فهذا تعليل: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم ...)
والآيات تعالج أمر المنافقين، وقد برئ وسلم منهم المئات، فتأملوا هذه: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:53] لما يأتي الفتح أو تأتي آيات تفضح المنافقين وتزيل الستار عنهم، يقول الذين آمنوا: أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ [المائدة:53]؛ لأن المنافقين يحلفون بالله أشد الأيمان أنهم مؤمنون وأنهم معهم، يأتي ابن أبي إلى الروضة ويقف ويقول ما حكى الله تعالى عنهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]. يحسنون التعبير ومنطقهم سليم ويضللون بهذا المؤمنين، وها هو ذا عز وجل يكشف الستار عنهم ويفضحهم، يقول تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ [المائدة:53] انظر كيف حبطت أعمالهم فاصبحوا من الخاسرين.
معنى قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)
قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] ومن تشبه بقوم فهو منهم، هذا الذي أراد أن يكون مثل فلان أخذ يجاهد نفسه لأن يكون مثله في منطقه في نظره في مشيته في أكله في شربه في معاملته، فهل يصبح مثله أم لا؟ ما هناك شك. امرأة أرادت أن تتشبه بعاهرة فتتشبه بها في منطقها حين تنطق، في لباسها، في مشيتها، في حركاتها، لا تزال تتكلف ذلك حتى تكون مثلها، رجل رأى شجاعاً فأحبه فأراد أن يكون مثله فأخذ يتشبه به في حمله السلاح وفي إلقائه وفي الوقوف فلا يبرح أن يكون مثله. فمن تشبه بقوم فهو منهم، والتشبه أن يقصد ويريد ويرغب في أن يكون مثله، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( المرء مع من أحب )، فمن ينقض هذه؟ المرء -أي: الإنسان- مع من أحب، فإن أحب فاسقاً فهو معه لأنه سيعمل الفسق مثله، من أحب عبداً صالحاً حباً حقيقياً فهو معه لأنه سيعمل بعمله حتى يكون مثله، وهكذا. ( المرء مع من أحب ) و( من تشبه بقوم فهو منهم )، والله تعالى هنا يقول: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ [المائدة:51] يا معشر المؤمنين فهو منهم، الذي يتولى اليهود والنصارى ويحبهم وينصرهم على الإسلام والمسلمين فهو والله منهم. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51] تعليل، فكونه منهم لماذا؟ لأن الله لا يهدي القوم الظالمين، أحب الكافرين ونصرهم، أليس هذا هو الظلم؟ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، بدل أن يحب المؤمنين وينصرهم أحب الكافرين ونصرهم فهو ظالم أم لا؟ والظالم هل يهديه الله إلى ما فيه سعادته وكماله؟ والجواب: لا، فهذا تعليل: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
في هذه الآيات الأربع أربع هدايات:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: حرمة موالاة اليهود والنصارى وسائر الكافرين ].الموالاة: الحب والنصرة، أما أن تتعامل معه، أما أن تتجر معه، أما أن تستخدمه، أما أن يستخدمك، أما أن تحالفه على حرب معينة؛ فهذا أمره واسع، والممنوع الذي لا يصح لا في اليوم الحاضر ولا الآتي، ولا أيام الرسول صلى الله عليه وسلم هو حبك لهم من قلبك ونصرتهم على إخوانك، لو أعلن اليهود الحرب -مثلاً- على الأردن، هل يجوز للمؤمنين أن يقاتلوا معهم؟ مستحيل، لا يمكن أبداً، مثلاً: دولة أوروبية غزت بلداً إسلامياً، هل يجوز للمسلمين أن يقاتلوا معهم؟ لا يجوز، وإن كان بينهم حلف فإنهم لا يقاتلون معهم المؤمنين، يقاتلون معهم الكافرين ولا بأس، حين نعقد الحلف نقول: إذا قاتلتم إخواننا المؤمنين فلن نقاتلهم معكم، وإن قاتلتم كافرين غير مؤمنين فسننصركم، وبهذا تجري الاتفاقيات.إذاً: حرمة موالاة اليهود والنصارى وسائر الكافرين، من أين أخذنا هذه؟ من قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [المائدة:51].[ ثانياً: موالاة الكافر على المؤمن تعتبر ردة عن الإسلام ]، الكافر يؤذي المؤمنين ويحقرهم وأنت تقف إلى جنبه وتنصره! هذا يسلخ عبد الله من الإيمان، لا يبقى مؤمناً أبداً، لو نصره على كافر فلا بأس إذا كان بينهم اتفاقية، أما أن ينصر الكافر على المؤمن فموالاة الكافر على المؤمن تعتبر ردة عن الإسلام.[ ثالثاً: موالاة الكافرين ناجمة عن ضعف الإيمان، فلذا تؤدي إلى الكفر ].موالاة الكافرين سببها ماذا؟ ناتجة من أين؟ ناتجة عن ضعف الإيمان، لو قوي إيمان العبد ما والى كافراً، تكفيه ولاية الله والمؤمنين، لكن إذا ضعف إيمانه فقد يوالي الكافرين، فموالاة الكافرين ناجمة عن ضعف الإيمان، فلذا تؤدي إلى الكفر شيئاً فشيئاً.[ رابعاً: عاقبة النفاق سيئة ونهاية الكفر مريرة ].النفاق -معاشر المؤمنين طهر الله منه قلوبنا وقلوبكم- هو أن يؤمن بالباطل بقلبه ويدعي الإيمان بلسانه أنه يؤمن بالله وبلقائه.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
15-06-2021, 04:53 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (19)
الحلقة (329)
تفسير سورة المائدة (26)


الله عز وجل غني عن عباده، فهو سبحانه القهار الواحد الأحد الصمد، وقد بين سبحانه في هذه الآيات أن من يرتد بعد إيمانه فإن الله سيأتي بقوم آخرين يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، وأعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله لينشروا في الناس نور الإسلام، وهؤلاء هم أولياء الله ورسوله والمؤمنين، وأولياء الله هم الغالبون.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:54-56].معاشر المستمعين والمستمعات! أعيد إلى أذهانكم أن الله تبارك وتعالى نادانا في كتابه القرآن العظيم تسعة وثمانين نداء بقوله: ( يا أيها الذين آمنوا ). وعرفنا أن الله عز وجل منزه عن اللهو واللعب، فهو لا ينادينا إلا لواحدة من خمس: إما ليأمرنا بفعل ما يسعدنا ويكملنا في الدنيا والآخرة، أو لينهانا عما يشقينا ويردينا ويخسرنا في الدنيا والآخرة، أو ليبشرنا بما نزداد مسابقة في الخيرات ومنافسة في الصالحات، أو تحذيراً لنا من عواقب السوء، أو ليعلمنا ما نحن في حاجة إلى علمه.تتبعنا واستقصينا كتاب الله فوجدنا نداءات الرحمن لعباده المؤمنين تسعة وثمانين نداء، وأضفنا إليها نداء آخر فأصبحت تسعين، وهذا النداء هو: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1] الآيات، فهو وإن كان في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم لكنه في الواقع لأمته، فلهذا كتبنا ذلك الكتاب وسميناه: (نداءات الرحمن)، ودرسناه في هذه الحلقة ثلاثة أشهر وزيادة، وطبع ووزع مجاناً، وقلنا: لو كنا أحياء أو دبت الحياة فينا لترجم هذا الكتاب إلى لغات المسلمين عامة، ويوضع عند سرير كل ضيف في أي فندق من الفنادق، فقد اشتملت تلك النداءات على كل ما هو في القرآن من الوضوء والغسل إلى الرباط والجهاد، بيان الحلال والحرام، في السلم في الحرب، في الجهاد وفي غيره.. كل المتعلقات بحياتنا موجودة في تسعين نداء، والقرآن نقرؤه على الموتى ولا نشعر بما فيه، وهذا شأن أمة هبطت من علياء السماء فلصقت بالأرض. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:54] يقول تعالى منادياً لنا، فنجيبه: لبيك اللهم لبيك، مَنْ يَرْتَدَّ [المائدة:54]، و(من يرتدد) قراءة نافع ، فقراءة أهل المدينة وأهل الشام: (من يرتدد) بالفك، والكل صالح، والقرآن نزل على سبعة أحرف، والارتداد معروف، مشى ثم رجع إلى الوراء، مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [المائدة:54] أي: عن الإسلام، بعدما أقبل عليه وأخذ فيه وصام وصلى انتكس ورجع إلى الوراء. ‏
إجمال الصفات المذكورة في الآية الكريمة
يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، من صفاتهم أنهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، كيف أنتم؟ هل أنتم أذلة على المؤمنين، أم تدفعون وتتكبرون وتصرخون وتهينون؟ ومع الكافرين اللين والعطف، و(مسيو) أو (مستر)، على كل حال الدار دار عمل والجزاء أمامنا. أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، بمعنى: أشداء غلاظ، ما يلينون ولا ينكسرون ولا يتعطفون بين أيديهم، أقوياء بعزة الإسلام، وليس معنى هذا أنهم يسبون أو يشتمون، المسلم لا يسب ولا يشتم ولا يظلم، ولا يسرق ولا يكذب ولا يخدع، العزة ألا تذل أمام الكافر وتنكسر، أنت المؤمن العزيز، وهو الكافر الذليل المهين.ومن صفاتهم: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة:54]، هذا القيد الذهبي، في سبيل الله لا في سبيل المنصب، ولا المال، ولا الزوجة، ولا الولد، ولا الحكم، ولا الوطن، جاهد المسلمون وكشف الله عورتنا، جاهدنا قرابة خمس وأربعين سنة، نجاهد الكفار الطليان، الفرنسيين، الأسبانيين، البريطانيين، الهولنديين تحت عنوان الوطن، جهاد في سبيل الوطن، في تحرير البلاد.لو أن أهل إقليم أو منطقة قاتلوا باسم الله، من أجل الله لأقاموا دولة الإسلام يوم حكموا البلاد واستقلوا، من يوم أن تسلموا الزمام أقاموا الصلاة، وجبوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، هل حصل هذا؟ لا يحصل ومستحيل؛ لأننا ما قاتلنا في سبيل الله، أي: من أجل أن يُعبد الله وحده ويحب ويطاع في أمره ونهيه، هذا أمر مفروغ منه، لا تطالب بالدليل أبداً. يُجَاهِدُونَ [المائدة:54] في سبيل من؟ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة:54]، أي: بأن يعبد الله وحده بما شرع؛ إذ ما خلق الخلق إلا ليُعبد ويذكر ويشكر، وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، ما يصرفهم عن الجهاد من يعذرهم أو يلوم ويعتب عليهم.قال تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54] لا يضيق فضله عن أحد أراده، عليم بمن هو أهل للفضل ومن هو ليس بأهل لفضله وإنعامه وإكرامه.

يتبع

ابوالوليد المسلم
15-06-2021, 04:53 AM
تفسير قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ...)
ثم قال تعالى يخاطبنا نحن: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:55] لا بريطانيا، ولا إيطاليا، ولا بلجيكا، من وليكم؟ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:55]، حصر الولاية في هذه الولاية: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:55]، هؤلاء أولياؤنا نحبهم ويحبوننا، ونطيعهم حتى نصدق في حبنا ويتجلى لنا حبهم. إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:55]، ثم قال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [المائدة:55]، ليخرج نفاق المنافقين وكذب الكاذبين ممن نافقوا في الإسلام وقالوا: إنهم مسلمون وهم ليسوا بمسلمين، فحصر ذلك بقوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [المائدة:55]، فالذي لا يقيم الصلاة ما هو بولي لنا، ما هو بمؤمن، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [المائدة:55]، ما إقامتها؟ إليكم صورة حقيقية: نادى منادي صلاة الظهر، فترى أهل القرية أو الحي كلهم مقبلين على المسجد، مظاهر عجب خمس مرات في الأربع والعشرين ساعة، أذن العصر فترى الأمة كلها مقبلين على ربهم ليسجدوا له ويركعوا، غابت الشمس ودخل المغرب فترى أهل القرية أهل الحي كلهم مقبلين على بيت الله، وذلك طول العام، هذا هو إقام الصلاة. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [المائدة:55]، يعطونها طيبة بها قلوبهم، طيبة بها نفوسهم، من أموالهم الصامتة أو الناطقة، سواء طولبوا بذلك أو لم يطالبوا، جاءهم الجباة أو لم يجيئوهم.وصفة أخرى وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55]، أي: خاضعون متذللون، ما هو بالعنتريات والكبرياء والعلو كما قدمنا.والركوع: الذلة والانكسار، فالمؤمنون أغنياء أو فقراء، علماء أو جهالاً، كيفما كانوا ليس فيهم مظهر الكبر والتعالي أبداً؛ لأنهم عبيد الله وأولياؤه، نعم على الكافرين يترفعون ويتكبرون؛ لأنهم أمام أعداء ربهم وأعدائهم، أما مع المؤمنين فلين الجانب وهو الانكسار والذل.وهنا تذكر رواية قد تصح أو لا تصح، أخذ منها الفقهاء: جواز العمل الخفيف في الصلاة، تقول الرواية: جاء رجل فطلب الصدقة أو معاونة من الناس في المسجد، فما أعطوه، وعلي يتنفل راكعاً، فلما مر به المسكين نزع خاتمه ورماه إليه وهو راكع، أراد أن يحقق هذا الوصف: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55]، ولا حرج، فعمل جزئي كهذا ما يبطل الصلاة وهي نافلة، أخرج خاتمه هكذا ورماه له، في حركة أو حركتين لا تبطل الصلاة، لكن أراد أن يتمثل هذه الآية.أنا أقول: من منا يطبقها؟ تطبيق ذلك في ريالات في جيبك، وجاء سائل فسأل هذا وهذا ومر بين يديك فأخرجت أنت ريالين أو عشرة وأعطيته، فهل تمثلت الآية أم لا؟ تمثلتها، أمر سهل، وأما الخاتم فصعب، ما عندنا خواتم.هذا فقط من باب أنه أراد أن يمتثل هذه الآية، وإلا فهي لا تعنيه، تعني الذين يؤمنون بالله ورسوله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم في هذه الأحوال كلها راكعون لله خانعون خاضعون، لا كبرياء ولا علو.
إجمال الصفات المذكورة في الآية الكريمة
يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، من صفاتهم أنهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، كيف أنتم؟ هل أنتم أذلة على المؤمنين، أم تدفعون وتتكبرون وتصرخون وتهينون؟ ومع الكافرين اللين والعطف، و(مسيو) أو (مستر)، على كل حال الدار دار عمل والجزاء أمامنا. أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، بمعنى: أشداء غلاظ، ما يلينون ولا ينكسرون ولا يتعطفون بين أيديهم، أقوياء بعزة الإسلام، وليس معنى هذا أنهم يسبون أو يشتمون، المسلم لا يسب ولا يشتم ولا يظلم، ولا يسرق ولا يكذب ولا يخدع، العزة ألا تذل أمام الكافر وتنكسر، أنت المؤمن العزيز، وهو الكافر الذليل المهين.ومن صفاتهم: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة:54]، هذا القيد الذهبي، في سبيل الله لا في سبيل المنصب، ولا المال، ولا الزوجة، ولا الولد، ولا الحكم، ولا الوطن، جاهد المسلمون وكشف الله عورتنا، جاهدنا قرابة خمس وأربعين سنة، نجاهد الكفار الطليان، الفرنسيين، الأسبانيين، البريطانيين، الهولنديين تحت عنوان الوطن، جهاد في سبيل الوطن، في تحرير البلاد.لو أن أهل إقليم أو منطقة قاتلوا باسم الله، من أجل الله لأقاموا دولة الإسلام يوم حكموا البلاد واستقلوا، من يوم أن تسلموا الزمام أقاموا الصلاة، وجبوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، هل حصل هذا؟ لا يحصل ومستحيل؛ لأننا ما قاتلنا في سبيل الله، أي: من أجل أن يُعبد الله وحده ويحب ويطاع في أمره ونهيه، هذا أمر مفروغ منه، لا تطالب بالدليل أبداً. يُجَاهِدُونَ [المائدة:54] في سبيل من؟ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة:54]، أي: بأن يعبد الله وحده بما شرع؛ إذ ما خلق الخلق إلا ليُعبد ويذكر ويشكر، وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، ما يصرفهم عن الجهاد من يعذرهم أو يلوم ويعتب عليهم.قال تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54] لا يضيق فضله عن أحد أراده، عليم بمن هو أهل للفضل ومن هو ليس بأهل لفضله وإنعامه وإكرامه.
تفسير قوله تعالى: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)
ثم قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:56]، ما معنى: يتولاهم؟ يحبهم ويحبونه، يطيعون الله ورسوله والمؤمنين، فمن يتولى الله ورسوله الذين آمنوا بشروه بالنصر، بالعز، بالكمال، بالسعادة، والله لا يهون ولا يذل، ولا ينكسر، لماذا؟ لأن الله قال: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:56] من حزب الله؟ الأحزاب عندنا في العالم الإسلامي ما أكثرها، ما هناك إلا حزب واحد، ألا وهو حزب الله، من هم؟ المؤمنون الصادقون في إيمانهم أولئك حزب الله، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:56] يحبهم ويطيعهم وينصرهم ولا يخذلهم، هذا بشروه بأن العالم إذا اجتمع كله عليه لا يذلونه ولا يهينونه ولا يكسرونه، لماذا؟ لأن حزب الله دائماً هم الغالبون، بشرى عظيمة لأمة الإسلام هذه.فهيا نتولى الله ورسوله، أي: نطيع الله ورسوله، نقيم حدود شرعه ونعلن فرائضه، ونؤدي آدابها، ونحب رسول الله ونمشي وراء سنته، ونحب المؤمنين فننصرهم ونقف إلى جنبهم، إذا تم هذا فوالله ما ذللنا لأحد ولا أهاننا أحد. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:56]، في أي زمان في أي مكان، أما أن تعادي المؤمنين وتحاربهم وتقول: أنا ولي الله ورسوله فلا ينفع هذا؛ لأن حب الله وحب الرسول وحب المؤمنين، طاعة الله وطاعة الرسول وطاعة المؤمنين، نصرة الله ونصرة رسوله ونصرة المؤمنين هي مفتاح الحب، وهذا وعد من الله عز وجل يتحقق لأي مؤمن يتولى الله ورسوله والمؤمنين.فإنه لا يذل ولا يهين ولا ينكسر أبداً، وإن قلتم: ولم المسلمون ذلوا وهانوا وانكسروا واستعمروا وافتقروا؟ فالجواب: لأنهم خلعوا ولاية الله ورسوله وولاية المؤمنين، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:56] فإنه لن ينكسر ولن يهزم أبداً، لماذا؟ لأن حزب الله هم الغالبون.
إجمال الصفات المذكورة في الآية الكريمة
يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، من صفاتهم أنهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، كيف أنتم؟ هل أنتم أذلة على المؤمنين، أم تدفعون وتتكبرون وتصرخون وتهينون؟ ومع الكافرين اللين والعطف، و(مسيو) أو (مستر)، على كل حال الدار دار عمل والجزاء أمامنا. أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، بمعنى: أشداء غلاظ، ما يلينون ولا ينكسرون ولا يتعطفون بين أيديهم، أقوياء بعزة الإسلام، وليس معنى هذا أنهم يسبون أو يشتمون، المسلم لا يسب ولا يشتم ولا يظلم، ولا يسرق ولا يكذب ولا يخدع، العزة ألا تذل أمام الكافر وتنكسر، أنت المؤمن العزيز، وهو الكافر الذليل المهين.ومن صفاتهم: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة:54]، هذا القيد الذهبي، في سبيل الله لا في سبيل المنصب، ولا المال، ولا الزوجة، ولا الولد، ولا الحكم، ولا الوطن، جاهد المسلمون وكشف الله عورتنا، جاهدنا قرابة خمس وأربعين سنة، نجاهد الكفار الطليان، الفرنسيين، الأسبانيين، البريطانيين، الهولنديين تحت عنوان الوطن، جهاد في سبيل الوطن، في تحرير البلاد.لو أن أهل إقليم أو منطقة قاتلوا باسم الله، من أجل الله لأقاموا دولة الإسلام يوم حكموا البلاد واستقلوا، من يوم أن تسلموا الزمام أقاموا الصلاة، وجبوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، هل حصل هذا؟ لا يحصل ومستحيل؛ لأننا ما قاتلنا في سبيل الله، أي: من أجل أن يُعبد الله وحده ويحب ويطاع في أمره ونهيه، هذا أمر مفروغ منه، لا تطالب بالدليل أبداً. يُجَاهِدُونَ [المائدة:54] في سبيل من؟ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة:54]، أي: بأن يعبد الله وحده بما شرع؛ إذ ما خلق الخلق إلا ليُعبد ويذكر ويشكر، وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، ما يصرفهم عن الجهاد من يعذرهم أو يلوم ويعتب عليهم.قال تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54] لا يضيق فضله عن أحد أراده، عليم بمن هو أهل للفضل ومن هو ليس بأهل لفضله وإنعامه وإكرامه.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: إخبار القرآن الكريم بالغيب وصدقه في ذلك، فكان آية أنه كلام الله ]، أما أخبر تعالى أنه سيرتد من يرتد ويأتي الله بآخرين؟ وهل فعل أو لم يفعل؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54] وكان ذلك، انتهت الفتنة على يد أبي بكر ، وتولى عمر بعده وقاد الجيوش إلى الشرق والغرب وانتصر الإسلام في كل مكان، وصدق الله العظيم.[ ثانياً: فضيلة أبي بكر والصحابة والأشعريين قوم أبي موسى الأشعري وهم من أهل اليمن ]، لأنهم نهضوا بالجهاد، أبو بكر قادهم ومشوا وراءه والصحابة معه، وجاء أبو موسى الأشعري ومعه أهل اليمن، وأدبوا العرب الذين ارتدوا، وردوهم إلى الحق ورجعوا بهم إلى الإسلام، فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] أبو بكر وأصحاب رسول الله.[ ثالثاً: فضل حب الله والتواضع للمؤمنين وإظهار العزة على الكافرين، وفضل الجهاد في سبيل الله، وقول الحق والثبات عليه، وعدم المبالاة بمن يلوم ويعذل في ذلك ] ويعتب، وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].[ رابعاً: فضيلة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخشوع والتواضع ]، فضيلة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة (وهم راكعون)، أي: الخشوع والتواضع لله عز وجل.[ خامساً: ولاية الله ورسوله والمؤمنين الصادقين توجب لصاحبها النصر والغلبة على أعدائه ]، والذي يعادي الله والرسول والمؤمنين من ينصره؟ فالخذلان نصيبه وحظه.هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع إنه قدير وبالإجابة جدير.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
15-06-2021, 04:55 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (20)
الحلقة (330)
تفسير سورة المائدة (27)


الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة المائدة المباركة المدنية الميمونة، ومع هاتين الآيتين، فهيا نتلو الآيتين متدبرين معانيهما، ثم بعد ذلك يبين لنا مراد الله تعالى منهما، ونأخذ بما هدانا الله تعالى إليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:57-58].

غايات نداء الله تعالى لأوليائه المؤمنين


معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هل بلغكم أن الله تعالى نادانا نحن عباده المؤمنين في كتابه تسعة وثمانين نداء؟ هل بلغكم هذا أو ما علمتم؟ كيف يناديك سيدك ومولاك والذي إليه مصيرك وبيده محياك ومماتك ولا تعرف كم مرة ناداك؟

الجواب: ما اجتمعنا على دراسة القرآن، مضت أعمارنا ونحن في المقاهي ومجالس الأكل والشرب والضحك، أو في دور السينما، أما أن نجلس في بيت الرب بنسائنا وأطفالنا كل ليلة من صلاة المغرب إلى العشاء ندرس كتاب الله وهدي رسوله، فهذا لا يخطر على بالنا، فلهذا لا تلمنا.
لن نلوم، ولكن هبطنا من علياء السماء إلى الأرض، كنا قادة البشرية وسادتها، فأصبحنا أذل منها وأحوج إليها، السبب: أننا ما عرفنا الله معرفة حقيقية يقينية حتى نتملقه ونتزلف إليه بفعل ما يحب وترك ما يكره، وفعل المحبوب وترك المكروه هو منهج السعادة والكمال للإنسان في الدارين، ومستحيل وهيهات هيهات أن يكمل آدمي أو يسعد بدون معرفة الله وطاعته في أمره ونهيه، ولا جدال في هذا، وحسبنا شهادة الواقع.

نادنا ربنا تسعين نداء، وقد تتبعنا هذا الموضوع وعرفنا بالاستقراء أن الله تعالى لا ينادينا بوصفنا المؤمنين به وبلقائه، وبكتابه وبرسوله إلا لواحدة من خمس:
الأولى: ينادينا ليأمرنا بفعل أو اعتقاد أو قول ما من شأنه أن يسعدنا ويكملنا.
الثانية: أن ينادينا لينهانا عن اعتقاد أو قول أو عمل فاسد من شأنه أن يخسرنا ويكسبنا الخراب والدمار.
الثالثة: أن ينادينا ليبشرنا فنزداد في طلب الهدى والمنافسة في الخيرات والمسابقة في الصالحات.
والرابعة: أن ينادينا ليحذرنا من المكروه، مما عواقبه الخسران والدمار.
والخامسة: ينادينا ليعلمنا ما لم نكن نعلم.
فاحمدوه، فالحمد لله، اللهم لك الحمد على ما أوليت وأنعمت، الحمد لله.. الحمد لله.

وهل تعلمون أن في ندائه عز وجل لنا أعظم كرامة يظفر بها الآدمي، أن يناديه سيده ومولاه، نداء الله لنا دل على رفعتنا وعلى علو منصبنا ودرجتنا، ألسنا أولياءه؟ بلى، وهو يقول: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[يونس:62]، من هم أولياء الله؟ سيدي عبد القادر ؟ البدوي ؟ عيدروس؟ سيدي مبروك؟ لم لا نسأل ربنا: يا ربنا! من هم أولياؤك؟ ومع هذا أجاب الله ، وما سألنا، فقال عز وجل: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ )[يونس:63] هؤلاء هم أولياء الله، فكل مؤمن تقي هو لله ولي، وكل كافر فاجر فهو لله عدو.

عرفتم أولياء الله؟ ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ )[يونس:63]، إذاً: المؤمنون أحياء والحي يسمع، يبصر، يعقل، يفهم، إذا أمر فعل، إذا نهي ترك، وذلك لكمال حياته، والكافر ميت لا يؤمر ولا ينهى، لم؟ لأنه ميت والميت لا يسمع، ولا ينطق، ولا يبصر، ولا يأخذ ولا يعطي، هذا شأن الميت.

إذاً: الإيمان الحق هو بمثابة الروح، إي والله، فمن آمن إيماناً صحيحاً حقيقياً فقد حيي، فمره بأمر الله يفعل، انهه بنهي الله يترك، والذي ما آمن مره أن يصلي فهل يصلي؟ مره أن يغتسل من جنابة فهل يغتسل؟ مره أن يكف عن قول كذا فهل يكف؟ ميت.

هل عرف المؤمنون والمؤمنات هذا؟ ما عرفناه، مضت قرون ما نجتمع على كتاب الله، إلا إذا قرأنا على ميت حتى ولو كانت عاهرة لتدخل الجنة بقراءتنا عليها، إلى أين وصلت هذه الأمة بعدما كانت سائدة قائدة رائدة في العالم؟ ما سبب سيادتها وقيادتها وريادتها؟ الإيمان الصحيح وتقوى الرحمن عز وجل، أما العلم فهو ضروري حتمي، الذي ما يعرف ما يحب الله،كيف يفعله؟ الذي ما يعرف ما يكره الله كيف يتركه؟ الذي ما يعرف كيف يطيع ربه كيف يطيعه؟

فالعلم عندنا ضروري كالطعام والشراب، بل كالهواء والتنفس، تريد أن تكون ولياً بدون علم؟ مستحيل أن تكون ولي الله بدون علم، إلا أن العلم ليس شرطاً أن يكون بالقلم والقرطاس، وإنما هو بسؤال أهل العلم والعمل، لا تزال تسأل وتعلم وتعمل، فما يمضي زمان إلا وقد علمت محاب الله كلها، وعلمت مكاره الله كلها، وأنت في نفس الوقت تفعل المحبوب وتكره المكروه، وهذه ولاية الله عز وجل.

يتبع

ابوالوليد المسلم
15-06-2021, 04:55 AM
نهي الله تعالى المؤمنين عن موالاة المستهزئين بالدين

مكر اليهود والنصارى بالمسلمين في الولاية والأولياء

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ )[المائدة:57]، أي: لا تتخذوهم أولياء، ما معنى أولياء؟ أي: لا تحبوهم ولا تنصروهم، لا بمعنى الولاية الهابط، ولاية الذين نبني عليهم القباب ونضع الشموع والأزر الحريرية، ونقول: أولياء الله، ونحلف بهم ونقسم بهم، هذا باطل باطل، ما أراده الله.

وفتح الله علينا، وعرفنا أن مكر اليهود والمجوس والنصارى هو الذي حصر الولاية في الذين ماتوا، أما الأحياء فلا، تدخل القاهرة المعزية ذات العشرين مليون نسمة من المطار أو من محطة القطار فتواجه مصرياً من أهل البلد فتقول: يا سيد! أنا جئت لأزور ولياً من أولياء الله في هذه البلاد، فوالله ما يأخذ بيدك إلا إلى قبر وضريح، ولا يفهم أن القاهرة فيها أولياء، هذا مثال، ودمشق كالقاهرة، وبغداد، ومراكش، وباكستان، وإسطنبول.. كلها سواء، تأملوا علكم تعقلون؛ لأننا لو اعتقدنا أن كل مؤمن ولي ما بقي والله من يزني ولا يسرق ولا يكذب ولا يشتم ولا يسب ولا يعتدي أبداً؛ لأن الله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، والواقع يؤكد ذلك: هل تجد مسلماً في عصور الهبوط يسب ولياً من أولياء الله الموتى؟ كلا. بل إجلال، إكبار، تعظيم، يحلفون بهم، يسرقون قطعان الغنم لهم، يتوسلون بهم، والأحياء كلهم أعداء الله، هذا يزني ببنت هذا، وهذا يزني بامرأة هذا، وهذا يسرق هذا، وهذا يكذب على هذا، هذا يقتل ابن هذا.

والله كما تسمعون، وأنتم أعلم مني بهذا، ما سبب ذلك؟ لأن العدو الحاسد الماكر أراد أن نهبط وهبطنا، قال: احصروا الولاية في الموتى، من وليك؟ سيدي عبد القادر ، أين هو؟ في بغداد، وأنت أين؟ في المغرب، كيف أصبحت تلميذه؟

قالوا: نحصر الولاية في الموتى فقط، وحينئذ يستبيحون نساء بعضهم، والكذب والسرقة والمجون والخداع والغش؛ لأنهم ما هم أولياء، ولو عرفوا أنهم أولياء لعرفوا أن الولي ما تقال فيه كلمة، بل يبجّل، يعظم، يحترم، أليس كذلك؟ وهكذا.

هل عرفتم هذه الحقيقة؟ من الذي مكر بنا؟ الثالوث الأسود المكون من المجوس واليهود والنصارى، ما يريدون أن نبقى سعداء أعزاء أبداً، قالوا: لا بد أن يهبطوا إلى ما نحن هابطون فيه، وحققوا مرادهم لأن الشياطين معهم، فسلطوهم علينا.
معشر المستمعين والمستمعات! اصدقوا الله، هل يجوز لأحدنا الآن أن يسب أحداً؟ هل رأيتم من يسب؟ أو يشتم؟ أو يضرب؟ أو يطلع على عورة أخيه؟ أو يحاول أن يفجر بامرأته؟ أو يغشه في شيء؟ أو يخدعه في معاملة؟ والله ما كان، لم؟ لأننا أولياء الله، ما يباح لنا أبداً أن نعتدي على أولياء الله ونظلمهم ونأخذ ما عندهم أو نؤذيهم؛ لأنهم أولياء الله، ولو لم يكن هناك بوليس ولا حكومة، مؤمنون في جبل، في قرية، في سهل عرفوا ربهم، والله ليسودنهم الأمن والطهر والصفاء بدون عسكر ولا بوليس، والله إني لعلى علم.

فمن هنا قالوا: جهلوهم، العلم هو النور، أعموا أبصارهم وقلوبهم. فماذا يصنعون؟ قالوا: القرآن تفسيره صوابه خطأ وخطؤه كفر، وشاعت هذه الفكرة في العالم الإسلامي، فأصبح لا يستطيع مؤمن يقول: قال الله، يقال له: اسكت، يقول: القرآن فيه الخاص والعام، والسنة النبوية الشارحة للقرآن، فيقال له: اسكت، اترك السنة نقرؤها في رمضان للبركة. ففقدت أمة الإسلام القرآن والنور المحمدي، وعاشت في الظلام وماتت، وهل استعمرتنا بريطانيا أم لا؟ وإيطاليا، وفرنسا، وبلجيكا، استعمرونا أم لا؟ فكيف يستعمروننا؟ لأننا متنا، أفقدونا الروح، القرآن نقرؤه على الموتى والسنة نقرؤها للبركة، صحيح البخاري يقرأ للبركة، لا لنعرف الحلال والحرام، أو الواجب أو المستحب أو المكروه، وحشرونا في كتيبات فقهية، هذا مذهب مالكي، هذا شافعي، هذا إباضي، هذا زيدي، هذا حنبلي، هذا كذا.. آلله أمر بهذا؟ ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ )[المؤمنون:52]، وأفصح عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر بما هو من آيات نبوته؛ إذ قال: ( افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة )، يتكلم بالوحي، فهل استطاع يهودي أن يقول: لا يا محمد ما افترقنا؟ بل طأطئوا رءوسهم وقالوا: نعم، قال: ( وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ) صحيح، إنجيلهم بلغ خمسة وثلاثين إنجيلاً، وفي النهاية حصروه بخمسة أناجيل، أي صدق أي حق في هذا؟ أين كلام الله؟ قال: ( وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة )، وراجع تفسير القرطبي ، جعل لها قائمة من أعلاها إلى أسفلها في ثلاث وسبعين فرقة.

قال: ( كلها في النار إلا واحدة ففي الجنة )، تكلم بهذا رسول الله والمؤمنون أقل من الحجاج بخمسين مرة، حيث كانوا لا يملئون هذا البلد، وتم ما أخبر به أم لا؟ قال: ( كلها في النار إلا واحدة ففي الجنة )، فألهم الله أحد السامعين فقال: من هي الناجية يا رسول الله حتى نكون منها؟
فاسمع واحفظ، وإذا ما فهمتها فلا تبارح هذا المجلس حتى تفهم معناها، وحرام عليك ألا تفقه هذا ولا تفهم إن كنت تريد الملكوت الأعلى.

فقال صلى الله عليه وسلم: ( ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) في العقيدة، في العبادة، في الأحكام، في الآداب، في الأخلاق، في التفكير والهم أيضاً.
وصدق رسول الله، وتفرقت هذه الأمة، وما زالت الفرقة إلى الآن قائمة، دويلاتنا نيف وأربعون دولة! أعوذ بالله، أيجوز هذا في الإسلام؟ كيف يجوز؟ مذاهبنا لا تسأل، أحزابنا بلا تعداد، هذا كيد أعدائنا.
طريق الخلاص من واقع المسلمين المؤلم
فهيا نتخلص، أدلك على أسهل الطرق وأيسرها، ولا تكلفك ريالاً ولا ولا درهماً، فقط قل: آمنت بالله، أدلكم فهل تبلغون هذا وتحققونه؟الطريق هو أن أهل القرية في البلد الإسلامي في الجبل أو في السهل، مجموعة سكان تسمى ديارهم قرية في اصطلاح المعاصرين، أهل القرية يوسعون مسجدهم الذي يصلون فيه، نحن لا نشك أن في كل قرية مسجداً أو مساجد في بلاد العرب والعجم سواء، هذا المسجد يوسع إما بالحديد والإسمنت وإما بالخشب والطوب، حتى بالستائر، حتى يتسع لكل أفراد القرية نساء ورجالاً وأطفالاً، ثم إن إمامهم يوم الجمعة يقول: من الليلة لا يتخلفن رجل ولا امرأة عن صلاة المغرب أبداً، إلا مريض أو ممرض له، فيحضرون حضورنا هذا ويصلون المغرب صلاتنا هذه ويجلسون جلوسنا هذا، وباسم الله ليلة آية من كتاب الله يتغنون بها حتى يحفظوها، وتشرح لهم ويبين مراد الله منها، ويوصوا بالعمل بها، والليلة الثانية حديث من أحاديث الحبيب صلى الله عليه وسلم ويحفظ، ويبين مراد الرسول منه، ويعزم المؤمنون على العمل به، وهكذا طول العام، عام واحد فما يبقى في القرية فاسق ولا فاجر ولا ظالم ولا زان، لأنهم عرفوا، علموا وعملوا فكملوا، فكيف إذا كان طول العمر ونحن في هذا النور، من أين يأتي الظلام؟ هل هذا يكلف مالاً؟ إن اليهود والنصارى في أوروبا في اليابان في أمريكا إذا دقت الساعة السادسة ومالت الشمس إلى الغروب أوقفوا العمل وتنظفوا وحملوا نساءهم وأطفالهم إلى دور اللهو واللعب، والمقاصف والسينما، أليس كذلك؟ ونحن لم لا نذهب إلى بيوت الرب نستمطر الرحمات ونتعلم الهدى لنسمو ونكمل، ما المانع؟ لا شيء، والمدينة ذات أحياء، كل حي يوسعون مسجدهم؛ ليتسع لكل الأفراد، ويصنعون هذا الصنيع عاماً أو عامين أو ثلاثة، فما يبقي جهل لا في النساء ولا في الرجال، وإن كانوا لا يكتبون ولا يقرءون، ومن ثم تنتهي مظاهر الخلاف والفرقة والعصبيات والنزعات والأطماع والشهوات، تمحى. وإن قلتم: ما الدليل؟ فالدليل: العصور الذهبية الثلاثة، من ساد البشرية وقادها؟ أليسوا أولئك الأميين؟ وقد تعلموا الكتاب والسنة.ثانياً: يقول تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] وصدق الله العظيم، أروني عالماً فاجراً وأنا أريكم ألف جاهل فاجر، أروني عالماً سارقاً متلصصاً وأريكم ألف جاهل متلصص وسارق، وعلى هذا فقيسوا، أعلمكم في قريتكم أتقاكم لله بلا نزاع، أبعدكم عن الله وأجهلكم به أفسقنا وأفجرنا، أمور يقينية هذه ما تحتاج إلى جدال.فمتى نرجع؟ ما سمحت لنا نفوسنا بذلك. قد تقولون: يا شيخ! ما عندنا كتاب في هذا الباب؟ أما بلغكم (كتاب المسجد وبيت المسلم)؟ درس في هذا المسجد في السنة كاملة، فيه ثلاثمائة وستون آية وحديثاً، في كل ليلة آية والثانية حديث، عام كامل، واسمه (كتاب المسجد وبيت المسلم)، وطبع ووزع بالآلاف، وقال محدثكم غفر الله له: لو بلغنا أن أهل قرية التزموا بهذا الكتاب وهم يدرسونه نساء ورجالاً لزرناهم إلى ديارهم، لنشاهد آثار الهدى الإلهي، ولكن لا شيء أبداً، العلماء ساكتون والجهال ميتون، ويبقى أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، من أصيب بمصيبة فليرجع إلى الله: إنا لله وإنا إليه راجعون.يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ [المائدة:57]، أي: لا تحبوهم ولا تنصروهم، هذا هو الولاء، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، المؤمن للمؤمن يحبه، وإذا احتاج إلى نصرته ينصره ولا يخذله أبداً.وأعداء الإسلام يجب ألا نحبهم ولا ننصرهم أبداً؛ لأن الولاء في أمرين: في الحب، والحب يترتب عليه المساعدة وما إلى ذلك، وفي النصرة، فلا نقف إلى جنبهم ننصرهم على الإسلام والمسلمين.
قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:57] أيها المؤمنون، فإن من آمن حي، ومن حيي سأل عن الطريق وعرفها، ومن عرف الطريق سلكها وانتهى إلى ولاية الله عز وجل بحبه له وإكرامه له.

ابوالوليد المسلم
19-06-2021, 04:43 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (21)
الحلقة (331)
تفسير سورة المائدة (28)


ما يحمله أهل الكتاب في قلوبهم من البغضاء والحسد للمؤمنين لا يخفى على ذي عينين، ذلك أن المؤمنين أهل الحق والصدق، الموعودين عند الله بدار السلام؛ لإيمانهم بالله وبسائر رسله صلوات الله وسلامه عليهم، أما أهل الكتاب وخاصة اليهود منهم فإنهم يعلمون أنهم على ضلال، ومع ذلك يخاطبون المؤمنين بقولهم عن دين الإسلام: إنه شر الأديان، وقد أعلمنا الله بأخبارهم، حيث لعنهم سبحانه وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير، جزاء فجورهم وكفرهم.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع، وقد درسنا منها آيتين، فهيا نسمع تلاوة الآيات، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:57-60].
سفه المستهزئين بالنداء إلى الصلاة
وقوله تعالى: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا [المائدة:58]، بين لهم ما كان يفعله بعض المنافقين من العرب واليهود في المدينة، يستهزئون بكلمة صلاة أو صيام، وخاصة إذا سمعوا الأذان يكربون ويحزنون، فبين لنا علة كرهنا لهم وبعدنا عنهم، ثم بين تعالى سبب جهلهم فقال: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:58] والله ما يعقلون، الذي يعقل يميز بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين النافع والضار، بين الكره والحب، هذا هو العاقل، والذي يكره الله ورسوله أين عقله؟ سيدك ومولاك وخالقك ورازقك ومردك إليه ومصيرك إليه، وأنت عبده وهو الذي يغذوك ويطعمك ويسقيك ثم لا تحبه ولا تؤمن به، أي عقل هذا؟! واسمع ما قال تعالى: ذَلِكَ [المائدة:58] بسبب ماذا؟ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:58]، فالمنادي يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الخير والكمال والطهر والصفاء والأمن بين المسلمين، فتضحك من الأذان؟ أعاقل هذا؟
تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله...)
والآيتان بعد هذه يقول تعالى فيها: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:59] أمر الله تعالى رسوله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يعلن هذا الإعلان: قُلْ [المائدة:59] يا رسولنا. ماذا يقول؟ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:59] من هم أهل الكتاب؟ اليهود والنصارى، التوراة لليهود، والإنجيل للنصارى، فهم أهل كتاب، أيما مؤمن يجب أن يعرف هذا، المراد من الكتاب هنا: التوراة، أهل التوراة اليهود، المراد من الكتاب هنا: الإنجيل، أهل الإنجيل هم النصارى، أو الصليبيون والمسيحيون، عبارات مختلفة والمعنى واحد. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:59]، بين لنا علة كرههم وبغضهم لنا، علمهم يا رسولنا، تنقمون منا لكوننا آمنا بالله رباً وإلهاً، لا رب غيره ولا إله سواه، وآمنا بما أنزل إلينا من القرآن، وما أنزل من قبل على موسى من التوراة وعلى عيسى من الإنجيل، وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:59]، فأهل الفسق هم الذين يصدر عنهم هذا الخبث في القول والعمل. بعبارة أوضح: لم يبغض اليهود والنصارى المؤمنين؟ ما هي الأسباب والعوامل؟ الجواب: لأنهم على حق، وأنهم أهل الجنة ودار السلام، لأنهم مؤمنون صادقون، معتصمون بحبل الله، لا زنا ولا ربا ولا فسق ولا فجور ولا كذب ولا خيانة، هذا الكمال يبغض اليهود والنصارى المسلمين من أجله، ما تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وما أنزل من قبل، فهل مثل هذا نبغض من أجله؟ ولكن أكثركم فاسقون، تعليل لطيف، الفسقة هم الذين يقولون الباطل، ويرتكبون الآثام والذنوب، ولم يقل: وكلكم فاسقون، قال: (أكثركم فاسقون) تحفظاً، قد يوجد من لا يفسق، ولا يخرج عن طاعة الله.

تفسير قوله تعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه...)
هنا قالوا في صراحة للرسول صلى الله عليه وسلم: لا نعلم ديناً شراً من دينك يا محمد! بهذه الصراحة: لا نعلم ديناً شراً من دينكم أيها المسلمون! لماذا؟ لأنكم تؤمنون بإنجيل عيسى، وعيسى في نظر اليهود ابن زنا وساحر ودجال! لما سمعوا هذه قالوا: يا محمد! لم نر ديناً شراً من دينك. واسمع ماذا قال تعالى لنبيه: قُلْ [المائدة:60] يا رسولنا مرة ثانية: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ [المائدة:60] ؟ تسمحون أن نخبركم بشر مما قلتم؟ هم قالوا: دينك شر الأديان أم لا؟ فتعالوا نخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ [المائدة:60] أي: جزاء، مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60] هؤلاء شر مما قالوا هم، شر مثوبة وجزاء عند الله يوم القيامة، من هم شر الخلق جزاء ومثوبة يوم القيامة؟ الذين لعنهم الله وغضب الله عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، وقضية القردة والخنازير كانت على عهد داود عليه السلام، الذين انتهكوا حرمة الدين واصطادوا يوم السبت ونصبوا الشراك بالاحتيال، فأولئك مسخهم الله قردة وخنازير، ولم يلبثوا أكثر من ثلاثة أيام ثم جيفوا وماتوا.فقوله تعالى: قُلْ [المائدة:60] لهم يا رسولنا: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ [المائدة:60] الذي قلتم مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ [المائدة:60] من هو؟ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ [المائدة:60] أولاً، وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة:60] ثانياً، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ [المائدة:60] ثالثاً، وجعل منهم عبد الطاغوت، والطاغوت هو الشيطان، كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، والذين استجابوا للشيطان ففجروا وعصوا وكفروا هم عبيده وعبدته! قال: أُوْلَئِكَ [المائدة:60] البعداء شَرٌّ مَكَانًا [المائدة:60] يوم القيامة؛ لأن مكانهم دار البوار، جهنم وبئس القرار، وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:60] في هذه الحياة ويوم القيامة.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات

معاشر المستمعين! أسمعكم شرح هذه الآيات من الكتاب، لتزدادوا معرفة. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

[ ما زال السياق في تحذير المؤمنين ] مم؟ [ من موالاة اليهود وأعداء الله ورسوله، فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ([المائدة:57] أي: آمنوا بالله رباً وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، ( لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ )[المائدة:57] أي: الإسلام ] اتخذوه [ ( هُزُوًا )[المائدة:57] شيئاً يهزءون به ( وَلَعِبًا )[المائدة:57] أي: شيئاً يعلبون به، ( مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ )[المائدة:57] يعني: اليهود ( وَالْكُفَّارَ )[المائدة:57] وهم المنافقون والمشركون ( أَوْلِيَاءَ )[المائدة:57] ] أي: لا تتخذوهم أولياء [ أي: أنصاراً وأحلافاً، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:57] في ذلك، أي: في اتخاذهم أولياء ( إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )[المائدة:57] صادقين في إيمانكم، فإن حب الله وحب رسوله والمؤمنين يتنافي معه حب أعداء الله ورسوله والمؤمنين ]، والله العظيم! ( مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ )[الأحزاب:4] يحب بهذا أولياء الله ويحب بهذا أعداء الله، أو يكره بهذا كذا ويحب بهذا كذا، ما هناك إلا قلب واحد.

قال: [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى. أما الثانية: فقد تضمنت إخبار الله تعالى بما يؤكد وجوب معاداة من يتخذ دين المؤمنين هزواً ولعباً، وهم أولئك الذين إذا سمعوا الأذان ينادي للصلاة اتخذوه هزواً ولعباً، فهذا يقول: ما هذا الصوت؟ وآخر يقول: هذا نهيق حمار! قبح الله قولهم وأقمأهم ] وأذلهم، [ فقال تعالى: ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:58] حقاً إنهم لا يعقلون، فلو كانوا يعقلون الكلام لكان النداء إلى الصلاة من أطيب ما يسمع العقلاء؛ لأنه نداء إلى الطهر والصفاء، وإلى الخير والمحبة، نداء إلى ذكر الله وعبادته، ولكن القوم كما أخبر تعالى عنهم: ( لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:58] شأنهم شأن البهائم، والبهائم أفضل منهم ]، البهائم أفضل، واسمعوا هذا البيان: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ )[البينة:6]، والبرية: الخليقة، فمن شر الخلق؟ المشركون والكافرون شر من القردة والخنازير والكلاب والضباع والثعالب والحيات وكل الموجودات، أما قال خالقهم: ( شَرُّ الْبَرِيَّةِ )[البينة:6] أم لا؟ أن وإن شئت أن تعرف كيف كانوا شر البرية فاعلم أن الحيوانات كلها ما خرجت عن طاعة ربها، طبعها على شيء تفعله، ما عصت! وهذا الإنسان الذي أعطاه الله الكتاب وبعث إليه الرسول يكفر بخالقه ويسبه وينكره، ويفسق عن أمره ويخرج عن طاعته، هذا شر الخليقة!

والعاقل يتأمل: من شر الخليقة؟ والجواب: الكفار والمشركون، لأن الخليقة كلها منتظمة في سلك ربطها الله به، البقرة تلد وتحلب الحليب ويحرث عليها، والبعير كذلك والشاة وحتى الدجاجة تبيض، ما عصت الله أبداً، بل كما طبعها وخلقها، والإنسان مخلوق لأن يذكر الله ويشكره، علة خلقك أن تذكر الله وتشكره بالعبادة، فإذا أبيت أن تذكره وأعرضت عن عبادته فقد هبطت فأصبحت شر الخليقة، إي والله!
قال: [ ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ )[المائدة:58] ] أي: بسبب أنهم [ ( قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:58] ]، قلت: [ حقاً إنهم لا يعقلون، فلو كانوا يعقلون الكلام لكان النداء إلى الصلاة من أطيب ما يسمع ] أم لا؟ أم نداء العهر والظلم والشر والفساد؟ إن النداء إلى الصلاة في بيوت الله من أطيب ما يسمع العقلاء؛ [ لأنه نداء ] أولاً [ إلى الطهر والصفاء ] طهر البدن وصفاء الروح، [ وإلى الخير والمحبة والألفة، نداء إلى ذكر الله وعبادته، ولكن القوم كما أخبر تعالى عنهم: ( لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:58] شأنهم شأن البهائم والبهائم أفضل منهم، هذا ما دلت عليه الآية الثانية ].

أعطيكم عبارة أخرى: بم تحكمون على شخص يشعل النار في القارة الإفريقية كلها؟! كيف تتصورون هذا الشخص؟ ما أحرق قصراً من القصور ولا مدينة من المدن، بل القارة الإفريقية كلها أشعل فيها النار، فكيف تجازونه؟ ماذا تقولون؟ والذي هدم الملكوت كله السماء وما فيها من كواكب، وما فيها من نجوم وسحاب وأمطار، والأرض دمرها، كيف تقولون في هذا الشخص؟ هل هناك شر منه؟
وبيان ذلك: أن الله خلق هذا الكون من أجل أن يعبد فيه، من أجل أن يذكر ويشكر، فالذي ترك عبادة الله وهجرها ونسي ذكر الله وابتعد عنه هو بمثابة من أحرق الكون ودمره، فلهذا يخلد في عذاب بلا نهاية.
قال: [ أما الثالثة: فقد تضمنت تعليم الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لأولئك اليهود والكفرة الفجرة: يا أهل الكتاب! إنكم بمعاداتكم لنا وحربكم علينا ما تنقمون منا، أي: ما تكرهون منا ولا تعيبون علينا إلا إيماننا بالله وبما أنزل علينا من هذا القرآن الكريم، وبما أنزل من قبل من التوراة والإنجيل، وكون أكثركم فاسقين، فهل مثل هذا ينكر من صاحبه ويعاب عليه؟ اللهم لا، ولكنهم قوم لا يعقلون. هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:59].

أما الآية الرابعة في هذا السياق: فقد تضمنت تعليم الله لرسوله كيف يرد على أولئك اليهود إخوان القردة والخنازير قولهم ] لما قالوا: [ لا نعلم ديناً شراً من دينكم، وذلك لأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: بمن تؤمن؟ فقال: ( أؤمن بالله وبما أنزل إلينا وما أنزل على موسى وما أنزل على عيسى )، فلما قال هذا قالوا: لا نعلم ديناً شراً من دينكم، بغضاً لعيسى عليه السلام وكرهاً له؛ فأنزل الله تعالى: ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً )[المائدة:60] أي: ثواباً وجزاء ( عِنْدَ اللَّهِ )[المائدة:60] إنه ( مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ )[المائدة:60] إذ مسخ طائفة منهم قردة، وأخرى خنازير على عهد داود عليه السلام ] في قرية واحدة أو قريتين.

[ وقوله: ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ )[المائدة:60] وجعل منهم من عبد الطاغوت وهو الشيطان، وذلك بطاعته والانقياد لما يجلبه عليه ويزينه له من الشر والفساد، إنه أنتم يا معشر يهود، إنكم لشر مكاناً يوم القيامة، وأضل سبيلاً في هذه الحياة الدنيا ].

يتبع

ابوالوليد المسلم
19-06-2021, 04:44 AM
هداية الآيات
والآن كل آية لها هداية أودعها الله فيها، يهتدي بها عباده المؤمنون، فما الهدايات في هذه الآيات الأربع؟ فيها خمس هدايات.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ أولاً: حرمة اتخاذ اليهود والنصارى والمشركين أولياء لا سيما أهل الظلم منهم ]. (حرمة) بمعنى: تحريم، بمعنى: محرم اتخاذ اليهود والنصارى والمشركين أولياء تحبونهم وتنصرونهم، لا سيما أهل الظلم منهم، أما إذا لم يظلموا -كما بينا- فلا تحبهم ولكن لا تؤذهم ولا تضرهم، من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51].[ ثانياً: سوء أخلاق اليهود وفساد عقولهم ] وإلى الآن، كيف يسخرون من الأذان؟ يستهزئون بمن يقول: الله أكبر، وحي على الصلاة؟ أي عقل هذا؟! هذا فساد العقول والعياذ بالله، وهو هبوط الأخلاق، لا تسخر من أخيك الإنسان في أي شيء أو تستهزئ به، إن أردت خيراً فانصح له وقل: هذا ما يليق، أما أن تسخر وتستهزئ فهذا ليس من صفات العقلاء أبداً.[ ثالثاً: شعور اليهود وإحساسهم بفسقهم وبعد ضلالهم جعلهم يعملون على إضلال المسلمين ].شعور اليهود وعلمهم بفسقهم، والله إنهم ليعلمون أنهم فاسقون، خارجون عن طاعة الله عز وجل، وطاعة رسله، يشعرون بهذا ويعلمونه، وبعد ضلالهم، ضلالهم ما هو بقريب، الفتن كلها في العالم هم الذين يشعلون نيرانها؛ من أجل هذا يعملون على إضلال المسلمين وإفسادهم؛ حتى يتساووا معهم. وهذا عندنا بين المسلمين، بعض من وقع في الأوساخ بوده أن الناس يفعلون ما يفعل، فاتح مخمرة يفرح إذا فتحت أخرى؛ حتى لا يبقى يلام هو. فاليهود عرفوا هبوطهم وحرمانهم وخسرانهم في الآخرة؛ من أجل هذا يبغضون المسلمين؛ لم؟ يقولون: المسلمون يسعدون ويدخلون الجنة ونحن نشقى وندخل النار! إذاً: نعمل على إفسادهم لنتساوى معهم، فطري هذا في غرائز البشر.[ رابعاً: تقرير وجود مسخ في اليهود قردة وخنازير ]، لو قال المؤرخون: ما وقع هذا، فوالله لا نلتفت إليه ولا نسمعه، وكيف وقد أخبر الله تعالى به، وقد وقع بالله الذي لا إله غيره، ولنقرأ الآية الكريمة: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:163-166]. وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65]. الشاهد عندنا أنه قد يقول قائل: لا. ما وقع هذا، فنقول: والله لقد مسخ عدد من اليهود قردة، أي: في أشكال قردة، وعدد في أشكال الخنازير، والقرى كانت تسور بأسوار، فثلاثة أيام ما خرج واحد منهم، أطلوا عليهم فوجدوهم جيفاً على الأرض.[ خامساً: اليهود شر الناس مكاناً يوم القيامة وأضل الناس في هذه الدنيا ]، أضل الناس اليهود، وذلك لعلمهم ومخالفتهم ما علموا عن الله ورسوله.
أعمال الحج في ضوء نسك التمتع
معاشر المستمعين! جولة مع المناسك:عرفتم أننا نحرم من الميقات، ولا يحل لأحد أن يحرم بعد المواقيت، وإن ركب رأسه وفعل فليتب إلى الله وليستغفره، وليكفر عن ذنبه بذبح شاة في مكة والحرم.كيف يحرم؟ كما قلنا: يتجرد ويغتسل ثم يلبس إزاراً ورداء، ويكشف عن رأسه ويلبس نعلين لا حذائين، ثم يقول: لبيك اللهم لبيك بعد أن يصلي ركعتين أو بعد أن يصلي فريضة إذا أمكن، وإذا ما تأتى وهو على السيارة أو الطيارة فليقل: لبيك اللهم لبيك عمرة لا رياء فيها ولا سمعة. هذا الذي يريد أن يتمتع، ويمشي يلبي، والتلبية هذه معناها: إجابة أمر الله ودعوته: لبيك اللهم لبيك: إجابة لك بعد إجابة إذ ناديتني ودعوتني لأزور بيتك، فها أنذا قد أجبتك المرة بعد المرة، والذي يظل يلبي يمسي وقد غفر ذنبه كله، وكانوا يقضون من المدينة إلى مكة تسعة أيام أو ثمانية أيام وهم في تلبية ليلاً ونهاراً، الآن ما بقي هذا، وإنما أقصاها أربع ساعات، إذاً: فلا نشتغل بغير التلبية.فإذا وصلت إلى المسجد الحرام فالاضطباع، حين تدخل المسجد اجعل يدك اليمنى فوق ردائك، الإزار ما يؤتزر به النصف الأسفل، والرداء ما يرتديه فوق ظهره، هذا الاضطباع، وسره إظهار القوة وذكرها وعدم نسيانها، فقد حدث أن المشركين قالوا: إذا دخل محمد ورجاله في عمرة القضاء فسننظر: إذا شاهدنا ضعفاً فيهم فسننكب عليهم ونقضي عليهم، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا نادى أصحابه وقال: ( رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوة )، فاضطبعوا استعداداً للقتال والمواجهة، وطافوا ثلاثة أشواط هرولة إظهاراً للقوة، وبقيت سنة باقية إلى يوم القيامة، ليست واجبة، سنة من السنن تثاب عليها ولا تعاقب إذا لم تفعلها لعجز أو لظرف من الظروف، أما بعدم مبالاة فهذا كفر، ولن يكون هذا من مؤمن.ثم تتم الأشواط السبعة، فإذا فرغت منها تصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم استجابة لأمر الله في قوله من سورة البقرة: وَاتَّخِذُوا [البقرة:125] بصيغة الأمر: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، وهل قام إبراهيم هناك؟ أي نعم، لما كان إبراهيم عليه السلام يبني الكعبة بأمر الله وامتحان الله للخليل: كيف يبني هذا الرجل بيتاً في صحراء ليس بها أحد؟ ومع هذا نجح إبراهيم وبنى البيت مع إسماعيل، فلما ارتفع البناء احتاج إلى صخرة وحجر يعلو فوقها ليواصلا البناء، إسماعيل يناوله الحجارة وهو فوق، ما هناك خشب ولا أدوات ولا آلات، فلما تم البناء بقي الحجر في مكانه عند الباب، أو بين الحجر والباب، فجاءت العواصف والأمطار والسيول فزحزحته؛ حتى وصل إلى المكان الذي هو فيه الآن، وبقي كذلك، وجاء الإسلام وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأقره في مكانه، واجتمع علماء الإسلام منذ خمس وعشرين سنة واتفقوا ألا يزحزح وأن يبقى في مكانه، قال بعضهم: لو أخرناه إلى الوراء حتى نفسح المجال للطائفين، فقال أولو البصائر: لا، تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا، يجب أن يبقى هنا.الصلاة خلف المقام ما سرها؟ سرها: أن المعروف لا يضيع عند الله، يا عباد الله! اصنعوا المعروف مع ربكم، فإنه لن يضيع معروفكم أبداً، الحسنة يضاعفها لك بعشر، وبسبعمائة، هذا الحجر نصلي دونه ونركع ونسجد على الأرض أمامه، لم؟ لأنه قدم خدمة لبيت الله عز وجل، أما استعان به إبراهيم على إتمام البناء؟ وكان يعلو فوقه أم لا؟ إذاً: فعرف الله لك ذلك فشرع الصلاة خلفه: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، الصلاة لله، وللحجر اعتراف بالفضل، هذا الحجر قدم لله خيراً، فعرف الله له ذلك، ولا يقول قائل: إذاً: نحن نسجد لحجر! فالجواب: لا، ونظيره آدم عليه السلام حيث أمر الله تعالى الملائكة أن تسجد له، فالسجود من أمر به؟ من أطيع؟ الذي أطيع هو المعبود، وما آدم إلا من باب الاحتفاء به وإكرامه، كذلك الحجر في مقام إبراهيم: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، نصلي ركعتين، والسنة أن تقرأ في الأولى بالفاتحة وقل يا أيها الكافرون، وتقرأ في الركعة الثانية بالفاتحة وقل هو الله أحد إن كنت تحفظ، وإن لم تحفظ فعوضك الله الأجر، ويجب من الليلة أن تحفظ هاتين السورتين.الناس حفظوا الأغاني بالمئات، فإذا صليت ركعتين وأنت محرم بعمرة؛ لأنك ما تستطيع أن تفرد الحج وتأتي بعمرة أخرى، ولا تستطيع القران فيكون قرانك أفضل، أنت متمتع، فاذهب إلى الصفا والمروة، وإذا انتقض وضوؤك فيجوز أن تسعى وأنت على غير وضوء، ولا حرج، وابدأ بالصفا كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( ابدأ بما بدأ الله به. وقرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] )، ارق الصفا، وهو الآن ممهد مبيض مزين، ما فيه خشونة ولا حجارة، ثم استقبل الكعبة وقل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ثلاثاً، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ثلاث مرات ثم انزل، وتسعى عندما تصل إلى الميل الأخضر، عمود كهرباء أخضر، إذا وصلت إلى ذلك المكان فأسرع وخب في بطن الوادي، والخب: السرعة في المشي، حتى تنتهي إلى الميل المقابل، هذا المكان كان وادياً منهبطاً، وهاجر عليها السلام أم إسماعيل جد الحبيب صلى الله عليه وسلم لما فقدت الماء وخافت موت ولدها إسماعيل من العطش نظرت إلى أقرب مكان عال فوجدته الصفا؛ لأن ولدها عند البيت في مكان زمزم الآن، وهو يتلوى من شدة العطش، فطلعت الجبل فما رأت شيئاً، فرأت جبلاً أمامها وهو المروة فهبطت، لما وصلت إلى الوادي أسرعت حتى تخرج منه، فلما خرجت منه مشت كالعادة، ووصلت إلى المروة ورقتها، وعلت فوقها ونظرت، سبع مرات، وإذا بهاتف يهتف وهي تقول: أسمعت أسمعت، هل من غياث؟ وإذا بجبريل واقفاً على رأس إسماعيل في صورة إنسان من كرام الناس وأفاضلهم، ما إن قربت منه حتى قال بعقبه هكذا وضرب به الأرض فصارت زمزم، فأخذت تزمها حتى لا تذهب في الصحراء، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله أم إسماعيل، لو تركتها لكانت عيناً معيناً ) تسيل أبداً، لكن زمتها، وتعرفون الزمام للفرس، أي: جمعتها.إذاً: إذا وصلت إلى المروة فاستقبل البيت وهلل وكبر كما تقدم وانزل تمشي، وصلت إلى الوادي بين الميلين فأسرع وهكذا سبعة أشواط، وأنت تذكر الله، لا تضحك ولا تعبث ولا تله ولا تنظر إلى النساء، أنت مشغول بذكر الله، فرغت من الأشواط السبعة فتنتهي بالمروة، تبتدئ بالصفا وتنتهي بالمروة.الآن يا معتمر بقي عليك واجب من الواجبات، ألا وهو التقصير من شعرك أو الحلق، قصر من شعرك ولا تعط رأسك لأولئك الأطفال والغلمان يعبثون بشعرك، امش إلى الحلاق وقص من شعرك؛ لأنك تحلق بعد أسبوع أو بعد أيام في الحج، وإن حلقت فما عندنا مانع، أما رحم الله المحلقين؟ لكن في حج أو عمرة بدون حج الحلق أفضل من القص؛ لأن الرسول دعا للمحلقين ثلاث مرات، وللمقصرين مرة واحدة.إذاً: حفاظاً على باقي الشعر لا بأس، قص من شعرك، فإذا فرغت منه فالبس ملابسك وتمتع بزوجتك، وتمتع بكلامك معها بكل حلال، لأنك تمتعت، وابق في مكة تنتظر اليوم الثامن الذي بعده عرفة، فإذا كان اليوم الثامن فاغتسل وتجرد ولب: لبيك اللهم لبيك حجاً لا رياء فيه ولا سمعة، وامش إلى منى لتصلها قبل صلاة الظهر، فتصلي بها خمس صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وتبيت بها، وتصلي الصبح، ثم تخرج إلى عرفات، هذا عمل المتمتع، ويجب عليه يوم العيد أو بعده بيومين أو ثلاثة أن يذبح شاة مقابل أنه تمتع بلبس ثيابه وتغطية رأسه، ولبس حذائه والتمتع بامرأته، أعطنا مقابل ذلك ذبح شاة، أو سبعة يشتركون في بقرة أو في بعير، وإن لم يستطع صام ثلاثة أيام في مكة، قد يصومها أيام التشريق، لكن ما بعدها صيام، فليعزم على صومها قبل الوقوف بعرفة، فإن نسي أو عجز يصوم ثلاثة أيام التشريق، فإن لم يصمها تعين الذبح، ويصوم السبعة إذا رجع.إذاً: هذا هو المتمتع، تقبل الله منا ومنهم، ونواصل حديثنا غداً إن شاء الله مع القارن.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
19-06-2021, 04:45 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (22)
الحلقة (332)
تفسير سورة المائدة (29)



اليهود هم شر خلق الله، ومثال حي على الكذب والنفاق والمخاتلة، وقد بين الله عز وجل حالهم لنبيه وللمؤمنين، فهم يدخلون على المؤمنين مسجدهم وهم كفار، ويخرجون من عندهم وهم كما هم لم تنفعهم موعظة، ولم يستجيبوا لدعوة، وما ذاك إلا لمسارعتهم في الإثم وإحجامهم عن البر ومواطنه، واستحلالهم لأكل أموال الناس بالباطل، واستحلالهم للربا وقد نهوا عنه، لبئس ما كانوا يصنعون.
تفسير قوله تعالى: (وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه وأبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث، وهيا نتغنى بتلاوتها قبل الشروع في تدارسها ودراستها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:61-63].ثلاث آيات، ولو أن أهل القرية يجتمعون في مسجدهم الجامع كل ليلة كاجتماعنا هذا يحفظون الآية والآيتين والثلاث، ويفهمون معانيها، ويطبقون هدى الله فيها، سلوني: بعد عام واحد كيف يصبح أهل القرية؟ كأنهم أنوار من السماء في الأرض، كالملائكة، لا خبث ولا ظلم ولا شر، ولا فساد ولا كبر ولا عناد، ولا شرك ولا باطل ولا بدع، ولكن حرمنا أنفسنا، وما ظلمنا أحد، ولكنا كنا الظالمين، هجرنا كتاب الله، وتجاهلناه، وأصبحنا نقرؤه على الموتى يا للعجب! هذه ثلاث آيات، كم في القرآن من آية؟ ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، كل آية تدل دلالة قطعية على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإن شئتم أقسمت لكم بالله، أما سماها الله آية؟ علامة تدل على أي شيء؟ إذ الآية: العلامة، تدل دلالة قطعية على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.وبيان ذلك: أن هذه الآية من أنزلها؟ من ادعى أنها من عنده، أو أن أباه أو أخاه قدمها له؟ طأطأت الدنيا رأسها، وسلمت الأمر لله، وأنها هذا من كلام الله؟ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24] إذاً: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24].الآية: العلامة، كل آية علامة على وجود الله المنزل الموحي بها، وعلى علمه وقدرته وجبروته، وصادقة وشاهدة على أن من نزلت عليه مستحيل أن يكون غير رسول الله ونبي الله، ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية كل آية تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والبشرية منتكسة، لا تسمع ولا تبصر ولا تعي، ولا تفهم، وتكفر بالقرآن كاملاً.
إيغال اليهود في الكفر ونفاقهم في مجالس المسلمين

تقدم في السياق الكريم أن اليهود والمنافقين في المدينة أيام نزول الوحي والرسول بين المؤمنين كانوا يسخرون من كلمة الأذان: حي على الصلاة، ويستهزئون، وبين تعالى لرسوله عيوبهم ومخازيهم فيما سبق، وأضاف إلى ذلك هذه الآيات وما بعدها، اسمع ماذا قال: ( وَإِذَا جَاءُوكُمْ )[المائدة:61] من هؤلاء الذين يجيئوننا؟ منافقو اليهود؛ لأن اليهود نافق بعضهم على علم، حتى يطلع على أسرار الرسول ودولته، وحتى ينفث وينفخ الباطل في صدور أتباعه وبني عمه وجلدته، ( وَإِذَا جَاءُوكُمْ )[المائدة:61] أيها المؤمنون ( قَالُوا آمَنَّا )[المائدة:61] بما أنزل الله في التوراة والإنجيل والقرآن، ( آمَنَّا )[المائدة:61] بما أنزل الله وبك رسولاً من الله عز وجل، هكذا يصرحون، وفي آية أخرى يقولون: آمنوا أول النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون! وهذا من مكر اليهود وخداعهم، يدخل في الصباح فيقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، آمنا بالله، ويصلي مع رسول الله الظهر والعصر، ويذهب إلى قريته أو حيه في العشي فيكفر؛ لم؟ علمه الرؤساء، يقولون: اذهبوا فقولوا: آمنا، وفي المساء اكفروا. لماذا كفرتم؟ يقولون: بالتأمل والتدبر وجدنا هذا الدين باطلاً، ولا قيمة له عند الله ولا وزن؛ فلهذا تركناه! هذه الأساليب موجودة إلى الآن ولها أسواقها ولها أعلامها. (وَإِذَا جَاءُوكُمْ )[المائدة:61] يا رسولنا ويا أيها المؤمنون من عبادنا ( قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ )[المائدة:61]، من أخبر بهذا؟ الله عز وجل، الله علام الغيوب، فهو يخبر ويقول: جاءوكم وقلوبهم كافرة، ما هم بمؤمنين، فالنفاق يتطلب هذا؛ حتى يأمنوا فلا تقطع رءوسهم ولا تسلب أموالهم ونساؤهم.

حلم اليهود بقيام مملكة إسرائيل
يقولون: آمنا وقد دخلوا بالكفر يحملونه كما هو، الكفر بنبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بالقرآن الكريم، بأحكام الله وشرائعه، ( وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ )[المائدة:61] يا للعجب! لأن المفروض أنه إذا جاء المنافق غير المؤمن يتجسس وينزل إلى الرسول ويسمع فقد يتأثر، فإنه -والله- كان الرجل يجيء ليقتل محمداً صلى الله عليه وسلم وهو مخبئ سلاحه، ما إن يسمع كلام الحق والنور الإلهي حتى ينهار ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، لكن هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله كما يدخلون كافرين يخرجون كذلك! ما ينتفعون أبداً بما يسمعون؛ لأن لهم هدفاً ينبغي أن يحققوه، ألا وهو إعادة مملكة بني إسرائيل، فضحوا بأعراضهم بأموالهم بدينهم بعقيدتهم من أجل هذا الهدف! ووالله! إنهم إلى الساعة هذه يعملون على تحقيقه، وما حرمهم من الإسلام والدخول في أنواره إلا هذه الفتنة القلبية، وهل تشكون في هذا؟! هل كونوا دولة إسرائيل في عقر دارنا أم لا؟ في قلب بلادنا، وما زالوا يطلقون عليها: دولة إسرائيل، وحين يحكمون الشرق الأوسط ويضعون أرجلهم على العالم أو نصفه يعلنون عن مملكة بني إسرائيل، والله يعلم كم بيَّنا هذا في عشرات السنين، فهم الذين قالوا في تعاليمهم وتدابيرهم اليهودية: ابقر بطن العالم وأخرج مصرانه واخنق به الملك، وبهذا نستطيع أن نحكم، فبغضوا كلمة ملك إلى العالم، وهي والله من صنعهم، وعاش المسلمون يكرهون كلمة ملك! والله لقد رأيتهم وهم يتقززون من كلمة ملك هذه، ووالله إن اليهود هم الذين نشروا هذه، ولماذا؟ لأن الخوف يأتيهم من العلماء ومن الملوك، الملك يستحي أن يبول قائماً، الملك يستحي أن يقول الباطل أو الكفر في أمة مؤمنة، بخلاف رئيس حكومة ورئيس جمهورية لعام وعامين ويرحل. إذاً: كيف نشروا البلشفية الحمراء في عقر عواصم المسيحية في العالم؟ بأية واسطة أصبح ثلاثة أرباع الأوروبيين علمانيين بلاشفة حمراً؟ كيف توصلوا إلى هذا؟ إنها صنائع الذين يخبر القرآن عنهم ويكشف عن حالهم؛ لأن بوجود مسيحية متصلبة ما ينفتح المجال لليهود وهم حفنة من البشر، وجود إسلام بأنواره وحكمه العام لا يمكن أن تظهر دولة إسرائيل، فضربوا الإسلام ومزقوه وشتتوه، وحولوه إلى ضروب من الوثنيات أيضاً، ومزقوه، والصليبية وضعوا أقدامهم عليها، فهم قريبون، وإليكم برهان هذه القضية.
أيام موشي ديان كان الرئيس في البرلمان، فخطب وصال وجال، حدثني شاب استشهد في الأفغان بأذنه سمع إذاعة إسرائيل، قال: لما بهرهم بخطابه قالوا: أنت الملك، أنت الملك، أنت الملك. قال: اسكتوا، ما زال الوقت! لما أعجبوا به وبهرهم وذكر لهم أعماله وما فعل قالوا: أنت الملك، قالوا: اسكتوا لم يحن الوقت بعد!
إذاً: فهمتم كيف يفقهون كلمة ملك أم لا؟ أسألكم بالله: ألم تكونوا قبل أعوام تكرهون كلمة ملك؟ بدليل أنه يستقل القطر الإسلامي فما يجعل لهم ملك، أما ذبحوا الملوك؟ أما طردوهم؟ أين ملوك العراق ومصر والشام؟ حتى ملك ليبيا أيضاً، حتى سلطان وملك تونس، أمر واضح، والشاهد عندنا: أن الله يكشف عن خبايا اليهود ونحن لا نعرف هذا ولا نعي؛ لأننا ما نقرأ القرآن على الأحياء، بل نقرؤه على الموتى.
(وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا )[المائدة:61] والحال أنهم قد دخلوا بالكفر في قلوبهم، يعلنون عن الإيمان نفاقاً ليتحسسوا ما عندكم، وهم قد خرجوا به أيضاً، المفروض أن الشخص وإن كان كافراً إذا جلس بين يدي رباني يتكلم باسم الله، ينطق بالحق وبراهينه؛ المتوقع أن ينعكس وضعه ويؤمن، أليس كذلك؟ هذا الواقع؟ كان الأعرابي يأتي بسلاحه ليغتال رسول الله في المسجد، ما إن يسمع كلام الله حتى ينهار ويؤمن، وهؤلاء قال تعالى عنهم: ( وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ )[المائدة:61] دخلوا بالكفر في قلوبهم ما نقص، ولا تخلوا عنه ولا تأثروا بجلوسهم يوماً أو ساعات مع رسول الله، بل يخرجون بكفرهم، سبحان الله!
معنى قوله تعالى: (والله أعلم بما كانوا يكتمون)
وأخرى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ [المائدة:61] من المكر والكيد والغش والخداع والكذب، والبغض لك يا رسولنا ولأصحابك والمؤمنين، وإلى الآن الله أعلم بما يكتمون، الآن لا يصرحون لضعفهم؛ لكن الله أعلم بما كانوا يكتمون. اسمع قوله تعالى: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ [المائدة:61] دخلوا عليكم في مسجدكم وبيوتكم، وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة:61] ما نقص، بل كما هو، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ [المائدة:61]، ما الذي يكتمونه في قلوبهم؟ الغل، الغش، والمكر والخداع، يتمنون لو أزهقوا أرواحهم.

يتبع

ابوالوليد المسلم
19-06-2021, 04:45 AM
تفسير قوله تعالى: (وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت...)
الآية الثانية: وَتَرَى [المائدة:62] يا رسولنا، وَتَرَى [المائدة:62] أيها المؤمن الواعي البصير كَثِيرًا مِنْهُمْ [المائدة:62] بالآلاف يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ [المائدة:62] ما قال: يسارعون إلى الإثم فيكونوا خارجين عنه، وهم يسارعون إليه ليدخلوا فيه، بل ما خرجوا من الإثم، مغموسون فيه من أخماص أقدامهم إلى رءوسهم، والله ما خرجوا، ويسارعون في فعله، والإثم: كل معصية تقبح النفس وتلوثها، كالكذب، كالخيانة، كالغش، كالخداع، كالكفر، كالسب، كل ما هو إثم، يسارعون في الإثم، ما خرجوا من دائرته، يعملون الليل والنهار على السب والشتم والطعن في الإسلام ورجاله. يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:62]، العدوان غير الإثم، العدوان: الظلم، لا أظلم من اليهود، الظلم الاعتداء على الغير بأكل ماله بسبه بشتمه بالتعريض وهكذا، هذا هو الظلم، فكم من يهودي يسمع الإسلام فينهار ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ من يخبر بهذه الأخبار؟ إنه الله تعالى. وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:62] ويسارعون أيضاً في أكلهم السحت، هم يأكلونه، ولكن المسارعة، والسحت: هو الرشوة والربا، وكل مال حرام يسحت البركة ويبطلها، وإلى الآن يعيشون على الربا أم لا؟ من أنشأ البنوك الربوية العالمية؟ هل عيسى بن مريم؟ هل هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله إنهم اليهود، وكيف إذاً اتبعهم النصارى والمسلمون وهم يعلمون أن هذا حرام؟ اتبعوهم لما سحروهم، وانتزعوا النور الإلهي من صدورهم وقلوبهم، فعموا وأصبحوا كالبهائم، حينئذ يسوقونهم كما شاءوا. ثم ختم تعالى هذه الجملة بقوله: لَبِئْسَ [المائدة:62] والله لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62] أعمالهم منتنة خبيثة، سيئة قبيحة والعياذ بالله تعالى. أعيد الآية الثانية هذه، فاسمع: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:62]، ماذا قال تعالى في آخر الكلام؟ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62] قبح هذا العمل، واللام فيها معنى القسم، وعزتي وجلالي لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62] نعم، فالذي يعيش في الإثم ما يخرج منه، وفي أكل الربا والسحت ما يخرج منه، وفي الظلم للخلق ما يخرج منه كيف حاله؟ بئست حاله. فهل هذا عمل ميمون مبارك؟ لبئس هذا العمل.

تفسير قوله تعالى: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ...)
الآية الثالثة: يقول تعالى: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ [المائدة:63]، الربانيون: جمع رباني، ويطلق الرباني على عالم النصارى (القسيس)، والأحبار: جمع حبر، ويطلق على عالم اليهود، هذه قاعدة عامة، وهنا أطلق لفظ الربانيين والأحبار على اليهود، ليس هناك نكارة في السياق. والربانيون: الذين يجمعون الناس ويعلمونهم دينهم، ويربونهم على الآداب والأخلاق والفضائل بحسب دينهم، هذا هو المربي، والجمع ربانيون.والأحبار: أصحاب العلم والمعرفة، إذاً: في أهل الكتاب من اليهود ربانيون وأحبار، أي: علماء بالشريعة.يقول تعالى: لَوْلا [المائدة:63] هلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:63] ؟ لم لا ينهونهم؟ هذه الآية يقول فيها ابن عباس الحبر رضي الله عنه: أشد آية في كتاب الله علينا هي هذه: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:63]. إذاً: نحن ما عندنا ربانيون، لكن كان عندنا رجال التصوف والطرق، الصوفية، كانوا يربون ونفع الله تعالى بتربيتهم، يجمعون الجهال في القرى في الجبال وهم تائهون لا يعرفون شيئاً، ويعلمونهم الوضوء والصلاة وذكر الله، وتظهر آثار ذلك فيمن يربونهم، لكن لكونهم جهالاً لا يعلمون دين الله ولا يعرفون يخطئون في تربيتهم، فيفسدون على العوام عقائدهم، ويورثون فيهم الشرك بكله.إذاً: نفعوا من جهة وأضروا من جهات أخرى؛ لأن غير العالم بالكتاب والسنة لا حق له في أن يربي حتى يكون ربانياً، عالماً بكتاب الله وسنة رسوله، هذا إذا جمع أهل القرية ورباهم هو الرباني، هذا الرباني من حقه ألا يرى من يأتي منكراً في قريته ويسكت عنه، لا يرى من يرتكب إثماً ويرضى به ويسكت عنه، لا يرضى بمن يأكل رشوة أو سحتاً أو ربا ثم يضحك معه ويسكت، هذا رباني العالم. لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ [المائدة:63] السب والشتم والتعيير والتقبيح، لا إله إلا الله!
دولة الملك عبد العزيز أنموذج قيام الربانيين بدورهم

ودعونا من اليهود الآن، نحن مع عالمنا الإسلامي، والله! إنه ليعيش إخواننا المسلمون على السب والشتم حتى التكفير أيضاً! أحلف لكم بالله، مجتمعنا الإسلامي منذ سبعة قرون أو ثمانية منذ القرن الثامن وهذا ظاهر. وأقرب دليل: لم استعمرتنا أوروبا؟ لما هبطنا، إذاً: هذا سبب استعمار الغرب لنا؟ وها نحن قد استقللنا وأصبحت السلطة لنا، فلم لا نتحد في هذه المسجد وتكون دولتنا واحدة، ولعل الحاضرين بينهم سياسيون، فمرحباً بهم نتكلم معهم بصراحة ووضوح، والله! لو كنا مستقيمين على منهج الحق مؤمنين في صدق لكانت دولتنا واحدة، إذ لا يحل الخلاف والفرقة؛ لأن الخلاف والفرقة معناهما: أننا نقدم أنفسنا للعدو فمتى شاء أن يركبنا ركب علينا.
وعندي برهنة أخرى قديمة أكررها: جاء الله عز وجل بدولة عبد العزيز ، من عبد العزيز هذا؟ ما هو بعالم نحرير ولا فليسوف ولا شيخ طريقة، جاء الله به وكان لاجئاً في الكويت وأسس دولة القرآن في الرياض وبدأت أنوارها تلوح، فماذا فعل؟ هذا الذي أنا أقوله وأكتبه في الرسائل والكتب طبقه عبد العزيز : أهل القرية لا يتخلف أحد منهم عن الصلاة في الصبح ولا العشاء ولا المغرب، ويتعلمون الكتاب والسنة شفوياً ولا يتخلف أحد، فكانوا أميين لاصقين بالأرض لا يقرءون ولا يكتبون، وإذا بهم موحدين فقهاء يشعرون بالرغبة في أن يتعلموا عن الله.
وأقامة الدولة القرآنية على ثلاثة أسس وضعها الله عز وجل لتوضع عليها أو تتكون عليها الدولة، وهي:
أولاً: إقامة الصلاة.

ثانياً: إيتاء الزكاة.
ثالثاً: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

ما ترك قرية إلا وكون فيها لجنة من ثلاثة أنفار أو أربعة مهمتهم أنهم يأمرون المعروف وينهون عن المنكر، ما يرون معروفاً متروكاً إلا طالبوا بالقيام به، ولا يرون منكراً مرتكباً إلا صاحوا في وجه صاحبه.
إذاً: فكانت الدولة أقامها على أسس، قال الله تعالى: ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ )[الحج:41]، أي: حكموا وسادوا بعد أن لم يكونوا حكاماً ولا سادة، ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ )[الحج:41]، ماذا فعلوا؟ ( أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ )[الحج:41].

ما الذي حصل في هذه الديار بعدما كانت مظاهر الوثنية الصارخة تشاهدها في عبادة غير الله، أما الجرائم وسفك الدماء فلا تسأل، والله! إن كانوا ليأخذون باب المدني ويبيعونه في السوق ولا يتكلم!
وسادها أمن وطهر لم تكتحل عينها به إلا أيام دولة الخلفاء الراشدين، أقسم بالله، في هذا الوقت بالذات نسمع نحن أطفالاً وكباراً وصغاراً فلا تجد مؤمناً عربياً ولا مسلماً يمدح هذه الدولة أو يذكرها بخير، إلا الطعن والتكفير، حتى نحرم هداية الله، فلا إله إلا الله!
والذي أقوله وسقت الحديث من أجله: ما دام أنه تجلت حقيقة نعمة الإسلام في هذه الديار الصحراوية الجافة وسادها الطهر والصفاء والأمن والعدل، يجب أن نقتدي بها وإن كنا لا نحبها، لكن ننتفع بها، فكان المفروض أن الذي جاء بهذه الدولة وهو الذي حرر العالم الإسلامي دولة بعد دولة، كان الواجب -وسوف تعرفون هذا يوم القيامة- أنه إذا استقل الإقليم الفلاني يجيء وفده من علماء وكبراء ومشايخ ويقولون: يا عبد العزيز ! استقل هذا الإقليم من بريطانيا أو فرنسا أو أسبانيا، فابعث قضاة وابعث آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، ويصبح بعد ذلك قطعة من دولة القرآن، استقل الإقليم الثاني بعد أسبوع أو بعد عامين أو بعد عشرة فيأتي رجاله: ابعث قضاة يطبقون شرع الله، وهكذا يتم تحرير البلاد الإسلامية وهي دولة واحدة، وما يكلفهم شيئاً.
لكن لما كنا كما ذكرنا ما نريد أن يسودنا آخر أو يحكمنا آخر أو نعطي مالنا لآخر، ما هناك إلا الطعن والسب والشتم، وها نحن لاصقون بالأرض وتحت النظارة، والله! إن لم يتدارك الله المسلمين برحمته لنزل بهم من البلاء ما لم ينزل قبل، إما أن يرجعوا إلى الله، وإما أن تنزل النكبات والمصائب والويلات.

سبيل الخلاص من فتنة الفرقة والجهل والفسق

والشاهد عندنا: ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ )[المائدة:63]، أين علماؤنا نحن؟ وأين مربونا؟ هيا نخرج من هذه المحنة، نخرج من هذه الفتنة، فماذا نصنع؟ علماء القرية وعلماء الحي يطالبون إخوانهم بإلحاح أن يجتمعوا بهم في المسجد، يصلون المغرب كما صلينا ويجلسون كما نجلس، وليلة يتعلمون آية من كتاب الله يحفظونها، ويفهمون مراد الله منها، ويعملون ويطبقون، وليلة أخرى يتعلمون حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا طول العام بل طول العمر، هل يبقى بين المسلمين جاهل أو جاهلة؟ الجواب: لا، وإذا انتفى الجهل ينتفي الفسق معه أم لا؟ إي والله، لا أفسق من جاهل قط، ولا أخشى لله من عالم قط، وبذلك تشعر الأمة الإسلامية أن أمرها واحد وإن تفرقت ديارها، الكل يحب بعضهم بعضاً وينصر بعضهم بعضاً؛ لأن المذهب أصبح مذهباً واحداً، لا حنفي ولا شافعي ولا إباضي ولا زيدي ولا خارجي، بل مسلمون على كتاب الله، الصلاة تقام، والزكاة تجبى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائم بينهم، أصبحوا أمة واحدة، فمن يقوم بهذه المهمة؟

قال تعالى: ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ )[المائدة:63]، ووالله! إن الإثم بلغ منتهاه في عالمنا الإسلامي، أنواعه وضروبه لا حد لها، والسحت كذلك، أصبح الربا شائعاً في العالم الإسلامي، من يقوم بهذا الإصلاح؟ العلماء والمشايخ الربانيون، ماذا يصنعون؟ هل يعلنون الجهاد وتكفير الحكام؟ لا والله ليس هذا، فقط يعلمون إخوانهم في قراهم ومدنهم أنهم خرجوا عن الطريق، أنهم فقدوا ولاية الله، فهيا بنا نطلبها لنظفر بها، نحقق إيماننا وتقوانا لله، فتثبت لنا ولاية الله، والطريق هو أن يجتمع المؤمنون والمؤمنات في بيوت ربهم في مدنهم في قراهم كل ليلة طول الحياة يتعلمون الهدى ويعملون به، فيسمون حتى يصبحون أشباه الملائكة، ويومها والله ليسودن العالم، ويخضع الله لهم البشرية، فمن يقوم بهذا الواجب؟ العلماء والمربون.

معنى قوله تعالى: (لبئس ما كانوا يصنعون)
لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63]، قبح صنعهم وما كانوا يأتونه، هذه كانت حال اليهود، وارتفع العالم الإسلامي وأنار الوجود فمكروا به وكادوا له وتعاونوا مع المجوس والنصارى فهبط العالم الإسلامي كما تشاهدون نقمتهم منا، والله فضحهم وبين لنا حالهم؛ حتى لا نودهم ولا نحبهم ولا نتعاون معهم، وإذا بنا قد نسينا هذا كله وإلى الله المشتكى.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
19-06-2021, 04:47 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (23)
الحلقة (333)
تفسير سورة المائدة (3)


أحل الله عز وجل لعباده بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، إلا أنه حرمها عليهم في بعض أحوالها؛ وهي الميتة، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع إلا ما أدرك منها حياً وتمت تذكيته، كما حرم منها ما ذبح وفق طقوس وشرائع الكفار، وحرم إضافة إلى ذلك الدم المسفوح ولحم الخنزير، واستثنى سبحانه وتعالى من احتاج لشيء من ذلك في شدة الجوع والهلكة أن يأكل منه على قدر حاجته ولا يزيد.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
مجمل الأحكام الواردة في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ...)

وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ودرسنا منها آيتين يوم أمس، ومجمل ما احتوت عليه الآيتان من أحكام شرعية: أولاً: وجوب الوفاء بالعهود والعقود، عقود إيجار أو بيع أو شراء، أو عقود نكاح؛ إذ قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )[المائدة:1].

ثانياً: إعلان الله تعالى لنا عن حله لنا بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، هذه منته وعطيته فله الحمد وله الشكر؛ إذ قال تعالى: ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ )[المائدة:1]، ثم استثنى عز وجل عشراً من المحرمات فقال: ( إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )[المائدة:1]، وهو موضوع درسنا اليوم: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ )[المائدة:3] إلى آخر ما جاء في تلك الآية.

ثالثا: تحريم الصيد على المحرم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:1]، فأعلمنا أنه لا يحل لمحرم أن يصيد وهو محرم ولو كان خارج المملكة، أحرم في القدس أو في غيرها بحج أو عمرة فبمجرد أن يقول: لبيك اللهم لبيك يحرم عليه أن يصيد، سواء الغزلان، الأرانب، الطير وكل صيد، اللهم إلا صيد البحر، إذا أحرم في السفينة ورأى أن يلقي بشبكته في البحر ليصيد فله ذلك، أذن الله فيه، أما صيد البر فحتى الأرانب واليرابيع لا يحل له أن يصيدها؛ إذ قال تعالى: ( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ )[المائدة:1] لا تحلوا الصيد فإنه حرام، ( وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:1]، هذه الجملة حالية: والحال أنكم محرمون، و(حرم) بمعنى محرمين، أنت حرام وهؤلاء حرم.

رابعاً: ثم أعلمنا أن له الحق في أن يحل أو يحرم، لا أحد له في ذلك حق، هو الخالق وهو المالك وهو العليم بما يحتاج إليه خلقه، وبما ينفع ويضر، أما غيره فكيف يحل أو يحرم؟ إياك أن تعترض على الله فإنه الكفر؛ إذ قال: ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ )[المائدة:1] إن الله يحكم ما يريد أن يحكم، وليس لغير الله ذلك، لماذا؟

أولاً: لأنه الجبار القهار بيده كل شيء.
ثانياً: لأنه المالك، والمالك يأذن ولا يأذن بما يريد.
ثالثاً: أنه عليم بمنافع الناس ومضارهم، حكيم لا يضع الشيء إلا في موضعه.

تحريم استحلال شعائر الله والشهر الحرام والهدي والقلائد وبيان ما نسخ من ذلك

ثم جاء النداء الثاني: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ )[المائدة:2]، حرام على مؤمن أو مؤمنة أن يحل شعيرة من شعائر الله، إن كانت واجبة لا يحل أن يتركها أو يأذن بتركها، وإن كانت محرمة لا يحل أن يفعلها أو يأذن في فعلها؛ إذ كل العبادات علامات على عبادة الله عز وجل.وقوله: ( وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ )[المائدة:2] هذا منسوخ، أذن الله لأمة رسوله أن يقاتلوا أعداءهم في الشهر الحرام إذا قاتلوهم فقال: ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ )[البقرة:194]، لكن في الجاهلية قبل ألا تكون دولة للإسلام والمسلمين كانوا يحترمون الأشهر الحرم الأربعة، ليتم فيها هدنة عالمية لا يعتدي فيها أحد على أحد.

(وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ )[المائدة:2]، ما زلنا نهدي إذا استطعنا أن نهدي، أنت في المدينة تشتري بقرة أو تشتري بعيراً وتجرحه من جهة اليمين في سنامه، وتلطخه بالدم وتبعث به إلى مكة ليؤكل في الحرم، والقلائد مثل الكبش تقلده قلادة وتقول: هذا مهدى إلى الله إلى الحرم، فلا يعترضه أحد.

وكان المشركون يحترمون الهدي والقلائد، لا إيمان بالله ولا بلقائه، بل جهل وكفر، ومع هذا من تدبير الله لسكان حرمه وحماة بيته أن ألقى في قلوب العرب في أطراف الجزيرة وفي داخلها أن من قلد هدياً لا يؤذى أبداً ولا يمس بسوء، بل إذا أخذ أحد قشرة من لحاء شجر الحرم وعلقها فإنه يمشي إلى ما وراء البحرين ولا يخاف أحداً، إذ يقال: هذا كان في الحرم، ويسوق قطيع الغنم أو قطيع البقر والإبل فمتى قلدت الغنم أو أشعرت الإبل فإن أعداءه لا يلتفتون إليها، بل يمر الرجل بقاتل أبيه فلا يعرض له، وهل هناك أكبر من قتل أبيه؟ إذا وجده في الحرم أو في الشهر الحرام يلوي رأسه ولا ينظر إليه، واقرءوا في آخر هذه السورة المدنية المباركة: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ )[المائدة:97] فمعايشهم عليها بسببها وبسبب الهدي والقلائد، وهذا تدبير الله، ولما جاء الإسلام ولاحت أنواره، وارتفعت رايته، وكان العدل وكان الحكم بشرع الله نسخ الله هذا.


تحريم اعتراض قاصدي البيت الحرام ونسخ ذلك في حق المشركين

كذلك عرفنا أن الذين كانوا يؤمون البيت الحرام من أطراف الجزيرة لا يعترض عليهم، يتركون: ( وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا )[المائدة:2]، ولهذا هذا فنحن لا نؤذي مشركاً أو كافراً، ولكن لا يحل لنا أن نسمح لكافر أو مشرك أن يدخل الحرم، يقول: أنا قاصد بيت الله! نقول: لا يحل لك أن تدخلها وأنت نجس مشرك؛ لأن الله قال في سورة التوبة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا )[التوبة:28]. هذه الآية تقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ )[المائدة:2]، لا تحل أذيتهم ومنعهم من دخول مكة، ( يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ) هذا الجزء من هذه الآية منسوخ، فلا يحل لكافر أن يدخل الحرم، لا يحل لمشرك أن يدخل الحرم، ( وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ )[المائدة:2]، هذا قبل قيام دولة الإسلام، ( يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ )[المائدة:2] التجارة، يأتون حجاجاً وعماراً ويتجرون: يشترون البضائع ويبيعون، ويبتغون رضواناً من ربهم، كانوا يدعون الله ليحفظهم في أموالهم وأبدانهم.


الإذن بالصيد بعد الفراغ من الإحرام

ثم جاء الإذن بالصيد إذا حللنا من الإحرام، فقال تعالى: ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا )[المائدة:2]، إذا حللتم من الإحرام، فإذا انتهت عمرتك أو حجك وتحللت فاصطد، لكن أين تصيد؟ هل في داخل الحرم؟ الجواب: لا. لا يحل صيد الحرم إلى يوم القيامة، وأرض الحرم معروفة، الرسول الكريم يقول: ( إن إبراهيم حرم مكة وأنا أحرم المدينة )، ويقول: ( المدينة حرام من عير إلى ثور )، وثور جبيل صغير وراء أحد من الجهة الشمالية الشرقية، وعير: جبل في جنوب غرب المدينة. فالمدينة هذه حرام لا يصاد صيدها ولا يقتل، ومكة حدودها بينها جبريل لإبراهيم عليهما السلام، كان جبريل يمشي مع إبراهيم ويقول له: ضع علامة هنا، من الشمال والجنوب والشرق والغرب، وأقرب حل إلى مكة هو جبل التنعيم الذي هو ميقات من أراد أن يحرم بعمرة.


النهي عن العدوان على من صد المسلمين عن البيت وهو في الحرم

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ )[المائدة:2] أي: بغضهم ( أَنْ صَدُّوكُمْ )[المائدة:2] لأنهم صدوكم ( عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا )[المائدة:2]، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يعتدي أبداً لا على مؤمن ولا على كافر، فالكافر عبد الله أم لا؟ ملك الله أم لا؟ فإذا لم يأذن لك أيجوز أن تمسه بسوء؟ فلا يحملنكم بغض إنسان آذاكم أذى أن تعتدوا عليه لأنه آذاكم وهو في الحرم: ( أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا )[المائدة:2].


الأمر بالتعاون على البر والتقوى

وأخيراً جاء الأمر الباقي إلى يوم القيامة لا ينسخ: ) وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ([المائدة:2]، من هم الذين يتعاونون؟ الذين أصبحوا كرجل واحد، الذين زالت بينهم الفوارق الحزبية والوطنية والطرقية والمذهبية، وأصبح منهجهم منهج رسول الله، هؤلاء يقدرون على أن يتعاونوا، أما المتعادون المتقاطعون فكيف يتعاونون؟ إذاً: هل هذا يبرر لنا عدم التعاون؟ لا يبرر، يجب أن نتعاون على الخير وفعله، وعلى تقوى الله حتى لا يعصى الله بيننا بأية معصية، ولا يحل أن نتعاون على الإثم وإشاعة الذنوب والآثام والأذى والظلم بيننا، ولا الاعتداء على أموالنا أو أعراضنا أو أبداننا. (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:2] اتقوا الله: خافوه، اجعلوا بينكم وبين غضبه وعذابه وقاية، وتلك هي طاعته وطاعة رسوله فيما يأمر الله به وينهى عنه، فبم يتقى الله عز وجل؟ هل بلباس قوي؟ بحصون عالية؟ بجيوش جرارة؟ بم يتقى الله وهو فوقنا ونحن أقل من بعوضة بين يديه، بم نتقيه؟

لا يتقى إلا بطاعته، إذا قال: اسكت فاسكت، إذا قال: تكلم فتكلم، قال: كل فكل، قال: اشرب فاشرب، قال: لا تأكل ولا تشرب فلا تأكل ولا تشرب، إذا قال: اركع فاركع، قال: اسجد في الأرض وضع جبهتك على التراب فاسجد، بهذا فقط يتقى الله، أما السلاح والرجال والحيل فلا شيء منها يقيك من عذاب الله؛ لأنه قاهر فوقك:( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:18].


قيمة التقوى وثمرتها

إن قيمة التقوى تكمن في تحصيل ولاية الله تعالى، وقد قررنا أن ولاية الله حيث تصبح ولياً لله لا خوف عليك ولا حزن في الحياة كلها في الدنيا والأخرى، هذه الولاية لا تتحقق إلا بتقوى الله عز وجل، من لم يتق الله لن يكون له ولياً أبداً، الإيمان أولاً، ثم التقوى ثانياً، فمن منكم يرغب أن يكون من أولياء الله أفضل من عبد القادر الجيلاني ؟ إذاً: آمنوا واتقوا فقط، لا دينار ولا درهم، ولا سلاح، ولا رجال، ولا حيل، ولا نسب ولا شرف، آمن واتق تكن -والله- ولياً لله، والدليل القرآني قوله تعالى من سورة يونس عليه السلام: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[يونس:62] وما معنى (ألا)؟ استبدلناها بـ(ألو)، ألو معروفة عندنا حتى الأطفال يعرفونها، لأننا هجرنا (ألا) وأقبلنا على (ألو) فأصبحت (ألو) من ذوقنا! إن معنى (ألا): انتبه! هل أنت تسمع؟ هل أنت واع للخطاب؟ هل أنت تفهم ما أقوله لك؟ وحينئذ يعطيك الخبر: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[يونس:62] لا في الدنيا ولا في البرزخ ولا في الآخرة.

من هم أولياؤك يا رب الذين أخبرتنا أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ قال تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ )[يونس:63].

الإيمان ينطبع في قلوبهم مرة واحدة فلا يزول ولا يمحى، أما التقوى فتتجدد، كلما أمر الله بأمر فاتق وافعله، وكلما بلغك نهي فاتركه واجتنبه، وهكذا طول حياتك، فلهذا التقوى تتجدد: ( وَكَانُوا يَتَّقُونَ )[يونس:63].

فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وهل يمكن لإنسان أن يتقي الله وهو لم يعلم أوامره ولا نواهيه؟ والله ما يمكن، مستحيل، إذا لم تعرف أوامر الله ما هي، وكيف تؤديها وما أوقاتها، ولم تعرف نواهيه وما هي؛ فكيف ستتقيه؟ مستحيل، فلهذا بمجرد أن تؤمن وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله؛ تقرع أبواب العلماء: علموني كيف أعبد ربي، علموني بم أطيعه. لا في عامين، بل في أسبوع أو أسبوعين تعرف ما حرم الله وما نهى الله عنه، وما أوجب الله وما أمر به، أما بدون علم فمستحيل أن تكون ولي الله.
ولهذا كان طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وليس شرطاً أن تأخذ القلم أو الورق، المهم أن تسأل وتعلم وتعمل، والله يقول: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، اسأل في صدق في جد: أريد أن أغتسل فكيف أغتسل؟ يعلمك ذلك فعلى الفور تحسنه وتعيش عليه، أردت أن أعتمر فكيف أعتمر؟ افعل كذا وكذا. في صدق تفهم ذلك وتعمل، وهذا هو العلم، ليس شرطاً الكتاب ولا القلم؛ لأنه علم عملي، ما هو بعلم خيالي.




التحذير من عقاب الله تعالى
ثم قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:2] والعلة ما هي؟ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2]، أنقذوا أنفسكم، اتقوه لا تخرجوا عن طاعته، فإنه إذا عاقب فعقابه شديد، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2] والعقاب: المعاقبة على الذنب، مأخوذ من العقب، لا يؤاخذك الله على الذنب قبل أن تفعله أبداً، لا يعاقب الله إلا بعد أن يذنب العبد فيأخذه من عقبه، لا أنه يعلم أنه يزني فيسلط عليه البلاء قبل أن يفعل! لا؛ لأن الله يعاقب بعد وقوع الجريمة والذنب: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].
تفسير قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ...)
تلك الآيتان درسناهما بالأمس، والآن مع هذه الآية، وليس بالإمكان دراستها كاملة، فنأخذ بعضها، وأولاً نسمعكم تلاوتها تبركاً بها:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3].
تحريم الميتة والدم المسفوح وبيان علته

في الآية السابقة قال تعالى: ( إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )[المائدة:1]، وهنا بين ذلك فقال تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ )[المائدة:3] من حرمها؟ مالكها. لم حرم الميتة؟ لأنها تحمل ضرراً لعبد الله العابد الذاكر الشاكر، الميتة فيها جراثيم وميكروبات؛ لأنها ما ذكيت ولا طهرت بإخراج دمها بما فيه من الجراثيم، ماتت هكذا، فمولانا وسيدنا وربنا تعالى قال: لا تأكلوا الميتة، لم يا رب؟ لأنها تضركم وتؤذيكم، وأنا لا أريد لعبيدي أن يتأذوا، فكيف يعبدونني إذا تأذوا؟ فالمريض لا يحج ولا يعتمر، فالميتة سواء كانت من الأنعام أو كانت من اليرابيع والظباء والغزلان محرمة، وعلة تحريمها الضرر الذي يصيب عبد الله آكلها أو أمة الله آكلتها. وحرم تعالى الدم المسفوح السائل، كانوا يجمعونه ويغلونه على النار فيتجمد ويأكلونه، هذا فيه جراثيم وميكروبات قاتلة، أما الدم الذي يجري في العروق ومع العظام واللحم فلا، الممنوع أن تذبح الشاة وتجعل تحتها إناء وتأخذ ذاك الدم وتطبخه وتأكله، هذا حرام، ولم حرمه الله على أوليائه؟ لأنه يضر بأبدانهم، وهو خلقهم ليذكروه ويشكروه، فإذا مرضوا فكيف يعبدونه؟
يتبع

ابوالوليد المسلم
19-06-2021, 04:47 AM
تحريم لحم الخنزير وذكر بعض مفاسده

(وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ )[المائدة:3]حرم تعالى لحم الخنزير أيضاً، فلم حرم لحم الخنزير؟ أولاً: الخنزير هذا يأكل الجيف، يأكل الفئران الميتة، يأكل القاذورات، يتغذى بالخرء، ففيه أيضاً من الجراثيم القاتلة ما لا يوجد في غيره والعياذ بالله، الخنزير لو قدمت له الخرء فإنه يعيش عليه، وعلى الجيف، كل منتن يتلذذ به، فلهذا يحمل في دمه ولحمه جراثيم وميكروبات قاتلة، فلم يأذن الله لأوليائه أن يأكلوه.
وهناك لطيفة خذوها، وهي: أن الخنزير ديوث الحيوانات، يرضى بالخبث في أنثاه، لا يغار عن أنثاه، رأينا الجمل -والله- يصول صولاناً ولا يسمح لآخر أن يمس أنثاه، التيس من الغنم كذلك، والكلاب، إلا الخنزير فإنه -والعياذ بالله- ديوث، فالذين يأكلونه تنتقل الدياثة إليهم، وقد جرب هذا وعرف، ما تصبح له غيرة على امرأته أو ابنته، فهل عرفتم لم حرم الله لحم الخنزير؟ لأنه ضار بالمؤمنين، مفسد عليهم أعراضهم وأبدانهم، فكيف يجوز أكله؟

تحريم ما أهل به لغير الله تعالى

(وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]، فالذي قال: هذه لسيدي فلان وذبحها، باسم المسيح، باسم عيسى، هذه شاة مريم ، هذه شاة سيدي عبد القادر ، هذه شاتك يا أحمد التجاني ، هذه شاتك يا إبراهيم، هذه شاتك يا سيدي البدوي .. كل ما رفع عليه صوت باسم غير الله عند ذبحه فقد أهل به لغير الله، فلا يحل أكله أبداً. وهذا فيه تدسية النفوس وتخبيثها، فالأولى فيها أمراض البدن، وهذه فيها أمراض الروح، وهو أخطر من مرض البدن، خير أن تعيش سبعين سنة مريضاً ولا أن تعيش ساعة واحدة فاسقاً أو فاجراً.
(وَمَا أُهِلَّ )[المائدة:3] الإهلال: رفع الصوت، ومنه الهلال لارتفاعه، فما قيل عليه: باسم الله والله أكبر فهذا الذي يؤكل، أما باسم المسيح، باسم سيدي فلان، باسم كذا.. فلا يحل أكله أبداً.

وهنا يأتي المغرضون يقولون: أنا قلت: باسم الله عند ذبح الشاة. لكن لو سألته: هذه الشاة لمن؟ يقول: هذه شاة سيدي عبد القادر ، إذاً: ما فائدة باسم الله؟ هل تكذب؟ أنت جعلتها لسيدي البدوي ، تقول: هذه شاته، هذه شاة سيدي عبد القادر ، هل ينفعك حين تقول: باسم الله عند الذبح؟ لا ينفع؛ لأن كلمة (باسم الله) معناها: أذن الله لي في هذه، أمرني أن أقدمها له باسمه فذبحتها، ليس معنى (باسم الله) للتبرك فقط، بل إعلان عن القصد: أمرني ربي باسمه أن أذبح هذا الحيوان وأقدمه للأكل، إذاً: فما أهل لغير الله به لا يأكل لحمه كالخنزير والميتة والدم على حد سواء.
إذاً: هذه أربعة: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)[المائدة:3]، هذه أصول المحرمات، جاءت في سورة النحل وفي سورة الأنعام: ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[الأنعام:145] أربعة.

هذه أصول المحرمات: ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ )[الأنعام:145] آكل ( يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[الأنعام:145]، هذه هي الأربعة هنا: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3].


تحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع

وإليكم الآن ست داخلة تحت أنواع الميتة:

قال أولاً: ( وَالْمُنْخَنِقَةُ )[المائدة:3]، هي التي يخنقها بحبل أو بيديه أو بحجرين حتى تموت، هذه مخنوقة، بهيمة مخنوقة لا تؤكل، لم؟ لأنها ميتة؛ لأن الجراثيم والميكروبات في دمها، ما ذكيت وما طهرت.

(وَالْمَوْقُوذَةُ )[المائدة:3]: الوقذ هو الضرب بشدة، وقذه بعصا بحجر بعنف، فالتي تضرب بعصا أو بحجر حتى تموت هذه هي الموقوذة، لا يحل أكلها، فهي ميتة جيفة.

ثالثاً: ( وَالْمُتَرَدِّيَةُ )[المائدة:3]، سقطت من السطح أو من أعلى الجبل، أو سقطت من السيارة فماتت، هل يجوز أكلها؟ ما يجوز، فهذه ميتة، فيها جراثيم وميكروبات في دمها محبوسة فيها.

(وَالنَّطِيحَةُ )[المائدة:3]: النطيحة بمعنى المنطوحة تنطحها أختها، تراها تتقاتل على الأكل، تنطحها ويدخل قرنها في بطنها أو كذا فتموت، فهي ميتة.

(وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ )[المائدة:3]: السبع: الذئب وغيره مما يفترس ويأكل، فالشاة التي يأكلها السبع وتجدها ميتة لا يجوز أكلها، اللهم إلا إذا أدركتها حية والحياة مستقرة فيها وذبحتها وسال دمها فلا بأس، كذلك نقول في المنخنقة، وفي الموقوذة، في المتردية، في النطيحة، ما أدركت فيه الروح كاملة بحيث إذا ذبحته رفس برجليه وانتفض فلا بأس.


حل قتيلة الصيد المستوفية شروطها

ونستثني أيضاً ميتة أخرى، وهي أن ترسل كلب الصيد وتقول: باسم الله، ويجري ذلك الكلب الصائد فيفترس أرنباً أو غزالاً ويقتله، ولكن ما أكل منه، فهذه ميتة في الواقع ولكن أذن الله في أكلها، ترمي برصاصتك ذاك الغزال وتقول: باسم الله والله أكبر فيقع ميتاً قبل أن تصل إليه، فكله فإنه حلال، وسيأتي هذا في آخر هذه الآيات، فالكلب المعلم يحل صيده، ما كل كلب يصيد تأكل صيده، وإنما ذاك الذي إن قلت له: امش يمشي، وإذا قلت: قف يقف، وإذا قلت: ارجع يرجع، ثانياً: أن تسمي الله عند إطلاقه وإرساله: باسم الله، هذه حالة من رحمة الله تعالى بنا حيث أذن لنا فيها، إذ قال تعالى في الآيات بعد هذه: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4]، هذه خاصة بالصيد، لمن عنده كلب مربى معلم مؤدب، وعلامة ذلك أنك إذا أرسلته يمشي، وإذا دعوته يعود، أما إذا لم يستجب لك فما هو بمعلم، وأيضاً أن يصيد لك ويأتيك بالحمامة أو بالغزالة دون أن يأكلها، يحملها ويأتي بها بين يديك، هذا من تعليم الله عز وجل، فهذا الكلب المعلم إذا أرسلته وذكرت اسم الله وصاد لك غزالة أو أي حيوان مأكول فكله ولا حرج وإن وجدته قد مات، لكن إذا وجدته يأكل منه فلا يحل لك، فقد صاده لنفسه وما صاده لك.إذاً: هيا نتلو بعض الآية: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) [المائدة:3]، ما معنى: (وما أهل لغير الله به)؟ هذه شاة سيدي عبد القادر ، هذه شاة المسيح، رفع الصوت فيها بغير اسم الله.

(وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ )[المائدة:3]، إلا ما ذكيتموه، قالت العلماء: أدركتم فيه الروح كاملة فذبحتموه، فالمنخنقة، المتردية، النطيحة إذا أدركت فيها الحياة مستقرة وذبحتها فهي حلال، وإن وجدتها ميتة أو في حكم الميتة بحيث إذا ذبحتها لم تتحرك فلا تؤكل، فهي ميتة.


تحريم ما ذبح على النصب

(وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3]، ما النصب هذه؟ جمع نَصَب، وهو التمثال، زعماء العرب بعضهم عملوا لهم أنصاباً، أظن هذا موجوداً، زعيم عملوا له تمثالاً، هذه النصب كان المشركون يجعلونها يعبدونها، ويأتي بالشاة ويذبحها للنصب، فهو ذبح لغير الله: ( وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3]، وهو ما ينصب للعبادة.وهذه ما شاعت بين المسلمين وظهرت إلا في بلدين أو ثلاثة وانتهت، فلا يحل لنا أبداً أن نجعل لأحدنا صورة من حديد أو ساج أو عاج أو خشب أو طين حتى نذكره بها ونعظمه، هذا من فعل المشركين، ولا يحل أبداً، وأهله في جهنم.




التنديد بالصور الموضوعة على الأضرحة والصور الملتقطة للذكريات
مع الأسف أنهم الآن يجعلون صورة على ضريح الولي، صورة فوتوغرافية كبيرة حتى يشاهدوه فيقولوا: هذا سيدي فلان! وهذا أيضاً من الوثنية، فنحن حرم علينا رسولنا أن نصور، وقال: ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون )، وأعلمنا أن الله يغضب لذلك ولا يرضى، فكيف نغضب مالكنا؟ كيف نغضب من إليه مصيرنا، كيف نغضب من بيده حياتنا ومماتنا؟ أنعلم أن الله يغضب من هذا الكلام أو هذا القول أو هذا العمل ونفعله؟ أمجنون أنا لا عقل لي؟!دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة في حجرتها الطاهرة الموجودة الآن، والتي فيها رسول الله وصاحباه، وقد وضعت سترة في كوة أو نافذة فيها صورة منسوجة بالخيوط، والله لقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت الغضب في وجهه فقالت: أتوب إلى الله ورسوله، ماذا فعلت يا رسول الله؟ قال: ( يا عائشة ! أزيلي عني قرامك؛ فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، فمزقته وجعلته تحت رجليها، فكيف بحالنا؟ نريد أن نجتمع وأن نكون الدولة الإسلامية والخلافة الإسلامية ونحن بهذا الهبوط نتحدى الله ورسوله، نتبجح بالتصوير حتى في عرفات؟ المرأة الحاجة والرجل الحاج في عرفات يتصور، وحول المسجد النبوي، إلا أن الهيئة تطاردهم، يقولون: ذكريات؛ لأن قلوبهم نسيت الله عز وجل وما عنده وما لديه، فيذكرون أشياء أخر.كيف حالكم في بيوتكم يرحمكم الله؟ هل يوجد في بيوتكم صور أم لا؟ أترضون أن يغضب الله ورسوله عليكم؟ اسمعوا واعلموا أن القضية قضية جد ما هي بهزل، بالله الذي لا إله غيره! لا يحل لنا نحن أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن نعلق الصور في بيوتنا، وأعظم من ذلك أن نضع شاشة التلفاز والفيديو ونشاهد العواهر من النساء يغنين، والهابطين من رجال يرقصون ويتكلمون في بيوتنا التي تعمرها الملائكة.أقول: لو نرجع إلى الله أربعاً وعشرين ساعة يسمع العالم بكامله أن بيوت ألف مليون مسلم ما فيها صورة، لغيرت الدنيا نظامها وعرفوا قيمة الإسلام وأهله، مسألة كهذه فقط: عرف المسلمون أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، فطردوا الشياطين من بيوتهم وأحلوا الملائكة محلها، من أجل أن يذكروا الله وينيبوا إليه، هذه وحدها بها نقول: طلعت شمس الإسلام، في أربع وعشرين ساعة والأمة كلها على قلب رجل واحد، هذه البسيطة الساذجة ما فعلناها! مع أننا نقول في هذا المسجد: نتحداكم يا من في بيوتكم هذه الملاهي أن تغتنموا غنيمة، ما هناك دينار واحد، طول الليل والرواقص في بيتك، فكم ريالاً تجني؟ والله لا تجني ريالاً واحداً، هل يحدث لك الشبع في بطنك؟ هل يعلو شرفك ومكانتك وتصبح ولي الله؟ والله ما كان، هل ترهب وتصبح كالأسد يخافونك من فوقك ومن تحتك؟ والله ما كان، ما هي النتيجة غير أن يغضب الله ورسوله؟أننا نحن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه لا نتكلم بالكلمة إلا إذا كانت تنتج لنا حسنة أو تنتج لنا درهماً، لا نمشي مشية أبداً إلا من أجل أن نكتسب درهماً لمعاشنا أو حسنة لمعادنا، فكيف نجلس الساعات ونضيع وقتنا في اللهو والباطل؟ ولا ألوم؛ لأننا ما عرفنا، ما علمونا، جهلنا منذ قرون، أبعدونا عن القرآن والسنة، إذاً هذا هو الذي يجري بيننا.ومع الأسف أنه أيضاً حتى العبد إذا سمع لا تطمئن نفسه إلى ما سمع، ولو كنا صادقين فوالله لن يوجد من الليلة في بيته تلفاز ولا فيديو أبداً، وإن وجد لضرورة لمسئول من المسئولين أو سياسي من السياسيين في غرفة خاصة فيها إبليس عند الحاجة والضرورة يفتح ويسمع أو يشاهد، ثم يغلق، ما يجعله لبناته ونسائه وأولاده يتفرجون على العهر والباطل، فتفسد قلوبهم وتطمئن نفوسهم إلى الباطل ويتلذذون به.
طريق العودة إلى الله تعالى
هيا نعود، الطريق إلى العودة أن نعلن عن إسلامنا في صدق ووفاء، أسلمنا لك يا رب قلوبنا ووجوهنا، ثم أهل القرية يعلن إمامهم يوم جمعتهم: معشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من هذا اليوم لا يتأخر واحد منا عن صلاة المغرب والعشاء في مسجدنا هذا أبداً، يا أهل القرية! لا يتخلف بعد اليوم رجل ولا امرأة عن صلاتي المغرب والعشاء. دقت الساعة السادسة ومالت الشمس إلى الغروب فيقف العمل وقوفاً كاملاً، يأخذون في التطهر ولبس ثيابهم الجميلة ويحملون أطفالهم ونساءهم إلى بيت ربهم، إلى بيت الرب جل جلاله وعظم سلطانه.يصلون المغرب النساء وراء الستارة والأطفال دونهن والفحول أمامهم، بعد صلاة المغرب آية يدرسونها كل ليلة، يتغنون بها حتى تحفظ، فيحفظها الرجل والمرأة والطفل حفظاً حقيقياً بقصد العلم ومعرفة الطريق إلى الرب تبارك وتعالى، في ربع ساعة كل الحاضرين والحاضرات حفظوا تلك الآية، ثم يأخذ المربي يضع أيديهم على المطلوب منها، الآية تطلب منا عقيدة كذا فهيا نعقدها في نفوسنا، الآية تطلب منا ترك معصية فلانية فمن الآن عزمنا على تركها، تأمر بواجب فمن الآن نقوم به، وفي الليلة الثانية حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوماً بعد يوم، شهراً بعد شهر، ما تمضي سنة إلا وأهل القرية والله كأنهم رجل واحد، على قلب رجل واحد، لا خلاف ولا مذهبية ولا فرقة، بل قال الله قال رسوله، يطبقون دين الله عز وجل.والمدن كذلك، كل مدينة فيها أحياء، كل حي له مسجده، دقت الساعة السادسة ومالت الشمس إلى الغروب فتوضئوا وأتوا بيت ربهم يطرحون بين يديه، يبكون بين يديه، يطلبون عونه ونصره على أنفسهم أولاً ثم على أعدائهم ثانياً، يتعلمون الكتاب والحكمة، فما تمضي سنة إلا وهم كرجل واحد، وتنتهي مظاهر الغش، والحسد، والكبر، والجهل، والشرك، والباطل، والله! إنه لمستحيل أن تبقى، إنها سنن الله عز وجل: الطعام يشبع أم لا؟ الماء يروي أم لا؟ الحديد يقطع أم لا؟ لم لا تتخلف هذه السنن؟ إذاً: فتعلم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس يستحيل معه الباطل والشر والفساد.هذا هو الطريق، هذا طريق العلم، هذا طريق العودة إلى الله، هذا طريق النجاة، فبلغوا، حاولوا أن تفعلوا حتى في بيوتكم، اجمع امرأتك وأولادك وتغن بآية معهم أو حديث، ليلة آية وليلة حديث، تشبعون بالنور الإلهي وتنامون، أما أن تترك التلفاز في بيتك والفيديو والعواهر يغنين فكيف يصح هذا؟ والله إني أخشى أن يموتوا على سوء الخاتمة، تفسد القلوب، وإن صاموا وصلوا.اللهم إنا نسألك أن تهنئ المؤمنين والمؤمنات بصوم رمضان، اللهم هنئهم بالثواب المأجور عليه، اللهم هنئهم بالثواب وأعدهم إلى مثله يا رب العالمين، اللهم أعدهم إلى مثله وهم طيبون طاهرون أتقياء بررة مستقيمون، اللهم أعدهم إليه وأعده عليهم يا رب العالمين سنوات عديدة وهم أتقياء أولياء صالحون يا رب العالمين.وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
19-06-2021, 04:48 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (24)
الحلقة (334)
تفسير سورة المائدة (30)



عرف عن اليهود على مر الأزمان سوء أدبهم واستهزاؤهم بأنبيائهم، وقتلهم فريقاً منهم، وهم لم يقفوا عند ذلك وإنما تطاولوا على الذات الإلهية، ووصفوا الرب جل وعلا بصفات يأنف أن يوصف بها البشر، فقالوا عنه سبحانه: إن يده مغلولة، فعاقبهم الله بجنس مقالتهم، فجعل أيديهم مغلولة فلا تنفق في أي باب من أبواب الخير، ولعنهم سبحانه وتعالى بسبب هذه المقالة وغيرها فهم يتقلبون في لعائن الله صباح مساء.
تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوان! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). ومن أراد أن يتأكد فليقف الآن ولينظر إلى هذه الجماعة المؤمنة هل تشاهد فيها منكراً أو باطلاً؟ هل ترى فيها عذاباً؟ ولو كنت تبصر وبصرك يقدر على رؤية الملائكة والله لرأيتهم يحفون بهذه الحلقة، أما ذكر الله تعالى لنا في الملكوت الأعلى فهو أمر أكيد مقطوع به، إذ أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث، فهيا أتلو واستمعوا وتدبروا وتأملوا، ثم نأخذ في بيان هدايتها عسى الله أن يهدينا.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة:64-66].
أخبار الصدق دلائل تنزيل القرآن من الله تعالى

يقول تعالى مخبراً عن اليهود الذين كانوا يساكنون الرسول والمؤمنين بهذه المدينة: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ )[المائدة:64-66]، هذا الكلام كلام من هذا؟ كلام الله، على من أنزله؟ على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أين يوجد هذا الكلام الآن؟ موجود في كتاب الله. هل لله من كتاب؟ أي نعم. ما اسمه؟ القرآن العظيم، به مائة وأربع عشرة سورة، هذه السورة سورة المائدة المدنية من سور الكتاب الكريم والقرآن العظيم، هل يجوز عقلاً إنكاره وتكذيبه؟ والله ما يجوز ذلك عقلاً، أينزل خالقك ورازقك وخالق كل شيء في هذه الأرض من أجلك، أينزل كتابه وتجحده وتنكره من أجل أن تبقى في الفواحش والأباطيل والمنكرات يا آدمي؟! كيف تنكر هذا؟ لقد أنكره بلايين البشر؛ لأنهم عبدوا الشيطان فساقهم إلى مهاوي الشر والفساد فأنكروا الحق وجحدوا به.

سبب نسبة المقالة الكفرية إلى جميع اليهود

(وَقَالَتِ الْيَهُودُ )[المائدة:64]، تدرون من اليهود؟ هؤلاء هم بنو إسرائيل أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ويعرفون ببني إسرائيل، ثم لما زلت أقدامهم وسقطوا في الهاوية عرفوا باليهود، وها هو ذا ربنا تعالى يحدثنا عنهم ويخبرنا عن حالهم؛ لنتعظ لنعتبر لنطلب الكمال والسمو والنجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، لا أن يقرأ هذا الكتاب على الموتى، يقرأ على الأحياء أمثالكم؛ ليتدبروا ويتفهموا ويعلموا ويعملوا فيكملوا ويسعدوا.(وَقَالَتِ الْيَهُودُ )[المائدة:64]، ماذا قالوا؟ قالوا: ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ )[المائدة:64]، قالها فنحاص وغيره من شياطينهم: ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ )[المائدة:64]، يعني: ما ينفق علينا ولا يعطينا! شطحات الهاوين، وهل يوصف الله بهذا الوصف؟ هل يصفه بهذا إلا كافر؟ وهم يدعون الإيمان ويدعون العلم، ويقولون: الله بخيل وشحيح وما ينفق علينا ونحن نعاني الفقر والحاجة والجوع، قال هذا بعض اليهود وطأطئوا رؤوسهم وما أنكروه ووافقوا من قال، فكلهم قالوه إذاً.

إذا ظهر منكر في بلد من بلاد المسلمين فكل الذين سمعوا به وما أنكروه يعتبرون فاعليه ومن أهله، فليس اليهود كلهم قالوا هذه المقالة، قالها فنحاص وفلان وفلان من رؤسائهم، لكن سائرهم ما قالوا: هذا باطل وهذا منكر ولا تقل مثل هذا، وتعالى الله عن البخل والشح. بل سكتوا، إذاً: فكلهم قالوا.

الرد على اليهود وتنزيه الله تعالى عما نسبوه إليه سبحانه

ورد الله تعالى عليهم باطلهم وقال: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ )[المائدة:64]، دعا عليهم فلن يفلحوا، غلت أيديهم ولا تجد أشح ولا أبخل من اليهود، وجرب، ( وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا )[المائدة:64]، أي: بسبب قولهم الباطل، قولهم: يد الله مغلولة، أو: الله شحيح وبخيل، هذه الكلمة لعنوا بسببها، فمن اللاعن لهم؟ إنه الله تعالى الذي يقوى على طردهم من ساحات الرحمة والخير إلى ساحات الشر والعذاب والبلاء، ( وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا )[المائدة:64]، أي: بسبب قولهم الباطل الفاسد من الكذب على الله عز وجل، وهو وصف الله بما هو منزه عنه.تأملوا: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ )[المائدة:64]، ماذا قال الله؟ ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ )[المائدة:64]، ثم ماذا؟ ( وَلُعِنُوا )[المائدة:64]، بسبب ماذا؟ ( بِمَا قَالُوا )[المائدة:64]، فكيف لا نفهم هذا الكلام؟!

ثم قال تعالى إضراباً عن تلك الأباطيل: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ )[المائدة:64]، أنفق منذ أن خلق الخلق إلى اليوم ما لا يقادر قدره ولا يحصى عدده، ولا يعرف أبداً، أنفاسناً هذه عطيته، طعامنا شرابنا لباسنا كل هذا إنفاق الله عز وجل، ومع ذلك قالوا: يده مغلولة! ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ )[المائدة:64]، هذا يغنيه وهذا يفقره، لماذا؟ لأني عليم حكيم أتصرف بحسب العلم والحكمة، أبتلي بالغناء وأبتلي بالفقر، وحاشاه تعالى أن يتصرف في شيء بدون علمه وحكمته، ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ )[الأنبياء:35]، ينفق كيف يشاء، وأخبر عنه نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم فقال: ( يد الله سحاء الليل والنهار ).

وقوله تعالى: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ )[المائدة:64]، إياك أن يخطر ببالك أن يدي الله كيدي المخلوقات، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، إذ قال: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )[الشورى:11]، ومستحيل أن تكون يد الله مثل يد مخلوقاته.

وعندنا أمثله للعامة ليفقهوا، نسأل الله ألا يؤاخذنا عليها، بل نسأله أن يثيبنا عليها، فنقول: لا تعجب، فأنت تؤمن بالنملة، فإذا قلنا: للنملة يد فهل يد النملة تشبه يدك؟ مستحيل هذا، إذاً: فصفات الله الذاتية كذاته لا تشبه صفات مخلوقاته بحال من الأحوال.

معنى قوله تعالى: (وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً)

ثم قال تعالى: ( وَلَيَزِيدَنَّ )[المائدة:64] هو جل جلاله وعظم سلطانه، ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا )[المائدة:64]، الذي أنزل إليك يا رسولنا من القرآن من ربك لا يزيدهم إلا طغياناً وكفرا، والمفروض أنه إذا سمع العبد آيات نزلت يقوى بها إيمانه وتزداد بها علومه ومعارفه، لكن مع الأسف إذا نزلت كهذه يزدادون كفراً وطغياناً؛ لأن الله لعنهم.وتقدمت الآية الكريمة: ( وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ )[المائدة:61]، كيف يسمعون من رسول الله هم والمؤمنون، فالمؤمنون يزيد إيمانهم وهم يزدادون كفراً؟ لأن الله لعنهم، فسدت عقولهم.

اسمع ما يخبر به تعالى: ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ )[المائدة:64] يا رسولنا ( مِنْ رَبِّكَ )[المائدة:64] من القرآن، لا يزيدهم إلا ( طُغْيَانًا وَكُفْرًا )[المائدة:64]، طغيان بالظلم والشر والفساد والكفر والجحود والإنكار؛ لأنهم فسدوا وهبطوا، أصبحوا شر البرية، وإلا فالمفروض أن كل من يسمع القرآن يزداد إيمانه وشوقه إلى ربه وإلى طاعته.


معنى قوله تعالى: (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة)

ثالثاً: ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )[المائدة:64]، مَنْ من رجال السياسة والعلم الحديث يردون علينا هذه؟ ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ )[المائدة:64]، أي: بين أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، ( الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )[المائدة:64]، الآن تقول: كيف هذا واليهود مبجلون مكرمون عند النصارى يحبونهم ويوالونهم؟! الجواب يا بصراء يا أهل العلم: أن النصارى فقدوا عقيدتهم، تحللوا وذابوا في الماديات فما أصبح في قلوبهم ذاك الإيمان الذي يحملهم على بغض من قتلوا إلههم وصلبوه، انتهى بيد اليهود، هم الذين أنشئوا وأوجدوا المذهب البلشفي الشيوعي اللاديني: لا إله والحياة مادة، من طلع بهذه الفتنة؟ هل الأوربيون قبل كل شيء أم لا؟ هجروا الكنائس تغني بها الطيور والحمام، فمن فعل بهم هذه؟ فعلها اليهود حتى يسخروهم ويركبوا على ظهورهم ويسودوهم وهم حفنة من البشر بالمكر والحيلة والخداع.
أما الذين ما زالوا مؤمنين فوالله ليحملن البغضاء والعداء لليهود إلى يوم القيامة، ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )[المائدة:64]، فقولوا: صدق الله العظيم!

قلت لكم: صدق الله العظيم؛ فالعداوة والبغض والكره بين اليهود مع النصارى والله لا تزال إلى يوم القيامة، فإن قلتم: ها نحن نشاهد النصارى في أمريكا وفي كل مكان يودون اليهود ويحبونهم؟ فالجواب: إن الذين يودونهم تخلوا عن عقيدتهم الصليبية وكفروا بها، ما أصبحوا يؤمنون بها، أما تعرفون الشيوعيين والعلمانيين؟ هل يؤمنون بالله؟ لا.
إذاً: هؤلاء أصبحوا كالبهائم سخرهم اليهود، هم الذين بهموهم بهذه المعتقدات وأصبحوا تحت أرجلهم، لو تراجع النصارى من جديد إلى الصليبية والنصرانية الحقة والله لفعلوا العجب باليهود، كانوا يقلونهم كالسمك في الزيت، ما يستطيع المسيحي أن ينظر إلى اليهودي بعينيه؛ كيف ينظر إلى قاتل ربه؟! كيف يرضى عنه؟! ومن ثم هربوا إلى بلاد العرب.
فقول ربنا: ( وَأَلْقَيْنَا )[المائدة:64] الفاعل هو الله، ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )[المائدة:64]، هذا تدبير الله في خلقه.

يتبع

ابوالوليد المسلم
19-06-2021, 04:49 AM
معنى قوله تعالى: (كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله)
ثم قال تعالى: ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ )[المائدة:64]، أين السياسيون؟ القرآن يخبرنا أن الحرب العالمية الأولى والثانية والآتية الذين وضعوا خيوطها ونسجوها هم اليهود، تسمعون بالحرب العالمية الأولى والثانية، والثالثة أوشكت أو كادت، فمن الذين ينسجون خيوطها ويعدونها؟ هل العرب أو الهند؟ إنهم اليهود، وإن شئتم حلفت لكم بالله، والذين لا بصيرة لهم يتبعون ما يقول أهل الجهل والضلالات ويقلدونهم، والله ما أوقد اليهود ناراً للحروب إلا أطفأها الله، إذاً: فهم الذين يقودون الحروب والله يطفئها وينهيها، ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ )[المائدة:64].

معنى قوله تعالى: (ويسعون في الأرض فساداً)

ثانياً: ( وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا )[المائدة:64]، يعملون الليل والنهار بمخططاتهم وبمعارفهم وكيدهم ومكرهم على إيقاع البشرية في الفساد: الزنى، الربا، أندية اللواط، القمار، قل ما شئت، فأصابع اليهود هي التي تدبر ذلك.إن الحاكم الفرنسي أيام الاستعمار زارنا في القرية منذ حوالي سبعين سنة أو ثمان وستين سنة، امرأته الفرنسية على وجهها برقع أسود كالمرأة عندنا في المدينة، وإلى الآن في الجبال وفي الغابات المرأة الأوروبية ثوبها إلى كعبها، فمن مسخهم حتى صارت المرأة نصف عريانة؟ تخطيط من هذا؟ هل تخطيط السادة رجال الكنسية؟ لا والله، إنهم اليهود، هذا من الفساد الذين يسعون به، فلماذا يسعون في الأرض فساداً؟
الجواب: لأنهم يريدون أن يحكموا العالم، أن تعود مملكة بني إسرائيل في الشرق والغرب، فكيف يصلون إليها وهم حفنة من بين البشر؟ يصلون إليها من طريق إهباط البشرية وإنزالها إلى الحضيض، ويومها هم أصحاب العقول والآراء والبصيرة يحكمون ويسودون.
وكيف تهبط البشرية؟ تهبط بإفساد قلوبها، وإفساد عقولها، عندما تساق إلى البهيمية، وتصبح لا هم لها إلا الزنا والباطل والشر حينئذ يمكنهم أن يسودوا.
فإن قلت: يا شيخ! دلل على هذا وبرهن. قلت: هل أنشئوا دولة إسرائيل في فلسطين أم لا؟ فمتى أنشئوها؟ هل في القرون الذهبية الثلاثة، متى؟ هل في أيام الدولة العثمانية في أنوارها الساطعة في العالم، لا؟ بل لما مزقوا العقيدة وشتتوا القلوب، وشتتوا الأمة ووطئوها بأقدامهم أنشئوا دولة إسرائيل.
لو كان المسلمون كما كانوا أيام كانوا سائدين وعابدين لله فهل سيستطيعون أن يظهروا حتى الظهور أو يتكلموا، لما شاهدوا العالم الإسلامي تحت أقدام الاستعمار هبط وانتكس ونسي ربه حينئذٍ أعلنوا عن دولة إسرائيل، والواقع يشهد: فهل استطاع العرب أن يضربوهم ويخرجوهم في الأيام الأولى من فلسطين؟ ما استطاعوا، لأنهم أموات، إنهم اليهود بخططهم وتعاليمهم ومكرهم وخداعهم، فلا إله إلا الله!




معنى قوله تعالى: (والله لا يحب المفسدين)
وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة:64] للعقائد والآداب والأخلاق وللأموال ولكل شيء، هذا همهم، ويعقب الله على ذلك فيقول: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، الله يكره اليهود لأنهم فسدوا، والله لا يحب المفسدين، ونحن -يا أهل القرآن- كيف حالنا مع القرآن؟ هل أقمنا الصلاة؟ هل جبينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر؟ هل عبدنا الله بما شرع لنا وبين رسوله صلى الله عليه وسلم لنا؟ هل تآخينا وتعاونا وتحاببنا؟ هل سمت أخلاقنا وارتوت آدابنا وأصبحنا أنواراً تلوح في العالم؟ الجواب: لا.فالذين ينشئون المخامر لإنتاج الخمر هل يفسدون أو يصلحون؟ والذين ينشئون دور القمار واللهو والباطل بين المسلمين يفسدون أو يصلحون؟ جماعات التلصص والحيل والمكر في التجارة وغيرهم هل يصلحون أو يفسدون؟ والذين ينشئون البنوك الربوية ويعلنون عنها ويتبجحون بها هل يفسدون أو يصلحون؟ وقد يقول قائل: هذا كلام باطل يا شيخ، ما شأنك وهذا الكلام؟ فالبنوك لها أثرها! وأقول: البنوك لها أثرها في ماذا؟ في الدولة وبقائها وامتداد سلطانها، يا أبناء الإسلام! ويا رجالات الإيمان! البنوك معناها ذبح الفضيلة، دفن الحسنة، تمزيق الصلات القلبية والروحانية، القضاء على التلاقي والود والحب بين المسلمين، هذا تخطيط بني عمنا اليهود أعلم الناس بهذه القضية، أهل القرية الإسلامية قبل أن توجد البنوك كان الذي عنده مال يستقرضه أخوه فيقرضه، وأخوه رباني مؤمن صادق يأتي به في موعده الذي وعده أن يرده إليه، ويفيض المال، فماذا نصنع؟ يقال: يا فلان، يا فلان! تعالوا خذوا هذا المال وأنشئوا به حديقة من حدائق كذا، أو أنشئوا مصنعاً ولو لنسج السجاجيد، وتتراحم الأمة. فقال اليهود: كيف نقطع هذا التراحم، كيف نزيله فنتركهم أعداء لا يثق بعضهم ببعض ولا يعطي بعضهم لبعض؟ هذا السؤال طرحه اليهود وألهمهم الشيطان وقال: أنشئوا لهم البنوك، ضع مالك لينمو لك ويزيد وتأمن من خطفه ومن سرقته بين الناس، وإذا أردت أن تزرع أو تنشئ فخذ من البنك بفائدة معلومة معروفة وأنشئ وأنشئ، فهذا -والله- إنه لمن خطط اليهود، أما قال ربنا: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة:64]، والله لا يحب المفسدين، اليهود مفسدون فالله لا يحبهم.
تفسير قوله تعالى: (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ...)
الآية الثانية: يقول تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا [المائدة:65]، هذا باب الخير الإلهي مفتوح، ونحن أحق بهذا لو عقلنا وعرفنا، اسمع ما يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا [المائدة:65] مع عدائهم وحربهم؛ لأنهم ما زالوا عبيد الله ومن مخلوقاته، لو أن أهل الكتاب آمنوا الإيمان الذي دعوا إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.ثانياً: وَاتَّقَوْا [المائدة:65]، اتقوا عذاب ربهم وسخطه وغضبه عليهم وذلك بطاعته في السر والعلن.فماذا يعدهم الله؟ يقول تعالى: لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [المائدة:65]، جرائمهم لكذا ألف سنة كلها نمحوها، فهذا عطاء الله أم لا؟ على هذه الآية -والله- آمن العديد من اليهود والنصارى. اسمع هذا الوعد الإلهي: يقول تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا [المائدة:65]، أولاً، وَاتَّقَوْا [المائدة:65] ثانياً، لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [المائدة:65]، إذاً: ما الذي صرفهم عن الجنة؟ الكفر: عدم الإيمان، والفجور: عدم التقوى، وسر ذلك معروف كالشمس؛ لأن المؤمن المتقي يزكي نفسه ويطهرها فتصبح أهلاً لأن ينزلها الله في منازل الأبرار في الجنة دار المتقين، والذي كفر وجحد كيف يعبد الله، والذي فجر وخرج عن طاعة الله كيف تكون نفسه؟ تكون منتنة عفنة مدساة مظلمة، فهيهات هيهات أن تفتح لها أبواب السماء أو تدخل الجنة: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، هل البعير يدخل في سم الإبرة؟ مستحيل، فصاحب النفس الخبيثة من جراء الشرك والمعاصي نفسه خبيثة، فمستحيل أن تفتح لها أبواب الجنة.

شرح أعمال الحج
الآن نعيش مع حجاج بيت الله:هل تذكرون قول الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من حج هذا البيت )، وهو يشير إليه، ( من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )، هل يمكن أن نحفظ هذا الحديث؟ يجب حفظه، لماذا نحفظ الأغاني والباطل والكذب ولا نحفظ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ ( من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )، يمحى عنه كل ذنب أذنبه كيفما كان نوعه، ها هو الآن أعطى لليهود أهل الكتاب: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [المائدة:65]، فهل نحرم نحن من هذا؟يقول صلى الله عليه وسلم: ( من حج هذا البيت )، حجه: زاره على أنظمة وتعاليم بينها الله ورسوله؛ لا أنه يحجه فقط كما يحب هو، وإليه تلك التعاليم: أولاً: الإحرام والتجرد كأنه ذاهب إلى قبره، لا مخيط ولا محيط.ثانياً: كلمة: لبيك اللهم لبيك، أجبتك يا من دعوتني، أجيبك مرة بعد مرة، إذ الله دعانا إلى بيته، واقرءوا: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27].ثم دخولك مكة وأنت مطأطئ رأسك إجلالاً وإكباراً لحرم الله وبيته، ونفسك وقلبك مع الله، ولسانك تذكر به الله، وتطوف الطواف الشرعي كما بين رسول الله، تكون متطهراً ليس منتقض الوضوء، وإن كنت ذا عذر تيممت، وإن استطعت أن يكون أول عملك الطواف فافعل، تقف أمام الحجر الأسود وتقول: باسم الله والله أكبر، لا إله إلا الله، وتوالي الذكر، وكلما مررت بالحجر الأسود إن أمكنك أن تقبله بفمك فافعل، وإلا فإن استطعت أن تضع يدك عليه ثم تضعها على فيك فافعل، فإن لم تستطع لكثرة الطائفين فتشير من بعيد. هذا الحجر الأسود هو يمين الله في الأرض، كأنما بايعت الله، وقد روي: أنه نزل من الملكوت الأعلى من الجنة، أليس أبونا آدم كان في الجنة هو وامرأته، ومن أهبطهما إلى الأرض، ومن بنى لهما البيت؟ إنه الله تعالى بأمره لملائكته؛ حتى يذهب ذلك التألم النفسي وتلك الوحشة من نفسيهما.هذا الطواف سبعة أشواط، فإن أمكن أنك تهرول ثلاثة أشواط وتمشي في الأربعة الأخرى فافعل، لكن مع كثرة الحجاج غير ممكن، وهي فضيلة من الفضائل، ولكن لا ننسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة )، فالاضطباع رمز يشير إلى القوة، ليشعر المؤمن بأنه قوي يستطيع أن يأخذ ويعطي، والهرولة كذلك إظهار للقوة؛ لأن المشركين قبل فتح مكة في عمرة القضية في السنة السابعة قالوا: إذا رأينا ضعفاً في محمد ورجاله فسننكب عليهم وندمرهم. فأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم فقال في بيانه الرسمي لرجاله: ( رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة ) فشرعت السرعة في الثلاثة الأشواط الأولى.وبعد ختام الأشواط السبعة صلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم، هذا المقام الذي كان إبراهيم يقوم عليه ويواصل بناء الكعبة، وإسماعيل يناوله الحجارة والطين، هذا الحجر ساخت فيه قدما إبراهيم آية من آيات الله، حجر من جبل أبي قبيس تسيخ فيه الرجل؟ أي نعم، آيات الله عز وجل، أما قال تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، وتخلد هذه القدم إلى اليوم باقية إلى يوم القيامة، ما استطاع اليهود ولا العالم ولا الشيوعية التي تحطمت أن تأخذه، فمن حفظه؟ إنه الله جل جلاله.إذاً: صلاة ركعتين خلف المقام تقرأ في الأولى بالفاتحة و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وفي الثانية بالفاتحة و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وادع بما شئت، فإذا فرغت من الركعتين تخرج إلى السعي، وابدأ بالصفا؛ لأن الله قال: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158]، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( نبدأ بما بدأ الله به )، لا تعكس، ابدأ بالصفا وانته بالمروة، سبعة أشواط وأنت تذكر الله وتدعو طيلة ما أنت هناك، وإن تعبت فاصمت واسكت.واحذر أن تقول كلمة سوء أو تنظر نظرة سوء، فإذا فرغت من السعي وكنت محرماً بالعمرة فاخرج إلى ما وراء المسعى وحلق شعرك أو قصه، وإن كنت مفرداً أو قارناً فابق على ما أنت عليه، اذهب إلى بيتك فاسترح أو إلى المسجد وأنت تلبي؛ لأنك قارن أو مفرد، كلما أتيحت الفرصة قلت: لبيك اللهم لبيك.إذاً: إن كنت متمتعاً حلقت أو قصرت ولبست لباسك وتمتعت بالطيب وغيره؛ لأنك متمتع، فإذا جاء يوم الثامن من شهر ذي الحجة فالمفردون على إحرامهم والقارنون كذلك، والمتمتعون يغتسلون ويتجردون، ويلبي الجميع بالحج: لبيك اللهم لبيك حجاً، ثم ينطلقون إلى منى، فيصلون الصلوات الخمس، وهي انتقال من مكة والزحام فيبيتون هذه الليلة يستريحون، ثم يصلون الصبح يوم التاسع يوم عرفة ويفيضون إلى عرفة ماشين أو راكبين، يدخلون عرفة، وما عرفة هذه؟ قيل: تعارف آدم وحواء فيها، وتسمى عرفات بالجمع أيضاً، لما هبط آدم من علياء من الجنة، لو طارت طائرتك ألف سنة ما تصل، سبعة آلاف وخمسمائة عام وأنت طائر، لكن قول الرب: كن فيكن، آدم في جهة وحواء في جهة والتقيا هناك وتعارفا. هذه عرفات، يومها من أعظم الأيام عند الله، يومها يتجلى فيه الرب عز وجل ويقول لملائكته: انظروا إلى عبيدي أتوني شعثاً غبراً ويغفر لهم، يوم هذا من أفضل الأيام: يوم عرفة، ترى عبيد الله وإماءه مهللين مكبرين داعين صارخين بالبكاء والدعاء والذكر طول اليوم من الزوال إلى ما بعد غروب الشمس وهم وقوف يستمطرون رحمة الله عز وجل، فأكثروا فيه من الدعاء بالخير، فالله يستجيب دعوة العبد ما لم يدع بشر أو قطيعة رحم.هذا اليوم وقف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الزوال إلى أن غابت الشمس وغربت وهو واقف، وجبل الرحمة لا تعلوا فوقه ولا تقلدوا العوام والجهال، فالرسول وقف تحته، المهم أن نقف ذاكرين باكين خاشعين، وأنبه إلى أن أهل الجهل -والشياطين تقودهم- يأتون بآلات التصوير فيصورون هناك، ألا لعنة الله عليهم، ألا لعنة الله عليهم! إذ قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله المصورين )، فلا تسمحوا لهم. ‏
تحذير الحجيج من التدخين
وأنبه أيضاً إلى أنكم يا حجاج بيت الله من الليلة لا تدخنوا، من في جيبه علبة تدخين يمزقها عند باب المسجد ويرميها في القمامة، لأنكم تريدون أن تغفر ذنوبكم، والشرط معروف: ما لم يفسق أو يرفث، ومن الفسق -والله العظيم- التدخين، إي والله، التدخين خروج عن طاعة الله ورسوله، أتؤذي الملائكة؟ تنفخ في وجه الملك عن يمينك وعن شمالك النار المنتنة؟ أي أذى أكبر من هذا الأذى؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً فلا يقربن مسجدنا )، لم يا رسول الله؟! قال: ( إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )، تنفخ الرائحة الكريهة في وجه المؤمنين، من يجيز هذا، من يقول: هو جائز؟ آلله أذن فيه ورسوله؟إنما أذن فيه اليهود، لو بحثتم في التاريخ -وإن قلتم: في بلغاريا أو في البرتغال- لوجدتم أصابع اليهودية. فالمؤمن طاهر نقي، فكيف يعفن فمه ورائحته؟ فالشاهد عندنا أنه إذا أحرمت فلا تدخن وإلا فسوف تعود كما جئت، وعندنا دليل: إذا رجع الحاج فأصبح يفعل ما كان يفعله من الباطل والمنكر فتلك آية أن ذنوبهم لم تغفر، والله العظيم! ما غسلت روحه ولا طابت ولا زكت، فلهذا عاد إلى الذنب، وإذا حج حجاً قبله الله فإنه والله يعود إلى بلاده فتجد الناس يقولون: هذا سيدي الحاج، الحاج ما يكذب، الحاج ما يسرق، الحاج ما يترك صلاة. هذا أيام كانوا يحجون وينفقون الأيام والليالي، يرجع الحاج مستقيماً آمناً مطمئناً، والله إنه ليشار إليه بالأصبع، أما الذي يدخن في بيت الله ومسجد رسول الله ويعبث فإنه والله يعود وذنوبه كما هي، فلا تدخين إلى يوم القيامة. وإن قلتم: ولم يا شيخ؟! قلت: صلاتكم مشكوك في صحتها، فالصحابة الكرام كانوا يتوضئون مما مست النار، وما صلى الرسول صلاة إلا توضأ فيها، وما زالت الكراهة قائمة، فمن استطاع أن يتوضأ عندما يأكل اللحم أو الطعام فليفعل، فهو مستحب.فكيف إذاً بالذي يدخل النار في جوفه، كيف تصح صلاته؟ أما ينتقض وضوؤه؟ لقد جهلونا وفعلوا فينا الأعاجيب، ولكن رزقنا الله أهل العلم فعلمونا وبصرونا فعرفنا أن التدخين رذيلة من رذائل الشياطين وعبث وسخرية وإفساد للمال والعياذ بالله تعالى.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
19-06-2021, 04:50 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (25)
الحلقة (335)
تفسير سورة المائدة (31)


لما أرسل الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام، فقدمها صلوات الله وسلامه عليه للعالم بأسره صافية نقية، ليخرج بها الناس من ظلمات الكفر واتباع الديانات المحرفة إلى نور التوحيد القويم، لما كان ذلك أعرض أكثر أهل الكتب من يهود ونصارى عن قبول الحق، فأخبر الله عنهم أنهم لو آمنوا لكفر عنهم ما سبق من أفعالهم المشينة في حقه وحق رسله، ولو أنهم اتبعوا ما تدعو إليه التوراة والإنجيل للزمهم أن يؤمنوا بالقرآن المذكور فيها، ويتبعوا الرسول النبي الأمي الذي بشرت به.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل القرآن العظيم؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، لذا ندرس كتاب الله.
وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة:64-66].
اعلموا أن هذا كلام الله لا كلام أحد سواه، أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ضمن كتاب كريم موجود في اللوح المحفوظ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22]، هذا الكلام الإلهي اجتمعنا من أجل أن نتدارسه، فهيا بنا نتدارس.


سعة رحمة الله تعالى الشاملة لأهل الكتاب حال دخولهم الإسلام
والآن فتح باب جديد؛ لأن ربنا رءوف رحيم، والعبيد كلهم عبيده، خذوا هذه القاعدة: كل البشر أولاد آدم نساءً ورجالاً في أي عصر في أي بلد، كلهم نسبتهم إلى الله لا تتبدل، فهم عبيده، يرحم من يستحق الرحمة ويعذب من يستوجب العذاب.فكلهم عبيد لله وهو سيدهم ومالكهم، فمن أطاع السيد ومشى على منهاجه أنجحه وفوزه وأدخله دار النعيم، ومن أعرض أو تكبر أو عبث بعقله وترك طاعة سيده تعرض للعذاب والبلاء والفتنة في الدنيا والآخرة.واسمع ما يقول ربنا تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:65]، وهم اليهود والنصارى، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا [المائدة:65]، صدقوا بوجود الله الذي لا إله إلا هو ولا رب سواه، آمنوا بما أخبر به تعالى من الغيب والشهادة، آمنوا بكتبه ورسله، آمنوا بلقائه، آمنوا بالعالم الثاني، بالنعيم والعذاب المهين، إيمان راسخ في قلوبهم، لو أنهم آمنوا أولاً وَاتَّقَوْا [المائدة:65] ثانياً، اتقوا ماذا؟ اتقوا غضب الله وعذابه بطاعته وطاعة رسوله، قال صوموا فنصوم، قال: حجوا فنحج، قال: ناموا فننام، هذه هي الطاعة، وبهذه الطاعة يتقى عذاب الله وسخطه. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:65] يهوداً ونصارى آمَنُوا وَاتَّقَوْا [المائدة:65]، فالجزاء ما هو؟ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [المائدة:65]، نمحو كل ما ارتكبوا من الذنوب والآثام والمساوئ، وندخلهم جنات النعيم.ما هو السبب؟ السبب هو: أن عبداً يزكي نفسه ويطهرها فتصبح كأنفس الملائكة هذا الذي يدخله الله دار السلام، والذي يخبث نفسه ويلوثها بالذنوب والأوضار والآثام ينزل إلى الدركات السفلى في عالم الشقاء في النار دار البوار، هذا هو السر، آمنوا واتقوا، زكت نفوسهم، طابت أرواحهم وطهرت، فماذا يفعل بهم؟ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [المائدة:65]، ومن لم يؤمن أو آمن ولم يتق فنفسه خبيثة منتنة، ما هي متأهلة للعروج إلى الملكوت الأعلى ودخول الجنة دار الأبرار.وإليكم آية حتى لا تنخدع وتجهل، اسمع هذا البيان: يقول الله جل جلاله وعظم سلطانه في سورة الأعراف بين الأنفال والأنعام من كتاب الله القرآن العظيم، يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، حتى يدخل البعير في عين الإبرة، مستحيل هذا، مستحيل أن صاحب الروح الخبيثة يدخل دار السلام، ويواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هذا حكم الله.اسمع ما يقول تعالى لأعدائه الكافرين به المحاربين لرسالته ورسوله، يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [المائدة:65]، محوناها وأدخلناهم جنات النعيم؛ لأنهم عبيدنا، فإذا آمنوا واتقوا محي ذلك عنهم، فإذا طابوا وطهروا فأين ينزلون؟ في دار السلام.ومن سورة النساء يقول تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]؛ لأن طاعة الله وطاعة الرسول تزكية للنفس، بم تزكو النفس يا عباد الله؟ هل بالماء والصابون؟ تزكو بالإيمان وصالح الأعمال مع بعد عن المدسيات والمخبثات من الشرك والكفر والذنوب والمعاصي. هذه مظاهر الرحمة الإلهية تتجلى في هذه الآية: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [المائدة:65].وأيما مؤمن يؤمن ويقوي إيمانه ويتقي ربه ولو بعد الظلم والشرك والباطل والكفر فإن الله عز وجل يغفر سيئاته ويدخله جنات النعيم، هذه بشرى عظيمة أم لا؟ بكم تشترونها؟ بملء الأرض ذهباً. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [المائدة:65]، غطيناها، وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [المائدة:65]، فهذا الخبر ينفع كل إنسان على وجه الأرض، وإنما بدأ بأهل الكتاب لأنهم حرب على الله ورسوله، ومع هذا لو آمنوا واتقوا لما بالى بكفرهم وحربهم ولا عنادهم ولا قتلهم الأنبياء؛ لأن الإيمان والعمل الصالح يغسل النفس ويطيبها فتصبح كأرواح الملائكة، فأين تنزل؟ في الملكوت الأعلى.

يتبع

ابوالوليد المسلم
19-06-2021, 04:50 AM
تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ...)
ثم يقول تعالى أيضاً: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ [المائدة:66]، التوراة: كتاب اليهود، والإنجيل: كتاب النصارى، وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ [المائدة:66] كتاب البشرية القرآن الكريم. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ [المائدة:66] كيف أقاموها؟ عملوا بما تدعو إليه وتأمر به وتنهى عنه من الشرائع والآداب والأحكام، وأقاموا الإنجيل فطبقوا ما فيه وعملوا بما يحمله من الهدى للبشرية؛ لأنه كتاب الله، وآمنوا بما أنزل إليهم من ربهم، ألا وهو القرآن الكريم، لو فعلوا هكذا لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66]، وهذا فيه دليل على أن رؤساءهم يخبثون ويضللون ويمكرون من أجل المال، من أجل الدينار والدرهم، رؤساء اليهود والنصارى يحولون بين الناس وبين الدخول في الإسلام، لماذا؟ هل لأنهم يعرفون أن الإسلام ليس بحق؟ والله إنهم ليعرفون أنه حق أكثر مما يعرفون أنفسهم، ولكن يقفون في وجه تلك الأمم والشعوب حتى لا يبقوا فارغي الأيدي لا سلطان ولا مال. فقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ [المائدة:66] -أي: من القرآن- لأغناهم الله حتى يأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، يرفع رأسه فيجد العنب والتمر والتفاح والبرتقال، ولأكلوا من تحت أرجلهم أنواع الخضروات والحبوب.
وهذا نقوله لأنفسنا: لو أن المؤمنين أقاموا التوراة والإنجيل، نعم آمنا بهما، وأقاموا ما أنزل إليهم من ربهم من القرآن الكريم، والله لو أن أهل إقليم أو بلد يقيمون القرآن كما أنزله الله، فيحلون ما أحل، ويحرمون ما حرم، ويؤدون ما طلب، ويثبتون ويصبرون على حب الله ورسوله والمؤمنين؛ والله لأغناهم الله ولما ما بقي بينهم فقير، فكيف يا هذا؟ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربط بطنه بالحجر من الجوع، واشتد البؤس والفقر، وما هي إلا سنوات حتى أصبحوا يوزعون المال هنا بالدرهم والدينار في الثوب، جاء العباس وأخذ يجمع الذهب وملأ ثوبه فما استطاع أن يقوم به، فنظر إلى رسول الله كأنه يريده أن يحمله عليه فقال: لا، لا نحمله عليك.
ثلاثة قرون لم تعرف الدنيا أسعد ولا أكمل ولا أغنى من أمة الإسلام، ثلاثمائة سنة، ولكن ما أقمنا التوراة والإنجيل والقرآن، فلهذا هذا الوعد مازال: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ [المائدة:66]، يوم كانت تنزل هذه الآيات كان الفقر يمزق العالم الأوربي وعالم اليهود والنصارى، والتاريخ يدلكم على ذلك.
إذاً: هذا الوعد مفتوح إلى يوم القيامة، لو أن المسلمين اجتمعوا على كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم في شجاعة، في صدق وإخلاص، والله ما هي إلا سنوات وإذا هم من أغنى الخلق، ولكن ما أقمنا القرآن.قال تعالى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ [المائدة:66]، معتدلة، أفراد من النصارى ومن اليهود، عدد اليهود قليل جداً، أما عدد المسلمين والنصارى فبالملايين في قرون عديدة، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة:66]، كثير من اليهود والنصارى قبح عملهم وساء وبطل؛ فهم على الشرك والخداع والمكر والباطل، هذا كلام من؟ كلام الله عز وجل.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
اسمعوا هذه الهدايات من الآيات، وتأملوا ما درسناه.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:من هداية الآيات: أولاً: قبح وصف الله تعالى بما لا يليق بجلاله وكماله ] وعظمته قبيح، والدليل من الآية: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] فرد الله عليهم ولعنهم، فوصف الله بما لا يليق بجلاله وكماله قبيح من أشد القبح، والدليل هذه الآية نفسها، لما قالت اليهود: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] هل رضي الله بهذا الكذب؟ ماذا قال؟ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64].[ ثانياً: ثبوت صفة اليدين لله تعالى ووجوب الإِيمان بها على مراد الله تعالى، وعلى ما يليق بجلاله وكماله ]، لا تقل: لا، أيخبر تعالى عن نفسه وتقول: لا؟! هذا مبدأ اعتقنه الضلال لينزعوا من قلوب المؤمنين مهابة الله وعظمته وحبه أبداً، بلغ بهم الحد إلى أنك لو ترفع يديك إلى السماء تقول: الله لقطعوا يدك، يقولون: الله لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال، إذاً: أين الله؟ والله يخبر عن نفسه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ويحمل رسوله من هنا إلى الملكوت الأعلى إلى مستوى كلمه الله كفاحاً، فإذا أثبت الله صفة لنفسه فيجب أن تؤمن بها وعقلك لا قيمة له، فقط لا تشبها بصفات المخلوقات، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1]، وقال لإبليس: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وأخبرنا رسول الله أن آدم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، فقط أثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله، ولا تحاول أن تفهم؛ لأنك عاجز ما تستطيع، فقل: آمنت بالله.. آمنت بالله.
وبينا للعوام حتى يفهموا المعنى، ونسأل الله أن لا يؤاخذنا، قلنا: ليس شرطاً أن تكون يد الله كيد الخلق أبداً، ولا يخطر ببال المؤمن، فالله خالق وهؤلاء مخلوقون فهل يكونون كربهم؟ مستحيل، وضربنا مثلاً: هل تعرفون أن للنملة عيناً تبصر بها؟ هل عين النملة كعين البقرة والبعير؟ شتان ما بين السماء والأرض.
إذاً: فصفات الله تعالى كاليد والقدم والضحك والغضب كل هذه الصفات أثبتها على وجه يليق به تعالى، أما أن تشبه المخلوقات به تعالى فهو قد قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وهل المخلوقات التي خلقها تكون شبيهة به؟ هذا الكرسي هل يكون مثل النجار في عقله ومعارفه وقدرته؟ مستحيل. إذاً: نؤمن بصفات الله ولا نؤول ولا نحرف ولا نعطل أبداً، حتى يبقى حبنا وتعظيمنا لله كما هو.ومكرة اليهود والمجوس والنصارى منعوا الناس من الإيمان بصفات الله، حتى زالت مهابة الله من قلوبهم، فلا بد من إثبات صفة اليدين لله تعالى ووجوب الإيمان بها على مراد الله تعالى وعلى ما يليق بجلال الله وكماله.
[ ثالثاً: تقرير ما هو موجود بين اليهود والنصارى من عداوة وبغضاء، وهو من تدبير الله تعالى ]، هو الذي أوجد بينهم العداوة والبغضاء، أليس كذلك؟ من أين أخذنا هذا من الآية؟ من قوله تعالى: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:64].[ رابعاً: سعي اليهود الدائم في الفساد في الأرض، فقد ضربوا البشرية بالمذهب المادي الإلحادي الشيوعي، وضربوها أيضاً بالإباحية ومكائد الماسونية ]، وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة:64]، كيف يسعون فساداً؟ بالشيوعية بالمبادئ العلمانية، والآن حولوها إلى الاشتراكية، هذا -والله- من صنيعهم.[ خامساً: وعد الله لأهل الكتاب على ما كانوا عليه ] من الكفر والضلال [ لو آمنوا واتقوا لأدخلهم الجنة ]. وعد الله لأهل الكتاب من اليهود والنصارى على ما كانوا عليه من الكفر والظلم والشر والفساد، لو آمنوا واتقوا لأدخلهم جنات النعيم، يؤمنون بماذا؟ بالله رباً وإلهاً وبمحمد رسولاً والقرآن تنزيلاً وبالإسلام شريعة وقانوناً.[ سادساً: وعده تعالى لأهل الكتاب ببسط الرزق وسعته لو أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، أي: لو أنهم أخذوا بما في التوراة والإنجيل من دعوتهم إلى الإيمان بالنبي الأمي صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام لحصل لهم ذلك كما حصل للمسلمين طيلة ثلاثة قرون وزيادة، وما زال العرض كما هو لكل الأمم والشعوب ]، ما من شعب أو أمة تريد أن يغنيها الله ويدفق عليها المال فلتؤمن حق الإيمان ولتقم القرآن، والله ما هي إلا سنيات والمال مبعثر هنا وهناك، هل فهم المسلمون هذا؟ اللهم علمنا وإياهم، متى نعلم هذا يا أبناء الإسلام؟
مقترح عملي للعودة إلى الله تعالى
نعود إلى المخطط العجيب الذي عرضناه على العلماء والحكام، ألا وهو أن نلتزم ونحن صادقون بأن نجتمع في بيوت ربنا التي بنيناها في مدننا وقرانا، في الجبال والسهول، إذا دقت الساعة السادسة يقف العمل، سواء كان مكينة أو مصنعاً أو متجراً أو مكتباً، يقف العمل وباسم الله نتوضأ ونحمل نساءنا وأطفالنا إلى بيت ربنا، نصلي المغرب كما صلينا، ونجلس هكذا: النساء وراء الستارة والرجال دونهن، ويجلس لنا عالم رباني، فليلة آية من كتاب الله نحفظها، ونتغنى بها حتى تحفظ، ونشرحها ونفهم مراد الله منها، وكلنا عزم على أن نطبق ونعمل، وليلة ثانية حديث من أحاديث الحبيب صلى الله عليه وسلم الصحيحة نحفظه ونعلم ونعمل، يوماً آية ويوماً حديثاً، في أربعين يوماً يتغير وضع تلك القرية، وفي عام واحد والله ما يبقى زانٍ ولا لوطي ولا كاذب ولا فاجر ولا خائن ولا شحيح ولا بخيل ولا مبغض ولا معادٍ أبداً، كأنهم أسرة واحدة، سنة الله لا تتبدل، الطعام يشبع والماء يروي والحديد يقطع والنار تحرق، والكتاب والحكمة يزكيان النفوس ويطهران القلوب، وإذا زكت النفوس وطهرت القلوب هل يبقى خبث أو شر أو فساد أو شح أو بخل بين المؤمنين؟ والله ليفيضن المال عليهم، المال الذي ينفق الآن بالتبذير أضعاف من هم محتاجون إليه، وفوق ذلك لو رفعنا أيدينا إلى الله على أن يزيل الجبال لأزالها، لأنه تحققت ولايتنا لله، هل هناك طريق غير هذا؟ والله لا وجود له، نبقى هكذا: من استقام نجا من عذاب الله، ومن اعوج فإلى عذاب الله، ما هناك حيلة. كتبنا كتاباً مفتوحاً إلى العلماء والحكام فما سمعنا أن عالماً واحداً قدمه إلى حاكم، ولا قال به في قرية ولا في جماعة، وضعنا (كتاب المسجد وبيت المسلم)، قلنا: يا أيها المسلمون! مادام هذا الضعف فاجتمعوا على كتاب الله في بيوت الله، في بيوتكم بعد صلاة العشاء اجتمع أنت وامرأتك وأولادك وأمك واقرءوا آية أو حديثاً، في أربعين يوماً ما يبقى تلفاز ولا رقص ولا الأغاني ولا تكالب على الشهوات أبداً، فما وجدنا استجابة، لعل اليهود سحرونا، نخشى من ذلك لأنا نأكل من طعامهم ومن زيوتهم، فلعلهم سحرونا، وإلا فكيف نصرخ ونقول: والله لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يجلس في بيته وعاهرة أمامه تمد يديها وتضحك، والله لا يجوز، الأغاني والمزامير والصور هكذا في بيوت المؤمنين فهل تبقى فيها الملائكة؟ والله لن تبقى ولن يحل إلا الشياطين محلها، ومن ثم ظهر الزنا واللواط والجرائم والموبقات، إنها صنائع اليهود، سعي اليهود بالفساد، ومددنا أعناقنا نحن، فمتى نفيق؟ أمرنا إلى الله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
26-06-2021, 04:43 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (26)
الحلقة (336)
تفسير سورة المائدة (32)


الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث، وإليكم تلاوتها فتأملوا وتدبروا وتفكروا؛ لتلوح أنوارها في قلوبكم، وتنتقل إلى أسماعكم وأبصاركم وألسنتكم، وهذا نور الله عز وجل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )[المائدة:67]، وفي قراءة سبعية: (فما بلغت رسالاته) ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[المائدة:67-69].
بشراكم أيها المؤمنون، فهل أنتم تتدبرون أم لا؟ وما معنى التدبر؟ أن ترجع إلى الآية من أولها وتعود إلى آخرها. اسمع ما يقول الحق عز وجل وهو يخاطب رسوله ومصطفاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )[المائدة:67-68] قل يا رسولنا: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ )[المائدة:68] ألا وهو القرآن، ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا )[المائدة:68]، إذاً: ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[المائدة:68-69].
هذه مائدة الله عز وجل فتعالوا يا بني الناس لتطعموا وتسعدوا، فقالوا: نحن شباع ما نريد. فابقوا على ما أنتم عليه حتى النقلة إلى عالم الشقاء والخلد فيه أبداً، والعياذ بالله تعالى، لقد أعذر الله بهذا العطاء الإلهي.
هيا أشرح لكم شيئاً فشيئاً: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ )[المائدة:67]، من الذي نادى رسول الله؟ الله جل جلاله، سبحان الله! هل الله ينادي رسوله؟ أي نعم، من هذا الرسول؟ إنه الأفخم الأعظم، الرسول الكامل في الرسالة والعظمة، وهذا النداء الثاني في القرآن من نداء الله لنبيه بعنوان الرسالة: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ )[المائدة:67]، وناداه بعنوان النبوة عدة مرات: ( يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ )[الطلاق:1]، ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ )[التحريم:1] في عدة نداءات، أما بعنوان الرسالة فناداه مرتين: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ )[المائدة:67]، معناه: الرسول الأفخم الأعظم الصادق الحق، ناداه ليقول له: ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ )[المائدة:67].
وقد تعلمنا نحن -والحمد لله- أن الله تعالى لا ينادينا إلا ليأمرنا بما يسعدنا، أو لينهانا عما يشقينا، أو ليبشرنا بما يزيد في صالحاتنا، أو ينذرنا لنبتعد من مهلكات الحياة والمشقيات لنا، أو ليعلمنا.
إبطال كذب المفترين على رسول الله كتمان الوحي

وها هو تعالى الآن ينادي رسوله يأمره، ماذا قال له: ( بَلِّغْ )[المائدة:67]، يبلغ ماذا؟ ما الذي يبلغه؟ قال: ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ )[المائدة:67]، أي: هذا القرآن الكريم، وما يحمل من الشرائع والأحكام والآداب، ولا تكتم كلمة واحدة ولا جملة واحدة، ولا أمراً واحداً ولا نهياً، ( بَلِّغْ )[المائدة:67]، والسورة مدنية، والمدينة دار الهجرة ليست كدار الرسول في مكة، كان يعيش بين أعمامه، فمن يقوى على أن ينال منه؟ لكن لما جاء إلى المدينة وفيها اليهود عليهم لعائن الله، وفيها النفاق فالموقف موقف صعب، قد (حمله صلى الله عليه وسلم الخوف على أن يكتم بعض الشيء، فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )[المائدة:67]، فلهذا من ظن أو وسوس له الشيطان أو كان من أهل الباطل فقال: الرسول كتم شيئاً؛ فلتضربه بهذه العصا القرآنية
والله ما كتم كلمة، كيفما كانت الظروف، والهابطون قالوا: كتم ولاية علي وخلافته! فأين يذهب بعقول البشر؟ يذهب بها إلى المحطات، إلى المزابل والمراقص؛ لأن الشياطين هي التي تحتضنها وتقودها إلى الهاوية، تقول الصديقة أم المؤمنين عائشة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان في إمكان الرسول أن يكتم شيئاً لكتم ( عَبَسَ وَتَوَلَّى )[عبس:1]، وهذا لوم وعتاب له وما كتمه: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى )[عبس:1-4]، لو كان يمكن للرسول أن يكتم شيئاً لكتم قضية زيد مولاه.

معنى قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس)

إذاً: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )[المائدة:67]، لا تبال باليهود ولا بالمنافقين ولا بالمشركين ولا بالجن ولا بالإنس، الله تولى عصمتك وحفظك.
هنا روى مسلم عن عائشة الصديقة رضي الله عنها، ورددوا جملة (رضي الله عنها) لتغيظوا المنافقين والكافرين، قالت رضي الله عنها: ( سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال: ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة. قالت: فبينما كذلك سمعنا خشخشة سلاح فقال: من هذا؟ قال: سعد بن أبي وقاص. فقال له: ما جاء بك؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف ونزلت هذه الآية )، فما هناك حاجة إلى أن تبيت بسلاحك، عد إلى بيتك، أعطاه الضمان مولاه أم لا؟ ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )[المائدة:67]، والله لو اجتمع البشر كلهم على أن يؤذوه ما استطاعوا بعد هذا الوعد الإلهي: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )[المائدة:67].
والتعليل: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )[المائدة:67] أبداً لأن يؤذوك ويضروك ويقتلوك، كما لا يهديهم إلى الكمال أيضاً والإصلاح ماداموا معرضين وكافرين.

تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ...)


ثم قال له: ( قُلْ )[المائدة:68] يا رسولنا أيها المبلغ عنا، قل في صراحة ووضوح: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )[المائدة:68]، من هم أهل الكتاب؟ اليهود بنو عمنا، وكذلك النصارى.

التزكية لا تتوقف على العنصر والسلالة
وبعض الأبناء يقولون: كيف يقول الشيخ: بنو عمنا! وأقول: أليسوا أولاد إسحاق بن يعقوب؟ ألسنا أولاد إسماعيل بن إبراهيم؟ فهم بنو عمنا، ليس شرطاً إذا كانوا بنو عمنا أن يدخلوا الجنة معنا، الجنة ورضوان الله نصيب من زكت نفسه وطابت وطهرت، كن ابن من شئت، إذا زكت نفسك وطابت وطهرت بأدوات التطهير والتزكية والإيمان والتقوى فأبشر برضوان الله وجواره في دار السلام، وإن كنت من كنت، وإذا خبثت النفس وتدست وتعفنت بأوضار الشرك والمعاصي فكن أيضاً ابن من شئت وأبا من شئت فالمصير معروف، وحكم الله الذي صدر في هذه القضية محفوظ عند المؤمنين والمؤمنات من أهل هذه الحلقة فقط، ما سمعنا هذا عند الآخرين، وهو قول ربنا تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، كن ابن من شئت، هل كنعان بن نوح نفعته هذه البنوة؟ ماذا قال الله لما قال نوح عليه السلام: ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )[هود:45-46].
إبراهيم الخليل عليه السلام في عرصات القيامة يقول: يا رب! لقد وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا؟ فيقول له الجبار تعالى: انظر تحت قدميك. فإذا بأبيه آزر في صورة ضبع ملطخ بالدماء والقيوح، ما إن ينظر إليه حتى تشمئز نفسه وينقبض ويقول: سحقاً سحقاً! فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في أتون الجحيم، فهل نفعه ابنه؟
وأبو القاسم سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة، أول من تنشق عنه الأرض، عاد من مكة فمر بقبر أمه قريباً من الجحفة، ووقف على قبرها فبكى طويلاً، وأمه ماتت لأنها جاءت في زيارة أبيه وتوفيت في الطريق، ودفنت بالأبواء قريباً من رابغ، فبكى فسئل في ذلك، قال: ( استأذنت ربي في أن أزور أمي فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي )؛ لأنها ماتت على الشرك والكفر، وإن شككتم فاسمعوا كلام الله من سورة التوبة من المدنيات المباركات، ماذا قال تعالى؟ ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى )[التوبة:113]، من يرد على الله؟ أعوذ بالله، طأطئ عبد الله رأسك وقل: آمنت بالله، ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا )[التوبة:113] ليس من شأنهم ( أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى )[التوبة:113] أصحاب قرابة كالأب والأم والابن وما إلى ذلك؛ لأن حكم الله أصدره حكماً ساطعاً سطوع الشمس لا يتردد فيه من يسمعه: ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا )[الشمس:1-2]، هذه أيمان أم لا؟ هذا حلف أم لا؟ من يحلف؟ الله. لماذا؟ حتى تهدأ نفوسنا وتسكن عند الخبر وأنه ما فيه شك أبداً، هذه الأيمان من أجلنا نحن: ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا )[الشمس:1-8] حلف على ماذا؟ ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10] وامتهنها، من يرد على الله؟ ( أَفْلَحَ )[الشمس:9] فاز ونجا من النار ودخل الجنة، ( خَابَ )[الشمس:10]خاب وخسر خسراناً أبدياً.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! والله الذي لا إله غيره لأن يعود أحدكم أو إحداكن بهذه الحقيقة على ما هي واضحة ويبلغها لهي أعظم أجراً من حجه، ولكن ممنوعون من أن نبلغ، ما تسمح لنا الشياطين بذلك، هذه والله لأن تسافر إلى أقصى الهند أو أقصى الغرب من أجلها فقط فما أنفقت شيئاً كبيراً في سبيل الحصول على هذه القضية، حيث أقسم الجبار جل جلاله وعظم سلطانه بأعظم أقسام وأيمان على هذه الحقيقة: أفلح من زكى نفسه وخاب من دساها.

معنى التزكية وأدواتها

يبقى السؤال: يا شيخ! ما معنى التزكية؟ معناها التطييب والتطهير لأن تكون الروح طيبة طاهرة كأرواح الملائكة. ثانياً: ما هي أدوات التزكية، أين تباع، كيف نستعملها؟
يجب أن تسألني هذا السؤال ويحرم علي ألا أجيبك، أدوات التزكية شيئان فقط: الإيمان الحق والعمل الصالح، فالإيمان الحق استعرض لأجله القرآن تشاهد المؤمنين كيف هم وكيف أحوالهم، والعمل الصالح هذه العبادات من الحج إلى الصلاة إلى الزكاة إلى الصيام إلى كل العبادات، هي أدوات تزكية على شرط أن تؤديها كما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيد ولا تنقص ولا تقدم ولا تؤخر.
ومدسيات النفس مادتان أيضاً: الشرك والمعاصي فقط.

يتبع

ابوالوليد المسلم
26-06-2021, 04:44 AM
ضلال أهل الكتاب بغير إقامة ما أنزل الله تعالى عليهم

إذاً: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ )[المائدة:68]، وإن ادعيتم أنكم رهبان وربانيون وقسس وأحبار وأنكم على دين موسى، والله ما أنتم بشيء، من أخبر بهذا؟ الملك جل جلاله وعظم سلطانه، الذي بيده الإشقاء والإسعاد، ( لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى )[المائدة:68] إلى أن ( تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ )[المائدة:68]، تعبدون الله بها وتؤمنون بما فيها، وتبينوها للناس كما هي، ليس بالزيادة والنقص والتبديل والتغيير، تقيموا التوراة والإنجيل أولاً، ( وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ )[المائدة:68] ثانياً، ألا وهو القرآن العظيم، فليقرأ اليهود التوراة ألف مرة في الأسبوع فما تغني شيئاً، فليتبجح المسيحي بالإنجيل ويضعه على رأسه وفي بطنه، والله إن لم يؤمن بالكتاب الأخير الخاتم القرآن العظيم ما نفعه شيئاً؛ لأن التوراة والإنجيل حرفوهما فزادوا ونقصوا منهما وبدلوا وغيروا، والله العظيم! لو آمنوا بالتوراة لا تلوح أنوار محمد حتى يجيئون يركضون من الشرق والغرب، فكيف يرسل الله رسولاً ولا تؤمنون به؟ فأنتم كافرون إذاً. ( لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ )[المائدة:68] ألا وهو القرآن.

معنى قوله تعالى: (وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً ...)
ثم قال تعالى: ( وَلَيَزِيدَنَّ )[المائدة:68] هذه اللام موطئة للقسم: وعزتنا وجلالنا ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا )[المائدة:68]، نحن طامعون أن يؤمنوا بالقرآن، والرسول أمر بأن يبلغ وهو يبلغ، والله علام الغيوب غارز الغرائز وطابع الطباع أعلمه أن كثيراً منهم ما يزيدهم القرآن إلا كفراً وعناداً، أهل العناد والمكابرة وعدم الانصياع؛ لأن لهم أهدافاً فما تنفع فيهم الحجج ولا البراهين، ما يزدادون إلا عناداً وبعداً: ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا )[المائدة:68]، فمن قال هذا؟ إنه خالق الغرائز وطابعها، خالق النفوس، فلا إله إلا الله! إذاً: ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )[المائدة:68]، لا تكرب ولا تحزن يا رسولنا على قوم كفروا عناداً ومكابرة دفاعاً عن مصالحهم وأطماعهم وشهواتهم، لا تأس عليهم أبداً ولا تأسف ولا تحزن، من قال هذا لرسولنا؟ إنه ربنا تعالى؛ رحمة به وتطييباً لخاطره وتهدئة لنفسه؛ لأنه في كرب، يقول الحق فيعرضون، يبين الدليل فيعمون، فماذا يصنع وهو مأمور: ( بَلِّغْ )[المائدة:67]، ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )[المائدة:67]، ويواجه هذه الصعاب، فماذا قال له؟ ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )[المائدة:67]، لا تحزن عليهم، هم أهل جهنم، أهل عالم الشقاء والخسران والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى ...)



وفي الآية الأخيرة: باب الله مفتوح، يا يهودي، يا مسيحي، يا صابئ، يا مشرك! تعالوا فربنا واحد والطريق إليه واحدة، لا فرق بين العرب والعجم ولا الأبيض ولا الأسود، ولا اليهودي ولا النصراني، الكل إذا أرادوا أن يقرعوا باب الجنة فاسمع ما يقول تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:69] وهم نحن والحمد لله، آمنا بالله ولقائه أم لا؟ آمنا بالله ورسله أم لا؟ آمنا بالله وكتبه أم لا؟ آمنا بالله وقضائه وقدره أم لا؟ آمنا باليوم الآخر وما فيه أم لا؟ آمنا، فنحن المؤمنون؛ بدأ بنا لأننا القادة والسادة والفائزون والمنعمون برحمة الله. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا )[المائدة:69] من هم هؤلاء؟ اليهود، عرفوا بهذا الوصف من قديم الزمان منذ عهد موسى، ( وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى )[المائدة:69]، النصارى نسبة إلى الناصرة أو إلى نصرة عيسى، المسيحيون.

(وَالصَّابِئُونَ )[المائدة:69]، الصابئون فرقة خرجت من المسيحية وكان لها مذهب خاص، من صبا يصبو، صبئوا عن دين اليهود وعن دين النصارى وصار لهم دين ثالث خاص مبتدع، فيعرفون بالصابئين.

لطيفة في رفع (الصابئون)
والآن قد يقول القائل: لماذا ما قال: والصابئين، بل قال: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ )[المائدة:69] وهو معطوف على (إن الذين آمنوا)، فالأصل أن يقول: والصابئين، والنصارى معطوف عليه. والجواب: بينا غير ما مرة بتعليم الله عز وجل وتفقيهه أنه إذا أراد أحدكم أن يمنع السيارة إذا جروا وراءه يطلبونه فإنه يضع حجارة في الطريق، يضع حجارة توقف السيارة، فينزلون ويفكرون، فسبحان الله! الصابئون ما عرفهم العرب كثيراً ولا المسلمون، لكن لما قال: ( وَالصَّابِئُونَ )[المائدة:69] يقف القارئ: لم ما قال: والصابئين؟ حتى يتفكر في الصابئين من هم، وكيف صبئوا وكيف كذا؟ وهذه نكتة بلاغية عجيبة، فالمفروض أن يقول: والصابئين، فقال: ( وَالصَّابِئُونَ )[المائدة:69]، معطوفاً على المنصوب وهو مرفوع، على تقدير: والصابئون كذلك، فنقدر له خبراً، لكن سره: أن تفكر؛ لأن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى معلومون لكم بالضرورة، ( وَالصَّابِئُونَ )[المائدة:69]، إذاً: تقف لحظة بعقلك تفكر.


شروط استحقاق الأصناف المذكورة في الآية الكريمة للجنة
الكل يخبر تعالى عنهم فيقول: ( مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ )[المائدة:69] هذا أولاً، ( وَعَمِلَ صَالِحًا )[المائدة:69] ثانياً، ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[المائدة:69]، فيا بشراك يا بشرية! أبيضك كأسودك يهودك كنصرانيك الكل من آمن وعمل صالحاً، أي: زكى نفسه، أو لا؟ عدنا من حيث بدأنا: آمن وعمل صالحاً، استعمل أدوات التزكية، فزكى نفسه بالإيمان والعمل الصالح فطابت وطهرت فصار من أهل الملكوت الأعلى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا )[الشمس:9]، هذه الآية تزن الدنيا بما فيها، أين الفلاسفة وأين الحكماء من اليهود والنصارى والصابئة والمؤمنين؟ يقول تعالى: ( مَنْ آمَنَ )[المائدة:69] بماذا آمن؟ بالبلشفية، بالاشتراكية، بالقومية، بالديمقراطية؟ ( مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ )[المائدة:69] أي: رباً لا رب غيره، إلهاً لا إله سواه، لا معبود غيره، وآمن بكل ما أمره أن يؤمن به من الغيب والشهادة وعمل صالحاً، أي: عبد الله بهذه العبادات من الوضوء إلى الغسل إلى الصلاة إلى الصيام إلى الرباط إلى الجهاد إلى الحج إلى العمرة، هذه العبادات هي والله أدوات التزكية كالماء والصابون للثياب والأبدان، على شرط أن تخلص فيها لله لا تلتفت إلى غير الله، وأن تؤديها كما بينها رسول الله، ما تمسح رأسك قبل أن تغسل وجهك، ولا تغسل رجليك قبل أن تغسل يديك، ولا أن تقف بعرفة قبل أن تطوف، كما أداها الرسول وبينها، هذه هي الأعمال الصالحة المزكية للنفس والمطهرة لها.

ولو كنا طول العام نجتمع في بيوت ربنا بنسائنا وأطفالنا هكذا نتلو كتاب الله ونتدارسه فكيف تكون حالنا؟ سنصبح كلنا أولياء لله، وإذا أصبحنا أولياء الله فمن يقدر على أذانا؟ أما قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )[المائدة:67]، هل يهديهم لإذلالنا وتعذيبنا؟ والله ما كان، لكن انقلوا هذه الفكرة فقولوا للعلماء عندكم والحكام: هيا نجتمع في بيت الرب ونتعلم الكتاب والحكمة النبوية المحمدية حتى ينتفي الفقر بيننا والخيانة والغش والحسد والكبر والزنا والجرائم والسب والشتم والتكفير، ونكون أمة واحدة كما أراد الله، ما بيننا مذاهب ولا طرق ولا اختلافات، أهل القرية في قريتهم يجتمعون لعبادة ربهم ويخرجون إلى جلب عيشهم في مزرعة أو مصنع وكلهم شباع بإيمانهم، وكلهم في غنى كامل، لا تكلف للشهوات ولا الأطماع ولا المادة، نصبح كالملائكة كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات



فاسمعوا الآيات التي تدارسناها: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )[المائدة:67]، يا خلفاء رسول الله، يا علماء الكتاب والسنة! بلغوا كما أمر رسولكم أن يبلغ، وإن لم تفعلوا فما بلغتم رسالته، ألسنا خلفاء رسول الله يجب أن نبلغ كما بلغ؟ هل يجوز أن نكتم ونقول في الحرام: حلال وفي الحلال: حرام لمصلحة؟ لا يصح أبداً، ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )[المائدة:67]، ونحن إن عصمنا الله ففي صالحنا، وإن سلط علينا مشركاً منافقاً كافراً فليرفعنا إلى الدرجات العلى، أما قتل عمر في محرابه؟ أما قتل عثمان في بيته، أما قتل علي رضي الله عنه في باب مسجده؟ ليعلي درجاتهم ويعلي مقاماتهم، أما الرسول فمعصوم لأنه وحيد، ما هناك رسول ثان يبلغ عنه.ثانياً: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ )[المائدة:68] قولوها صراحة لليهود والنصارى والبوذيين والمشركين والصابئة: ( لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ )[المائدة:68] وتدرسونها وتطبقون ما فيها، ومن ثم تجدون الإيمان بمحمد ودخول الإسلام ضرورة من ضروريات حياتكم، ( حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ )[المائدة:68] القرآن ما نزل على العرب فقط أو على المسلمين، هو للبشرية كلها، ولأن الرب واحد والبشرية عبيده.

(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا )[المائدة:68]، من هؤلاء؟ أصحاب المادة، أصحاب الشهوات والأطماع، والرئاسة، الذين يستغلون الشعوب ليعبدوهم، هؤلاء ما يقبلون الحق فيزيدهم هذا طغياناً وكفراً وعناداً، سنة الله قائمة إلى الآن.

وأخيراً: هذه بشرى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ )[المائدة:69] لا في الدنيا ولا في البرزخ ولا يوم القيامة، ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[المائدة:69] في الحيوات الثلاث أيضاً، فالمؤمن الصادق ولي الله لا يحزن، يدفن ابنه وهو يبتسم، يجوع ويتألم بالجوع وهو يبتسم، لا حزن ولا خوف؛ لأن الله مولاهم.

أركان الحج

بعث إلي أحد المستمعين بكلمة يقول: لم تقول: أركان الحج أربعة وتنسى مزدلفة؟
أركان الحج: الإحرام: لبيك اللهم لبيك حجاً، هذه هي النية لا رياء فيه ولا سمعة، لبيك اللهم لبيك عمرة لا رياء فيها ولا سمعة، هذه النية، لبيك اللهم لبيك حجاً وعمرة، هذه هي النية.
ثانياً: عرفة ركن، ومزدلفة ما هي بركن، ووجد من الهابطين من يقول: هي ركن، لكن لا نأخذ نحن الأقوال الشاذة ونقدمها لأمة الإسلام لنزيد في محنتها، نحن في بيت الله، في مسجد رسول الله من نيف وأربعين سنة لا نتمذهب ولا ننقد مذهباً، ولا نطعن في أحد، ونبين للمسلمين ما هو الحق الوارد من النبي صلى الله عليه وسلم وكتاب الله.
فمزدلفة المبيت فيها واجب، وعند العجز يرفع هذا الوجوب، ويكفيك أن تذكر الله فيها بأن تقيم صلاة المغرب والعشاء، وتبكي طويلاً بين يدي الله وتدعو، فإذا كنت مضطراً للرحيل لأطفال أو نساء فالرسول أذن للعباس بذلك، وقد أديت قول الله: ( فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ )[البقرة:198]، ألا وهو مزدلفة.

والسعي ركن، والسعي لا يسقط بذبح شاة، السعي ركن نص الله عليه في كتابه: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ )[البقرة:158]، فمن قال: أنا لا أريد أن أتعب فسنذبح شاة، قلنا: والله لو ذبحت مليون شاة ما قبلت، أو قلت: عندنا البقر فسنذبح بقرة، فما أنت بمؤمن.

والرسول يقول: أبدأ بما بدأ الله به، بعدما فرغ من الطواف وصلى خلف المقام ركعتين قال: ( أبدأ بما بدأ الله به. وتلا هذه الآية: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ )[البقرة:158] ).

نقول: الأركان الأخرى ممكن أن تقضيها، لكن ركن عرفة إذا فات فات، إذا ما دخلت عرفة بعد الزوال وبقيت إلى الليل ولو ساعة فحجك باطل وعليك أن تعيده، أما السعي والطواف فتأتي وتحرم بعمرة وتسعى أو تطوف وتذبح شاة.
نرجو أن يكون هذا الابن الصالح الذي انتقد هذا الانتقاد قد حضر الآن وفهم، أقول له: مزدلفة واجب النزول بها والمبيت فيها، والصلاة فيها والذكر والدعاء؛ لأن الله قال: ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ )[البقرة:198]، ويستحب فيها عدم قيام الليل، يستحب فيها بعد صلاة المغرب والعشاء أن تستريحوا وتأكلوا وتشربوا الحلال إن وجدتم؛ لأنكم في ضيافة الرحمن، حبسكم يوماً كاملاً وأنتم قيام تذكرون أو تدعون، رفقة بكم، رحمة بنا والحمد لله، قال: بيتوا في مزدلفة على عشرة كيلو متر من عرفات، هذا من ألطاف الله ورحمته، ما قال: امشوا رأساً عشرين كيلو إلى مكة أو إلى منى.

ثم إذا صلينا الصبح دعونا الله ووقفنا، وقبل طلوع الشمس يجب أن ننفر إلى منى لنرمي جمرة العقبة لنخزي عدو الله إبليس، فإنه في كرب وهم، فإذا رمينا الجمرة تحللنا، احلق والبس لباسك وتطيب إلا امرأتك لا تقربها حتى تطوف طواف الإفاضة، فإن قدر الله وفعلت فيا ويحك، ائت بعمرة وطف طواف الإفاضة واذبح بقرة أو بعيراً، فإن لم تجد شيئاً فشاة من الضأن.

تحذير من التصوير والتدخين


والذين يشربون الدخان في المشاعر كالذين يصورون في المشاعر، واسمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون )، فلا تحمل كاميرا ولا تصور أبداً، وإذا وجدت واحداً يصور فقل له: اتق الله يا عبد الله، أبطل هذه، انزعها من يدك، أنت واقف في عرفة وأنت تصور؟ تعصي رسول الله وتخرج عن طاعته؟ أما التدخين فنحن لا ندخن في عرفة ولا في باريس، لا يحل لعبد يذكر الله ويجري اسم الله على فمه، في كل لحظة: السلام عليكم، فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله، أراد أن يقف فيقول: باسم الله، هذا الذي يذكر الله كيف يخبث فمه ويلطخه بالروائح الكريهة، والرسول شرع السواك لأمته، وقال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ) تطييباً لأفواههم من أجل أن يذكروا الله، وقال: ( من أراد أن يبصق فلا يبصق عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً )، فكيف تنفخ الروائح الكريهة في وجه ملكين يظلان معك ويبيتان معك؛ حماية لك من جهة وتسهيلاً لأعمالك.
اسمعوا: لا يحل لمؤمن أن يدخن، أما الكافر الفاسق خبيث النفس فهذا يفعل ما يشاء من التدخين، أما من يقول: باسم الله، والحمد لله، ويذكر الله فكيف يلوث فمه؟

في غزوة من الغزوات أكلوا الثوم والبصل للجوع، لما وصلوا إلى المدينة بلغهم رسول الله هذا الإعلان: ( ألا من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مساجدنا )، لم يا رسول الله؟ علل وأنت الحكيم؟ قال: ( فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )، أبعد هذا ندخن؟
والذي هبط بنا أن العلماء ماتوا وانقرضوا، ووجدنا في عصر ليس فيه من يعلم، فحصل هذا، وإلا فكيف ندخن؟ قف يا مدخن، أسألك بالله: كم ريالاً تستفيده في اليوم من دخانك؟ كم تزيد قوتك العقلية والبدنية؟ والله لا شيء، بل تهبط، ما هي النتائج إلا أن تغضب الله بأذية ملائكته وتقع في موقع الكفر أو تكاد، تخبث فماً يجب أن تطهره، تخبثه أنت بالرائحة الكريهة الخبيثة، لا لوم يا أبناء الإسلام؛ مات العلم وانقطع العلماء، وعشنا جهالاً في المقاهي والملاهي، فلهذا أروني واحداً جلس معنا سنة في هذه الحلقة يدخن، ما هو بموجود.
والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعليهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
26-06-2021, 04:45 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (27)
الحلقة (337)
تفسير سورة المائدة (33)


ما أكثر ما أرسل الله عز وجل إلى بني إسرائيل من الرسل، ولكنهم قوم بهت ظالمون فاسقون، فإن جاءهم نبي بما لا تهوى أنفسهم كذبوه وآذوه، وربما قتلوه، وحسبوا أن الله عز وجل لن يحاسبهم ولن يؤاخذهم فعموا وصموا، فابتلاهم الله ثم تاب عليهم، ثم عموا وصموا أكثر من ذي قبل فسلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، جزاء تكذيبهم وإعراضهم.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم لنا هذا الفضل إنك ذو الفضل العظيم.
وها نحن مازلنا مع سورة المائدة المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث، وقبل الشروع فيها وتلاوتها ودراستها أعود بالمستمعين الكرام والمستمعات الصالحات إلى الآيات الثلاث التي درسناها بالأمس؛ تذكيراً للناس وتعليماً لغير العالمين، فإليكم تلاوتها ثم نضع أيديكم على هداياتها التي ينبغي أن نظفر بها ونفوز.
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[المائدة:67-69].
هذه الآيات درسناها وفهمنا مراد الله منها -والحمد لله- في ليلتنا الماضية، فهيا نضع أيدينا على هداية هذه الآيات.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: وجوب البلاغ على الرسول صلى الله عليه وسلم، ونهوض رسولنا محمد بهذا الواجب على أكمل وجه وأتمه ].
هدتنا الآية إلى وجوب البلاغ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )[المائدة:67].
[ ثانياً: عصمة الرسول المطلقة ]، أما وعده الله بقوله: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )[المائدة:67]، أما قال للحارس: عد إلى بيتك كفاك الله هذه المهمة، فالله يعصمني؟ وعصمه الله، فما استطاع منافق ولا يهودي أن يغتاله أو يحتال عليه، بل كان يأتي الرجل والسلاح تحته ليغتال الرسول ويكشف الله حاله ويعلم رسول الله بحاله، ويرمي بالسلاح ويدخل في الإسلام.
[ ثالثاً: كفر أهل الكتاب إلا من آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبع ما جاء به من الدين الحق ]، لقوله تعالى: ( لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى )[المائدة:68]، واضح الدلالة.
[ رابعاً: أهل العناد والمكابرة لا تزيدهم الأدلة والبراهين إلا عتواً ونفوراً وطغياناً وكفراً ]، دلت الآية عليه: ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا )[المائدة:68].
[ خامساً: العبرة بالإِيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي لا بالانتساب إلى دين من الأديان ]
دلنا على هذا قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[المائدة:69].

تفسير قوله تعالى: (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً...)

والآن مع هذه الآيات التي نتدارسها إن شاء الله في هذه الساعة المباركة.قوله تعالى: ( لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ )[المائدة:70]، من القائل: ( لَقَدْ أَخَذْنَا )[المائدة:70]؟ الله جل جلاله، هو الذي أخذ ميثاق بني إسرائيل على عهد موسى والأنبياء، والميثاق: العهد المؤكد بالأيمان، كأنه وثاق يحبس صاحبه ولا يستطيع أن يخرج عنه، وبنو إسرائيل هم اليهود أولاد يعقوب عليه السلام.
إذاً: يقول تعالى مخبراً محققاً هذه الحقيقة: ( لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا )[المائدة:70] عظاماً أجلاء كثيرين، من موسى وهارون إلى يحيى وزكريا وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
(كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ )[المائدة:70]، أخبر تعالى بواقع اليهود، ( كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ )[المائدة:70] وتشتهي وتحب وترغب، ( فَرِيقًا كَذَّبُوا )[المائدة:70] الرسل، ( وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ )[المائدة:70]، أو أن فريقاً كذبوهم من الرسل وفريقاً قتلوهم، هذا الواقع الذي لن يستطيع أحد أن ينكره، أما قتلوا زكريا ويحيى؟ أما أرادوا قتل عيسى إلا أن الله رفعه؟ أما صلبوا وقتلوا من شبه به؟ أما تآمروا على نبينا صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة لقتله؟ هذا شأنهم.
فاسمع ما يقول العليم الحكيم عنهم: ( كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ )[المائدة:70]، أما بما يشتهونه ويحبونه فيرحبون ويؤهلون ويعملون، لكن إذا جاء بأشياء لا تتفق وشهواتهم ولا تتلاءم مع أطماعهم وأهوائهم فماذا يفعلون؟ إما أن يكذبوا أو يقتلوا، منهم من يكذبونهم، ومنهم من يقتلونهم.
فالرسول يجيء بما لا تهوى الأنفس ويجيء بما تهوى، يأمر بالعدل والصلة والرحم والحق، كلما جاءهم رسول بالذي لا تهوى أنفسهم وقفوا ضده وحاربوه، منهم من قتلوا ومنهم من كذبوا، أما إذا جاءهم بما فيه رغبة لهم فيرحبون ويؤهلون.

تفسير قوله تعالى: (وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ...)

قال تعالى: ( وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ )[المائدة:71]، ما معنى هذا؟ ( وَحَسِبُوا )[المائدة:71]، من هم؟ اليهود. والحسبان: الظن، ظنوا أن لا تكون فتنة، يغنون ويزغردون ويلبسون الكعب العالي، يصفقون ويأكلون الربا ويفعلون ما شاءوا ويظنون أن لا تنزل بهم محنة ولا مصيبة.
ومع الأسف الآن المسلمون يحملون هذا الظن، عطلنا شرائع الله، فعلنا كل ما يكره الله، وما نحن بخائفين أبداً أن تنزل محنة بنا، لا وباء ولا تيفود ولا الخسف ولا الصواعق ولا تسليط الكافرين، وهو موقف بني إسرائيل، فحال المسلمين اليوم وقبل اليوم ومنذ مئات السنين هل هي حال مرضية لله عز وجل؟ هل أقاموا دين الله؟ هل أقاموا كتابه؟ الجواب: لا، إلا القليل، إلا من رحم الله.
هل هناك من هو خائف يبكي أن تنزل بالمسلمين صاعقة أو تنزل بهم محنة لا يستطيعونها؟ لا واحد في الألف ولا في المائة ألف، فلا إله إلا الله! القرآن كتاب هداية إلى يوم القيامة، فلم لا نعتبر؟
اسمع ما يقول تعالى: ( وَحَسِبُوا )[المائدة:71] ظنوا ( أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ )[المائدة:71]، فمن ثم عموا فلم يروا العبر والعظات، وصموا فلم يسمعوا الوعظ ولا التوجيه ولا الإرشاد، إذاً: فنزلت المحنة بهم، ونبتدئ من يوشع بن نون ، فلما خرج موسى ببني إسرائيل في ستمائة ألف من مصر حدثت أحداث عظيمة مسجلة عندنا مفهومة في كتاب الله، حسبنا أنهم قالوا لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ )[المائدة:24]، فأبوا أن يمشوا معه إلى فلسطين؛ لمحاربة الكفرة المشركين بها من العمالقة، ومات موسى وهارون عليهما السلام في زمن التيه، ومضت أربعون سنة وهم في تلك الصحراء، ولولا لطف الله بهم وإحسانه إليهم لهلكوا عن آخرهم، ولكن الله كريم رحيم.

ثم هلك الجيل الهابط ونشأ جيل في الصحراء فقادهم يوشع بن نون وانتصر بإذن الله ومزق شمل الكافرين، وأقام دولة الإيمان والإسلام في فلسطين، فمضت سنون ثم انتكسوا بالأغاني والمزامير والشهوات والأطماع والربا، كما هو سلوك البشر.
إذاً: فسلط الله عليهم البابليين، فأدبوهم، مزقوهم، شتتوهم، أخرجوهم من فلسطين، وعاشوا متفرقين هنا وهناك، ثم -كما أخبرنا تعالى- جاءوا إلى أحد أنبيائهم يطلبون أن يولي عليهم ملكاً وأن يقاتلوا في سبيل الله، واستجاب الله وملك عليهم وقادهم طالوت، وخاض المعارك مع العدو ونصره الله مع الفئة المؤمنة، وتكونت دولة بني إسرائيل من جديد على عهد داود وسليمان، فكانت قد سيطرت على العالم في ذلك الزمان، امتد سلطان سليمان من الشرق إلى الغرب، ( ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا )[المائدة:71]، وانغمسوا في الشهوات واللذائذ والمادة.
وأبو القاسم نبينا صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن الكعب العالي أول ما ظهر في بني إسرائيل، والكعب العالي تلبسه المرأة وتصبح تتمايل في الشارع، تجذب النفوس والقلوب إليها، إذاً: ما هي إلا فترة من الزمان وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا عن العظات والعبر، وصموا ولم يسمعوا دعوة الدعاة والهداة منهم، فنزلت بهم المحنة، سلط الله عليهم الرومانيين، فمزقوهم وشتتوهم وفعلوا بهم الأعاجيب، وإلى الآن هم مشتتون مشردون، فقولوا آمنا بالله.
ومن ثم هربوا إلى العرب؛ لأنهم أميون وهم علماء فيسودون بينهم، وفروا من الرومان وقتلهم لهم وتشريدهم، فهذا معنى قول ربنا: ( وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ )[المائدة:71].
تحذير المسلمين من مسلك بني إسرائيل في الشهوات

ونحن -أيها المسلمون يا أهل القرآن- لما عمي آباؤنا وأجدادنا وصموا سلط الله علينا بريطانيا، فأين ممالك الهند؟ وسلط علينا فرنسا، فأين شمال أفريقيا؟ لأننا عمينا وصممنا.والآن استقللنا وتحررنا، فالزمام بأيدينا، فهل أقمنا الصلاة؟ كلما استقل إقليم من إندونيسيا إلى موريتانيا ما هناك حاكم أجبر الأمة على إقامة الصلاة من مدنيين أو عسكريين، والله ما كان، هل جبيت الزكاة فريضة الإسلام وقاعدته؟ بل استبدلت بالضرائب الفادحة الهالكة، وما طلبوا الزكاة ولا طالبوا بها، فماذا نقول؟
إذاً: والله إننا لتحت النظارة كحال بني عمنا، ( وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ )[المائدة:71]، ظنوا أنه ما هناك أبداً ما يقع، ( فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا )[المائدة:71].
ونحن استقللنا وحكمنا، فلم لا نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؟ لم لا نبايع خليفة فينا ونصبح كلنا أمة واحدة؟ لم لا نجتمع في بيوت ربنا ونتعلم الكتاب والحكمة فنطهر ونصفو ونكمل ونعرف الطريق إلى الله؟ نحن مصرون على الأهواء والأطماع والشهوات كبني عمنا، بل نحن أكثر، ونحن ننتظر حكم الله عز وجل.
وهل نحن أفضل من بني إسرائيل؟ لا أبداً، أولاد الأنبياء هم بنو إسرائيل، لكن لما أعرضوا أعرض الله عنهم، لما أغضبوا الله عز وجل سلط عليهم ما شاء أن يسلط، وها هم مشردون في الآفاق يطمعون في إعادة مملكة بني إسرائيل ولن يتحقق مرادهم، فقط حين يظهر الإسلام من جديد ويتوب المسلمون في أربع وعشرين ساعة لا يبقى أمل لليهود ولا مطمع.
وإليكم البيان النبوي الصحيح: يقول صلى الله عليه وسلم: ( لتقاتلن اليهود )، يا رسول الله! من هؤلاء اليهود الذين نقاتلهم؟ حفنة مشردون نقاتلهم؟! ودولتنا وخلافتنا سيطرت على أكثر من نصف العالم، فكيف نقاتلهم؟ ما استطاع أحد أن يقول، ولكن أخبر أبو القاسم: ( لتقاتلن اليهود ثم لتسلطن عليهم )، من يسلطنا عليهم؟ الله يسلطنا عليهم بالأسباب التي يريد، وكثيراً ما أقول: لو رجعنا إلى الطريق ومشينا أياماً فقط -لا أعواماً- واستقمنا؛ فإن الله يسلطنا الله على اليهود، كأن تظهر فعلة يهودية كبيرة في أمريكا، كما لو أراد اليهود أن يفجروا كل عمارة في أمريكا، فيصدر أمر بقتل اليهود كما فعل هتلر في الزمن الماضي، أما شردهم وقتلهم؟ قتل أكثر من ثلاثين ألفاً من اليهود في ألمانيا، فنحن لما نقبل على الله ويقبلنا لا تسأل عن الأسباب التي يوجدها الله عز وجل؛ لأن كلمة (لتسلطن) دالة على هذا المعنى، تتخلى عنهم بريطانيا والعالم الأوروبي وأمريكا، فإذا تخلوا عنهم فإن نساءنا وأطفالنا سيخرجونهم ويقتلونهم.
إذاً: السر ما زال في قوله: ( فلتسلطن عليهم فتقتلونهم، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله )، هل يقول: يا عربي؟ إنما يقول: يا مسلم، وهل الشجر يكذب؟ ينطقه الجبار، آية من آياته، هل الحجر يكذب فيقول لغير المسلم: يا مسلم؟
الشاهد عندنا: أن الشجر والحجر ما يكذب فيقول لعلماني، اشتراكي، خرافي، ضال، مشرك: يا مسلم، هل يكذب الشجر والحجر؟ والله ما كان، ومعنى هذا: أنه يسلطنا الله عليهم لأننا أسلمنا أولاً، أقمنا دين الله ورفعنا راية لا إله إلا الله، فأصبحنا أولياء الله، ثم يسلطنا الله عليهم فنقتلهم ( حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله. إلا شجر الغرقد فإنه شجر اليهود ).
وبقيع الغرقد هذا كان ينبت فيه الغرقد، وينبت في الغابة أيضاً، هذا الشجر إذا اختبأ يهودي وراءه فما يخبر عنه؛ لأنهم يقدسون هذا الشجر إلى الآن ويحتفون به احتفاء عجباً أكثر من الزيتون والبرتقال، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والشاهد عندنا: أنه يقول الشجر والحجر: يا مسلم، ولو لم يكن ذلك العبد قد أسلم قلبه لله ووجهه، وأصبح يعبد الله ويؤلهه ويقدسه ولا يعرف سوى الله عز وجل؛ فلن يقول له الشجر: يا مسلم وقد أسلم قلبه للشهوات والأطماع والدنيا الفاسدة.
قال تعالى: ( وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ )[المائدة:71]، أي: امتحان واختبار، بالوباء بالخسف بتسليط عدو؛ إذ هو هذا الفتنة، ( فَعَمُوا )[المائدة:71] عن العظات ما استطاعوا يبصرون، والله! إنه تحدث أحداث في العالم العربي ما يعتبرون بها أبداً، آمنون, ما هناك من صاح يبكي: يا قومنا! عجلوا بالتوبة قبل أن تنزل الفتنة بنا، هل سمعتم بهذا؟ ما هناك أحد، بل آمنون، فلا إله إلا الله!
(فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )[المائدة:71] على عهد داود وسليمان، ( ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا ([المائدة:71]، إذاً: سلط الله عليهم الرومان، وهم إلى الآن أذلة مشردون.
قال تعالى ( وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ )[المائدة:71]، لعلمه المحيط بكل ذرات الكون، فمن عبد عرفه ومن عصا عرفه, من شكر عرفه ومن كفر عرفه.

يتبع

ابوالوليد المسلم
26-06-2021, 04:46 AM
تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ...)

ثم قال تعالى في الآية الأخيرة من الثلاث الآيات: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ )[المائدة:72]، الآيات في أهل الكتاب، الآيات الأولى كانت مع اليهود، والآن مع النصارى، فهذا الخبر خبر من؟ هل خبر عالم من علماء المسلمين؟ من قال هذا؟ إنه الله عز وجل. ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ )[المائدة:72]، المسيح: هو عيسى عليه السلام، ولقب بالمسيح لأنه يمسح على الأعمى فيعود إليه بصره، وعلى الأبرص فيطيب جلده، هذا المسيح هو عيسى بن مريم، واليعقوبيون -فرقة من فرق النصارى تعرف باليعقوبية- قالوا: اتحد عيسى الابن مع ربه، فأصبح عيسى هو الإله، هو الله، والاتحاد معروف، كأن تأخذ خشبتين فتدخل واحدة في واحدة، قالوا: دخل عيسى في الله، فأصبح عيسى هو الله!
ولا تعجب، أيخبر الله بغير الواقع؟ هؤلاء اليعقوبية وغيرهم من أصحاب الأقانيم الثلاثة: الأب والابن وروح القدس، الأب: هو الله. والابن: عيسى ولده. وروح القدس: هو جبريل، الثلاثة يكونون الله أو الإله، وسيأتي: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73].
وكما علمنا أن النصارى افترقوا إلى اثنتين وسبعين فرقة، واليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، ولن يستطيع من تحت السماء أن يرد على الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: ( وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة )، والله لقد افترقت إليها وتم العدد بكامله!
اسمع ما يقول تعالى، بعدما بين حال اليهود عاد إلى النصارى وهم أهل الكتاب فقال: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ )[المائدة:72]، تعرفون من مريم هذه؟ سموا بناتكم مريم، مريم معناها: خادمة الله باللغة العبرية؛ لأن والدتها حنة عليها السلام لما نذرت لله ما في بطنها، واستجاب الله لها، ورزقها الطفلة سمتها: مريم بمعنى: خادمة الله. وبالفعل ما خدمت أمها أبداً، تركتها في المسجد تعبد الله؛ لأنها نذيرة لله عز وجل، هذه مريم البتول أنجبت عيسى، فسمي: عيسى ابن مريم؛ إذ لا أب له، وإنما كان بكلمة التكوين، قال الله: كن فكان، في ربع ساعة والمخاض يهزها وهي تحت الشجرة أو النخلة تتألم للوضع.
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ )[المائدة:72]، والذي يشك في كفرهم كافر، فالله يقول: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ )[المائدة:72]، فالذي لا يقول هذا ولا يكفرهم كفر أحب أم سخط.

معنى قوله تعالى: (وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم)

ثم قال تعالى: ( وَقَالَ الْمَسِيحُ )[المائدة:72]، هم قالوا: المسيح هو الله، فالمسيح ماذا قال؟ قال في حفل عظيم، في حشد كبير هذه الكلمة المسجلة، من سجلها؟ الله جل جلاله، سجلها بالحرف الواحد، في ذلك الحفل قال: ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ )[المائدة:72]، يا أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل! ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )[المائدة:72]، هل قال: اعبدوني؟ ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي )[المائدة:72]، أي: خالقي ومالكي وإلهي الذي أعبده، وهو ربكم أيضاً، أي: خالقكم ورازقكم ومدبر أمركم وهو إلهكم الحق، ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )[المائدة:72].
معنى قوله تعالى: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة)

ثم علل وهو الحكيم يتلقى معارفه عن الله، فقال: ( إِنَّهُ )[المائدة:72]، أي: الحال والشأن ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ )[المائدة:72]، من يشرك بالله إلهاً آخر يعبده معه بأي نوع من أنواع العبادة فقد حرم الله عليه الجنة تحريماً أبدياً ممنوعاً منها لا يدخلها أبداً، ( وَمَأْوَاهُ النَّارُ )[المائدة:72]، إذا حرم عليه الجنة فأين يذهب؟ ما هناك إلا عالمان علوي وسفلي، عالم السعادة علوي، وعالم الشقاء سفلي، ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )[الذاريات:49]، موت وحياة، صحة ومرض، غنى وفقر، عز وذل، إذاً: نعيم وشقاء، علوي وسفلي، فأين يذهبون إذا حرموا من الجنة؟ إلى جهنم إلى عالم الشقاء.
صور شركية في حياة المسلمين
والمسلمون يقرءون سورة المائدة ويعرفون عن عيسى ما قال، ويرضون بالشرك الأكبر، فلا إله إلا الله! أسألكم بالله: أليس بين المسلمين من يقول: هذه شاة سيدي عبد القادر . هذه نخلة مولاي فلان. هذه كذا.. يتقربون إلى الأموات، آلله أمرهم بذلك؟ الجواب: لا، وإنما الشيطان زين لهم عبادة هذه القبور فأصبحوا ينذرون لها النذور ويعكفون حولها، والله بعيني هاتين رأيت في بلاد المسلمين الرجال والنساء عاكفين حول القبور والأضرحة، يستمدون منهم الخير، ويستعيذون بهم من الشر.وأزيدكم علماً: الرجل منا المسبحة في يده: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، وحين تأخذه سنة النوم والنعاس فتسقط المسبحة يقول: يا رسول الله أو يا سيدي عبد القادر ! أين ذلك الذكر؟ أما كان يقول: لا معبود إلا الله، لا معبود إلا الله، لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله؟ لما سقطت المسبحة من يده بالنعاس ما قال: يا رب، بل: يا سيدي فلان.
وأزيدكم: كنت راكباً إلى جنب أخينا يقود بنا السيارة خارج ديارنا هذه، ما إن خرجت السيارة عن الخط حتى قال: يا رسول الله.. يا رسول الله.. يا رسول الله!
يا عبد الله! لو مت لهلكت، وهل تشكون في هذا؟ الذي يشك في أن مدرساً في المسجد النبوي يكذب يجب أن يعود إلى دياره، أعوذ بالله! هذا مثال، والله! إن المرأة يهزها الطلق وهي تكاد تضع فتمسك بحبل في العمود، وتقول: يا الله، يا سيدي فلان، يا الله، يا رسول الله! ما هو بإله واحد، فما سبب هذا؟ سببه الجهل؛ لأن القرآن نقرؤه على الموتى من إندونيسيا إلى موريتانيا، مضت قرون لا يجتمع المسلمون اجتماعنا هذا على تلاوة كتاب الله ولا دراسته وهم عوام ورجال ونساء ليتعلموا الهدى ويعبدوا الله على الحق، وإنما يجتمعون على القرآن على الميت، في حلقة كبيرة فيها الشاي أو الأرز، بعد ذلك نقرأ على الميت حتى يدخل الجنة، ولا نفكر في معنى آية أبداً، بل إذا قلت: قال الله قيل: اسكت، القرآن تفسيره خطأ وخطؤه كفر، لا تقل: قال الله، قل: قال سيدي فلان أو قال الشيخ الفلاني، هكذا فعلوا بنا خمسمائة سنة، فكيف نعرف؟ من أين تأتي المعرفة؟
تمر ببلاد -باستثناء هذه الديار طهرها الله على يد عبد العزيز تغمده الله برحمته- بلادنا الأخرى ما تمر فيها بجبل إلا وقبة عليه، أنا مع أمي أو مع عمتي طفل، فتمر فتقول: يا سيدي فلان! إذا نصر الله أخي في المحكمة فسنفعل لك كذا وكذا! وثنية عامة، وإلى الآن ما زلنا.
هذه الآية ما سمعنا بها، اسمع عيسى يخطب في بني إسرائيل: ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )[المائدة:72]، لم؟ ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ )[المائدة:72]، وإن قلت: هذا تفسيرك أنت يا وهابي، قلت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى صحابياً، والأصحاب ما تعلموا ولا درسوا مثلنا، هذا آمن منذ عام، وهذا أسلم اليوم، أميون، ( رأى في يده حلقة من نحاس )، حلقة من صفر يعملها الناس في أعناقهم عندنا وفي أيديهم وأرجلهم، ( فقال: ما هذه يا عبد الله؟ قال: من الواهنة يا رسول الله -أصاب بالوهن في يدي، فإذا جعلت هذه تنشط يدي- فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، ولو مت وهي عليك ما دخلت الجنة )، لأن القلب الذي يتعلق بالحديدة انتهى صاحبه، فماذا نقول؟

طريق النجاة من المصائب والنقم
وقد ذكرتكم بأننا تحت النظارة، لا تفهموا أننا استقللنا وسدنا وحكمنا، وأصبحت لنا مصانع ونطير في السماء، والله! إنه لكما قال تعالى: ( فَعَمُوا وَصَمُّوا )[المائدة:71]، إما أن نلجأ إلى الله في صدق، ونعود على الفور، وإما أن تنزل بنا محن وآلام ومصائب ما عرفها آباؤنا، وهل هناك ضمانة عندنا؟ فحالنا كحال بني إسرائيل، فهيا نتوب إلى الله. وهناك طريق واضح ومسلك نعم المسلك، والله ما يكلفنا ديناراً ولا درهماً ولا قطرة دم ولا ألماً ولا شقاء أبداً، وما هي إلا سنة واحدة وكلنا أولياء لله أفضل من عبد القادر ، ولكننا لسنا مستعدين لأن نعبد الله. وباسم الله أقول والله يعلم، وقد قررنا هذا وكتبناه في كتاب سميناه: (كتاب مفتوح إلى علماء الأمة وحكامها)، ووزع وقرأه العلماء ووضع تحت الكتب كأن شيئاً ما كان، بل بعثنا به إلى خادم الحرمين أيده الله وأطال عمره، فبعث به إلى الرابطة ليترجم ويطبع فدسته الرابطة تحت الكتب وما بلغنا شيء، فما هذا؟!
أقول: إن أردنا أن نعود إلى سبيل النجاة وساحة والأمن والطهر والصفاء فلنأخذ أنفسنا على أننا إذا دقت الساعة السادسة مساءً وفي ديارنا كلها في العرب والعجم نوقف العمل، أغلق مقهاك يا صاحب المقهى، يا صاحب الدكان! أغلقه، يا صاحب المكتب! أغلق المكتب، توضئوا وائتوا بنسائكم وأطفالكم إلى بيت ربكم، إي: إلى الجامع، المسجد الكبير الذي وسعناه في الحي أو في القرية؛ حتى أصبح يتسع لأهل القرية كلهم، أو لأهل الحي أجمعين، وسهل هذا، بالخشب والحطب نوسعه كما كان حال أجدادنا، ثم صلينا المغرب وما بقي في القرية خارج المسجد أحد، إلا مريض أو ممرض، كل أهل القرية في المسجد، كل أهل الحي في المسجد، نصلي المغرب كما صلينا الآن، ثم يجلس لنا مرب عليم بكتاب الله وهدي رسوله كجلوسنا هذا، وندرس آية كما درسناها الليلة، ونحفظها، نرددها حتى تحفظ، ثم نضع أيدينا على المطلوب منها كما علمنا، وغداً حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المفسرة المبينة لكتاب الله نردده حتى يحفظه نساؤنا وأطفالنا وفحولنا، ثم نعرف مراد الرسول منه، فنعزم على التطبيق والعمل، ويوماً بعد يوم، يوماً آية، ويوماً حديث، والله ما تمضي سنة حتى تلوح الأنوار إن صبرنا، مع أن هذا العمل لا يوقف شيئاً أبداً، اليهود والنصارى والمجوس إذا دقت الساعة السادسة وقف العمل ويذهبون إلى المراقص والمقاصف والملاهي والملاعب، أليس كذلك؟
ونحن لأننا نريد أن نسود ونقود، لأننا أحياء وهم أموات، نحن مؤمنون وهم كافرون، إذاً: نصبر ساعة ونصف ساعة في بيت الرب، في سنة والله ما يبقى جاهل ولا جاهلة، ولسنا في حاجة إلى كتابة ولا إلى قلم، وإنما نتلقى العلم والحكمة كما تلقاها أصحاب رسول الله بدون قلم ولا دواة ولا كتابة، والعلم الذي في الكتابة نأخذه في النهار في المدارس، لكن هذا العلم الروحاني الرباني نتلقاه ليلاً للعمل به في النهار، في سنة واحدة والله ما يبقى في القرية من يعرف أنه يزني أو يكذب على إخوانه أو يمد يده ليضربهم أو يسرق مالهم، أو يرى من يتكبر عليهم أو يسخر منهم، والله ما كان، ولا يبقى فقير يتضور بالجوع أبداً، ويتوافر المال، والله ليتوافرن المال، فالذي كان راتبه عشرة آلاف سيستغني بألفين، والباقي ماذا يصنع به؟ وفوق ذلك يتكون في ذلك المسجد صندوق من حديد في المحراب، والمسئول العام هو إمام المسجد والمربي والمؤذن وشيخ القرية، فيقولون: يا معشر المؤمنين والمؤمنات! من زاد ماله عن قوته فليضعه في هذا الصندوق، في ستة أشهر يمتلئ الصندوق ويفيض، فماذا يصنعون به؟ انظروا: المنطقة تحتاج إلى مصنع، فانشئوا مصنعاً، تحتاج إلى مزرعة وأرض زراعية، ويبارك الله في ذلك المال وينمو ويفيض وما يبقى بنك ولا ربا، بل بتلفون: أعطوا لفلان من القرية الفلانية، وتصاب الماسونية بالجنون، ويصاب اليهود والنصارى بالعفن، فيقولون: ما هذا؟ كيف طلع هذا الفجر رغم أنوفهم ولا يستطيعون أن يزلزلوا أقدامنا؛ لأن الله أصبح ولينا، فماذا يكلفنا هذا؟ ما نستطيع أن نصبر لوجه الله ساعة نتعلم كتاب الله وهدي رسوله.
إن هذا الصوت إذا سمعته الماسونية والعلمانيون والمسيحيون يغضبون، كلما سمعوا الحق غضبوا، ولن نسكت، بل نقول: اغضبوا فما طالبناكم بشيء أبداً، فنحن في بيوت ربنا، وتنتهي الجهالات والشركيات والخرافات والضلالات والأحقاد والأحساد والأمراض كلها في سنة واحدة، فمن يبلغ؟ لا إله إلا الله! يا علماء، يا رجال السياسة، يا حاكمون! استجيبوا، جربوا، إخوانكم شاردون ضائعون في الباطل، اجمعوهم في بيت الرب ولقنوهم الكتاب والحكمة، أما قال تعالى فينا: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[الجمعة:2]، تعلموا وفازوا أم لا؟ والله! ما اكتحلت عين الوجود بأمة أطهر ولا أعز ولا أكمل ولا أصفى من تلك الأمة في قرونها الثلاثة: الصحابة وأولادهم وأولاد أولادهم، كيف حصلوا على هذا الكمال؟ حصلوا هذا بالعلم بالكتاب والحكمة، بطاعة الله والانقياد له.
فهيا بنا، النجاة.. النجاة، يا عبد الله.. يا أمة الله! اطلب النجاة لنفسك، تعرف إلى ربك، تعرف على ما يحب ويكره وافعل المحبوب وتخل عن المكروه، واصبر على ما يصيبك، فما هي إلا ساعات وأنت في الملكوت الأعلى، اللهم حقق لنا ذلك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
26-06-2021, 04:47 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (28)
الحلقة (338)
تفسير سورة المائدة (34)



ما يلزم المحرم من الميقات حال توجيه الرحلة إلى المدينة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:

أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
معاشر المستمعين! بين يدي الدرس سئلت عن مجموعة من المؤمنين جاءوا محرمين بالحج أو بالعمرة، أحرموا من الميقات وهم على متن الطائرة ظانين أنهم يذهبون إلى مكة وإذا بالمسئولين عنهم حولوهم إلى المدينة؛ ليزوروا المسجد النبوي الشريف ويسلموا على رسول الله وصاحبيه، ثم بعد ذلك يعودون إلى مكة، فهل يبقون على إحرامهم أو يتحللون؟ الجواب: يجب أن يبقوا على إحرامهم، ويلبون ويهللون ويكبرون ويدعون، وهم في أشرف عبادة وأفضلها، ولو بقوا في المدينة خمسة أيام أو أسبوع، فهي نعمة كبيرة ساقها الله إليهم؛ لأنهم لله، تجردوا له وهم يلبون التلبية المطلوبة، هذا هو الواجب، ومن تحلل منهم جهلاً لعدم علم فليعد إلى إزاره وردائه وإلى تلبيته وعبادة ربه، ومن قال: أنا لا أعود إلى الإحرام وتحلل فيجب أن يذبح شاة في المدينة أو في مكة، ثم بعد ذلك يحرم إذا أراد الدخول إلى مكة.
مرة أخرى أقول: مجموعة من إخواننا المؤمنين أحرموا ودخلوا جدة محرمين ظانين أنهم يذهبون إلى مكة ليطوفوا لعمرتهم أو لحجهم، فأمروا أن يذهبوا إلى المدينة، فمنهم من تحلل ومنهم من بقي على إحرامه، فما هو الجواب لهذه القضية؟
أقول: المحرم يبقى على إحرامه وهو في خير وعافية، ويشغل وقته بذكر الله والتدبير والعبادة، إذ كان المؤمنون يحرمون من مدينة الرسول عشرة أيام وهم في الطريق يلبون.
إذاً: فليبقوا على إحرامهم وهم في نعمة كبيرة، ومن جهل الوضع وتحلل وهو لا يدري فليعد إلى إحرامه ولا شيء عليه، ومن أصر على أن يبقى متحللاً وتحلل بالفعل وأصر على تحلله فإن عليه أن يذبح شاة في المدينة أو في مكة؛ لأنه كالمحصر، ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ )[البقرة:196]، أحصر رسول الله وألف وأربعمائة صحابي فذبحوا هديهم وعادوا إلى المدينة، خرجوا ملبين بالعمرة حتى وصلوا قبل عشرين كيلو متر من مكة، فمنعتهم قريش، فماذا يصنعون؟ ذبحوا وتحللوا ونزل في هذا قرآن يقرأ إلى يوم القيامة: ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ )[البقرة:196] عليكم يا من أتيتم محرمين تريدون مكة ثم منعتم منها بواسطة القائمين عليكم ومسئوليكم وقالوا: اذهبوا إلى المدينة أولاً. فمن بقي على إحرامه فهنيئاً له، فليبق على إحرامه حتى يزور ويعود إلى مكة، ومن تحلل بدون علم جهلاً ظن أنه يجوز فعليه أن يعود إلى إحرامه، ومن أصر على ألا يعود إلى إحرامه فليذبح شاة غداً في المدينة أو بعده في مكة وجوباً، مقابل أنه أحصر وتحلل فيجب أن يذبح شاة.

تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ...)

ها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )[المائدة:73-76].

قوله تعالى: ( لَقَدْ كَفَرَ )[المائدة:73]، كفروا بالله ولقائه ورسله وكتبه، كفراً لم يبق لهم معه حظ في الإسلام، من هم الذين كفروا؟ ( الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73]، اليعقوبية قالوا: إن الناسوت حل في اللاهوت، بدعة شيطانية إبليسية يسخر منها كل ذو عقل، ما معنى أنه حل الناسوت في اللاهوت وأصبح الإله واحداً، فعيسى هو الإله؟! أعوذ بالله، كيف يصبح عيسى ابن مريم هو الله؟! أي عقل هذا، أي فهم، أي ذوق؟!

وفرق أخرى قالت: ( إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73]، الأقانيم ثلاثة: الأب والابن وروح القدس، الله وعيسى وجبريل! وهذه سخرية واستهزاء وعبث، كيف يقبل ذو العقل هذا الكلام: ( اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73]، الآلهة ثلاثة والله واحد!

ما هو الإله يا غافل؟ الإله: المعبود، ولا يستحق عبادتي كائن إلا من خلقني ووهب حياتي وبيده مصيري وهو مالكي ومالك كل أمر عندي، ذاك الذي هو إلهي أعبده، أما الذي ما خلقني ولا رزقني ولا دبر حياتي فكيف يكون إلهاً لي؟! أمجنون أنا؟! لم لا يفكرون؟
إعلان كفر القائلين بالتثليث وإبطال فريتهم

فأعلن تعالى عن كفرهم، فقال عز وجل في كتابه المنزل على رسوله: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73]، والحال أنه: لا إله إلا الله، ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ )[المائدة:73]، ألا وهو خالق السماوات والأرضين وما بينهما وما فيهما، هذا هو الذي يستحق الإلهية، هذا الذي هو الإله الحق، أما الآلهة الكاذبة المكذوبة المزعومة فهي هراء وأباطيل لا قيمة لها ولا وزن، لو سئلت يا عبد الله: من خلقك؟ فهل تقول: عيسى؟ هل تقول: مريم، هل تقول: سيدي عبد القادر ، من خلقك؟ الله. إذاً: هو الذي يجب أن تؤلهه، أي: تعبده بالذلة له والحب والتعظيم والرهبة والرغبة، فكيف يكون عيسى إلهاً وهو ابن مريم ؟ كيف تكون مريم إلهاً وهي ابنت عمران وأمها حنة ، كيف تكون إلهاً؟ إن الإله الذي يملك كل شيء، وهذا هو الله رب العالمين، رب السماوات والأرض وما بينهما وإليه مصير كل شيء.فهذه الفرق النصرانية غلبت عليها الشياطين والأهواء والشهوات والأطماع والتقاليد العمياء حتى ( قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73]، فأبطل الله زعمهم هذا وحكم بكفرهم: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73].
ثم قال تعالى: ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ )[المائدة:73]، ألا وهو الله رب العالمين خالق عيسى والأنبياء والمرسلين ورب كل شيء ومالك كل شيء.


معنى قوله تعالى: (وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم)

ثم قال: ( وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ )[المائدة:73]، إن لم ينتهوا عن هذا الباطل والخرافة والكذب ودعوى أن الله ثالث ثلاثة ( لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:73]، ما قال: ليمسنهم عذاب أليم. بل بين علة هذا العذاب وهي الكفر والعياذ بالله، فالذي ينسب إلى الله الولد كافر، والذي ينسب إلى الله الزوجة كافر، والذي ينسب إلى الله العجز كافر، ومن كفر فمصيره عالم الشقاء جهنم دار البوار.وما هو سر هذا الحكم يا أهل القرآن؟ لأن الذي كفر بالله نفسه خبيثة، روحه منتنة عفنة كأرواح الشياطين والكافرين، وهل صاحب الروح الخبيثة يدخل دار السلام؟ والله ما يدخلها، لقد صدر حكم الله على البشرية، بل على عالم الإنس والجن، وهو قوله: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، فمن زكى نفسه بمعنى: طيبها وطهرها بأداة الإيمان وصالح الأعمال؛ فقد أفلح وفاز بدخول الجنة والنجاة من دار الشقاء النار، ومن دسىى نفسه وأخبثها وعفنها بالشرك والكفر والذنوب والآثام فمصيره الخسران التام، فلم لا يسألون حتى يعملوا؟ لم لا يقول المسيحي: يا مسلم! بلغني أننا كفار، فما الدليل على كفرنا؟ يقول: لأنكم كذبتم على الله، وادعيتم أن الله ليس بواحد بل ثلاثة، أو أدعيتم أن عيسى هو الله وهذا هو كفر منتن عفن، الله الذي يقول للشيء: كن فيكون، الذي كون هذه الكائنات وأوجدها وهو يدبرها طول حياتها، أهذا يكون له ولد؟ وكيف يكون له ولد ولا زوجة له؟ والذي يخلق ما يشاء بكلمة: كن هل يحتاج إلى ولد يساعده أو زوجة يستأنس بها؟ كيف هذا الفهم؟! حرام هذا الكلام، عيب هذا الكلام أن يقال في حق الله عز وجل، ولكن كتب الله دار الشقاء والسعادة، وعلم أهلهما قبل أن يخلقهما.

يتبع

ابوالوليد المسلم
26-06-2021, 04:47 AM
ملخص لما جاء في تفسير الآية

هذه الآية الأولى: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73]، والواقع ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ )[المائدة:73]، الجواب: ( لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:73]، هذا العذاب الموجع الأليم متى يكون؟ بعد الموت، بعد الانتقال من هذه الدار إلى الأخرى، أو من هذا العالم السفلي إلى العالم الذي هو أسفل. أعيد تلاوة الآية الآية، فيجب أن تفهموا يا عرب، كيف لا تفهمون كلام الله؟ لم أنزله، اسمع قوله تعالى: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73]، من حكم بكفرهم؟ الله. ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ )[المائدة:73] والله ( إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ )[المائدة:73]، والله! لا يوجد إله حق إلا الله؛ لأن الإله الحق هو الذي خلقني ووهبني سمعي، بصري، دقات قلبي، أوجد الكون من أجلي، خلقني وخلق كل شيء من أجلي، هذا الذي أؤلهه، هذا الذي أعبده، هذا الذي أعظمه، هذا الذي أكبره، أما مخلوق مثلي فكيف أجعله إلهاً؟!

وقد هبط الناس وعبدوا الفروج، وعبدوا البهائم، وعبدوا الأشجار والأحجار، وألهوا الشهوات: ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ )[الفرقان:43]، ومد عنقه لشهوته يجري وراء شهوته، يجري وراءها كالكلب، يجري إلى الزنا، إلى اللواط، إلى الكذب، إلى الخيانة، إلى التعفن، كل ما زين له هواه يعبده، أعوذ بالله.

(وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ )[المائدة:73]، وعزة الله وجلاله ( لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:73]، أما من تاب فقد تاب الله عليه، من أصر على قول الكفر له عذاب أليم.
تفسير قوله تعالى: (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم)

هيا إلى الثانية، قال تعالى: ( أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ )[المائدة:74]، فيغفر لهم، ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:74]، فتح لهم باب التوبة على مصراعيه، يا من قضى الله بكفركم وحكم بعذابكم! ها هو ذا تعالى يفتح باب التوبة لكم ويدعوكم إلى أن تتوبوا فيغفر لكم، ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:74]، فالحمد لله، هذا فضل الله، والهمزة للاستفهام، مالهم ( أَفَلا يَتُوبُونَ )[المائدة:74]، أفلا يتأملون، أفلا يسألون، أفلا يعقلون، فيعرفون أنهم على كفر وباطل، فيتوبون إلى الله ويرجعون إليه فيوحدونه ويعبدونه وحده؛ فيغفر لهم، ومن صفات الله وشأنه: أنه الغفور لمن تاب، الرحيم به، هذا عطاء إلهي. (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ )[المائدة:74]، أولئك الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وقالوا: عيسى هو الله، ( أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ )[المائدة:74]، أي: يطلبون المغفرة لذنوبهم. والتوبة معناها: الرجوع إلى الحق، قلنا: الله ثالث ثلاثة، ولكن عرفنا الحق، فالآن نقول: لا إله إلا الله، تبنا، رجعنا إلى كلمة الحق، وهي: أنه لا معبود إلا الله، ثم نقول: اللهم اغفر لنا ذنوبنا السالفة التي ارتكبناها بكفرنا، اللهم اغفر لنا. فإن تابوا واستغفروا تاب الله عليهم وغفر لهم؛ لأن من صفاته: الغفور الرحيم.

تفسير قوله تعالى: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة ...)

وفي الثالثة ماذا يقول تعالى؟ اسمع هذا البيان: ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ )[المائدة:75]، ما هو بالله ولا بابن الله، ولا هو الله، ما هو إلا رسول من جملة الرسل، ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، من نوح، إلى إبراهيم، إلى فلان وفلان، ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، عيسى واحد منهم، إي والله. ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ )[المائدة:75] من جملة الرسل الذين هم ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، على عدة قوم طالوت، على عدة أهل بدر، سبحان الله! عدة أهل بدر ثلاثمائة وأربعة عشر، وعدة قوم طالوت الذين غزا بهم وانتصر على جالوت ثلاثمائة وأربعة عشر، وأربعون ألفاً انهزموا ورجعوا إلى الوراء، وثلاثمائة وبضعة عشر انتصروا، وكان النصر بسبب داود عليه السلام.إذاً: ( مَا الْمَسِيحُ )[المائدة:75]، ما عيسى ابن مريم ( إِلَّا رَسُولٌ )[المائدة:75]، ما هو بابن الله ولا هو الله ولا هو بإله مع الآلهة أبداً، هو عبد الله ورسوله: ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ )[المائدة:75]، مضت من قبله الرسل في ثلاثمائة واثني عشر، وهو كملها ورسول الله تممها، جاء بعده، ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ )[المائدة:75] بإله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة مع الله، ما هو إلا رسول، وهذا شرف، عظيمة هذه المنزلة، رسول من جملة الرسل، ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ )[المائدة:75]، أي: مضت، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو خاتمهم، ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ )[المائدة:75]، ( وَأُمُّهُ )[المائدة:75] ما هو شأنها، ما صفتها، ما تعرفون عنها؟ هل هي كذابة، دجالة، فاجرة؟ لا. بل ( صِدِّيقَةٌ )[المائدة:75]، من شهد لها بهذه؟ الله جل جلاله، كثيرة الصدق لا تعرف الكذب أبداً بحال من الأحوال، وعندنا نحن صديقة هي عائشة أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديق، فهي والله صديقة، حبيبة رسول الله وزوجته، بنت أبي بكر .

إذا: مريم صديقة، فكيف تجعلونها إلهاً مع الله وهي صديقة صادقة لا تعرف الكذب والافتراء والباطل بحال من الأحوال؟ قال تعالى: ( صِدِّيقَةٌ )[المائدة:75]، ما قال: نبية أو رسولة، ما هي بنبية ولا رسولة، ولكن صديقة، يكفيها هذا الفخر والشرف، الله أثبت لها هذا الوصف وشهد به لها، فمن يساوي مريم عليها السلام العذراء البتول.

معنى قوله تعالى: (كانا يأكلان الطعام)

إذاً: ( كَانَا )[المائدة:75]، أي: هي وولدها ( كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ )[المائدة:75]، كان عيسى يأكل الطعام، يأكل البقلاوة والتمر والفاكهة، والصديقة التي قالوا فيها في الأقانيم الثلاثة: إنها إله كانت تأكل الطعام، إي: الخبز واللحم والفاكهة، كيف الذي يأكل الطعام يكون إلهاً؟ إذا انقطع عنه الطعام مات بالجوع، أهذا يقود الخلق ويدبر الكائنات فيعبد مع الله ويقال فيه: إله؟ أين يذهب بعقولكم؟ وفوق ذلك الذي يأكل الطعام يمتلئ بطنه فيخرأ أم لا؟ يفرز العفن والنتن أم لا؟ هذا الذي يذهب إلى المرحاض ويخرأ هل يصلح أن يكون إلهاً؟ أعوذ بالله.. أعوذ بالله! أين الذوق؟ أين الفهم؟ أين المنطق؟ أين العقول؟ الشياطين تسخر بالبشرية وتستهزئ بها، الذي لا يستطيع أن يعيش بدون طعام وشراب هل يكون إله الخلق ويدبر حياتهم؟ مستحيل هذا، فهذا الفهم وسخ ما هو بعقل هذا أبداً.فما المسيح ابن مريم بنبي ، ما المسيح ابن مريم بإله، ولا ثاني اثنين مع الله، ولا هو الله، وأمه كذلك صديقة.
(كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ )[المائدة:75]، والذي يأكل الطعام يتغوط أم لا؟ والذي يفرز العفن يصلح أن نعظمه ونعبده ونسجد له ونرفع أيدينا نسأله ليعطينا؟ لو انحصر الطعام في بطنه لمات، فلا إله إلا الله! ما هذا البيان الإلهي! قولوا: آمنا بالله.. آمنا بالله.. آمنا بالله. هذا كتاب الله فيه العجب، رضي الله عن إخوان لنا من الجن قالوا: ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا )[الجن:1-2]، مجموعة من الجن مروا بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي الصبح في بطن نخلة بين مكة والطائف، ما إن سمعوا حتى التفوا حوله، وسمعوا، وعادوا إلى أقوامهم: ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا )[الجن:1]، وقالوا: ( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأحقاف:31-32].

أنتم الآن تذوقتم ما تذوق الجن أم لا؟ هذا الكلام أليس بعجب؟ أبطل التثليث وانتزعه من قلوب الناس، أنهاه، أنهى فكرة أن عيسى إله وأن مريم إله، بالعقل والمنطق: ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ )[المائدة:75] فقط، ما هو بالله ولا بابن الله ولا ثالث ثلاثة مع الله، ( وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ )[المائدة:75]، ما هي بأقنوم من الأقانيم المكذوبة، صديقة لا تعرف الكذب

و( كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ )[المائدة:75]، الذي يأكل الطعام يخرأ أم لا؟ والذي يفرز العفن هل يصلح أن يعبد؟ كيف يسأل أو يدعى؟ آمنا بالله.. آمنا بالله.. آمنا بالله.

معنى قوله تعالى: (انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون)
ثم ختم تعالى الآية بقوله: ( انظُرْ )[المائدة:75] يا عبد الله، ( انظُرْ )[المائدة:75] يا رسولنا، ( كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ )[المائدة:75]، أي تبيين أعظم من هذا التبيين؟ ( انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ )[المائدة:75] الحاملة للحجج والحاملة للبراهين الساطعة على أنه لا إله إلا الله، وأن عيسى ليس بالله ولا بابن الله، ولا ثالث ثلاثة مع الله، انظر بعيني قلبك ( كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ )[المائدة:75] أيضاً ( أَنَّى يُؤْفَكُونَ )[المائدة:75]، كيف يصرفون عن الحق وهم يشاهدونه؟ أنت بين يديك طعام فتأكل وتقول: ما عندنا طعام. كيف هذا والطعام بين يديك وأنت تمضغ وتقول: لا. ما عندنا طعام؟ (ثُمَّ انظُرْ أَنَّى )[المائدة:75]، أي: كيف ( يُؤْفَكُونَ )[المائدة:75]، من يأفكهم؟ ومن يصرفهم؟ الشياطين والأهواء والشهوات والذين يريدون أن يكونوا رؤساء عليهم يسودونهم ويحكمونهم.


تفسير قوله تعالى: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً ...)

ثم قال تعالى في الآية الرابعة لرسوله وحبيبيه والمبلغ عنه: ( قُلْ )[المائدة:76] يا رسولنا، وجه إليهم هذا الخطاب: ( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا )[المائدة:76]، ( أَتَعْبُدُونَ )[المائدة:76]، أما تخجلون، أما تستحون، أما تفهمون؟ تعبدون من لا يملك ضراً ولا نفعاً! كيف يعبد من لا يملك لي ضراً ولا نفعاً؟ ومن يملك الضر والنفع؟ إنه الله.
هذا سيد الخلق الحبيب صلى الله عليه وسلم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو وقفت على قبره ألف سنة تقول: يا رسول الله! إني مريض، يا رسول الله! إني جائع، يا رسول الله! بلادنا استعمرت، يا رسول الله! امرأتي غضبى؛ فلن تسمع منه كلمة، ولا يجيبك في قضية، فكيف تعبده إذاً؟!
أما فهمتم هذا التعجب: ( قُلْ )[المائدة:76] يا رسولنا ( أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا )[المائدة:76]، لا يدفع عنكم ضراً ولا يكسبكم نفعاً، اعبدوا الذي إذا رفعت كفيك إليه وقلت: يا رب سمعك وأجابك وقضى حاجتك إن كان في ذلك خير لك. ‏

معنى قوله تعالى: (والله هو السميع العليم)

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )[المائدة:76]، (السَّمِيعُ) لأصوات كل من يناديه ويدعوه، (الْعَلِيمُ) بحال كل من يسأل ويطلب، يعرف ما يحتاج الآن وما يحتاج مستقبلاً. انظروا يا عباد الله لتفهموا أن الدعاء هو العبادة، من دعا غير الله كفر، من دعا غير الله أشرك، من دعا غير الله جهل الله، من دعا غير الله اعتدى على الله، من دعا غير الله خاب وخسر، وأصور لكم ذلك في رجل يرفع يديه إلى السماء يدعو الله، وأبين ذلك فأقول:
إن هذا الرجل فقير محتاج، فما الدليل على فقره واحتياجه؟ الدليل: رفعه كفيه يستعطف ويسترحم، فهل هو فقير أم لا؟ محتاج أم لا؟
ثانياً: الذي رفع كفيه إليه يعلم أنه يراه، لو لا يقينه بأن الله يراه ما رفع كفيه إليه وهو بعيد عنه، لكن علم أن الله يراه، ولهذا رفع كفيه إليه.
ثالثاً: ها هو يدعو يقول: اللهم اغفر لنا.. اللهم ارحمنا، لولا علمه أن الله يسمع كلامه فهل سيسأله بلسانه؟ لولا يقينه أن الله يسمع كلماته التي ينطق بها ما كلمه ولا قال: أعطني ولا اغفر لي، لكنه موقن أن الله يسمعه، أليس كذلك؟
رابعاً: لو كان الله ما هو فوق عرشه فوق سماواته لم يرفع يديه هكذا؟ موقن أن الله فوقه.
فلهذا الدعاء هو العبادة، الدعاء مخها، من دعا غير الله حبط وتمزق وكفر وتلاشى، فلهذا أحذر الغافلين أن يسألوا غير الله شيئاً، لا نبياً ولا رسولاً ولا ولياً ولا حاضراً ولا غائباً، اللهم إلا ما أذن الله فيه لنا: أخي إلى جنبي وأنا ظمآن، فأقول: اسقني ماء، فلا بأس، هربت دابتي أو تعطلت سيارتي فقلت: يا عبد الله! تعال أعني عليها، لا بأس، أما أن تقف في الطريق وتقول: يا راعي الحمراء، يا مولى بغداد، وبينك وبينه ألف سنة وعشرة آلاف كيلو وتدعوه وتقول: يأتي ليساعدني؛ فأين يذهب بعقلك يا عبد الله؟ كيف يصح هذا؟!
(أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )[المائدة:74-76]، هو الذي ندعوه ونسأله؛ لأنه يسمع نداءنا ويعرف أحوالنا، ويقدر على إعطائنا أو منعنا؛ لأن بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير.

ومع هذا ما زال إخوان لنا وأبناء يقولون: يا سيدي فلان، يا فلان يا فلان! وهذا صفوة الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو وقفت غير عام ولا عشرة على الحجرة تناديه ما أجابك، ولو فرضنا أنه أجابك فلن يعطيك ريالاً ولا كأس ماء، فالذي تدعوه ويستجيب هو الله، لا إله إلا الله ولا رب سواه، فلا ندعو إلا الله عز وجل.
هذا والله تعالى أسأل أن يغفر لي ولكم ولسائر المؤمنين والمؤمنات وأن يرحمنا أجمعين، وأن يتوب علينا أجمعين، وأن يحفظنا حتى نلقاه صالحين. اللهم آمين.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
26-06-2021, 04:49 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (29)
الحلقة (339)
تفسير سورة المائدة (35)



وقفة مع إرسال السلام على الرسول مع زائر المدينة


الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة.
وبين يدي الدرس أعلم بعض الأبناء والإخوان الجاهلين بالسلام على الحبيب صلى الله عليه وسلم، إذ يقول أحدهم: لقد أوصاني فلان بأن أسلم له على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتيت المدينة النبوية، ويقول: لقد نسيت فما بلغت الأمانة ولا سلمت له على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الجهل وعدم العلم، من عدم المعرفة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يبلغ السلام بالواسطة أبداً، فنحن نصلي عليه وسلم بأي مكان من العالم العلوي أو الأرضي السفلي فيبلغه سلامنا مباشرة، فلا يحتاج إلى واسطة، ويدلك على هذا أننا ما صلينا في ليل أو نهار فريضة أو نافلة إلا قلنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ما نصلي ركعتين إلا ونحن جالسون بين يدي الله، ونبدأ بتحية الله: التحيات لله والصلوات والطيبات، أي: كلها لله، ثم نقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ووالله إنه ليسمعها أكثر من سماعكم لي، وقبل أن يكشف الله الغطاء ويزيح الستار عن هذه المغيبات كان المسلمون يؤمنون بما أمرهم الرسول أن يقولوه، ولا يدرون كيف، أما نحن ففي بيوتنا نتكلم مع الناس في الشرق والغرب في السماء والأرض، هل هناك من ينكر أن شخصاً في نيويورك تسلم عليه وأنت في المدينة؟ هل تقول: مستحيل؟ ما هو بمستحيل.
ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ارتبك بعض الأصحاب، فقال الآن نقول: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، لا نقول: السلام عليك أيها النبي، فأيام كان يصلي بنا وأمامنا نواجهه بالخطاب ونقول: السلام عليك أيها النبي، أما وقد مات صلى الله عليه وسلم وهو في الملكوت الأعلى فنقول: السلام على النبي. فقال أهل العلم كـأبي بكر وعمر وغيرهما: لقد أمرنا الرسول أن نقول هكذا فيجب أن نقول هكذا، لا عبرة بحياته وموته، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
وقال صلى الله عليه وسلم: ( صلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني، وسلموا علي حيثما كنتم فإن سلامكم يبلغني )، آمن المسلمون قروناً عديدة وهم موقنون بأن السلام يصل والصلاة تبلغ، إلا أننا الآن بهذه الاكتشافات التي أزاح الله بها الستار وأصبحنا نحيي من بيننا وبينه آلاف الأميال، ويسمعنا ونسمعه بهذا الهاتف، والآن هل يبقى شك في قلبك إذا قلت: السلام عليك أيها الرسول أنه يسمع؟ يبلغه، فلست في حاجة إلى أن تقول: يا عبد الله! سلم لي على الرسول إذا زرت المدينة، لا معنى لهذا الكلام أبداً، إلا أن الشيطان يريد أن يحرمكم من الأجر فلا تصلي ولا تسلم، وتقول: سلم لي على الرسول، بل صل وسلم عليه أنت في مكانك يبلغه، هل فهمتم معشر المستمعين هذه الحقيقة؟ ألستم تقولون: السلام عليك أيها النبي في كل صلاة؟ أنت بين يدي الله، والله نصب وجهه لك ويسمع كلامك وتصلي وتسلم على نبيه فيبلغه ذلك، فالحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.

تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ...)

وها نحن مع هذه الآيات المباركات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ )[المائدة:77]، هذه الآية عجب، يأمر الله رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم؛ لأن (قُلْ) فعل أمر أم لا؟ من الآمر؟ الله جل جلاله. من المأمور؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قُلْ) يا رسولنا، قل أيها المبلغ عنا، ( قُلْ )[المائدة:77]، ماذا؟ ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )[المائدة:77]، من هم أهل الكتاب؟ اليهود والنصارى.

وتقدم في آخر سورة النساء: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ )[النساء:171]، فلا تكذبوا وتقولوا: عيسى ابن الله، ولا هو الله، ولا هو ثالث ثلاثة مع الله، هذا غلوا وافتراء وباطل، وهنا قال تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ )[المائدة:77]، أولاً: النصارى قالوا: عيسى ابن الله، وقالوا: هو الله، وقالوا: هو ثالث ثلاثة، وهذا التثليث، هذا كذب، والله إنه لكذب، والله إنه لباطل، والله إنه لمنكر، وهذا هو الغلو والعياذ بالله، عيسى عبد الله وتقول: هو الله؟! تقول: دخل الناسوت في اللاهوت؟! والشياطين تزين الباطل وتحسنه ويمد الناس أعناقهم ويقبلون كل ما يقال لهم ويسمعون، فأين العقول؟

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ )[المائدة:77]، والغلو: هو الزيادة، وضد الغلو الهبوط، ضد الزيادة النقصان، إذاً: الوسط الوسط، وقد قال تعالى في تكريمنا: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا )[البقرة:143]، أمة الإسلام أمة وسط، لا إفراط ولا تفريط، لا غلو وازدياد ولا نقصان، ولكن العدل العدل.

إذاً: ( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ )[المائدة:77]، النصارى قالوا: عيسى ابن الله. واليهود قالوا: عيسى ابن زنا، وليس ابن مريم ولا هو كلمة الله، فلاحظ الغلو في الذين قالوا: هو الله وابن الله، والنقصان والتفريط في الذين قالوا: ابن زنا وقالوا: ساحر، فاليهود يقولون: عيسى ساحر، أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بسحره، ليس هو برسول الله.

(وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا )[المائدة:77]، (أَهْوَاءَ): جمع هوى، والهوى -والعياذ بالله- هو ما تمليه النفس وتزينه الشياطين ويهوي به الإنسان إلى أن يصبح كالحيوان، ويسقط به ويهوي في جهنم، ( وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا )[المائدة:77]، من هم؟ غلاة اليهود والنصارى، ( وَأَضَلُّوا كَثِيرًا )[المائدة:77]، أضلوهم وأخرجوهم عن الحق؛ لأنهم يريدون أن يتبعوهم على هواهم وباطلهم، ( وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ )[المائدة:77]، وخرجوا عن الطريق المستقيم الموصل إلى رضا الله وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، هذا من رحمة الله، هذا من إحسان الله لعباده، يأمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن ينادي أهل الكتاب اليهود والنصارى بهذا العنوان، ويقول لهم: ( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ )[المائدة:77].

وجوب عبادة الله بما شرع من غير زيادة ولا نقصان

وإذا كان اليهود والنصارى نهو عن الغلو فهل نحن مسموح لنا بذلك؟ نحن قبلهم مأمورون بالعدل والاستقامة، لا إفراط ولا تفريط، لا غلو ولا نقصان، ولكن ما جاءنا عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كان عقيدة اعتقدناها، قولاً قلنا به، عملاً عملنا به، ولا نقدم ولا نؤخر ولا نزيد ولا ننقص، إذ الزيادة كالنقصان تبطل العمل وتفسده، ويصبح العمل لا يزكي النفس ولا يطهر الروح.إذاً: نؤمن بما آمن به رسول الله وأصحابه، ونقول ما قاله رسول الله وأصحابه، ونعمل ما عمل به رسول الله وأصحابه، ولا نزيد ولا ننقص لا غلو ولا إفراط ولا تفريط، نحن أولى بهذا، وإن كانت رحمة الله تجلت في بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا )[الأعراف:158]، أبيضكم كأصفركم، وأولكم كآخركم، أنا مبلغكم عن الله ما به تسعدون وتكملون، فآمنوا واتبعوا، أما الزيادة والنقصان في الدين فمن شأن هذه الزيادة والنقصان أن تبطل الدين وتعطل الدين، وتعطل مفعوله ولا يصبح منجحاً ولا منجياً ولا يفوز به أحد، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ).


سنة الله تعالى في تحصيل الطهارة بالعبادات

وإليكم سر هذا: إن الطعام يشبع والماء يروي الشارب، والنار تحرق الأجسام، والحديد يقطع، هذه سنن لا تتبدل، فهل سيأتي يوم يصبح الآكل لا يشبع، والشارب لا يرتوي، والنار تدخل وتتمرغ فيها فما تحرق، والحديد لا يقطع أي جسم؟ كلا، سنة الله لا تتبدل. فكذلك العبادات التي شرعها الله لعباده، هذه العبادات سر شرعيتها -والله- من أجل تزكية النفس وتطهيرها؛ لأن السعادة كالشقاء متوقفان على زكاة النفس وخبثها، إذا زكت النفس، بمعنى: طابت وطهرت كما تطهر الثياب والأجسام، هذه النفس إذا زكت وطابت وطهرت قبلها الله ورضي عنها ورفعها إليه؛ لتسعد في عالم السعادة فوق هذه السماوات السبع، في ذلك العالم الأعلى، وإذا خبثت النفس وأنتنت وتعفنت ما قبلها ولا رضي عنها وجعل مصيرها الدركات السفلى في العالم الأسفل، واقرءوا: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ )[التين:1]، الله يقسم: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ )[التين:1-5]، اللهم ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[التين:6]، الإيمان الصحيح والعمل الصالح من شأنهما تزكية النفس وتطهيرها، فمن آمن وعمل صالحاً زكى نفسه وطيبها وطهرها، فبمجرد أن يموت وتنفصل الروح عن البدن يعرج بها الملائكة إلى الملكوت الأعلى، لتبقى هناك فتسعد مع مواكب أربعة، قال تعالى في بيان هذا: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ )[النساء:69]، إنسياً كان أو جنياً، أبيض أو أسود، في الأولين أو الآخرين، ذكراً كان أو أنثى، فقيراً أو غنياً، ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ )[النساء:69]، طاعة الله وطاعة الرسول في أي شيء يا عباد الله ويا إماء الله؟ فيما يأمران به وينهيان عنه، هل هناك شيء غير هذا في الطاعة؟ الذي يأمر الله تعالى بفعله أو قوله أو اعتقاده طاعة الله والرسول فيه تزكي النفس البشرية وتطهرها، وما ينهى الله ورسوله عنه من اعتقاد فاسد أو قول سيئ أو عمل غير صالح، ما نهى الله عنه ورسوله ففعله معصية لله والرسول، هذا الفعل يخبث النفس ويدسيها ويعفنها، ما تصبح أهلاً لأن يقبلها الله عز وجل.

وقد علمنا الله هذا في كتابه لو كنا ندرس القرآن الكريم، أما جاء في سورة الأعراف قول الله عز وجل: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا )[الأعراف:40]، ما لهم؟ أخبرنا يا رب عنهم؟ ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ )[الأعراف:40-41]، الذين كذبوا بآيات الله ما عملوا بها، لو آمنوا لعملوا، ولكن استكبروا عنها، والمستكبر هل يعبد الله؟ هل يغتسل من جنابة ويصوم ويصلي؟ لا. لأنه مستكبر، هؤلاء المكذبون المستكبرون ماذا يقول تعالى عنهم؟ ( لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ )[الأعراف:40]، حين يأخذ ملك الموت وأعوانه الروح ويستلونها من الجسم يعرجون بها، وحين يصلون إلى السماء الدنيا فيستأذنون للدخول بها فوالله لا يؤذن لهم: ( لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ )[الأعراف:40]، ثانياً: ( وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ )[الأعراف:40]، إلا على مستحيل، هذا من باب أن يفهم البشر كلام الله، هل تعرفون المستحيل؟ إنه الذي لا يمكن أن يتم بحال، المستحيل: هو الذي لا يقبل العقل وجوده.

إذاً: حتى نعرف ببساطة نقول: هل البعير الأورق -الجمل الكبير- يدخل في عين إبرة؟ مستحيل. إذاً: فصاحب الروح الخبيثة المنتنة المتعفنة بأوضار الشرك والذنوب والمعاصي مستحيل أن تفتح له أبواب السماء أو يدخل الجنة.
فاسمع قول الله تعالى: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ )[النساء:69] من عربي أو عجمي، أبيض أو أسود أو أصفر، من ذكر أو أنثى، ( فَأُوْلَئِكَ )[النساء:69]، أي: المطيعون، ( مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ )[النساء:69]، كم موكباً؟ أربعة مواكب، وكل من يطيع الله والرسول فهو معهم، ومن لم يطع الله والرسول فوالله ما كان ولن يكون معهم، لماذا يا فقهاء.. يا بصراء.. يا أهل لا إله إلا الله، لماذا؟

الجواب: لأن طاعة الله وطاعة الرسول تزكي النفس وتطهرها، ومعصية الله والرسول تخبث النفس وتدسيها، أمر واضح وضوح الشمس في النهار، وقد أقسم الجبار قسماً عظيماً عرفناه وكررناه، وهو قوله: ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا )[الشمس:1]، هذه الصيغة صيغة يمين أم لا؟ كأنك تقول: والله الذي لا إله غيره. يقول تعالى: ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا )[الشمس:1-8]، هذه الأيمان من أجل ماذا؟ من أجل ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10].

يحلف الله بأعظم الأيمان والأقسام على هذه الحقيقة، وهي: ( قَدْ أَفْلَحَ )[الشمس:9]، أي: فاز، نجا من النار ودخل الجنة عبد أو أمة زكى نفسه، وخاب وخسر خسراناً أبدياً عبد أو أمة أخبث نفسه ودساها، رمى فوقها قاذورات الذنوب والآثام.

يتبع

ابوالوليد المسلم
26-06-2021, 04:49 AM
البرنيطة ورؤيا الشيخ رسول الله في المنام

إذاً: معاشر المؤمنين والمؤمنات! الله يأمر رسوله أن ينادي أهل الكتاب؛ لأنه رسول الله إليهم، وإلى الإنس والجن عامة، يقول لهم: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ )[النساء:171]. فيا شيطان.. يا صاحب البرنيطة! اذهب عنا وانزعها من رأسك، أرأيتم كيف يصنع العدو بكم؟ أسألكم بالله: أيجوز هذا لأولادنا؟
أقص عليكم رؤيا صادقة، منذ ثلاث وأربعين سنة لما أسقط عرش فاروق مصر، وحكم نجيب وعبد الناصر ؛ فماذا فعل الجهل فينا لما صرخ نجيب بالعروبة؟
يوجد خياط في باب المجيدي يخيط بدلة صغيرة تسمى بدلة نجيب، والبدلة هي السروال والقميص والبرنيطة.
وكنا قبلها في ديار المغرب، علماؤنا كعوامنا ما يضع برنيطة على رأسه إلا كافر فقط، وكانت الحكومة كافرة، ففرنسا كانت تحكم شمال إفريقيا، فالبوليس المسلم يعمل طربوشاً أحمر وهو بوليس، والبوليس الكافر يعمل برنيطة، حتى في الجيش الفرنسي المسلم يعمل طربوشاً والكافر يعمل برنيطة؛ إذ هي الحد الفاصل بين الكفر والإيمان، فلما جئت مهاجراً من هناك دخلنا المدينة في صفر أو في محرم، وجاء رمضان، فرجالات المدينة وأعيانها يأتون بأطفالهم يوم العيد لزيارة الحبيب صلى الله عليه وسلم، يأتي أحدهم وهو بعمامته وطفله كهذا الشيطان يلبس البرنيطة والبدلة، يسمونها بدلة نجيب.
البرنيطة كما هي كأنها كابيتان فرنسي أو يطنان، وتألمت وتمزق قلبي: كيف هذا؟ يتحدون رسول الله، يأتون بأطفالهم هكذا يتبجحون؟ ما عرفوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال قاعدة لن تخرق أبداً: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، ليستقل المسلم استقلالاً كاملاً، حتى لا يختلط بأهل الكفر في الزي والمنطق والحال، ( من تشبه بقوم فهو منهم )، لو اجتمع علماء الطبيعة والكون والنفس والسياسة فبالله الذي لا إله غيره ما استطاعوا ولن يستطيعوا أن ينقضوا هذه القاعدة المحمدية: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، يعني: من أراد أن يكون مثل فلان في زيه، في منطقه، في أكله، في مشيته والله لا يبرح حتى يكون مثله، فمن القائل؟ أستاذ الحكمة ومعلمها، أما قال تعالى: ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[البقرة:129]، فكان المسلمون مستعمرين ويحافظون على إسلامهم بالزي، ما يلبس كما يلبس اليهودي أو النصراني؛ ليبقى مستقلاً بدينه.

وتألم الشيخ وتحرق، ويومها كان شاباً، وبدأنا بالتدريس والحمد لله، رحم الله الملك سعود وتغمده برحمته، قدمنا له معروضاً فقال: باسم الله درس، وإذا بي في رؤيا منامية واحفظوها: رأيتني أمام باب السلام هذا الموجود، ولكن كان بين الباب وبيني حفرة واسعة وعميقة، وفي وسطها جنازتان، نعشان مسجان، وأنا واقف، وإذا بإحدى الجنازتين تجلس على النعش، ألا وهو أحمد الزهراني حبيبنا من شرطة المسجد، يجلس بعمامته الخضراء على رأسه، فقلت: سبحان الله! إذا كان الشرطي حياً فالرسول من باب أولى، ففهمت أن النعش الآخر للرسول صلى الله عليه وسلم، فجأة وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم واقفاً وتلك الحفرة قد انتهت، وأنا أقول: يا رسول الله! استغفر لي.. يا رسول الله! استغفر لي، والله إني لفي رعشة وعجب في ذلك الموقف، فنظر إلي بوجهه النوراني وقال: أرجو، فما تبينت هل هذا فعل مضارع أو فعل أمر؟ إذا كان أمراً يقول لي: ارج، أي: أنا أرجو أن يستغفر لي، وإذا كان الفعل مضارعاً فهو صلى الله عليه وسلم يقول: أنا أرجو أن نستغفر لك.
وفجأة وإذا كرسي حجري طويل أبيض إلى جنب باب السلام والرسول صلى الله عليه وسلم جالس عليه كالبدر، وأنا واقف مندهش، وإذا بطفل من هؤلاء يقف بيني وبينه ببدلة نجيب وبرنيطة نجيب، فوالله الذي لا إله غيره لقال بيده هكذا: أبمثل هذا يبتغون العزة؟ والاستفهام للإنكار والتعجب، ومن ثم فالعرب في مهانة وذل، واليهود يذلونهم في كل معركة؛ لأن عبد الناصر ونجيباً فرضا على العرب أن يوحدوا جيوشهم بالبرنيطة، ومن ثم هل أعزنا الله؟ هل انتصرنا على اليهود؟ فكم من معركة نخرج منها مهزومين، وهذه عبرة أم لا؟ والحمد لله، فترك أهل المدينة تلك البرنيطة لأولادهم، ما إن سمعوا الرؤية وتكررت كذا يوماً أو شهراً حتى انتهت، وفجأة الآن وجدناها تظهر من جديد، من هم الشياطين؟ الذين يوردونها من التجار ويبيعون لأطفال المسلمين، هم لا يعدون هذا شيئاً أبداً، ولكن أهل البصيرة يعرفون أنهم يريدون أن ينزلوا بنا من علياء السماء إلى هذه الأرض الهابطة شيئاً فشيئاً حتى يصبح نساؤنا كنسائهم، ورجالنا كرجالهم، وحكامنا كحكامهم، وجيوشنا كجيوشهم، إذاً: ماذا بقي للإسلام؟ انتهينا، فزغردي يا إسرائيل فقد انتصرتِ. فهل تذوقتم هذا؟ هل حفظتم القاعدة المحمدية: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، أحب أم كره، يوماً فيوماً وهو يتشبه حتى يصبح على مستواهم العقلي والذوقي في الحياة كلها، فلا إله إلا الله، محمد رسول الله، متى نفيق من صحوتنا؟ متى نرجع إلى طريقنا؟ كبلونا، قيدونا، أبعدونا، هل تقوم لنا الحجة يوم القيامة على الله؟ إذا قلنا: يا رب! هم فعلوا بنا هذا؟ فهل سيقول: لا بأس فأنتم ظُلِمتم، أنتم مقهورون، ادخلوا الجنة؟ والله ما كان، الذي يعذر هو المضطهد المعذب بالحديد والنار على أن يقول كلمة الكفر، أو على أن يسلك سبيل الشياطين بالحديد والنار، هذا معذور، قال تعالى: ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ )[النحل:106]، أما نحن فنجري وراء الغرب، وراء شهواتهم ولذائذهم، ونتفنن بفنونهم في الملبس والمأكل والمشرب والمنكح والمنطق والذوق والعمل ثم نقول: نحن مقهورون! أيقبل هذا الكلام؟

من قهرنا؟ من أذلنا؟ قلت لكم: فرنسا كانت حاكمة وبريطانيا، وما استطاعت أن تجبرنا على النصرانية أو على اليهودية حتى في الزي، فهيا نخرج من هذه المحنة، باسم الله، وقد يقال: لا نستطيع؟ لم؟ هل هناك أغلال في أرجلنا وأعناقنا؟ لا والله أبداً، بل حرية كاملة، اعبد الله في العالم بأسره، ما هناك من يطردك أو يبعدك عن عبادة الله، لا في أوروبا ولا أمريكا فضلاً عن عالم الإسلام والمسلمين، فقط سحرونا فاستجبنا.


المخرج من أزمة المسلمين المعاصرة

هيا نبحث عن المخرج، ولندع الجماعة الهائجة الذين يبحثون عن الحاكمية والخلافة، يحلمون، ولو جاء عمر بن الخطاب أيستطيع أن يفعل شيئاً؟ لا يستطيع، حتى يهذبنا ويربينا وحتى يرانا مؤمنين موقنين مستقيمين، ذكرنا لله، وقلوبنا مع الله، حينئذٍ إذا أمر يطاع، فالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، فهل أمر بأن تقام دولة الإسلام أو يقام حد في مكة؟ هل أذن لأصحابه أن يغتالوا كافراً؟ والله ما أذن. هل أذن لأصحابه أن يلعنوا ويسبوا الكفار والمشركين؟ ما أذن في هذا، واقرءوا سورة الأنعام: ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ )[الأنعام:108]، في مكة ما أذن الله ولا رسوله لمؤمن من أولئك المؤمنين وهم يعذبون ويضطهدون أن يغتالوا أو يقتلوا أو يسبوا أو يشتموا ثلاث عشرة سنة، ولما نزل المدينة النبوية هل أمرهم أن يغتالوا واحداً أو يقتلوا مشركاً أو كافراً أو منافقاً؟ حتى وجدت الأمة وأصبحت قادرة على أن تقاوم الكفر والكافرين، فنزل قول الله تعالى: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ )[الحج:39-40].إذاً: الذين يطالبون بالجهاد والخلافة والله إنهم لمخطئون، بالله الذي لا إله إلا الله غيره! إنهم لواهمون، والله! إنهم ليعيشون في متاهات، وقد ذقنا المرارة وآلام من هذه الصيحة في عدة بلاد حتى هبطنا.
الطريق: هو أن نؤمن إيماناً حقاً، وأن نجتمع في بيوت ربنا، نبكي بين يدي مولانا، لا نسب ولا نشتم ولا نعير ولا نقبح ولا نكفر ولا نسخر ولا نستهزئ بكافر ولا بمؤمن، ولكن نجتمع في بيوت ربنا نستمطر رحماته نتعلم الكتاب والحكمة، نساءً ورجالاً وأطفالاً، فإذا أهل البلد أو الإقليم عرفوا الله عز وجل معرفة يقينية وأعطوه قلوبهم ووجوههم واستقاموا على منهجه الحق عقيدة وسلوكاً؛ فحينئذٍ طابوا وطهروا، والله لو رفعوا أكفهم وسألوا الله أن يزيل الجبال لأزالها، لو قالوا: الله أكبر ودخلوا فلسطين لشرد اليهود وهربوا ولو بغير سلاح، أما ونحن كل يوم نزداد هبوطاً، العقائد تذوب وتتحلل، الأخلاق تذوب، الأطماع تزداد، الشره والطمع والتكالب على الدنيا وشهواتها، فكيف نعالج، كيف نعود؟
من أين نبدأ؟ نبدأ بما بدأ الله به ورسوله: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ )[النور:36-37]، من هنا نبدأ، أهل القرية يوسعون جامعهم حتى يتسع لأفرادهم نساءً ورجالاً وأطفالاً، أهل الحي في المدن، كل مدينة فيها أحياء، أهل الحي يوسعون جامعهم حتى يتسع لأفرادهم نساءً ورجالاً وأطفالاً، وإذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف دولاب العمل، وتطهر النساء والرجال وجاءوا إلى بيت ربهم يبكون بين يديه، يصلون المغرب هكذا كما صلينا، والنساء وراء ستارة والفحول أمامهن والمعلم يجلس لهم كمجلسنا هذا، والتعليم: قال الله وقال رسوله، لا مذهبية ولا طائفية ولا حزبية ولا وطنية، مسلمون أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، نور الله بين أيدهم وبرهانه فيهم، هذا رسول الله، وهذا كتاب الله، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا )[النساء:174-175].

سنة واحدة في القرية أو في الحي وأهله يجتمعون يتعلمون فما تبقى فوارق ولا نزعات أبداً، لا تقل: أنا مالكي ولا شافعي ولا حنبلي ولا إباضي ولا زيدي ولا إثني عشري، بل مسلم تدرس كتاب الله، قال الله جل جلاله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا )[آل عمران:102-103].

ولا تسألني عن نتائج هذا الاجتماع على الكتاب والسنة، والله ما يبقى مظهر من الفقر المدقع ولا الظلم ولا العبث ولا الجهل ولا الشرك ولا الخرافة ولا الضلالة، وتصبح تلك القرية كأنهم أسرة واحدة يعيشون كأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما هناك من يفتح عينيه ظلماً أو يقول كلمة سوء أو يمد يديه اعتداء على إخوانه، والله ما كان ولن يكون، ثم ماذا يظهر؟ تتجلى حقائق الرحمة الإلهية في عباده، وفي يوم من الأيام نقول: الله أكبر فتسقط الدنيا أمامنا، وغير هذا الطريق والله لا طريق، وكل يوم نزداد هبوطاً، فهيا نرجع إلى الله يا عباد الله.
أسألكم بالله: أي بلد إسلامي منع أهله أن يجتمعوا في بيت الله يدرسون كتاب الله وسنة رسوله؟ نعم وجد الآن في بعض البلاد، لكن بعد أن أوقدنا نار الفتنة وأججناها وأشعلناها فينا، لا بد أن نصلح أولاً، أن نعلن عن خطئنا وزلاتنا ونتوب إلى ربنا في صدق، ويومها يفتح الله أبواب السماء، أما هكذا فسنزداد كل يوم هبوطاً، وفساداً في العقائد، في الآداب، في الأخلاق، تسيطر الشهوات وأطماعها واللذات والملاهي، فلا إله إلا الله! من ينقذنا؟ ما يبقى إلا أن نقول: النجاة.. النجاة. يا عبد الله! اطلب النجاة لنفسك وإن هلك أهل القرية كلهم، يا عبد الله! اطلب النجاة لنفسك وإن هلك كل من في البلاد، اطلب النجاة لنفسك، قل: أنا مسلم فقط، واسأل كيف تعبد ربك وكيف تتملقه بطاعته وعبادته، على ضوء (قال الله قال رسوله)، وانتظر الموت لتنجو من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة، هذا هو الطريق، هذا سبيل الله، هذا سبيل النجاة، يا علماء! أين أنتم؟ اجمعوا أمتكم على كتاب الله وسنة رسوله، علموهم الآداب والأخلاق السامية، لا سب ولا شتم ولا تعيير ولا تكفير ولا نقد ولا طعن، ليس من شعارنا هذا أبداً، المسلم لا يقول كلمة السوء طول حياته، المسلم لا يمد يده بسوء أبداً لأي أحد كان إنسياً أو جنياً، لو قام العلماء بهذا ونهضوا، وقد قدمنا لهم رسالة بعنوان: (كتاب مفتوح إلى علماء الأمة وحكامها)، يا علماء! زوروا حكامكم وتفاهموا معهم، واجمعوا أمتكم في بيوت الله هذه الساعة والنصف، وباقي الساعات في المزارع والمصانع، اشتغلوا وأنتجوا، زكوا أنفسكم وطيبوا أرواحكم وتهيئوا للملكوت الأعلى دار السلام؛ فإن الله قد أصدر حكمه: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10].

اللهم أعنا على تزكية أنفسنا وتطهير قلوبنا وتطهير أرواحنا، واجمعنا مع مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يا رب العالمين.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
26-06-2021, 04:51 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (30)
الحلقة (340)
تفسير سورة المائدة (36)


قراءة في تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير


الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع هذه الآيات من سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، وشرعنا في دراستنا بالأمس، وها نحن نواصل ذلك اليوم إن شاء الله تعالى، وهيا نستمع إلى تلاوة الآيات المباركات وكلنا يتأمل ويتدبر ويحاول أن يفهم مراد الله من هذه الآيات الكريمة، ثم نأخذ -إن شاء الله- في شرحها كما هي في هذا الكتاب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:77-81].

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ معنى الآيات:

مازال السياق في الحديث عن أهل الكتاب يهوداً ونصارى، فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ )[المائدة:77] يا رسولنا: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )[المائدة:77]، والمراد بهم هنا النصارى: ( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ )[المائدة:77]، أي: لا تتشددوا في غير ما هو حق شرعه الله تعالى لكم، فتبتدعوا البدع وتتغالوا في التمسك بها والدفاع عنها، التشدد محمود في الحق الذي أمر الله به اعتقاداً وقولاً وعملاً، لا في المحدثات الباطلة، ( وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ )[المائدة:77]، وهم اليهود؛ إذ قالوا في عيسى وأمه بأهوائهم، فقالوا في عيسى: ساحر، وقالوا في أمه: بغي. ( وَأَضَلُّوا كَثِيرًا )[المائدة:77] من الناس بأهوائهم المتولدة عن شهواتهم، ( وَضَلُّوا )[المائدة:77]، أي: وهم اليوم ضالون بعيدون عن جادة الحق والعدل في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم، هذا ما تضمنته الآية الأولى ]، وهي قوله تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ )[المائدة:77].

[ أما الآيات بعد فقد أخبر تعالى في الآية الثانية بأن بني إسرائيل لعن منهم الذين كفروا على لسان كل من داود في الزبور، وعلى لسان عيسى ابن مريم في الإنجيل، وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن، فقال تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ )[المائدة:78]، فقد مسخ منهم طائفة قردة، ( وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ )[المائدة:78]، حيث مسخ منهم خنازير، كما لعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في غير آية من القرآن الكريم، وهذا اللعن هو إبعاد من كل خير ورحمة ومن موجبات ذلك في الدنيا والآخرة، سببه ما ذكر تعالى بقوله: ( ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)[المائدة:78]، أي: بسبب عصيانهم لله تعالى ورسله بترك الواجبات وفعل المحرمات، واعتدائهم في الدين بالغلو والابتداع، وبقتل الأنبياء والصالحين منهم.

وأخبر تعالى في الآية الثالثة بذكر نوع عصيانهم واعتدائهم الذي لعنوا بسببه فقال: ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ )[المائدة:79]، أي: كانوا عندما استوجبوا اللعن يفعلون المنكر العظيم ولا ينهى بعضهم بعضاً،كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ) ] أي: يأكل معه ويشرب ويقعد [ ( فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوبهم بعضهم ببعض، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:78] إلى قوله: ( فَاسِقُونَ )[المائدة:81] ) ]، أي: تلا الآية كما هي: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:78-81].

[ ( ثم قال صلى الله عليه وسلم: كلا والله ) ]، معاشر المستمعين والمستمعات! هذه لنا، فتأملوها، اسمعوا رسول الله يحلف، اسمعوا رسول الله يبين، قال: [ ( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقسرنه على الحق قسراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم ) ]، هذه لنا، اسمعوا رسول الله بعدما تلا هذه الآيات الثلاث، قال: ( كلا والله )، هكذا يحلف صلى الله عليه وسلم ( لتأمرن ) أيها المؤمنون المسلمون ( بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقسرنه على الحق قسراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم )، أي: كما لعن اليهود والنصارى؛ إذ ما هناك فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين، الكل عبيد الله، الكل عبيد الرحمن عز وجل، الكل يريد الله منهم أن يعبدوه؛ ليسلموا وينجوا وليسعدوا ويكملوا، فإذا لعن اليهود والنصارى لإتيانهم المنكر واستمرارهم عليه، وعدم رجوعهم عنه؛ فنحن إذا استمررنا على الباطل والمنكر والبدع والضلال ولم نتراجع فهل نسلم من لعنة الله؟ الجواب: لا والله، الكل عبيد الله عز وجل.
ثم قال المؤلف غفر الله له ولكم: [ وفي آخر الآية قبح الله تعالى عملهم ] قبح عمل أهل الكتاب [ فقال: ( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )[المائدة:79]، ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( تَرَى )[المائدة:80] ] بعينيك [ ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ )[المائدة:80]، أي: من اليهود في المدينة، ( يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:80]، يعني: من المشركين أو المنافقين في مكة والمدينة، يصاحبونهم ويوادونهم وينصرونهم وهم يعلمون أنهم كفار تحرم موالاتهم في دينهم وكتابهم ]، اليهود بالمدينة يوالون المشركين، وهم يعلمون أن المشركين كفار ملعونون، يعرفون أن المنافقين نافقوا وأظهروا الإيمان وهم يكرهون الدين ورسول الإسلام والمسلمين، واليهود يوالونهم، فكيف يوالي المؤمن الكافر؟ لو كانوا صادقين في دعوهم الإيمان ما كانوا يوالون الكافرين والمنافقين.

[ ثم قبح تعالى عملهم فقال: ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ )[المائدة:80]، نتيجة ما حملتهم عليه من الشر والكفر والفساد، وهو سخط الله تعالى عليهم وخلودهم في العذاب من موتهم إلى ما لا نهاية له ] في دار القيامة [ فقال تعالى: ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ )[المائدة:80]، لا يخرجون منه أبداً.

ثم زاد تعالى تقرير كفرهم وباطلهم وشرهم وفسادهم فقال: ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )[المائدة:81] كما يجب الإيمان به ( وَالنَّبِيِّ )[المائدة:81] محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من الهدى ودين الحق ( وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ )[المائدة:81] من القرآن والآيات البينات ما اتخذوا الكفار والمشركين والمنافقين أولياء، ولكن علة ذلك أنهم فاسقون إلا قليلاً منهم ] أفراد قلائل فقط، [ والفاسق عن أمر الله الخارج عن طاعته لا يقف في الفساد عند حد أبداً. هذا معنى قوله تعالى: ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:81] ].

يتبع

ابوالوليد المسلم
26-06-2021, 04:51 AM
هداية الآيات

معاشر المستمعين! نضع أيدينا على هداية هذه الآيات، فتأملوا.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:

من هداية الآيات:

أولاً: حرمة الغلو والابتداع في الدين، واتباع أهل الأهواء ]، فمن أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا )[المائدة:77]، ومعنى هذا: أنه يحرم على المسلم أن يبتدع في دين الله، أو أن يغالي فيه، أو يتبع أصحاب الأهواء في دين الله، ومن هنا عرفنا ما حدث في هذه الأمة بعد القرون الذهبية الثلاثة، انتشرت البدع والضلالات والخرافات وتقسمت الأمة وتجزأت؛ بسبب اتباع الأهواء، وتقليد أرباب الأهواء واتباعهم والتعصب لهم، حتى أصبحنا في أسوأ الأحوال، سبب ذلك أننا ما أخذنا بوصايا الحبيب صلى الله عليه وسلم، أما قال: ( عليكم بستني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )، وقد بين لنا الطريق وقد أعلنها واضحة صريحة عندما قال: ( ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة )، ستفترق هذه الأمة كما افترق اليهود إلى اثنتين وسبعين فرقة، وكما افترق النصارى إلى إحدى وسبعين فرقة، والله! لتفترقن هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، ووالله! لقد وقع ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرق وطوائف ومذاهب، وكلها في النار، لم يا رسول الله في النار؟ لأنها ما عبدت الله بما شرع، فالعبادة التي شرعها الله تعالى هي التي تزكي النفس وتطهرها، أما ما ابتدعه المبتدعة فالعمل به لا يزكي النفس ولا يطيبها ولا يطهرها.

فقام رجل من أصحابه في ذلك المجلس المقدس الطاهر وقال: من هي الفرقة الناجية يا رسول الله؟ وهذا السؤال يقع لكل المؤمن، فقال صلى الله عليه وسلم -واحفظوا واعملوا وطبقوا واطلبوا النجاة لأنفسكم- قال: ( هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )، فيجب أن تكون عقيدتنا عقيدة رسول لله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا نختلف معهم أبداً فيها، يجب أن تكون عباداتنا كما كان رسول الله يعبد الله بها وأصحابه، لا زيادة ولا نقصان ولا تقديم ولا تأخير، يجب أن تكون آدابنا وأخلاقنا كما كان عليه رسول الله وأصحابه، هذا سبيل النجاة، هذا يتوقف على المعرفة، يجب أن نعرف كيف كان يعتقد رسول الله وأصحابه في الله وفي لقائه وفي الإيمان، وما أمر الله بالإيمان به، يجب أن نعرف كيف كان رسول الله يتوضأ ويغتسل ويصلي ويحج ويعتمر، ونفعل كما كان يفعل، يجب أن نعرف كيف كان الرسول يتعامل مع الناس، فنتعامل كما كان يتعامل مع الناس، في آدابنا، في أخلاقنا، في معاملاتنا، هذا -والله- طريق النجاة، العلم أولاً، كيف كان الرسول يعتقد في الله ولقائه والدار الآخرة والملائكة والأنبياء والرسل السابقين، نعتقد كما كان يعتقد، كيف كان الرسول يعبد الله من التيمم إلى الاغتسال، إلى الرباط، إلى الجهاد، إلى القضاء، إلى الحكم، فنقضي ونحكم ونعمل كما كان الرسول صلى الله وسلم يقضي ويعمل، وليس هذا بالمستحيل ولا بالصعب أبداً، كل ما في الأمر أن نهيئ أنفسنا لأن نعبد الله عبادة تزكي أنفسنا وتؤهلنا لرضا الله والسكن في دار السلام مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فلا عنصرية ولا مذهبية ولا طريقة ولا حزب، إنما نحن مسلمون عباد الله، نعبد الله بما شرع، والحمد لله فقد حفظ الله لنا هذا الدين، حفظه بحفظه الخاص، وإلا لكان منذ مائة سنة فقط قد اختلط وما أصبح فيه ما يعبد به الله، لكن الله تعالى قال: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )[الحجر:9]، فحفظ لنا كلامه آية بعد آية في ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية، وحفظ لنا سنة رسول الله وإن داخلها الزيادة والنقص والتبديل، ولكن هيأ الله لها في كل عصر من يصونها ويحفظها كما هي؛ لتقوم الحجة لله على الناس، وإلا لكان على الله أن يجدد الرسالة ويبعث برسول.

معاشر المستمعين! في الآية الأولى: حرمة الغلو، والغلو: الزيادة، فلا تزد كلمة في دين الله، ما شأنك أن تزيد أنت وتنقص؟ لقد أنزل الله كتابه وبينه رسوله، الصلاة كما صلى الرسول، لو زدت سجدة في صلاة الصبح أو ركعة في صلاة المغرب بطلت صلاتك بالإجماع، ما هو شأنك أن تزيد، لو حاولت أن تنقص تكبيرة واحدة، فقلت: ما هناك حاجة إلى هذه التكبيرة في هذه الصلاة فصلاتك باطلة، ما معنى: باطلة؟ ما تزكي النفس، لماذا الآن نحن نسأل كيف نحج وكيف نعتمر؟ لعلمنا اليقيني أن هذه العبادة إذا لم نفعلها كما بينها الرسول فلن تؤثر على نفوسنا، أي: ما تزكي أرواحنا ولا تطيبها، وعلة العبادة تزكية النفس وتطهيرها، وطلبنا تزكية نفوسنا لعلمنا بحكم الله علينا، ألا وهو: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، فمن أراد الفلاح -وهو الفوز بالجنة بعد النجاة من النار- فليزك نفسه، أي: فليطيبها وليطهرها، وما هي مواد التطهير؟ الإيمان الصحيح كإيمان الرسول وأصحابه، والعمل الصالح الذي شرعه الله تعالى، وهو هذه العبادات من الصلاة إلى الصدقات وغيرها.

[ ثانياً: العصيان والاعتداء ينتجان لصاحبهما الحرمان والخسران ]، العصيان، أي: عصيان الله ورسوله بعدم فعل ما يأمران به وعدم ترك ما ينهيان عنه، هذا هو العصيان، والاعتداء: هو الظلم وتجاوز الحد، هذان ينتجان لصاحبهما الحرمان من رضا الله وجواره والخسران بالخلود في النار.
فمن أين عرفنا هذا؟ أما قال تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ )[المائدة:78]، بسبب ماذا؟ ( بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ )[المائدة:78]، عصوا رسل الله، عصوا الله ما عبدوه بما شرع لهم، ( وَكَانُوا يَعْتَدُونَ )[المائدة:78] بالظلم والطغيان والشر والفساد.

[ ثالثاً: حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع ]، حرمة السكوت عن المنكر حين نراه ونسمعه ونسكت، ووخامة عاقبته على المجتمع بكامله، قال تعالى: ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )[المائدة:79]، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه: كان الرجل منهم يرى أخاه على معصية، فينهاه: اتق الله واترك هذه، ومن الغد يراه يفعلها ويكون مؤاكله ومجالسه وقاعداً معه، فمن ثم ضرب الله قلوب بعضهم بعض ولعنهم.

وهذا بإجماع الأمة، فمن رأى منكراً يجب أن يغيره بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه: يا عبد الله! لا تفعل، فإن لم يستطع بلسانه حيث خاف أن يؤذى في نفسه أو ماله أو أهله فليغيره بقلبه، أما أن نسكت عن المنكر ونرضى به فسوف يعمنا العقاب.
وضربنا لذلك مثلاً: قرية أو حي من الأحياء يخرجون القمامة ويرمونها عند الباب، هذا يرمي وهذا يرمي وليس هناك من يقول: لا تفعل، وليس هناك من يبعد هذه الأوساخ والقاذورات، يوماً بعد يوم وأسبوعاً بعد أسبوع تتحول تلك إلى بعوض وذباب وحشرات، ثم تتحول إلى أوبئة ويهلك أهل القرية كلهم، بسبب ماذا؟ لما رمى الرجل أو المرأة الوسخ عند الباب ما قال له أخوه: يا أخي! لا تفعل هذا، فهذا سبب مرضنا. لكن لما سكت وسكت الثاني والثالث وأصبحوا يرمون القمامة في الشوارع امتلأت الحارة أو الحي بالأوساخ والقاذورات وعمهم المرض، هذه هي الحقيقة، ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )[المائدة:79].

إذاً: حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع، فالقرية دخلها رجل جاء بمعصية وأعلنها، فأهل القرية عليهم أن يقولوا: يا فلان! ما ينبغي هذا، لا تبع هذا الباطل في بلدنا، لا تفعل هذا. يقول ذلك الأول والثاني والثالث، فيستحي ويخرج أو يترك هذا، أما أن يشاهدوه ويسكتوا ويفعله الكبير والصغير والذكر والأنثى فإنه تعم الفتنة.
[ رابعاً: حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد ]، الموالاة: هي المحبة والتعاون، حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد، فلا نحبهم ولا نمد أيدينا لعونهم ومعاونتهم، وبذلك نسلم، أما أن نوالي أهل الشر والكفر والفساد بحبنا لهم وتعاوننا معهم؛ فهذا -والله- هو الحالقة، هذا هو الدمار، دل هذا على قوله تعالى في الآية الكريمة: ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ )[المائدة:80].

حرمة موالاة أهل الكفر، ولو كانوا آباءنا وأبناءنا ونساءنا وأولادنا، وحرمة موالاة أهل الشر والفساد بيننا، لا موالاة، أي: لا محبة ولا تعاون معهم، بل يجب هجرانهم وتركهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الحق.
[ خامساً: موالاة أهل الكفر بالمودة والنصرة دون المؤمنين آية الكفر وعلامته في صاحبه ]، موالاة أهل الكفر بم تكون؟ بحبهم ونصرتهم على إخواننا المؤمنين، هذه هي آية الكفر، والله ما آمن، والله ما آمن، والله ما آمن من أحب الكافر ونصره على إخوانه المؤمنين؛ لأن الله قال في بيان المؤمنين والمؤمنات بحق وصدق: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )[التوبة:71]، والمؤمنون بحق وصدق والمؤمنات بحق وصدق من هم؟ ( بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )[التوبة:71]، أي: يتحابون ويتعاونون ويتناصرون، فالذي لا يحب المؤمن -والله- ما هو بالمؤمن، والذي ينصر الكافر على المؤمن -والله- ما هو بمؤمن؛ إذاً لا بد من الموالاة بين المؤمنين والمؤمنات، وهي الحب من بعضهم لبعض، والنصرة من بعضهم لبعض، أما أننا نحب أعداء الله وننصرهم على أولياء الله فأعوذ بالله.. أعوذ بالله! هذا هو الكفر الذي ما بعده كفر، دل على هذا قوله تعالى: ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:81]، والفاسق: الخارج عن طاعة الله ورسوله، هو الذي يتحول إلى أن يحب أعداء الله ويكره أولياء الله، يتحول إلى أن يصبح ينصر الظلمة والمشركين والكافرين على المؤمنين والموحدين والمسلمين.

هذا والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعلى سائر المؤمنين.

عباد الله! آخر ما نقول: ينبغي أن نعرف كيف نعبد الله؛ إذ لا سبيل إلى النجاة إلا بمعرفة كيف نعبده، ثم نعبده بما شرع، وعبادة فيها ضلالة وفيها خرافة، وعقيدة فيها الزيغ والزيادة كل هذا خسران كامل، لا بد من أن نعبد الله بما شرع، وبذلك تطهر أنفسنا وتزكو أرواحنا وندخل دار السلام بقضاء الله وحكمه، إذ قال تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10].

اللهم زك أنفسنا أنت خير من زكاها، وآتها تقواها أنت وليها وموالاها يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
06-07-2021, 05:05 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (31)
الحلقة (341)
تفسير سورة المائدة (37)


تفسير قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات من سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، وشرعنا في دراستنا بالأمس، وها نحن نواصل اليوم إن شاء الله تعالى، فهيا نستمع إلى تلاوة الآيات المباركات وكلنا يتأمل ويتدبر ويحاول أن يفهم مراد الله من هذه الآيات الكريمة، ثم نأخذ -إن شاء الله- في شرحها كما هي في هذا الكتاب.
فهيا نتلوها ونتغنى بتلاوتها مرتين أو ثلاثاً وكلنا يتأمل ويتفكر ويتدبر، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، فإن كان عقيدة اعتقدناها، وإن كان واجباً نهضنا به، وإن كان محرماً تركناه وابتعدنا عنه، وإن كان أدباً تأدبنا به، وإن كان خلقاً تخلقنا به، وإن كان علماً علمناه من أجل أن نستنير به طول حياتنا، فحقق اللهم تعالى ذلك لنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:82-86].

هيا نتأمل: من القائل: ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:82] ؟ الله عز وجل، هذه آيات كتابه القرآن الكريم، الذي أنزله على مصطفاه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: ( لَتَجِدَنَّ )[المائدة:82]، كأنما قال: وعزتنا ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:82]، من هم الذين آمنوا؟ والله! إنهم لنحن، ( لِلَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:82]، أي: بالله رباً وإلهاً، وبالقرآن كتاباً وبمحمد نبياً ورسولاً، الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر، هم المؤمنون.

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً )[المائدة:82]، والعداوة بغض في النفس يحمل صاحبه على أن يبتعد من المؤمنين، ولا يقربهم ولا يأمل لهم خيراً ولا يحب لهم خيراً.

سبب عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا )[المائدة:82]، عرفنا عن اليهود أن الصورة بينت حالهم وفضحت واقعهم، اليهود المعروفون، ( وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا )[المائدة:82]، هم المشركون الكافرون، ولو قيل لك: من يحب المؤمنين؟ فالجواب: والله! لا يحبهم إلا مؤمن، وكل الناس غيرهم عدو لهم، لكن من أشد عداوة لهم؟ اليهود والمشركون، اليهود لأنهم يحلمون بدولتهم أو مملكتهم التي تسود العالم، والذين يقفون حجر عثرة في طريق حلمهم وتحقيقه هم المؤمنون، فلهذا يبغضونهم ويعادونهم أشد العداوة؛ لأنهم في طريقهم ما يستطيعون أبداً أن يحققوا مملكة وجودهم والمؤمنون موجودون في الطريق.والذين أشركوا لأنهم كفرة، فجرة، لا يريدون ديناً ولا استقامة ولا منهجاً ولا عدلاً ولا حقاً ولا توحيداً، يعيشون على الضلال فيكرهون المؤمنين لهذا.
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا )[المائدة:82]، من أخبر بهذا؟ الله جل جلاله، هل يمكن أن يخبر الله بغير الواقع؟ تعالى الله عن ذلك، أليس هو العليم الحكيم؟

إذاً: والله! لأشد الناس عداوة لكم أيها المؤمنون هم اليهود والمشركون، والله الذي لا إله غيره! لأشد الناس عداوة لكم أيها المؤمنون هم اليهود والكفار المشركون.

معنى قوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ...)

ثانياً: قال تعالى: ( وَلَتَجِدَنَّ )[المائدة:82] يا رسولنا ( أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً )[المائدة:82]ومحبة ( لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى )[المائدة:82]، أتباع عيسى ابن مريم عليه السلام، النصارى بحق الذين آمنوا بعيسى وألهوه، من حيث العطف والإحسان والرحمة ورقة القلب، ولكن استولت عليهم اليهودية وحولتهم من نصارى إلى بلاشفة، إلى علمانيين، إلى ملاحدة، لا يؤمنون بالله ولا بعيسى ولا بأمه، يقولون: لا إله والحياة مادة، من هنا ذهبت تلك الرحمة وزال منهم ذلك الإحسان وذلك العطف، وذلك الرفق بالناس حتى بالحيوانات؛ لأن القلوب هي التي كانت تعطف وترحم فقلبوها، حولوها إلى مادة. (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً )[المائدة:82] لنا نحن المؤمنين ( الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى )[المائدة:82]، واسمع التعليل الرباني، يقول عز وجل: ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا )[المائدة:82]، القسيسون: واحدهم قسيس، ويجمع على: قسس وقساوس وقسيسين، والقسيس: هو العالم العابد، العالم بتعاليم المسيح وكلها رحمة، والرهبان: جمع راهب، الذي يرهب الله، وإذا ذكر الله ارتعدت فرائسه وخاف من الله وانقطع إلى عبادته في الأديرة والصوامع، وكانوا قبل أن تلعب بهم اليهودية والماسونية، كان أحدهم ينقطع إلى عبادة الله يبكي على رأس جبل أو على دار أو صومعة، هذا إخبار الله أم لا؟ ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ )[المائدة:82] أيضاً، يتنافى الكبر والعتو والعلو مع من يرهب الله ويخافه ويعبده.
تفسير قوله تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ...)
ثم قال تعالى: ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ )[المائدة:83] محمد صلى الله عليه وسلم، ( تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ )[المائدة:83]، من أجل ما عرفوا ( مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )[المائدة:83]، من هم الشاهدون الذين سألوا الله أن يدون أسماءهم معهم؟ والله! إنهم لأنتم أيها المؤمنون، أما شهدتم أن لا إله إلا الله؟ أما شهدتم أن محمداً رسول الله؟ أما شهدتم أنه لا يعبد إلا الله؟ أما شهدتم أنه لا ظلم ولا فسق ولا فجور ولا كذب ولا خيانة؟ أنتم الشاهدون، سألوا الله أن يكتبهم مع الشاهدين.

تفسير قوله تعالى: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ...)

ويقولون: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ )[المائدة:84]، من هم القوم الصالحون؟ نحن الذين أدينا حقوق ربنا كاملة غير منقوصة وأدينا حقوق عباده، فلا نسلب مؤمناً حقه في هذه الحياة، يقولون: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ )[المائدة:84]، أي شيء يمنعنا من الإيمان بالله وما جاءنا من الحق بواسطة كتابه ورسوله، ( وَنَطْمَعُ )[المائدة:84] ونرجو ( أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ )[المائدة:84].

ذكر من نزلت فيهم الآيات الكريمات
من يعنون بالصالحين؟ والله! إنهم ليعنون المؤمنين المسلمين؛ لأن هذه الآيات نزلت في أصحمة النجاشي ملك الحبشة والجماعة التي آمنت معه، لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجموعة من مكة إلى الحبشة حينما لم يطيقوا التعذيب المسلط عليهم من أبي جهل وأضرابه من المشركين والكافرين، قال: اذهبوا إلى الحبشة فإنه يوجد فيها ملك صالح يقال له: أصحمة النجاشي ، وبالفعل مشوا فآواهم واحتضنهم وأطعمهم وسقاهم وأمنهم، ثم لما أشيع أن صلحاً تم بين محمد -صلى الله عليه وسلم- والمشركين جاءوا، فلم يجدوا شيئاً، فعادوا أيضاً، فلما عادوا وهاجر الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مع من هاجر من المؤمنين وكانت وقعت بدر وهزم الله المشركين هزيمة مرة، حيث قتل منهم سبعون صنديداً، وأسر منهم سبعون آخرون، فاجتمع رجال من قريش وقالوا: إذاً: نبعث برسولين من ديارنا إلى أصحمة ونطلب منه أن يعطينا أولئك المهاجرين فنقتلهم ونشفي صدورنا نقمة منهم ومن محمد صلى الله عليه وسلم، فبعثوا رجلين سياسيين: عمرو بن العاص وآخر، وأتوا بهدايا فقدموها للملك أصحمة على أن يعطيهم جعفر ابن عم رسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، فلما وصلوا أنزلهم وهو الكريم رحمه الله، وجمع رجاله وقال: يا جعفر ! اقرأ علينا شيئاً من القرآن، فقرأ سورة مريم، وإذا بعيون القوم تفيض بالدموع والبكاء ويؤمنون، وقص الله تعالى هذا الخبر: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:84-85]، ففيهم نزلت هذه الآيات، بكوا وفاضت أعينهم بالدموع.وعزم أصحمة على أن يأتي إلى رسول الله، وبعث بأولاده، وشاء الله أن تغرق بهم السفينة بالبحر، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بخبر السماء أن أصحمة قد مات، فخرج برجاله إلى هذا المكان وصلى عليه، صلى على النجاشي صلاة الغائب، فرحمة الله عليك أيها النجاشي، وفي السنة السابعة بعد غزوة خيبر جاء جعفر مع رجاله، وكانت فرحة الحبيب صلى الله عليه وسلم.

يتبع

ابوالوليد المسلم
06-07-2021, 05:06 AM
شمول وصف الآيات لكثير من أفراد النصارى
بهذا عرفنا فيمن نزلت هذه الآية، وهي أيضاً عامة، فكم من قسس ورهبان لما وصلتهم دعوة الرحمن على أيدي أصحاب رسول الله وأحفادهم بكوا ودخلوا في الإسلام وانتظموا في سلك المؤمنين، مئات الآلاف، وإلى الآن لولا السياسة المنتنة واللعبة اليهودية لما ترددوا في قبول دعوة الله لو عرضت عليهم كما هي، فاليهود هم الذين فعلوا ما فعلوا، وما زالوا يعملون على تحقيق أملهم في إيجاد مملكة بني إسرائيل التي تحكم الناس من الشرق إلى الغرب، ولكن عندنا تعاليم وأخبار نبوية صادقة، واسمعوها بالحرف الواحد: ( لتقاتلن اليهود ثم لتسلطن عليهم ) أي: تقتلونهم ( حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله )، ولا عجب أن تنطق الأشجار والأحجار؛ إذ هي آيات النبوة المحمدية، والزمان قريب، ولا نقول: مع المهدي ولا مع عيسى، والله! ما هي إلا أن نسلم في صدق لله قلوبنا ووجوهنا، في يوم واحد والزمان متقارب والبلاد واحدة، ما هي إلا أن يجتمع المسلمون في روضة محمد صلى الله عليه وسلم ويعلن عن وحدتهم وإقامة دين الله بينهم، ثم يزحفون، فيقتلون اليهود حتى ما يبقوا منهم أحداً إلا من هرب وشرد. واليهود يعرفون هذا أكثر مما يعرفه مدرسكم فضلاً عنكم، فلهذا يعملون على نشر الخبث والظلم والشر والفساد والسحر والباطل وحب الدنيا والشهوات والأطماع؛ حتى لا توجد الفئة المؤمنة التي ينطق لها الشجر والحجر كرامة لها، وليس هذا فقط في بلاد المسلمين، بل في العالم بأسره ما يريدون الطهر ولا الصفاء، ولعلكم تسمعون عن أندية اللواط في أوروبا، من أنشأها؟ والبنوك والربا من أنتجه وأخرجه إلى حيز الوجود؟ وقل ما شئت، لا يريدون الطهر ولا الصفاء؛ لأن الطهر والصفاء ينهي وجودهم، وخاصة بين المسلمين.
فاسمع ما يقول أولئك النصارى: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ )[المائدة:84]، من هم القوم الصالحون؟ الذين أدوا حقوق الله كاملة فعبدوه بما شرع وحده لا شريك له، وأدوا حقوق عباده فلم يظلموا أحداً، لا بإفساد عقيدته ولا بطمس النور من قلبه بتكفيره ولا بسحره، ولا بظلمه بأخذ حقه أو انتهاك حرماته، هؤلاء هم الصالحون، ونحن إن شاء الله منهم، وفي آية الأنبياء قال تعالى: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ )[الأنبياء:105].

تفسير قوله تعالى: (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار ...)

ثم قال تعالى: ( فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا )[المائدة:85]، أي: جزاهم بما قالوا ( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:85]، عجب هذا الكلام! ( وَذَلِكَ )[المائدة:85]، أي: الجنة دار النعيم جزاء من؟ هل جزاء المسيئين المفسدين، أم المحسنين؟ جزاء المحسنين. من هم المحسنون؟ المحسنون -يا أهل الإحسان- هم الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، ففعلت فيهم تلك العبادة فعلها، أحالت نفوسهم وقلوبهم إلى نور وطهر وصفاء، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل وهو يسأله عن الإحسان: ( فأخبرني؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه )، فإن عجزت عن هذه المرتبة فانزل إلى التي تحتها فاعبده وأنت تعلم أن الله يراك، والذي يرزق هذه المراقبة لله ويصبح لا يقول ولا يفعل إلا تحت رقابة الله هل مثل هذا يسيء؟ والله ما يسيء، هذا الذي دائماً مع الله إن قال لا يقول حتى يعرف هل الله أذن له أو لم يأذن في القول، لا يأكل ولا يشرب ولا يعطي ولا يأخذ إلا تحت رقابة الله إن أذن الله في العطاء أعطى، وإن لم يؤذن له ما أعطى، إن أذن له في الكلام تكلم وإن لم يأذن سكت، هذا هو الإحسان وهو ثلث ملة الإسلام، الإسلام مركب من الإيمان والإسلام والإحسان، الدين الإسلامي مركب أو مكون من ثلاثة:

أولاً: الإيمان.

ثانياً: الإسلام، أي: إسلام القلب والوجه لله.

ثالثاً: الإحسان.
وقد قال جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم: ( أخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره )، يقيناً كاملاً جازماً، وقبل ذلك سأله عن الإسلام فقال: ( الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً )، وبعد ذلك سأله عن الإحسان فقال: ( أخبرني عن الإحسان؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه )، الذي يعبد الله في الصلاة، في الوضوء، في الجهاد، في الكلام، في كل العبادات كأنه يرى الله هل يمكن أن يخطئ، أو يزيد وينقص أو يقدم أو يؤخر؟ الجواب: لا، فإن عجز عن هذه المرتبة السامية فهو يعبد الله وهو يعلم أن الله يراه، فكذلك لا يمكن أن يسيء في عبادته.
عرف هذا إخواننا القسس والرهبان المؤمنون فقالوا: ( وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:84-85]، اللهم اجعلنا منهم.
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم)

ثم قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:86] أولاً، ( وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا )[المائدة:86] الحاوية لشرائعنا وهداياتنا وتعاليمنا فلم يعملوا بها، ( أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:86]، الجحيم: النار الملتهبة المتقدة، التي لا يقدر اتقادها، مأخوذة من: جحمت في النار إذا اشتعلت واشتد اشتعالها، ( أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:86] في العالم السفلي، نعوذ بالله من النار ومن الجحيم.الآن نسمعكم تلاوة الآيات فتأملوا: ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ([المائدة:82-86] عياذاً بالله.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير




هداية الآيات
هذه الآيات بعد شرحها كما شرحنا نقول: فيها هداياتها، فانظروا كيف نجد الهدايات.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: عظم عداوة اليهود والمشركين للإسلام والمسلمين ] إذ هم المؤمنون.
[ ثانياً: قرب النصارى الصادقين في نصرانيتهم من المسلمين ]، أما الذين تحولوا إلى ماديين وبلاشفة وشيوعيون واستعماريين يريدون المال والسلطة؛ فهؤلاء انتهوا لا إحسان فيهم ولا رحمة في قلوبهم، كما هو الوقع.
[ ثالثاً: فضيلة التواضع، وقبح الكبر ]، لقوله تعالى: ( وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ )[المائدة:82].

[ رابعاً: فضل هذه الأمة وكرامتها على الأمم قبلها ]، لقولهم: ( فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )[المائدة:83]، ومن هم الشاهدون؟ إنهم المؤمنون الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويطيعون الله ورسوله.

[ خامساً: فضل الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه ]، أما قال تعالى من آخر سورة الحديد: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ )[الحديد:28]، (كِفْلَيْنِ) أي: أجرين: أجر بإيمانهم بعيسى وموسى، وأجر بإيمانهم بمحمد وطاعته، ( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الحديد:28]، ففرق بين مسيحي كان يعبد الله بالمسيحية فآمن فله أجران، ومن كان كافراً مشركاً ودخل في الإسلام فله أجر واحد.

[ خامساً: فضل الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه ]، بشرط أن يسلم قلبه ووجهه لله، ويحسن إسلامه فما يبقى لصاً ولا ماجناً.
[ سادساً: بيان مصير الكافرين والمكذبين، وهو خلودهم في نار الجحيم ] أبداً، خلود في نار جهنم.
[ سابعاً: استعمال القرآن أسلوب الترغيب والترهيب بذكره الوعيد بعد الوعد ]، ذكر الوعيد بعد ذلك الوعد العظيم، فقال: ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ([المائدة:86]، وهذا من أجل هداية الخلق، يرغب ويرهب، هذا الذي يريد الخير لك يرغبك في الخير ويخوفك من الشر، أما أن يرغبك في الخير فقط ولا يهددك بالشر فستبقى في شرك.

تذكير بطريق العودة إلى الله تعالى
معاشر المستمعين! يا أبناء الإسلام! أكرر القول: هيا نسلم قلوبنا ووجوهنا قبل أن تفوت الفرصة، وهي تفوت يوماً بعد يوم، ما من يوم إلا ومات فلان وانقطع عمله، هيا نسلم قلوبنا لله فلا تتقلب قلوبنا إلا في طلب الله، ونسلم وجوهنا لله فلا ننظر إلا إلى الله، وهذا يتطلب منا أن نرجع إلى الطريق، فنجتمع في بيوت ربنا في مدننا وقرانا في صدق كاجتماعنا هذا، من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، وبنسائنا وأطفالنا أيضاً نجتمع في صدق نتعلم الكتاب والحكمة، ولنستمع إلى قول الله وهو يمتن علينا: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[الجمعة:2]، دقت الساعة السادسة فوقف العمل، توضأنا وتطهرنا، وحملنا نساءنا وأطفالنا إلى أين؟ هل إلى دور السينما، إلى المراقص والمقاصف كما يفعل الهابطون اللاصقون بالأرض؟ لا، وإنما نحملهم إلى بيوت الرب، وهل للرب من بيوت؟ إي والله إنها المساجد، ونوسعها حتى تتسع لأفرادنا ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً، نصلي المغرب كما صلينا ونجتمع ويكون نساؤنا وراء ستار، والأطفال كالملائكة صفوفاً ننظمهم قبل أن نأخذ في تعلم الكتاب والحكمة، ويجلس لنا عالم رباني لا يقول: قال الشيخ ولا قال إمامنا ولا قال مذهبنا، وإنما قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، يعلم الكتاب القرآن، والسنة، وقد حفظها الله فجمعت في الصحاح والسنن والمسانيد، وليلة آية من كتاب الله نتغنى بها ربع ساعة بنسائنا وأطفالنا ونحفظها، آية فقط، ونصلي بها النوافل فلا ننساها ونعرف مراد الله منها ماذا يريد من هذه الآية، فإن كان عقيدة عقدناها في قلوبنا فلن تحل إلى القبر، وإن كان واجباً عرفناه ومن ثم نعزم على فعله والنهوض به كيفما كانت حياتنا، وإذا كان محرماً مكروهاً لله مبغوضاً له تركناه وتخلينا عنه، إن كان خاتماً في أصبعي رميته كما رماه الصحابي، وإن كانت علبة سجائر دستها عند الباب، ونصدق في إقبالنا على ربنا عز وجل، والليلة الثانية نأخذ حديثاً من أحاديث رسول الله المبينة لكتاب الله، الشارحة والمفسرة لمراد الله من كلامه، وهكذا يوماً آية ويوم حديثاً، ونحن ننمو في صفاء أرواحنا وزكاة أنفسنا وآدابنا وأخلاقنا، والله الذي لا إله غيره! لن تمضي سنة على أهل الحي أو القرية إلا وهم ككوكب في هذه الدنيا، لم يبق خلاف ولا فرقة ولا نزاع ولا شقاق، لم يبق سوء في مظاهر حياتنا، لا خيانة، لا غش، لا كذب، لا خداع، لا زنا، لا فجور، لا ربا؛ لأنها سنة الله، فالطعام يشبع أو لا؟ النار تحرق أو لا؟ الحديد يقطع أو لا؟ فهل الكتاب والحكمة لا يزكيان النفوس؟ مستحيل، وينتهي الفقر والبؤس، ونصبح ككواكب في السماء، ويأتي الناس ويؤمنون بديننا ويدخلون في رحمة ربنا.هل هناك -يا شيخ- حل غير هذا؟ والله لا وجود له، ما هو إلا الكتاب والسنة، نتلقاها بصفاء الروح وصدق النية، وكلنا راغب في أن يسمو ويعلو في الملكوت الأعلى، فهيا نجرب، فالذين يحضرون هذا المجلس هل يوجد بينهم زان، سارق، كاذب، غاش، خادع، لوطي، سباب، شتام؟ لا يوجد، لأنهم تعلموا وعرفوا.

والله تعالى أسأل أن يمدنا بعونه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
06-07-2021, 05:07 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (32)
الحلقة (342)
تفسير سورة المائدة (38)


منهج رسول الله طريق الخلاص من المحن


الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة.
معاشر المستمعين والمستمعات! نحن مع هذه الثلاث آيات:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ * لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:87-89].

معاشر المستمعين! أكثركم حجاج بيت الله الحرام، نحن على نهجنا في هذه الدعوة ندرس أربع ليالٍ كتاب الله عز وجل، وهي ليالي: السبت والأحد والإثنين والثلاثاء، وندرس يوم الأربعاء (عقيدة المؤمن)، ويوم الخميس ندرس السنة النبوية الطاهرة الشريفة من الجامع الصحيح للإمام البخاري ، وندرس السيرة النبوية العطرة يوم الجمعة ليلة السبت، وهذا الذي ندعو إليه إخواننا المؤمنين في ديارهم.
يا معاشر المستمعين! اعلموا -والعلم ينفع- أنه لا سبيل لنجاتنا والخروج من فتننا وما نتعرض له من الإحن والمحن إلا العودة إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا المنهج الرباني الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتهجه ويدعو أمته إليه، وهو أن نجتمع في بيوت ربنا كل ليلة وطول عمرنا وحياتنا نتلقى الكتاب والحكمة، إن محننا قديماً وحديثاً ومستقبلاً هي ثمرة جهل هذه الأمة، وبعدها عن كتاب ربها وهدي نبيها صلى الله عليه وسلم، إن شئت حلفت لكم بالله على أن ما نشكوه من الكذب والخيانة والظلم والخبث والشر والفساد والفتن والله إنه لثمرة الجهل بالله وبمحابه ومساخطه، وبما هيأه لأوليائه وما أعده لأعدائه، الجهل هو سبب هذا الشقاء، سبب هذه الفتن وهذه المحن، والطريق إلى أن نعلم ونتعلم هو أن نجتمع في بيوت ربنا عز وجل، وذلك كل ليلة، لا يوماً في الأسبوع ولا يومين ولا ثلاثة، دقت الساعة السادسة مساءً فنلقي بآلات العمل من أيدينا ونتوضأ ونحمل نساءنا وأطفالنا إلى بيوت الله عز وجل نتعلم كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، والله ما يمضي على المؤمن الصادق في إيمانه الذي يتعلم الكتاب والحكمة سنة واحدة إلا وهو من أفقه الناس وأعلمهم، وأعرفهم بمحاب الله ومساخطه وأقدرهم على فعل المحبوب لله وترك المكروه لله، وهذا هو سبيل النجاة، فها نحن في هذا المسجد طول العام، ومع الأسف الناس في المقاهي والملاهي، وفي المتاجر والملاعب، ويهجرون هذا العلم، ثم نشكو، فماذا نشكو؟ لم يوجد الظلم؟ لم يوجد الخبث؟ لم يوجد الفساد؟ لم يوجد سوء الأخلاق، لم يوجد الهبوط في الآداب؟ كيف نتأدب؟ كيف نكمل؟ كيف نسعد بدون أن نقرأ كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، والله يمتن على هذه الأمة ويقول: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[الجمعة:2].

وهذا إبراهيم عليه السلام مع ولده إسماعيل عليه السلام وهما يبنيان الكعبة يقولان: ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ )[البقرة:129]، واستجاب الله لإبراهيم وإسماعيل، وبعث في ذرية إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم، ونبأه الله وأرسله وأنزل عليه كتابه، وكان يجمع أصحابه ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.

فيخرج من هذا المسجد علماء لم تحلم الدنيا بمثلهم، ربانيون من أهل الصدق والكمال والعلم والمعرفة، والله! ما عرفت الدنيا أفضل من أولئك الأصحاب باستثناء الأنبياء والرسل، كيف كملوا وفازوا، وأصبحوا مضرب المثل في الآداب والأخلاق والعلم والمعرفة والطهر والصفاء، كيف حصلوا على هذا؟ والله! إنه من طريق تعلمهم الكتاب والحكمة.
العلم سبيل تحقيق التقوى
وأقول لكم في علم: أقسم لكم بالله على أن أتقى أهل القرية هو أعلمهم بالله عز وجل وبمحابه ومساخطه، في مدينتك، في حيك، أقسم لك بالله أن أتقاهم لله أعلمهم بالله، ونظير ذلك: أفجرنا في قريتنا أجهلنا بربنا وبمحابه ومساخطه، ولا نستطيع أن ننتسب إلى الإسلام بالاسم فقط ونحن ما نعرف محاب الله ولا مساخطه ولا كيف نتملق إلى الله ونتزلف إليه بما يحب أن نتملقه به من أنواع العبادات والطاعات التي شرعها، فكيف نعالج هذا المرض؟ لا علاج إلا بأن نصدق الله في إيماننا وإسلامنا ونجتمع في بيوت ربنا التي بنيناها بأيدينا أو بنيت لنا، نجتمع فيها، النساء وراءنا والفحول أمامنا والأطفال بين أيدينا، ونتعلم الكتاب والحكمة، ليلة آية من كتاب الله، ندرسها بعد أن نتغنى بها ونحفظها ونفهم مراد الله منها وكلنا عزم على تحقيق مراد الله منها، إن كان عقيدة اعتقدناها، وإن كان أدباً على الفور تأدبنا به، وإن كان خلقاً تخلقنا به، وإن كان واجباً نهضنا به، وإن كان محرماً ابتعدنا عنه وكرهناه وتركناه، ولا نزال نعلم ونعمل ونسمو حتى نصبح كالملائكة في الأرض طهراً وصفاء، وها نحن مع هذه الجماعة المؤمنة في هذه الحلقة، هيهات هيهات أن من لازمها سنة يسرق أو يزني أو يكذب أو يفجر أو يرابي أو يغش أو يخدع أو يخلف وعده وهو قادر على الوفاء، هيهات.. هيهات!
ولكن الذين ما يجلسون في حجور الصالحين ويتعلمون هم الذين تعبث بقلوبهم الشياطين، وتحولهم إلى الكذب والخيانة والفجور والباطل والشر والفساد، فكيف يجيء هذا؟ لأننا ابتعدنا عن فيض الرحمن وأنواره وعن الكتاب والسنة.
هذه ثلاث آيات لو يحفظها مؤمن أو مؤمنة ويفهم مراد الله منها ويعمل بها فسيسمو ويرتفع.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ...)
نداء المؤمنين لكمال حياتهم
يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، يا أهل الحلقة! أجيبوا. قلنا: لبيك اللهم لبيك، ما إن ينادينا حتى نقول له: لبيك اللهم لبيك. ينادينا ربنا بعنوان الإيمان: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، ومن يعرض فقد كفر، من يغلق أذنيه ولا يسمع فقد كفر، أينادينا ذو الجلال والإكرام رب الأرض والسماء وما بينهما، الحي القيوم، خالقنا ورازقنا ثم لا نصغي ولا نستمع ولا نقول: لبيك، ولا نأخذ ما يعطينا ولا نفعل ما يأمرنا به؟ هل أموات نحن أم أحياء؟ الجواب: أهل الإيمان أحياء، الإيمان بمثابة الروح، والله إنه لبمثابة الروح، المؤمن حي يسمع، يعي، يأخذ إذا أعطي، يمتنع إذا منع؛ وذلك لكمال حياته، والكافر ميت، الكافر بالله ولقائه، بالله وكتابه، بالله ورسوله، بالله ووعده ووعيده، والله! إنه ميت، فلا يؤمر ولا ينهى؛ لأنه ميت، والبرهنة على هذه الحقيقة بلغوها: هل أهل الذمة تحت رايتنا في دولتنا الإسلامية نأمرهم بالصيام إذا دخل رمضان؟ هل نقول: يا يهود! صوموا غداً رمضان؟ لا والله. آن أوان الحج فهل نأمر يهودياً أو مسيحياً ليحج؟ لا نأمره. آن وقت الزكاة، فهل نقول: يا معشر اليهود أو النصارى في بلادنا! أخرجوا زكاة أموالكم؟ لا والله أبداً. لم؟ لأنهم أموات، إذا نفخنا فيهم روح الحياة فحييوا بالإيمان فحينئذ مرهم يفعلون، وانههم ينتهون؛ لكمال حياتهم.
فهل عرفتم الآن أن الإيمان بمثابة الروح أم لا؟ ها هو ذا تعالى ينادي المؤمنين ليأمرهم ويفعلون، لينهاهم وينتهون، ليبشرهم فيستبشرون، ليحذرهم فيحذرون، ليعلمهم فيتعلمون؛ وذلك لكمال حياتهم، ويعيش المسلمون في قراهم عشرات السنين ما يسمعون نداء الله ولا يستجيبون، فكيف هذا؟ لأنهم محرومون، أبعدتهم الشياطين عن بيوت الله وعن كتاب الله وهدي رسوله، القرآن في ديار العالم الإسلامي لا يجتمع عليه أهل القرية أو أهل الحي إلا من أجل أن يقرءوه على ميت فقط.
اسمحوا لي أقول لكم: من منكم يقول: يا شيخ! أنا كنت إذا جلست في المسجد أقول لحافظ القرآن: من فضلك تعال اقرأ علي شيئاً من القرآن. أو أجلس في البيت وأقول لمن يحفظ القرآن من الأسرة: من منكم يسمعنا شيئاً من القرآن ؟ أو نعمل في شركة، في مؤسسة، وجاءت ساعة الاستراحة، فمن منكم يقول: نقول لأخينا: أسمعنا شيئاً من كلام ربنا؟ الجواب: لا أحد.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم المنزل عليه القرآن الوحي الإلهي بواسطة جبريل عليه السلام، والله العظيم! لجلس يوماً مع أصحابه فقال لـعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( يا ابن أم عبد -وهذه كنيته- اقرأ علي شيئاً من القرآن، فيعجب عبد الله بن مسعود ويقول: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأ عبد الله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )[النساء:1]، إلى أن انتهى إلى قوله تعالى: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا )[النساء:41]، وإذا برسول الله تذرف عيناه الدموع وهو يقول: حسبك.. حسبك يا عبد الله ).

فهل جلس اثنان وطلب أحدهما أن يقرأ عليه أخوه شيئاً من القرآن؟ فلهذا عمنا الظلام، وسادنا الجهل، وإن طرنا في السماء وغصنا في الماء، وحللنا ذرات الكون، وعرفنا علل الحياة، فهذا كله غير مجدٍ ولا محيٍ، وإنما الذي يجدي ويحيي الإيمان بالله ولقائه، الإيمان بالله ورسوله، الإيمان بالله وكتابه، وآية الإيمان بالله وكتابه: أن نقرأ كتابه ونتعرف على ما يحمله من أنور الإله الهادية إلى السعادة والكمال؛ لنعرف ما يحب الله وما يكره الله.

يتبع

ابوالوليد المسلم
06-07-2021, 05:07 AM
نهي الله عباده عن تحريم الطيبات والعدوان على المحرمات

يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87] يناديكم ليقول لكم: ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، فهل نستجيب أم لا؟ أعوذ بالله.. أعوذ بالله! الجبار القهار وليك ومولاك ينهاك أن تحرم طيباً مما أحل لك فلا تلتفت إليه ولا تقبل كلامه؟! (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87] أولاً، ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، ولا تتجاوزوا الحد المحدود لكم، أنتم عبيده، ما أحله لكم فأحلوه وتناولوه، وما حرمه عليكم فحرموه وابتعدوا عنه واجتنبوه، وإن اعتديتم فإنه لا يحبكم، ومن لا يحب الله هل سيسعد؟ هل سيكمل وينجو؟ والله ما كان، بل يخسر ويحترق ويتحطم؛ لأن الله لا يحب المعتدين، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87]، من هم المعتدون؟ المتجاوزون لما حد لهم، أحل لهم كذا وكذا، فتجاوزوا ذلك إلى ما حرم.
تفسير قوله تعالى: (وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون)
ثم قال لنا: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، لم يرزقك الله بالحرام أبداً، وكونه طيباً أي: غير مستقذر ولا مستخبث، حلال أحله الله، وليس به قذر أو وسخ يؤذيك ويضرك في بدنك.
كيفية تحقيق التقوى
(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88]، كيف نتقيه؟ بماذا؟ بالحصون والأسوار أو بالجيوش الجرارة أو بالدخول في السراديب؟ كيف نتقي الله وبيده كل شيء، وبين يديه كل شيء؟ كيف نتقي الله يا عباد الله؟ لقد أمركم أيها المؤمنون بأن تتقوه، فكيف نتقيه؟ بماذا؟ نحن نتقي الشمس بالمظلة، ونتقي الجوع بالخبز، ونتقي الحر والبرد بالملابس، والله كيف نتقيه؟ بلغنا أن رجلاً بالهند أو بالسند أو بالشرق أو الغرب يعرف بم يتقى الله؛ فوالله لنسافرن إليه أو نبعث برجال منا ليأتونا بخبر منه كيف نتقي الله، بلغنا أن هناك من يعرف بم يتقى الجبار، وأنه يوجد في مكان كذا فيجب أن نرحل إليه، ولا تعجب؛ والله! لقد رحل جابر بن عبد الله من هذه المدينة إلى حمص ببلاد الشام على راحلته مسافة أربعين يوماً ذهاباً وإياباً؛ من أجل خبر واحد، بلغه أن صحابياً بديار الشام بمدينة حمص يقول عن رسول الله كذا وكذا، وسأل أهل المدينة فما عرفوا، فركب راحلته إلى حمص ليعلم هذا منه. ووالله! لقد كان أهل الأندلس يأتون على بواخرهم، تلك البواخر التي الآن لا تركب، يسافرون الشهرين والثلاثة ونصف العام ليجتمعوا هنا على مالك بن أنس وشيخه ربيعة ويتلقون السنة، يحفظونها ويكتبونها وينقلونها إلى أقصى الغرب في ذلك الزمان.
والآن بم نتقي؟ لقد أمرنا الله ربنا بأن نتقيه فقال: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )[المائدة:57] به، بعظمته وجلاله، بسلطانه وقدرته، بما لديه وما عنده، اتقوه، فبم نتقيه؟

معشر المستمعين والمستمعات! هل نحن حقاً راغبون في معرفة ما نتقي به الله؟ والله لو أن رجلاً منا فحلاً فهم ما قلت لقال: والله! يا هذا لن تبرح مكانك حتى تعلمنا بم نتقي الله، أقسم بالله! لو أن شخصاً آمن وكان المؤمن وفهم ما قلت لقال: والله! يا هذا لن تقوم من مقامك حتى تعرفنا بم نتقي الله؟ لا يقوم غير مبال، اللهم إلا إذا كان قد عرف من قبل بم يتقى الله؟
إذاً: يتقى الله بطاعته وطاعة رسوله، وذلك بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله فقط، أتريد أن تتقي عذاب الله وسخطه؟ اتقه بشيء واحد فقط: أطعه وأطع رسوله فيما يأمران به عباد الله وينهيان عنه عباد الله، من أطاع الله ورسوله في الأمر والنهي جعل بينه وبين عذاب الله وقاية، لا يصل إليه عذاب الله أبداً.
فالله تعالى لا يتقى بالجيوش والأسوار والحصون أبداً، لا يتقى إلا بطاعته بفعل ما يأمر به وترك ما ينهى عنه، والرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بأمر الله وينهى بنهي الله.
العلم سبيل التقوى
يبقى سؤال آخر: يا علماء.. يا بصراء.. يا رجال السياسة.. يا علماء المنطق! هل يمكنك يا عبد الله أن تطيع الله فيما أمر به ونهى عنه، وفيما أمر به الرسول ونهى عنه وأنت لا تعرف ما أمر الله به ولا ما نهى عنه؟ مستحيل. فمن هنا عدنا من حيث بدأنا، يجب أن نتعلم، أن نعرف محاب الله ما هي، ومكارهه ما هي من أجل أن نفعل المحبوب ونتخلى عن المكروه.ولعلها رخيصة، فوالله الذي لا إله غيره! لأن تعلم هذه القضية خير لك من مليار دولار، ولأن ترجع إلى أهلك وبيتك فرحاً بها -والله- خير من الدنيا وما فيها؛ لأن المائة دولار قد تحترق بها، وتحملك على الفسق والفجور والظلم والشر والفساد وتخسر خسراناً أبدياً.
إذاً: الحمد لله، عرفنا بم نتقي ربنا، أي: بطاعته وطاعة رسوله فيما يأمران به وينهيان عنه؛ لأن ما يأمر الله به ورسوله يجنب غضب الله وسخطه ونقمه وعذابه، أليس كذلك؟ وترك ما نهى الله ورسوله عنه هو نجاتنا من الأذى والشر والبلاء والسخط في الدنيا والآخرة، فهذا عرفناه، وعرفنا أيضاً كيف نتقي الله وننجو من عذابه بمعرفة ما يحب وما يكره، أما ونحن لا نعرف ما يحب وما يكره، فكيف سنفعل المحبوب ونحن لا نعرفه؟ كيف نتجنب المكروه لله ونحن ما عرفناه؟ ومن هنا كان طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
وكيف نحصل على هذا العلم؟ قال الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم: ( إنما العلم بالتعلم )، في صحيح البخاري ، والله يقول: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فكل من يعلم من رجل أو امرأة يجب عليه أن يسأل أهل العلم حتى يعلم، وليس شرطاً أن تنقطع عن بستانك أو دكانك أو عن عملك حتى تتعلم، كلا، ابق في عملك ثم اسأل: ماذا يحب ربي من الكلام، يقول لك: يحب كذا وكذا، فقل هذا الكلام وتملق به إلى الله، ما الذي يحب ربي من النيات؟ يقول: يحب النيات الصادقة، ماذا يحب ربي من الأعمال؟ يحب كذا وكذا، وأنت تتعلم وتعمل، ولا تزال تتعلم وتعمل حتى تكمل وتبلغ مستوى الكمال البشري.
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ...)

نادنا الرب جل وعلا فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، لبيك اللهم لبيك، ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:87-88]، على شرط: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88]. أذكر لكم سبب نزول هذه الآية، فهذا القرآن ما نزل مرة واحدة أو جملة واحدة، نزل في خلال ثلاث وعشرين سنة، بدأ نزوله بـ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ )[العلق:1] في غار حراء، وانتهى بآية نزلت في هذه المدينة: ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ )[البقرة:281]، ثلاث وعشرون سنة نزل فيها الكتاب المكون من مائة وأربع عشرة سورة، في ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية.

إذاً: هذه الآية سبب نزولها أن ثلاثة نفر: عبد الله بن مسعود وعثمان بن مظعون وثالث اشتاقوا إلى دار السلام إلى الجنة والرضوان، فأتوا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، والذي في الحلقة لا يعجبه الترضي عنها فليعلم أنه كافر ولعنة الله عليه، وليتب إلى الله، وليدخل في الإسلام وإلا فهو كاليهود والنصارى، أو هو مسكين أضلوه وغلطوه وجهلوه، لكن إن سمع الآن فهو من أهل العلم، إذاً: فليتب إلى الله، وليقل: آمنت بالله.. آمنت بالله، رضي الله عن أم المؤمنين عائشة ، لينجو، وإن أصر على الباطل فوالله لن يدخل دار السلام؛ لأن الذين لا يترضون عنها ساخطون عليها غاضبون يلعنونها؛ لأنهم قالوا لهم: إنها فجرت، زنت! وأعوذ بالله! امرأة رسول الله لا يصونها الله لرسوله، لا يحفظها لنبيه وتفجر وتزني حتى تلعن؟! ما تقولون فيمن يرمي رسول الله بالدياثة؟ هل يبقى مؤمناً؟! أعوذ بالله.. أعوذ بالله.. أعوذ بالله! لقد أنزل الله تعالى في هذه الحادثة -حادثة الإفك- سبع عشرة آية من كتابه من سورة النور، ولا نقرؤها ولا نسمع من يقرؤها ونحولها ونؤولها، وتختم الآية: ( وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )[النور:26]، وأنت تقول: عائشة زنت وملعونة ولا تترضى عنها؟! لا إله إلا الله، آمنا بالله!

فعائشة أم المؤمنين، قال تعالى: ( وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ )[الأحزاب:6]، هذه الصديقة حب رسول الله بنت حب رسول الله، بنت أبي بكر الصديق ، دخلوا عليها وسألوها عن صيام الرسول وقيامه، وقالوا فيما بينهم: الرسول غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فأحدهم قال: أنا أصوم الدهر ولا أفطر أبداً. والثاني قال: أنا لا آتي النساء. والآخر قال: أنا أقوم الليل ولا أنام، شوقاً إلى الملكوت الأعلى ودار السلام، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى المسجد من حجرته وخطب الناس وقال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ )، وهذا من كمال آدابه ورحمته، لم يقل: يا فلان وفلان يفضحهم، وإنما قال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ إني والله ولأتقاكم لله وأشدكم له خشية، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، ونزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، يا ابن مظعون ، يا ابن مسعود، يا فلان! ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، تتجاوزوا الحد، ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:87-88]، فعدلوا عما عزموا عليه، أصبحوا يصومون ويفطرون في حدود طاقتهم ويقومون الليل وينامون في حدود طاقتهم، والرهبان في الصوامع، وبعض المتعنترين من المتصوفين يقولون: فلان لا يأكل اللحم أبداً! أتحرم ما أحل الله لك؟ لا تأكل اللحم إذا كان حراماً، لا تسرق ولا تأكل جيفة، أما وقد أحل الله لك اللحم وتدعى في بيوت إخوانك ويقدم لك فتقول: أنا لا آكل اللحم زهداً فيه، وآخر يلبس ثوباً من الصوف يلفه عليه وعنده القطن وعنده المال، فلم تحرم ما أحل الله لك؟ إذاً: فالعدل العدل: ( وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87].
التربية المسجدية ودورها في تحقيق التقوى

معاشر المؤمنين! عرفنا أننا مأمورون بأن نعرف ما يحب الله وما يكره من أجل أن نتقيه بفعل ما أمر وبترك ما نهى، وبذلك نتقي ربنا.ومن فهنا فالطريق -يا عباد الله- هو أن أهل القرية في قريتهم وأهل الحي في مدينتهم إن كانوا صادقين في إيمانهم ودقت الساعة السادسة وقف العمل، واليهود والنصارى في أوروبا وأمريكا واليابان والصين إذا دقت الساعة السادسة يوقفون العمل، رأيناهم بلا عمل، ويحملون أطفالهم ونساءهم إلى دور السينما، إلى المراقص، إلى المقاصف، إلى الملاهي، وهل نحن مثلهم؟ لا، نحن أهل السماء وهم أهل الأرض، نحن الأحياء وهم الأموات، نحن المؤمنون وهم الكافرون، نحن أطهار وهم الأخباث.

إذاً: هم يذهبون إلى دور السينما ونذهب إلى بيوت الرب الطاهرة، أطفالنا أمامنا ونساؤنا وراءنا ونتلقى الكتاب والحكمة كل ليلة وطول العمر، وحينئذٍ هل يبقى في القرية فاجر، ساحر، دجال، كذاب؟ هل يبقى في القرية عار لا يجد ثوباً يكتسي به، أو يبقى في القرية جائع والجوع يمزقه؟ والله ما كان ولن يكون، وهل نحتاج بعد ذلك إلى بوليس وحرس؟ لا نحتاج ذلك، كلنا كالملائكة في الطهر والصفاء لا خيانة ولا غش ولا خداع، وهل يبقى بيننا وثني أو مشرك أو خرافي أو ضال أو علماني تائه في متاهات الإلحاد؟ لا والله، فإن لم نقبل على الله في صدق كما بينت لكم؛ فوالله لا نزال في الإحن والمحن والبلاء والشقاء حتى نلقى الله تعالى، بلغوا والله معكم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
06-07-2021, 05:08 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (33)
الحلقة (343)
تفسير سورة المائدة (39)



مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، ذات الأحكام الشرعية والقوانين الربانية، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، فهيا نتغنى بها، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما فيها، وهذا هو المطلوب منا إزاء كتاب الله، وليس المطلوب منا أن نقرأه على الموتى في بيوت الهلكى أو على قبورهم، والله ما شرع هذا الله ولا رسوله، وإنما شرع الله هذا الكتاب ليتلى في بيوت الله وبيوت المؤمنين، ويتدبر ويفهم مراد الله منه، هذا الكتاب القرآن الكريم يجب أن يجتمع عليه المؤمنون، وأن يتدارسوه، وأن يفهموا مراد الله منه، وبذلك يمكنهم أن يعبدوا الله عبادة تزكي أنفسهم وتؤهلهم لولاية الله عز وجل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ * لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:78-89].

عجب هذا القرآن، عجب والله، وصدق إخوان لنا من الجن لما سمعوه والرسول يصلي الصبح في بطن نخلة عادوا وقالوا: ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا )[الجن:1-2]، فهيا ندارس هذه الآيات الثلاث:

قول ربنا جل ذكره: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، هذا النداء نداء من؟ نداء الله. إذاً: الله موجود، وكيف يوجد كلامه وهو غير موجود؟ لو تجتمع البشرية كلها فهل ستوجد كلاماً بدون متكلم؟

هذا الكلام يحوي العلوم والمعارف والحكم والقوانين والشرائع، إذاً: منزله أعلم العالمين وأحكم الحاكمين، وكيف لا وهو خالق كل شيء ومليكه؟ فالحمد لله أن أصبحنا أهلاً لأن ينادينا رب العالمين، هذه نعمة لا يعرف قدرها أحد من المؤمنين الحاضرين أو الغائبين، ملك الملوك جل جلاله وعظم سلطانه، من بيده الحياة والموت، والإعزاز والإذلال والغنى والفقر، والإيجاد والإعدام يتفضل علينا وينادينا، ومن نحن؟ ونادانا بعنوان الإيمان، ما قال: يا بني آدم، ولا يا بني هاشم، ولا يا بني تميم، نادانا بعنوان الإيمان: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، فلبيك اللهم لبيك.

سر نداء الله تعالى المؤمنين بعنوان الإيمان
والسر في ندائه تعالى لنا بعنوان الإيمان يا نبهاء ويا شرفاء، السر في ذلك: أن المؤمن بحق حي يسمع النداء ويجيب المنادي، ويفعل ما يأمره به وينتهي عما نهاه عنه، وذلك لكمال حياته، فمن هنا علمنا بعلم الله أن المؤمن الحق حي، وليس بميت، والبرهنة أن الله يناديه إما ليأمره بما ينجيه ويسعده، أو ينهاه عما يشقيه ويخسره، أو يناديه ليبشره فتزداد صالحاته، أو لينذره فيتحفظ من الوقوع في السيئات والمهلكات، أو يناديه ليعلمه، وهذا بالاستقراء والتتبع لنداءات الرحمن في كتابه العظيم القرآن الكريم، وقد جمعناها، وهي تسعون نداءً ألا نداء احتوت على الشريعة الإسلامية بكاملها، تسعون نداء، وهي تحوي شريعة الإسلام من العقيدة إلى العبادة إلى الآداب، إلى الأخلاق، إلى الأحكام، في السياسية، في السلم والحرب، في كل الحياة، وأكثر المؤمنين لا يعرفون عنها شيئاً، تسعون نداء، ودرسناها في ثلاثة أشهر، ورغبنا المؤمنين والمؤمنات في الحصول عليها والاجتماع عليها في البيوت والمساجد وأماكن الاستراحة، يجتمعون على نداء يسمعون بآذانهم نداء الله لهم، فيفهمون ما يريد منهم مولاهم ويطيعونه فيكملون ويسعدون.وذكرنا أن هذه النداءات يجب أن تترجم إلى اللغات، وأن يوضع كل كتاب على سرير في فنادق العالم الإسلامي، إذا جاء النزيل قبل أن ينام يفتح ذلك الكتاب فيسمع نداء ربه إليه، فيبيت قرير العين جذلان فرحاً، وما فعلنا، ومن ثم عرفنا أن المؤمن حي، ولذلك يناديه الله عز وجل إما ليأمره بما يكمله ويسعده، أو لينهاه عما يشقيه ويرديه، أو يبشره بما يزيد في أعماله الخيرية الصالحة، أو ينذره ويحذره ليحذر ويتجنب، أو ليعلمه ما هو في حاجة إليه، أما الكافر فهو ميت.
والدليل على موت الكافر: أنه أيام كنا في علياء السماء وتحتنا أهل الكتاب من يهود ومجوس ونصارى يعيشون تحت رايتنا وفي ذمتنا آمنين فهل كنا نأمرهم إذا أهل هلال رمضان بأن يصبحوا صائمين؟ لا والله، هل نعلمهم بأن الزكاة قد وجبت فأخرجوا زكاة أموالكم؟ والله ما نأمرهم، هل نقول لهم: إن الحج آن أوانه والمسلمون يتهيئون فحجوا؟ والله ما نأمرهم، لماذا؟ إنهم أموات غير أحياء وما يشعرون، حين ننفخ فيهم روح الإيمان ويصرخ صاحبها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، هنا قل له: اذهب فاغتسل فيفرح ويسر ويذهب ويغتسل، وتقول: هيا لتركع وتسجد فيصلي راكعاً ساجداً، وأصبح متهيئاً لكل أمر الله ورسوله، وهو قادر على فعله؛ وذلك لكمال حياته، وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى لرسوله: ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ )[النمل:80]، وقال تعالى: ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ )[النحل:21].

وإن قلتم: ها هم يأكلون ويشربون وينكحون؟ قلت: حياة البهائم.

النهي عن تحريم الحلال والعدوان على الحرام
يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، لبيك اللهم لبيك، قال لنا ناهياً: ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87]، ينهانا ربنا عن تحريم ما أحل لنا، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحرم طعاماً أو شراباً أو لباساً أو نكاحاً أباحه الله وأذن فيه، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحرم على نفسه أو على غيره ما أحله الله وأذن فيه وأباحه لعباده من طعام أو شراب أو لباس أو نكاح، لم؟ لأن الخالق المولى المالك قال لعبيده: يا عبيدي! لا تحرموا طيبات ما أحللت لكم، أنا أعلم بما ينفعكم ويضركم، فإذا أذنت لكم في شيء فإنه في صالحكم، والله إنه لنافعكم، وإذا نهيتكم عن شيء فما نهيتكم عنه إلا لأنه ضار بكم مفسد عليكم قلوبكم وحياتكم.(لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87] أولاً، ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87] ثانياً، ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87]، يا من يطلب حب الله ويبذل جهده وطاقته في الحصول عليه! انتبه: إياك أن تعتدي وتتجاوز ما حد لك، فإن هذا الاعتداء لا يحب الله أصحابه وأهله، فلهذا المؤمن لا يعتدي؛ لأن مولاه لا يحب المعتدين، وهو يريد أن يكون من محبوبيه، هذه وحدها تجعل المؤمن العارف لا يعتدي، لا على أخ من إخوانه، بل ولا على يهودي في ذمته، ولا يعتدي على ربه بأن يخالفه، فالله يحل وهو يحرم، أو يحرم وهو يحل، فهو اعتداء، ولا يعتدي على أحد في ماله ولا في عرضه ولا في بدنه ودمه، الاعتداء: مجاوزة الحد، التجاوز للمأذون فيه المباح إلى ما هو ممنوع محرم، فسب المؤمن كشتمه، اعتداء عليه، واللفظ عام: ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، لأن الاعتداء ضار لكم، مفسد لحياتكم وقلوبكم.

وشيء آخر: ما دمتم تطلبون حب الله فاعملوا: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ )[المائدة:87] من عباده ( الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87]، فلا نتجاوز حداً حده الله ورسوله، لم يأذن لنا في كلمة سوء ننطق بها حتى الموت.

الآن لاحت أنوار الآية الأولى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87].

أمر الله عباده بالأكل من الحلال الطيب

الآية الثانية: قال: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، الحمد لله.. الحمد لله، مالك الطعام أذن لنا أن نأكل، والله! لو لم يأذن لنا ما أكلنا، من مالك الطعام والشراب؟ الله لا إله إلا هو، فلهذا إذا أردت أن تأكل خبزاً أو تمراً أول ما تقول: باسم الله، أي: بإذنه هو أكلت أو شربت، لو ما أذن والله ما أكلت ولا شربت، وما إن تفرغ من طعامك وشرابك حتى تقول: الحمد لله الذي أوجد هذا الرزق وأذن لي فيه وأعانني عليه وبارك لي فيه. فالمؤمنون الأحياء البصراء لا يأكلون إلا على اسم الله، ولا ينهون طعاماً ولا شراباً إلا على حمد الله تعالى. (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، فالله لم يجعل رزقنا ما حرم علينا، ولن يجعلنا رزقنا خبيثاً مستقذراً، لا بد أن يكون طيباً، أما النجس المستقذر المستخبث فلا يحل أكله؛ لأن الله ما رزقكه، رزقك الحلال الطيب، أما المستقذر المستخبث من الأطعمة فلا يحل أبداً لهذه الآية الكريمة، ( حَلالًا )[المائدة:88] أولاً، لم يرزقك الله حراماً وحاشاه.

ثانياً: أن يكون طيباً، ( طَيِّبًا )[المائدة:88] أي: لذيذاً غير مستقذر ولا مستخبث.

(وَكُلُوا )[المائدة:88]، هذا أمر إباحة وإذن لنا والحمد لله، ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:88]، فلا رازق إلا هو، ومن جهل فليذكر الماء النازل من السماء من أنزله؟ والنابع من الأرض من أنبعه؟ والتراب كيف تحول إلى بر وشعير وفواكه وخضر؟ هل حولته يد أبي أم أمي؟ هذا رزق الله.

يتبع

ابوالوليد المسلم
06-07-2021, 05:08 AM
الأمر بالتقوى وبيان حقيقتها ووسيلة تحصيلها

(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88]، هذا أمر ثالث: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:88]، من يسأل فيقول: كيف نتقي الله؟ بم يتقى الله وهو الجبار بيده ملكوت السماوات والأرض؟ كيف يتقى؟ بالأسوار العالية؟ لا تنفع. بالحصون القوية؟ بالجيوش الجرارة؟ بالسراديب تحت الأرض؟ بالاحتماء بأصحاب الدولة والسلطان؟ بم يتقى الله عز وجل؟ومعنى تقوى الله: أن يتقى بطشه ونقمته وعذابه وسخطه الذي تعرض له المعتدون.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88] رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه، عرفتموه أن بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء.

وكثيرون يقولون: ما هناك حاجة إلى أن نعرف بما يتقى الله؟ يقول القائل: اتقوا الله فلا يقول واحد: بين لنا كيف نتقي الله؟ لأنهم غير مهتمين ولا حافلين بهذا، أما والله لو عرف أحدهم لقال: والله لا تبارح مكانك حتى تبين لنا كيف نتقي ربنا.
هل يقول ذلك أحد؟ لأننا نعيش في ظلام منذ ألف سنة وزيادة، من علَّمنا؟ وهل طلبنا العلم؟
اسمع واحفظ وبلغ أمك وامرأتك: يتقى الله بطاعته وطاعة رسوله لا بشيء آخر، إن تعلن الحرب عليه وتخرج عن طاعته وعن طاعة رسوله؛ فقد عرضت نفسك للدمار والخراب والخسران الأبدي ولا تجد من يشفع لك أبداً، اتقوا الله، خافوه خوفاً يحملكم على امتثال أمره واجتناب نهيه.
أولاً: اذكر عظمة الله وسلطانه وقدرته على البطش والأخذ فترتعد فرائصك وتخافه، فتقبل على طاعته فتفعل ما أمرك وتترك ما نهاك عنه.
ليس تقواه إلا بطاعته وطاعة رسوله؛ لأن فعل ما يأمر به، وفعل ما يأمر به رسوله يجنبكم المضار والمفاسد والمهالك، ولأن ترك ما أمر الله به ورسوله وفعل ما نهيا عنه يعرض العبد للخسران والدمار وفساد القلب وخبث النفس، ولا شك في هذا؛ لأنه من سنن الله القائمة في الأرض، أسألكم يا عقلاء: هل الطعام يشبع؟ هذه السنة باقية إلى يوم القيامة. هل الماء يروي؟ هل الحديد يقطع؟ هل النار تحرق؟
هذه سنن الله هل تتبدل؟ كلا. فكذلك طاعة الله ورسوله ومعصية الله ورسوله كهذه السنن لا تتخلف آثارها أبداً، من أطاع الله رسوله سما وطهر وصفى وتهيأ للملكوت الأعلى، ومن عصى الله ورسوله وكفر بهما وتمرد على شرعهما تمزق وخسر وهلك هلاكاً أبدياً، سنة لا تتبدل، واسمعوا قوله تعالى: ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا )[فاطر:43].

معاشر المؤمنين! أفرحتموني عندما قلتم: عرفنا بم يتقى الله، بطاعته وطاعة رسوله. فهيا نمشي الآن، فتلك -والله- ما هي إلا خطوة أولى؛ لأني أسألك: تطيع الله والرسول في أي شيء؟ هل عندك علم بأوامره ونواهيه؟ قال: لا، إذاً: كيف تطيعه؟ نعم تهيأت للطاعة، لكن يجب أن تعرف أوامر الله أمراً بعد آخر، وتعرف أوامر رسوله كذلك، حتى تفعل ما أمرا به وتعرف ما نهيا عنه، أي: ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله نهياً بعد نهي، وإن قيل لك: لا يوجد في مدينتنا هذه من يعرف الأوامر والنواهي إلا في جزائر واق الواق؛ فوالله يجب أن تسافر، ولا يحل لك البقاء في المدينة التي لا تجد فيها من يعرفك بأوامر الله ونواهيه إلا إذا أردت الخسران الأبدي.
وجوب تفريغ الأوقات لتحصيل التقوى
قد تقولون: يا شيخ! نحن مشغولون من أجل القوت في مزارعنا ومصانعنا وأسواقنا فكيف نعرف هذا؟ وأقول: هذا السؤال باطل.. باطل.. باطل، يجب أن تفرغ نفسك ساعة في الأربع والعشرين ساعة، كما تسأل عن الدرهم والدينار اسأل عما أذن الله في فعله، أو عما نهى عنه ولم يأذن به، في كل شئون الحياة، وإلا فأنت فاسق عن أمر الله خارج عن طاعته.واسمعوا الله يقول من سورة النحل والأنبياء، آيتان في كتابه تعالى، يقول: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فكل من كان لا يعلم يجب أن يسأل حتى يعلم، وليس يوماً واحداً ولا عشرة، يقرع باب العلماء ويسألهم يومياً: دلوني على ما أمر الله به، أو على ما نهى الله عنه، ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، هل بلغ المسلمين هذا وعرفوه؟ ما عرفوه.

والآن نبكي ونصرخ طول العام في ملتقى العالم الإسلامي في مسجد رسول الله، الوافدون طول العام يفدون من العرب والعجم، ونحن نقول -وكتبنا للحكام والمسئولين والعالم بأسره-: لا طريق إلى نجاتنا وخلاصنا من محننا وفتننا وجهلنا وظلمنا وخبثنا وشرنا وفسادنا إلا طريق واحد، وما استطاع واحد أن يطبق هذا.
فإذا قلنا: كيف؟ نقول: أي مانع أن يطبق هذا المنهج المحمدي؟ والله ما وجدنا مانعاً؛ لأنا نقول: إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل، ورأينا اليهود والنصارى والملاحدة والعلمانيين يحملون أطفالهم ونساءهم إلى دور الرقص ودور السينما والمقاصف والملاهي والملاعب، أسألكم بالله يا من تعرفون أوروبا: أليس هذا نظامها؟
ونحن إذا دقت الساعة السادسة أين نذهب؟ هل نمشي وراءهم ونذهب مذاهبهم وهم كفار ونحن مؤمنون؟ بل نذهب نتوضأ وآمر أولادي وزوجتي وأمي بالوضوء، ونحملهم على السيارة إن بعد بيت الرب عني ونأتي بهم إلى المسجد، مسجد الحي إن كنا في المدينة، ومسجد القرية إن كنا في قرية، حيث لم يبق في الحي رجل ولا امرأة ولا طفل إلا من كان مريضاً أو ممرضاً، الكل حضروا ويصلون المغرب كما نصلي، ويجلسون كما أنتم جالسون، النساء وراء الستارة، والفحول أمام المربي المعلم، وليلة آية من كتاب الله، وليلة حديثاً من أحاديث رسول الله الثابتة الصحيحة، ولا نزال نعلم ونعمل يومياً، فما تمضي سنة إلا وليس في القرية جاهل ولا جاهلة، وليس في الحي من أحياء المؤمنين رجل جاهل ولا امرأة، من أجل هذه الساعة التي يجلسون فيها لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا انتفى الجهل انتفى الخبث انتفى الظلم انتفى الشر، زال الحسد ووجدت أهل القرية كأسرة واحدة، لا تسمع كلمة سوء تقال في فرد من أفرادهم، ولا تجد من يقول السوء بينهم، أو يكيد أو يمكر، وهذا مستحيل مع العلم الرباني.
ما الذي يكلف المسلمين هذا؟ دقت الساعة السادسة ومالت الشمس إلى الغروب فوقف العمل، يا صاحب الدكان! أغلق دكانك، يا صاحب المقهى! أغلق مقهاك، يا صاحب المصنع! يا صاحب العمل! انتهى العمل من صلاة الصبح إلى الآن، هيا بنا إلى بيوت الله، بيوت الرب جل جلاله وعظم سلطانه، نجلس بين يديه نستمطر رحماته ونتلقى بركات السماء ونتعلم العلم الضروري فنعرف محاب الله ونأتيها، ونعرف مكاره الله ونتجنبها ونبتعد عنها، ومن ثم تحققت لنا ولاية الله، وأصبح أهل القرية أولياء الله، لو رفعوا أيديهم إلى الله وسألوه أن يزيل الجبال لأزالها.
مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه

معشر المستمعين! بلغوا .. بلغوا: لا سبيل إلى النجاة إلا هذا السبيل؛ لأنه منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجتمع النساء في هذا المسجد والرجال فيزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ونسبة من يقرأ ويكتب 1%، وأصبحوا علماء ربانيين نساء ورجالاً، لا يوجد -والله- لهم نظير على الأرض، هل فازوا بشهادات علمية؟ فقط أقبلوا على الله فأسلموا قلوبهم ووجوههم له، ومشوا في صراطه المستقيم، ولكن جلس لهم رسول الله، والله يقول في منته عليهم: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[الجمعة:2]، فأيما أهل إقليم أو بلد أو قرية في العالم الإسلامي أرادوا أن يصبحوا كأصحاب رسول الله في الطهر والذكاء والصفاء والربانية فالطريق هو هذا الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم، يجتمعون كل ليلة طول العام، ليلة آية كالتي درسناها الآن أو بعضها، وليلة حديثاً بعدها، تنتهي الفوارق والمذاهب والعناصر، لا يبقى من يقول: أنا شافعي ولا مالكي ولا إباضي ولا زيدي، انتهت الفرق والانقسامات، وهي محرمة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا )[آل عمران:102-103]، من أذن لك أن تقول: أنا مالكي؟ آلله أذن لك بهذا؟ كيف تقول: أنا زيدي أنا إباضي أنا حنبلي؟ قل: أنا مسلم أسلمت قلبي ووجهي لربي، مرني بأمر الله وأمر رسوله أنصاع وأذعن وأعمل، انهني عما نهاني عنه الله ورسوله ننتهي؛ لأني عبده أطلب ولايته وكرامته، فهل يتحقق هذا بدون الاجتماع على كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم؟معاشر المستمعين! هل يبقى في أذهانكم شيء من هذا؟ لم لا تبلغونه عندما تجلسون في بيوتكم أو مع إخوانكم فتقولون: سمعنا في المسجد النبوي كذا وكذا؟
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
06-07-2021, 05:10 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (34)
الحلقة (344)
تفسير سورة المائدة (4)

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم هذا الأمل لنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
وها نحن مع سورة المائدة، ومع هذه الآية المباركة التي تناولناها بالدرس في درس سابق، وما استوفيناها وحق لنا ألا نستوفيها لما تحمله من العلم والحكمة، فهيا نتغنى بها ثلاث مرات، ونحن نتأمل ونتفكر ونتدبر فيما حوته من العلم والمعرفة، ثم نعيد شرحها مرة أخرى بإذن الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:3].
هذه الآية يجب أن يحفظها كل ذي عقل من المؤمنين والمؤمنات، ويصلي بها طول السنة النوافل والفرائض، هذه الآية نزلت ورسولنا صلى الله عليه وسلم في عرفات، ولم يعش بعدها إلا نيفاً وثمانين ليلة وقبضه الله.

اختصاص الله تعالى بالتحريم لعلمه بما يضر العباد وملكه لهم ولسائر ما خلق

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ )[المائدة:3] من المحرم؟ إنه الله تعالى. فهل يحق لكائن سوى الله أن يحرم أو يحلل؟ الجواب: لا، لماذا؟ لأن الله هو مالك كل شيء، فما أذن فيه فهو حلال، وما لم يأذن فيه فهو حرام، وهل يستطيع أحدنا أن يتصرف في مال غيره يأخذ ويعطي ما يشاء؟ مستحيل، فما دام الله جل جلاله هو المالك لكل خلقه، إذاً: فما أذن فيه فهو الحلال وما لم يأذن فيه فهو الحرام، فلا يحل ولا يحرم إلا الله، والرسول الكريم باسم الله وبعلم الله وإذن الله يحرم أو يحلل؛ لأنه المسئول عن البيان والبلاغ، أما غير الله ورسوله فلا

ليس من حق أحد أن يحل شيئاً أو يحرم، وكل ما أحل الله وما حرم موجود في كتاب الله وبيانات رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أولاً.
ثانياً: الله وحده يحلل ويحرم؛ لأنه العليم بمضار ومنافع الأشياء، ونحن قاصروا العلم، فالعليم الخبير هو الذي يحل شيئاً لما فيه من الفائدة والمصلحة والمنفعة، ويحرم آخر لما فيه من الضرر والفساد، أليس كذلك؟ إي والله.
تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير

يقول تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ )[المائدة:3] من هم المخاطبون؟ المؤمنون الذين ناداهم بقوله:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )[المائدة:1] هذا الذي يتلى عليكم:(الْمَيْتَةُ )[المائدة:3] ما مات حتف أنفه بدون تذكية.

(وَالدَّمُ )[المائدة:3] معروف، ليس الذي يختلط مع اللحم والعظم، ولكن الدم الذي يسيل ويؤخذ بالسفح والطريقة الخاصة بأخذ الدم من الحيوان، كانوا يأكلون الدماء: يغلونها فتنتفخ وتيبس ويأكلونها، وفيها من الأمراض ما لا يعلمه إلا الله.

(وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ )[المائدة:3] لحم الخنزير حرام كشحمه كدمه ككله، الخنزير معروف، حيوان أكثر ما يوجد في البلاد الباردة، هذا الحيوان علمنا أن فيه أمراضاً خطيرة عرفها الأطباء الآن وكشفوا عنها، ولكن ما حرمه الله إلا لأن فيه الضرر والخطر على عباده.

وسبب ذلك: أنه يعيش على القاذورات، يأكل الجيف، لو يجد فأراً ميتاً يفرح به، ويأكل الأوساخ، فمن هنا كان لحمه فيه جراثيم قاتلة، حرمه الله لعلمه بما فيه من الضرر.
وهنا لطيفة ما ننساها: أنه ديوث الحيوانات، فالجمل عندنا إذا جاء آخر يريد أن ينازعه في أنثاه قاتله، حتى الكلب، والقط ما يرضى أن تمس أنثاه، وهذا الخنزير يأتي بالآخرين يقول لهم: افجروا بها، فالذين يأكلون لحمه ينتقل إليهم هذا المرض مرض الدياثة، ويصبح الرجل لا يبالي بامرأته تغني أو ترقص أو يصاحبها فلان ويسافر معها حيث شاء والعياذ بالله، وخطره على البلاد الحارة عجيب، فلهذا يأكله من في البلاد الباردة.
تحريم ما ذبح لغير الله تعالى

(وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]، أهل يهل: رفع صوته، ومنه الهلال، أهل بالعمرة: إذا قال: لبيك اللهم عمرة، فالذي ذبح لغير الله وسمي عليه اسم غير اسم الله حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير.

ولا نغفل عما عليه إخواننا أولئك الذين يذبحون لسيدي عبد القادر ، وسيدي البدوي ، وسيدي العيدروس ، وسيدي إبراهيم، وسيدي الحسين ، وسيدتنا فاطمة ، حتى ولو لم يقولوا: باسمك يا فاطمة أو يا حسين ، فالدافع الباطني نية الذبح لذلك المخلوق، بدليل أنه يقول: هذه شاة سيدي عبد القادر ، هذا العجل عجل سيدي البدوي ، وقد رأينا ذلك بأعيننا، وقد رأينا بأعيننا من يغرس حديقة شجر زيتون ويقول: هذه الزيتونة لسيدي فلان، يغرس نخلاً ويقول: هذه النخلة لسيدي فلان، يشتري قطيعاً من الغنم في آخر الشتاء، فإذا كان الربيع يقول: هذه شاة سيدي فلان، ليرعاها ويحميها ويحرسها، فهذا من هذا.
(وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]، فلا حل لمؤمن ولا مؤمنة أن يذبح لغير الله عز وجل، قد يقول قائل: ها نحن نذبح للضيفان؟! فالضيفان أمرنا رسول الله بإكرامهم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه )، لم اشتريت هذه الشاة؟ قال: عندنا ضيوف الليلة، اشتريناها لنطعمهم، فهذا مأذون به وجائز، لكن الممنوع أنك تتقرب إلى ذلك الميت لتحصل على الخيرات والبركات بواسطته، فتعبده كما يعبد الله جل جلاله بذكره والتوسل إليه بالذبح والنذر إلى غير ذلك.

وإن شككتم فإني أحلف لكم بالله: والذي نفسي بيده! ما جاز لمؤمن ولا مؤمنة أن يسمي شاة أو بقرة أو نخلة أو شجرة لغير الله ويقول: هذا لسيدي فلان، ولا تنفعه صلاته ولا صيامه إذا فعل، فقد قال تعالى: ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ )[الزمر:65] يا رسولنا ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[الزمر:65] ما معنى أشركت؟ أشركت غير الله في عبادة الله، جعلت له عبادة كما هي لله.

(وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]،كان المشركون يذبحون لهبل واللات والعزى ومناة والحجارة التي ينصبونها، وجاء الإسلام فحرم الذبح لغير الله حتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما أجاز عالم عرف الأصول أن تقول: هذه شاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتذبح، وإنها لشرك ومحنة كبيرة، أهنت رسول الله وجعلت له الشاة التي يتقرب بها إلى الله!

فالرسول صلى الله عليه وسلم ما هو في حاجة أبداً إلى أن تصوم عنه أو أن تتصدق عنه أو تحج عنه؛ لأن حسنات الأمة كلها له مثلها، ما له إلا أن تحبه وتطيعه وتصلي وتسلم عليه، أما أن تتصدق عليه أو تصوم فقد جعلته كسائر الناس، شككت في درجته المرفوعة ومقامه السامي عند الله.

يتبع

ابوالوليد المسلم
06-07-2021, 05:11 AM
ما يدخل في الميتة من المحرمات
فهذه الأربعة المحرمات وردت في عدة سور: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]، والستة الباقية داخلة فيها؛ في الميتة، فالمنخنقة ميتة، والمنخنقة: التي تدخل رأسها بين شجرتين أو كذا وتختنق، انخنقت فهي منخنقة، أو يربطها صاحبها بحبل في عنقها فتحاول أن تمشي بعيداً وتجذب فتختنق، وإن فرضنا أن رجلاً خنق شاة فهذا غير واقع لأن الله سماها المنخنقة، لو كانت تخنق لقلنا: والمخنوقة، لكن ما هناك من يخنق الشاة، المنخنقة هي التي تختنق بنفسها.

والموقوذة التي ترمى وتوقذ بحجرة أو بعصا أو برصاصة فتسقط ميتة، والمتردية: التي تردت من مكان عال، من السطح فوقعت في الأرض، أو من أعلى الجبل، أو طلعت فوق شجرة وهبطت منها فاندقت عنقها وماتت، هذه الموقوذة، والنطيحة: التي تنطحها أختها نطحة فيغمى عليها وتموت.
وما أكل السبع، السبع هنا: الذئب والثعالب والضباع وسائر الحيوانات التي تأكل، فالتي يأكلها السبع أيضاً جيفة ميتة، كل هذا داخل تحت الميتة.
وقوله تعالى: ( إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ )[المائدة:3] استثناء، فالمنخنقة إذا أدركت الحياة فيها مستقرة وذكيتها فلا بأس، المتردية التي سقطت من السطح فوجدتها حية فذبحتها فلا بأس، النطيحة التي نطحتها أختها ووجدت فيها الحياة كذلك، والتي أكلها السبع ووجدت حية حياة مستقرة اذبحها وكل، وعلامة استقرار الحياة أنك إذا أخذت تذبحها تنتفض، تضرب برجليها وتتحرك، فتكون الجراثيم كلها قد خرجت من الدم حين سال، أما إذا ماتت فالجراثيم باقية فيها.
تحريم المذبوح على الأنصاب

(وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3] سواء قلت: باسم الله أو قلت: بسيدي عبد القادر ، ما دامت مذبوحة على ما ينصب، على عظيم أو زعيم أو ولي أو قبر أو كذا، والنصب: ما ينصب في المدينة دالاً على عظيم من عظماء البلاد، زعيم من زعمائها، ولي من أوليائها، والأولياء يبنون عليهم القباب ينصبونها عليهم ليعرف: هذا سيدي فلان! إذ ما كان يمكن أن يدفن الولي عندنا أيام الجهل في عامة المقبرة، لا بد أن يبرز ويعلم ويظهر ليعرف حتى يستغاث به ويطاف بضريحه، ويتمسح به، وقد رأينا النساء عاكفات على الضريح، والرجال عاكفين! فلا إله إلا الله! وهم يقرءون القرآن لكن على الموتى، أما على الأحياء فلا.

أحببت أن أقول: الحمد لله؛ الآن صحونا لعوامل كثيرة، منها: تقارب العالم الإسلامي، ووجود الكتاب والطباعة بسرعة والإذاعات، وإذاعة القرآن وحدها كافية، إذاعة القرآن أنا سميتها لما طالبت بها: إذاعة الإسلام، يجب أن تفتح الإذاعة أربعاً وعشرين ساعة، وإياك أن تفتح إذاعة غيرها، تتعلم فيها الكتاب والحكمة، وكم تفقه عليها من النساء، عجائز أصبحن عالمات! والآن هذه الإذاعة تصل إلى المسلمين في الشرق والغرب بلغة العرب البينة الفصيحة.
قال تعالى: ( وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3]، هل تقولون: ما ذبح على الأصنام فقط؟ كان يذبحون على الأصنام حول الكعبة، ويلطخون الكعبة بالدماء، لكن الشيطان هو هو، هل تغير نظامه وسلوكه؟ لما عرف أننا لا نعبد الأصنام جاءنا بفكرة جديدة، ما هي؟ التوسل بالأولياء رحمهم الله، بالذبح لهم والنذر لهم، تمر المرأة تقول: يا سيدي فلان! إذا تزوجت ابنتي، أو إذا غلبت فلاناً في المحكمة فسنذبح لك شاة! تمر بالضريح هكذا وتنادي، والرجال والنساء سواء، والعلماء يقولون: ماذا في ذلك؟ فهو حسب النية، لكن الله عز وجل أضاء البلاد الإسلامية بنور العلم الآن.

معنى قوله تعالى: (وأن تستقسموا بالأزلام)

وقوله تعالى: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ )[المائدة:3]: الأزلام: جمع زَلمَ أو زُلمَ، وأهل الشام يقولون: يا زلمة، والزَلمَ والزُلم واحد: عود من خشب، هذا العود أصله كان من الرماح أو السهام، مصنوع صناعة خاصة، ليس فيه حديد أسفله، ولا فيه ريش، لأن السهم يجعلون فيه ريشاً حتى يقوى ويصل إلى الحيوان الذي يرمونه به أو الإنسان، هذه العيدان التي كانت سهاماً قدمت وأصبحت لا تصلح، فماذا يصنعون بها؟ يأتي رجل من الكهنة أو السحرة أو مدعي الغيب ويجمع ثلاثة عيدان، يكتب على أحدها: أمرني ربي، والثاني: نهاني ربي، والثالث غفل ما عليه أي كتابة، وكان يجلس عند الكعبة، فتأتي تقول: يا شيخ! أريد أن أتزوج امرأة من مصر، ولا أدري هل فيها خير أم لا؟ فدلني، فيجيل الأزلام في الكيس، ثم يخرج واحداً، فإذا وجد فيه: أمرني ربي يقول: تزوج، الخير كله في هذه الزوجة، وإذا جاء العود الذي فيه نهاني قال: لا خير لك فيها، وإذا جاء العود الخالي الغفل يعيد إجالتها، يخلطها مرة ثانية ويخرج.

(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا )[المائدة:3] أي: أن تطلبوا ما قسم الله لكم من طريق هذه العيدان، هذه كانت في مكة، وكانت في بلاد العرب لها ناس خاصون، والإسلام لا يسمح بهذا، إذاً: جاء الشيطان بأعجب من هذا:

أولاً: ما يعرف بخط الرمل، في باريس تجد الرجل جالساً والرمل أمامه في شوارع باريس، وأنت تريد أن تسافر أو تتزوج أو تطلب كذا، فيضرب لك القصد، ويكذب عليك ويقول لك: افعل أو لا تفعل، ثم يقول: هات ألف فرانك!
كذلك تأتي إلى الرجل والمسبحة في يده، فيرسلها، فإذا جاءت أزواجاً قال: افعل، وحط بيضة أو ريالاً!
وكذلك قراءة الكف، هذه واحدة أخرى، يقرأ في الكف ما يعرف بالعرافة، وكذلك قراءة الفنجان، وهذه كلها من وضع إبليس، وهو الذي يسوق إليها البشرية الغافلة؛ لتأتي بالشرك الحرام من أجل أن يعيشوا، وعندنا يسمونها الكزانة والشوافة كذلك.
فهذا كله يدخل تحت قوله تعالى: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ )[المائدة:3]، كله خروج عن طاعة الله ورسوله، ( ذَلِكُمْ )[المائدة:3]الذي سمعتم من أكل المحرمات، ومن الاستقسام بالأزلام، كله ( فِسْقٌ )[المائدة:3]، أي: خروج عن طاعة الله ورسوله، ومن خرج عن طاعة الله ورسوله هلك.
(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ )[المائدة:3] بالقرعة، بالشوافة، بالكف، بالمصحف، كل ذلك.
الاستخارة الوسيلة المشروعة المغنية عن الاستقسام

فإن قلت: إذاً: وماذا نصنع يا شيخ إذا منعتمونا من هذا ونحن في حيرة، نريد أن نتزوج، نريد أن نسافر، فكيف نصنع؟ الجواب: هذا الحبيب صلى الله عليه وسلم سن لنا صلاة الاستخارة، إذا هم أحدكم بالأمر وأراد أن يأتيه وهو لا يدري أفي صالحه أم في غير صالحه؛ فليصل ركعتين لله عز وجل، ويحسن أداءهما، ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك لا يملكه إلا أنت، إن كنت تعلم أن في زواجي في سفري في كذا خيراً لي في ديني ودنياي، وفي عاقبة أمري فاقدره لي ويسره وأعني عليه، وإن كنت تعلم أن في هذا شراً لي أو عدم الخير فاصرفني عنه واصرفه عني. وكررها مرتين أو ثلاثاً أو أسبوعاً، فلقد استخرت الله مرة شهرين في قضية، كل يوم مرة! فاقرع باب الرحمن عز وجل، أما أن تذهب إلى المشعوذين والدجالين وأولياء الشيطان، وتعتمد على ما يقولونه لك فهذا حرمه الله عز وجل، عليك بذي الجلال والإكرام، اطرح بين يديه وابك، والذي يحصل لك والله خير لك، حين تستخيره أي: تطلب الخيرة منه، فالذي يتم لك عملاً أو تركاً والله لهو الخير الذي اختاره الله لك، وكن مطمئناً.
أردت أن تتزوج فلانة وما تدري ما العاقبة فاستخر الله عز وجل يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً وأنت تتردد عليه تعالى وتسأله، فإذا خطبت وقالوا: باسم الله مرحباً، وزوجوك فقد اختارها الله لك، فإذا قالوا: لا، ما نستطيع، فهذا معناه: أن الله صرفك عنها لما فيها من الشر لك.
وبعض العوام يقول: نرى في المنا! لا منام ولا رؤيا ولا هاتف يهتف بك، انتبه، اقرع باب الله واسأله، وتردد كما قلنا، ما هي بمرة أو مرتين، ثم الذي يقع فعلاً أو تركاً هو الذي اختاره الله لك، وافرح به واحمد الله تعالى عليه.
وقت نزول قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)

حرمة الابتداع في الدين وجواز ما كان من المصالح المرسلة
فلهذا من أراد أن يزيد سنة في الإسلام أو فريضة فليضرب رأسه على الحائط، الله يقول: أكملت، وأنت تقول: ما زال ناقصاً، نزيد فيه شيئاً! ولهذا كل بدعة حرام، وكل بدعة ضلالة، المبتدع كأنه ينتقد الشرع أنه يحتاج إلى زيادة، والله يعلن أنه أكمله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، فقط لنا المصالح المرسلة، فتلك العوام يسمونها بدع حسنة، ليست من باب الابتداع.
على سبيل المثال: المحراب، ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم محراب في الجدار، أليس كذلك؟ القبلة معروفة، لكن لما دخل الناس في دين الله أفواجاً كان الإنسان يدخل المسجد ما يعرف القبلة، فماذا يصنع؟ يسأل: أين القبلة؟ فجعلوا طاقة في الجدار تسمى المحراب، كل من دخل المسجد عرف القبلة، سواء كان في الشرق أو الغرب.
وكذلك المنارة، حيث كان يؤذن على سطح المسجد، فاتخذت المنارات ليسمع أهل البلاد عامة، فهذه من المصالح المرسلة.
والقرآن الكريم ما كان منقوط الحروف أبداً، ويفهمونه، فـالحجاج بن يوسف قال: الناس ما يعرفون الحروف، فنقط الباء والتاء والثاء والجيم وكذا، هذه مصالح مرسلة، ليست بدعة في الإسلام وزيادة فيه.
والشاهد عندنا: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا )[المائدة:3]، الحمد لله، الحمد لله، رضي الله لنا الإسلام ديناً، لو رضي لنا اليهودية أو المجوسية أو النصرانية لقلنا: الحمد لله، ولكن لم يرض لنا إلا الإسلام، فقولوا: رضينا بالإسلام ديناً.

قال تعالى: ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ )[المائدة:3]، بعد أن فتح الله مكة، وأصبحت الوفود تأتي من أنحاء الجزيرة بالعشرات وهم يدخلون في الإسلام ما بقي من يفكر في قتال رسول الله والمؤمنين، فكان الخطاب: فلا تخشوهم اليوم واخشون أنا، فأنا ربكم وخالقكم، فمن ثم ارتفعت راية لا إله إلا الله.
معنى قوله تعالى: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم)

ثم قال تعالى: ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:3] أي: جاءته الضرورة وهي المخمصة أو المجاعة أو الجوع الشديد، ولكن حال كونه غير مائل إلى إثمه وراض بما حرم الله، الجوع ألجأه إلى أن يأكل من هذه الميتة أو هذا الخنزير أو هذا الدم؛ دفعاً لغاية الموت؛ لأنه إذا مات فلن يعبد الله، إذاً: أذن الله للمضطر اضطراراً قوياً وهو غير مائل بطبعه إلى أن يتلذذ بما حرم الله؛ ولهذا لا يأكل إلا القدر الذي يسد رمقه، لا يشبع، بل يأكل القدر الذي يقيم به صلبه ويمشي.

ابوالوليد المسلم
06-07-2021, 05:12 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (35)
الحلقة (345)
تفسير سورة المائدة (40)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون .. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة ومع الثلاث الآيات التي تدارسنا بعضها بالأمس.
وإليكم تلاوتها مرة أخرى، وتأملوا يفتح الله عليكم:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ * لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:87-89].
شرف المؤمنين بنداء الإيمان
أولاً: أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات أن نداء الله للمؤمنين بعنوان الإيمان فيه شرف لهم عظيم، إذ تأهلوا لأن يناديهم الرب تبارك وتعالى، وهذه فضيلة الإيمان، لولا إيمانهم الصادق الحق الصحيح ما تأهلوا لأن يناديهم، كان سيقول لرسوله: قل لهم، كما قال تعالى: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ )[الأعراف:158]، ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )[الكافرون:1]، أما الله فيتنزه أن ينادي المشركين والهابطين من بني الناس، ولكن ينادي الأحياء، فمن هنا عرفنا أن الإيمان الحق بمثابة الروح، المؤمن حي والكافر ميت، وبرهنا ودللنا على أن أهل الذمة في ديارنا نحن -المسلمين- لا نكلفهم بصيام ولا صلاة ولا جهاد ولا رباط ولا زكاة؛ لأنهم كالأموات، يوم يحيون بـ(أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) مرهم يفعلوا، وانههم يتركوا؛ لكمال حياتهم.
حادثة نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ...)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، نادانا هنا ليقول ناهياً مانعاً لنا من أن نحرم ما أحل الله لنا: ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87].
ذكروا أن لهذه الآية سبباً في نزولها، والقرآن ما نزل دفعة واحدة، نزل في خلال ثلاث وعشرين سنة، بحسب متطلبات الأمة، كلما جد أمر نزل قرآن يبين الحكم فيه.
وعظ الحبيب صلى الله عليه وسلم رجاله موعظة رقت لها القلوب، فقام عبد الله بن مسعود وعثمان بن مظعون رضي الله عنهما وآخر، وجاءوا إلى أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق ، عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وسألوها عن قيام الرسول في الليل؟ فقالت: كان يقوم وينام. فقال أحدهم: أما أنا فلا أنام بعد اليوم، أحيي الليل كله؛ لأن الرسول مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسألوها عن صيام الرسول؟ فقالت: كان يصوم ويفطر. فقال أحدهم: إذاً سأصوم الدهر ولا أفطر. وسألوها: هل كان يأتي النساء؟ قالت: نعم، فقال أحدهم: إذاً: أنا لن آتي النساء أبداً. رغبة منهم في حب الله وولايته، رغبة منهم في الانقطاع إلى الله.
وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم الخبر فقام خطيباً وقال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ إني أصوم وأفطر، وأقوم الليل وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، فسد باب الرهبنة التي يعيش عليها النصارى، يحرمون على أنفسهم ما أحل الله لهم، ونزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87].
فالنوم طيب يحتاج إليه الآدمي فكيف تحرمه على نفسك؟ وإتيان النساء مشروع وفيه خير، ومما أباح الله وأذن فيه ورغب فيه، فكيف تحرمه أنت على نفسك؟ والصيام ضده الإفطار، فالإفطار يقوي البدن ويزيد في طاقته لينهض بتكاليف الله ومستلزمات هذه الحياة، فكيف تحرم الإفطار لتصوم أبداً؟
وقال لهم: ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، بينت لكم أن الذي يحرم أو يحلل بدون الله اعتدى على الله، فمن الذي له الحق أن يحرم أو يبيح؟ إنه المالك العالم بمصائر الأمور، أما الجاهل الذي لا يملك فكيف يحرم أو يحلل، بأي حق؟
(وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، والاعتداء: مجاوزة الحد، قد يكون بينك وبين أخيك بسبه أو شتمه أو انتهاك عرضه أو أخذ ماله، قد يكون بينك وبين نفسك تلزمها بصيام الدهر أو بقيام الليل بدون نوم أو بحرمانها من النساء وإنجاب البنين والبنات، هذا اعتداء على نفسك، واعتداء على الله؛ لأن الله هو المشرع لحكمته وعلمه ورحمته، فلا يصح لآدمي أن يحلل أو يحرم، وإنما الذي يحرم ويحلل هو الله عز وجل، أولاً: لأنه المالك، ثانياً: لأنه العليم بالمنافع والمضار، ثالثاً: لأنه رحيم بأوليائه وعباده، فلا يحرم عليهم طيبات ينتفعون بها.
أمر المؤمنين بأكل الحلال الطيب وتقوى الله تعالى
ثم قال لهم ولنا: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:88] حال كونه ( حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، فليس الحرام برزق ولا تقل: هذا رزق رزقنيه الله وهو جيفة أو مال مغصوب أو مال ربا.
ثانياً: أن يكون طيباً غير مستخبث ولا مستقذر؛ لأنه يسبب مرضك وانحطاط قوتك، فلا بد أن يكون المطعوم والمأكول أولاً مما أذن الله به، والله لم يأذن في مال الربا ولا في مال التلصص ولا السرقة ولا الخيانة أبداً، ولا مال المؤمنين، فما أذن فيه لا بد أن يكون مما أحل الله، ثانياً: أن يكون طيباً ليس بمستقذر ولا مستخبث بحيث تشمئز منه النفس أو يسبب مرضاً للإنسان، هذه مظاهر ربوبية الله ورحمته بعباده.
ثم قال لنا: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:88]، أي: خافوه، نتقي الله بأي شيء؟ يتقى الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في الأوامر والنواهي، فيما أمر الله بفعله أو قوله أو اعتقاده، وفيما نهى الله عن اعتقاده أو قوله أو عمله، ومن هنا وجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف أوامر الله بالضبط، ونواهيه كذلك، وإلا فلن يستطيع أن يتقي الله، لا يمكن أن تتحقق تقوى الله للعبد وهو ما عرف أوامره ولا نواهيه، ومن هنا قلنا: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وليس شرطاً أن يكون هناك قرطاس وقلم، وإنما تسأل بلسانك وتطبق بجوارحك يوماً بعد يوم؛ لقول الله تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فكل من كان لا يعلم أوامر الله أو نواهيه يجب عليه أن يسأل العلماء.
يتبع

ابوالوليد المسلم
06-07-2021, 05:13 AM
تفسير قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ...)

لما عرف أولئك الأصحاب رضوان الله عليهم وقد حلف أحدهم أن لا يأتي النساء وآخر أن لا ينام وثالث أن لا يأكل، وارتبكوا ماذا يصنعون في أيمانهم التي حلفوها؛ فرج الله عنهم وأنزل الآية الثانية فبين فيها كيف الخروج من اليمين، وهذا عام لكل مؤمن ومؤمنة، اسمع ما قال تعالى: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ )[المائدة:89]، يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحفظ هذه الآية، هذه مادة من قانون الحياة ودستور دخول الجنة: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ )[المائدة:89]، بماذا؟ ( بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ )[المائدة:89]، والأيمان: جمع يمين.
أنواع اليمين وأحكامها
وهنا الأيمان خمس ممكن أن نحصيها ونحفظها، لو كانت تتعلق بالتجارة والبيع لحفظت، لكن هذه علمية ربانية لا يحفظها إلا ولي الله، فكونوا أولياء الله، وليقل أحدكم: لن أبرح مكاني حتى أعرفها.
أولاً: لغو اليمين، أن يحلف أحدنا على شيء يظنه كذا فيتبين أنه خلاف ما ظن، يا فلان! ناولني عشرة ريالات. فيقول: والله ما عندي يا شيخ الآن معتقداً ذلك، ثم أدخل يده في جيبه فوجد عشرة ريالات، فهل يؤاخذ على هذه اليمين؟
أو قيل له: أين إبراهيم؟! فقال: والله! إنه في المنزل؛ لأنه تركه في المنزل، وتبين أنه في السوق أو في المسجد، فهذه لغو يمين لا إثم فيها ولا كفارة.
الثانية: أن يجري على لسانك ما لا تقصد به اليمين، كأن يقال لك: نحن في أي ساعة؟ فتقول: في الساعة السابعة والله، أو هل جاء فلان؟ فتقول: بلى والله جاء، يجري على لسانه الحلف وهو لا يقصده ولا يريده، تعود الحلف فأصبح يجري على لسانه ولا يقصده، هذه أيضاً لغو يمين، ولا إثم فيها ولا كفارة عليها، إذ الكفارة لمحو الإثم، فما دام لا إثم فلا كفارة، فهاتان يمينان من لغو اليمين:
الأولى: أن يحلف على الشيء يظنه كذا فيتبين خلافه.
والثانية: أن يجري على لسانه الحلف وهو لا يقصده ولا يريده.
ويمينان تجب فيهما الكفارة، الأولى: أن يقول: والله! لا أمشي معك، أو: والله! لا أعطيك بعد اليوم درهماً ولم يقل: إن شاء الله، فهذا نسي الله بالمرة، نسي أن الذي يعطي أو يمنع هو الله، وأن ما يريده الله فسيكون، فكان المفروض أن نقول: والله! لا أصاحبك بعد اليوم إلا أن يشاء الله، فالذي يحلف ألا يفعل أو يحلف أن يفعل ثم يحنث تجب عليه الكفارة.
هذه الصيغة الأولى: أن يقول: والله! لا أكلمك بعد اليوم، كما قال الصحابي: والله! لا آتي النساء بعد اليوم .
الصيغة الثانية: أن يقول: والله! لتفعلن كذا يلزمك، ولم يقل: إن شاء الله، فلما نسي مشيئة الله، وغفل عن قدرة الله وأنه لا يقع في الكون إلا ما أراد الله تلطخت نفسه بالإثم لنسيانه الله، فبم يزال هذا؟ بمادة معينة وضعها الحليم العليم، فهاتان يمينان تجب فيهما الكفارة؛ لأن فيهما الإثم، ما سبب الإثم؟ أنك تقول: والله لأفعلن ونسيت أن تقول: إلا أن يشاء الله، وإذا لم يشأ الله فهل ستفعل أنت؟ أنت لا تتحرك إلا بإذن الله.
أو أن تقول لآخر: والله لتفعلن كذا. وهل أنت تقدر على أن تلزمه وتجبره إذا لم يشأ الله؟ هاتان اليمينان فيهما كفارة.
اليمين الخامسة تسمى باليمين الغموس، من: غمسه ويغمسه في الماء، أو غمس رأسه في الطين، اليمين الغموس: هي التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في جهنم، تغمسه أولاً في أوضار وأوساخ الذنوب والآثام، وبذلك يستحق دار البوار ودار النار، وأعيذكم بالله أن تحلفوها، اليمين الغموس فسرها الحبيب صلى الله عليه وسلم بأن يحلف أحدنا كاذباً ليأخذ مال أخيه أو ليمزق عرضه أو ينال دمه، وهي اليمين التي يتعمدها الحالف وهو يعلم أنه كاذب ليتوصل إلى تحقيق غرض من أغراضه الهابطة.
هذه اليمين الغموس اختلف أهل العلم: هل فيها كفارة؟ فمالك وجماعات قالوا: هذه لا تكفر بشيء أبداً لا بالصيام ولا بالعتق، لا تكفر إلا بالتوبة النصوح وإرجاع الحق لأهله، يأتي ويقول: يا فلان! حلفت كاذباً لآخذ من مالك، وأتوب إلى الله فخذ مالك الذي أخذت منك، ومع هذا فالأحسن أن يضيف إلى التوبة الكفارة لتطمئن نفسه.

كفارة اليمين

خبر انقطاع الوحي لترك رسول الله الاستثناء

حرص الإسلام على تحرير الرقاب

ملخص لما جاء في تفسير الآية

ذكر الله وشكره وعبادته سر الحياة
معاشر المستمعين! لو قام أحدكم وسأل أهل المنطق والفلسفة وعلوم النفس والاجتماع والسياسة وقال: أطرح هذا السؤال على منتدى أمريكا وإيطاليا: ما هو سر هذه الحياة؟ ما علة هذا الوجود؟ والله ما عرفوا؛ لأنهم أموات غير أحياء، وكيف يعرفونها؟! وهل الميت يعرف؟ لا يعرف، كيف -يا شيخ- وهؤلاء دكاترة في علم النفس، في علم الكواكب، في الذرة، كيف تقول ذلك؟
والله! إنهم لجهلة أموات حتى يعرفوا ربهم خالقهم ومدبر حياتهم، ثم يخضعوا له ويذلوا ويحبوه ويرغبوا فيما عنده، أما وهم جاهلون بخالقهم فهل يقال: فيهم أحياء؟ هؤلاء أموات.
والآن تعودون بها إلى دياركم أنكم عرفتم سر هذه الحياة، لم خلق الله الجنة؟ لم خلق الله النار؟ لم خلق الله السماوات؟ لم خلق الله الجبال؟ لم خلق الحيوانات؟ لم خلق الآدميين؟ والجواب واحد: أراد أن يذكر ويشكر فأوجد هذا الكون ليسمع ذكره من أفواه عباده ويرى شكره في أعمالهم، ما أراد بالخلق زوجة ولا ولداً ولا منصباً ولا وجاهة ولا سلطاناً، هو غني عن هذه المخلوقات وهو خالقها، إذاً: ما السر في خلقها؟ السر أن يذكر ويشكر فقط، فلهذا من عاش على ذكر الله وشكره تحققت ولايته وأصبح من أهل دار السلام بما لا جدال فيه، ومن أعرض عن ذكر الله ونسيه وكفر بشكره على آلائه ونعمه فهو هالك مع الهالكين، وخاسر خسراناً أبدياً.
فانظر: حيث بين الله تعالى لنا هذه الأحكام ثم قال: ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:89]، يا معاشر المستمعين! إذا أكلتم فاشكروا الله، إذا شربتم فاشكروا الله، إذا صليتم فاشكروا الله، بل ادعوا الله أن يعينكم على ذكره وشكره، الرسول يقول لحبيبه: ( يا معاذ ! والله إني لأحبك، لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ).
تعريف بالشرك وبيان بعض صوره
وقد سمعتم ما قال لقمان لولده: ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )[لقمان:13]، وأنا أعرف موقناً أن من بين الحاضرين عوام وطلبة علم ما جلسوا هذه المجالس، فلا يعرفون الشرك ما هو، فسأضع أيديكم على نقاط: الحلف بغير الله شرك، الذي يقول: وحق النبي، ورأس سيدي فلان، ورأسك يا فلان أشرك بالله عز وجل.

وهذا رسول الله يقول: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، ما معنى: أشرك؟ أوجد عظيماً من الخلق وأعطاه عظمة الرب وحلف به، ومن هو الأعظم والأكبر: الله أم غيره؟ الله أكبر، فكيف ترفع مخلوقاً وتحلف به تقرنه مع الله؟
وأنبه الذين يجري على لسانهم الحلف بدون قصد: والله لا نفعل، والنبي، وحق سيدي كذا، هؤلاء كفارة ذنبهم لما يقع في الحلف أن يقول: لا إله إلا الله، فإذا قلت: والنبي فقل: لا إله إلا الله تمحوها، أخبر بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما شاهد المؤمنين الجدد هذا آمن منذ أسبوع وهذا منذ سنة يحلفون كما كانوا يحلفون في الجاهلية، فقال لهم: ( من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله )، تغسلها على الفور.
فالحلف بغير الله شرك في عظمة الله، سويت مخلوقاً من مخلوقات الله بالله، على المنبر يقول صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، قالها على المنبر.
فلن يسمع الله منا بعد اليوم الحلف بالأم ولا بالرأس ولا بالكعبة ولا بالنبي ولا بالمصحف أبداً، ومن جرى على لسانه فليقل: لا إله إلا الله يمحها.
ثانياً: الذي يذبحون للأولياء في نذور على أضرحتهم، أو يقول: هذه لسيدي عبد القادر أو لسيدي مبروك أو لسيدي فلان، هذا النذر لغير الله شرك في عبادة الله، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن ينذر لغير ربه، النذر لله أن نقول: لك يا رب علي أن أصوم هذا الأسبوع إن فرجت كربي، لك علي يا رب أن أتصدق بألف في هذه الليلة إن فعلت بي كذا وكذا، هذا بينك وبين الله، أما أن تقول: يا سيدي مبروك ويا سيدي فلان لميت تدعوه وتتكلم معه فهذا -والله- لأن يذبح العبد خير من أن يقوله، يحاد الله ويعتدي على شرعه ودينه.
أما الدعاء فكأن يقف أمام الضريح: يا سيدي .. يا فلان .. يا فلان، هذا من أفضع أنواع الشرك، والله لو تقف أمام علي بن أبي طالب أو عمر بن الخطاب أو رسول الله وتدعو ألف سنة والله ما أجابك، ولا عرف عنك!
فكل من ينادي ميتاً: يا سيدي فلان! المدد أو الغوث أو كذا؛ فقد أشرك في عبادة ربه غيره ولا ذنب أعظم من هذا الذنب.
والله نسأل أن يتوب علينا قبل موتنا، من تاب تاب الله عليه، أما من مات يشرك بالله فلا نجاة له من النار، وإليكم بيان الله، يقول تعالى لرسوله: ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[الزمر:65]، ويقول تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا )[النساء:116]، فكيف نفتح أعيننا أمام المخلوقات وننسى خالقها؟! ولكن الجهل هو الذي ساقنا إلى هذا، فهيا نعود إلى قال الله وقال رسوله لننجو من هذه الفتن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
11-07-2021, 03:35 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (36)
الحلقة (346)
تفسير سورة المائدة (41)

قراءة في تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير


الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع هذه الآيات من سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، وشرعنا في دراستنا بالأمس، وها نحن نواصل ذلك اليوم إن شاء الله تعالى، وهيا نستمع إلى تلاوة الآيات المباركات وكلنا يتأمل ويتدبر ويحاول أن يفهم مراد الله من هذه الآيات الكريمة، ثم نأخذ -إن شاء الله- في شرحها كما هي في هذا الكتاب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:77-81].

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات:

مازال السياق في الحديث عن أهل الكتاب يهوداً ونصارى، فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ )[المائدة:77] يا رسولنا: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )[المائدة:77]، والمراد بهم هنا النصارى: ( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ )[المائدة:77]، أي: لا تتشددوا في غير ما هو حق شرعه الله تعالى لكم، فتبتدعوا البدع وتتغالوا في التمسك بها والدفاع عنها، التشدد محمود في الحق الذي أمر الله به اعتقاداً وقولاً وعملاً، لا في المحدثات الباطلة، ( وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ )[المائدة:77]، وهم اليهود؛ إذ قالوا في عيسى وأمه بأهوائهم، فقالوا في عيسى: ساحر، وقالوا في أمه: بغي. ( وَأَضَلُّوا كَثِيرًا )[المائدة:77] من الناس بأهوائهم المتولدة عن شهواتهم، ( وَضَلُّوا )[المائدة:77]، أي: وهم اليوم ضالون بعيدون عن جادة الحق والعدل في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم، هذا ما تضمنته الآية الأولى ]، وهي قوله تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ )[المائدة:77].

[ أما الآيات بعد فقد أخبر تعالى في الآية الثانية بأن بني إسرائيل لعن منهم الذين كفروا على لسان كل من داود في الزبور، وعلى لسان عيسى ابن مريم في الإنجيل، وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن، فقال تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ )[المائدة:78]، فقد مسخ منهم طائفة قردة، ( وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ )[المائدة:78]، حيث مسخ منهم خنازير، كما لعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في غير آية من القرآن الكريم، وهذا اللعن هو إبعاد من كل خير ورحمة ومن موجبات ذلك في الدنيا والآخرة، سببه ما ذكر تعالى بقوله: ( ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)[المائدة:78]، أي: بسبب عصيانهم لله تعالى ورسله بترك الواجبات وفعل المحرمات، واعتدائهم في الدين بالغلو والابتداع، وبقتل الأنبياء والصالحين منهم.

وأخبر تعالى في الآية الثالثة بذكر نوع عصيانهم واعتدائهم الذي لعنوا بسببه فقال: ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ )[المائدة:79]، أي: كانوا عندما استوجبوا اللعن يفعلون المنكر العظيم ولا ينهى بعضهم بعضاً،كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ) ] أي: يأكل معه ويشرب ويقعد [ ( فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوبهم بعضهم ببعض، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:78] إلى قوله: ( فَاسِقُونَ )[المائدة:81] ) ]، أي: تلا الآية كما هي: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:78-81].

[ ( ثم قال صلى الله عليه وسلم: كلا والله ) ]، معاشر المستمعين والمستمعات! هذه لنا، فتأملوها، اسمعوا رسول الله يحلف، اسمعوا رسول الله يبين، قال: [ ( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقسرنه على الحق قسراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم ) ]، هذه لنا، اسمعوا رسول الله بعدما تلا هذه الآيات الثلاث، قال: ( كلا والله )، هكذا يحلف صلى الله عليه وسلم ( لتأمرن ) أيها المؤمنون المسلمون ( بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقسرنه على الحق قسراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم )، أي: كما لعن اليهود والنصارى؛ إذ ما هناك فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين، الكل عبيد الله، الكل عبيد الرحمن عز وجل، الكل يريد الله منهم أن يعبدوه؛ ليسلموا وينجوا وليسعدوا ويكملوا، فإذا لعن اليهود والنصارى لإتيانهم المنكر واستمرارهم عليه، وعدم رجوعهم عنه؛ فنحن إذا استمررنا على الباطل والمنكر والبدع والضلال ولم نتراجع فهل نسلم من لعنة الله؟ الجواب: لا والله، الكل عبيد الله عز وجل.
ثم قال المؤلف غفر الله له ولكم: [ وفي آخر الآية قبح الله تعالى عملهم ] قبح عمل أهل الكتاب [ فقال: ( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )[المائدة:79]، ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( تَرَى )[المائدة:80] ] بعينيك [ ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ )[المائدة:80]، أي: من اليهود في المدينة، ( يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:80]، يعني: من المشركين أو المنافقين في مكة والمدينة، يصاحبونهم ويوادونهم وينصرونهم وهم يعلمون أنهم كفار تحرم موالاتهم في دينهم وكتابهم ]، اليهود بالمدينة يوالون المشركين، وهم يعلمون أن المشركين كفار ملعونون، يعرفون أن المنافقين نافقوا وأظهروا الإيمان وهم يكرهون الدين ورسول الإسلام والمسلمين، واليهود يوالونهم، فكيف يوالي المؤمن الكافر؟ لو كانوا صادقين في دعوهم الإيمان ما كانوا يوالون الكافرين والمنافقين.

[ ثم قبح تعالى عملهم فقال: ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ )[المائدة:80]، نتيجة ما حملتهم عليه من الشر والكفر والفساد، وهو سخط الله تعالى عليهم وخلودهم في العذاب من موتهم إلى ما لا نهاية له ] في دار القيامة [ فقال تعالى: ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ )[المائدة:80]، لا يخرجون منه أبداً.

ثم زاد تعالى تقرير كفرهم وباطلهم وشرهم وفسادهم فقال: ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )[المائدة:81] كما يجب الإيمان به ( وَالنَّبِيِّ )[المائدة:81] محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من الهدى ودين الحق ( وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ )[المائدة:81] من القرآن والآيات البينات ما اتخذوا الكفار والمشركين والمنافقين أولياء، ولكن علة ذلك أنهم فاسقون إلا قليلاً منهم ] أفراد قلائل فقط، [ والفاسق عن أمر الله الخارج عن طاعته لا يقف في الفساد عند حد أبداً. هذا معنى قوله تعالى: ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:81] ].

يتبع

ابوالوليد المسلم
11-07-2021, 03:35 AM
هداية الآيات
معاشر المستمعين! نضع أيدينا على هداية هذه الآيات، فتأملوا.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: حرمة الغلو والابتداع في الدين، واتباع أهل الأهواء ]، فمن أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا )[المائدة:77]، ومعنى هذا: أنه يحرم على المسلم أن يبتدع في دين الله، أو أن يغالي فيه، أو يتبع أصحاب الأهواء في دين الله، ومن هنا عرفنا ما حدث في هذه الأمة بعد القرون الذهبية الثلاثة، انتشرت البدع والضلالات والخرافات وتقسمت الأمة وتجزأت؛ بسبب اتباع الأهواء، وتقليد أرباب الأهواء واتباعهم والتعصب لهم، حتى أصبحنا في أسوأ الأحوال، سبب ذلك أننا ما أخذنا بوصايا الحبيب صلى الله عليه وسلم، أما قال: ( عليكم بستني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )، وقد بين لنا الطريق وقد أعلنها واضحة صريحة عندما قال: ( ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة )، ستفترق هذه الأمة كما افترق اليهود إلى اثنتين وسبعين فرقة، وكما افترق النصارى إلى إحدى وسبعين فرقة، والله! لتفترقن هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، ووالله! لقد وقع ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرق وطوائف ومذاهب، وكلها في النار، لم يا رسول الله في النار؟ لأنها ما عبدت الله بما شرع، فالعبادة التي شرعها الله تعالى هي التي تزكي النفس وتطهرها، أما ما ابتدعه المبتدعة فالعمل به لا يزكي النفس ولا يطيبها ولا يطهرها.

فقام رجل من أصحابه في ذلك المجلس المقدس الطاهر وقال: من هي الفرقة الناجية يا رسول الله؟ وهذا السؤال يقع لكل المؤمن، فقال صلى الله عليه وسلم -واحفظوا واعملوا وطبقوا واطلبوا النجاة لأنفسكم- قال: ( هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )، فيجب أن تكون عقيدتنا عقيدة رسول لله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا نختلف معهم أبداً فيها، يجب أن تكون عباداتنا كما كان رسول الله يعبد الله بها وأصحابه، لا زيادة ولا نقصان ولا تقديم ولا تأخير، يجب أن تكون آدابنا وأخلاقنا كما كان عليه رسول الله وأصحابه، هذا سبيل النجاة، هذا يتوقف على المعرفة، يجب أن نعرف كيف كان يعتقد رسول الله وأصحابه في الله وفي لقائه وفي الإيمان، وما أمر الله بالإيمان به، يجب أن نعرف كيف كان رسول الله يتوضأ ويغتسل ويصلي ويحج ويعتمر، ونفعل كما كان يفعل، يجب أن نعرف كيف كان الرسول يتعامل مع الناس، فنتعامل كما كان يتعامل مع الناس، في آدابنا، في أخلاقنا، في معاملاتنا، هذا -والله- طريق النجاة، العلم أولاً، كيف كان الرسول يعتقد في الله ولقائه والدار الآخرة والملائكة والأنبياء والرسل السابقين، نعتقد كما كان يعتقد، كيف كان الرسول يعبد الله من التيمم إلى الاغتسال، إلى الرباط، إلى الجهاد، إلى القضاء، إلى الحكم، فنقضي ونحكم ونعمل كما كان الرسول صلى الله وسلم يقضي ويعمل، وليس هذا بالمستحيل ولا بالصعب أبداً، كل ما في الأمر أن نهيئ أنفسنا لأن نعبد الله عبادة تزكي أنفسنا وتؤهلنا لرضا الله والسكن في دار السلام مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فلا عنصرية ولا مذهبية ولا طريقة ولا حزب، إنما نحن مسلمون عباد الله، نعبد الله بما شرع، والحمد لله فقد حفظ الله لنا هذا الدين، حفظه بحفظه الخاص، وإلا لكان منذ مائة سنة فقط قد اختلط وما أصبح فيه ما يعبد به الله، لكن الله تعالى قال: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )[الحجر:9]، فحفظ لنا كلامه آية بعد آية في ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية، وحفظ لنا سنة رسول الله وإن داخلها الزيادة والنقص والتبديل، ولكن هيأ الله لها في كل عصر من يصونها ويحفظها كما هي؛ لتقوم الحجة لله على الناس، وإلا لكان على الله أن يجدد الرسالة ويبعث برسول.

معاشر المستمعين! في الآية الأولى: حرمة الغلو، والغلو: الزيادة، فلا تزد كلمة في دين الله، ما شأنك أن تزيد أنت وتنقص؟ لقد أنزل الله كتابه وبينه رسوله، الصلاة كما صلى الرسول، لو زدت سجدة في صلاة الصبح أو ركعة في صلاة المغرب بطلت صلاتك بالإجماع، ما هو شأنك أن تزيد، لو حاولت أن تنقص تكبيرة واحدة، فقلت: ما هناك حاجة إلى هذه التكبيرة في هذه الصلاة فصلاتك باطلة، ما معنى: باطلة؟ ما تزكي النفس، لماذا الآن نحن نسأل كيف نحج وكيف نعتمر؟ لعلمنا اليقيني أن هذه العبادة إذا لم نفعلها كما بينها الرسول فلن تؤثر على نفوسنا، أي: ما تزكي أرواحنا ولا تطيبها، وعلة العبادة تزكية النفس وتطهيرها، وطلبنا تزكية نفوسنا لعلمنا بحكم الله علينا، ألا وهو: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، فمن أراد الفلاح -وهو الفوز بالجنة بعد النجاة من النار- فليزك نفسه، أي: فليطيبها وليطهرها، وما هي مواد التطهير؟ الإيمان الصحيح كإيمان الرسول وأصحابه، والعمل الصالح الذي شرعه الله تعالى، وهو هذه العبادات من الصلاة إلى الصدقات وغيرها.

[ ثانياً: العصيان والاعتداء ينتجان لصاحبهما الحرمان والخسران ]، العصيان، أي: عصيان الله ورسوله بعدم فعل ما يأمران به وعدم ترك ما ينهيان عنه، هذا هو العصيان، والاعتداء: هو الظلم وتجاوز الحد، هذان ينتجان لصاحبهما الحرمان من رضا الله وجواره والخسران بالخلود في النار.
فمن أين عرفنا هذا؟ أما قال تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ([المائدة:78]، بسبب ماذا؟ ( بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ )[المائدة:78]، عصوا رسل الله، عصوا الله ما عبدوه بما شرع لهم، ( وَكَانُوا يَعْتَدُونَ )[المائدة:78] بالظلم والطغيان والشر والفساد.

[ ثالثاً: حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع ]، حرمة السكوت عن المنكر حين نراه ونسمعه ونسكت، ووخامة عاقبته على المجتمع بكامله، قال تعالى: ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )[المائدة:79]، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه: كان الرجل منهم يرى أخاه على معصية، فينهاه: اتق الله واترك هذه، ومن الغد يراه يفعلها ويكون مؤاكله ومجالسه وقاعداً معه، فمن ثم ضرب الله قلوب بعضهم بعض ولعنهم.

وهذا بإجماع الأمة، فمن رأى منكراً يجب أن يغيره بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه: يا عبد الله! لا تفعل، فإن لم يستطع بلسانه حيث خاف أن يؤذى في نفسه أو ماله أو أهله فليغيره بقلبه، أما أن نسكت عن المنكر ونرضى به فسوف يعمنا العقاب.
وضربنا لذلك مثلاً: قرية أو حي من الأحياء يخرجون القمامة ويرمونها عند الباب، هذا يرمي وهذا يرمي وليس هناك من يقول: لا تفعل، وليس هناك من يبعد هذه الأوساخ والقاذورات، يوماً بعد يوم وأسبوعاً بعد أسبوع تتحول تلك إلى بعوض وذباب وحشرات، ثم تتحول إلى أوبئة ويهلك أهل القرية كلهم، بسبب ماذا؟ لما رمى الرجل أو المرأة الوسخ عند الباب ما قال له أخوه: يا أخي! لا تفعل هذا، فهذا سبب مرضنا. لكن لما سكت وسكت الثاني والثالث وأصبحوا يرمون القمامة في الشوارع امتلأت الحارة أو الحي بالأوساخ والقاذورات وعمهم المرض، هذه هي الحقيقة، ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )[المائدة:79].

إذاً: حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع، فالقرية دخلها رجل جاء بمعصية وأعلنها، فأهل القرية عليهم أن يقولوا: يا فلان! ما ينبغي هذا، لا تبع هذا الباطل في بلدنا، لا تفعل هذا. يقول ذلك الأول والثاني والثالث، فيستحي ويخرج أو يترك هذا، أما أن يشاهدوه ويسكتوا ويفعله الكبير والصغير والذكر والأنثى فإنه تعم الفتنة.
[ رابعاً: حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد ]، الموالاة: هي المحبة والتعاون، حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد، فلا نحبهم ولا نمد أيدينا لعونهم ومعاونتهم، وبذلك نسلم، أما أن نوالي أهل الشر والكفر والفساد بحبنا لهم وتعاوننا معهم؛ فهذا -والله- هو الحالقة، هذا هو الدمار، دل هذا على قوله تعالى في الآية الكريمة: ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ )[المائدة:80].

حرمة موالاة أهل الكفر، ولو كانوا آباءنا وأبناءنا ونساءنا وأولادنا، وحرمة موالاة أهل الشر والفساد بيننا، لا موالاة، أي: لا محبة ولا تعاون معهم، بل يجب هجرانهم وتركهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الحق.
[ خامساً: موالاة أهل الكفر بالمودة والنصرة دون المؤمنين آية الكفر وعلامته في صاحبه ]، موالاة أهل الكفر بم تكون؟ بحبهم ونصرتهم على إخواننا المؤمنين، هذه هي آية الكفر، والله ما آمن، والله ما آمن، والله ما آمن من أحب الكافر ونصره على إخوانه المؤمنين؛ لأن الله قال في بيان المؤمنين والمؤمنات بحق وصدق: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )[التوبة:71]، والمؤمنون بحق وصدق والمؤمنات بحق وصدق من هم؟ ( بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )[التوبة:71]، أي: يتحابون ويتعاونون ويتناصرون، فالذي لا يحب المؤمن -والله- ما هو بالمؤمن، والذي ينصر الكافر على المؤمن -والله- ما هو بمؤمن؛ إذاً لا بد من الموالاة بين المؤمنين والمؤمنات، وهي الحب من بعضهم لبعض، والنصرة من بعضهم لبعض، أما أننا نحب أعداء الله وننصرهم على أولياء الله فأعوذ بالله.. أعوذ بالله! هذا هو الكفر الذي ما بعده كفر، دل على هذا قوله تعالى: ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:81]، والفاسق: الخارج عن طاعة الله ورسوله، هو الذي يتحول إلى أن يحب أعداء الله ويكره أولياء الله، يتحول إلى أن يصبح ينصر الظلمة والمشركين والكافرين على المؤمنين والموحدين والمسلمين.

هذا والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعلى سائر المؤمنين.
عباد الله! آخر ما نقول: ينبغي أن نعرف كيف نعبد الله؛ إذ لا سبيل إلى النجاة إلا بمعرفة كيف نعبده، ثم نعبده بما شرع، وعبادة فيها ضلالة وفيها خرافة، وعقيدة فيها الزيغ والزيادة كل هذا خسران كامل، لا بد من أن نعبد الله بما شرع، وبذلك تطهر أنفسنا وتزكو أرواحنا وندخل دار السلام بقضاء الله وحكمه، إذ قال تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

اللهم زك أنفسنا أنت خير من زكاها، وآتها تقواها أنت وليها وموالاها يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
11-07-2021, 03:36 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (37)
الحلقة (347)
تفسير سورة المائدة (42) تفسير قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات من سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، وشرعنا في دراستنا بالأمس، وها نحن نواصل اليوم إن شاء الله تعالى، فهيا نستمع إلى تلاوة الآيات المباركات وكلنا يتأمل ويتدبر ويحاول أن يفهم مراد الله من هذه الآيات الكريمة، ثم نأخذ -إن شاء الله- في شرحها كما هي في هذا الكتاب.
فهيا نتلوها ونتغنى بتلاوتها مرتين أو ثلاثاً وكلنا يتأمل ويتفكر ويتدبر، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، فإن كان عقيدة اعتقدناها، وإن كان واجباً نهضنا به، وإن كان محرماً تركناه وابتعدنا عنه، وإن كان أدباً تأدبنا به، وإن كان خلقاً تخلقنا به، وإن كان علماً علمناه من أجل أن نستنير به طول حياتنا، فحقق اللهم تعالى ذلك لنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:82-86].

هيا نتأمل: من القائل: ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:82] ؟ الله عز وجل، هذه آيات كتابه القرآن الكريم، الذي أنزله على مصطفاه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: ( لَتَجِدَنَّ )[المائدة:82]، كأنما قال: وعزتنا ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:82]، من هم الذين آمنوا؟ والله! إنهم لنحن، ( لِلَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:82]، أي: بالله رباً وإلهاً، وبالقرآن كتاباً وبمحمد نبياً ورسولاً، الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر، هم المؤمنون.

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً )[المائدة:82]، والعداوة بغض في النفس يحمل صاحبه على أن يبتعد من المؤمنين، ولا يقربهم ولا يأمل لهم خيراً ولا يحب لهم خيراً.

سبب عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا )[المائدة:82]، عرفنا عن اليهود أن الصورة بينت حالهم وفضحت واقعهم، اليهود المعروفون، ( وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا )[المائدة:82]، هم المشركون الكافرون، ولو قيل لك: من يحب المؤمنين؟ فالجواب: والله! لا يحبهم إلا مؤمن، وكل الناس غيرهم عدو لهم، لكن من أشد عداوة لهم؟ اليهود والمشركون، اليهود لأنهم يحلمون بدولتهم أو مملكتهم التي تسود العالم، والذين يقفون حجر عثرة في طريق حلمهم وتحقيقه هم المؤمنون، فلهذا يبغضونهم ويعادونهم أشد العداوة؛ لأنهم في طريقهم ما يستطيعون أبداً أن يحققوا مملكة وجودهم والمؤمنون موجودون في الطريق.والذين أشركوا لأنهم كفرة، فجرة، لا يريدون ديناً ولا استقامة ولا منهجاً ولا عدلاً ولا حقاً ولا توحيداً، يعيشون على الضلال فيكرهون المؤمنين لهذا.
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا )[المائدة:82]، من أخبر بهذا؟ الله جل جلاله، هل يمكن أن يخبر الله بغير الواقع؟ تعالى الله عن ذلك، أليس هو العليم الحكيم؟

إذاً: والله! لأشد الناس عداوة لكم أيها المؤمنون هم اليهود والمشركون، والله الذي لا إله غيره! لأشد الناس عداوة لكم أيها المؤمنون هم اليهود والكفار المشركون.
معنى قوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ...)

ثانياً: قال تعالى: ( وَلَتَجِدَنَّ )[المائدة:82] يا رسولنا ( أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً )[المائدة:82]ومحبة ( لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى )[المائدة:82]، أتباع عيسى ابن مريم عليه السلام، النصارى بحق الذين آمنوا بعيسى وألهوه، من حيث العطف والإحسان والرحمة ورقة القلب، ولكن استولت عليهم اليهودية وحولتهم من نصارى إلى بلاشفة، إلى علمانيين، إلى ملاحدة، لا يؤمنون بالله ولا بعيسى ولا بأمه، يقولون: لا إله والحياة مادة، من هنا ذهبت تلك الرحمة وزال منهم ذلك الإحسان وذلك العطف، وذلك الرفق بالناس حتى بالحيوانات؛ لأن القلوب هي التي كانت تعطف وترحم فقلبوها، حولوها إلى مادة. (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً )[المائدة:82] لنا نحن المؤمنين ( الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ([المائدة:82]، واسمع التعليل الرباني، يقول عز وجل: ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا )[المائدة:82]، القسيسون: واحدهم قسيس، ويجمع على: قسس وقساوس وقسيسين، والقسيس: هو العالم العابد، العالم بتعاليم المسيح وكلها رحمة، والرهبان: جمع راهب، الذي يرهب الله، وإذا ذكر الله ارتعدت فرائسه وخاف من الله وانقطع إلى عبادته في الأديرة والصوامع، وكانوا قبل أن تلعب بهم اليهودية والماسونية، كان أحدهم ينقطع إلى عبادة الله يبكي على رأس جبل أو على دار أو صومعة، هذا إخبار الله أم لا؟ ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ )[المائدة:82] أيضاً، يتنافى الكبر والعتو والعلو مع من يرهب الله ويخافه ويعبده.
تفسير قوله تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ...)

ثم قال تعالى: ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ )[المائدة:83] محمد صلى الله عليه وسلم، ( تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ )[المائدة:83]، من أجل ما عرفوا ( مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )[المائدة:83]، من هم الشاهدون الذين سألوا الله أن يدون أسماءهم معهم؟ والله! إنهم لأنتم أيها المؤمنون، أما شهدتم أن لا إله إلا الله؟ أما شهدتم أن محمداً رسول الله؟ أما شهدتم أنه لا يعبد إلا الله؟ أما شهدتم أنه لا ظلم ولا فسق ولا فجور ولا كذب ولا خيانة؟ أنتم الشاهدون، سألوا الله أن يكتبهم مع الشاهدين.

تفسير قوله تعالى: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ...)

ويقولون: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ )[المائدة:84]، من هم القوم الصالحون؟ نحن الذين أدينا حقوق ربنا كاملة غير منقوصة وأدينا حقوق عباده، فلا نسلب مؤمناً حقه في هذه الحياة، يقولون: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ )[المائدة:84]، أي شيء يمنعنا من الإيمان بالله وما جاءنا من الحق بواسطة كتابه ورسوله، ( وَنَطْمَعُ )[المائدة:84] ونرجو ( أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ )[المائدة:84].

ذكر من نزلت فيهم الآيات الكريمات
من يعنون بالصالحين؟ والله! إنهم ليعنون المؤمنين المسلمين؛ لأن هذه الآيات نزلت في أصحمة النجاشي ملك الحبشة والجماعة التي آمنت معه، لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجموعة من مكة إلى الحبشة حينما لم يطيقوا التعذيب المسلط عليهم من أبي جهل وأضرابه من المشركين والكافرين، قال: اذهبوا إلى الحبشة فإنه يوجد فيها ملك صالح يقال له: أصحمة النجاشي ، وبالفعل مشوا فآواهم واحتضنهم وأطعمهم وسقاهم وأمنهم، ثم لما أشيع أن صلحاً تم بين محمد -صلى الله عليه وسلم- والمشركين جاءوا، فلم يجدوا شيئاً، فعادوا أيضاً، فلما عادوا وهاجر الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مع من هاجر من المؤمنين وكانت وقعت بدر وهزم الله المشركين هزيمة مرة، حيث قتل منهم سبعون صنديداً، وأسر منهم سبعون آخرون، فاجتمع رجال من قريش وقالوا: إذاً: نبعث برسولين من ديارنا إلى أصحمة ونطلب منه أن يعطينا أولئك المهاجرين فنقتلهم ونشفي صدورنا نقمة منهم ومن محمد صلى الله عليه وسلم، فبعثوا رجلين سياسيين: عمرو بن العاص وآخر، وأتوا بهدايا فقدموها للملك أصحمة على أن يعطيهم جعفر ابن عم رسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، فلما وصلوا أنزلهم وهو الكريم رحمه الله، وجمع رجاله وقال: يا جعفر ! اقرأ علينا شيئاً من القرآن، فقرأ سورة مريم، وإذا بعيون القوم تفيض بالدموع والبكاء ويؤمنون، وقص الله تعالى هذا الخبر: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:84-85]، ففيهم نزلت هذه الآيات، بكوا وفاضت أعينهم بالدموع.وعزم أصحمة على أن يأتي إلى رسول الله، وبعث بأولاده، وشاء الله أن تغرق بهم السفينة بالبحر، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بخبر السماء أن أصحمة قد مات، فخرج برجاله إلى هذا المكان وصلى عليه، صلى على النجاشي صلاة الغائب، فرحمة الله عليك أيها النجاشي، وفي السنة السابعة بعد غزوة خيبر جاء جعفر مع رجاله، وكانت فرحة الحبيب صلى الله عليه وسلم.

يتبع

ابوالوليد المسلم
11-07-2021, 03:40 AM
شمول وصف الآيات لكثير من أفراد النصارى
بهذا عرفنا فيمن نزلت هذه الآية، وهي أيضاً عامة، فكم من قسس ورهبان لما وصلتهم دعوة الرحمن على أيدي أصحاب رسول الله وأحفادهم بكوا ودخلوا في الإسلام وانتظموا في سلك المؤمنين، مئات الآلاف، وإلى الآن لولا السياسة المنتنة واللعبة اليهودية لما ترددوا في قبول دعوة الله لو عرضت عليهم كما هي، فاليهود هم الذين فعلوا ما فعلوا، وما زالوا يعملون على تحقيق أملهم في إيجاد مملكة بني إسرائيل التي تحكم الناس من الشرق إلى الغرب، ولكن عندنا تعاليم وأخبار نبوية صادقة، واسمعوها بالحرف الواحد: ( لتقاتلن اليهود ثم لتسلطن عليهم ) أي: تقتلونهم ( حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله )، ولا عجب أن تنطق الأشجار والأحجار؛ إذ هي آيات النبوة المحمدية، والزمان قريب، ولا نقول: مع المهدي ولا مع عيسى، والله! ما هي إلا أن نسلم في صدق لله قلوبنا ووجوهنا، في يوم واحد والزمان متقارب والبلاد واحدة، ما هي إلا أن يجتمع المسلمون في روضة محمد صلى الله عليه وسلم ويعلن عن وحدتهم وإقامة دين الله بينهم، ثم يزحفون، فيقتلون اليهود حتى ما يبقوا منهم أحداً إلا من هرب وشرد. واليهود يعرفون هذا أكثر مما يعرفه مدرسكم فضلاً عنكم، فلهذا يعملون على نشر الخبث والظلم والشر والفساد والسحر والباطل وحب الدنيا والشهوات والأطماع؛ حتى لا توجد الفئة المؤمنة التي ينطق لها الشجر والحجر كرامة لها، وليس هذا فقط في بلاد المسلمين، بل في العالم بأسره ما يريدون الطهر ولا الصفاء، ولعلكم تسمعون عن أندية اللواط في أوروبا، من أنشأها؟ والبنوك والربا من أنتجه وأخرجه إلى حيز الوجود؟ وقل ما شئت، لا يريدون الطهر ولا الصفاء؛ لأن الطهر والصفاء ينهي وجودهم، وخاصة بين المسلمين.
فاسمع ما يقول أولئك النصارى: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ )[المائدة:84]، من هم القوم الصالحون؟ الذين أدوا حقوق الله كاملة فعبدوه بما شرع وحده لا شريك له، وأدوا حقوق عباده فلم يظلموا أحداً، لا بإفساد عقيدته ولا بطمس النور من قلبه بتكفيره ولا بسحره، ولا بظلمه بأخذ حقه أو انتهاك حرماته، هؤلاء هم الصالحون، ونحن إن شاء الله منهم، وفي آية الأنبياء قال تعالى: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ )[الأنبياء:105].
تفسير قوله تعالى: (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار ...)

ثم قال تعالى: ( فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا )[المائدة:85]، أي: جزاهم بما قالوا ( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:85]، عجب هذا الكلام! ( وَذَلِكَ )[المائدة:85]، أي: الجنة دار النعيم جزاء من؟ هل جزاء المسيئين المفسدين، أم المحسنين؟ جزاء المحسنين. من هم المحسنون؟ المحسنون -يا أهل الإحسان- هم الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، ففعلت فيهم تلك العبادة فعلها، أحالت نفوسهم وقلوبهم إلى نور وطهر وصفاء، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل وهو يسأله عن الإحسان: ( فأخبرني؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه )، فإن عجزت عن هذه المرتبة فانزل إلى التي تحتها فاعبده وأنت تعلم أن الله يراك، والذي يرزق هذه المراقبة لله ويصبح لا يقول ولا يفعل إلا تحت رقابة الله هل مثل هذا يسيء؟ والله ما يسيء، هذا الذي دائماً مع الله إن قال لا يقول حتى يعرف هل الله أذن له أو لم يأذن في القول، لا يأكل ولا يشرب ولا يعطي ولا يأخذ إلا تحت رقابة الله إن أذن الله في العطاء أعطى، وإن لم يؤذن له ما أعطى، إن أذن له في الكلام تكلم وإن لم يأذن سكت، هذا هو الإحسان وهو ثلث ملة الإسلام، الإسلام مركب من الإيمان والإسلام والإحسان، الدين الإسلامي مركب أو مكون من ثلاثة:أولاً: الإيمان.
ثانياً: الإسلام، أي: إسلام القلب والوجه لله.

ثالثاً: الإحسان.
وقد قال جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم: ( أخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره )، يقيناً كاملاً جازماً، وقبل ذلك سأله عن الإسلام فقال: ( الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً )، وبعد ذلك سأله عن الإحسان فقال: ( أخبرني عن الإحسان؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه )، الذي يعبد الله في الصلاة، في الوضوء، في الجهاد، في الكلام، في كل العبادات كأنه يرى الله هل يمكن أن يخطئ، أو يزيد وينقص أو يقدم أو يؤخر؟ الجواب: لا، فإن عجز عن هذه المرتبة السامية فهو يعبد الله وهو يعلم أن الله يراه، فكذلك لا يمكن أن يسيء في عبادته.
عرف هذا إخواننا القسس والرهبان المؤمنون فقالوا: ( وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:84-85]، اللهم اجعلنا منهم.
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم)

ثم قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:86] أولاً، ( وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا )[المائدة:86] الحاوية لشرائعنا وهداياتنا وتعاليمنا فلم يعملوا بها، ( أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:86]، الجحيم: النار الملتهبة المتقدة، التي لا يقدر اتقادها، مأخوذة من: جحمت في النار إذا اشتعلت واشتد اشتعالها، ( أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:86] في العالم السفلي، نعوذ بالله من النار ومن الجحيم.الآن نسمعكم تلاوة الآيات فتأملوا: ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:82-86] عياذاً بالله.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
هذه الآيات بعد شرحها كما شرحنا نقول: فيها هداياتها، فانظروا كيف نجد الهدايات.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: عظم عداوة اليهود والمشركين للإسلام والمسلمين ] إذ هم المؤمنون.
[ ثانياً: قرب النصارى الصادقين في نصرانيتهم من المسلمين ]، أما الذين تحولوا إلى ماديين وبلاشفة وشيوعيون واستعماريين يريدون المال والسلطة؛ فهؤلاء انتهوا لا إحسان فيهم ولا رحمة في قلوبهم، كما هو الوقع.
[ ثالثاً: فضيلة التواضع، وقبح الكبر ]، لقوله تعالى: ( وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ )[المائدة:82].

[ رابعاً: فضل هذه الأمة وكرامتها على الأمم قبلها ]، لقولهم: ( فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )[المائدة:83]، ومن هم الشاهدون؟ إنهم المؤمنون الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويطيعون الله ورسوله.

[ خامساً: فضل الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه ]، أما قال تعالى من آخر سورة الحديد: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ )[الحديد:28]، (كِفْلَيْنِ) أي: أجرين: أجر بإيمانهم بعيسى وموسى، وأجر بإيمانهم بمحمد وطاعته، ( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الحديد:28]، ففرق بين مسيحي كان يعبد الله بالمسيحية فآمن فله أجران، ومن كان كافراً مشركاً ودخل في الإسلام فله أجر واحد.

[ خامساً: فضل الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه ]، بشرط أن يسلم قلبه ووجهه لله، ويحسن إسلامه فما يبقى لصاً ولا ماجناً.
[ سادساً: بيان مصير الكافرين والمكذبين، وهو خلودهم في نار الجحيم ] أبداً، خلود في نار جهنم.
[ سابعاً: استعمال القرآن أسلوب الترغيب والترهيب بذكره الوعيد بعد الوعد ]، ذكر الوعيد بعد ذلك الوعد العظيم، فقال: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:86]، وهذا من أجل هداية الخلق، يرغب ويرهب، هذا الذي يريد الخير لك يرغبك في الخير ويخوفك من الشر، أما أن يرغبك في الخير فقط ولا يهددك بالشر فستبقى في شرك.
تذكير بطريق العودة إلى الله تعالى
معاشر المستمعين! يا أبناء الإسلام! أكرر القول: هيا نسلم قلوبنا ووجوهنا قبل أن تفوت الفرصة، وهي تفوت يوماً بعد يوم، ما من يوم إلا ومات فلان وانقطع عمله، هيا نسلم قلوبنا لله فلا تتقلب قلوبنا إلا في طلب الله، ونسلم وجوهنا لله فلا ننظر إلا إلى الله، وهذا يتطلب منا أن نرجع إلى الطريق، فنجتمع في بيوت ربنا في مدننا وقرانا في صدق كاجتماعنا هذا، من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، وبنسائنا وأطفالنا أيضاً نجتمع في صدق نتعلم الكتاب والحكمة، ولنستمع إلى قول الله وهو يمتن علينا: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[الجمعة:2]، دقت الساعة السادسة فوقف العمل، توضأنا وتطهرنا، وحملنا نساءنا وأطفالنا إلى أين؟ هل إلى دور السينما، إلى المراقص والمقاصف كما يفعل الهابطون اللاصقون بالأرض؟ لا، وإنما نحملهم إلى بيوت الرب، وهل للرب من بيوت؟ إي والله إنها المساجد، ونوسعها حتى تتسع لأفرادنا ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً، نصلي المغرب كما صلينا ونجتمع ويكون نساؤنا وراء ستار، والأطفال كالملائكة صفوفاً ننظمهم قبل أن نأخذ في تعلم الكتاب والحكمة، ويجلس لنا عالم رباني لا يقول: قال الشيخ ولا قال إمامنا ولا قال مذهبنا، وإنما قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، يعلم الكتاب القرآن، والسنة، وقد حفظها الله فجمعت في الصحاح والسنن والمسانيد، وليلة آية من كتاب الله نتغنى بها ربع ساعة بنسائنا وأطفالنا ونحفظها، آية فقط، ونصلي بها النوافل فلا ننساها ونعرف مراد الله منها ماذا يريد من هذه الآية، فإن كان عقيدة عقدناها في قلوبنا فلن تحل إلى القبر، وإن كان واجباً عرفناه ومن ثم نعزم على فعله والنهوض به كيفما كانت حياتنا، وإذا كان محرماً مكروهاً لله مبغوضاً له تركناه وتخلينا عنه، إن كان خاتماً في أصبعي رميته كما رماه الصحابي، وإن كانت علبة سجائر دستها عند الباب، ونصدق في إقبالنا على ربنا عز وجل، والليلة الثانية نأخذ حديثاً من أحاديث رسول الله المبينة لكتاب الله، الشارحة والمفسرة لمراد الله من كلامه، وهكذا يوماً آية ويوم حديثاً، ونحن ننمو في صفاء أرواحنا وزكاة أنفسنا وآدابنا وأخلاقنا، والله الذي لا إله غيره! لن تمضي سنة على أهل الحي أو القرية إلا وهم ككوكب في هذه الدنيا، لم يبق خلاف ولا فرقة ولا نزاع ولا شقاق، لم يبق سوء في مظاهر حياتنا، لا خيانة، لا غش، لا كذب، لا خداع، لا زنا، لا فجور، لا ربا؛ لأنها سنة الله، فالطعام يشبع أو لا؟ النار تحرق أو لا؟ الحديد يقطع أو لا؟ فهل الكتاب والحكمة لا يزكيان النفوس؟ مستحيل، وينتهي الفقر والبؤس، ونصبح ككواكب في السماء، ويأتي الناس ويؤمنون بديننا ويدخلون في رحمة ربنا.هل هناك -يا شيخ- حل غير هذا؟ والله لا وجود له، ما هو إلا الكتاب والسنة، نتلقاها بصفاء الروح وصدق النية، وكلنا راغب في أن يسمو ويعلو في الملكوت الأعلى، فهيا نجرب، فالذين يحضرون هذا المجلس هل يوجد بينهم زان، سارق، كاذب، غاش، خادع، لوطي، سباب، شتام؟ لا يوجد، لأنهم تعلموا وعرفوا.

والله تعالى أسأل أن يمدنا بعونه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
11-07-2021, 03:41 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (38)
الحلقة (348)
تفسير سورة المائدة (43)
منهج رسول الله طريق الخلاص من المحن

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة.
معاشر المستمعين والمستمعات! نحن مع هذه الثلاث آيات:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ * لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:87-89].

معاشر المستمعين! أكثركم حجاج بيت الله الحرام، نحن على نهجنا في هذه الدعوة ندرس أربع ليالٍ كتاب الله عز وجل، وهي ليالي: السبت والأحد والإثنين والثلاثاء، وندرس يوم الأربعاء (عقيدة المؤمن)، ويوم الخميس ندرس السنة النبوية الطاهرة الشريفة من الجامع الصحيح للإمام البخاري ، وندرس السيرة النبوية العطرة يوم الجمعة ليلة السبت، وهذا الذي ندعو إليه إخواننا المؤمنين في ديارهم.
يا معاشر المستمعين! اعلموا -والعلم ينفع- أنه لا سبيل لنجاتنا والخروج من فتننا وما نتعرض له من الإحن والمحن إلا العودة إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا المنهج الرباني الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتهجه ويدعو أمته إليه، وهو أن نجتمع في بيوت ربنا كل ليلة وطول عمرنا وحياتنا نتلقى الكتاب والحكمة، إن محننا قديماً وحديثاً ومستقبلاً هي ثمرة جهل هذه الأمة، وبعدها عن كتاب ربها وهدي نبيها صلى الله عليه وسلم، إن شئت حلفت لكم بالله على أن ما نشكوه من الكذب والخيانة والظلم والخبث والشر والفساد والفتن والله إنه لثمرة الجهل بالله وبمحابه ومساخطه، وبما هيأه لأوليائه وما أعده لأعدائه، الجهل هو سبب هذا الشقاء، سبب هذه الفتن وهذه المحن، والطريق إلى أن نعلم ونتعلم هو أن نجتمع في بيوت ربنا عز وجل، وذلك كل ليلة، لا يوماً في الأسبوع ولا يومين ولا ثلاثة، دقت الساعة السادسة مساءً فنلقي بآلات العمل من أيدينا ونتوضأ ونحمل نساءنا وأطفالنا إلى بيوت الله عز وجل نتعلم كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، والله ما يمضي على المؤمن الصادق في إيمانه الذي يتعلم الكتاب والحكمة سنة واحدة إلا وهو من أفقه الناس وأعلمهم، وأعرفهم بمحاب الله ومساخطه وأقدرهم على فعل المحبوب لله وترك المكروه لله، وهذا هو سبيل النجاة، فها نحن في هذا المسجد طول العام، ومع الأسف الناس في المقاهي والملاهي، وفي المتاجر والملاعب، ويهجرون هذا العلم، ثم نشكو، فماذا نشكو؟ لم يوجد الظلم؟ لم يوجد الخبث؟ لم يوجد الفساد؟ لم يوجد سوء الأخلاق، لم يوجد الهبوط في الآداب؟ كيف نتأدب؟ كيف نكمل؟ كيف نسعد بدون أن نقرأ كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، والله يمتن على هذه الأمة ويقول: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[الجمعة:2].

وهذا إبراهيم عليه السلام مع ولده إسماعيل عليه السلام وهما يبنيان الكعبة يقولان: ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ )[البقرة:129]، واستجاب الله لإبراهيم وإسماعيل، وبعث في ذرية إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم، ونبأه الله وأرسله وأنزل عليه كتابه، وكان يجمع أصحابه ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.

فيخرج من هذا المسجد علماء لم تحلم الدنيا بمثلهم، ربانيون من أهل الصدق والكمال والعلم والمعرفة، والله! ما عرفت الدنيا أفضل من أولئك الأصحاب باستثناء الأنبياء والرسل، كيف كملوا وفازوا، وأصبحوا مضرب المثل في الآداب والأخلاق والعلم والمعرفة والطهر والصفاء، كيف حصلوا على هذا؟ والله! إنه من طريق تعلمهم الكتاب والحكمة.
العلم سبيل تحقيق التقوى

وأقول لكم في علم: أقسم لكم بالله على أن أتقى أهل القرية هو أعلمهم بالله عز وجل وبمحابه ومساخطه، في مدينتك، في حيك، أقسم لك بالله أن أتقاهم لله أعلمهم بالله، ونظير ذلك: أفجرنا في قريتنا أجهلنا بربنا وبمحابه ومساخطه، ولا نستطيع أن ننتسب إلى الإسلام بالاسم فقط ونحن ما نعرف محاب الله ولا مساخطه ولا كيف نتملق إلى الله ونتزلف إليه بما يحب أن نتملقه به من أنواع العبادات والطاعات التي شرعها، فكيف نعالج هذا المرض؟ لا علاج إلا بأن نصدق الله في إيماننا وإسلامنا ونجتمع في بيوت ربنا التي بنيناها بأيدينا أو بنيت لنا، نجتمع فيها، النساء وراءنا والفحول أمامنا والأطفال بين أيدينا، ونتعلم الكتاب والحكمة، ليلة آية من كتاب الله، ندرسها بعد أن نتغنى بها ونحفظها ونفهم مراد الله منها وكلنا عزم على تحقيق مراد الله منها، إن كان عقيدة اعتقدناها، وإن كان أدباً على الفور تأدبنا به، وإن كان خلقاً تخلقنا به، وإن كان واجباً نهضنا به، وإن كان محرماً ابتعدنا عنه وكرهناه وتركناه، ولا نزال نعلم ونعمل ونسمو حتى نصبح كالملائكة في الأرض طهراً وصفاء، وها نحن مع هذه الجماعة المؤمنة في هذه الحلقة، هيهات هيهات أن من لازمها سنة يسرق أو يزني أو يكذب أو يفجر أو يرابي أو يغش أو يخدع أو يخلف وعده وهو قادر على الوفاء، هيهات.. هيهات!
ولكن الذين ما يجلسون في حجور الصالحين ويتعلمون هم الذين تعبث بقلوبهم الشياطين، وتحولهم إلى الكذب والخيانة والفجور والباطل والشر والفساد، فكيف يجيء هذا؟ لأننا ابتعدنا عن فيض الرحمن وأنواره وعن الكتاب والسنة.
هذه ثلاث آيات لو يحفظها مؤمن أو مؤمنة ويفهم مراد الله منها ويعمل بها فسيسمو ويرتفع.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ...)

نداء المؤمنين لكمال حياتهم
يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، يا أهل الحلقة! أجيبوا. قلنا: لبيك اللهم لبيك، ما إن ينادينا حتى نقول له: لبيك اللهم لبيك. ينادينا ربنا بعنوان الإيمان: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، ومن يعرض فقد كفر، من يغلق أذنيه ولا يسمع فقد كفر، أينادينا ذو الجلال والإكرام رب الأرض والسماء وما بينهما، الحي القيوم، خالقنا ورازقنا ثم لا نصغي ولا نستمع ولا نقول: لبيك، ولا نأخذ ما يعطينا ولا نفعل ما يأمرنا به؟ هل أموات نحن أم أحياء؟ الجواب: أهل الإيمان أحياء، الإيمان بمثابة الروح، والله إنه لبمثابة الروح، المؤمن حي يسمع، يعي، يأخذ إذا أعطي، يمتنع إذا منع؛ وذلك لكمال حياته، والكافر ميت، الكافر بالله ولقائه، بالله وكتابه، بالله ورسوله، بالله ووعده ووعيده، والله! إنه ميت، فلا يؤمر ولا ينهى؛ لأنه ميت، والبرهنة على هذه الحقيقة بلغوها: هل أهل الذمة تحت رايتنا في دولتنا الإسلامية نأمرهم بالصيام إذا دخل رمضان؟ هل نقول: يا يهود! صوموا غداً رمضان؟ لا والله. آن أوان الحج فهل نأمر يهودياً أو مسيحياً ليحج؟ لا نأمره. آن وقت الزكاة، فهل نقول: يا معشر اليهود أو النصارى في بلادنا! أخرجوا زكاة أموالكم؟ لا والله أبداً. لم؟ لأنهم أموات، إذا نفخنا فيهم روح الحياة فحييوا بالإيمان فحينئذ مرهم يفعلون، وانههم ينتهون؛ لكمال حياتهم.
فهل عرفتم الآن أن الإيمان بمثابة الروح أم لا؟ ها هو ذا تعالى ينادي المؤمنين ليأمرهم ويفعلون، لينهاهم وينتهون، ليبشرهم فيستبشرون، ليحذرهم فيحذرون، ليعلمهم فيتعلمون؛ وذلك لكمال حياتهم، ويعيش المسلمون في قراهم عشرات السنين ما يسمعون نداء الله ولا يستجيبون، فكيف هذا؟ لأنهم محرومون، أبعدتهم الشياطين عن بيوت الله وعن كتاب الله وهدي رسوله، القرآن في ديار العالم الإسلامي لا يجتمع عليه أهل القرية أو أهل الحي إلا من أجل أن يقرءوه على ميت فقط.
اسمحوا لي أقول لكم: من منكم يقول: يا شيخ! أنا كنت إذا جلست في المسجد أقول لحافظ القرآن: من فضلك تعال اقرأ علي شيئاً من القرآن. أو أجلس في البيت وأقول لمن يحفظ القرآن من الأسرة: من منكم يسمعنا شيئاً من القرآن ؟ أو نعمل في شركة، في مؤسسة، وجاءت ساعة الاستراحة، فمن منكم يقول: نقول لأخينا: أسمعنا شيئاً من كلام ربنا؟ الجواب: لا أحد.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم المنزل عليه القرآن الوحي الإلهي بواسطة جبريل عليه السلام، والله العظيم! لجلس يوماً مع أصحابه فقال لـعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( يا ابن أم عبد -وهذه كنيته- اقرأ علي شيئاً من القرآن، فيعجب عبد الله بن مسعود ويقول: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأ عبد الله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )[النساء:1]، إلى أن انتهى إلى قوله تعالى: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا )[النساء:41]، وإذا برسول الله تذرف عيناه الدموع وهو يقول: حسبك.. حسبك يا عبد الله ).

فهل جلس اثنان وطلب أحدهما أن يقرأ عليه أخوه شيئاً من القرآن؟ فلهذا عمنا الظلام، وسادنا الجهل، وإن طرنا في السماء وغصنا في الماء، وحللنا ذرات الكون، وعرفنا علل الحياة، فهذا كله غير مجدٍ ولا محيٍ، وإنما الذي يجدي ويحيي الإيمان بالله ولقائه، الإيمان بالله ورسوله، الإيمان بالله وكتابه، وآية الإيمان بالله وكتابه: أن نقرأ كتابه ونتعرف على ما يحمله من أنور الإله الهادية إلى السعادة والكمال؛ لنعرف ما يحب الله وما يكره الله.

يتبع

ابوالوليد المسلم
11-07-2021, 03:42 AM
نهي الله عباده عن تحريم الطيبات والعدوان على المحرمات

يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87] يناديكم ليقول لكم: ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، فهل نستجيب أم لا؟ أعوذ بالله.. أعوذ بالله! الجبار القهار وليك ومولاك ينهاك أن تحرم طيباً مما أحل لك فلا تلتفت إليه ولا تقبل كلامه؟! (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87] أولاً، ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، ولا تتجاوزوا الحد المحدود لكم، أنتم عبيده، ما أحله لكم فأحلوه وتناولوه، وما حرمه عليكم فحرموه وابتعدوا عنه واجتنبوه، وإن اعتديتم فإنه لا يحبكم، ومن لا يحب الله هل سيسعد؟ هل سيكمل وينجو؟ والله ما كان، بل يخسر ويحترق ويتحطم؛ لأن الله لا يحب المعتدين، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87]، من هم المعتدون؟ المتجاوزون لما حد لهم، أحل لهم كذا وكذا، فتجاوزوا ذلك إلى ما حرم.
تفسير قوله تعالى: (وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون)
ثم قال لنا: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، لم يرزقك الله بالحرام أبداً، وكونه طيباً أي: غير مستقذر ولا مستخبث، حلال أحله الله، وليس به قذر أو وسخ يؤذيك ويضرك في بدنك.
كيفية تحقيق التقوى

(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88]، كيف نتقيه؟ بماذا؟ بالحصون والأسوار أو بالجيوش الجرارة أو بالدخول في السراديب؟ كيف نتقي الله وبيده كل شيء، وبين يديه كل شيء؟ كيف نتقي الله يا عباد الله؟ لقد أمركم أيها المؤمنون بأن تتقوه، فكيف نتقيه؟ بماذا؟ نحن نتقي الشمس بالمظلة، ونتقي الجوع بالخبز، ونتقي الحر والبرد بالملابس، والله كيف نتقيه؟ بلغنا أن رجلاً بالهند أو بالسند أو بالشرق أو الغرب يعرف بم يتقى الله؛ فوالله لنسافرن إليه أو نبعث برجال منا ليأتونا بخبر منه كيف نتقي الله، بلغنا أن هناك من يعرف بم يتقى الجبار، وأنه يوجد في مكان كذا فيجب أن نرحل إليه، ولا تعجب؛ والله! لقد رحل جابر بن عبد الله من هذه المدينة إلى حمص ببلاد الشام على راحلته مسافة أربعين يوماً ذهاباً وإياباً؛ من أجل خبر واحد، بلغه أن صحابياً بديار الشام بمدينة حمص يقول عن رسول الله كذا وكذا، وسأل أهل المدينة فما عرفوا، فركب راحلته إلى حمص ليعلم هذا منه. ووالله! لقد كان أهل الأندلس يأتون على بواخرهم، تلك البواخر التي الآن لا تركب، يسافرون الشهرين والثلاثة ونصف العام ليجتمعوا هنا على مالك بن أنس وشيخه ربيعة ويتلقون السنة، يحفظونها ويكتبونها وينقلونها إلى أقصى الغرب في ذلك الزمان.
والآن بم نتقي؟ لقد أمرنا الله ربنا بأن نتقيه فقال: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )[المائدة:57] به، بعظمته وجلاله، بسلطانه وقدرته، بما لديه وما عنده، اتقوه، فبم نتقيه؟

معشر المستمعين والمستمعات! هل نحن حقاً راغبون في معرفة ما نتقي به الله؟ والله لو أن رجلاً منا فحلاً فهم ما قلت لقال: والله! يا هذا لن تبرح مكانك حتى تعلمنا بم نتقي الله، أقسم بالله! لو أن شخصاً آمن وكان المؤمن وفهم ما قلت لقال: والله! يا هذا لن تقوم من مقامك حتى تعرفنا بم نتقي الله؟ لا يقوم غير مبال، اللهم إلا إذا كان قد عرف من قبل بم يتقى الله؟
إذاً: يتقى الله بطاعته وطاعة رسوله، وذلك بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله فقط، أتريد أن تتقي عذاب الله وسخطه؟ اتقه بشيء واحد فقط: أطعه وأطع رسوله فيما يأمران به عباد الله وينهيان عنه عباد الله، من أطاع الله ورسوله في الأمر والنهي جعل بينه وبين عذاب الله وقاية، لا يصل إليه عذاب الله أبداً.
فالله تعالى لا يتقى بالجيوش والأسوار والحصون أبداً، لا يتقى إلا بطاعته بفعل ما يأمر به وترك ما ينهى عنه، والرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بأمر الله وينهى بنهي الله.

العلم سبيل التقوى
يبقى سؤال آخر: يا علماء.. يا بصراء.. يا رجال السياسة.. يا علماء المنطق! هل يمكنك يا عبد الله أن تطيع الله فيما أمر به ونهى عنه، وفيما أمر به الرسول ونهى عنه وأنت لا تعرف ما أمر الله به ولا ما نهى عنه؟ مستحيل. فمن هنا عدنا من حيث بدأنا، يجب أن نتعلم، أن نعرف محاب الله ما هي، ومكارهه ما هي من أجل أن نفعل المحبوب ونتخلى عن المكروه.ولعلها رخيصة، فوالله الذي لا إله غيره! لأن تعلم هذه القضية خير لك من مليار دولار، ولأن ترجع إلى أهلك وبيتك فرحاً بها -والله- خير من الدنيا وما فيها؛ لأن المائة دولار قد تحترق بها، وتحملك على الفسق والفجور والظلم والشر والفساد وتخسر خسراناً أبدياً.
إذاً: الحمد لله، عرفنا بم نتقي ربنا، أي: بطاعته وطاعة رسوله فيما يأمران به وينهيان عنه؛ لأن ما يأمر الله به ورسوله يجنب غضب الله وسخطه ونقمه وعذابه، أليس كذلك؟ وترك ما نهى الله ورسوله عنه هو نجاتنا من الأذى والشر والبلاء والسخط في الدنيا والآخرة، فهذا عرفناه، وعرفنا أيضاً كيف نتقي الله وننجو من عذابه بمعرفة ما يحب وما يكره، أما ونحن لا نعرف ما يحب وما يكره، فكيف سنفعل المحبوب ونحن لا نعرفه؟ كيف نتجنب المكروه لله ونحن ما عرفناه؟ ومن هنا كان طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
وكيف نحصل على هذا العلم؟ قال الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم: ( إنما العلم بالتعلم )، في صحيح البخاري ، والله يقول: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فكل من يعلم من رجل أو امرأة يجب عليه أن يسأل أهل العلم حتى يعلم، وليس شرطاً أن تنقطع عن بستانك أو دكانك أو عن عملك حتى تتعلم، كلا، ابق في عملك ثم اسأل: ماذا يحب ربي من الكلام، يقول لك: يحب كذا وكذا، فقل هذا الكلام وتملق به إلى الله، ما الذي يحب ربي من النيات؟ يقول: يحب النيات الصادقة، ماذا يحب ربي من الأعمال؟ يحب كذا وكذا، وأنت تتعلم وتعمل، ولا تزال تتعلم وتعمل حتى تكمل وتبلغ مستوى الكمال البشري.
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ...)
نادنا الرب جل وعلا فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، لبيك اللهم لبيك، ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:87-88]، على شرط: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88]. أذكر لكم سبب نزول هذه الآية، فهذا القرآن ما نزل مرة واحدة أو جملة واحدة، نزل في خلال ثلاث وعشرين سنة، بدأ نزوله بـ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ )[العلق:1] في غار حراء، وانتهى بآية نزلت في هذه المدينة: ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ )[البقرة:281]، ثلاث وعشرون سنة نزل فيها الكتاب المكون من مائة وأربع عشرة سورة، في ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية.

إذاً: هذه الآية سبب نزولها أن ثلاثة نفر: عبد الله بن مسعود وعثمان بن مظعون وثالث اشتاقوا إلى دار السلام إلى الجنة والرضوان، فأتوا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، والذي في الحلقة لا يعجبه الترضي عنها فليعلم أنه كافر ولعنة الله عليه، وليتب إلى الله، وليدخل في الإسلام وإلا فهو كاليهود والنصارى، أو هو مسكين أضلوه وغلطوه وجهلوه، لكن إن سمع الآن فهو من أهل العلم، إذاً: فليتب إلى الله، وليقل: آمنت بالله.. آمنت بالله، رضي الله عن أم المؤمنين عائشة ، لينجو، وإن أصر على الباطل فوالله لن يدخل دار السلام؛ لأن الذين لا يترضون عنها ساخطون عليها غاضبون يلعنونها؛ لأنهم قالوا لهم: إنها فجرت، زنت! وأعوذ بالله! امرأة رسول الله لا يصونها الله لرسوله، لا يحفظها لنبيه وتفجر وتزني حتى تلعن؟! ما تقولون فيمن يرمي رسول الله بالدياثة؟ هل يبقى مؤمناً؟! أعوذ بالله.. أعوذ بالله.. أعوذ بالله! لقد أنزل الله تعالى في هذه الحادثة -حادثة الإفك- سبع عشرة آية من كتابه من سورة النور، ولا نقرؤها ولا نسمع من يقرؤها ونحولها ونؤولها، وتختم الآية: ( وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )[النور:26]، وأنت تقول: عائشة زنت وملعونة ولا تترضى عنها؟! لا إله إلا الله، آمنا بالله!

فعائشة أم المؤمنين، قال تعالى: ( وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ )[الأحزاب:6]، هذه الصديقة حب رسول الله بنت حب رسول الله، بنت أبي بكر الصديق ، دخلوا عليها وسألوها عن صيام الرسول وقيامه، وقالوا فيما بينهم: الرسول غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فأحدهم قال: أنا أصوم الدهر ولا أفطر أبداً. والثاني قال: أنا لا آتي النساء. والآخر قال: أنا أقوم الليل ولا أنام، شوقاً إلى الملكوت الأعلى ودار السلام، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى المسجد من حجرته وخطب الناس وقال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ )، وهذا من كمال آدابه ورحمته، لم يقل: يا فلان وفلان يفضحهم، وإنما قال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ إني والله ولأتقاكم لله وأشدكم له خشية، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، ونزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، يا ابن مظعون ، يا ابن مسعود، يا فلان! ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، تتجاوزوا الحد، ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:87-88]، فعدلوا عما عزموا عليه، أصبحوا يصومون ويفطرون في حدود طاقتهم ويقومون الليل وينامون في حدود طاقتهم، والرهبان في الصوامع، وبعض المتعنترين من المتصوفين يقولون: فلان لا يأكل اللحم أبداً! أتحرم ما أحل الله لك؟ لا تأكل اللحم إذا كان حراماً، لا تسرق ولا تأكل جيفة، أما وقد أحل الله لك اللحم وتدعى في بيوت إخوانك ويقدم لك فتقول: أنا لا آكل اللحم زهداً فيه، وآخر يلبس ثوباً من الصوف يلفه عليه وعنده القطن وعنده المال، فلم تحرم ما أحل الله لك؟ إذاً: فالعدل العدل: ( وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87].


التربية المسجدية ودورها في تحقيق التقوى
معاشر المؤمنين! عرفنا أننا مأمورون بأن نعرف ما يحب الله وما يكره من أجل أن نتقيه بفعل ما أمر وبترك ما نهى، وبذلك نتقي ربنا.ومن فهنا فالطريق -يا عباد الله- هو أن أهل القرية في قريتهم وأهل الحي في مدينتهم إن كانوا صادقين في إيمانهم ودقت الساعة السادسة وقف العمل، واليهود والنصارى في أوروبا وأمريكا واليابان والصين إذا دقت الساعة السادسة يوقفون العمل، رأيناهم بلا عمل، ويحملون أطفالهم ونساءهم إلى دور السينما، إلى المراقص، إلى المقاصف، إلى الملاهي، وهل نحن مثلهم؟ لا، نحن أهل السماء وهم أهل الأرض، نحن الأحياء وهم الأموات، نحن المؤمنون وهم الكافرون، نحن أطهار وهم الأخباث.
إذاً: هم يذهبون إلى دور السينما ونذهب إلى بيوت الرب الطاهرة، أطفالنا أمامنا ونساؤنا وراءنا ونتلقى الكتاب والحكمة كل ليلة وطول العمر، وحينئذٍ هل يبقى في القرية فاجر، ساحر، دجال، كذاب؟ هل يبقى في القرية عار لا يجد ثوباً يكتسي به، أو يبقى في القرية جائع والجوع يمزقه؟ والله ما كان ولن يكون، وهل نحتاج بعد ذلك إلى بوليس وحرس؟ لا نحتاج ذلك، كلنا كالملائكة في الطهر والصفاء لا خيانة ولا غش ولا خداع، وهل يبقى بيننا وثني أو مشرك أو خرافي أو ضال أو علماني تائه في متاهات الإلحاد؟ لا والله، فإن لم نقبل على الله في صدق كما بينت لكم؛ فوالله لا نزال في الإحن والمحن والبلاء والشقاء حتى نلقى الله تعالى، بلغوا والله معكم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
11-07-2021, 03:43 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (39)
الحلقة (349)
تفسير سورة المائدة (44)

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، ذات الأحكام الشرعية والقوانين الربانية، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، فهيا نتغنى بها، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما فيها، وهذا هو المطلوب منا إزاء كتاب الله، وليس المطلوب منا أن نقرأه على الموتى في بيوت الهلكى أو على قبورهم، والله ما شرع هذا الله ولا رسوله، وإنما شرع الله هذا الكتاب ليتلى في بيوت الله وبيوت المؤمنين، ويتدبر ويفهم مراد الله منه، هذا الكتاب القرآن الكريم يجب أن يجتمع عليه المؤمنون، وأن يتدارسوه، وأن يفهموا مراد الله منه، وبذلك يمكنهم أن يعبدوا الله عبادة تزكي أنفسهم وتؤهلهم لولاية الله عز وجل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ * لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:78-89].

عجب هذا القرآن، عجب والله، وصدق إخوان لنا من الجن لما سمعوه والرسول يصلي الصبح في بطن نخلة عادوا وقالوا: ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا )[الجن:1-2]، فهيا ندارس هذه الآيات الثلاث:

قول ربنا جل ذكره: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، هذا النداء نداء من؟ نداء الله. إذاً: الله موجود، وكيف يوجد كلامه وهو غير موجود؟ لو تجتمع البشرية كلها فهل ستوجد كلاماً بدون متكلم؟

هذا الكلام يحوي العلوم والمعارف والحكم والقوانين والشرائع، إذاً: منزله أعلم العالمين وأحكم الحاكمين، وكيف لا وهو خالق كل شيء ومليكه؟ فالحمد لله أن أصبحنا أهلاً لأن ينادينا رب العالمين، هذه نعمة لا يعرف قدرها أحد من المؤمنين الحاضرين أو الغائبين، ملك الملوك جل جلاله وعظم سلطانه، من بيده الحياة والموت، والإعزاز والإذلال والغنى والفقر، والإيجاد والإعدام يتفضل علينا وينادينا، ومن نحن؟ ونادانا بعنوان الإيمان، ما قال: يا بني آدم، ولا يا بني هاشم، ولا يا بني تميم، نادانا بعنوان الإيمان: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، فلبيك اللهم لبيك.

سر نداء الله تعالى المؤمنين بعنوان الإيمان
والسر في ندائه تعالى لنا بعنوان الإيمان يا نبهاء ويا شرفاء، السر في ذلك: أن المؤمن بحق حي يسمع النداء ويجيب المنادي، ويفعل ما يأمره به وينتهي عما نهاه عنه، وذلك لكمال حياته، فمن هنا علمنا بعلم الله أن المؤمن الحق حي، وليس بميت، والبرهنة أن الله يناديه إما ليأمره بما ينجيه ويسعده، أو ينهاه عما يشقيه ويخسره، أو يناديه ليبشره فتزداد صالحاته، أو لينذره فيتحفظ من الوقوع في السيئات والمهلكات، أو يناديه ليعلمه، وهذا بالاستقراء والتتبع لنداءات الرحمن في كتابه العظيم القرآن الكريم، وقد جمعناها، وهي تسعون نداءً ألا نداء احتوت على الشريعة الإسلامية بكاملها، تسعون نداء، وهي تحوي شريعة الإسلام من العقيدة إلى العبادة إلى الآداب، إلى الأخلاق، إلى الأحكام، في السياسية، في السلم والحرب، في كل الحياة، وأكثر المؤمنين لا يعرفون عنها شيئاً، تسعون نداء، ودرسناها في ثلاثة أشهر، ورغبنا المؤمنين والمؤمنات في الحصول عليها والاجتماع عليها في البيوت والمساجد وأماكن الاستراحة، يجتمعون على نداء يسمعون بآذانهم نداء الله لهم، فيفهمون ما يريد منهم مولاهم ويطيعونه فيكملون ويسعدون.وذكرنا أن هذه النداءات يجب أن تترجم إلى اللغات، وأن يوضع كل كتاب على سرير في فنادق العالم الإسلامي، إذا جاء النزيل قبل أن ينام يفتح ذلك الكتاب فيسمع نداء ربه إليه، فيبيت قرير العين جذلان فرحاً، وما فعلنا، ومن ثم عرفنا أن المؤمن حي، ولذلك يناديه الله عز وجل إما ليأمره بما يكمله ويسعده، أو لينهاه عما يشقيه ويرديه، أو يبشره بما يزيد في أعماله الخيرية الصالحة، أو ينذره ويحذره ليحذر ويتجنب، أو ليعلمه ما هو في حاجة إليه، أما الكافر فهو ميت.
والدليل على موت الكافر: أنه أيام كنا في علياء السماء وتحتنا أهل الكتاب من يهود ومجوس ونصارى يعيشون تحت رايتنا وفي ذمتنا آمنين فهل كنا نأمرهم إذا أهل هلال رمضان بأن يصبحوا صائمين؟ لا والله، هل نعلمهم بأن الزكاة قد وجبت فأخرجوا زكاة أموالكم؟ والله ما نأمرهم، هل نقول لهم: إن الحج آن أوانه والمسلمون يتهيئون فحجوا؟ والله ما نأمرهم، لماذا؟ إنهم أموات غير أحياء وما يشعرون، حين ننفخ فيهم روح الإيمان ويصرخ صاحبها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، هنا قل له: اذهب فاغتسل فيفرح ويسر ويذهب ويغتسل، وتقول: هيا لتركع وتسجد فيصلي راكعاً ساجداً، وأصبح متهيئاً لكل أمر الله ورسوله، وهو قادر على فعله؛ وذلك لكمال حياته، وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى لرسوله: ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ )[النمل:80]، وقال تعالى: ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ )[النحل:21].

وإن قلتم: ها هم يأكلون ويشربون وينكحون؟ قلت: حياة البهائم.

النهي عن تحريم الحلال والعدوان على الحرام
يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، لبيك اللهم لبيك، قال لنا ناهياً: ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87]، ينهانا ربنا عن تحريم ما أحل لنا، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحرم طعاماً أو شراباً أو لباساً أو نكاحاً أباحه الله وأذن فيه، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحرم على نفسه أو على غيره ما أحله الله وأذن فيه وأباحه لعباده من طعام أو شراب أو لباس أو نكاح، لم؟ لأن الخالق المولى المالك قال لعبيده: يا عبيدي! لا تحرموا طيبات ما أحللت لكم، أنا أعلم بما ينفعكم ويضركم، فإذا أذنت لكم في شيء فإنه في صالحكم، والله إنه لنافعكم، وإذا نهيتكم عن شيء فما نهيتكم عنه إلا لأنه ضار بكم مفسد عليكم قلوبكم وحياتكم.(لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87] أولاً، ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87] ثانياً، ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87]، يا من يطلب حب الله ويبذل جهده وطاقته في الحصول عليه! انتبه: إياك أن تعتدي وتتجاوز ما حد لك، فإن هذا الاعتداء لا يحب الله أصحابه وأهله، فلهذا المؤمن لا يعتدي؛ لأن مولاه لا يحب المعتدين، وهو يريد أن يكون من محبوبيه، هذه وحدها تجعل المؤمن العارف لا يعتدي، لا على أخ من إخوانه، بل ولا على يهودي في ذمته، ولا يعتدي على ربه بأن يخالفه، فالله يحل وهو يحرم، أو يحرم وهو يحل، فهو اعتداء، ولا يعتدي على أحد في ماله ولا في عرضه ولا في بدنه ودمه، الاعتداء: مجاوزة الحد، التجاوز للمأذون فيه المباح إلى ما هو ممنوع محرم، فسب المؤمن كشتمه، اعتداء عليه، واللفظ عام: ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، لأن الاعتداء ضار لكم، مفسد لحياتكم وقلوبكم.

وشيء آخر: ما دمتم تطلبون حب الله فاعملوا: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ )[المائدة:87] من عباده ( الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87]، فلا نتجاوز حداً حده الله ورسوله، لم يأذن لنا في كلمة سوء ننطق بها حتى الموت.

الآن لاحت أنوار الآية الأولى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87].

يتبع

ابوالوليد المسلم
11-07-2021, 03:43 AM
أمر الله عباده بالأكل من الحلال الطيب

الآية الثانية: قال: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، الحمد لله.. الحمد لله، مالك الطعام أذن لنا أن نأكل، والله! لو لم يأذن لنا ما أكلنا، من مالك الطعام والشراب؟ الله لا إله إلا هو، فلهذا إذا أردت أن تأكل خبزاً أو تمراً أول ما تقول: باسم الله، أي: بإذنه هو أكلت أو شربت، لو ما أذن والله ما أكلت ولا شربت، وما إن تفرغ من طعامك وشرابك حتى تقول: الحمد لله الذي أوجد هذا الرزق وأذن لي فيه وأعانني عليه وبارك لي فيه. فالمؤمنون الأحياء البصراء لا يأكلون إلا على اسم الله، ولا ينهون طعاماً ولا شراباً إلا على حمد الله تعالى. (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، فالله لم يجعل رزقنا ما حرم علينا، ولن يجعلنا رزقنا خبيثاً مستقذراً، لا بد أن يكون طيباً، أما النجس المستقذر المستخبث فلا يحل أكله؛ لأن الله ما رزقكه، رزقك الحلال الطيب، أما المستقذر المستخبث من الأطعمة فلا يحل أبداً لهذه الآية الكريمة، ( حَلالًا )[المائدة:88] أولاً، لم يرزقك الله حراماً وحاشاه.

ثانياً: أن يكون طيباً، ( طَيِّبًا )[المائدة:88] أي: لذيذاً غير مستقذر ولا مستخبث.

(وَكُلُوا )[المائدة:88]، هذا أمر إباحة وإذن لنا والحمد لله، ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:88]، فلا رازق إلا هو، ومن جهل فليذكر الماء النازل من السماء من أنزله؟ والنابع من الأرض من أنبعه؟ والتراب كيف تحول إلى بر وشعير وفواكه وخضر؟ هل حولته يد أبي أم أمي؟ هذا رزق الله.


الأمر بالتقوى وبيان حقيقتها ووسيلة تحصيلها
(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88]، هذا أمر ثالث: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:88]، من يسأل فيقول: كيف نتقي الله؟ بم يتقى الله وهو الجبار بيده ملكوت السماوات والأرض؟ كيف يتقى؟ بالأسوار العالية؟ لا تنفع. بالحصون القوية؟ بالجيوش الجرارة؟ بالسراديب تحت الأرض؟ بالاحتماء بأصحاب الدولة والسلطان؟ بم يتقى الله عز وجل؟ومعنى تقوى الله: أن يتقى بطشه ونقمته وعذابه وسخطه الذي تعرض له المعتدون.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88] رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه، عرفتموه أن بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء.

وكثيرون يقولون: ما هناك حاجة إلى أن نعرف بما يتقى الله؟ يقول القائل: اتقوا الله فلا يقول واحد: بين لنا كيف نتقي الله؟ لأنهم غير مهتمين ولا حافلين بهذا، أما والله لو عرف أحدهم لقال: والله لا تبارح مكانك حتى تبين لنا كيف نتقي ربنا.
هل يقول ذلك أحد؟ لأننا نعيش في ظلام منذ ألف سنة وزيادة، من علَّمنا؟ وهل طلبنا العلم؟
اسمع واحفظ وبلغ أمك وامرأتك: يتقى الله بطاعته وطاعة رسوله لا بشيء آخر، إن تعلن الحرب عليه وتخرج عن طاعته وعن طاعة رسوله؛ فقد عرضت نفسك للدمار والخراب والخسران الأبدي ولا تجد من يشفع لك أبداً، اتقوا الله، خافوه خوفاً يحملكم على امتثال أمره واجتناب نهيه.
أولاً: اذكر عظمة الله وسلطانه وقدرته على البطش والأخذ فترتعد فرائصك وتخافه، فتقبل على طاعته فتفعل ما أمرك وتترك ما نهاك عنه.
ليس تقواه إلا بطاعته وطاعة رسوله؛ لأن فعل ما يأمر به، وفعل ما يأمر به رسوله يجنبكم المضار والمفاسد والمهالك، ولأن ترك ما أمر الله به ورسوله وفعل ما نهيا عنه يعرض العبد للخسران والدمار وفساد القلب وخبث النفس، ولا شك في هذا؛ لأنه من سنن الله القائمة في الأرض، أسألكم يا عقلاء: هل الطعام يشبع؟ هذه السنة باقية إلى يوم القيامة. هل الماء يروي؟ هل الحديد يقطع؟ هل النار تحرق؟
هذه سنن الله هل تتبدل؟ كلا. فكذلك طاعة الله ورسوله ومعصية الله ورسوله كهذه السنن لا تتخلف آثارها أبداً، من أطاع الله رسوله سما وطهر وصفى وتهيأ للملكوت الأعلى، ومن عصى الله ورسوله وكفر بهما وتمرد على شرعهما تمزق وخسر وهلك هلاكاً أبدياً، سنة لا تتبدل، واسمعوا قوله تعالى: ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا )[فاطر:43].

معاشر المؤمنين! أفرحتموني عندما قلتم: عرفنا بم يتقى الله، بطاعته وطاعة رسوله. فهيا نمشي الآن، فتلك -والله- ما هي إلا خطوة أولى؛ لأني أسألك: تطيع الله والرسول في أي شيء؟ هل عندك علم بأوامره ونواهيه؟ قال: لا، إذاً: كيف تطيعه؟ نعم تهيأت للطاعة، لكن يجب أن تعرف أوامر الله أمراً بعد آخر، وتعرف أوامر رسوله كذلك، حتى تفعل ما أمرا به وتعرف ما نهيا عنه، أي: ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله نهياً بعد نهي، وإن قيل لك: لا يوجد في مدينتنا هذه من يعرف الأوامر والنواهي إلا في جزائر واق الواق؛ فوالله يجب أن تسافر، ولا يحل لك البقاء في المدينة التي لا تجد فيها من يعرفك بأوامر الله ونواهيه إلا إذا أردت الخسران الأبدي.
وجوب تفريغ الأوقات لتحصيل التقوى

قد تقولون: يا شيخ! نحن مشغولون من أجل القوت في مزارعنا ومصانعنا وأسواقنا فكيف نعرف هذا؟ وأقول: هذا السؤال باطل.. باطل.. باطل، يجب أن تفرغ نفسك ساعة في الأربع والعشرين ساعة، كما تسأل عن الدرهم والدينار اسأل عما أذن الله في فعله، أو عما نهى عنه ولم يأذن به، في كل شئون الحياة، وإلا فأنت فاسق عن أمر الله خارج عن طاعته.واسمعوا الله يقول من سورة النحل والأنبياء، آيتان في كتابه تعالى، يقول: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فكل من كان لا يعلم يجب أن يسأل حتى يعلم، وليس يوماً واحداً ولا عشرة، يقرع باب العلماء ويسألهم يومياً: دلوني على ما أمر الله به، أو على ما نهى الله عنه، ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، هل بلغ المسلمين هذا وعرفوه؟ ما عرفوه.

والآن نبكي ونصرخ طول العام في ملتقى العالم الإسلامي في مسجد رسول الله، الوافدون طول العام يفدون من العرب والعجم، ونحن نقول -وكتبنا للحكام والمسئولين والعالم بأسره-: لا طريق إلى نجاتنا وخلاصنا من محننا وفتننا وجهلنا وظلمنا وخبثنا وشرنا وفسادنا إلا طريق واحد، وما استطاع واحد أن يطبق هذا.
فإذا قلنا: كيف؟ نقول: أي مانع أن يطبق هذا المنهج المحمدي؟ والله ما وجدنا مانعاً؛ لأنا نقول: إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل، ورأينا اليهود والنصارى والملاحدة والعلمانيين يحملون أطفالهم ونساءهم إلى دور الرقص ودور السينما والمقاصف والملاهي والملاعب، أسألكم بالله يا من تعرفون أوروبا: أليس هذا نظامها؟
ونحن إذا دقت الساعة السادسة أين نذهب؟ هل نمشي وراءهم ونذهب مذاهبهم وهم كفار ونحن مؤمنون؟ بل نذهب نتوضأ وآمر أولادي وزوجتي وأمي بالوضوء، ونحملهم على السيارة إن بعد بيت الرب عني ونأتي بهم إلى المسجد، مسجد الحي إن كنا في المدينة، ومسجد القرية إن كنا في قرية، حيث لم يبق في الحي رجل ولا امرأة ولا طفل إلا من كان مريضاً أو ممرضاً، الكل حضروا ويصلون المغرب كما نصلي، ويجلسون كما أنتم جالسون، النساء وراء الستارة، والفحول أمام المربي المعلم، وليلة آية من كتاب الله، وليلة حديثاً من أحاديث رسول الله الثابتة الصحيحة، ولا نزال نعلم ونعمل يومياً، فما تمضي سنة إلا وليس في القرية جاهل ولا جاهلة، وليس في الحي من أحياء المؤمنين رجل جاهل ولا امرأة، من أجل هذه الساعة التي يجلسون فيها لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا انتفى الجهل انتفى الخبث انتفى الظلم انتفى الشر، زال الحسد ووجدت أهل القرية كأسرة واحدة، لا تسمع كلمة سوء تقال في فرد من أفرادهم، ولا تجد من يقول السوء بينهم، أو يكيد أو يمكر، وهذا مستحيل مع العلم الرباني.
ما الذي يكلف المسلمين هذا؟ دقت الساعة السادسة ومالت الشمس إلى الغروب فوقف العمل، يا صاحب الدكان! أغلق دكانك، يا صاحب المقهى! أغلق مقهاك، يا صاحب المصنع! يا صاحب العمل! انتهى العمل من صلاة الصبح إلى الآن، هيا بنا إلى بيوت الله، بيوت الرب جل جلاله وعظم سلطانه، نجلس بين يديه نستمطر رحماته ونتلقى بركات السماء ونتعلم العلم الضروري فنعرف محاب الله ونأتيها، ونعرف مكاره الله ونتجنبها ونبتعد عنها، ومن ثم تحققت لنا ولاية الله، وأصبح أهل القرية أولياء الله، لو رفعوا أيديهم إلى الله وسألوه أن يزيل الجبال لأزالها.
مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه

معشر المستمعين! بلغوا .. بلغوا: لا سبيل إلى النجاة إلا هذا السبيل؛ لأنه منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجتمع النساء في هذا المسجد والرجال فيزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ونسبة من يقرأ ويكتب 1%، وأصبحوا علماء ربانيين نساء ورجالاً، لا يوجد -والله- لهم نظير على الأرض، هل فازوا بشهادات علمية؟ فقط أقبلوا على الله فأسلموا قلوبهم ووجوههم له، ومشوا في صراطه المستقيم، ولكن جلس لهم رسول الله، والله يقول في منته عليهم: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[الجمعة:2]، فأيما أهل إقليم أو بلد أو قرية في العالم الإسلامي أرادوا أن يصبحوا كأصحاب رسول الله في الطهر والذكاء والصفاء والربانية فالطريق هو هذا الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم، يجتمعون كل ليلة طول العام، ليلة آية كالتي درسناها الآن أو بعضها، وليلة حديثاً بعدها، تنتهي الفوارق والمذاهب والعناصر، لا يبقى من يقول: أنا شافعي ولا مالكي ولا إباضي ولا زيدي، انتهت الفرق والانقسامات، وهي محرمة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا )[آل عمران:102-103]، من أذن لك أن تقول: أنا مالكي؟ آلله أذن لك بهذا؟ كيف تقول: أنا زيدي أنا إباضي أنا حنبلي؟ قل: أنا مسلم أسلمت قلبي ووجهي لربي، مرني بأمر الله وأمر رسوله أنصاع وأذعن وأعمل، انهني عما نهاني عنه الله ورسوله ننتهي؛ لأني عبده أطلب ولايته وكرامته، فهل يتحقق هذا بدون الاجتماع على كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم؟معاشر المستمعين! هل يبقى في أذهانكم شيء من هذا؟ لم لا تبلغونه عندما تجلسون في بيوتكم أو مع إخوانكم فتقولون: سمعنا في المسجد النبوي كذا وكذا؟
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
11-07-2021, 03:44 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (4)
الحلقة (350)
تفسير سورة المائدة (45) تابع تفسير قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ...)

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم هذا الأمل لنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
وها نحن مع سورة المائدة، ومع هذه الآية المباركة التي تناولناها بالدرس في درس سابق، وما استوفيناها وحق لنا ألا نستوفيها لما تحمله من العلم والحكمة، فهيا نتغنى بها ثلاث مرات، ونحن نتأمل ونتفكر ونتدبر فيما حوته من العلم والمعرفة، ثم نعيد شرحها مرة أخرى بإذن الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:3].
هذه الآية يجب أن يحفظها كل ذي عقل من المؤمنين والمؤمنات، ويصلي بها طول السنة النوافل والفرائض، هذه الآية نزلت ورسولنا صلى الله عليه وسلم في عرفات، ولم يعش بعدها إلا نيفاً وثمانين ليلة وقبضه الله.
اختصاص الله تعالى بالتحريم لعلمه بما يضر العباد وملكه لهم ولسائر ما خلق

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ )[المائدة:3] من المحرم؟ إنه الله تعالى. فهل يحق لكائن سوى الله أن يحرم أو يحلل؟ الجواب: لا، لماذا؟ لأن الله هو مالك كل شيء، فما أذن فيه فهو حلال، وما لم يأذن فيه فهو حرام، وهل يستطيع أحدنا أن يتصرف في مال غيره يأخذ ويعطي ما يشاء؟ مستحيل، فما دام الله جل جلاله هو المالك لكل خلقه، إذاً: فما أذن فيه فهو الحلال وما لم يأذن فيه فهو الحرام، فلا يحل ولا يحرم إلا الله، والرسول الكريم باسم الله وبعلم الله وإذن الله يحرم أو يحلل؛ لأنه المسئول عن البيان والبلاغ، أما غير الله ورسوله فلا ليس من حق أحد أن يحل شيئاً أو يحرم، وكل ما أحل الله وما حرم موجود في كتاب الله وبيانات رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أولاً.
ثانياً: الله وحده يحلل ويحرم؛ لأنه العليم بمضار ومنافع الأشياء، ونحن قاصروا العلم، فالعليم الخبير هو الذي يحل شيئاً لما فيه من الفائدة والمصلحة والمنفعة، ويحرم آخر لما فيه من الضرر والفساد، أليس كذلك؟ إي والله.
تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير

يقول تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ )[المائدة:3] من هم المخاطبون؟ المؤمنون الذين ناداهم بقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )[المائدة:1] هذا الذي يتلى عليكم:(الْمَيْتَةُ )[المائدة:3] ما مات حتف أنفه بدون تذكية.

(وَالدَّمُ )[المائدة:3] معروف، ليس الذي يختلط مع اللحم والعظم، ولكن الدم الذي يسيل ويؤخذ بالسفح والطريقة الخاصة بأخذ الدم من الحيوان، كانوا يأكلون الدماء: يغلونها فتنتفخ وتيبس ويأكلونها، وفيها من الأمراض ما لا يعلمه إلا الله.

(وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ )[المائدة:3] لحم الخنزير حرام كشحمه كدمه ككله، الخنزير معروف، حيوان أكثر ما يوجد في البلاد الباردة، هذا الحيوان علمنا أن فيه أمراضاً خطيرة عرفها الأطباء الآن وكشفوا عنها، ولكن ما حرمه الله إلا لأن فيه الضرر والخطر على عباده.
وسبب ذلك: أنه يعيش على القاذورات، يأكل الجيف، لو يجد فأراً ميتاً يفرح به، ويأكل الأوساخ، فمن هنا كان لحمه فيه جراثيم قاتلة، حرمه الله لعلمه بما فيه من الضرر.
وهنا لطيفة ما ننساها: أنه ديوث الحيوانات، فالجمل عندنا إذا جاء آخر يريد أن ينازعه في أنثاه قاتله، حتى الكلب، والقط ما يرضى أن تمس أنثاه، وهذا الخنزير يأتي بالآخرين يقول لهم: افجروا بها، فالذين يأكلون لحمه ينتقل إليهم هذا المرض مرض الدياثة، ويصبح الرجل لا يبالي بامرأته تغني أو ترقص أو يصاحبها فلان ويسافر معها حيث شاء والعياذ بالله، وخطره على البلاد الحارة عجيب، فلهذا يأكله من في البلاد الباردة.
تحريم ما ذبح لغير الله تعالى

(وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]، أهل يهل: رفع صوته، ومنه الهلال، أهل بالعمرة: إذا قال: لبيك اللهم عمرة، فالذي ذبح لغير الله وسمي عليه اسم غير اسم الله حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير.ولا نغفل عما عليه إخواننا أولئك الذين يذبحون لسيدي عبد القادر ، وسيدي البدوي ، وسيدي العيدروس ، وسيدي إبراهيم، وسيدي الحسين ، وسيدتنا فاطمة ، حتى ولو لم يقولوا: باسمك يا فاطمة أو يا حسين ، فالدافع الباطني نية الذبح لذلك المخلوق، بدليل أنه يقول: هذه شاة سيدي عبد القادر ، هذا العجل عجل سيدي البدوي ، وقد رأينا ذلك بأعيننا، وقد رأينا بأعيننا من يغرس حديقة شجر زيتون ويقول: هذه الزيتونة لسيدي فلان، يغرس نخلاً ويقول: هذه النخلة لسيدي فلان، يشتري قطيعاً من الغنم في آخر الشتاء، فإذا كان الربيع يقول: هذه شاة سيدي فلان، ليرعاها ويحميها ويحرسها، فهذا من هذا.
(وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]، فلا حل لمؤمن ولا مؤمنة أن يذبح لغير الله عز وجل، قد يقول قائل: ها نحن نذبح للضيفان؟! فالضيفان أمرنا رسول الله بإكرامهم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه )، لم اشتريت هذه الشاة؟ قال: عندنا ضيوف الليلة، اشتريناها لنطعمهم، فهذا مأذون به وجائز، لكن الممنوع أنك تتقرب إلى ذلك الميت لتحصل على الخيرات والبركات بواسطته، فتعبده كما يعبد الله جل جلاله بذكره والتوسل إليه بالذبح والنذر إلى غير ذلك.

وإن شككتم فإني أحلف لكم بالله: والذي نفسي بيده! ما جاز لمؤمن ولا مؤمنة أن يسمي شاة أو بقرة أو نخلة أو شجرة لغير الله ويقول: هذا لسيدي فلان، ولا تنفعه صلاته ولا صيامه إذا فعل، فقد قال تعالى: ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ )[الزمر:65] يا رسولنا ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[الزمر:65] ما معنى أشركت؟ أشركت غير الله في عبادة الله، جعلت له عبادة كما هي لله.
(وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]،كان المشركون يذبحون لهبل واللات والعزى ومناة والحجارة التي ينصبونها، وجاء الإسلام فحرم الذبح لغير الله حتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما أجاز عالم عرف الأصول أن تقول: هذه شاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتذبح، وإنها لشرك ومحنة كبيرة، أهنت رسول الله وجعلت له الشاة التي يتقرب بها إلى الله!

فالرسول صلى الله عليه وسلم ما هو في حاجة أبداً إلى أن تصوم عنه أو أن تتصدق عنه أو تحج عنه؛ لأن حسنات الأمة كلها له مثلها، ما له إلا أن تحبه وتطيعه وتصلي وتسلم عليه، أما أن تتصدق عليه أو تصوم فقد جعلته كسائر الناس، شككت في درجته المرفوعة ومقامه السامي عند الله.
ما يدخل في الميتة من المحرمات
فهذه الأربعة المحرمات وردت في عدة سور: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]، والستة الباقية داخلة فيها؛ في الميتة، فالمنخنقة ميتة، والمنخنقة: التي تدخل رأسها بين شجرتين أو كذا وتختنق، انخنقت فهي منخنقة، أو يربطها صاحبها بحبل في عنقها فتحاول أن تمشي بعيداً وتجذب فتختنق، وإن فرضنا أن رجلاً خنق شاة فهذا غير واقع لأن الله سماها المنخنقة، لو كانت تخنق لقلنا: والمخنوقة، لكن ما هناك من يخنق الشاة، المنخنقة هي التي تختنق بنفسها. والموقوذة التي ترمى وتوقذ بحجرة أو بعصا أو برصاصة فتسقط ميتة، والمتردية: التي تردت من مكان عال، من السطح فوقعت في الأرض، أو من أعلى الجبل، أو طلعت فوق شجرة وهبطت منها فاندقت عنقها وماتت، هذه الموقوذة، والنطيحة: التي تنطحها أختها نطحة فيغمى عليها وتموت.
وما أكل السبع، السبع هنا: الذئب والثعالب والضباع وسائر الحيوانات التي تأكل، فالتي يأكلها السبع أيضاً جيفة ميتة، كل هذا داخل تحت الميتة.
وقوله تعالى: ( إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ )[المائدة:3] استثناء، فالمنخنقة إذا أدركت الحياة فيها مستقرة وذكيتها فلا بأس، المتردية التي سقطت من السطح فوجدتها حية فذبحتها فلا بأس، النطيحة التي نطحتها أختها ووجدت فيها الحياة كذلك، والتي أكلها السبع ووجدت حية حياة مستقرة اذبحها وكل، وعلامة استقرار الحياة أنك إذا أخذت تذبحها تنتفض، تضرب برجليها وتتحرك، فتكون الجراثيم كلها قد خرجت من الدم حين سال، أما إذا ماتت فالجراثيم باقية فيها.

يتبع

ابوالوليد المسلم
11-07-2021, 03:45 AM
تحريم المذبوح على الأنصاب
(وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3] سواء قلت: باسم الله أو قلت: بسيدي عبد القادر ، ما دامت مذبوحة على ما ينصب، على عظيم أو زعيم أو ولي أو قبر أو كذا، والنصب: ما ينصب في المدينة دالاً على عظيم من عظماء البلاد، زعيم من زعمائها، ولي من أوليائها، والأولياء يبنون عليهم القباب ينصبونها عليهم ليعرف: هذا سيدي فلان! إذ ما كان يمكن أن يدفن الولي عندنا أيام الجهل في عامة المقبرة، لا بد أن يبرز ويعلم ويظهر ليعرف حتى يستغاث به ويطاف بضريحه، ويتمسح به، وقد رأينا النساء عاكفات على الضريح، والرجال عاكفين! فلا إله إلا الله! وهم يقرءون القرآن لكن على الموتى، أما على الأحياء فلا.أحببت أن أقول: الحمد لله؛ الآن صحونا لعوامل كثيرة، منها: تقارب العالم الإسلامي، ووجود الكتاب والطباعة بسرعة والإذاعات، وإذاعة القرآن وحدها كافية، إذاعة القرآن أنا سميتها لما طالبت بها: إذاعة الإسلام، يجب أن تفتح الإذاعة أربعاً وعشرين ساعة، وإياك أن تفتح إذاعة غيرها، تتعلم فيها الكتاب والحكمة، وكم تفقه عليها من النساء، عجائز أصبحن عالمات! والآن هذه الإذاعة تصل إلى المسلمين في الشرق والغرب بلغة العرب البينة الفصيحة.
قال تعالى: ( وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3]، هل تقولون: ما ذبح على الأصنام فقط؟ كان يذبحون على الأصنام حول الكعبة، ويلطخون الكعبة بالدماء، لكن الشيطان هو هو، هل تغير نظامه وسلوكه؟ لما عرف أننا لا نعبد الأصنام جاءنا بفكرة جديدة، ما هي؟ التوسل بالأولياء رحمهم الله، بالذبح لهم والنذر لهم، تمر المرأة تقول: يا سيدي فلان! إذا تزوجت ابنتي، أو إذا غلبت فلاناً في المحكمة فسنذبح لك شاة! تمر بالضريح هكذا وتنادي، والرجال والنساء سواء، والعلماء يقولون: ماذا في ذلك؟ فهو حسب النية، لكن الله عز وجل أضاء البلاد الإسلامية بنور العلم الآن.
معنى قوله تعالى: (وأن تستقسموا بالأزلام)

وقوله تعالى: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ )[المائدة:3]: الأزلام: جمع زَلمَ أو زُلمَ، وأهل الشام يقولون: يا زلمة، والزَلمَ والزُلم واحد: عود من خشب، هذا العود أصله كان من الرماح أو السهام، مصنوع صناعة خاصة، ليس فيه حديد أسفله، ولا فيه ريش، لأن السهم يجعلون فيه ريشاً حتى يقوى ويصل إلى الحيوان الذي يرمونه به أو الإنسان، هذه العيدان التي كانت سهاماً قدمت وأصبحت لا تصلح، فماذا يصنعون بها؟ يأتي رجل من الكهنة أو السحرة أو مدعي الغيب ويجمع ثلاثة عيدان، يكتب على أحدها: أمرني ربي، والثاني: نهاني ربي، والثالث غفل ما عليه أي كتابة، وكان يجلس عند الكعبة، فتأتي تقول: يا شيخ! أريد أن أتزوج امرأة من مصر، ولا أدري هل فيها خير أم لا؟ فدلني، فيجيل الأزلام في الكيس، ثم يخرج واحداً، فإذا وجد فيه: أمرني ربي يقول: تزوج، الخير كله في هذه الزوجة، وإذا جاء العود الذي فيه نهاني قال: لا خير لك فيها، وإذا جاء العود الخالي الغفل يعيد إجالتها، يخلطها مرة ثانية ويخرج. (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا )[المائدة:3] أي: أن تطلبوا ما قسم الله لكم من طريق هذه العيدان، هذه كانت في مكة، وكانت في بلاد العرب لها ناس خاصون، والإسلام لا يسمح بهذا، إذاً: جاء الشيطان بأعجب من هذا:

أولاً: ما يعرف بخط الرمل، في باريس تجد الرجل جالساً والرمل أمامه في شوارع باريس، وأنت تريد أن تسافر أو تتزوج أو تطلب كذا، فيضرب لك القصد، ويكذب عليك ويقول لك: افعل أو لا تفعل، ثم يقول: هات ألف فرانك!
كذلك تأتي إلى الرجل والمسبحة في يده، فيرسلها، فإذا جاءت أزواجاً قال: افعل، وحط بيضة أو ريالاً!
وكذلك قراءة الكف، هذه واحدة أخرى، يقرأ في الكف ما يعرف بالعرافة، وكذلك قراءة الفنجان، وهذه كلها من وضع إبليس، وهو الذي يسوق إليها البشرية الغافلة؛ لتأتي بالشرك الحرام من أجل أن يعيشوا، وعندنا يسمونها الكزانة والشوافة كذلك.
فهذا كله يدخل تحت قوله تعالى: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ )[المائدة:3]، كله خروج عن طاعة الله ورسوله، ( ذَلِكُمْ )[المائدة:3]الذي سمعتم من أكل المحرمات، ومن الاستقسام بالأزلام، كله ( فِسْقٌ )[المائدة:3]، أي: خروج عن طاعة الله ورسوله، ومن خرج عن طاعة الله ورسوله هلك.

(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ )[المائدة:3] بالقرعة، بالشوافة، بالكف، بالمصحف، كل ذلك.
الاستخارة الوسيلة المشروعة المغنية عن الاستقسام

فإن قلت: إذاً: وماذا نصنع يا شيخ إذا منعتمونا من هذا ونحن في حيرة، نريد أن نتزوج، نريد أن نسافر، فكيف نصنع؟ الجواب: هذا الحبيب صلى الله عليه وسلم سن لنا صلاة الاستخارة، إذا هم أحدكم بالأمر وأراد أن يأتيه وهو لا يدري أفي صالحه أم في غير صالحه؛ فليصل ركعتين لله عز وجل، ويحسن أداءهما، ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك لا يملكه إلا أنت، إن كنت تعلم أن في زواجي في سفري في كذا خيراً لي في ديني ودنياي، وفي عاقبة أمري فاقدره لي ويسره وأعني عليه، وإن كنت تعلم أن في هذا شراً لي أو عدم الخير فاصرفني عنه واصرفه عني. وكررها مرتين أو ثلاثاً أو أسبوعاً، فلقد استخرت الله مرة شهرين في قضية، كل يوم مرة! فاقرع باب الرحمن عز وجل، أما أن تذهب إلى المشعوذين والدجالين وأولياء الشيطان، وتعتمد على ما يقولونه لك فهذا حرمه الله عز وجل، عليك بذي الجلال والإكرام، اطرح بين يديه وابك، والذي يحصل لك والله خير لك، حين تستخيره أي: تطلب الخيرة منه، فالذي يتم لك عملاً أو تركاً والله لهو الخير الذي اختاره الله لك، وكن مطمئناً.أردت أن تتزوج فلانة وما تدري ما العاقبة فاستخر الله عز وجل يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً وأنت تتردد عليه تعالى وتسأله، فإذا خطبت وقالوا: باسم الله مرحباً، وزوجوك فقد اختارها الله لك، فإذا قالوا: لا، ما نستطيع، فهذا معناه: أن الله صرفك عنها لما فيها من الشر لك.
وبعض العوام يقول: نرى في المنا! لا منام ولا رؤيا ولا هاتف يهتف بك، انتبه، اقرع باب الله واسأله، وتردد كما قلنا، ما هي بمرة أو مرتين، ثم الذي يقع فعلاً أو تركاً هو الذي اختاره الله لك، وافرح به واحمد الله تعالى عليه.
وقت نزول قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)

ثم قال تعالى: ( الْيَوْمَ )[المائدة:3] وهذا في حج سنة عشر هجرية، ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ )[المائدة:3]، في السنة التاسعة حج أبو بكر رضي الله عنه بالمسلمين، أنابه رسول الله صلى الله عليه وسلم إشعاراً بأنه ينوبه في حكم المسلمين وإدارة مملكتهم، وبعث بـعلي وغير علي أن يؤذنوا في الحج، في مكة في منى في عرفات: أن لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان؛ لأن الفتح كان في سنة ثمان فأصبحت مكة داراً للإسلام، فالرسول ما أذن الله له أن يحج فيشاهد النساء يطفن عاريات بالبيت، أو يشاهد المشركين يتجولون في مكة ومنى وعرفات وهم نجس، وقد كانوا يطوفون عراة؛ تقول الطائفة: اليوم يبدو بعضه أو كله، وما بدا منه فلا أحله، وتضع يدها على فرجها، والمشرك كذلك، يقولون: لا يصح أن تطوف بالبيت إلا بثياب حلال فقط، أو تستعير من الحمس والأشراف، أما ثوب أذنبت فيه فما تطوف فيه، ويطوفون عراة! إذاً: فالرسول لم يأذن له ربه في أن يحج هذا العام والدولة للإسلام، ولكن المشركون في كل عرفات ومنى، فكان إعلام الرسول لعلي وغيره: ( ألا لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن بعد العام مشرك )، وفي السنة العاشرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم ليحج بالمسلمين، ولا تسأل عن عددهم، ومن يتأخر والبلاد كلها نور، فلما كان في عرفات نزلت هذه الآية: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )[المائدة:3]، ما ينزل بعد ذلك حلال ولا حرام، انتهى كل شيء، عشر سنين والقواعد تنزل: الحلال، الحرام، الآداب، الأخلاق، الأموال، السياسة، الحياة كلها في عشر سنين حواها القرآن الكريم، واليوم ما بقي شيء: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )[المائدة:3].
حرمة الابتداع في الدين وجواز ما كان من المصالح المرسلة

فلهذا من أراد أن يزيد سنة في الإسلام أو فريضة فليضرب رأسه على الحائط، الله يقول: أكملت، وأنت تقول: ما زال ناقصاً، نزيد فيه شيئاً! ولهذا كل بدعة حرام، وكل بدعة ضلالة، المبتدع كأنه ينتقد الشرع أنه يحتاج إلى زيادة، والله يعلن أنه أكمله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، فقط لنا المصالح المرسلة، فتلك العوام يسمونها بدع حسنة، ليست من باب الابتداع. على سبيل المثال: المحراب، ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم محراب في الجدار، أليس كذلك؟ القبلة معروفة، لكن لما دخل الناس في دين الله أفواجاً كان الإنسان يدخل المسجد ما يعرف القبلة، فماذا يصنع؟ يسأل: أين القبلة؟ فجعلوا طاقة في الجدار تسمى المحراب، كل من دخل المسجد عرف القبلة، سواء كان في الشرق أو الغرب.
وكذلك المنارة، حيث كان يؤذن على سطح المسجد، فاتخذت المنارات ليسمع أهل البلاد عامة، فهذه من المصالح المرسلة.
والقرآن الكريم ما كان منقوط الحروف أبداً، ويفهمونه، فـالحجاج بن يوسف قال: الناس ما يعرفون الحروف، فنقط الباء والتاء والثاء والجيم وكذا، هذه مصالح مرسلة، ليست بدعة في الإسلام وزيادة فيه.
والشاهد عندنا: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا )[المائدة:3]، الحمد لله، الحمد لله، رضي الله لنا الإسلام ديناً، لو رضي لنا اليهودية أو المجوسية أو النصرانية لقلنا: الحمد لله، ولكن لم يرض لنا إلا الإسلام، فقولوا: رضينا بالإسلام ديناً.

قال تعالى: ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ )[المائدة:3]، بعد أن فتح الله مكة، وأصبحت الوفود تأتي من أنحاء الجزيرة بالعشرات وهم يدخلون في الإسلام ما بقي من يفكر في قتال رسول الله والمؤمنين، فكان الخطاب: فلا تخشوهم اليوم واخشون أنا، فأنا ربكم وخالقكم، فمن ثم ارتفعت راية لا إله إلا الله.
معنى قوله تعالى: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم)
ثم قال تعالى: ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:3] أي: جاءته الضرورة وهي المخمصة أو المجاعة أو الجوع الشديد، ولكن حال كونه غير مائل إلى إثمه وراض بما حرم الله، الجوع ألجأه إلى أن يأكل من هذه الميتة أو هذا الخنزير أو هذا الدم؛ دفعاً لغاية الموت؛ لأنه إذا مات فلن يعبد الله، إذاً: أذن الله للمضطر اضطراراً قوياً وهو غير مائل بطبعه إلى أن يتلذذ بما حرم الله؛ ولهذا لا يأكل إلا القدر الذي يسد رمقه، لا يشبع، بل يأكل القدر الذي يقيم به صلبه ويمشي.

ابوالوليد المسلم
17-07-2021, 05:10 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (40)
الحلقة (351)
تفسير سورة المائدة (46)

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون .. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة ومع الثلاث الآيات التي تدارسنا بعضها بالأمس.
وإليكم تلاوتها مرة أخرى، وتأملوا يفتح الله عليكم:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ * لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:87-89].
شرف المؤمنين بنداء الإيمان
أولاً: أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات أن نداء الله للمؤمنين بعنوان الإيمان فيه شرف لهم عظيم، إذ تأهلوا لأن يناديهم الرب تبارك وتعالى، وهذه فضيلة الإيمان، لولا إيمانهم الصادق الحق الصحيح ما تأهلوا لأن يناديهم، كان سيقول لرسوله: قل لهم، كما قال تعالى: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ )[الأعراف:158]، ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )[الكافرون:1]، أما الله فيتنزه أن ينادي المشركين والهابطين من بني الناس، ولكن ينادي الأحياء، فمن هنا عرفنا أن الإيمان الحق بمثابة الروح، المؤمن حي والكافر ميت، وبرهنا ودللنا على أن أهل الذمة في ديارنا نحن -المسلمين- لا نكلفهم بصيام ولا صلاة ولا جهاد ولا رباط ولا زكاة؛ لأنهم كالأموات، يوم يحيون بـ(أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) مرهم يفعلوا، وانههم يتركوا؛ لكمال حياتهم.
حادثة نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ...)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، نادانا هنا ليقول ناهياً مانعاً لنا من أن نحرم ما أحل الله لنا: ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87]. ذكروا أن لهذه الآية سبباً في نزولها، والقرآن ما نزل دفعة واحدة، نزل في خلال ثلاث وعشرين سنة، بحسب متطلبات الأمة، كلما جد أمر نزل قرآن يبين الحكم فيه.
وعظ الحبيب صلى الله عليه وسلم رجاله موعظة رقت لها القلوب، فقام عبد الله بن مسعود وعثمان بن مظعون رضي الله عنهما وآخر، وجاءوا إلى أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق ، عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وسألوها عن قيام الرسول في الليل؟ فقالت: كان يقوم وينام. فقال أحدهم: أما أنا فلا أنام بعد اليوم، أحيي الليل كله؛ لأن الرسول مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسألوها عن صيام الرسول؟ فقالت: كان يصوم ويفطر. فقال أحدهم: إذاً سأصوم الدهر ولا أفطر. وسألوها: هل كان يأتي النساء؟ قالت: نعم، فقال أحدهم: إذاً: أنا لن آتي النساء أبداً. رغبة منهم في حب الله وولايته، رغبة منهم في الانقطاع إلى الله.
وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم الخبر فقام خطيباً وقال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ إني أصوم وأفطر، وأقوم الليل وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، فسد باب الرهبنة التي يعيش عليها النصارى، يحرمون على أنفسهم ما أحل الله لهم، ونزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87].
فالنوم طيب يحتاج إليه الآدمي فكيف تحرمه على نفسك؟ وإتيان النساء مشروع وفيه خير، ومما أباح الله وأذن فيه ورغب فيه، فكيف تحرمه أنت على نفسك؟ والصيام ضده الإفطار، فالإفطار يقوي البدن ويزيد في طاقته لينهض بتكاليف الله ومستلزمات هذه الحياة، فكيف تحرم الإفطار لتصوم أبداً؟
وقال لهم: ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، بينت لكم أن الذي يحرم أو يحلل بدون الله اعتدى على الله، فمن الذي له الحق أن يحرم أو يبيح؟ إنه المالك العالم بمصائر الأمور، أما الجاهل الذي لا يملك فكيف يحرم أو يحلل، بأي حق؟
(وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، والاعتداء: مجاوزة الحد، قد يكون بينك وبين أخيك بسبه أو شتمه أو انتهاك عرضه أو أخذ ماله، قد يكون بينك وبين نفسك تلزمها بصيام الدهر أو بقيام الليل بدون نوم أو بحرمانها من النساء وإنجاب البنين والبنات، هذا اعتداء على نفسك، واعتداء على الله؛ لأن الله هو المشرع لحكمته وعلمه ورحمته، فلا يصح لآدمي أن يحلل أو يحرم، وإنما الذي يحرم ويحلل هو الله عز وجل، أولاً: لأنه المالك، ثانياً: لأنه العليم بالمنافع والمضار، ثالثاً: لأنه رحيم بأوليائه وعباده، فلا يحرم عليهم طيبات ينتفعون بها.
أمر المؤمنين بأكل الحلال الطيب وتقوى الله تعالى
ثم قال لهم ولنا: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:88] حال كونه ( حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، فليس الحرام برزق ولا تقل: هذا رزق رزقنيه الله وهو جيفة أو مال مغصوب أو مال ربا.ثانياً: أن يكون طيباً غير مستخبث ولا مستقذر؛ لأنه يسبب مرضك وانحطاط قوتك، فلا بد أن يكون المطعوم والمأكول أولاً مما أذن الله به، والله لم يأذن في مال الربا ولا في مال التلصص ولا السرقة ولا الخيانة أبداً، ولا مال المؤمنين، فما أذن فيه لا بد أن يكون مما أحل الله، ثانياً: أن يكون طيباً ليس بمستقذر ولا مستخبث بحيث تشمئز منه النفس أو يسبب مرضاً للإنسان، هذه مظاهر ربوبية الله ورحمته بعباده.
ثم قال لنا: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:88]، أي: خافوه، نتقي الله بأي شيء؟ يتقى الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في الأوامر والنواهي، فيما أمر الله بفعله أو قوله أو اعتقاده، وفيما نهى الله عن اعتقاده أو قوله أو عمله، ومن هنا وجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف أوامر الله بالضبط، ونواهيه كذلك، وإلا فلن يستطيع أن يتقي الله، لا يمكن أن تتحقق تقوى الله للعبد وهو ما عرف أوامره ولا نواهيه، ومن هنا قلنا: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وليس شرطاً أن يكون هناك قرطاس وقلم، وإنما تسأل بلسانك وتطبق بجوارحك يوماً بعد يوم؛ لقول الله تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فكل من كان لا يعلم أوامر الله أو نواهيه يجب عليه أن يسأل العلماء.
تفسير قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ...)
لما عرف أولئك الأصحاب رضوان الله عليهم وقد حلف أحدهم أن لا يأتي النساء وآخر أن لا ينام وثالث أن لا يأكل، وارتبكوا ماذا يصنعون في أيمانهم التي حلفوها؛ فرج الله عنهم وأنزل الآية الثانية فبين فيها كيف الخروج من اليمين، وهذا عام لكل مؤمن ومؤمنة، اسمع ما قال تعالى: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ )[المائدة:89]، يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحفظ هذه الآية، هذه مادة من قانون الحياة ودستور دخول الجنة: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ )[المائدة:89]، بماذا؟ ( بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ )[المائدة:89]، والأيمان: جمع يمين.
أنواع اليمين وأحكامها
وهنا الأيمان خمس ممكن أن نحصيها ونحفظها، لو كانت تتعلق بالتجارة والبيع لحفظت، لكن هذه علمية ربانية لا يحفظها إلا ولي الله، فكونوا أولياء الله، وليقل أحدكم: لن أبرح مكاني حتى أعرفها.أولاً: لغو اليمين، أن يحلف أحدنا على شيء يظنه كذا فيتبين أنه خلاف ما ظن، يا فلان! ناولني عشرة ريالات. فيقول: والله ما عندي يا شيخ الآن معتقداً ذلك، ثم أدخل يده في جيبه فوجد عشرة ريالات، فهل يؤاخذ على هذه اليمين؟
أو قيل له: أين إبراهيم؟! فقال: والله! إنه في المنزل؛ لأنه تركه في المنزل، وتبين أنه في السوق أو في المسجد، فهذه لغو يمين لا إثم فيها ولا كفارة.
الثانية: أن يجري على لسانك ما لا تقصد به اليمين، كأن يقال لك: نحن في أي ساعة؟ فتقول: في الساعة السابعة والله، أو هل جاء فلان؟ فتقول: بلى والله جاء، يجري على لسانه الحلف وهو لا يقصده ولا يريده، تعود الحلف فأصبح يجري على لسانه ولا يقصده، هذه أيضاً لغو يمين، ولا إثم فيها ولا كفارة عليها، إذ الكفارة لمحو الإثم، فما دام لا إثم فلا كفارة، فهاتان يمينان من لغو اليمين:
الأولى: أن يحلف على الشيء يظنه كذا فيتبين خلافه.
والثانية: أن يجري على لسانه الحلف وهو لا يقصده ولا يريده.
ويمينان تجب فيهما الكفارة، الأولى: أن يقول: والله! لا أمشي معك، أو: والله! لا أعطيك بعد اليوم درهماً ولم يقل: إن شاء الله، فهذا نسي الله بالمرة، نسي أن الذي يعطي أو يمنع هو الله، وأن ما يريده الله فسيكون، فكان المفروض أن نقول: والله! لا أصاحبك بعد اليوم إلا أن يشاء الله، فالذي يحلف ألا يفعل أو يحلف أن يفعل ثم يحنث تجب عليه الكفارة.
هذه الصيغة الأولى: أن يقول: والله! لا أكلمك بعد اليوم، كما قال الصحابي: والله! لا آتي النساء بعد اليوم .
الصيغة الثانية: أن يقول: والله! لتفعلن كذا يلزمك، ولم يقل: إن شاء الله، فلما نسي مشيئة الله، وغفل عن قدرة الله وأنه لا يقع في الكون إلا ما أراد الله تلطخت نفسه بالإثم لنسيانه الله، فبم يزال هذا؟ بمادة معينة وضعها الحليم العليم، فهاتان يمينان تجب فيهما الكفارة؛ لأن فيهما الإثم، ما سبب الإثم؟ أنك تقول: والله لأفعلن ونسيت أن تقول: إلا أن يشاء الله، وإذا لم يشأ الله فهل ستفعل أنت؟ أنت لا تتحرك إلا بإذن الله.
أو أن تقول لآخر: والله لتفعلن كذا. وهل أنت تقدر على أن تلزمه وتجبره إذا لم يشأ الله؟ هاتان اليمينان فيهما كفارة.
اليمين الخامسة تسمى باليمين الغموس، من: غمسه ويغمسه في الماء، أو غمس رأسه في الطين، اليمين الغموس: هي التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في جهنم، تغمسه أولاً في أوضار وأوساخ الذنوب والآثام، وبذلك يستحق دار البوار ودار النار، وأعيذكم بالله أن تحلفوها، اليمين الغموس فسرها الحبيب صلى الله عليه وسلم بأن يحلف أحدنا كاذباً ليأخذ مال أخيه أو ليمزق عرضه أو ينال دمه، وهي اليمين التي يتعمدها الحالف وهو يعلم أنه كاذب ليتوصل إلى تحقيق غرض من أغراضه الهابطة.
هذه اليمين الغموس اختلف أهل العلم: هل فيها كفارة؟ فمالك وجماعات قالوا: هذه لا تكفر بشيء أبداً لا بالصيام ولا بالعتق، لا تكفر إلا بالتوبة النصوح وإرجاع الحق لأهله، يأتي ويقول: يا فلان! حلفت كاذباً لآخذ من مالك، وأتوب إلى الله فخذ مالك الذي أخذت منك، ومع هذا فالأحسن أن يضيف إلى التوبة الكفارة لتطمئن نفسه.

يتبع

ابوالوليد المسلم
17-07-2021, 05:10 AM
كفارة اليمين
الآن مع الكفارة، ماذا قال مولانا عز وجل؟ قال: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ )[المائدة:89]، وفي آية أخرى: ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ )[البقرة:225]، أي: التعمد، ( فَكَفَّارَتُهُ )[المائدة:89]، أي: ذلك الحنث، ( إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ )[المائدة:89]، المساكين جمع: مسكين، من أذلته الحاجة ومسكنته من الفقراء، كل مسكين يعطيه كيلو ونصفاً من الأرز، وإن أعطى كيلو جرام يجزيه؛ لأنهم اختلفوا في المد النبوي هل يقدر بمدين أو المد هو المد، فالاحتياط أن تعطي لكل مسكين كيلو ونصفاً من دقيق إن كنت من أهل الدقيق أو أرز إن كنت من أهل الأرز، أو من العنب اليابس بحسب قوتك وأهلك، ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ )[المائدة:89]، لا تعطيه الأرز الياباني الذي يساوي الكيلو منه عشرة ريالات، بل الوسط، والدقيق أنواع أيضاً، هناك دقيق بعشرة ريالات، ودقيق بخمسة، فالوسطية ولا تكلف نفسك ما لا تطيق، ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ )[المائدة:89]، أي: زوجتك وأولادك ومن إليهم.(أَوْ )[المائدة:89]للتخيير، ( أَوْ كِسْوَتُهُمْ )[المائدة:89]، طاقية أو عمامة وثوب يكفي؛ لأن المصلي لا يصلي ورأسه عريان، لا بد -إذاً- من شيء يضعه على رأسه، والثوب لا بد أن يستره، هذا القدر الذي تصح به الصلاة هو الذي تكسو به مؤمناً، تشتري له ثوباً وعمامة أو غترة يغطي رأسه، عشرة نفر تكسوهم لله تعالى؛ لتمحو ذلك الإثم العالق بالنفس يوم نسيت الله وأنه الفعال لما يريد ونسبت القدرة لك ألا تفعل أو تفعل.
خبر انقطاع الوحي لترك رسول الله الاستثناء
وأذكركم بأن الحبيب صلى الله عليه وسلم أدبه الله في هذا، بعث قريش رجالاتهم ليتصلوا باليهود وعلمائهم في المدينة ويسألوهم أسئلة يوجهونها للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال علماء اليهود لوفد قريش: سلوه عن ثلاثة أشياء، فإن أجاب عنها كلها فما هو بنبي، وإن لم يجب عنها فما هو بنبي، وإن أجاب عن البعض وترك البعض فهو نبي فروا رأيكم فيه، وبالفعل رجع الوفد إلى مكة والرسول ما زال بمكة قالوا: تعال الآن نمتحنك: أخبرنا عن فتية في الزمان الماضي كانوا في كذا وكذا ما حالهم وما شأنهم، وأخبرنا عن ملك مَلَك الشرق والغرب وما حاله وما شأنه، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ فقال لهم: غداً أجيبكم، ونسي أن يقول: إن شاء الله؛ لأنه بشر، فتأخر الوحي فلم ينزل جبريل اليوم الأول والثاني والثالث وهو يتطلع صلى الله عليه وسلم، وبلغ خمسة عشر يوماً وإذا بـأم جميل العوراء امرأة أبي لهب تغني في الشوارع وترقص: مذمماً أبينا ودينه قلينا.تغني فرحة، قالوا: الآن انفضح، فما عنده علم، ما هو بنبي، وكرب رسول الله وحزن وبكى، وبعد نهاية نصف شهر جاء جبريل بسورة الضحى: ( وَالضُّحَى )[الضحى:1]، من الذي يحلف؟ ( وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى )[الضحى:2]، من الذي يحلف؟ الله. ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى )[الضحى:3]، إبطال لمزاعم أم جميل أنه قلاه ربه وتركه، ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى )[الضحى:3-4]، فإن كربت اليوم وحزنت لهذا فالآخرة خير لك، ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى )[الضحى:5]، ثم بين له تلك المواقف: ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى )[الضحى:6]؟ بلى. ( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى )[الضحى:7]، قبل أربعين سنة ما كان يعرف الله ولا الطريق إليه، ( وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى )[الضحى:8]، إذاً: ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )[الضحى:9-11]، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الله أكبر.. الله أكبر.
ثم نزلت سورة الكهف: ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى )[الكهف:13]، إلى آخر السياق في كذا آية، ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا )[الكهف:83]، فقص عليهم قصة ذي القرنين من أولها إلى آخرها، وقال تعالى في سورة الإسراء: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا )[الإسراء:85]، فعرف اليهود أنه رسول الله، وعرف المشركون أنه رسول الله، ولكن حملهم العناد وحب الدنيا والشهوات على أن يواصلوا كفرهم وعنادهم، وإلا فقد لاح الحق وتجلت حقائقه.
ونزل قول الله تعالى له: ( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )[الكهف:23-24]، إلا أن تقول: إن شاء الله، فمن ثم ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً: سأفعل كذا، سأعطي كذا إلا قال: إن شاء الله، ما قال في شيء مستقبل إلا قال: إن شاء الله، غداً -إن شاء الله- نسافر، دائماً: إن شاء الله.
ومن غريب أحوال عوامنا أن أحدهم يقول: إن شاء الله في الماضي: إن شاء الله تغديت، ويقال له: سافرت؟ فيقول: الحمد لله إن شاء الله! ويكفي أنك جئت، فـ(إن شاء الله) لا تقلها في الماضي، تقولها في المستقبل، لأصلين العشاء إن شاء الله الليلة، أما أن تقول: صلينا المغرب إن شاء الله فلا، فلو ما شاء الله لما صليت.
حرص الإسلام على تحرير الرقاب
(فَكَفَّارَتُهُ )[المائدة:89] تعرفون التكفير أم لا؟ تغطية الإثم ومسحه وإزالته، فكفارة من حلف حانثاً ( إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ )[المائدة:89]، في الزمان الأول كانت الرقاب متوافرة، الرجل عنده خمسة عبيد وعشرة كما عندهم الإبل والبقر، في العالم بأسره؛ لأن البشر كان يغزو بعضهم بعضاً ويأسر بعضهم بعضاً ويباعون في الأسواق، فلما جاءت رحمة الله للأرض بهذا الدين وهذا النبي فتح الله الباب لتحرير العبيد، فالذي حلف وحنث يعتق رقبة، الذي ظاهر من امرأته يعتق رقبة، الذي قتل مؤمناً خطأً يعتق رقبة، الذي أراد أن يكون من أولياء الله فليحرر، وهكذا فتح باب التحرير على مصراعيه.وهنا قال: ( أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ )[المائدة:89]، إن شئت أطعمت أو كسوت أو أعتقت كل ذلك جائز، اللهم إلا في حال العجز عن واحدة من الثلاث فيتعين حينئذٍ الصيام، فصيام ثلاثة أيام متتالية متتابعة أو متفرقة كله جائز، أنت وحالك، تصوم ثلاثة أيام، تمتنع عن الطعام والشراب والنكاح من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ لتمحو الإثم الذي علق بنفسك؛ لأنك حلفت أن تفعل وأنت عاجز، أو ألا تفعل وأنت عاجز، ونسيت أن الله هو على كل شيء قدير، ولم تقل: إلا أن يشاء الله، تلطخت بإثم كفارته ما وضع الله عز وجل.
ملخص لما جاء في تفسير الآية
اسمعوا الآية: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ )[المائدة:89]، بماذا؟ ( بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ )[المائدة:89]، وإذا حصل ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ )[المائدة:89]، فهمنا أن ( مِنْ أَوْسَطِ )[المائدة:89] يعني: ما هو بالعالي ولا الهابط، بل الوسط.(أَوْ كِسْوَتُهُمْ )[المائدة:89]، عرفنا الكسوة، ولكن المرأة كيف تكسوها؟ لا بد من غطاء رأسها وخمار تتخمر به والجلباب الطويل، أكثر من كسوة الرجل، الرجل طاقية أو عمامة وثوب فقط، والمرأة لا بد لها من خمار تتخمر به إذا خرجت.
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ )[المائدة:89]، فماذا يصنع؟ ( فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ )[المائدة:89]، قال تعالى: ( ذَلِكَ )[المائدة:89] الذي سمعتم ( كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ )[المائدة:89] وحنثتم أيضاً.
(وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ )[المائدة:89]، ويدل هذا على معنيين: الأول: حلفت الليلة ووجبت الكفارة فلا تنس يمينك، ما دمت حنثت فعجل بتكفير هذا الإثم ولا تنس يمينك.
ثانياً: ( وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ )[المائدة:89]، لا تكثروا من الحلف، شحوا بها وابخلوا بها حتى لا تقعوا في الإثم. ولا تعترض على الشيخ بأنه دائماً يقول: والله كذا. بعض الطلبة قالوا: هذا الشيخ يحلف بالله ويكثر من اليمين، قلنا لهم: نحن نحلف على أن هذا كلام الله أو كلام رسوله، على أن هذا أباحه الله أو منعه، ونحن أسوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحلف في أخباره: أما والله لكذا وكذا.
(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ )[المائدة:89]، أي: كهذا التبيين يبين لكم آياته الحاملة للأحكام والشرائع والآداب والقوانين والعبادات، وما زال تعالى يبين لنا، واقرأ التسعين نداء لتشاهد أحكام الله عز وجل.
والعلة في ذلك يقول: ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:89]، هذه (لعل) الإعدادية: ليعدكم بذلك لشكره؛ لأن من حلف وقال: إن شاء الله فقد شكر الله عز وجل، ومن حلف ولم يقل: إن شاء الله ثم كفر عن يمينه فقد شكر الله عز وجل، ومن أعتق رقبة في سبيل الله كفارة فقد شكر الله، ومن تصدق بطعام فقد شكر الله، ومن كسا عارياً فقد شكر الله، وهكذا هذه العبادات كلها هي شكر الله عز وجل، هكذا يعدكم لتصبحوا من الشاكرين.
ذكر الله وشكره وعبادته سر الحياة
معاشر المستمعين! لو قام أحدكم وسأل أهل المنطق والفلسفة وعلوم النفس والاجتماع والسياسة وقال: أطرح هذا السؤال على منتدى أمريكا وإيطاليا: ما هو سر هذه الحياة؟ ما علة هذا الوجود؟ والله ما عرفوا؛ لأنهم أموات غير أحياء، وكيف يعرفونها؟! وهل الميت يعرف؟ لا يعرف، كيف -يا شيخ- وهؤلاء دكاترة في علم النفس، في علم الكواكب، في الذرة، كيف تقول ذلك؟ والله! إنهم لجهلة أموات حتى يعرفوا ربهم خالقهم ومدبر حياتهم، ثم يخضعوا له ويذلوا ويحبوه ويرغبوا فيما عنده، أما وهم جاهلون بخالقهم فهل يقال: فيهم أحياء؟ هؤلاء أموات.
والآن تعودون بها إلى دياركم أنكم عرفتم سر هذه الحياة، لم خلق الله الجنة؟ لم خلق الله النار؟ لم خلق الله السماوات؟ لم خلق الله الجبال؟ لم خلق الحيوانات؟ لم خلق الآدميين؟ والجواب واحد: أراد أن يذكر ويشكر فأوجد هذا الكون ليسمع ذكره من أفواه عباده ويرى شكره في أعمالهم، ما أراد بالخلق زوجة ولا ولداً ولا منصباً ولا وجاهة ولا سلطاناً، هو غني عن هذه المخلوقات وهو خالقها، إذاً: ما السر في خلقها؟ السر أن يذكر ويشكر فقط، فلهذا من عاش على ذكر الله وشكره تحققت ولايته وأصبح من أهل دار السلام بما لا جدال فيه، ومن أعرض عن ذكر الله ونسيه وكفر بشكره على آلائه ونعمه فهو هالك مع الهالكين، وخاسر خسراناً أبدياً.
فانظر: حيث بين الله تعالى لنا هذه الأحكام ثم قال: ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:89]، يا معاشر المستمعين! إذا أكلتم فاشكروا الله، إذا شربتم فاشكروا الله، إذا صليتم فاشكروا الله، بل ادعوا الله أن يعينكم على ذكره وشكره، الرسول يقول لحبيبه: ( يا معاذ ! والله إني لأحبك، لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ).
تعريف بالشرك وبيان بعض صوره
وقد سمعتم ما قال لقمان لولده: ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )[لقمان:13]، وأنا أعرف موقناً أن من بين الحاضرين عوام وطلبة علم ما جلسوا هذه المجالس، فلا يعرفون الشرك ما هو، فسأضع أيديكم على نقاط: الحلف بغير الله شرك، الذي يقول: وحق النبي، ورأس سيدي فلان، ورأسك يا فلان أشرك بالله عز وجل.وهذا رسول الله يقول: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، ما معنى: أشرك؟ أوجد عظيماً من الخلق وأعطاه عظمة الرب وحلف به، ومن هو الأعظم والأكبر: الله أم غيره؟ الله أكبر، فكيف ترفع مخلوقاً وتحلف به تقرنه مع الله؟
وأنبه الذين يجري على لسانهم الحلف بدون قصد: والله لا نفعل، والنبي، وحق سيدي كذا، هؤلاء كفارة ذنبهم لما يقع في الحلف أن يقول: لا إله إلا الله، فإذا قلت: والنبي فقل: لا إله إلا الله تمحوها، أخبر بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما شاهد المؤمنين الجدد هذا آمن منذ أسبوع وهذا منذ سنة يحلفون كما كانوا يحلفون في الجاهلية، فقال لهم: ( من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله )، تغسلها على الفور.
فالحلف بغير الله شرك في عظمة الله، سويت مخلوقاً من مخلوقات الله بالله، على المنبر يقول صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، قالها على المنبر.
فلن يسمع الله منا بعد اليوم الحلف بالأم ولا بالرأس ولا بالكعبة ولا بالنبي ولا بالمصحف أبداً، ومن جرى على لسانه فليقل: لا إله إلا الله يمحها.
ثانياً: الذي يذبحون للأولياء في نذور على أضرحتهم، أو يقول: هذه لسيدي عبد القادر أو لسيدي مبروك أو لسيدي فلان، هذا النذر لغير الله شرك في عبادة الله، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن ينذر لغير ربه، النذر لله أن نقول: لك يا رب علي أن أصوم هذا الأسبوع إن فرجت كربي، لك علي يا رب أن أتصدق بألف في هذه الليلة إن فعلت بي كذا وكذا، هذا بينك وبين الله، أما أن تقول: يا سيدي مبروك ويا سيدي فلان لميت تدعوه وتتكلم معه فهذا -والله- لأن يذبح العبد خير من أن يقوله، يحاد الله ويعتدي على شرعه ودينه.
أما الدعاء فكأن يقف أمام الضريح: يا سيدي .. يا فلان .. يا فلان، هذا من أفضع أنواع الشرك، والله لو تقف أمام علي بن أبي طالب أو عمر بن الخطاب أو رسول الله وتدعو ألف سنة والله ما أجابك، ولا عرف عنك!
فكل من ينادي ميتاً: يا سيدي فلان! المدد أو الغوث أو كذا؛ فقد أشرك في عبادة ربه غيره ولا ذنب أعظم من هذا الذنب.
والله نسأل أن يتوب علينا قبل موتنا، من تاب تاب الله عليه، أما من مات يشرك بالله فلا نجاة له من النار، وإليكم بيان الله، يقول تعالى لرسوله: ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[الزمر:65]، ويقول تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا )[النساء:116]، فكيف نفتح أعيننا أمام المخلوقات وننسى خالقها؟! ولكن الجهل هو الذي ساقنا إلى هذا، فهيا نعود إلى قال الله وقال رسوله لننجو من هذه الفتن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
17-07-2021, 05:12 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (41)
الحلقة (352)
تفسير سورة المائدة (47)تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة ومع هذه الآيات الأربع:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )[المائدة:90-92].
هيا نتدارس هذه الآيات، معاشر المستمعين والمستمعات! من الذي نادانا بعنوان الإيمان فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:90]؟ الله. وهل يوجد تحت السماء من قال: أنا الذي ناديتكم؟ إذاً: فالله موجود، والله متكلم، والله عليم، والله حكيم، والله رحيم، فقولوا آمنا بالله.
ينادينا بعنوان الإيمان: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:90]، أي: بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً، يا من آمنتم بالله وبرسوله ولقائه، أيها الأحياء! اعلموا ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، نادانا وهو مولانا وهو ربنا وإلهنا الذي لا إله لنا غيره، وهو الذي يكلؤنا بالليل والنهار، وهو الذي إليه مصيرنا، وهو الذي نفزع إليه في حاجاتنا، ينادينا بعنوان الإيمان؛ لأننا مؤمنون والحمد لله، فيقول لنا: ( إِنَّمَا الْخَمْرُ )[المائدة:90]، هذا تعليم منه لنا؛ إذ سبق أن علمنا أن الله لا ينادينا إلا ليأمرنا بما فيه سعادتنا وكمالنا، أو لينهانا عما فيه خسراننا وشقاؤنا، أو ليبشرنا بما يزيد في إيماننا وصالح أعمالنا، أو لينذرنا ويحذرنا مما فيه هلاكنا وخسراننا، أو ليعلمنا، فهذا النداء ليعلمنا، كأنما قال: اعلموا أنما الخمر والميسر.
معنى الخمر
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ))[المائدة:90]، لبيك اللهم لبيك، قل يا ربنا نسمع، مر نطع، هذا هو استعدادنا، قال تعالى: (( إِنَّمَا الْخَمْرُ ))[المائدة:90]، ما الخمر هذه؟ لفظ الخمر شاع في الشرق والغرب وعلم بالضرورة، كل ما خامر العقل وغطاه وأصبح الإنسان يقول ما لا يفهم ويهذي في كلامه هو خمر، سواء كان لبناً أو عسلاً، كل ما خامر العقل وغطاه كالخمار على وجه المرأة يغطيه، كل ما خامر العقل وغطاه، سواء كان من أي نوع من الشراب أو الطعام فهو خمر محرم. لماذا يا ربنا تحرم الخمر؟! الجواب: وهبتكم عقولكم لتعرفوا ما يضركم وينفعكم، فتفسدون عقولكم تحدياً لنا وعدم رضاً بما أعطيناكم لتضلوا وتنتكسوا في مفاسد الحياة، كيف يتم هذا من العبد؟ الخمر: كل ما خامر العقل وغطاه وستره فأصبح صاحبه يقول ما لا يفهم ويتحرك ويعمل بما لا يقصد ولا يريد؛ لأن عقله فسد بما صب عليه من إفساد، هذه الخمر، وسواء كانت من التمر أو من الزبيب أو من العنب أو من أي مادة، عمر هنا على المنبر بين هذا، فكل ما خامر العقل وغشيه وغطاه وأصبح صاحبه لا يميز ولا يفهم، أو يخلط ويخبط، مرة يقول كذا ومرة يقول كذا؛ فهذا هو الخمرة التي حرمها الله عز وجل.
معنى الميسر
وبعد الخمر الميسر، والمراد من الميسر: ما كان من أنواع اللعب من أجل الدينار والدرهم، وهو ما يعرف بالقمار، وأندية القمار عالمية اليوم في بلاد الكفر، وأنواع الآلات -سواء كانت عظاماً أو كانت تمراً أو كانت حديداً أو خشباً- تلك الآلات التي يستعملونها في الميسر كلها ميسر وكلها حرام. وكان العرب مبتلين بالخمر والميسر؛ لفراغهم، فلما أراد الله هدايتهم حرم عليهم كل ما من شأنه أن يقعد بهم عن السمو والكمال والارتفاع، وما حرمه على العرب حرمه على العجم، حرمه على كل مؤمن ومؤمنة، سواء كانوا عجماً أو عرباً، في الأولين أو الآخرين؛ إذ الكل عبيده وهو مولاهم لا يريد لهم إلا ما يسعدهم ويكملهم، فحرم عليهم الخمر والميسر.
معاشر المستمعين! عرفتم الميسر: آلة يلعبون بها هذا يضع ريالاً وهذا ريالين، وأيهما يفوز يأخذ المال، مأخوذ من اليسر، لأنه ما عرق ولا تعب بل يشطح بيديه وعقله ويأخذ الفائدة.
وشاع في المغرب كلمة الديمنو، ولعلها فرنسية، وشاع كلمة الكيرم في المدينة، وكلمة العيدان أو ما يسمونها، كل هذه الألعاب دخلت تحت لفظ الميسر الجامع لها، عرف هذا رسول الله وأصحابه، فلا يستثنى لعبة من اللعب أبداً، حتى ولو كانت بدون ثمن، فالله ما علل بالثمن، بل علل بشيء آخر.
فهل عرف المؤمنون والمؤمنات الميسر؟ ما هو الميسر هذا؟ كل لعبة باليد أو بالرجل أو بالعقل من أجل الحصول على دينار أو درهم وأنت جالس فهو -والله- الميسر، ومن قال: نلعب الشطرنج بدون مقابل قلنا له: فالله عز وجل ما حرمه لأجل المقابل، حرمه لأجل أنه يثير العداوة بينك وبين أخيك؛ ولأنه يلهيك عن ذكر الله.
معنى الأنصاب
قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ))[المائدة:90]، لبيك اللهم لبيك، (( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ ))[المائدة:90]، جمع نصب: ما ينصب، سواء هيكل إنسان أو حيوان أو طير أو دجاجة، الأنصاب: ما ينصب من هياكل، المشركون كانوا يعبدونها ويتقربون إليها ويستشفعون بها لله عز وجل؛ لضلالهم، فحرم الإسلام الأنصاب فلا يحل شراؤها ولا بيعها ولا صنعها، والآن اتخذت في بعض بلاد الجهل والظلم والفسق بعنوان التذكار، فيوضع للزعيم أو للرئيس أو للسلطان صنم منصوب في حديقة أو في أي مكان ويقولون: هذا للذكرى، وقد حرم الله هذا، ولا يحل أبداً للمؤمنين أن يفعلوه. حتى تلك التماثيل التي تباع في الأسواق بعنوان لهو البنين أو البنات، أو لعب البنين والبنات، الصورة التي تزيد على الشبر ويكون لها شعر وعينان زرقاوان وهي في صورة بنت أو امرأة والله! لا يحل صنعها ولا بيعها ولا استيرادها، وهي من الأنصاب. إنما أذن الشارع للبنات والبنين في السنة الأولى والثانية والثالثة باللعب مما كان شبراً من عيدان أو خيوط، أما صورة كأنها امرأة بين يدي ابنتك فهذا صنم ونصب ولا يجوز أن يوجد في بيت مؤمن، ولا يحل صنعه ولا بيعه ولا شراؤه، ومن قال: لم؟ قلت: إن الله حرم الأنصاب فقال عز من قائل: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ))[المائدة:90]. فهل عرفنا الأنصاب؟ ما ينصب من تمثال للتذكار ولغيره، أو للتعظيم والتبجيل، وما يصنع الآن بشعار لعب الأطفال، فما كان له هيكل كامرأة، كفتاة بالعينين والشعر وطوله ذراع لا يحل أبداً أن يوجد في بيت مؤمن ولا مؤمنة، لعب الأطفال التي أذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانت تزيد عن الشبر، وكانت من عيدان وتلف عليها خرقة وتقول: هذه عروس، وكانت في بيت عائشة ، أما هذه الأنصاب والأصنام فلا تحل أبداً.

يتبع

ابوالوليد المسلم
17-07-2021, 05:12 AM
معنى الأزلام
(( وَالأَزْلامُ ))[المائدة:90] جمع زلم، الأزلام: عبارة عن عيدان، كانوا في الجاهلية يستقسمون بها، والأصل أنهم كانوا يرمون بها السهام، وحين تصبح غير صالحة يجمعها الرجل في خريطة أو كيس، ويجلس في زاوية الكعبة، ومن أراد أن يعرف مستقبله يأتي إليه، أراد أن يسافر إلى الشام للتجارة يقول له: اضرب لي الأزلام؛ حتى أعرف سفري أفيه ربح أو فيه خسران، فيجيلها في الخريطة ويخرج عوداً منها مكتوباً عليه: أمرني أو نهاني، كل عود مكتوب عليه أمرني أو نهاني، فإذا أجالها وخلطها وخرج العود ينظر: فإذا كان فيه (أمرني) يقول: امش، واصل سفرك أنت رابح، وإذا جاء العود (نهاني) يقول: لا خير لك في هذا السفر. والذي يريد أن يتزوج كذلك، والذي يريد أن يطلق، مقابل ثمن يعطيه، يريدون أن يطلعوا على الغيب بهذه الطريقة الإبليسية، فقال تعالى فيما حرم في أول السورة: (( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ))[المائدة:3]. وحل محل هذا ما يعرف بقرعة الأنبياء بين المسلمين في عصر جهلهم، ومثله ما يعرف بخط الرمل، يضع رملاً بين يديه ويخط عليه ويقول: تزوج أو طلق، وعند النساء يعرف أيضاً بالجزانة، امرأة كاهنة خاصة بهذه المهمة، ويستعملون حتى المسبحة، يجيل حباتها هل تأتي بالفرد أو بالزوج، وهذا نفس الاستقسام بالأزلام، كل هذا محرم بهذه الآية الكريمة، ومنه أيضاً التفاؤل، خرج على سيارته فسمع صوتاً ما هو بصالح فرجع، تطير بالصوت هذا وعدل، وقراءة الكف أيضاً، وكذلك القراءة في الفنجان. المهم: أن القرآن الكريم يذكر مسألة ولا يعدد كل ما هو واقع، ومن يقرؤه ويحفظه يستدل بواحدة على مائة، فكل ما كان يدعى فيه غلم الغيب ويظهر تحدياً لله واعتداءً على حقه فهو من هذا، الله ستر الغيب لأجلنا وأنت تريد أن تطلع عليه! وهنا مثل حسي: لو أن شخصاً ستر شيئاً تحت ثوبه، هل يجوز لك أن تأتي وتطلع عليه وتكشفه؟ أليس هذا محرماً عليك؟ فالله عز وجل -وهو علام الغيوب- غيب عنا أموراً فلا نطلع عليها أبداً، ما يجري غداً والله لا يعرفه أحد، فلم تأتي أنت وتحاول أن تكشف هذا وتعرفه؟ مع أن معرفته لن تصح ولن تكون، وإنما هو التدجيل والكذب وأخذ أموال الناس بالباطل. وأيضاً يجب ترك ذلك حياءً من الله، ما دام الله قد ستر هذا وجعله غيباً فكيف أحاول أن أكشفه وأن أعرفه؟! هذا سوء أدب مع الله، بل ظلم واعتداء.
معنى قوله تعالى: (رجس من عمل الشيطان)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ )[المائدة:90]، هذه أربعة، كلها ( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، أولاً: ( رِجْسٌ )[المائدة:90]، بمعنى: خبث، نتن، عفونة، فساد، شر.وهي ثانياً ( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، هو الذي يدعو إليها ويزينها ويحسنها ويحمل الآدميين على فعلها، فهل يرضى مؤمن أن يعمل عمل الشيطان؟
نحن نلعن الشيطان ونستعيذ بالله طول حياتنا منه، فكيف نعمل عمله ونأتيه وأنا أعلم أنه هو الذي دعاني إليه؟! الله نهاني وهو يدعوني، ( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، لأن الشيطان يريد إفساد الآدميين، لا يريد أن يسلم مؤمن وينجو من عذاب الله؛ لأنه وأولاده وذريته وأعوانه أهل خلود في النار، فلا يريدون أن ينجو إنسان ولا جان من عذاب الله، فهم يضعون هذه الشباك ليوقعوا فيها الآدميين ليفسقوا عن أمر الله ويخرجوا عن طاعته فيلعنهم كما لعن الشياطين.
فهيا نتلوا الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:90]، لبيك اللهم لبيك، ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ )[المائدة:90]، ما لها؟ ( رِجْسٌ )[المائدة:90]، كلمة (رِجس) تجعل المؤمن لا يقدم عليها، هي وسخ، قذر، ما الرجس؟ أليس الإثم والوسخ؟ الرجس: اسم يخبث النفس، الرجس وسخ يفسد العقل، يفسد البدن، ثانياً: ( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، كيف أعمل عمل الشيطان وأنا ألعنه كل يوم؟
معنى قوله تعالى: (فاجتنبوه لعلكم تفلحون)
وأخيراً يقول تعالى: ( فَاجْتَنِبُوهُ )[المائدة:90]، هذا أمر الله، فبناءً على ما علمتم أنه رجس ومن عمل الشيطان؛ إذاً: ( فَاجْتَنِبُوهُ )[المائدة:90]، ما معنى: اجتنبوه؟ أعطه جنبك لا تلتفت إليه ولا تنظر إليه، اتركوه. وإن قلت: لم يا رب؟ قال: ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:90]، أي: من أجل أن تفلحوا، والفلاح ما هو؟ النجاة من دخول النار، ثم دخول الجنة دار الأبرار، هذه -والله- هي النجاة، هذا هو الفلاح، هذا هو الفوز، دلوني على مؤمن أو مؤمنة يعرف هذا كما عرفته أنا الآن وعرفتموه أنتم معي، ثم يقدم على واحد من هذه الأربعة؟ والله ما كان، إلا إذا كان إيمانه مهزوزاً، ما هو بأصلي ثابت، بل شاك، ما استقر الإيمان بالله ولا بلقائه في نفسه.
مراحل تحريم الخمر
كان عمر رضي الله عنه يقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً. لأن الخمر ما حرمت في يوم واحد، حرمت بالتدريج في عدة آيات في البقرة وفي سورة النساء، لما حرمت في هذه السورة قال عمر : انتهينا يا ربنا.. انتهينا يا ربنا.. انتهينا يا ربنا.سأل بعض المؤمنين رسول الله عن الخمر والميسر؟ فأجاب الله بنفسه: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا )[البقرة:219] حيث يصنعون الخمر ويبيعونها، فانكمش كثيرون من المؤمنين لهذه الآية، وبقي آخرون يشربون ويلعبون؛ لأن الصيغة ما هي بصيغة تحرم.
ثم استضاف أحد الصحابة جماعة وسقاهم الخمر، وحضرت الصلاة فقام يصلي بهم وهم سكارى، فبعدما تغدوا وشربوا أقاموا الصلاة، فقالوا الباطل والمنكر، فنزلت آية النساء: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )[النساء:43]، فأصبح لا يشربها مؤمن في أوقات الصلاة، يشربونها بعد العشاء إلى قبل الفجر، يشربونها بعد صلاة الصبح إلى الظهر، أما الأوقات التي هي قريبة من الصلاة فما يشربون فيها؛ لقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ ([النساء:43] والحال أنكم ( سُكَارَى )[النساء:43]، حتى يزول ذلك الإغفاء وتعرفوا ما تقولون.
فاضطرب المسلمون أكثر، فـعمر أصبح يصيح: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:90]، فقالوا: انتهينا.
إيجاز تعريف الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
يا معشر المستمعين والمستمعات! لو سئلتم عن الميسر ما هو فماذا تقولون؟الجواب: كل لعبة بحديد، بكعاب، بخشب، يجتمع عليها اثنان أو ثلاثة فهي من الميسر، الآن يسمونها الورق، وكذلك البلوط، قل ما شئت حتى ولو كان اللعب ليس من ورائه فائدة فقد حرمه الله؛ لأنه يلهي عن ذكر الله وينهى عن الصلاة، ويوجد عداوة وبغضاء بين اللاعبين وهم المؤمنون.
وهل عرفتم الأزلام؟ هي التي تسمى قرعة النبي، وخط الرمل، وكذلك بالمسبحة، بالكف، بالكأس، كل هذه الألوان -والله- داخلة تحت كلمة الأزلام، فلا يحل لمؤمن أبداً أن يحاول أن يكشف غيب الله وما هو بقادر عليه.
وقد فتح لنا الرسول صلى الله عليه وسلم الباب الشرعي، فمن أراد أن يقدم على أمر زواج أو طلاق أو بناء أو هدم أو سفر وهو لا يعرف ما عند الله من الغيب فليصل ركعتين ويسأل الله عز وجل أن يوفقه لما فيه خيره، هذه هي صلاة الاستخارة، ما نحن في حاجة إلى كاهن ولا دجال كدانة ولا خزانة هذا طريقنا نحن، تريد أن تتزوج وما تدري هل في زواجك خير أم لا، فاستخر ربك، صل ركعتين، واخشع لله وقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن في زواجي أو طلاقي أو سفري خيراً فاقدره لي ويسره لي وأعني عليه، وإن كنت تعلم أنه لا خير لي فيه فاصرفه عني واصرفني عنه. ثم امش في عملك، فالذي تفعله هو الذي اختاره الله لك، هذه أبطل الله بها الأنصاب والأزلام وكل هذه الحيل الباطلة.
ما الأنصاب الذي حرمها الله؟ هي جمع نصب، ما ينصب من تذكار، الآن لا يعبدونها، ولكنهم صنعوها كما صنع المشركون، فلهذا لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يعلق في جدار غرفته صورة لأبيه أو أمه أو أي إنسان كان، فهذا من الأنصاب، وأهل الضلال يجعل تمثال قط أو كلب في سيارته، أو صورة طير أو كلب وراء السيارة، هذه يفعله المؤمنون والله يناديهم ويحرم عليهم الأنصاب!
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، وهل بعد هذا تقدم على مثل هذا؟ فهو أولاً: وسخ وإثم، ثانياً: ( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، فكيف يقوم المؤمن بعمله؟
ثم قال تعالى: ( فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:90]، من قال: لا أجتنبه فوالله ما أفلح، فربط فلاحنا باجتناب هذه المحرمات، والذي استباح هذه هل يبقى عنده محرم آخر؟ يستبيح كل محرم.
تفسير قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ...)
ثم قال تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ )[المائدة:91]، لا في الأزلام ولا في الأنصاب، في الخمر والميسر، يريد ماذا؟ ( أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ )[المائدة:91]، أن يوقع بين اللاعبين العداوة والبغضاء، فكم تضاربوا وتقاتلوا، وخاصة إذا كانوا يلعبون بالمال، يسب ويشتم وبعد ذلك يضربه. المهم: أن هذه الجلسة بين اثنين أو ثلاثة للعب -سواء كانت بالفلوس أو بدونها- هي من عمل الشيطان ودعوته، وعلل الله تعالى التحريم لنفهم ونفقه، قال: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ )[المائدة:91]، وكل ما يوجد عداوة بين مسلمين أو بغضاء بين مؤمنين فهو -والله*- حرام إلى يوم القيامة؛ إذ لا يحل أن يعيش المؤمنون متعادين أو متباغضين، يجب أن يعيشوا متحابين متعاونين، فكل ما من شأنه أن يحدث العداوة والبغضاء فهو حرام، حتى ولو كان كلاماً، هل يجوز أن تقول كلمة توجد بها عداوة بين الناس؟ حرام لا يحل هذا، هي فتنة أوقدت نارها.فالله عز وجل وهو ولي المؤمنين حرم عليهم هذا؛ من أجل أن يبقوا متحابين متعاونين، لم يأذن لهم بهذا؛ حتى لا يصبحوا أعداء لبعضهم؛ لأنهم يحملون راية لا إله إلا الله، فإذا تعادوا وتباغضوا نزلوا وهبطوا.
(إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ )[المائدة:91]، أتعرفون أن خير أعمالنا وأزكاها عند مليكنا وأعظمها أجراً هو ذكر الله؟ أما تعلمون أن ذكر الله كقوت للقلوب والأرواح، ما تركه أحد إلا هلك، فالشيطان يريد أن يجلس المؤمنون على طاولة اللعب ساعتين وثلاث لا يذكرون الله، ولو ذكروه لقاموا، قد تدوم الجلسة في بعض الأماكن الساعة والساعات لا يذكر فيها الله، فهل يجوز لمؤمن أن يقضي ساعات غير نائم وهو لا يذكر الله عز وجل وهو مخلوق للذكر؟ علة خلقنا ووجودنا أن نذكر الله.
(وَيَصُدَّكُمْ )[المائدة:91] يصرفكم عن شيئين عظيمين: الأول: ذكر الله الذي لا يفارقنا أبداً. والثاني: الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد رأينا وسمعنا، فهل اللاعبين حين يؤذن الأذان يقومون يصلون؟ لا يصلون.
وأخيراً يقول الجبار المعز المذل من بيده ملكوت كل شيء، يقول: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، ما إن نزلت حتى قال عمر في غير شعور: انتهينا يا ربنا.. انتهينا يا ربنا. فهذا أبلغ من كلمة: انتهوا، ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91] أم لا؟ من يتحدى ويقول: لن ننتهي ويبقي الكيرم في بيته يعبث به؟ إن المؤمنين في الشرق أو الغرب لو اجتمعوا على دراسة هذه الآية وحفظوها وفهموا معناها، فلا أشك أن هذه الأباطيل لن توجد بينهم ولن يقدم عليها أحد، وأكثر الذين وقعوا فيها وتورطوا ما عرفوا هذا، أو تلقوا فتاوى تائهة ضائعة من أهل الجهل وقالوا: ماذا في ذلك ما دام بدون فلوس ولا مال! فهل الله عز وجل حرمها لأجل الفلوس؟ أما قال: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ )[المائدة:91].
وأخيراً: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، انتهينا يا ربنا، وإن كنا ما لعبنا طول حياتنا، لكن نقول: انتهينا يا ربنا.
تفسير قوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ...)
ويقول تعالى بعد هذا: ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا )[المائدة:92]، ماذا نحذر؟ نحذر المعصية، ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )[المائدة:92]، وقد حرم الله هذه المحرمات، وبلغ هذا رسول الله، ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا )[المائدة:92]، ماذا نحذر؟ المعصية لله والرسول، المخالفة لأمر الله والرسول ونهي الله والرسول، فقوله تعالى: (واحذروا) تهديد، لو قالها عسكري أو سلطان لارتعدت الفرائص، ولكن قالها الجبار جل جلاله وعظم سلطانه.(وَاحْذَرُوا )[المائدة:92] أن تعودوا لمثل ما حرم عليكم ونهيتم عنه وبين لكم علة ذلك وسبب ذلك النهي. ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ )[المائدة:92]، أعرضتم، قلتم: ما نسمع هذا الكلام، ما نترك شيئاً عشنا عليه، ما نترك ما كانا نفعله، ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )[المائدة:92]، وقد بلغ، وأنتم الآن إن توليتم فاعلموا أننا نيابة عن رسول الله بلغناكم، وبعد ذلك أمركم إلى الله العظيم!
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )[المائدة:92]، وقد أدى ما عليه، قد بلغ وبلغكم وعرفتم، وحينئذٍ يترك الأمر للرب جل جلاله، هو الذي يبطش بالظلمة والفاسقين والمجرمين في الدنيا وفي الآخرة.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
وأخيراً أعيد تلاوة هاتين الآيتين: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:90]، لبيك اللهم لبيك، قل يا رب، ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:90]، وإن قلت: لماذا يا رب هذا؟ قال: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ )[المائدة:91]، أي: في لعبهما، ( وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، انتهينا يا ربنا، قالها عمر بأعلى صوته: انتهينا يا ربنا. ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )[المائدة:92] في كل أمر أمركم به ونهي نهاكم عنه، إذ لا يأمر إلا بما يسعد ولا ينهى إلا عما يشقي ويردي والواقع شاهد، ( وَاحْذَرُوا )[المائدة:92] المخالفة، احذروا المعصية، فإن أبيتم فقد بلغ رسول الله، ( أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )[المائدة:92].والله تعالى أسأل إذا كان بيننا من يتعاطى من هذه المحرمات الأربع أن ينجيه منها وأن يذهبها من قلبه، وأن يصرف نفسه من الآن.
وبلغوا أنتم إخوانكم، من سمع هدى أو خيراً فليبلغه، احذروا الصور في البيوت فإنها من الأنصاب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
17-07-2021, 05:13 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (42)
الحلقة (453)
تفسير سورة المائدة (48)

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
معشر الأبناء والإخوان المستمعين والمؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل إن شاء الرحمن لنا ذلك؛ رجاء أن نظفر ونفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع، وإن كنا قد درسنا بعضها فيما سبق، إليكم تلاوتها فتدبروا معانيها، وتذكروا ما سبق أن علمتم وما تعلمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:90-93].
هذا نداء من نداءات الرحمن لأهل الإيمان، وتضمن أحكام خلاصة ما نقوله قبل أن نشرع في شرح الآيات في الكتاب، فقد علمنا أن الله ما نادانا بعنوان الإيمان إلا لأننا أحياء، نسمع ونبصر، ونقدر على أن نفعل ونترك، وعلة ذلك وسره الإيمان الحق، الإيمان الصحيح بمثابة الروح، فمن عدم الإيمان كمن عدم الروح، ومن فقد روحه هل يسمع إذا ناديته، هل يفهم إذا فهمته؟ هل يطيعك فيأخذ أو يعطي؟
نادانا تعالى بقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:90]، ليعلمنا وليأمرنا وينهانا، فقال: ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ )[المائدة:90]، فيها سخط الله عز وجل، هذه الأربعة نجس وسخط لله.
تعريف الخمر والميسر والحث على اجتنابهما
والخمر: كل ما خامر العقل وغطاه وستره فأصبح صاحبه يهذي ويقول ما لا يعرف، سواء كانت من التمر أو الزبيب أو العنب أو غير ذلك، كل ما خامر العقل وغطاه وستره فأصبح المرء يقول ما لا يعلم هذا هو الخمر، ولا عبرة بمادة اشتقاقها، فالتمر والعنب من أطيب الفواكه، لكن لما يستعملونهما للخمر يصبحان خمراً.وأما الميسر: فكل الألعاب التي يتعاطاها الناس في الشرق والغرب في المقاهي والملاهي، على اختلاف أسمائها وأنواعها، هي ميسر، وسمي ميسراً من اليسر؛ لأن اللاعبين لا يتكلفون جهداً ولا طاقة، وقد يربح أحدهم الآلاف وهو جالس؛ فلهذا سموه بالميسر، ولنعلم أن الذين يقولون: ما دمنا لا نعلب على مال وإنما للتسلية وقتل الوقت وما إلى ذلك؛ هذا الكلام باطل، فالميسر وأنواع اللعب -سواء كانت بالمال أو كانت بغيره- محرمة بهذه الآية الكريمة، وحاشاه تعالى أن يأذن لعباده في اللعب، وما خلقهم ليلعبوا، أما قال تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )[الذاريات:56]، فهل يعبد الله باللعب؟
فالميسر قل ما شئت مما يلعب به الناس، في المدينة يسمونه: الكيرم، في المغرب يسمونه: الديمنو أو كذا.. وكلها ألعاب محرمة، والتحريم تسمعونه عندما تقرءون: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ )[المائدة:91]، ومن يدعي أنه في حاجة إلى ترويح نفسه فيرقص ويسرح ويدعي فهذا كله كلام باطل، اقرأ كتاب الله، اذكر الله والدار الآخرة، قف على الموتى في مقابرهم تعد إليك روحك وحياتك، جالس الطالحين وتذاكر معهم، أما هذه التي يزعمون أنها تنفس عن الروح؛ فهي -والله- خطأ وكذب وباطل، ولا تزيدهم إلا كروباً وهموماً.
قال تعالى: ( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، هو الذي يزين ويحسن ويدفع المرء إلى أن يعمل هذا الباطل، ( فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:90]، ما معنى: اجتنبوه؟ ابتعدوا عنه جانباً لا تقبلوا عليه ولا تستقبلوه؛ رجاء أن تفلحوا، وما الفلاح؟ هو الفوز، أفلح: فاز، والفوز بينه تعالى بقوله: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )[آل عمران:185]، فالفوز إذا سمعته في كتاب الله فمعناه: النجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار، هذا هو الفوز، هذا هو الفلاح.
حرص الشيطان على إيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين
ثم قال تعالى وقوله الحق: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ )[المائدة:91]، والعداوة بين المسلمين محرمة، لا تحل أبداً، من هجر أخاه فوق ثلاث ليال تعرض لغضب الله، والبغضاء: من البغض، فالمؤمنون كأنهم جسم واحد، لا عداوة ولا بغضاء؛ لأنهم حملوا راية لا إله إلا الله، فإذا تنازعوا واختلفوا وتباغضوا سقطت من أيديهم، والواقع شاهد، ما نحتاج إلى برهان، فكل ما من شأنه أن يوجد عداوة وبغضاء بين مؤمن ومؤمن حرام مطلقاً، إذ العداوة بين أولياء الله لا تصح أبداً، وكذلك البغضاء بين أولياء الله، هل ولي الله يبغض ولي الله؟! كيف يكون هذا؟!فالشيطان بتزيينه هذه المحرمات الأربعة يريد منا -والعياذ بالله تعالى- أن يشيع بيننا العداوة والبغضاء، فأين يوجد ذلك؟ قال: في الخمر والميسر، وجد إبليس فرصة لإثارة العداوة والبغضاء بين المؤمنين في تزيينه لهم الخمر والميسر، فالذي يشرب الخمر قد يسب أمه وأباه، قد يقتل، قد يفعل الفاحشة، وصاحب الميسر يغضب ويسخط ويعادي، وكم مرة يتضاربون على اللعب ويبغض بعضهم بعضاً، والله عز وجل لا يريد لأوليائه أن يتعادوا أو يتباغضوا، الشيطان عدو الله يريد ذلك، فالله برحمته ولطفه وإحسانه إلينا حذرنا من هذا الذي يوجد فتنة لنا، فلننته، لا نلعب ميسراً ولا نشرب خمراً ولا مسكراً.
سعي الشيطان في صد المؤمنين عن الذكر والصلاة
(إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ )[المائدة:91]، أسألكم بالله: هل رأيتم حلقة يلعبون ويذكرون الله: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، لا إله إلا الله، وهم يلعبون؟ لا يذكرون الله قط، فيقضون الساعتين والثلاث لا يذكرون الله بينهم، أية مصيبة أكبر من هذه؟ (وَعَنِ الصَّلاةِ )[المائدة:91]، الذين جلسوا على هذا اللعب هل يصلون إذا دقت الساعة أو نادى المنادي؟ لو دعاه أبوه أو أمه ما يترك الحلقة التي يلعب فيها، وخاصة إذا كانوا بالمال.
إذاً: بشع الله تعالى وقبح لنا هذه الأربع، فيجب أن نمتثل أمر ربنا، وألا يرانا الله عز وجل نتعاطى أو نعمل شيئاً من هذه المحرمات، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ )[المائدة:90-91]، حتى لا تذكروا الله، ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، انتهينا يا ربنا، قالها عمر بأعلى صوته لما نزلت؛ لأنه رضي الله عنه كان يتململ ما استراح، والآيات تنزل، فأول آية نزلت في سورة النحل: ( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ([النحل:67]، هذه معلنة إباحة الخمر، ) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا )[النحل:67]، ذكر تعالى هذا ليبين لهم نعمه عليهم؛ ليعبدوه ويشكروه، ثم جاءت آية البقرة المدنية فنزل فيها: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ )[البقرة:219]، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم الخمر والميسر، ( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا )[البقرة:219]، فانكمش كثيرون من المؤمنين والمؤمنات لهذا الخبر، لكن ليس صريحاً في التحريم والمنع.
وفي يوم من الأيام اجتمع جماعة على ضيافة وسقوا الخمر، فحضرت الصلاة فقام أحدهم يصلي فأخذ يقول الباطل في صلاته؛ لأنه سكران، وحصل حتى الضرب بينهم والمقاتلة، ومن ثم نزلت هذه الآية الناهية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )[النساء:43]، فأصبحوا لا يشربونها إلا بعد صلاة العشاء أو بعد صلاة الصبح إلى قبل الظهر، وأما بعد الظهر والعصر والمغرب فلا؛ لأن الصلاة قريبة، فتململ المؤمنون وعلى رأسهم عمر ، فكان يقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً. فنزلت هذه الآية، فقال: انتهينا يا ربنا.. انتهينا يا ربنا.
تعريف الأنصاب والأزلام وبيان تحريمهما
وأجمع المسلمون على تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، أتدرون ما الأنصاب؟ جمع نصب: ما ينصب من حجر أو صنم ليعبد ويقدس ويتبرك به، هذه هي الأنصاب، ويسميها المعاصرون التذكارات، النصب يسمونه: التذكار، فيجعلون للرجل صورة من حديد أو خشب لأجل الذكرى، هذه الأنصاب لا يحل صنعها، ولا يحل بيعها ولا يحل الرضا بها، ولا يحل السكوت عليها أيضاً وهي بين يديه، والحمد لله فقد نجانا الله من هذه، ولكن لفتنا النظر إلى أنهم يستقدمون أو يستوردون أصناماً، صور بالعاج أو بالساج، فتاة شعرها أصفر وعيناها زرقاوان، بيضاء كالوجه وعلى طول الذراع؛ بحجة لعبة للأطفال، فهذا لا يجوز أبداً، والملائكة لا تدخل هذا المنزل الذي فيه هذه الصورة، وحجتهم -وهم يبحثون عن كل ما يحل لهم ما يريدون- أنه على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوجد عرائس على عودين من خشب وعليهما قماش أو كذا، قالوا: هذه أجازها الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقول: نعم، ولا تزيد على الشبر، أما هذه الصورة فكأنها تنطق، بل وأصبحوا ينطقونها بالكهرباء أيضاً، ولا إخال أحداً منا يسمع ويبقى هذا في بيته.والأزلام: جمع زلم، عيدان كانوا يتطلعون بها إلى المستقبل، وشاء الله عز وجل أن توجد أزلام غير التي كانت على عهد نزول القرآن، ما يعرف بخط الرمل، اذهب إلى باريس ومر بشوارع فيها العرب تجد أصحاب خط الرمل جالسين على الطريق يطلعونك على ما تخافه أو كذا، وفي النساء امرأة يسمونها الجزانة، ويقال لها: شوافة، وفي بلادي يسمونها الجزانة، هذه يذهب إليها الرجل ويعطيها المال لتطلع على الغيب، إذا أراد أن يتزوج أو يسافر أو يبني أو يهدم ولا يدري الخير فيم يذهب إلى الشوافة أو الجزانة، وتطلعه.
ومن ذلك أيضاً ما يجعلونه بالمسبحة، يخلط حبات المسبحة فإن جاءت بالزوج أو بالفرد يقول: افعل أو لا تفعل، ويوجد غير هذا أيضاً، والكل داخل تحت كلمة: الأزلام؛ لأنه بحث عن غيب غيبه الله، فهو من شر الاعتداء على الله عز وجل، الله يستر الشيء لصالح البشر وأنت تريد أن تكشف عنه، وقلت غير ما مرة من باب الآداب: هل إذا عرفت أن فلاناً يخفي شيئاً في جيبه في حاجة إليه تأتي وتظهر ذلك؟ هذه شر إساءة وأقبحها، فالله عز وجل ستر الغيب لتنتظم الحياة وتصل إلى نهايتها، فكيف -إذاً- تحاول أن تعرف ما غيبه الله، أليست هذه حرباً على الله؟ الله يغيب ويستر وأنت تريد أن تكشف وتظهر؟! أيجوز لعبد الله أن يفعل هذا؟!
قال تعالى: ( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:90]، وبين تعالى لنا فقال: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ )[المائدة:91]، ماذا بقي لنا؟ إذا صرفنا عن ذكر الله فأصبحنا لا نذكره، وعن الصلاة فأضعناها وأهملناها؛ فما بعد هذا الإثم إثم.
وقوله تعالى: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، انتهينا يا ربنا.

يتبع

ابوالوليد المسلم
17-07-2021, 05:13 AM
الأمر بطاعة الله ورسوله والتحذير من معصيتهما
ثم قال تعالى: ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا )[المائدة:92]، هذه وصية الله في هذه القضية، ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )[المائدة:92]، فيم؟ فيما يأمرانكم وينهيانكم، الطاعة تكون في الأمر والنهي، ما أمركم بفعله فافعلوه، وما أمركم بتركه فاتركوه، ( وَاحْذَرُوا )[المائدة:92]، احذروا عواقب المعاصي فإنها شؤم وبلاء وعذاب، فالذين يعصون الله ويخرجون عن طاعته يتمزقون، يخسرون حياتهم وآخرتهم، فلو أن شخصاً ما حذر وأصر على الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، فهل سيسعد هذا؟ سيخسر خسراناً أبدياً. ثم قال تعالى: ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ )[المائدة:92]، أي: أعرضتم وما سمعتم ما أمرناكم ونهيناكم؛ إذاً: ( فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )[المائدة:92]، وقد بلغ وبين لكم.
أولاً: احذروا معصية الله ورسوله، حرم عليكم الخمر والميسر فيجب أن تجتنبوه وتتركوه، فإن أبيتم وتوليتم وأبيتم أن تستجيبوا فما على الرسول إلا البلاغ، وقد بلغ والعقوبة ستنزل عليكم.
تفسير قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ...)
ثم جاءت الأخيرة: وهي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لما نزلت هذه الآيات فحرمت الخمر تحريماً قطعياً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن إخوانه الذين ماتوا وهم يشربون الخمر قبل تحريمها، كان الأصحاب يشربون الخمر إلا من ندر، أبو بكر ما شربها ولا لعب الميسر، لكن أكثر الناس كانوا يلعبون، ثم ماتوا قبل أن ينزل التحريم، فقال أبو بكر : ما حكمهم؟ هل هو ذنب يؤاخذون به أم لا؟ فنزلت هذه الآية الأخيرة: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ )[المائدة:93] أي: إثم، ( فِيمَا طَعِمُوا )[المائدة:93]، شربوه أو أكلوه، بشرط: الإيمان والعمل الصالح، أما الكافر والفاسق والفاجر فلا شأن له في هذا الباب، لكن المؤمن التقي العامل الصالحات الذي شرب الخمر ولعب الميسر قبل أن يحرم الله ذلك، ومات قبل نزول الآية، هل عليه إثم؟ قال تعالى: لا جناح، والجناح: الإثم، من جنح إلى الشيء: إذا مال إليه، فلا جناح عليه بهذا الشرط: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:93] أولاً ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[المائدة:93] ثانياً ( جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا )[المائدة:93]، وأكد هذا بقوله: ( إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:93]، وهذا يتناول أيضاً الأحياء الذين شربوه وما ماتوا حتى حرمت، وهذا التأكيد للتكرار عجيب.أعيد الآية: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا )[المائدة:93]، بشرط: ( إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:93]، هذا يدل دلالة قطعية على أن هذه المحرمات الأربعة من أعظم الذنوب في الإسلام، وهي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وحسبنا أن يقول ربنا: ( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، فكيف تبيح لنفسك شربها أو تعاطيها أو عملها؟ ( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، وفوق ذلك: ( فَاجْتَنِبُوهُ )[المائدة:90].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
والآن أسمعكم ما جاء في الشرح لهذه الآيات الأربع. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ لما نهى الله تعالى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله تعالى لهم بين لهم ما حرمه عليهم، ودعاهم إلى تركه واجتنابه لضرره وإفساده لقلوبهم وأرواحهم ]، لأن الآيات السابقة أحلت لهم الطيبات، [ فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:90]، أي: يا من صدقتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً! اعلموا ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ )[المائدة:90]، أي: سخط وقذر مما يدعو إليه الشيطان ويزينه للنفوس ويحسنه لها لترغب فيه، وهو يهدف من وراء ذلك إلى إثارة العداوة والبغضاء بين المسلمين الذين هم كالجسم الواحد، وإلى صدهم عن ذكر الله الذي هو عصمتهم وعن الصلاة التي هي معراجهم إلى الله ربهم، وآمرتهم بالمعروف وناهيتهم عن المنكر، ثم أمرهم بأبلغ أمر وأنفذه إلى قلوبهم لخطورة هذه المحرمات الأربع وعظيم أثرها في الفرد والمجتمع بالشر والفساد فقال: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91].
وأمرهم بطاعته وطاعة رسوله وحذرهم من مغبة المعصية وآثارها السيئة فقال: ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا )[المائدة:92] مغبة ذلك ] أي: ذلك العصيان، [ ثم أعلمهم أنهم إن تولوا عن الحق بعدما عرفوه فالرسول لا يضيره توليهم ] ولا يضره ذلك [ إذ ما عليه إلا البلاغ المبين وقد بلغ، وأما هم فإن جزاءهم على توليهم سيكون جزاء الكافرين وهو الخلود في العذاب المهين. هذا معنى قوله: ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )[المائدة:92].
وقوله تعالى في الآية الأخيرة: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[المائدة:93] ] هؤلاء الذين شربوا الخمر ولعبوا الميسر قبل أن يحرم الله ذلك [ ( ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا )[المائدة:93] ]، هذا يتناول الأحياء الذين كانوا يشربونها ثم تركوها، بشرط التقوى والإيمان أيضاً والإحسان، [ ( ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:93]، فقد نزلت لقول بعض الأصحاب ] وقد روي أنه الصديق رضي الله عنه [ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ما بال الذين ماتوا من إخواننا وهم يشربون الخمر ويلعبون الميسر؟ أي: كيف حالهم، فهل يؤاخذون أو يعفى عنهم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأعلم أنهم ليس عليهم جناح -أي: إثم أو مؤاخذة- فيما شربوا وأكلوا قبل نزول التحريم بشرط أن يكونوا قد اتقوا الله في محارمه وآمنوا به وبشرائعه، وعملوا الصالحات استجابة لأمره وتقرباً إليه، فكان رفع الحرج عليهم مقيداً بما ذكر في الآية: ( إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا )[المائدة:93]، كما لا جناح على الأحياء فيما طعموا وشربوا قبل التحريم وبشرط الإيمان والعمل الصالح والتقوى لسائر المحارم، ودوام الإيمان والتقوى والإحسان في ذلك بالإخلاص لله عز وجل ].
هداية الآيات
الآن مع هداية الآيات، إذ لكل آية هداية تهدي المؤمنين إلى ما يحب الله ويرضى وإلى ما يسعدهم ويكملهم:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: حرمة الخمر والقمار، وتعظيم الأنصاب والاستقسام بالأزلام ]، كل هذه محرمة، تعظيم الأنصاب كما قدمنا كالتذكارات التي ينصبونها ويعظمونها.
[ ثانياً: وجوب الانتهاء من تعاطي هذه المحرمات فوراً، وقول: انتهينا يا ربنا كما قال عمر رضي الله عنه ]، لو أن أحداً بيننا كان يتعاطى واحدة من هذه كان عليه أن يقول: انتهيت يا رب من الليلة.
[ ثالثاً: بيان علة تحريم شرب الخمر ولعب الميسر ]، حرم هذه الأربعة لعلة، لحكمة، ليس تحريماً بلا معنى، قال: [ وهي إثارة العداوة والبغضاء بين الشاربين واللاعبين، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهما قوام حياة المسلم الروحية ]، فهذا التعليل ما بعده تعليل، فمن قال: لم؟ فهذا الجواب.
[ رابعاً: وجوب طاعة الله والرسول والحذر من معصيتهما ]، أما قال تعالى: ( وَاحْذَرُوا )[المائدة:92]؟
[ خامساً: وجوب التقوى حتى الموت ]، لا يتقي عاماً ويفجر عاماً آخر، بل يتقي الله ويواصل تقوى الله حتى يأتيه الموت وهو تقي لله.
قال: [ ووجوب الإحسان في المعتقد وفي القول والعمل ]، وجوب الإحسان في ثلاثة: في المعتقد، يكون اعتقاده سليماً صحيحاً، خالياً من الشكوك والاضطرابات والأوهام والخرافات والبدع والضلالات.
وفي قوله: يجب أن يحسن القول، فلا يقول إلا المعروف ولا يتكلم إلا بالحق، ويجعل ذلك لله هو الذي يجزيه به، وفي العمل: كل أعمالنا التعبدية الإحسان واجب فيها، الذي لا يحسن الوضوء وضوؤه باطل، ما يحسن الصلاة فصلاته باطلة، لا بد من الإحسان، والذي يحقق الإحسان لنا هو مراقبة الله عز وجل، عندما نتوضأ من الحنفية إذا ذكرنا الله عز وجل أغلقناه، والذي لا يذكرونه يتركونه يسيل حتى يتوضئوا إلى هذا الحد، تذكر الله فتخاف كيف يسيل هذا الماء الضائع؟ فمراقبة الله عز وجل أقوى العوامل على الاستقامة، واذكروا لذلك قول الله تعالى: ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ )[العنكبوت:45]، هذه مقومات الاستقامة للعبد، ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ )[العنكبوت:45]، غير ما مرة نقول: أرني مؤمناً يذكر الله ثم يسب أو يشتم، يذكر الله ويتناول المحرم فيأكله، يذكر الله ويؤذي مؤمناً بيده أو بلسانه؟ لا يفعل ذلك إلا الناسي البعيد عن ذكر الله، وأعظم من ذلك في قوله: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ )[العنكبوت:45]، هذه المراقبة، إذا علمت أن الله يعلم ما تصنع من الخير والشر، في الليل أو في النهار، إلا إذا كنت نائماً، فكل حركاتك وسكناتك الله يراها، فمن رزق هذا المراقبة لله أحسن وحقق الإحسان؛ إذ الرسول سئل عن الإحسان ما هو؟ فقال: ( أن تعبد الله كأنك تراه )، الذي ينظر إلى الله وهو يراه هل يستطيع أن يعبث في عبادته؟ هل يقدم أو يؤخر، أو يزيد أو ينقص؟ ما يستطيع، فإن عجز العبد عن هذا المقام السامي فليعبد الله وهو يعلم أن الله يراه، اعلم أن الله يراك فقط، إذا عجزت أن تعبده كأنك تراه، والذي يرى أن الله ينظر إليه -والله-يستحي، يخجل، يخاف ويرهب وما يواصل العبث أبداً، ما يرتكب الجريمة، والشيطان هو الذي يلهيهم عن ذكر الله بأية واسطة، ومن وسائط الإلهاء: اللهو واللعب، وهو مشاهد، والله تعالى نسأل أن يجنبنا هذا اللهو وهذا الباطل.
تنبيه على كذب رسالة يطلب نشرها للآخرين
معاشر المستمعين والمستمعات! قدمت لنا هذه الورقة، فإليكموها: بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله، صلوا عليه وسلموا تسليماً، يقول الكاذب أو الكاذبة: فتاة تبلغ من العمر ستة عشر عاماً مريضة جداً، الأطباء عجزوا عن علاجها، وفي ليلة القدر - ولا ندري كيف عرفتها- بكت الفتاة بشدة ونامت، وهي في منامها جاءتها السيدة زينب رضي الله عنها وأرضاها وأعطتها شربة ماء، ولما استيقظت من نومها وجدت نفسها شفيت تماماً بإذن الله، ووجدت قطعة قماش مكتوب عليها: أن تنشر هذه الرسالة وتوزعها على ثلاثة عشر فرداً، ووصلت هذه الرسالة إلى عميد بحري، فوزعها أيضاً على ثلاثة عشر فرداً فحصل على ترقية عالية في وظيفة خلال ثلاثة عشر يوماً، ووصلت إلى تاجر فأهملها فخسر كل ثروته خلال ثلاثة عشر يوماً، ووصلت إلى عامل فوزعها فحصل على ترقية، وحلت جميع مشاكله خلال ثلاثة عشر يوماً!
ويقول هذا الكاذب: أرجو منك -يا أخي المسلم- أن تقوم بنشرها وتوزيعها على ثلاثة عشر شخصاً، الرجاء عدم الإهمال، الإمضاء: أم الفتاة.
ملحوظة هامة: قالت: قمت بنشر هذه الرسالة لمجرد أنها تحتوي على (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وفقنا الله وإياكم إلى خير الأمة.
وأقول: والله! إنه لكذب.. والله! إنه لكذب.. والله! إنه لكذب، ما وقع هذا ولا يقع هذا، وهذا كله من التدجيل والكذب والعياذ بالله، فاحذروا، ومن حصل عليها فليمزقها وليلعن صاحبها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
17-07-2021, 05:14 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (43)
الحلقة (454)
تفسير سورة المائدة (49)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون والمؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي بعدها -إن شاء- الله ندرس كتاب الله عز وجل.
وها نحن مع سورة المائدة المدنية، ذات الأحكام الشرعية العديدة، بالأمس عرفنا ما حرم الله تعالى علينا من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وأمرنا بالانتهاء فقلنا: انتهينا يا ربنا، فمن كان منا يتعاطى شيئاً من هذه أعلن عن توبته؛ لأن عمر كان يقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فلما نزلت: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، قال: انتهينا يا ربنا.. انتهينا يا ربنا.
وعرفنا أن الذين شربوا الخمر ولعبوا الميسر قبل تحريمهما لا إثم عليهما بشرط أنهم مؤمنون متقون، والذين شربوها وتعاطوها بعدما نزل تحريمها هؤلاء إن تابوا تاب الله عليهم، وإن أصروا على هذا فهم فساق فجرة أمرهم إلى الله، إن شاء غفر لهم وإن شاء عذبهم.
وفي هذه الليلة مع هذه الآيات، فهيا نسمع تلاوتها متدبرين متفكرين قبل أن نتناول شرحها وتفسيرها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[المائدة:94-96]، تحشرنا الملائكة وتجمعنا لساحة القضاء وفصله.
غاية الابتلاء بالصيد
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:94]، هذا نداء الله لعباده المؤمنين، ناداهم ليعلمهم بما لم يكونوا يعلمون؛ إذ قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ )[المائدة:94]، والابتلاء الاختبار، من أجل أن تتجلى حقائق الإيمان في نفوس المؤمنين، بدون ابتلاء كل الناس يقولون: إنهم صالحون مؤمنون، فالابتلاء اختبار بأمور قد تكون صعبة على النفس، فإن حمل الإيمان صاحبه على أن يمتثل أمر الله تجلى إيمانه وصح منه، وإذا عجز ولم يمتثل أمر الله بالفعل أو الترك فإيمانه ضعيف أو مشكوك فيه، الله عز وجل قد علمنا قبل أن نكون وعلم منا الصالح والطالح والبار والفاجر، ولكن هذا الابتلاء اختبار نحن الذين نعرف حقيقته، أما الله فقد علم الصالح منا والطالح، قبل أن يخلق السماوات والأرض، إذ كتب ذلك في كتاب المقادير، ولهذا يقال: هذا علم ظهور؛ لتظهر حقيقتنا بين يدي الله والناس. وما قال: ليبلوكم الله بالصيد، قال: ( بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ )[المائدة:94]، لا بكل الصيد.والصيد: هنا مصدر صاد يصيد صيداً، وأطلق المصدر على الاسم، الصيد بمعنى: المصيد الذي صيد، ( تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ )[المائدة:94]، هنا الابتلاء على حقيقته، بحيث تتناول هذه الصيد بيديك، كالبيض وكالفراخ الصغيرة التي ما تحتاج إلى أن ترميها، تنالها بيدك، وأما الغزال والظباء وحمار الوحش فهذه كلها ما نتناولها بأيدنا، لكن الذين نتناوله بأيدينا: البيض، وصغار الغزلان، تلك الحيوانات التي بإمكانك أن تتناولها بيدك، وأخرى ما نقدر على تناولها إلا بضربها بالنبال والرماح.
(تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ )[المائدة:94]، والعلة: ( لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ )[المائدة:94]، لم شرع الله هذا وألزم المؤمنين به؟ شرعه ابتلاءً لهم ليظهر المؤمن الصادق الذي يؤمن بالله غيباً، ويظهر من لا يخاف الله بالغيب، هذه هي العلة، ( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:94]، الذي يصيد بعدما حرم الله الصيد ابتلاءً لنا وامتحاناً ( فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:94]، والله إذا قال: العذاب الأليم فهو عذاب ما يطاق، الذي يستبيح ما حرم الله كبراً وعناداً هذا انسلخ من إيمانه وإسلامه، ولهذا يذوق العذاب الأليم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ )[المائدة:94]، بعضه تناله الأيدي وبعضه تناله الرماح، ما كان من صغار الطير وفراخه وبيضه فباليد، وما كان من كبار الغزلان والظباء فلا بد من الرمح، ( لِيَعْلَمَ اللَّهُ )[المائدة:94]، هذه لام التعليل، لماذا ابتلانا بهذا الابتلاء؟ من أجل أن يعلم منا علم ظهور من يخافه بالغيب ومن لا يخافه، فمن خاف الله ولم يصد فله جزاء عمله، ومن اعتدى بعد ذلك وصاد ( فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:94].
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ...)
النداء الثاني: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:95]، الحرم: جمع حرام، فلان حرام إذا هو أحرم، والمرأة حرام والنساء حرم، ( لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:95]، أما إن كنتم حلالاً فالأمر واسع إلا ما كان من الصيد داخل الحرم، فلا يجوز صيده لا للمحل ولا للمحرم، ( وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:95]، أي: محرمون بحج أو عمرة، وسواء كنتم في الحرم أو غير الحرم حول المدينة، إذا لبى: لبيك اللهم لبيك حجاً أو عمرة؛ فلا يحل له أن يصيد حيواناً قط.
جزاء العمد في قتل الصيد
ثم قال تعالى: ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا )[المائدة:95]، فما الحكم؟ قال: ( فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ )[المائدة:95]، جزاؤه مثل ما قتل، فالغزالة يحكم فيها بالشاة، وبقرة الوحش فيها بقرة إنسية، والنعامة بالجمل والبعير، ولا بد أن يكون هناك عدلان من رجال المؤمنين هما اللذان يقدران ويحكمان، ( فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )[المائدة:95]، أي: من المؤمنين، لا يحكم في هذا كتابي ولا مشرك ولو كان أعلم منا، منكم أيها المؤمنون، ( هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )[المائدة:95]، مخيرون. (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ )[المائدة:95]، الهدي ما يهدى إلى الحرم كما قدمنا، قد يكون بقرة، قد يكون بعيراً، قد يكون شاة، هذه الأبقار أو الأغنام أو الأبعرة تبعث إلى مكة وإن كنا سقناها في طريقنا قبل مكة بكذا ميلاً، لا بد أن تساق إلى الحرم ولا يصح أن تذبح أو بغير الحرم؛ لأن رب البيت هو الذي أراد أن يكرم أهله.
(هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ )[المائدة:95]، إذا ما حصل على البعير أو البقرة أو الشاة فإنه يقدر هذا البعير بكم؟ ثم يشترى بقيمته طعاماً، والأفضل في الطعام أيضاً أن يساق إلى مكة، ( أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )[المائدة:95]، فإن عجز قدر الطعام كم صاعاً ويصوم عن كل صاع يومين، بهذا التخيير.
(هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )[المائدة:95]، ما يعد ذلك صياماً، كل نصف صاع يصوم عنه يوماً، وإذا تجاوز الستين يوماً فأكثر أهل العلم أنه يعفى عنه؛ لأن الكفارات ستون يوماً، في الظهار وفي غيره.
وقوله: ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ )[المائدة:95]، أي: كلفه الله عز وجل بما يكفر ذنبه من أجل أن يذوق وبال أمره، أي: ثقل أمره؛ لأنه محرم، والمحرم مشغول بذكر الله وبعبادة الله، فيشتغل بالصيد ويطارده ويأخذه فهذا أمر لا يطاق، فلهذا شرع الله لهم هذا الحكم الثقيل، ليذوقوا وبال أمرهم، فالمحرم في الحقيقة كالذي دخل في صلاة وإن كان يأكل أو يشرب للضرورة، لكن كونه يضحك ويلهو ويعلب ويصيد فهذا يتنافى مع الإحرام أبداً.
معنى قوله تعالى: (عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه...)
ثم قال تعالى: ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ )[المائدة:95]، الذي فعلتموه قبل هذه الآية نعفو عنكم، ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ )[المائدة:95] مضى، كما عفا عمن شربوا الخمر قبل أن تحرم، كذلك هؤلاء أعلن عن عفوه عنهم. (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )[المائدة:95]، هنا اختلف أهل العلم، فالجمهور على أنه كلما عاد فعليه الكفارة، ولو عشرين مرة، ومنهم من يقول: الآية تقول: من عاد فركب رأسه وتعمد لا تؤخذ منه كفارة، هذا يترك لله ينكل به ويعذبه؛ لقوله: ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ )[المائدة:95]، يتركونه لانتقام لله. ومنهم من يقول: يؤدي الواجب في هذه الكفارة وأمره إلى الله، وهذا أقرب إلى توبته، وإلا فقد شجعناه فيصبح يصيد الليل والنهار.
(وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )[المائدة:95]، لا يمانع فيما يريد، لا يغلب فيما يريد أن يفعل، حكيم في انتقامه وفي نفعه وضره.

يتبع

ابوالوليد المسلم
17-07-2021, 05:14 AM
تفسير قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة ...)
والآية الأخيرة: يقول تعالى: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ )[المائدة:96]، أعلن تعالى لعباده المؤمنين: أنه أحل لهم صيد البحر، فالذي يركب السفينة ويحرم من رابغ ويأتي بها إلى ميناء جدة له أن يصيد وهو راكب في البحر، ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ )[المائدة:96]، وطعام البحر: السمك والحوت وغير ذلك، والجمهور -ومذهبهم هو الحق- على أن ميتة البحر حلال، بدليل العنبر الذي أخذه الصحابة وجاءوا باللحم للرسول وأكل منه، لكن إن كان لحم حيوان مستقذر فلا، لكن إن كان سمكاً وحوتاً ميتاً على الشاطئ فهو حلال، ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ )[المائدة:96]، للمقيمين وللمسافرين على حد سواء، هذا امتنان من الله عز وجل على عباده المؤمنين، ( أُحِلَّ لَكُمْ )[المائدة:96]، من يحلل أو يحرم؟ الله عز وجل، ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ )[المائدة:96]، ما يصاد من البحار من أنواع الأسماك على اختلافها وحيوانات البحر، ( وَطَعَامُهُ )[المائدة:96]، ما يلقيه من الحيوانات ميتاً، ( مَتَاعًا لَكُمْ )[المائدة:96]، تتمتعون به، ( وَلِلسَّيَّارَةِ )[المائدة:96]، أي: المسافرين السائرين في الأرض، ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )[المائدة:96]، وحرم علينا صيد البر ما دمنا حرماً، فإذا تحللنا وأنهينا العمرة أو الحج فالصيد حلال، ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )[المائدة:96]، فإذا تحللتم بانتهاء العبادة فصيدوا إن شئتم، وكانوا يعيشون على الصيد، وكانت أقواتهم وأرزاقهم قليلة جداً، فأكثرهم يعيش على ما يصيد، وقد كان إسماعيل يترك هاجر في الكعبة ويغيب كذا يوماً، فيأتي بغزال أو بظبي، أما أن نصيد للهو فقط والعبث فهذا غير صالح، وقالت العلماء: هؤلاء الذين يخرجون للصيد للهو لا يصح أن يقصروا الصلاة ولا أن يفطروا في رمضان؛ لأن هذا السفر غير سليم ولا صحيح، أما إذا كانوا يصطادون للقوت فلا بأس، أذن الله تعالى فيه بقوله: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ )[المائدة:96]، ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )[المائدة:96]، فإن حللتم فهو حلال، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[المائدة:96]، واتقوا الله في هذه الأوامر والنواهي، لا نسمعها فنهملها ولا نبالي بها، اتقوا الله: خافوه، ومن خوفه ألا نخرج عن طاعته فيما أمر أو فيما نهى أو فيما أذن وأباح فنحرم ما أحل الله، وقوله: ( الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[المائدة:96]، تأكيد لهذا الأمر، خف الذي سوف ترجع إليه وتقف بين يديه، طال الزمان أو قصر.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
الآن نستمع إلى الشرح من الكتاب:يقول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين ]، قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:94]، ناداهم أم لا؟ [ ليعلمهم مؤكداً خبره بأنه يبلوهم اختباراً لهم؛ ليظهر المطيع من العاصي ]، فلولا هذه التكاليف فكيف سنعرف البار من الفاجر أو الصالح من الفاسد أو المؤمن من غيره؟ كل التكاليف ابتلاء وإن كانت نتائجها معروفة، العمل بها يزكي النفس ويؤهل لدار السلام، وهجرها وتركها والكفر بها يخبث النفس ويؤدي بصاحبها إلى دار البوار والهلاك.
[ فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ )[المائدة:94] ] ومن لا يخافه، فينكشف الأمر، ما إن نزلت هذه الآية حتى تجلى المؤمن من الكافر والمؤمن من المنافق، [ فحرم عليهم تعالى الصيد وهم حرم، ثم ابتلاهم بوجوده بين أيديهم بحيث تناله أيديهم ورماحهم بكل يسر وسهولة على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت ]، بنو إسرائيل حرم عليهم صيد السمك يوم السبت تحريماً كاملاً، ولما لم يستطيعوا أن يثبتوا على ما حرم الله وتجاوزوا حد الله وصادوا بالحيل مسخهم قردة وخنازير.
قال: [ على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت، فكان السمك يأتيهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا يأتيهم، كذلك بلاهم ربهم بما كانوا يفسقون ]، فلهذا لما حرم الله على المؤمنين المحرمين أصبحت الغزلان والظباء والحيوانات تدخل بين أرجلهم، كانت لا تظهر إلا في الغيران وفي الكهوف، لما حرم الله هذا أصبحت تجري أمامهم ابتلاء، أما قال: ليبلونكم؟ فبنو إسرائيل امتحنهم بترك الصيد يوم السبت، فلما حرم عليهم الصيد يوم السبت أصبح السمك يعلو ويقف ويهبط في الماء؛ حتى كانت نفوسهم تهيج، تغريهم الأسماك بنفسها، فما صبروا، واحتالوا ووضعوا الشباك ليلة السبت وأخذوها صباح الأحد، احتالوا على شرع الله عز وجل، فمسخ الله منهم قردة وخنازير. والحمد لله، فنحن ابتلانا بشيء بسيط، أولاً: في حال الإحرام فقط، والآن إحرامنا كله ساعات، أما هم فحياتهم متوقفة على السمك وأكثر معاشهم، فلما أراد أن يبتليهم ويختبرهم ومنعهم من الصيد يوم السبت أصبح يوم السبت يظهر السمك فيه بصورة عجب على سطح الماء؛ إغراءً لهم.
قال: [ بيد أن المسلمين استجابوا لربهم وامتثلوا أمره على خلاف بني إسرائيل فإنهم عصوا وصادوا فمسخهم قردة خاسئين.
وقوله تعالى: ( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:94]، أي: فمن صاد بعد هذا التحريم فله عذاب أليم ] موجع، وهو عذاب يوم القيامة، [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى.
أما الآية الثانية، وهي قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:95]، فأكد لهم تحريم الصيد وبين لهم ما يترتب على ذلك من جزاء، فقال: ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا )[المائدة:95]، فالحكم الواجب على من قتله جزاءً ( مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ )[المائدة:95]، وهى: الإبل والبقر والغنم، ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )[المائدة:95]، فالعدلان ينظران إلى الصيد وما يشبهه من النعم، فالنعامة تشبه الجمل، وبقرة الوحش تشبه البقرة، والغزال يشبه التيس وهكذا، فإن شاء من وجب عليه بعير أو بقرة أو تيس أن يسوقه إلى مكة لفقراء الحرم فليفعل، وأن شاء اشترى بثمنه طعاماً وتصدق به، وإن شاء صام بدل كل نصف صاع يوماً، لقوله تعالى: ( هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )[المائدة:95]، وقوله تعالى: ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ )[المائدة:95]، أي: ثقل جزاء مخالفته ] وهو العذاب الأليم، [ وقوله تعالى: ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ )[المائدة:95]، أي: ترك مؤاخذتكم على ما مضى ] قبل تحريم الصيد على المحرم، [وأما مستقبلاً فإنه تعالى يقول: ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )[المائدة:95] ] أمر عظيم هذا، ( وَمَنْ عَادَ )[المائدة:95] بعد ما عرف فالله ينتقم منه، وقد يصيبه البلاء في الدنيا، ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )[المائدة:95]، [ ومعناه: أنه يعاقبه على معصيته ولا يحول دون مراده تعالى حائل، ألا فاتقوه واحذروا الصيد وأنتم حرم. هذا ما دلت عليه الآية الثانية.
أما الثالثة: فقد أخبر تعالى بعد أن حرم على المؤمنين الصيد وهم حرم، وأوجب الجزاء على من صاد، أخبر أنه امتناناً منه عليهم أحل لهم صيد البحر، أي: ما يصيدونه من البحر وهم حرم، كما أحل لهم طعامه وهو ما يقذفه البحر من حيوانات ميتة على ساحله ]، والرسول يقول في البحر: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ).
وقوله: [ ( مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ )[المائدة:96]، وهم المسافرون يتزودون به في سفرهم، ويحرم عليهم صيد البر ما داموا حرماً، وأمرهم بتقواه، أي: بالخوف من عقوبته فيلزموا طاعته بفعل ما أوجب وترك ما حرم، وذكرهم بحشرهم جميعاً إليه يوم القيامة للحساب والجزاء فقال تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[المائدة:96] ].
هداية الآيات
هيا مع هداية الآيات، ونسترجع ما علمناه:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: ابتلاء الله تعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية بكثرة الصيد بين أيديهم ]، سنة ست عام الحديبية كانوا في حاجة إلى الصيد، خرجوا معتمرين فانقلب خروجهم إلى حرب، وابتلاهم فحرم عليهم الصيد، فكانت الظباء وكانت الأرانب والحيوانات تدور بين أيديهم وأرجلهم وصبروا وثبتوا.
قال: [ وحرم عليهم صيده، فامتثلوا أمر الله تعالى ولم يصيدوا فكانوا خيراً من بني إسرائيل وأفضل منهم على عهد أنبيائهم ]، إي والله.
وهنا مسألة أخرى: لو أن رجلاً أو امرأة صاد لنفسه وهو حلال وقدم لك فهل تأكل أو لا تأكل؟ الجواب: يحل لك أن تأكل، أما إذا صاده من أجلك فلا يحل لك أن تأكل، وكذلك أذا قلت: أنا لا أصيد، لكن تشير إليه تقول: اضرب الغزال عندك، فهذا لا يحل أكله؛ لأنك ساعدت على صيده، فقط إذا صاد الصائد ولا يريدك ولا يريد أن يعطيك، لكن لما حصل عليه طلبت منه طعاماً فيحل لك أن تأكل؛ لأنه ما صاد وهو محرم ولا صاده من أجلك.
[ ثانياً: تحريم الصيد على المحرم إلا صيد البحر، فإنه مباح له ]، يصيد كما شاء فإنه مباح.
[ ثالثاً: بيان جزاء من صاد وهو محرم، وأنه جزاء مثل ما قتل من النعم ]، لا بد من عدلين في القضية، حتى ولو عرفنا أن أصحاب الرسول حكموا بكذا وكذا، لابد من عدلين في قضيتك، غفلت أو استهواك الشيطان فصدت حيواناً فلا بد أن تقدم قضيتك لاثنين من عدول المؤمنين وهما يحكمان بما يعلمان، وقد عرفنا أن بقر الوحش ببقر الإنس، النعام بالإبل، الغزال والظباء بالتيس من الماعز، إلا حمام الحرام فالحمامة بشاة، العقبان والطيور الأخرى تقدر بقيمتها، إلا الحمام فالحمامة بشاة، وإذا قتل طفل حماماً الطفل غير مكلف، كيف يؤاخذ أبوه بعمل ابنه؟
نقول: إذا صاد حمامة ففيها شاة، حكم بهذا رسول الله وأصحابه، ما عدا هذه يقدره العدلان، وقد عرفنا أننا مخيرون بين أن نشتري الشاة أو البعير أو البقرة ونسوقها إلى مكة؛ ليطعمها أهل الحرم، وإن شئنا اشترينا بقيمتها طعاماً، أرزاً أو دقيقاً أو تمراً، ووزعناه على الفقراء والمساكين وفي الحرم أولى من غير الحرم، وإن شئنا صمنا بقدر كل صاع يومين، بقدر نصف الصاع يوماً، إلا إذا كانت الكمية كبيرة وتجاوزت ستين يوماً فتكتفي بالستين يوماً ويعفى عن الباقي.
وهنا حكم: وهو أن من صاد وكفر ثم عاد من جديد فهذا قد يترك لله، ولكن أكثر أهل العلم على أنه يخرج الفدية؛ لقول الله تعالى: ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ )[المائدة:95]، معناه: اتركوه لله، ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )[المائدة:95].
عرفنا أيضاً مسألة أنه: إذا أهدي إليك طعام وأنتم محرم أو في الحرم وكان فيه لحم وأنت ما أمرته به، ولا صاده من أجلك يجوز أكله، لكن إذا أشرت إليه أو شجعته أو قلت له: صد لنا كذا، فصاد من أجلك فلا يحل أكله.
ولو صدم شاة أو غزالاً بسيارته وهو محرم فلا دخل لذلك في باب ما حرم الله من أكل الصيد هنا، هذه لها جزاء كغيرها من الأشياء، إذا كان متعمداً وكانت له قدرته على أن يصرف دابته أو سيارته وقتلها فعليه الجزاء قيمتها.
قال: [ ثالثاً: بيان جزاء من صاد وهو محرم ]، أما من صاد وهو حلال فلا شيء عليه، إلا إذا كان صاد في الحرم المكي والحرم المدني، فلا يحل أبداً لمؤمن ولا مؤمنة أن يصيد في الحرم سواء كان حلالاً أو حراماً، لو تأتي غزالة على بابك وتنام على العتبة فلا يحل لك أن تطردها وأنت في المدينة أو في مكة، وجدت حيواناً تحت ظل شجرة في وادي العقيق وأنت تحتاج إلى الظل فلا يجوز أن تبعده لتجلس مكانه في الحرمين، فالحرم المكي حرمه إبراهيم بإذن الله تعالى، والحرم المدني حرمه رسول الله بإذن الله عز وجل، والمدينة حرام من عير إلى ثور، لا يختلى خلالها ولا يصاد صيدها مطلقاً. فالصيد في الحرم حرام سواء كنت محرماً أو غير محرم، الصيد في الحرمين حرام دائماً، لكن الصيد في غير الحرمين حرام عندما تكون محرماً.
[ رابعاً: وجوب التحكيم فيما صاده المحرم ]، لا يقول: أنا أعرف، ولا نحتاج إلى فلان وفلان، بل طاعة لله عز وجل وامتثالاً لأمره لا بد من اثنين يحكمان عليك، ولا بد أن تسلم بهذا، وقد تعجب مرة أحد الأصحاب من عمر فقال: أنت الحاكم وتأتي بمن يحكم!
قال: [ وجوب التحكيم فيما صاده المحرم، ولا يصح أن يكفر الصائد بنفسه ]، من نفسه يعطي البدل، لا بد من اثنين من أهل العدل يحكمان بالشاة أو بالبعير أو بكذا.
[ خامساً: صيد الحرم حرام على الحرام من الناس والحلال ]، هذا الذي قررناه، أما صيد الحل فلا يحرم إلا على المحرم فقط، من خرج وراء الحرم فله أن يصيد إذا كان غير محرم، أما وهو محرم فلا يحل له أن يصيد.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
إذاً: نستمع مرة ثانية إلى الآيات المباركات وماذا علمنا منها، وتأملوا، يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:94]، لبيك اللهم لبيك، ( لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ )[المائدة:94]، قلت لكم: في الحديبية صارت الظباء والأرانب تجري بين أيديهم، هذا هو الابتلاء، ( لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ )[المائدة:94]، أي: بعضه تناله أيديكم وبعضه تناله رماحكم، وما الحكمة في ذلك وما السر؟ قال: ( لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ )[المائدة:94]، من أجل أن يعلم الله علم ظهور لنا أن فلاناً يخاف الله، وفلاناً لا يخاف الله عز وجل، فالذي امتنع عن الصيد وهو قادر عليه هذا مؤمن، والذي ما امتثل أمر الله انكشف أيضاً ضعفه في إيمانه، ( لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:94]، من أهل العلم من يقول: لا نأخذ منه فدية، يترك لعذاب الله، لكن أكثر أهل العلم يقولون: تؤخذ منه فدية، على الأقل تخفف من ذنبه، هذا الذي يعتدي في المرة الثانية.وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:95]، بيان متى يحرم علينا الصيد، والحرم: جمع حرام، أنا حرام ما دمت محرماً، ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ )[المائدة:95]، أي: الصيد ( مُتَعَمِّدًا )[المائدة:95]، وهنا اختلفوا في الذي يصيد بغير عمد، فالجمهور على أنه عليه الجزاء متعمداً وغير متعمد؛ إذ ليس من المعقول أنه محرم يقول: لبيك اللهم لبيك ويقتل صيداً ما هو بمتعمد قتله، قد يكذب علينا يقول: ما عرفت؛ لأن حالة الإحرام تمنعه من أشياء كثيرة وهو في عبادة، فكيف يأخذ الصيد ويقول: أنا ما تعمدت؟! ( لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )[المائدة:95]، مخير بين الثلاثة؛ ( لِيَذُوقَ )[المائدة:95]، هذا الذي لزمته الكفارة، ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ )[المائدة:95]، أي: ثقل أمره، ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ )[المائدة:95]، الذي مضى قبل التحريم عفا الله عنه، ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ )[المائدة:95-96]، فقولوا: الحمد لله. حرم علينا الصيد ونحن محرمون، وأحل لنا الحوت طول العام، صيد البحر حل مطلقاً، فلا تقولوا: ضيق علينا، ما هي إلا أيام، ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )[المائدة:96]، فقط، والبَر مقابل البحر، والبِر مقابل الشر، والبُر مقابل الشعير، بالضمة والكسرة والفتحة تختلف المعاني، البَر: الصحراء، البُر: القمح، البِر: الخير، قال تعالى: ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )[المائدة:96]، فإن تحللتم فصيدوا ما شئتم أن تصيدوا، لكن ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[المائدة:96]، فيم نتقيه؟ في هذه الأوامر والنواهي، نفعل المأمور ونتخلى عن المنهي، وبذلك اتقينا الله عز وجل.
اللهم قنا عذابك.. اللهم قنا عذابك، وارض عنا يا رب إنك ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.

ابوالوليد المسلم
17-07-2021, 05:15 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (44)
الحلقة (455)
تفسير سورة المائدة (50)
امتن الله عز وجل على العرب في الجاهلية أن وفر لهم الأمن والرخاء في ديارهم وخاصة سكان الحرم من قبائل قريش، وذلك بسبب وجود البيت الحرام، والأشهر الحرم، والهدي، والقلائد، والتي كانت تقوم مقام السلطان عند العرب، وتذكير العرب بهذه الفضائل والخصائص ليعلموا أن الله عليم بكل ما ينفع عباده ويصلح أحوالهم، سواء قبل إرسال الرسل أو بعده، وأنه حين يرسل الرسل فإنما يرسلهم لتبليغ الناس مراد الله عز وجل وأمره.
تفسير قوله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليلة التي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم لنا هذا الفضل يا ذا الفضل العظيم.
وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع، فهيا نتلوها وندبر ونتفكر ثم نأخذ في شرحها وبينان مراد ربنا تعالى منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97]، أربعة، ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ * قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:97-100]، (لَعَلَّكُمْ): هذه (لعل) الإعدادية، يعدكم للفلاح.
تعريف الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد

قول ربنا: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ )[المائدة:97]، ما هي الكعبة؟ البيت الحرام. لم سميت كعبة؟ لأن العرب يسمون البناء المربع: كعبة، مع النتوء والعلو ككعب الرجل لنتوئه وظهوره، فهي كعبة لكونها مربعة البناء، وهي كعبة لكونها ناتئة وظاهرة، وقد تقدم لنا الحرم، والكعبة هي أصله، فكل ما حولها -حوالي عشرين كيلو متر غرباً وثلاثين شرقاً-كلها حرم، وهي بيت حرام لا يحل فيها باطل ولا منكر ولا ضلال ولا فساد ولا شر.(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا )[المائدة:97]، قياماً وقواماً بمعنى واحد، من قام يقوم، أي: حياة أهل مكة قائمة على أساس البيت؛ لأنه يحج ويعتمر ويأتيه الناس من الشرق والغرب، فبذلك فاز ساكنو الحرم بهذه المكرمة؛ لأنهم والوا الله في بيته، إذاً: فهو هيأ لهم سبل عيشهم ورغدهم فيه، ( قِيَامًا لِلنَّاسِ )[المائدة:97]، الذين يسكنون في الحرم، ولم يتركوا بيت الله عز وجل يعبث به العابثون أو يفسد فيه المفسدون.
(وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97] كذلك، أي: وجعل الشهر الحرام حراماً، والشهر: اسم جنس، والمراد به هنا الأشهر الأربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، هذه هي الأشهر الحرم، أشهر السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، وهي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، ثلاثة متواليات والرابع فرد، أو ثلاثة سرد والرابع فرد، والرابع هذا هو أعظم الشهور عند العرب، ويقال فيه: شهر مضر، ويقال فيه: شهر الأصم والأصب، أما كونه موصوفاً بالأصم؛ فلأنه إذا أهل هلاله لم تسمع صوتاً للسلاح، قعقعة السلاح تنتهي، فهو أصم، يعظمونه أكثر من الأشهر الأخرى، إذا أهل هلال رجب ما بقي واحد يخرج سيفه من غمده، وكونه الأصب؛ لأن الخير يصب فيه صباً، ويقال فيه: شهر الله أيضاً، هذه الثلاثة الأشهر الأربعة هي المراد من قوله تعالى: ( وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ )[المائدة:97]، من جعلها حراماً؟ الله. لماذا؟ لصالح أهل الحرم.
(وَالْهَدْيَ )[المائدة:97]، ما يهدى لبيت الله من شرق الجزيرة، من غربها، من شمالها، من جنوبها، يهدون الإبل والبقر والغنم يتوسلون بذلك إلى الله ويتقربون إليه، وإن كانوا لا يعرفونه معرفة حقيقة، لكن هكذا غرز الله في قلوبهم؛ لحكمة أرادها؛ ليعيش أهل الحرم في سعادة.
(وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97]، جمع: قلادة، والقلادة أن تأخذ قشرة من شجر الحرم وتعلقها في عنقك أو في يدك وتمشي إلى البحرين، ما إن يرى الرجل القشرة في يدك حتى يبتعد عنك، وكذلك بعيرك، ناقتك تخاف أن تسلب في الطريق فعلق عليها قلادة وامش، كل من يراها يهاب، يخاف، من طبع القلوب على هذا؟ لا يقوى على هذا إلا الله: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97]، الكل قيام للناس، والمراد من الناس: سكان الحرم، وهذه من أعظم الآيات الدالة على وجود الله، على علم الله، على حكمة الله، على رحمة الله، على قدرة الله، وهذه هي صفات الكمال التي هي صفات الرب تبارك وتعالى. هذا معنى قوله جل ذكره: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97] .
معنى قوله تعالى: (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ...)
ثم قال تعالى: ( ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[المائدة:97]، ( ذَلِكَ )[المائدة:97] فعلناه من جعل الشهر الحرام والهدي والقلائد والبيت من أجل أن تعلموا ( أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ )[المائدة:97]، فلا يخفى عليه في العوالم العلوية والسفلية شيء، ومعنى هذا: راقبوه، واحذر أن يشاهدك على معصيته، أو يراك على فسق من فسوق الناس وفجورهم، ومعنى هذا: آمنوا به واتقوا؛ لأنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض، وهو بكل شيء دق أو جل، صغر أو كبر، في أي مكان عليم، وكيف لا وهو خالقه؟ هو موجده فكيف لا يعلمه؟! هذا الذي يربي في النفس مخافة الله عز وجل، ويصبح الرجل أو المرأة دائماً يراقب الله، ما يستطيع أن يخرج عن طاعته ولو بكلمة، هذا هو التعليل الكريم: ( ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا )[المائدة:97]، أي: فعلنا ذلك ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[المائدة:97]، دق أو جل، عظم أو صغر، كون المرء يسترق نظرة والله يعلمها، ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ )[غافر:19]، أحياناً العين تريد أن تخون فتنظر إلى امرأة إلى جنبك أو أمامك فيعلم ذلك ربنا عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم)
وقال بعد ذلك: ( اعْلَمُوا )[المائدة:98] يا عباد الله علماً يقنياً، ماذا نعلم؟ ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:98]، هذا الرب العظيم، الذي خلق هذا الخلق وأدار الكون بهذه الصورة، اعلموا أنه شديد العقاب، عقابه إذا عاقب شديد ما يقدر عليه ولا يطاق، والعقاب هو العذاب المترتب على الجريمة، كالذي يأخذ من عقبه؛ إذ لا يأتي العذاب إلا بعد الجريمة، ( اعْلَمُوا )[المائدة:98]، علماً يقينياً، ( أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:98]، إذا عاقب الأمة أو الفرد أو الجماعة فعقابه شديد. هذه واحدة.والثانية: ( وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:98]، أي: إن تبتم ورجعتم إليه بعد عصيانه والفسق عن أمره تجدوه غفوراً رحيماً، وهاتان الصفتان لا توجدان إلا لله، قوة وشدة ومعفرة ورحمة، وهذا ما يعرف بالموعظة بالترغيب والترهيب، رهبنا بكلمة: ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:98]، ورغبنا بقوله: ( وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:98]، غفور لمن تاب، بهذا القيد، لا تفهم أبداً أن شخصاً يستمر على فسقه وفجوره ويموت على ذلك ويغفر له، لا يغفر إلا لمن تاب فقط، أما إذا دخل النار ومكث فيها أحقاباً واحترق فذاك شيء ثان، فأهل التوحيد لا يخلدون في النار.
إذاً: الترغيب بقوله: ( وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:98]، والترهيب في قوله: ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:98].
تفسير قوله تعالى: (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون)
قال تعالى: ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ )[المائدة:99]، ما على الرسول إلا أن يبلغ في بيان واضح تصل كلماته إلى النفوس من البلاغة، تبلغ كلماته الطيبة الحكيمة نفوس الناس في صورة حسنة، هذه مهمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا يغني ولا يفقر، لا يمرض ولا يصح، لا يعطي ولا يمنع، مهمته أن يبلغ فمن أجاب البلاغ وسار في مسلك الصالحين نجا، ومن تكبر وأعرض هلك، والرسول ليس مسئولاً عنه، ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ )[المائدة:99]، أي: التبليغ، يبلغ ماذا؟ ما أمر الله أن يحدث به الناس ويبلغه للناس، هذا فرض وهذا واجب، هذا حلال وهذا حرام، آمنوا بربكم وتقربوا إليه وتزلفوا بطاعته، هذا الذي يبلغ، أما المعاقبة والجزاء فبيد الله عز وجل، وفي هذا تخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بشر قد يحمل هماً لإعراض الناس وعدم استجابتهم وعدم هدايتهم وإقبالهم على الله، فخفف الله عنه وبين له: أن مهمتك أن تبين فقط، لا أن تهدي الناس، لا تملك هداية القلوب.(مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ )[المائدة:99]، (تُبْدُونَ): أبدى الشيء يبديه: إذا أظهره وأعلنه، وكتمه: إذا أخفاه وجحده، فالرسول مهمته البلاغ، ونحن الذين قد بلغنا الله يعلم حالنا في الظاهر والباطن، ما نعلنه ونظهره يعلمه ويحاسبنا به ويعطينا على قدره، وما نكتمه كذلك لا يخفى عليه، فهو يحاسبنا على الظاهر والباطن، ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ )[المائدة:99]، أي: ما تظهرون من أقوال أو أعمال، ( وَمَا تَكْتُمُونَ )[المائدة:99] أيضاً من نيات واعتقادات.

يتبع

ابوالوليد المسلم
17-07-2021, 05:16 AM
تفسير قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ...)
ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100]، ( قُلْ )[المائدة:100] يا رسولنا للبشرية كلها، لأمتك، ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ )[المائدة:100]، والله العظيم! ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ )[المائدة:100]، ولا يستويان أبداً، هل العمى كالبصر؟ هل المرض كالصحة؟ هل الغنى كالفقر؟ إذاً: هل العسل كالخمر؟ هل الكذب كالصدق؟ هل الخيانة كالأمانة؟ وهل العبادة والطاعة كالفسق والفجور؟ هل الكفر كالإيمان؟ الجواب: لا، مستحيل أن يستوي الخبيث والطيب، قاعدة عامة: ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100]، كلمة طيبة أحسن من ألف كلمة كذب، كأس من اللبن الحلال -والله- أفضل من برميل حرام، قرص عيش من حلال أفضل من سفرة فيها ألف نوع، قاعدة عامة: ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100].ومن الجائز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم يرى في خاطره الكافرين أغنياء، والمؤمنين فقراء ضعافاً، فأخبره ربه بهذا، إلا أن الآية عامة في البشرية كلها: ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ )[المائدة:100]، في أي زمان ومكان في أي حال من الأحوال، ( وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100]، فلا شيء لتلك الكثرة، لا قيمة لها، مليون من حرام تعاقب عليها وقد تودي بحياتك، وريال واحد تقتات به غداء أو عشاء أنفع لك من ذلك المليون، وهكذا، هذه قاعدة لا تنخرم: ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100] أيها السامع.
معنى قوله تعالى: (فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون)
وأخيراً: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ )[المائدة:100]، فاتقوا الله يا أولي العقول؛ لأن أصحاب العقول أحياء يعون ويفهمون خطاب الله، أما الذين لا لب لهم فقلوبهم ميتة فليسوا أهلاً لأن يوجه إليهم هذا الكلام، ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ )[المائدة:100]، من منكم يسأل ويقول: كيف نتقي الله؟ بم نتقي الله؟ أي: بم نتقي عذابه وغضبه ونقمته؟ هل يمكن أن نتقي الله بالبناء القوي، أو ندخل تحت الأرض في السراديب والأنفاق، أو نتحصن بالجبال؟ لا يتقى عذاب الله إلا بطاعته وطاعة رسوله، لا بجيش عرمرم، ولا قبيلة ذات شوكة وقوة، ولا أي مكان نتقي فيه عذاب الله في هذه الحياة، ما هو إلا أن نعبده بما شرع لنا أن نعبده، ما كان عقيدة اعتقدناه، وما كان أدباً تأدبنا به، وما كان عملاً قمنا به، وما حرمه علينا نجتنبه بالمرة وندبر عليه ونعرض ولا نلتفت إليه، بهذا يتقى الله.(فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ )[المائدة:100]، وإن قلت: لماذا؟ بين تعالى لأنه حكيم: ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:100]، (لعل) الإعداد، يعدكم للفلاح، وما هو الفلاح؟ هل الحصول على مجموعة من الإبل، على وظيفة سامية، على أولاد صالحين؟ الفلاح تولى الله تعالى بيانه، وهو أن يزحزح العبد عن النار ويدخل الجنة، وذلك في عرصات القيامة؛ لان من دخل النار خلد في العذاب والشقاء، ومن أراد أن يتحسس فليأت بالنار وليدخل أصبعه فيها فقط، هذا عالم كامل كله جحيم، ومن شك أو ارتاب فهذه الشمس الكوكب المضيء النهاري، هذا الكوكب أهل الأرض قالوا: إنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، كله نار، من أوجد ناره؟ وها نحن نستدفئ بهذه الحرارة وتشتد علينا بالصيف عندما تميل، هذه الشمس لو تجمع البشرية كلها وتوضع فيها فلن تسد زاوية من زواياها، فكيف بالعالم الآخر بعدما يتقشع هذا العالم بكامله ويأتي العالم الآخر يخلد فيه المرء خلوداً أبدياً إذا مات على الشرك والكفر والعياذ بالله، فالفلاح: الفوز. والفوز ما هو؟ هل بالربح في التجارة أو في الولد أو الوظيفة؟ لا، قال: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )[آل عمران:185]، حقاً، ( وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ )[آل عمران:185]، أيها العاملون! كل واحد منا عامل، فمتى نتسلم أجورنا؟ يوم القيامة، اعمل الآن ليل ونهاراً بصيام وقيام وجهاد ورباط ولا تطلب أجراً، الأجر ما هو هنا، الجزاء يوم القيامة، فلهذا تعيش فقيراً وأنت من أولياء الله، تعيش مريضاً وأنت من أبر أولياء الله؛ لأن الجزاء على عملك هذا التعبدي ما هو في الدنيا، قال تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )[آل عمران:185]، ما هذه الأجور؟ قال: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )[آل عمران:185]. اللهم اجعلنا من الفائزين.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
والآن نعود إلى الآيات في الشرح؛ لنزداد معرفة وعلماً، وتأملوا. قال المؤلف غفر الله له ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ قوله تعالى: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ )[المائدة:97]، المراد من الناس العرب في جاهليتهم قبل الإسلام، ومعنى:(قِيَامًا): أن مصالحهم قائمة على وجود البيت يحج ويعتمر، يأمن الآتي إليه والداخل في حرمه ]، يخرج من نجد، فما دام قصده إلى الحج وقد جعل علامة لا يعترضه أحد، الأشهر الحرم تتجول فيها بناقتك بإبلك بطعامك بتجارتك في كل مكان لا يعترضك أحد، لكن إذا كنت في شهر غير حرام فاللصوص والمجرمون والمتربصون قل من يسلم منهم، ينزلونك من فوق ناقتك ويأخذونها؛ لأنه لا حكم ولا دولة ولا سلطان أبداً، ولا قانون ولا شرع، ولكن تدبير الله عز وجل أوجد هذه الهدنة في أربعة أشهر ثلث سنة، لصالح العرب، لو كان لهم دولة أو سلطان فالسلطان يقيم حدود الله ويؤدب من خرج عن طاعة الله، لكن لا دولة ولا سلطان، بل همج، هذا الأمن لن تستطيع الأمم المتحدة أن تحققه، والله ما تقدر عليه بكل ما لديها من آلات، والله عز وجل حققه بما ألقى في روح الإنسان في هذه الديار.
قال: [ المراد من الناس العرب في جاهليتهم قبل الإسلام، ومعنى (قِيَامًا): أن مصالحهم قائمة على وجود البيت يحج ويعتمر، يأمن الآتي إليه والداخل في حرمه، وكذا الشهر الحرام، وهي أربعة أشهر: القعدة والحجة ومحرم ورجب، وكذا الهدي: وهو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام، وكذا القلائد: جمع قلادة، وهي ما يقلده الهدي إشعاراً بأنه مهدى إلى الحرم، وكذا ما يقلده الذاهب إلى الحرم نفسه من لحاء الحرم إعلاماً بأنه آتٍ من الحرم أو ذاهب إليه، فهذه الأربعة: البيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد كانت تقوم مقام السلطان بين العرب ] تقوم مقام الدولة والسلطان بين العرب، [ فتحقق الأمن والرخاء في ديارهم وخاصة سكان الحرم من قبائل قريش، فهذا من تدبير الله تعالى لعباده، وهو دال على علمه وقدرته وحكمته ورحمته، ولذا قال تعالى: ( ذَلِكَ )[المائدة:97] ] أي: فعلنا ذلك [ ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[المائدة:97]، أي: حقق ذلك الأمن والرخاء في وقت لا دولة لكم فيه ولا نظام؛ ليعلمكم أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سائر الكائنات وشتى المخلوقات لا يخفى عليه من أمرها شيء، وأنه بكل شيء عليم، فهو الإله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه فاعبدوه وتوكلوا عليه واتركوا عبادة غيره والنظر إلى سواه، وإن لم تفعلوا فسوف يعاقبكم بذلك أشد العقوبة وأقساها، فإنه عز وجل شديد العقاب فاعلموا ذلك واتقوه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى والثانية.
أما الآية الثالثة فقد أكدت مضمون قوله تعالى في الآية الثانية: ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:98]، وهو وعيد شديد، فقال تعالى: ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ )[المائدة:99]، وقد بلغ، فأنذر وأعذر، وبقي الأمر إليكم إن أنبتم، أي: رجعتم إلى ربكم وأطعتموه فإنه يغفر لكم ويرحمكم؛ لأنه غفور رحيم، وإن أعرضتم وعصيتم فإنه يعلم ذلك منكم ويؤاخذكم به ويعاقبكم عليه وهو شديد العقاب. وقوله: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ )[المائدة:99] وعد ووعيد؛ لأن علمه تعالى بالظواهر والبواطن يترتب عليه الجزاء، فإن كان العمل خيراً كان الجزاء خيراً، وإن كان العمل شراً كان الجزاء كذلك، هذا مضمون الآية الثالثة.
أما الرابعة: فإنه تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ )[المائدة:100] للناس: أيها الناس! إنه ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ )[المائدة:100] من المعتقدات والأقوال والأعمال والرجال والأموال ( وَالطَّيِّبُ )[المائدة:100] منها]، وقد بينا الطيب والخبيث حتى في الثوب تلبسه.
قال: [ ولو أعجبتكم -أي: سرتكم- كثرة الخبيث، فإن العبرة ليست بالكثرة والقلة وإنما هي بالطيب النافع غير الضار ولو كان قليلاً، وعليه: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ )[المائدة:100]، أي: خافوه فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه؛ رجاء حصول الفلاح لكم بالنجاة من المرهوب والحصول على المرغوب المحبوب ] في أمور الدنيا والآخرة، وفي الآخرة النجاة من النار والحصول على الجنة.
مرة ثانية أقرأ عليكم الآيات: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97]، لم؟ ( ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُوا )[المائدة:97-98]، ماذا نعلم؟ ( أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ )[المائدة:98-99]، والذي يعلم يجزي بحسب علمه، ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100]، والله لريال حلال خير من ألف حرام، ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:100]، من أراد أن يفلح فليتق الله، أي: لا يعصي الله، فعدم المعصية هو الذي يزكي نفسه ويطهرها، الطاعة تزكي، والمعصية تفسد وتخبث، فمن مات ونفسه زكية قد أفلح، ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10].
هداية الآيات
مع هداية هذه الآيات الأربع فتأملوها.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: بيان عظيم تدبير الله تعالى لخلقه؛ إذ أمن مصالح قريش والعرب فأوجد لهم أمناً واستقراراً، وتبع ذلك هناء عيش وطيب حياة بما ألقى في قلوب عباده من احترام وتعظيم للبيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد، الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الله ]، قلت: والله! لا تقدر عليه الأمم المتحدة مهما كانت تملك من الآلات.
[ ثانياً: بيان مسئولية الرسول إزاء الناس وأنها البلاغ لا غير ]، ما هو بمسئول عن كفر فلان ولا عن ضلال فلان، ما هو إلا مبلغ، وهكذا كل دعاة الأمة ما هم بمسئولين عمن ارتد ولا من فسق، عليهم أن يبينوا الطريق الموصل إلى الله، من سلكه نجا ومن أعرض عنه هلك، ولا يسألون: لماذا ما دخل الناس في دين الله أفواجاً؟
[ بيان مسئولية الرسول إزاء الناس وأنها البلاغ لا غير، وقد بلغ صلى الله عليه وسلم ]، من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ )[المائدة:99].
[ ثالثاً: تقرير الحكمة القائلة: العبرة بالكيف لا بالكم ]، العبرة بالكيفية، أما العدد فلا قيمة له، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100]، المثل يقول: العبرة بالكيف لا بالكم، بالكيفية لا بالعدد.
قال: [ تقرير الحكمة القائلة: العبرة بالكيف لا بالكم، فمؤمن واحد أنفع من عشرة كفرة، ودرهم حلال خير من عشرة حرام، وركعتان متقبلتان خير من عشر لا تقبل ]، فأبو بكر الصديق صاحب الرسول وحبه أفضل من مليون كافر، ودرهم حلال خير من عشرة بل خير من ألف حرام، وركعتان متقبلتان -لأن العبد أحسن أداءهما وأخلص فيهما لله- خير من عشر لا تقبل، ما أخلص فيها أو ما أحسن أداءها.
[ رابعاً: الأمر بالتقوى رجاء فلاح المتقين ]، أمر الله بالتقوى رجاء لفلاح المتقين، ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:100].
والله تعالى أسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، وأن يرزقنا العلم والعمل.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.

ابوالوليد المسلم
23-07-2021, 04:58 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة التوبة - (6)
الحلقة (456)
تفسير سورة التوبة مدنية
المجلد الثانى (صـــــــ 362الى صــــ 368)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
شرح الكلمات:
بالباطل: أي بدون حق أباح لهم أكلها.
ويصدون عن سبيل الله: أي يصرفون أنفسهم وغيرهم عن الإسلام الذي هو السبيل؟ المفضي بالعبد إلى رضوان الله تعالى.
يكنزون: يجمعون المال ويدفنونه حفاظاً عليه ولا يؤدون حقه.
الذهب والفضة: هما النقدان المعروفان.
في سبيل الله: أي حيث رضا الله كالجهاد وإطعام الفقراء والمساكين.
فبشرهم: أي أخبرهم بعذاب أليم: أي موجع.
يحمى عليها: لأنها تحول إلى صفائح ويحمى عليها ثم تكوى بها جباههم.
هذا ما كنزتم: أي يقال لهم عند كيهم بها: هذا ما كنزتم لأنفسكم توبيخاً لهم وتقريعاً.
معنى الآيتين:
بمناسبة ذكر عداء اليهود والنصارى للإسلام والمسلمين، وأنهم يريدون دوماً وأبداً
إطفاء نور الله بأفواههم، ذكر تعالى ما هو إشارة واضحة إلى أنهم ماديون لا همّ لهم إلا المال والرئاسة فأخبر المسلمين فقال {يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار} 1 وهم علماء اليهود {والرهبان} وهم رجال الكنائس من النصارى {ليأكلون أموال الناس بالباطل} كالرشوة، وكتابة صكوك الغفران يبيعونها للسفلة منهم، إلى غير ذلك من الحيل باسم2 الدين، وقوله تعالى عنهم {ويصدون عن3 سبيل الله} دليل واضح على أنهم يحاربون الإسلام باستمرار للإبقاء على مناصبهم الدينية يعيشون عليها يترأسون بها على السفلة والعوام من اليهود والنصارى، وقوله تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة} 4 لفظ5 عام يشمل الأحبار والرهبان وغيرهم من سائر الناس من المسلمين ومن أهل الكتاب إلا أن الرهبان والأحبار يتناولهم اللفظ أولاً، لأن من يأكل أموال الناس بالباطل ويصد عن سبيل الله أقرب إلى أن يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله، وقوله تعالى لرسوله {فبشرهم بعذاب أليم} أي أخبرهم معجلاً لهم الخبر في صورة بشارة، وبين نوع العذاب الأليم بقوله {يوم يحمى عليها} أي صفائح الذهب والفضة بعد تحويلها إلى صفائح {في نار جهنم} فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} أي من كل الجهات الأربع من أمام ومن خلف وعن يمين وعن شمال ويقال لهم تهكماً بهم وازدراء لهم وهو نوع عذاب أشد على النفس من عذاب الجسم (هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان حقيقة علماء اليهود والنصارى، وهي أنهم ماديون باعوا آخرتهم بدنياهم يحاربون الإسلام ويصدون عنه للمحافظة على الرئاسة وللأكل على حساب الإسلام.
2- حرمة أكل أموال الناس بالباطل.
3- حرمة جمع المال وكنزه وعدم الإنفاق منه.
4- المال الذي تؤدى زكاته كل حول لا يقال له كنز ولو دفن تحت الأرض.
5- بيان عقوبة من يكنز المال ولا ينفق منه في سبيل الله وهي عقوبة شديدة.
__________
1 الآية نزلت في أهل الكتاب كشفاً عن عوراتهم المادية، وأما قوله تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة..} الخ فهو حكم عام يشمل المسلمين وأهل الكتاب.
2 قيل كانوا يأخذون من غلات أتباعهم ومن أموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع، وقلدهم الروافض، فإن أئمتهم يأخذون منهم ضرائب هي خمس دخل كل فرد من أي جهة كان هذا الدخل أخبرني بهذا أحد رجالهم في الكويت.
3 من صدّهم عن سبيل الله إنهم كانوا يمنعون أتباعهم من الدخول في الإسلام ومن أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4 دلت الآية على زكاة العين: الذهب والفضة وهي تجب بأربعة شروط الحرية، والإسلام، والحول، والنصاب السليم من الدين، والنصاب مائتا درهم فضة أو عشرون ديناراً من الذهب، ويكمل أحدهما من الآخر، ومن السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول" رواه أبو داود. وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس في أقل من مائتي درهم زكاة، وليس في أقل من عشرين ديناراً زكاة" في الصحيح.
5 روى أبو داود عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {والذين يكنزون الذهب والفضة} قال كبر ذلك على المسلمين فقال عمر: أنا أفرج عنكم فانطلق قال: يا نبي الله إنه كبُر على أصحابك هذه الآية، فقال: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب ما بقى من أموالكم وإنما فرض المواريث في أموالكم لتكون لمن بعدكم فكبّر عمر فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء: المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته".
**************************************


يتبع

ابوالوليد المسلم
23-07-2021, 04:58 AM
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
شرح الكلمات:
عدة: أي عدد.
الشهور1: جمع شهر والشهر تسعة وعشرون يوماً، أو ثلاثون يوماً
في كتاب الله: أي كتاب المقادير: اللوح المحفوظ.
أربعة حرم: هي رجب، والقعدة، والحجة، ومحرم، الواحد منها حرام والجمع حرم.
الدين القيم 2: أي الشرع المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.
فلا تظلموا فيهن أنفسكم: أي لا ترتكبوا في الأشهر الحرم المعاصي فإنها أشد حرمة.
كافة: أي جميعاً وفي كل الشهور حلالها وحرامها.
مع المتقين: أي بالتأييد والنصّر، والمتقون هم الذين لا يعصون الله تعالى.
إنما النسيء: أي تأخير حرمة شهر المحرم إلى صفر.
يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً: أي النسيء عاماً يحلونه وعاماً يحرمونه.
ليواطئوا عدة ما حرم الله: أي ليوافقوا عدد الشهور المحرمة وهي أربعة.
زين لهم سوء عملهم: أي زين لهم الشيطان هذا التأخير للشهر الحرام وهو عمل سيء لأنه إفتيات على الشارع واحتيال على تحليل الحرام.
معنى الآيتين:
عاد السياق للحديث على المشركين بعد ذلك الاعتراض الذي كان للحديث عن أهل الكتاب فقال تعالى {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً} لا تزيد ولا تنقص، وأنها هكذا في اللوح المحفوظ {يوم خلق السموات والأرض} 3. وأن منها أربعة أشهر حرم أي محرمات وهي رجب، والقعدة والحجة ومحرم، وحرمها الله تعالى أي حرم القتال فيها لتكون هدنة يتمكن العرب معها من السفر للتجارة وللحج والعمرة ولا يخافون أحداً، ولما
جاء الإسلام وأعز الله أهله، نسخ حرمة القتال فيها. وقوله تعالى (ذلك الدين القيّم} أي تحريم هذه الأشهر واحترامها بعدم القتال فيها هو الشرع المستقيم وقوله تعالى {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} أي لا ترتكبوا الذنوب والمعاصي في الأشهر الحرم فإن ذلك يوجب غضب الله تعالى وسخطه عليكم فلا تعرضوا أنفسكم له، وقوله تعالى {وقاتلوا المشركين} هذا خطاب للمؤمنين يأمرهم تعالى بقتال المشركين بعد انتهاء المدة التي جعلت لهم وهي أربعة أشهر وقوله {كافة} 4 أي جميعاً لا يتأخر منكم أحد كما هم يقاتلونكم مجتمعين على قتالكم فاجتعموا أنتم على قتالهم، وقوله {واعلموا أن الله مع المتقين} وهم الذين اتقوا الشرك والمعاصي ومعناه أن الله معكم بنصره وتأييده على المشركين العصاة وقوله عز وجل {إنما النسيء5 زيادة في الكفر} أي إنما تأخير حرمة محرم إلى صفر كما يفعل أهل الجاهلية ليستبيحوا القتال في الشهر الحرام بهذه الفُتيا الشيطانية هذا التأخير زيادة في كفر الكافرين6، لأنه محاربة لشرع الله وهي كفر قطعاً لقوله تعالى {يضل به الذين كفروا} آي بالنسيء يزدادون ضلالاً فوق ضلالهم. وقوله {يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً} يعني النسيء وهو الشهر الذي أخروه أي أخروا حرمته إلى الشهر الذي بعده ليتمكنوا من القتال في الشهر الحرام، فعاماً يحلون وعاماً يحرمون حتى يوافقوا عدة الأشهر الحُرُم، بلا زيادة ولا نقصان، ظناً منهم أنهم ما عصوا مستترين بهذه الفتيا الإبليسية كما قال تعالى {زين لهم سوء أعمالهم} والمزين للباطل قطعاً هو الشيطان. وقوله تعالى {والله لا يهدى القوم الكافرين} يخبر تعالى أنه عز وجل لا يهدي القوم الكافرين لما هو الحق والخير وذلك عقوبة لهم على كفرهم به وبرسوله، وإصرارهم على ذلك.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان أن شهور السنة الهجرية اثنا عشر شهراً7 وأيامها ثلثمائة8 وخمسة وخمسون يوماً.
2- بيان أن الأشهر الحرم أربعة وقد بينها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي رجب، والقعدة والحجة ومحرم.
3- حرمة الأشهر االحرم، ومضاعفة السيآت فيها أي قبح الذنوب فيها.
4- صفة المعيّة لله تعالى وهي معية خاصة بالنصر والتأييد لأهل تقواه.
5- حرمة الاحتيال على9 الشرع بالفتاوى الباطلة لإحلال الحرام، وأن هذا الاحتيال ما هو إلا زيادة في الإثم.
6- تزيين الباطل وتحسين المنكر من الشيطان.
7- حرمان أهل الكفر والفسق من هداية الله تعالى وتوفيقه لما هو حق وخير حالاً ومآلاً.
__________
1 المراد بالشهور: ما تتألف منه السنة القمرية، واحدها: شهر، مشتق من الشهرة سميت به الأيام من أوّل ظهور الهلال إلى سراره.
2 أي: الصحيح، والإشارة في قوله: {ذاك الدين القيّم} إلى عدة الشهور، وتقسيمها إلى حُرم وغيرها وإلى عدم ارتكاب الذنوب فيها.
3 قوله: {يوم خلق السموات والأرض..} قاله ليبيّن أن قضاء وقدره كان قبل ذلك وأنه سبحانه وتعالى وضع هذه الشهور وسمّاها بأسمائها يوم خلق السماوات والأرض.
4 كافة: معناه جميعاً، وهو مصدر في موضع الحال أي: محيطين بهم ومجتمعين. قالوا: نظير كافة: في كونه لا يبني ولا يجمع: عاقبة وعامة وخاصة.
5 قرأ الجمهور: {النسيء} مهموزاً وقرأ ورش: {النسيّ} بالياء المشددة، وهو فعيل بمعنى مفعول في قولك: نسأت الشيء أنسأه إذا أخّرته، فنقل من منسوء إلى نسيء كما نقل مفتول إلى فتيل لأنّه أخف، وأصل هذا التشريع الجاهلي: أنّ العرب قبل الإسلام كانوا أهل حروب فإذا احتاجوا إلى القتال في الشهر الحرام طلبوا من زعيمهم أن ينسيء المحرّم أي: يؤخره إلى صفر حتى يمكنهم الحرب في المحرم بعد الحج وما زالوا يؤخرون ويقدمون حتى اختلطت الشهور وأصبح رجب جمادى ورمضان شوال وهكذا، ودارت الشهور دورتها، وفي عام حجة الوداع أعلن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك بقوله: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" يريد أن الشهور قد رجعت إلى مواضعها، وأصبح كل شهر في موضعه فوقع حجّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في موضعه.
6 إذ كفروا بالشرك وإنكار المعاد وتكذيب الرسل، ونسبة الولد لله تعالى ثم بالنسيء ازدادوا كفراً.
7 وهي: محرم ويجمع على محرمات ومحارم ومحاريم، وصفر ويجمع على أصفار وربيع الأول ويجمع على أربعاء وأربعة وربيع الثاني وجمادى الأولى ويجمع على جُماديات وتذكر وتؤنث فيقال: الأولى والأول، وجمادى الآخرة والآخر، ورجب ويجمع على أرجاب ورجاب، وشعبان ويجمع على شعابين وشعبانات، ورمضان ويجمع على رمضانات، ورماضين وأرمضة وشوال ويجمع على شواول وشواويل وشوالات، القعدة ويجمع على ذوات القعدة والحِجة بكسر الحاء وفتحها ويجمع على ذوات الحجة.
8 وهي: الأحد ويجمع على آحاد وأوحاد ووحود، والاثنين ويجمع على أثانين، والثلاثاء يذكر ويؤنث ويجمع على ثلاثاوات وأثالث والأربعاء ويجمع على أربعاوات وأرابيع، والخميس ويجمع على أخمسة وأخامس، والجمعة بضم الميم وإسكانها وفتحها ويجمع على جمع وجمعات، والسبت ويجمع على سبوت كفتح وفتوح وأسبات كقمع وأقماع.
9 اختلف فيمن كان أوّل من نسأ فقيل عمرو بن لحي، وقيل: رجل من كنانة يقال له القلمّس قال شاعرهم:
ومنا ناسىء الشهر القلمّس
وقال الكميت:
ألسنا الناسئين على معد ...
شهور الحل نجعلها حراما

ابوالوليد المسلم
23-07-2021, 05:00 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة التوبة - (7)
الحلقة (457)
تفسير سورة التوبة مدنية
المجلد الثانى (صـــــــ 368الى صــــ 372)


يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
شرح الكلمات:
مالكم؟ 1: أي أي شيء ثبت لكم من الأعذار.
انفروا: أي اخرجوا مستعجلين مندفعين.
اثاقلتم: أي تباطأتم كأنكم تحملون أثقالاً.
إلا تنصروه.: أي الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثاني اثنين: أي هو وأبو بكر رضي الله عنه.
في الغار: غار ثور أي في جبل يقال له ثور بمكة.
لصاحبه: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
سكينتهُ: أي طمأنينته.
كلمة الذين كفروا: هي الدعوة إلى الشرك.
السفلى: أي مغلوبة هابطة لا يسمع لها صوت.
وكلمة الله هي العليا: أي دعوة التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله" هي العليا الغالبة الظاهرة.
معنى الآيات:
هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك فقد بلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هرقل ملك الروم قد جمع جموعه لحرب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعلن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التعبئة العامة، وكان الزمن صيفاً حاراً وبالبلاد جدب ومجاعة، وكان ذلك في شوال من سنة تسع، وسميت هذه الغزوة بغزوة العسرة فاستحثَّ الربّ تبارك وتعالى المؤمنين ليخرجوا مع نبيهم لقتال أعدائه الذين عزموا على غزوه في عقر داره فأنزل تعالى قوله {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله} والقائل هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {انفروا في سبيل الله} أي اخرجوا للجهاد {في سبيل الله} أي لأجل رضاه سبحانه وتعالى وما عنده من نعيم مقيم. وقوله {مالكم} أي أي شيء يجعلكم لا تنفرون؟ وأنتم المؤمنون طلاب الكمال والإسعاد في الدارين. وقوله {اثاقلتم إلى الأرض} 2 أي تباطأتم عن الخروج راضين ببقائكم في دوركم وبلادكم. {أرضيتم بالحياة الدنيا من3 الآخرة؟} ينكر تعالى على من هذه حاله منهم، ثم يقول لهم {فما متاع الحياة الدنيا} أي ما كل ما يوجد فيها من متع على اختلافها بالنسبة إلى ما في الآخرة من نعيم مقيم في جوار رب العالمين {إلا قليل} تافه لا قيمة له؛ فكيف تؤثرون القليل على الكثير والفاني على الباقي. ثم قال لهم {إلاّ تنفروا} أي إن تخليتم عن نصرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتركتموه يخرج إلى قتال الروم وحده {يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم4 ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير} . وفي هذا الخبر وعيد شديد اهتزت له قلوب المؤمنين.
وقوله تعالى {إلا تنصروه} 5 أي إن خذلتموه ولم تخرجوا معه في هذا الظرف الصعب فقد نصره الله تعالى في ظرف أصعب منه نصره في الوقت الذي أخرجه الذين كفروا {ثاني اثنين} 6 أي هو وأبو بكر لا غير، {إذ هما في الغار} أي غار ثور، {إذ يقول لصاحبه} : لما قال لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا يا رسول الله، {لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه} فسكنت نفسه واطمأن وذهب الخوف من قلبه7، {وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا} وهي دعوتهم إلى الشرك جعلها {السفلى} مغلوبة هابطة {وكلمة الله} كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله {هي العليا} الغالبة الظاهرة {والله عزيز} غالب8 لا يغالب {حكيم} في تصرفه وتدبيره، ينصر من أراد نصره بلا ممانع ويهزم من أراد هزيمته بلا مغالب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الخروج إلى الجهاد إذا دعا الإمام بالدعوة العامة وهو ما يعرف بالتعبئة العامة أو النفير العام.
2- يجب أن يكون النفير في سبيل الله لا في سبيلٍ غير سبيله تعالى.
3- بيان حقارة الدنيا وضآلتها أمام الآخرة.
4- وجوب نصرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دينه في أمته في سنته.
5- شرف أبي بكر الصديق وبيان فضله.
6- الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
__________
1(ما) : حرف استفهام ومعناه التقرير والتوبيخ.
2 أصل {اثاقلتم} : تثاقلتم فأدغمت التاء في الثاء لقرب مخرجهما وزيدت همزة الوصل للتوصل إلى النطق بالساكن ومثله: اداركوا وادّارأتم، واطيرنا، وازينت.
3 أي: أرضيتم بنعيم الدنيا وراحتها بدلاً من نعيم الآخرة وسعادتها.
4 أي: لا يقعدون عند استنفارهم للجهاد والخروج معه، وأنتم بتخلفكم لا تضرونه شيئاً، في الآية دليل على حرمة التثاقل عن الجهاد إذا كان مع كراهته ولا حرمة مع عدم الكراهة إلاّ أن يعيّنه الإمام فيجب.
5 أصلها إن الشرطية أدغمت فيها لا النافية، والآية تحمل عتاباً شديداً، ومعنى الآية: إن تركتم نصرته فقد تكفل الله بها.
6 أي: أحد اثنين كثالث ثلاثة ورابع أربعة.
7 أي: قلب أبي بكر رضي الله عنه.
8 إذ أحبط تعالى أعمال قريش في طلبها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتقتله حيث جعلت مائة ناقة لمن يأتيها برأسه وأنجى الله رسوله منهم وانتهى إلى المدينة ونصره عليهم.
****************************
يتبع

ابوالوليد المسلم
23-07-2021, 05:00 AM
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
شرح الكلمات:
خفافاً وثقالاً: الخفاف جمع خفيف: وهو الشاب القوي البدن ذا الجدة من زاد ومركوب. والثقال جمع ثقيل: وهو الشيخ الكبير والمريض والفقير الذي لا جدة عنده.
ذلكم: أي الجهاد بالمال والنفس خير من التثاقل إلى الأرض وترك الجهاد حالاً ومآلاً.
عرضاً قريباً: غنيمة في مكان قريب غير بعيد.
أو سفراً قاصداً: أيما معتدلاً لا مشقة فيه.
الشقة: الطريق الطويل الذي لا يقطع إلا بمشقة وعناء.
عفا الله عنك: لم يؤاخذك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحث على الخروج إلى قتال الروم بالشام ففي هذه الآيات يأمر تعالى المؤمنين بالخروج إلى الجهاد على أي حال كان الخروج من قوة وضعف فليخرج الشاب القوي كالكبير العاجز الضعيف والغني كالفقير فقال تعالى {انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا1 بأموالكم وأنفسكم} أعداء الله الكافرين به وبرسوله حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية ويقبلوا أحكام الإسلام {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} أي نفوركم للجهاد وقتالكم الكافرين إلى الانتهاء بهم إلى إحدى الغايتين خير لكم من الخلود إلى الأرض والرضا بالحياة الدنيا وهي متاع قليل، إن كنتم تعلمون ذلك، وقوله تعالى {لو كان عرضاً2 قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة} 3 يقول تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كان
أولئك المتخلفون عن الجهاد من المنافقين وضعفة الإيمان قد دعوتهم إلى عرض قريب أي غنيمة حاضرة أو إلى سفر سهل قاصد معتدل لاتبعوك وخرجوا معك، ولكن دعوتهم إلى تبوك وفي زمن الحر والحاجة فبعدت عليهم الشقة فانتحلوا الأعذار إليك وتخلفوا. وقوله تعالى {وسيحلفون بالله} أي لكم قائلين: لو استطعنا أي الخروج لخرجنا معكم.
قال تعالى {يهلكون أنفسهم} حيث يجلبون لها سخط4 الله وعقابه {والله يعلم إنهم لكاذبون} في كل ما اعتذروا به. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية (41- 42) وأما الآية الثالثة فقد تضمنت عتاب الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث أذن لمن طلب منه التخلف عن النفور والنهوض إلى تبوك وكان من السياسة الرشيدة عدم الإذن لأحد حتى يتميز بذلك الصادق من الكاذب قال تعالى {عفا الله عنك} 5 أي تجاوز عنك ولم يؤاخذك وقدم هذا اللفظ على العتاب الذي تضمنه الاستفهام {لم أذنت لهم} تعجيلاً للمسرة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ لو أخر عن جملة العتاب لأوجد خوفاً وحزناً، وقوله تعالى {حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} علة للعتاب على الإذن للمنافقين6 بالتخلف عن الخروج إلى تبوك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إذا أعلن الإمام التعبئة العامة يحرم التخلف عن الجهاد ولا يقعد أحد، إلا بإذن لأجل علة قامت به فاستأذن فأذن له.
2- الجهاد كما يكون بالنفس يكون بالمال وهو خيرٌ من تركه حالاً ومآلاً.
3- الأيمان الكاذبة لإبطال حق أو إحقاق باطل توجب سخط الله تعالى وعذابه.
4- مشروعية العتاب للمحب.
5- جواز مخالفة الأولى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعدم علمه ما لم يعلِّمه الله تعالى.
__________
1 الآية محكمة ولم تنسخ، والمراد منها: أن الإمام إذا أعلن عن النفير العام، وجب الإسراع إلى الخروج معه على أي حال من كبر وصغر وغنى وفقر.
2 العرض: ما يعرض من منافع الدنيا، والمراد به هنا: الغنيمة أي: لو كان الذي دعوا إليه عرضا قريبا أو كان الذي دعوا إليه سفراً قاصداً أي: سهلا معلوم الطرق لاتبعوك.
3 الشقة: بالضم: السفر إلى أرض بعيدة وهي هنا تبوك، نظير هذه الآية من السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو يعلم أحدهم أنه يحد عظماً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء.." المرماة: ظلف الشاة.
4 بسبب كذبهم ونفاقهم وأيمانهم الكاذبة.
5 أخبره بالعفو قبل العتاب رحمة به وإكراماً له، إذ لو قال له لِمَ أذنت لهم أوّلا لكان يطير قلبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفرق أي: الخوف.
6 هؤلاء قوم منافقون قالوا نستأذنه في القعود فإن أذن لنا قعدنا، وان لم يأذن لنا قعدنا. أمّا غير هؤلاء فقد رخّص له في الإذن لمن شاء في قوله: {فأذن لمن شئت منهم} من سورة النور.

ابوالوليد المسلم
23-07-2021, 05:02 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة التوبة - (8)
الحلقة (458)
تفسير سورة التوبة مدنية
المجلد الثانى (صـــــــ 373الى صــــ 379)


لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
شرح الكلمات:
لا يستأذنك: أي لا يطلبون منك إذناً بالتخلف عن الجهاد.
وارتابت قلوبهم: أي شكت في صحة ما تدعو إليه من الدين الحق.
في ريبهم: أي في شكهم.
يترددون: حيارى لا يثبتون على شيء.
لأعدّوا له عدّة: لهيأوا له ما يلزم من سلاح وزاد ومركوب.
انبعاثهم: أي خروجهم معكم.
فثبطهم: ألقي في نفوسهم الرغبة في التخلف وحببه إليهم فكسلوا ولم يخرجوا
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن غزوة تبوك وأحوال المأمورين بالنفير فيها فبعد أن عاتب الله تعالى رسوله في إذنه للمتخلفين أخبره أنه لا يستأذنه1 المؤمنون الصادقون في أن يتخلفوا عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم وإنما يستأذنه {الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم} في الإيمان بالله ورسوله ووعده ووعيده، فهم حيارى مترددون لا يدرون أين يتجهون وهي حالة المزعزع العقيدة كسائر المنافقين، وأخبره تعالى أنهم كاذبون في اعتذارا تهم إذ لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته أي احضروا له أهبته من سلاح وزاد وراحلة ولكنهم كانوا عازمين على عدم الخروج بحال من الأحوال، ولو لم تأذن لهم بالتخلف لتخلفوا مخالفين قصدك متحدين أمرك. وهذا عائد إلى أن الله تعالى كره خروجهم لما فيه من الضرر والخطر فثبطهم بما ألقى في قلوبهم من الفشل رفي أجسامهم من الكسل كأنما قيل لهم اقعدوا مع القاعدين هذا ما دلت عليه الآية (44) {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته ولكن كره الله انبعاثهم2 فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين 3} وقوله تعالى في ختام الآية الأولى (44) {والله عليم بالمتقين} 4 فيه تقرير لعلمه تعالى بأحوال ونفوس عباده فما أخبر به هو الحق والواقع، فالمؤمنون الصادقون لا يطلبون التخلف عن الجهاد لإيمانهم وتقواهم، والمنافقون هم الذين يطلبون التخلف لشكهم وفجورهم والله أعلم بهم، ولا ينبئك مثل خبير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة الإيمان والتقوى إذ صاحبهما لا يمكنه أن يتخلف عن الجهاد بالنفس والمال.
2- خطر الشك في العقيدة وأنه سبب الحيرة والتردد، وصاحبه لا يقدر على أن يجاهد بمال ولا نفس.
3- سوابق الشر تحول بين صاحبها وبين فعل الخير.
__________
1 لا يستأذنه المؤمنون لا في القعود ولا في الخروج وإنما هم مع مراده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا أمر بأمر ابتدروه طاعة ومحبة ورغبة في رضا الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 {انبعاثهم} : أي: خروجهم معك، ومعنى ثبَطهم: حبسهم عنك وخذلهم لأنهم قالوا: إن لم يأذن لنا في القعود أفسدنا بين صفوف المؤمنين.
3 القاعدون: هم أولو الضرر، والعميان والزمنى، والنساء والأطفال. والقائل لهم اقعدوا هو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما طلبوا منه الإذن بالقعود وجائز أن يكون قاله بعضهم لبعض أو قاله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حال غضبه عليهم، أو هو تمثيل لخلق الله تعالى داعية القعود في قلوبهم حتى لا يخرجوا فيفسدوا.
4 فيه شهادة للمؤمنين الصادقين بالتقوى وهي دعامة الولاية الحقة لله تعالى، فالإيمان والتقوى بهما تثبت ولاية الله للعبد ومن والاه الله فلا خوف عليه ولا حزن.
******************************
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
شرح الكلمات:
لو خرجوا فيكم: أي مندسين بين رجالكم.
إلا خبالاً: الفساد في الرأي والتدبير.
ولأوضعوا خلالكم: أي لأسرعوا بينكم بالنميمة والتحريش والإثارة لإبقائكم في الفتنة.
وفيكم سماعون لهم: أي بينكم من يكثر السماع لهم والتأثر بأقوالهم المثيرة الفاسدة.
من قبل: أي عند مجئيك المدينة مهاجراً.
وقلّبوا لك الأمور: بالكيد والمكر والاتصال باليهود والمشركين والتعاون معهم.
وظهر أمر الله: بأن فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وهم كارهون: أي لمجيء الحق وظهور أمر الله بانتصار دينه.
يتبع

ابوالوليد المسلم
23-07-2021, 05:03 AM
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في فضح نوايا المنافقين وكشف الستار عنهم فقال تعالى {لو خرجوا فيكم} 1 أيها الرسول والمؤمنون أي إلى غزوة تبوك {ما زادوكم إلا خبالاً} 2 أي ضرراً وفساداً وبلبلة لأفكار المؤمنين بما ينفثونه من سموم القول للتخذيل والتفشيل،{ولأوضعوا} 3 أي أسرعوا ركائبهم {خلالكم} أي بين صفوفكم بكلمات التخذيل والتثبيط {يبغونكم} بذلك {الفتنة} وهي تفريق جمعكم وإثارة العداوة بينكم بما يحسنه المنافقون في كل زمان ومكان من خبيث القول وفاسده وقوله تعالى {وفيكم سماعون لهم} أي وبينكم أيها المؤمنون ضعاف الإيمان يسمعون منكم وينقلون لهم أخبار أسراركم كما أن منكم من يسمع لهم ويطيعهم ولذا وغيره كره الله انبعاثهم وثبطهم فقعدوا مع القاعدين من النساء والأطفال والعجز والمرضى، وقوله تعالى {والله عليم بالظالمين} الذين يعملون على إبطال دينه وهزيمة أوليائه. فلذا صرفهم عن الخروج معكم إلى قتال أعدائكم من الروم والعرب المتنصرة بالشام. وقوله تعالى في الآية الثانية (48) {لقد ابتغوا الفتنة من قبل} بل من يوم هاجرت إلى المدينة ووجد بها الإسلام وهم يثيرون الفتن بين أصحابك للإيقاع بهم، وفي أحد رجع ابن أبي بثلث الجيش وهم بنو سلمة وبنو حارثة بالرجوع عن القتال لولا أن الله سلم {وقلبوا لك الأمور} 4 وصرفوها في وجوه شتى بقصد القضاء على دعوتك فظاهروا المشركين واليهود في مواطن كثيرة وكان هذا دأبهم {حتى جاء الحق} بفتح مكة {وظهر أمر الله} بدخول أكثر العرب في دين الله {وهم كارهون} لذلك بل أسفون حزنون، ولذا فلا تأسفوا على عدم خروجهم معكم، ولا تحفلوا به أو تهتموا له، فإن الله رحمة بكم ونصراً لكم صرفهم عن الخروج معكم. فاحمدوا الله وأثنوا عليه بما هو أهله، ولله الحمد والمنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجود منافقين في صفوف المؤمنين خطر عليهم وضرر كبير لهم فلذا ينبغي أن لا يُشركوا في أمر، وأن لا يعول عليهم في مهمة.
2- وجوب الأخذ بالحيطة في الأمور ذات البال والأثر على حياة الإسلام والمسلمين.
3- المنافق يسوءه عزة الإسلام والمسلمين ويحزن لذلك.
4- تدبير الله تعالى لأوليائه خير تدبير فلذا وجب الرضا بقضاء الله وقدره والتسليم به.
__________
1 في هذا الإخبار الإلهي تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين من أجل تخلف المنافقين عنهم.
2 الاستثناء منقطع أي: ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال لكم. والعادة: أن الاستثناء المنقطع يكون: بمعنى لكن إذ ليس هو جزء من المستثنى منه.
3 الإيضاع: سرعة السير، يقال: أوضع يوضع إيضاعاً إذا أسرع في سيره. قال دريد بن الصمة:
يا ليتني فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع
4 الأمور: جمع أمر وهو اسم مبهم كشيء، قال الشاعر:
*ولكن مقادير جرت وأمور*
والألف واللام للجنس: أي: أمور تعرفونها وأمور تنكرونها، وحتى: غائية لتقليبهم الأمور.
**********************
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ (50) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52)
شرح الكلمات:
ومنهم: أي من المنافقين وهو الجد بن قيس.
إئذن لي: أي في التخلف عن الجهاد.
ولا تفتني: أي لا توقعني في الفتنة بدعوى أنه إذا رأي نساء الروم لا يملك نفسه.
حسنة تسؤهم: الحسنة كل ما يحسن من نصر وغنيمة وعافية ومعنى تسؤهم أي يكربون لها ويحزنون.
قد أخذنا أمرنا من قبل: أي احتطنا للأمر ولذا لم نخرج معهم.
إحدى الحسنين: الأولى الظفر بالعدو والانتصار عليه والثانية الشهادة المورثة للجنة.
فتربصوا: أي انتظروا فإنا معكم من المنتظرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك فيقول تعالى {ومنهم من يقول ائذن لي} أي في التخلف عن الجهاد، {ولا تفتني} بإلزامك لي بالخروج أي لا توقعني في الفتنة، فقد روى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له. هل لك في1 بلاد بني الأصفر؟ فقال إني مغرم بالنساء وأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر2 (وهم الروم) لا أصبر عنهن فأفتن، والقائل هذا هو الجد بن قيس أحد زعماء المنافقين في المدينة فقال تعالى دعاء عليه ورداً لباطله: {ألا في الفتنة سقطوا} وأي فتنة أعظم من الشرك والنفاق؟ {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} به وبأمثاله من أهل الكفر والنفاق، هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية (50) فقد تضمنت الكشف عما يقوله المنافقون في أنفسهم أنه إن تصب الرسول والمؤمنين حسنة من نصر أو غنيمة وكل حال حسنة يسؤهم ذلك أي يكربهم ويحزنهم، وإن تصبهم سيئة من هزيمة أو قتل وموت يقولوا فيما بينهم {قد أخذنا أمرنا} أي احتطنا للأمر فلم نخرج معهم {ويتولوا} راجعين إلى بيوتهم وأهليهم {وهم فرحون} . هذا ما تضمنته الآية التي هي قوله تعالى {إن تصبك حسنة3 تسؤهم، وان تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون} 4 أما الآيتان الثالثة والرابعة (51- 52) فقد علم الله سبحانه وتعالى رسوله ما يقوله إغاظة لأولئك المنافقين وإخباراً لهم بما يسؤهم فقال {قل لن يصيبنا} أي من حسنة أو سيئة إلا ما كتب الله5 لنا وما يكتبه ربنا لنا لن يكون إلا خيراً لأنه مولانا {وعلى الله فيلتوكل المؤمنون} ونحن مؤمنون وعلى
ربنا متوكلون، وقال له: {قل هل تربصون بنا} 6 أي هل تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنيين: 7 النصر والظهور على أهل الشرك والكفر والنفاق أو الاستشهاد في سبيل الله، ثم النعيم المقيم في جوار رب العالمين وعليه {فتربصوا إنا معكم متربصون} 8، وسوف لا نشاهد إلا ما يسرنا ويسوءكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيحة الجد بن قيس وتسجيل اللعنة عليه وتبشيره بجهنم.
2- بيان فرح المنافقين والكافرين بما يسوء المسلمين، وبيان استيائهم لما يفرح المسلمين وهي علامة النفاق البارزة في كل منافق.
3- وجوب التوكل على الله وعدم الاهتمام بأقوال المنافقين.
4- بيان أن المؤمنين بين خيارين في جهادهم: النصر أو الشهادة.
5- مشروعية القول الذي يغيط العدو ويحزنه.
__________
1 في رواية ياجَدُّ هل لك في جلاد بني الأصفر لتتخذ منهم سراري ووصفاء فقال الجد الخ.
2 قيل: سمي الروم بني الأصفر: لأن الحبشة غزتهم وسبتهم فنشأ جيل أصفر اللون بين البياض والسواد، وهو اللون الأصفر.
3 {إن تصبك حسنة} جملة شرطية وجملة {تسؤهم} جواب وجزاء لها كما أن جملة {وإن تصبهم} شرط، والجزاء {يقولوا} الخ.
4 {ويتولوا} أي: راجعين إلى بيوتهم ومجالسهم وهم كافرون، فهم متولون في الحقيقة عن الإيمان {فرحون} أي: معجبون بنجاحهم المؤقت.
5 أي: في اللوح المحفوظ الذي هو كتاب المقادير، أو هو ما أخبرنا به كتابه القرآن الكريم مِن أنّا إمّا نظفر فيكون الظفر حسنى لنا وإمّا أن نقتل فتكون الشهادة حسنى لنا.
6 التربص: الانتظار، والاستفهام للتوبيخ.
7 الحسنيان: هما الغنيمة والشهادة.
8 {فتربصوا} هذا الأمر للتهديد والوعيد، كأنما يقول لهم: انتظروا مواعد الشيطان فإنا مُنتظرون مواعد الرحمن، وشتان بين ما ننتظر وما تنتظرون!!

ابوالوليد المسلم
23-07-2021, 05:05 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة التوبة - (9)
الحلقة (459)
تفسير سورة التوبة مدنية
المجلد الثانى (صـــــــ 379الى صــــ 384)


قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
شرح الكلمات:
طوعاً أو كرهاً.: أي وأنتم طائعون أو أنتم مكرهون على الإنفاق.
إنكم كنتم قوماً فاسقين: الجملة علة لعدم قبول نفقاتهم.
كسالى: متثاقلون لعدم إيمانهم في الباطن بفائدة الصلاة.
فلا تعجبك أموالهم: أي لا تستحسنوا أيها المسلمون ما عند المنافقين من مال وولد.
وتزهق أنفسهم: أي تفيض وتخرج من أجسامهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تعليم الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف يرد على المنافقين فقال له قل لهم أيها الرسول {انفقوا} 1 حال كونكم طائعين أو مكرهين {لن يتقبل منكم} ، أي أخبرهم أن ما ينفقونه في هذا الخروج إلى تبوك وفي غيره سواء أنفقوه باختيارهم أو كانوا مكرهين عليه لن يتقبله الله منهم لأنهم2 كانوا قوماً فاسقين بكفرهم بالله وبرسوله وخروجهم عن طاعتهما. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (53) أما الآية الثانية (54) فقد أخبر تعالى عن الأسباب الرئيسية التي حالت دون قبول نفقاتهم وهى أولاً الكفر بالله وبرسوله، وثانياً إتيانهم الصلاة وهم كسالى كارهون، وثالثاً كراهيتهم الشديدة لما ينفقونه قال تعالى {وما منعهم3 أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى4 ولا ينفقون إلا وهم كارهون} 5 هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة (55) فإن الله تعالى ينهى رسوله والمؤمنين عن أن تعجبهم أموالهم وأولادهم مهما بلغت في الكثرة والحسن فيقول {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} أي لا تستحسنوها ولا تخبروهم بذلك. وبين تعالى لرسوله علة إعطائهم ذلك وتكثيره لهم فقال {إنما يريد الله ليعذبهم6 بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} ووجه تعذيبهم بها في الحياة الدنيا أن ما ينفقونه من المال في الزكاة والجهاد يشعرون معه بألم لا نظير له لأنه إنفاق يعتبرونه ضدهم وليس في صالحهم إذ لا يريدون نصر الإسلام ولا ظهوره، وأما أولادهم فالتعذيب بهم هو أنهم يشاهدونهم يدخلون في الإسلام ويعملون به ولا يستطيعون أن يردوهم عن ذلك، أيّ ألَمٌ نفسي أكبر من أن يكفر ولد الرجل بدينه ويدين بآخر من شروطه أن يبغض الكافر به ولو كان أباً أو أماً أو أخاً أو أختاً أو أقرب قريب؟ وزيادة على هذا يموتون وهم كافرون فينتقلون من عذاب إلى عذاب أشد، وبهذا سلى الرب تعالى رسوله والمؤمنين بيان علة ما أعطى المنافقين من مال وولد ليعذبهم بذلك لا ليسعدهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ أن الرياء مبطلة للعمل كالشرك محبط للعمل7.
2- إطلاق الفسق على الكفر فكل كافر فاسق على الإطلاق.
3- حرمة التكاسل في الصلاة وأن ذلك من صفات المنافقين.
4- وجوب رضا النفس بما ينفق العبد في سبيل الله زكاة أو غيرها.
5- كراهية استحسان المسلم لِمَا عند أهل الفسق والنفاق من مال ومتاع.
__________
1 روي أن هذه الآية نزلت في الجد بن قيس إذ هو الذي قال للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إئذن لي في القعود عن الخروج إلى قتال الروم وهذا مالي أعينك به والأمر في قوله: {انفقوا} للتسوية أي: انفقوا أولا تنفقوا فكلا الأمرين سواء، في عدم قبول ما تنفقون.
2 الجملة تعليلية أي: قوله: {لن يتقبل منكم} الخ ذكرت تعليلاً لعدم قبول ما ينفقون.
3 هذا بيان للتعليل السابق في عدم قبول نفقاتهم مع ذكر أسباب أخرى حالت دون قبول ما ينفقون.
4 قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا كان في جماعة صلى وإذا انفرد لم يصل. أي: المنافق لأنه لا يرجو على الصلاة ثواباً، ولا يخشى على تركها عقاباً وهذا منشأ الكسل في الصلاة وغيرها من سائر العبادات.
5 هنا مسألتان: الأولى: أنّ من مات على الكفر لا ينفعه ما عمله في الدنيا من خير إلاّ انه يخفف عنه العذاب لحديث أبي طالب، وأنه في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه. كما أنه قد يكون سبباً في سعة رزقه في الدنيا للحديث، وأما الكافر فيطعم. الثانية أن من أسلم منهم يثاب على ما عمله من الخير أيام كفره.
6 فعل الإرادة يعني بنفسه تقول: أردت خيراً، وعدي هنا بللام لأجل التعليل كقول الشاعر:
أريد لأنسي حبها فكأنما ... تمثل لي ليلي بكل مكان
7 لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} الآية، وقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عبد الله بن جدعان وقد قالت له عائشة رضي الله عنها يا رسول الله أن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: "لا ينفعه لأنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" رواه مسلم.
****************************
يتبع

ابوالوليد المسلم
23-07-2021, 05:05 AM
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
شرح الكلمات:
وما هم منكم: أي في باطن الأمر لأنهم كافرون ووجوههم وقلوبهم مع الكافرين.
يفرقون: أي يخافون خوفاً شديداً منكم.
ملجأ: أي مكانا ًحصيناً يلجأون إليه.
أو مغارات: جمع مغارة وهي الغار في الجبل.
أو مدخلاً: أي سرباً في الأرض يستتر فيه الخائف الهارب.
يجمحون: يسرعون سرعة تتعذر مقاومتها وإيقافها.
يلمزك: أي يعيبك في شأن توزيعها ويطعن فيك.
إذا هم يسخطون: أي غير راضين.
حسبنا الله: أي كافينا الله كل ما يهمنا.
إلى الله راغبون: إلى الله وحده راغبون أي طامعون راجون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هتك أستار المنافقين وإظهار عيوبهم وكشف عوراتهم ليتوب منهم من أكرمه الله بالتوبة فقال تعالى عنهم {ويحلفون بالله إنهم لمنكم} 1 أي من أهل ملتكم ودينكم، {وما هم منكم} أي في واقع الأمر إذ هم كفار منافقون {ولكنهم قوم يفرقون} أي يخافون منكم خوفاً شديداً فلذا يحلفون لكم إنهم منكم لتؤمنوهم على أرواحهم وأموالهم، ولبيان شدة فرقهم منكم وخوفهم من سيوفكم قال تعالى: {لو يجدون ملجأ} 2 أي حصناً {أو مغارات} أي غيراناً في جبال {أو مدخلاً} 3 أي سرباً في الأرض {لولوا} أي أدبروا إليها {وهم يجمحون} 4 أي مسرعين ليتمنعوا منكم. هذا ما دلت عليه الآية الأولى والثانية أما الآية الثالثة والرابعة (58- 59) فقد أخبر تعالى أن من المنافقين من يلمز الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي يطعن فيه ويعيبه في شأن قسمة الصادقات وتوزيعها فيتهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه لا يعدل في القسمة فقال تعالى {ومنهم من يلمزك5 في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا} أي عن الرسول وقسمته {وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} هذا ما تضمنته الآية (58) وأما الآية الأخيرة (59) فقد أرشدهم الله تعالى إلى ما كان ينبغي أن يكونوا عليه فقال عز وجل {ولو أنهم رضوا6 ما أتاهم الله ورسوله} ، أي من الصدقات {وقالوا حسبنا الله} أي كافينا الله {سيؤتينا الله من فضله} الواسع العظيم ورسوله بما يقسم علينا ويوزعه بيننا {إنا إلى الله} وحده {راغبون} طامعون راجعون أي لكان خيراً لهم وأدْرَكَ لحاجتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:.
1- الأَيمان الكاذب شعار المنافقين وفي الحديث آية المنافق ثلاث: (إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أتمن خان) .
2- الجبن والخور والضعف والخوف من لوازم الكفر والنفاق.
3- عيب الصالحين والطعن فيهم ظاهرة دالة على فساد قلوب ونيات من يفعل ذلك.
4- مظاهر الرحمة الإلهية تتجلى في إرشاد المنافقين إلى أحسن ما يكونوا عليه ليكملوا ويسعدوا في الدارين.
5- لا كافي إلا الله، ووجوب انحصار الرغبة فيه تعالى وحده دون سواه.
__________
1 لأنهم يتخذون أيمانهم الكاذبة وقاية يتقون بها ما يخافونه من بطش المؤمنين بهم إذا عرفوا أنهم كافرون كما قال تعالى من سورتهم {اتخذوا أيمانهم جنّة} .
2 الملجأ مكان اللجأ يقال لجأت إلى كذا: إذا أويت إليه واعتصمت به وألجأت أمري إليه أي: أسندته.
3 المدخل: مفتعل اسم كان للإدّخال الذي هو افتعال من الدخول قلبت فيه تاء الافتعال دالاً لوقوعها بعد الدال فصارت مدخلاً بدل متدخل، ونظيره. إدّان أصلها إتدان، وقرأها يعقوب وحده أو مدخلاً بفتح الميم وإسكان الدال اسم مكان هي دخل.
4 الجموح: نفور في إسراع.
5 روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى بعض رعاة الغنم شيئاً لفقرهم فطعن أبو الحواظ المنافق فقال: ما هو بالعدل كيف يضع صدقاتكم في رعاء الغنم إعانة لهم. كما أنّ ذا الخويصرة التميمي واسمه حرفوص بن زهير وهو أصل الخوارج قال للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعدل يا رسول الله فقال له: "ويلك ومَن يعدل إذا لم اعدل" فنزلت الآية وقال عمر دعني أضرب عنقه يا رسول الله فقال رسول الله: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي".
6 جواب لو محذوف تقديره: لكان خيراً لهم، وهو مذكور في التسفير في آخر الحديث.

ابوالوليد المسلم
23-07-2021, 05:06 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة التوبة - (10)
الحلقة (460)
تفسير سورة التوبة مدنية
المجلد الثانى (صـــــــ 384الى صــــ 389)


إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
شرح الكلمات:
الصدقات: جمع صدقة وهي هنا الزكاة المفروضة في الأموال.
للفقراء: جمع فقير وهو من ليس له ما يكفيه من القوت ولا يسأل الناس.
والمساكين: جمع مسكين وهو فقير ليس له ما يكفيه ويسأل الناس ويذل نفسه السؤال.
والعاملين عليها: أي على جمعها وجابتها وهم الموظفون لها.
والمؤلفة قلوبهم: هم أناس يرجى إسلامهم أو بقاؤهم عليه إن كانوا قد أسلموا وهم ذوو شأن وخطر ينفع الله بهم إن أسلموا وحسن إسلامهم.
وفي الرقاب: أي في فك الرقاب أي تحريرها من الرق، فيعطى المكاتبون ما يسددون به نجوم أو أقساط كتابتهم.
وفي سبيل الله: أي الجهاد لإعداد العدة وتزويد المجاهدين بما يلزمهم من نفقة.
وابن السبيل: أي المسافر المنقطع عن بلاده ولو كان غنياً ببلاده.
فريضة من الله: أي فرضها أدته تعالى فريضة على عباده المؤمنين.
معنى الآية الكريمة:
بمناسبة لمز المنافقين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والطعن في قسمته الصدقات بين تعالى في هذه الآية الكريمة أهل الصدقات المختصين بها والمراد بالصدقات الزكوات وصدقة التطوع
فقال عز وجل {إنما الصدقات} محصورة في الأصناف الثمانية التي تذكر وهم:
(1) الفقراء1 وهم المؤمنون الذين لا يجدون ما يسد حاجتهم الضرورية من طعام وشراب وكساء ومأوى.
(2) المساكين2 وهم الفقراء الذين لا يجدون ما يسد حاجتهم ولم يتعففوا3 فكانوا يسألون الناس ويظهرون المسكنة4 لهم والحاجة.
(3) الموظفين فيها من سعاة جباة وأمناء وكتاب وموزعين يعطون على عملهم فيها أجرة أمثالهم في العمل الحكومي.
(4) المؤلفة قلوبهم وهم من يرجى نفعهم للإسلام والمسلمين لمناصبهم وشوكتهم في أقوامهم، فيعطون من الزكاة تأليفاً أي جمعاً لقلوبهم على الإسلام ومحبته ونصرته ونصرة أهله، وقد يكون أحدهم يسلم بعد فيعطى ترغيباً له في الإسلام، وقد يكون مسلماً لكنه ضعيف الإسلام فيعطى تثبيتاً له وتقوية على الإسلام.
(5) في الرقاب وهو مساعدة المكاتبين على تسديد أقساطهم ليتحرروا أما شراء عبد بالزكاة وتحريره فلا يجوز لأنه يعود بالنفع على دافع الزكاة لأن ولاء المعتوق له.
(6) الغارمين جمع غارم وهو من ترتبت عليه ديون بسبب ما أنفقه في طاعة الله تعالى على نفسه وعائلته، ولم يكن لديه مال لا نقد ولا عرض يسدد به ديونه.
(7) في سبيل الله وهو تجهيز الغزاة والإنفاق عليهم تسليحاً وإركاباً وطعاماً ولباساً.
(8) ابن السبيل وهم المسافرون ينزلون ببلد وتنتهي نفقتهم فيحتاجون فيعطون من الزكاة ولو كانوا أغنياء ببلادهم.
وقوله تعالى {فريضة من الله} 5 أي هذه الصدقات وقسمتها على هذا النحو جعله الله تعالى فريضة لازمة على عباده المؤمنين. وقوله {والله عليم} أي بخلقه وأحوالهم {حكيم} في شرعه وقسمته، فلذا لا يجوز أبداً مخالفة هذه القسمة فلا يدخل أحد فيعطى من الزكاة وهو غير مذكور في هذه الآية وليس شرطاً أن يعطى كل الأصناف فقد يعطى المرء زكاته كلها في الجهاد أو في الفقراء والمساكين، أو في الغارمين أو المكاتبين وتجزئة وإن كان الأولى أن يقسمها بين الأصناف المذكورة من وجد منها، إذ قد لا توجد كلها في وقت واحد.
هداية الآية
من هداية الآية.:
1- تقرير فرضية الزكاة.
2- بيان مصارف الزكاة.
3- وجوب التسليم لله تعالى في قسمته بعدم محاولة الخروج عنها.
4- إثبات صفات الله تعالى وهي هنا: العلم والحكمة، ومتى كان الله تعالى عليماً بخلقه وحاجاتهم حكيماً في تصرفه وشرعه وجب التسليم لأمره والخضوع له بالطاعة والانقياد.
__________
1 قيل: الفقير هو صفة مشبهة من الفقر أي المتصف بالفقر وهو: عدم امتلاك ما به الكفافة لحاجته المعاشية وضده الغنى، والمسكين: ذو المسكنة وهي المذلة التي تحصل بسبب الفقر، والفقير والمسكين يغني ذكر أحدهما عن الآخر، أمّا إذا ذكراً معاً فلكلّ واحد حقيقة كما تقدم، وفي أيّهما أشدّ فقراً خلاف، وأحسن ما قيل هو أن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين: الذي لا شيء له.
2 قال القرطبي: فائدة الخلاف في الفقراء والمساكين تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين فمن قال هما صنف واحد يكون الثلث الموصى به نصفه لفلان ونصفه الآخر للفقراء، ومن قال: هما صنفان يقسم الثلث الموصى به بينهم أثلاثاً.
3 اختلف في حالة الفقر التي يصح للفقير أن يأخذ معها الزكاة، فمن قائل إن لم يكن له مائتا درهم جاز له أخذ الزكاة، ومن قائل: خمسون درهماً ومن قائل: أربعون درهماً. ومن قائل: من كان قوياً على الكسب لقوة بدنه فلا يعطى الزكاة لحديث: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي".
4 ورد الوعيد الشديد فيمن يطلب الصدقة وهو غني عنها من ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار" رواه أبو داود. قالت العلماء: إن الذي له شبع يوم وليلة لا يحل له أن يسأل. اختلف في نقل الزكاة من بلد إلى بلد، والراجح: الجواز لضرورة الفقر وشدته.
5 {فريضة} منصوب على المصدر المؤكد إذ تقدير الكلام: إنما فرض الله الصدقات للفقراء والمساكين الخ.. فريضة منه تعالى وهو العليم بخلقه الحكيم في تدبيره وصنعه.
*************************
يتبع

ابوالوليد المسلم
23-07-2021, 05:07 AM
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
شرح الكلمات.
يؤذون النبي: أي الرسول محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأذى المكروه يصيب الإنسان كثيراً أو يسيراً.
هو أذن: أي يسمع من كل من يقول له ويحدثه وهذا من الأذى.
قل أذن خير لكم: أي هو يسمع من كل من يقول له لا يتكبر ولكن لا يقر إلا الحق ولا يقبل إلا الخير والمعروف فهو إذن خير لكم لا إذن شر مثلكم أيها المنافقون.
ويؤمن للمؤمنين: أي يصدق المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار أما غيرهم فإنه وإن يسمع منهم لا يصدقهم لأنهم كذبة فجرة.
والله.: أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه.
من يُحادد الله ورسوله: أي يعاديهما، ويقف دائماً في حدّ وهما في حد فلا ولاء ولا موالاة أي لا محبة ولا نصرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هتك أستار المنافقين وبيان فضائحهم قال تعالى: {ومنهم 1 الذين يؤذون النبي} أي من المنافقين أفراد يؤذون النبي بالطعن فيه وعيبه بما هو براء منه، ويبين تعالى بعض ذلك الأذى فقال {ويقولون هو أذن} أي يسمع كل ما يقال له، وحاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقر سماع الباطل أو الشر أو الفساد، وإنما يسمع ما كان خيراً ولو كان من منافق يكذب ويحسن القول. وأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله {قل أذن خير2 لكم} يسمع ما فيه خير لكم، ولا يسمع ما هو شر لكم. إنه لما كان لا يواجههم بسوء صنيعهم، وقبح أعمالهم حملهم هذا الجميل والإحسان على أن قالوا: {هو أذن} طعناً فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعيباً له. وقوله تعالى {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} هذا من جملة ما أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول للمنافقين رداً على باطلهم. أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤمن بالله رباً وإلهاً، {ويؤمن للمؤمنين} أي بصدقهم فيما يقولون وهذا من خيريّته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله {ورحمة3 للذين آمنوا منكم} أيضاً من خيريّته فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة لمن آمن به واتبع النور الذي جاء به فكمل عليه وسعد به في حياتيه. وقوله تعالى {والذين يؤذون رسول الله} أي بأي نوع من الأذى قل أو كثر توعدهم الله تعالى بقوله {لهم عذاب أليم} وهو لا محالة نازل بهم وهم ذائقوه حتماً هذا ما دلت عليه الآية الأولى (61) أما الآية الثانية (62) فقد أخبر تعالى عن المنافقين أنهم يحلفون للمؤمنين بأنهم ما طعنوا في الرسول ولا قالوا فيه شيئاً يريدون بذلك إرضاء المؤمنين حتى لا يبطشوا بهم انتقاماً لكرامة نبيهم قال تعالى {يحلفون بالله4 لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق5 أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} أي فبدل أن يرضوا المؤمنين كان الواجب أن يرضوا الله تعالى بالتوبة إليه ويرضوا الرسول بالإيمان ومتابعته إن كانوا كما يزعمون أنهم مؤمنون.
وقوله في الآية الثالثة (63) {ألم يعلموا6 أنه من يحادد الله ورسوله} أي يشاقهما ويعاديهما فإن له جزاء عدائه ومحاربته نار جهنم خالداً فيها {ذلك الخزي العظيم} أي كونه في نار جهنم خالداً فيها لا يخرج منها هو الخزي العظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة أذية رسول الله بأي وجه من الوجوه.
2- كون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة للمؤمنين دعوة للإيمان والإسلام.
3- توعد الله تعالى من يؤذى رسوله بالعذاب الأليم دليل على كفر من يؤذي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4- بيان كذب المنافقين وجبنهم حيث يحلفون7 للمؤمنين أنهم ما طعنوا في الرسول وقد طعنوا بالفعل، وإنما حلفهم الكاذب يدفعون به غضب المؤمنين والانتقام منهم.
5- وجوب طلب رضا الله تعالى بفعل محابه وترك مساخطه.
6- ترعد من يحادد الله ورسوله بالعذاب الأليم.
__________
1 قيل هذه الآية نزلت في عتاب بن قشير إذ قال: إنما محمد أذن يقبل كل ما قيل له. وقيل: نزلت في نبتل بن الحارث الذي قال فيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث" وكان ماكراً خبيثاً مشوّه الخلقة.
2 قرىء بالرفع والتنوين {أذنٌ خيرٌ لكم} قرأ الجمهور بالإضافة {أذن خيرٍ} .
3 أي: وهو رحمة. على أنّ رحمة: خبر لمبتدأ محذوف وقرىء: ورحمةٍ بالجر عطفا على {خيرٍ لكم} وفيه بُعدٌ كبير.
4 روي أنّ نفراً من المنافقين منهم الجلاس بين سويد ووديعة بن ثابت فقالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شرّ من الحمير وبينهم غلام فغضب لقولهم هذا وأخبر به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكذبوه في قوله فأنزل الله تعالى هذه الآية: {سيحلفون بالله لكم..} الخ.
5 قال سيبويه: تقدير الكلام، والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه ثم حذف طلباً للإيجاز كما قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
والحامل على هذا التقدير لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرض بقول الرجل: ما شاء الله وشئت فقال له: "قل ما شاء الله وحده" لأنّ العطف بالواو لا يقتضي الترتيب.
6 الاستفهام للإنكار والتوبيخ والمعنى: ألم يعلموا شأناً عظيماً هو من يجادل الله ورسوله له نار جهنم، والسحادة، المعاداة والمشاقة كأنّ كل واحد واقف في حدّ لا يتصل بالآخر، والفاء في {فأن له} لربط جواب شرط {من} وأعيدت أنّ في الجواب لتوكيد أنّ المذكورة قبل الشرط توكيداً لفظياً.
7 في الآية دليل جواز الحلف بالله وعدم جواز الحلف بغيره لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من حلف فليحلف بالله أو ليصمت ومن حلف له فليصدق".

ابوالوليد المسلم
25-07-2021, 05:38 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (45)
الحلقة (456)
تفسير سورة المائدة (51)


حذر الله عز وجل عباده المؤمنين أيما تحذير من السؤال عما لم ينزل القرآن ببيانه؛ لأن هذا السؤال فيه إحفاء للرسول صلى الله عليه وسلم وأذية له، وبين سبحانه أن من كان قبلهم تكلفوا مثل هذه الأسئلة فكلفهم الله عز وجل ما يشق عليهم جزاء تعنتهم، فأصبحوا كافرين بها عندما تركوا العمل بها، وهذا حال كل من يتكلف ويسأل فيما لم يفرض عليه.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وما زلنا مع سورة المائدة المدنية، المباركة، وها نحن مع هذه الآيات الأربع:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ * مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ )[المائدة:101-104].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا نداء الرحمن لأهل الإيمان، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:101]، لبيك اللهم لبيك، سمعاً وطاعة، مر نفعل، انه ننته، أدب نتأدب، انصح نقبل النصيحة، نحن مستعدون؛ لكمال حياتنا، لأن المؤمن الحق الصادق الإيمان حي يسمع ويبصر ويعي ويفهم ويأخذ ويعطي، بخلاف الكافر فإنه ميت، لا يسمع النداء ولا يجيب.
حادثة نزول الآية الكريمة
هنا نادانا لينهانا عن أشياء، فنقول: انتهينا ربنا. قال تعالى: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )[المائدة:101]، هذا لما أكثر المؤمنون من سؤال الرسول وأحرجوه وأتعبوه، وكان الباب مفتوحاً قبل نزول هذه الآية، فتألم وقام خطيباً وقال: ( لا تسألونني عن شيء إلا أجبتكم عنه. فسألوه، وقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك حذافة )، ولما سمعت أمه غضبت غضباً شديداً، وقالت: أرأيت يا ولدي لو كان نسبك إلى غير أبيك، ماذا يكون حالي وموقفي بين الناس؟ وحمل الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة على هذا السؤال أنه كان إذا تلاوم مع أحد الأصحاب -أي: عذله-فكأنه ينسبه إلى غير أبيه، وهذا في الجاهلية ليس في الإسلام، فأراد التأكد من صحة نسبته إلى أبيه، فسأل وما كان من حقه أن يسأل.
وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله كتب عليكم الحج فحجوا. فقام رجل فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت الرسول، حتى أعادها ثلاث مرات، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم )، وفي لفظ: ( ولكفرتم )، ومعنى هذا: أن الله أدب المؤمنين مع رسولهم ومع علمائهم، لا يحل لنا الأسئلة التي فيها تعنت وتقعر ولا تجدي ولا ثمر، هذه الأسئلة محرمة بهذا النص: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ )[المائدة:101] وترى ( تَسُؤْكُمْ )[المائدة:101].
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها )، وفي الحديث الصحيح: ( نهاكم عن ثلاث، منها: كثرة السؤال )
وكثرة الأسئلة وطرحها لا توجد أبداً خيراً ولا تثمر خيراً، فمتى نسأل؟ نسأل عند الحاجة، لنريد أن نعلم ما حرم الله علي أو ما أوجب علي.

تأديب المؤمنين بأمرهم بترك السؤال عما لا ينفع
والآداب المحمدية منها قوله: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فالذي لا يعنيك بمعنى: لا أنت تريد أن تقوم به وتفعله، ولا أنت تريد أن تتخلى عنه وتتركه، فلم تسأل عنه؟ ولهذا أدبنا الله عز وجل بهذه الآية: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )[المائدة:101]، فلو قال الرسول: نعم لوجب الحج كل سنة، ومن يحج كل عام؟ لو قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن حذافة: أبوك فلان فكيف تكون حاله وحال أمه وأسرته؟ فما دام قد بين الله ما أحل لنا وما حرم فلا حاجة أبداً إلى التعنت والسؤال، ما أحله حلال وما حرمه حرام وما سكت عنه فهو رحمة منه لنا، لا نتعب أنفسنا ولا نشقيها.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ )[المائدة:101]، الآن ما بقي القرآن ينزل، وانتهت تلك الأزمة الأولى، لكن بقينا على مبدأ الآداب الإسلامية والأخلاق النبوية، إذا كنت في حاجة إلى مسألة فاسأل، وإذا ما كنت في حاجة إلى أن تعرف حكمها، أو ما أنت بفاعل ولا تارك فلم تسأل؟ وكثرة السؤال ممنوعة مطلقاً حتى في المال، فالمحتاج أيضاً لا ينبغي أن يلح في أسئلته: أعطوني واكفوني وافعلوا بي، تسأل مرة واحدة؛ لأن هذا أدب عام خالد بخلود هذه الأمة والقرآن الكريم.
(وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ )[المائدة:101] فلا بأس، تنزل الآية ويبين الرسول الحكم، ولكن الله عفا عما سلف مما سألتم، ( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )[المائدة:101]، فلهذا ما آخذهم ولا عذبهم، غفر لهم وحلم عليهم فلم يعذبهم.
تفسير قوله تعالى: (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين)
ثم قال لهم: ( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ )[المائدة:102]، أسئلة تعنت هذه، من بينها أسئلة اليهود، أما قالوا لموسى عليه السلام: ( أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً )[النساء:153] ننظر إليه، وهل هذا السؤال يطلبه إنسان؟يسمعون كلامه وهو يناجيه بجبل الطور وهم سبعون شخصاً معه أو ستون، ولما سمعوا الكلام قالوا: نريد أن نرى وجه ربنا، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون.
وقوم صالح في شمال الحجاز قالوا: يا صالح! لتدلل على نبوتك ورسالتك؛ أخرج لنا من هذا الجبل ناقة. وقام يصلي ودعا الله، فانشق الجبل وخرجت الناقة، فما هي النهاية؟ حاولوا عقرها وقتلوها، وكانت النهاية أن دمرهم الله دماراً كاملاً، نتيجة أنهم يسالون عن أشياء ما هم أهلاً لها.
وأصحاب عيسى قالوا: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ فأنزلها الله واشترط أن من كفر بعدها يعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، وهكذا، فالتعنت والأسئلة التي لا تجدي وتثير الفتن والمتاعب والمشاغب -والله- لا تجوز إن تأدبنا بآداب ربنا ورسولنا.
فلا نسأل عالماً ذا علم إلا عن مسألة أنا في حاجة إلى معرفتها، أيحل لي هذا أو لا يحل، أيجب أن نفعل هذا أو نتركه، في هذه الحدود، أما سؤال التنطع والتقعر فهذا منهي عنه ومكروه ولا يجوز وفيه أذية، فتسأل على قدر حاجتك، فإذا كنت جائعاً تسأل طعاماً، إذا أكلت وشبعت فلا تسأل مرة ثانية، أنت ظمآن فاسأل على قدر ظمئك، أنت عار تريد كسوة تستر عورتك تسأل بقدر حاجتك، وهذا هو حال المؤمنين في كل حياتهم، ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فالذي ما يعنيك ولا تنتفع به ولا يضرك لا تسأل عنه، وهذه المحنة يتخبط فيها المسلمون منذ قرون شرقاً وغرباً، أكثر الفتن والمتاعب والمصاعب ناتجة عن هذه.
تفسير قوله تعالى: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ...)
وفي الآية الثانية قال تعالى: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ )[المائدة:103]، أي: ما سن الله بحيرة ولا سائبة ولا شرع هذا ولا سنه أبداً، هذا من فعل المشركين الكافرين، ولا شك أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن هذه الأربع، فأخبر تعالى أنه: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ )[المائدة:103]، فما البحيرة؟ وما السائبة؟ وما الوصيلة؟ وما الحامي؟ هذه ابتدأت يوم ضعفت الديانة الإسماعيلية، فهذا عمرو بن لحي الخزاعي ذهب إلى الشام، فوجد العمالقة يعبدون الأصنام، فسأل أن يعطوه صنماً يأخذه إلى الحجاز، إلى الجزيرة؛ ليعبدوه، فهو أول من جاء بالأصنام، وجاء بهبل، هو الذي جاء به من الشام ووضعه عند البيت، ولهذا رآه الرسول صلى الله عليه وسلم في النار يجر قصبه -أمعاءه ومصارينه- ممزقة وهو يسحبها في النار، هذا أول من أحدث الشرك في الجزيرة: عمرو بن لحي الخزاعي.
فالبحيرة: من بحر الشيء: بقرة أو ناقة تشق وتبحر أذنها وتعلم أنها للآلهة، وأنها يتوسل بها ويستشفع بها إلى الله، وتترك فلا تركب ولا تذبح ولا يؤكل منها.
والسائبة: التي تسيب للآلهة وتترك، لا يؤخذ وبرها ولا صوفها ولا حليبها ولا تؤكل.
والوصيلة: التي تلد أول ما تلد أثنى، أو تصل أنثى بذكر بحسب ترتيباتهم، هذه الوصيلة أيضاً تترك للآلهة.
والحامي بمعنى: المحمي، الجمل الذي بلغ كذا يحمونه للآلهة فلا يركبون عليه ولا يبيعونه ولا يأكلون لحمه، يتركونه للآلهة يتقربون به إلى الله عز وجل.
فلما سئل الرسول أجاب الرحمن عز وجل: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ )[المائدة:103]، أبداً ما سن هذا ولا شرعه ولا قرره، هذا من عمل الجاهلية، ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ )[المائدة:103]، نسبوا هذا إلى الله كذباً عليه والله ما جعل هذا.
وإذا نظرنا إلى واقع العالم الإسلامي منذ أكثر من ألف سنة نجد لهذا نظائر في قباب وأشجار ومعابد، كل هذا يدعون أنهم يتوسلون به إلى الله، ويستشفعون به إلى الله، والله ما شرعه ولا أمر به ولا جاء الرسول به أبداً، القباب تضرب وتبنى وينزل تحتها من ينزل يحرسها ويحميها، ويأتي نساؤنا ورجالنا يتبركون ويتمرغون ويدفعون مقابل ذلك نقوداً في يد هذا القائم على الضريح، كل هذا من زينه؟ الشيطان الذي يريد أن يضل الإنسان ولا يهتدي، وشجرة -والله- يعكفون عليها ويعبدونها.
إذاً: عرفنا أن هذا من الشيطان، ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:103]، من أين لهم العقل؟ كلهم لا يعقلون إلا ما شاء الله، الذي يفتري الكذب ويختلقه على الله هل هذا مؤمن؟ هل يستحق كرامة؟ تكذب على من؟ على الله فتقول: أحل الله والله ما أحل، وتقول: حرم الله والله ما حرم!

يتبع

ابوالوليد المسلم
25-07-2021, 05:38 AM
الرد على مفت بانتفاء تحريم الخمر واللواط في القرآن الكريم
ومن الغريب أن أحد علماء الزمان في الديار المصرية أعلن في صراحة أن الخمر ليست محرمة في القرآن، وأن اللواط كذلك، هذا الشيخ يقال له: العشماوي ، ورد عليه رجال العلم في مصر والأردن والمملكة.والشاهد عندنا في أن الشياطين تزين الباطل والإجرام والفساد والشر لأوليائها؛ لينشروه، فهذه الكلمة لولا أنه قومها أهل العلم وأسكتوه لكان البسطاء والجهال كلهم يقولون: قال العالم: الخمر ما هي بحرام في القرآن، واللواط ما هناك نص في القرآن على تحريمه.
والشاهد من هذا: أن الشياطين هي التي تزين الباطل لأوليائها، فهذا الرجل يجب عليه أن يتوب ويعلن عن توبته، وإلا فهو أقبح من المرتد والعياذ بالله، أمر مجمع عليه بالكتاب والسنة وأمة الإسلام إلى اليوم على تحريمه ثم يقول بحليته؟! هل لهذا عقل أو دين؟ ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ )[المائدة:103]، هذا يقول: الخمر ما هو بحرام، فكذب على الله أم لا؟ الله يقول: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، هذا أبلغ من كلمة: (انتهوا)، هذا معناه: تنتهون أو ننزل عقوبتنا ونضرب على أيدكم، أبعد هذا نطلب نصاً للتحريم؟
أما كلمة اللواط فما كان العرب يعرفونها أبداً ولا يسمعون بها، لولا أن القرآن نزل بها عن قوم لوط لما عرفوها، وما هناك هبوط ولا سقوط ولا موت ولا دمار أكثر من أن ينزو الذكر على الذكر، ثم في هذا يتكلم هذا العالم ويقول: اللواط ما هو بمحرم في الكتاب! هذا افتراء على الله وكذب على الله.
(وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:103] لظلمة نفوسهم، ولتسجيلهم في عذاب الجحيم ( يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:103]، لو كانت لهم عقول يعرفون بها الحق من الباطل والخير من الشر، والضار من النافع لما كانوا يعبدون الأصنام أو يذيعون ويعلنون عن إباحة المحرمات والعياذ بالله.
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ...)
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104]، نقول لهذا: أنت تقول: الله ما حرم الخمر ولا حرم اللواط، فتعال إلى الكتاب والسنة؟(قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104]، هؤلاء المشركون والخرافيون وأصحاب البدع إذا دعوتهم إلى الكتاب والسنة يقولون: ( حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104]، إلى الآن ما من صاحب بدعة ولا خرافة ولا ضلالة في ديار الإسلام إذا دعوته يقول: وجدنا آباءنا على هذا، علماؤنا قالوا بهذا! فكيف تدعى إلى الكتاب والسنة، إلى الله والرسول ثم ترفض وتقول: يكفيني أبي وأمي أو أجدادي وأهل بلادي؟ فهذه الآية كأنها تنزل الآن؛ لأن هذا القرآن كتاب هداية للبشرية إلى نهاية الحياة.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا )[المائدة:104] نتحاكم، نتقاضى ( إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ )[المائدة:104]، وبياناته لكتاب الله وهداياته وسننه، ( قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104]، يكفينا هذا.
قال تعالى: ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ )[المائدة:104]، أيقولون هذا القول ويفزعون إلى هذا المفزع؟ ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا )[المائدة:104] من المعرفة، ولا يهتدون إلى حق وإلى صراط مستقيم، كيف يتبعونهم ويقتدون بهم؟! وفي هذا أنه يحرم الاقتداء بالجهال والاهتداء بهم، لا اقتداء إلا بالعالمين العارفين بالله.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
مرة ثانية أسمعكم الآيات: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ )[المائدة:101-102]، سؤال قوم عيسى وسؤال قوم صالح وموسى وغيرهم، وهلك السائلون لأنهم يسألون سؤال تنطع وعناد ومكابرة.(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ )[المائدة:103]، هذا من وضع الضلال ومن وضع الشياطين، فما عندنا قبر يعبد ولا صنم ولا حجر ولا جدار، ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ )[المائدة:103]، خذها قاعدة: الكافر يكذب على الله؛ لأنه لا يعرفه ولا يخافه ولا يرهبه، يكذب فيقول: قال الله، أذن الله، منع الله، حرم الله، وهو يكذب، كما كذب هذا العشماوي، ( وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:103]، ولو عقلوا ما تورطوا.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ )[المائدة:104]، أي: إلى الكتاب، ( وَإِلَى الرَّسُولِ )[المائدة:104]، أي: بيانه وسنته وهدايته؛ لأن الرسول لا يبقى حياً دائماً، فالباقي سنته، ولو كان حياً ونحن في نجد أو في الشام أو في العراق فإنا نتحاكم إليه أيضاً؟ والسنة الآن هي التي نتحاكم إليها.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ )[المائدة:104]، هذا من باب التأنيب والإنكار عليهم، ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ )[المائدة:104]، يقولون: نتحاكم إلى آبائنا وهم جهلة لا يعرفون شيئاً!
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
لنستمع مرة ثانية إلى شرح الآيات من الكتاب وتأملوا. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ لقد أكثر بعض الصحابة من سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تضايق منهم ] ومن أجله نزلت الآية، [ فقام خطيباً فيهم وقال: ( لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم. فقام رجل يدعى عبد الله بن حذافة
كان إذا تلاوم مع رجل دعاه إلى غير أبيه، فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك حذافة ) ، وقال أبو هريرة : ( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ ) ]، لم يسأل هذا السؤال؟ هل هو في حاجة إلى هذا؟ [ ( فسكت ) ] الرسول صلى الله عليه وسلم غير راض بهذا السؤال [ ( حتى قالها ثلاثاً ) ] قال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت، أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت، أفي كل عام يا رسول الله؟ [ ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا. ولو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم ) ]، وإذا ما فعلنا فماذا ينزل بنا؟ [ ( ثم قال: ذروني ما تركتكم )] اتركوني ما تركتكم. [ فنزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )[المائدة:101]، الآيات، أي: تظهر لكم جواباً لسؤالكم يحصل لكم بها ما يسؤكم ويضركم، ( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ )[المائدة:101]، أي: يبينها رسولنا لكم ]، إذا نزلت آية أو حكم في القرآن فاسأل لتعرف معناه، فالرسول يبين، [ أما أن تسألوا عنها قبل نزول القرآن بها فذلك ما لا ينبغي لكم؛ لأنه من باب إحفاء رسول الله وأذيته صلى الله عليه وسلم. ثم قال لهم تعالى: ( عَفَا اللَّهُ عَنْهَا )[المائدة:101]، أي: لم يؤاخذكم بما سألتم ( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )[المائدة:101]، فتوبوا إليه يتب عليكم واستغفروه يغفر لكم ويرحمكم فإنه غفور رحيم.
وقوله تعالى: ( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ )[المائدة:102]، أي: قد سأل أسئلتكم التنطعية المحرجة هذه ( سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ )[المائدة:102]، لأنهم كلفوا ما لم يطيقوا وشق عليهم؛ جزاء تعنتهم في أسئلتهم لأنبيائهم، فتركوا العمل بها فكفروا. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية.
وأما الثالثة فقد قال تعالى: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ )[المائدة:103]، ومن الجائز أن يكون هناك من يسأل الرسول عن البحيرة وما بعدها ] وهو كذلك [ فأنزل الله تعالى فيه: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ )[المائدة:103]، أي: ما بحر الله بحيرة ولا سيب سائبة ولا وصل وصيلة ولا حمى حامياً، ولكن الذين كفروا هم الذين فعلوا ذلك افتراء على الله وكذباً عليه، ( وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:103]، ولو عقلوا ما افتروا على الله وابتدعوا وشرعوا من أنفسهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى، وأول من سيب السوائب وغير دين إسماعيل عليه السلام عمرو بن لحي الخزاعي الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار، أي: أمعاءه في جهنم. هذا ما تضمنته الآية الثالثة ].
فالرسول عرضت عليه النار والجنة، رآها رؤية واقعة، لكنها عرضت عليه كما تعرض عليكم الآلات في التلفاز، فما بقي عجب، فشاهد عمرو بن لحي يجر أمعاءه في النار والعياذ بالله؛ لأنه أول من سن الشرك وأتى به إلى هذه الديار، جاء بهبل ووضعه عند الكعبة.
قال: [ أما الرابعة فقد أخبر تعالى أن المشركين المفترين على الله الكذب بما ابتدعوه من الشرك ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ )[المائدة:104]، ليبين لكم كذبكم وباطلكم في بحر البحائر وتسييب السوائب، يرفضون الرجوع إلى الحق ويقولون: ( حَسْبُنَا )[المائدة:104]، أي: يكفينا ( مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104]، فلسنا في حاجة إلى غيره. فرد تعالى عليهم منكراً عليهم قولهم الفاسد: ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا )[المائدة:104]، أي: يتبعونهم ويحتجون بباطلهم ولو كان أولئك الآباء جهالاً حمقاً لا يعقلون شيئاً من الحق، ( وَلا يَهْتَدُونَ )[المائدة:104] إلى خير أو معروف؟ ]، ولهذا ما زال إلى الآن أصحاب البدع في دارنا الإسلامية يحتجون فيقولون: العلماء قبلكم ما قالوا هذا، وجدنا علماءنا في هذه البلاد يقولون كذا وكذا! فهل هذه حجة؟ دعاك إلى قال الله وقال الرسول وتقول: وجدنا علماءنا يفعلون كذا! هذا تشبه بالمشركين أم لا؟ مهما ما كنت إذا دعيت إلى الكتاب والسنة فقل: آمنت بالله، وصلى الله وسلم على رسول الله، هات الكتاب والسنة.
والآن لاشك أن المستمعين والمستمعات فهموا هذه الآيات إن شاء الله، لكن تنتفعون بها يوم تقرءونها، لا بد من قراءة القرآن، أما أن تسمع الآيات ولا تعود إليها تتلوها ليلاً ونهاراً فكيف تبقى في ذهنك؟ لكن الذي يرجع إلى الآيات يتلوها في تهجده في أوقات فراغه يمر بها يذكر ذلك.
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: كراهية الإلحاف ]، ما معنى: ألحف في السؤال؟ أكثر فوق العادة، وقد قلنا: إن المراد مطلق السؤال، حتى لو سألت المال، سألت الدراهم، سألت عن أي شيء، لا تلحف وتلح، تأدب، فضلاً عن أسئلة تتعلق بدين الله وما عند الله.
[ كراهية الإلحاف في السؤال والتقعر في الأسئلة والتنطع فيها ]، التقعر: أن يذهب بعيداً إلى معان ما تخطر في البال، والتنطع كذلك أن يطلع إلى أشياء ما سمع بها، فاسأل عما أنت في حاجة إليه أن تعبد الله به وتعرفه، بل نحن نقول: لا يجوز أن نؤذي أمياً، حارس عند الباب اسأله بلطف لا تلحف عليه: من أنت وكيف هذا؟ كما يفعل الجهال، فمن أين أخذنا هذا الهدى؟ من قوله تعالى: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )[المائدة:101].
[ ثانياً: حرمة الابتداع في الدين ]، ليس من حق أي عالم أو رباني أو ولي أن يبتدع بدعة في الإسلام ويدعو الناس إليها؛ لأن هذا تجهيل لله، أو نسبة النسيان إلى الله أو نسبة عدم العلم إلى الله، حتى جاء هو بعبادة يدعو الناس إليها، فلهذا كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، والذين يبتدعون ويزيدون هل الإسلام ما كفاهم حيث أدوا الواجبات والفرائض والنوافل وبقي وقت فأرادوا أن يزيدوا شيئاً؟! إن الفرائض ما أدوها.
[حرمة الابتداع في الدين وأنه سبب وجود الشرك في الناس ]، سبب وجود الشرك ما هو؟ والله! إنه البدعة، هي التي تنتقل من تحسين بدعة إلى عمل شرك، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:103].
[ ثالثاً: وجوب رد المختلف فيه إلى الكتاب والسنة والرضا بحكمهما ]، إذا حصل خلاف بين مؤمن ومؤمن يجب أن يرد ذلك إلى الكتاب والسنة والرضا بالحكم، لا نرده إلى الكتاب والسنة وبعد ذلك ما ترضى وما تقتنع، وجوب رد المختلف فيه إلى الكتاب القرآن العظيم، والسنة سنة الرسول عليه السلام، والرضا بحكمهما، واقتنع وطأطئ رأسك وقل: آمنت بالله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تقل: أنا مذهبي ما يقول بهذا. فهذا الحكم أخذناه من قوله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104].
[ رابعاً: حرمة تقليد الجهال واتباعهم في أباطيلهم ]، يحرم أن تقلد جاهلاً يا عبد الله، لا يحل لك أن تقلد جاهلاً وتعمل بقوله ورأيه وعمله وتتبعه في باطله، الجاهل أعمى فكيف يقودك؟! يقودك من علم وعرف وأصبح ذا نور وهداية، هذا قلده، أما أن تقلد جاهلاً باطلاً فتقع في الهلاك، وأكثر البدع قلد فيها المسلمون الجهال، إذ ما وجدوا علماء دعوهم إليها، يندر هذا، الجهال يقلد بعضهم بعضاً.
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
25-07-2021, 05:47 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (46)
الحلقة (457)
تفسير سورة المائدة (52)


أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نحافظ على زكاة أنفسنا وطهارتها، ثم أخبرنا أننا متى ما فعلنا ذلك واهتدينا إلى طريقه المستقيم، فلا يضرنا من ضل عن الطريق وتنكب السبيل، المهم أن نحافظ على هدايتنا ونوفر أسبابها كما بينها لنا رسول الله، وهي التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، فإذا تحققت الهداية للمؤمنين والضلالة للمنحرفين كان مرجعهم جميعاً إلى رب العالمين، لينبئهم بما كانوا يعلمون، ويجازي أهل الهداية بما يستحقون، ويجازي أهل الضلالة بما يستقحون.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، ومعنا الليلة آية واحدة من أجل الآيات وأعظمها، فيها نتلوها ونكرر تلاوتها رجاء أن نحفظها عن ظهر قلب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )[المائدة:105].
هذا النداء أحد نداءات الرحمن لأهل الإيمان، ينادينا خالقنا ورازقنا ومدبر حياتنا، ينادينا معبودنا وإلهنا الحق الذي لا إله لنا سواه، فيقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:105]، أي: يا من آمنتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، يا من آمنتم بالله ولقائه ووعده ووعيده، يا من آمنتم بكل ما أمركم مولاكم أن تؤمنوا به من الغيب والشهادة، أنتم أيها المؤمنون الأحياء، والحي يسمع النداء، والحي يفعل إن أمر أن يفعل، ويترك إن أمر أن يترك؛ ولذلك لكمال حياته.
وقد علمنا: أن الإيمان الحق بمثابة الروح للبدن، فالمؤمن الإيمان الصحيح الذي إذا عرضناه على القرآن والسنة وافقا عليه، صاحب هذا الإيمان -والله- حي، وحسبه شرفاً أن يناديه الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:105]، فجوابنا: لبيك اللهم لبيك، مر نفعل، انه ننته، بشر نستبشر، أنذر نحذر، علم نتعلم، عبيدك بين يديك، هذه حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم.
الأمر بتهذيب النفس وتزكيتها وتطهيرها
نادانا هنا ليقول لنا: ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105]، ماذا نفعل بها؟ نزكيها ونطهرها، نهذبها ونربيها؛ لتكون في عداد مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. يا عبد الله! عليك نفسك لا تهملها، لا تغفل عنها، لا تضيعها، لا تصب عليها أطنان الذنوب والآثام فتمسخها وتحولها إلى نفس شيطانية والعياذ بالله، أنت المسئول عنها لا غيرك، واللفظ يحمل معنى عاماً: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105] من المؤمنين، مروهم وانهوهم، وربوهم وعلموهم، هذبوهم، اهدوهم، أرشدوهم؛ لأنكم كالجسم الواحد.
وتتناول ما بدأنا به أن كل مؤمن عليه أن يحفظ نفسه من أن تتلوث أو تسقط وتهبط وتصبح في عداد الشياطين والمجرمين، هذا أمر الله، فهل نطيع؟ يا ويحنا إذا لم نطع، فهيا نحفظ لأنفسنا طهارتها.
أولاً: نطهرها بمواد التطهير، وهي الإيمان والعمل الصالح، والعمل الصالح: ما وضعه الله لنا لنعبده به من كلمة لا إله إلا الله إلى إماطة الأذى عن طريق المؤمنين، كل العبادات من صلاة، من زكاة، صيام، بر الوالدين، قول المعروف، ذكر الله، تلاوة كتاب الله، الجهاد، الرباط، كل عبادة هي عبارة عن مادة لتزكية النفس، إذا استعملها العبد على الوجه المطلوب أثرت في نفسه بالطهر والصفاء، حتى تصبح روحه كأرواح الملائكة، ثم علينا إذا طهرناها أن نحافظ على طهارتها، لا نغفلها بحيث تنظف اليوم وغداً نصب عليها برميل زبل فنسودها ونلطخها، لا بد من المحافظة على طهارتها وزكاتها حتى الموت، وإن زلت القدم واستغفلك العدو يوماً في الدهر فالتوبة النصوح تزيل ذلك الأثر وتذهبه ويحل محله الأثر الطيب، قال تعالى: ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ )[الفرقان:70]، ما كان ظلماً ونتناً في النفس يصبح نوراً وطهارة وريحاً طيباً.
يا عبد الله.. يا أمة الله! حافظ على نفسك، لا تهملها، لا تضيعها، لا ترمها في مزابل الشياطين، جنبها كل ما من شأنه أن يلوثها كالكذب، كالحسد، كالشرك، كالبخل، كالخيانة، كل الذنوب، ما من ذنب حتى النظرة تتعمدها وتنظر إلى امرأة في الشارع أو على النافذة بقصد النظر إليها؛ ما ذنب إلا يحول نفسك إلى نتن وعفونة إذا لم تبادر بغسلها وتطهيرها.
أقول: أمرنا مولانا عز وجل أن نحافظ على زكاة أنفسنا وطهارتها، أولاً: نستعمل التزكية والتطهير، وحين تطهر لا نسمح أبداً لأدنى دخن يصيبها، وإن زلت القدم قلت: أستغفر الله.. أستغفر الله، أتوب إلى الله، تمرغ بين يدي الله وأنت تبكي في صدق عازماً على ألا تعود إلى هذا الذنب ولو قطعت وصلبت، فإن هذا الأثر يمحى بإذن الله مع التوبة الصادقة، ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا )[الفرقان:70].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105]، قلت: إن الآية تتناول أمة الإسلام لأنها جسم واحد، ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105] أيها المسلمون، ولا تبالوا بأولئك عبدة الأصنام والأحجار وأصحاب البحيرة والسائبة وما تقدم، شأنهم إلى جهنم، لكن أنتم أيها المسلمون حافظوا على طهارة أرواحكم وزكاة نفوسكم: ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105].
ضلال الضالين لا يضر المهتدين
وقوله: ( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ )[المائدة:105] بقيد: ( إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، من ضل الطريق الموصل إلى رضوان الله ودار السلام ومواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين لا يضرنا أبداً إذا نحن اهتدينا، أنت هديت لتعبد الله عز وجل فاستقم على منهجه ولا يضرك بلايين الكفار والمشركين، ( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ )[المائدة:105] الطريق وأخطأه وسلك سبيل الشياطين، ولكن بشرط ( إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، إذا اهتدينا أولاً إلى الإيمان الصحيح والتوحيد لله رب العالمين، ثم عبادته بما شاء أن نعبده، ثم تجنب كل ما من شأنه أن يؤثر على أنفسنا بالخبث والتدسية، أي: باجتناب كل ما حرم الله ورسوله من النظرة إلى أكل الربا.وهنا ألفت النظر -وقد سبق أن عرفتم- إلى أنه لا بد من معرفة ما نعبد الله به، ومعرفة ما نتجنبه مما حرمه الله، فالعلم ضروري يا عبد الله، كيف يقال: اغسل ثيابك وهو لا يعرف بم يغسلها، لا بد أن أقدم له مادة الصابون أو الماء. فأنت تقول: يا عبد الله! زك نفسك. فكيف يزكيها؟ دله على مواد التزكية وعلمه كيف يستعملها، قل له: حافظ يا عبد الله على زكاة روحك وطهارتها، بين له ألا يأتي ذنباً من الذنوب فيلوثها ويخبثها، فلا بد من معرفة محاب الله ومكارهه، لا بد -يا عبد الله.. يا أمة الله- من أن تعرف محاب الله ومكارهه، فإذا عرفت محاب الله عرفت وعد الله، وإذا عرفت مكارهه عرفت وعيده، إذ لله وعد ووعيد، الوعد لمن أطاعه، والوعيد لمن عصاه، ومحاب الله هذه العبادات، ما شرعها إلا لأنه يحبها، واذكروا قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن )، إذاً: الله يحب بعض الكلم، ما أمرنا بأن نقول كلمة أو نعبده بها إلا لأنه يحبها، فهل أنتم تأخذون بهذا الهدي المحمدي؟ من منكم يقول: أنا عندي ورد يومي أقول مائة مرة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، أتملق الله وأتزلف إليه ليحبني؟ لنقل: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، تغن بها وأنت تسوق في سيارتك، تغن بها والقدوم في يدك تنجر خشبتك، اذكري يا مؤمنة وأنت تعجنين طحينك ودقيقك؛ لأننا خلقنا للذكر، ما عندنا كلم نلهج به ويسمع منا قط إلا ذكر الله عز وجل، أليس لذلك خلقنا؟
إذاً: هل عرفتم سر الحياة وعلة الوجود أيها الفلاسفة؟ علة الوجود كله وسر هذه الحياة: أن يذكر الله ويشكر، فمن شكر وذكر؛ قربه إليه وأدناه وأنزله الفراديس العلا، ومن كفره وجحد ولم يذكره أرداه وأشقاه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، أما إذا ضللتم فإنه يضركم الضال، لكن إذا اهتديت فلا يضرك، والاهتداء إلى أين؟ إلى الجنة. وهل للجنة طريق؟ أي نعم، وهو الإيمان والعمل الصالح فعلاً، وترك الشرك والمعاصي تركاً، هذا هو الطريق نهايته دار السلام، وإذا تعجبت فأبشر عما قريب وأنت على سرير الموت والملائكة تتوافد عليك وأنت تستبشر بهم وتضحك: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ )[فصلت:30] في سياق الموت، وتقول لهم ماذا؟ ( أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا )[فصلت:30-32]، ضيافة، ( مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ )[فصلت:32]، هؤلاء أهل الأرواح الطاهرة، والنفوس الزكية، أما أصحاب النفوس الملوثة المخبثة المنتنة فلا.
معنى قوله تعالى: (إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ )[المائدة:105]، مرجع الطغاة والبغاة والظلمة والمشركين والكافرين، والربانيين والمؤمنين والصالحين، وهل نرجع إلى غيره؟ ما هناك -والله-مرجع إلا إليه في ساحة فصل القضاء.(فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )[المائدة:105]، وإذا نبأنا وأخبرنا فإنما ليقيم الحجة علينا، وتأتي السجلات الضخمة، ووالله! ما ترك لنا من عمل صالح أو فاسد إلا دون وكتب وسجل، ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ )[الحاقة:19-23]، يقولون لهم: ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ )[الحاقة:24]، الماضية، وهذه الجلسة منها.
ثم قال تعالى: ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ )[الحاقة:25]، فالأول: كتابه حسنات ذات أنوار يعطونه بيمينه، والآخر سيئات منتنة وشرك وخبث يعطى كتابه بشماله ووراء ظهره، لا يواجهونه ليأخذها، ( فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ )[الحاقة:25]، أي: لم أعط كتابيه، ( وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ )[الحاقة:26-27]، يود الانتحار ولا ينفعه انتحار، يود لو يموت في تلك الساعة، ( يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ )[الحاقة:27-29]، هاتان مصيبتان: المال والسلطان، من طبع الإنسان حب أن يسود ويعلو ويتكبر ويترفع، من طبيعته أن يحب المال حباً جماً، ومن يقول: أنا لا أحبه؟ قد يكون ذلك من شاخ أو أصبح على شفا حفرة، ومع هذا قد يشيب المرء ويشب معه حب المال والدنيا.
إذاً: ( خُذُوهُ )[الحاقة:30]، من الآمر؟ الله جل جلاله. من المأمور؟ ملائكته، زبانيته، ( خُذُوهُ )[الحاقة:30] أولاً ( فَغُلُّوهُ )[الحاقة:30]، الغل يوضع في عنقه، ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ )[الحاقة:31-32]، يدخلونها من فيه ويخرجونها من دبره كخيط المسبحة، ( ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا )[الحاقة:32]، هل من أذرعتنا أو أذرعة السلطان؟ كلا؛ لأن ضرسه كأحد، وعرض أحد مائة وخمسة وثلاثون كيلو متر، فكم طول هذه السلسلة؟
(ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ )[الحاقة:32]، لم؟ ما العلة؟ ( إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ )[الحاقة:33-37]، والغسلين: الغسالة، العرق والدماء والأوساخ التي تتجمع في أطنان، ذلك هو طعامهم، لا بقلاوة ولا حلاوة ولا لوبيا ولا جزر، الطعام ما يسيل من عرق ودماء ودموع وأوساخ تتجمع بكميات، وهي طعامهم، فقولوا: آمنا بالله.

يتبع

ابوالوليد المسلم
25-07-2021, 05:48 AM
توقف الهداية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
معاشر المستمعين! اسمعوا الآية من جديد: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، قالت العلماء: لن تتم هدايتنا إلا إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، قال ذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم، لا تتم هدايتنا ونطمئن إلى أننا مهتدون حتى نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؛ لأننا لو رأينا المنكر يرتكب بيننا وما نهينا عنه، ورأينا المعروف ضائعاً وما أمرنا به ولا فعلناه فهل نهتدي؟ كلا. بل ننتكس، إذا انتشر الباطل في قرية أو مدينة أو في بيت فلا تتم هداية حقة إلا إذا أمرنا ونهينا عن المنكر.وإليكم حديث الحبيب صلى الله عليه وسلم، روى أبو داود والترمذي وغيرهما -والحديث حسنه الترمذي وقال: حسن غريب، ولا تضر غرابته- عن أبي أمية الشعباني من التابعين، قال: ( أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ )، وهي قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )[المائدة:105]، ويجزيكم الخير بالخير والشر بالشر. ( فقال: أية آية؟ قلت: قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم )، أنا خبير، فكيف حصلت لي هذه الخبرة؟ قال: سألت أنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر )، (ائتمروا) أي: ليأمر بعضكم بعضاً بالمعروف، و(تناهوا) أي: لينه بعضكم بعضاً عن المنكر.

كنت أفكر في الآية وأمامنا مصلون بينهم أحد الإخوان ثوبه يسحب في الأرض، فقلت: هل أقول لأحد: امش إليه وقل له: تعال إلي؟ قد لا يحصل، فهل أسكت وأنا الآن في الدرس؟ فكيف نعمل؟ فتوكلت على الله ومشيت إليه، وأخذته من ذراعه وسلمت عليه، وقلت له: يا بني! ثوبك طويل، لا يصح هذا، فقصره. ففرح والحمد لله.
فكل من رأى بينكم منكراً فليغيره، ابدأ بالبيت الذي أنت فيه، زوجتك وأولادك، أمك وأبوك، موضع تلاقيك بإخوانك في عملك أو في سفرك، وهكذا، مره بالمعروف إن ترك معروفاً، ولكن بالكلمة الطيبة والوجه الباش الهاش، لا تعنف ولا تغلظ وتشدد فما يقبل منك حتى ولو كان من كان، وإذا رأيت أيضاً معروفاً متروكاً فقل: يا فلان! افعل كذا فهو خير لك، فتنجو وتسعد وتكمل، وهكذا، فإذا أمرنا بالمعروف وتناهينا عن المنكر ما يشيع فينا الباطل والمنكر ولا نضل، لكن إذا اهتدينا ثم سكتنا وظهر الباطل والمنكر وترك المعروف كذا يوماً فسنتحول إلى ضلال، من كان لا يكذب فإنه يصبح يكذب.
شرح حديث: (ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر)
لنسمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: ( ائتمروا بالمعروف )، أي: ليأمر بعضكم بعضاً، المرأة تأمر الرجل، الخادم يأمر السيد، السيد يأمر الخادم، الجار يأمر جاره وهكذا؛ لأننا نفس واحدة: ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105]، فنفسي هي نفسك.قال صلى الله عليه وسلم: ( حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة )، نسأل الله ألا يوجدنا في وقت كهذا.
معنى الشح المطاع
يقول: ( ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ) إلى متى؟ ( حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً )، وهل الشح يطاع؟ قال تعالى: ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ )[الحشر:9]، فالشح فطري في النفس، مغروز بها، فإن وقاك الله إياه وحفظك منه نجوت، وإذا نبت فيك وأثمر فهذا الشح يصبح صاحبه يطيعه، لو أمره أن يسرق من جيب أخيه فإنه يسرق لأنه أطاع شحه، لو أمره أن يكذب ألف كذبة لأجل الحفاظ على ماله فإنه يكذب، الشح أشد من البخل، وهو منع الحقوق، هذا مرض إذا وقانا الله منه نجونا، ونسأل الله أن يقينا.وقالت العلماء: من أدوية علاج الشح الصدقات، تمرن وتعود على الصدقة، في يدك سبع تمرات فتصدق بتمرة، بين يديك خمس لقيمات طعام وجاء سائل فأعطه لقمة، في يديك عشرة ريالات فجاء سائل فأعطه نصف ريال أو ريالاً، تمرن على هذا تبرأ من هذا المرض، لا علاج له إلا الصدقة، بها يعالج شح النفس أو بخلها، قد تبخل بالمال، وقد تبخل ببدنها، تبخل بعرضها، تبخل بحياتها كلها.
معنى الهوى المتبع
ثانياً: ( وهوى متبع )، هوى النفوس متبع، الناس يتبعون أهواءهم، أيما شيء تزينه النفس يفعله، هل لهذا مثال؟ مثال هذا الذي شاع بين الناس الدشوش التي على السطوح، هل أمر الله بهذا؟ هل بلغكم أن هذا حلال وطيب مما يرضي الله؟ الجواب: لا، بل أعلن رسمياً في الصحف والإذاعة أنه حرام، فكيف تجده الآن على السطوح، ما سببه؟ والله! ما هو إلا الهوى المتبع، اتبعوا أهواءهم وما اتبعوا دين الله ولا دين رسوله ولا ما جاء في كتاب الله ولا سنة رسوله، والله ما هو إلا هوى متبع.هؤلاء الذين يبيعون البرانيط، والعامة لا يفهمون البرنيطة، عرفناها يوم عشنا مع فرنسا المستعمرة، وهي ما تسمى بالقبعة، وقد بينا غير ما مرة أن الرسول الكريم يقول: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، وقلت: بالله الذي لا إله غيره! لو يجتمع علماء الكون والطبيعة والنفس والطب على أن ينقضوا هذا الخبر والله ما نقضوه ولن يقدروا على نقضه، ( من تشبه بقوم فهو منهم )، فلهذا أمرنا ألا نتشبه بيهودي ولا نصراني ولا مشرك أبداً، فمن تشبه بقوم كيف يكون منهم؟ لأن لفظ (تشبه) على وزن تفعل، أراد أن يكون مثل مسيو، امرأة شاهدت عاهرة على التلفاز أو الفيديو فأحبت أن تكون مثلها، فأخذت تأخذ المساحيق واللباس وكل ما تريده لتكون مثلها، هذه لا تلبث أن يكون في قلبها نفاق فتنسى الله والدار الآخرة، رأى رجل منا مائعاً ضائعاً مخنثاً في زيه، في لباسه، في منطقه، فأحبه وأراد أن يكون مثله، وأخذ يتشبه به، والله لا يلبث أن يكون مثله، رأيت بطلاً شجاعاً فارساً هماماً، فأحببت أن تكون مثله، فأخذت تقلده، لا تلبث أن تكون مثله؛ لأنك أردت، رأيت عبداً صالحاً فأحببته وأردت أن تكون مثله، فتأخذ بالتشبه به في عمامته، في مشيته، في جلسته، في منطقه، في أذكاره، في عباداته، والله! ما تلبث أن تكون مثله، هذه قاعدة وضعها أبو القاسم من وحي السماء: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، فهذه البرانيط من يصدرها لنا؟ اليهود. فكيف يا تاجر في مدينة الرسول، في مكة بلد الله عز وجل تستورد البرانيط لتبيعها لأبناء المسلمين؟ فأصبحوا يتبجحون في الشوارع حتى في المسجد، لولا أنا طردناهم من الحلقة لأتوا إلى الحلقة؟ فهل هذا منكر أو معروف؟ والله! إنه لمنكر، وإن لم تنكروه فالله ينكره، نحن تنازلنا عن لباس العسكر؛ لأنه يواجه العساكر والجيوش، أما المدنيون فبأي حق يلبسون البرانيط؟ فيا ويل التجار الذين يستوردونها ويبيعونها، زوروهم في دكاكينهم وأنتم تبتسمون، وسلموا عليهم وصافحوهم، وعانقوهم، وقولوا: استيراد هذه لا خير فيه، بلغنا أن هذا من زي الكافرين والنصارى. نحن رأينا اليهود، فهل تلبس برنيطة يهودي؟ أعوذ بالله! مضت فترة على المسلمين ولا يضع برنيطة على رأسه إلا كافر.
على سبيل المثال: عايشنا الديار المغربية: المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، والله ما كان مدني يلبس برنيطة والحاكم فرنسا! واحتراماً للإسلام والمسلمين وتقديراً لهم من السيدة فرنسا والله! إن الجيوش التي تجيش من العرب لا تجعل لهم اللباس العسكري الفرنسي، إما برنس أو عمامة، عمامة هؤلاء الفرسان الذين تفتح بهم البلاد، والبوليس بوليسان في الشارع، في العاصمة أو في المدينة، فرنسي بالقبعة ومسلم بطربوش أحمر كأنه عثماني، والله الذي لا إله غيره؛ حفاظاً على شعور المسلمين، ونحن نهبط هذا الهبوط؟! فإن شاء الله لا نرى بعد اليوم قبعة على رأس ولد ولا كبير، لكن مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر.
معنى إيثار الدنيا والإعجاب بالرأي
قال: ( ودنيا مؤثرة )، مؤثرة على الآخرة، مؤثرة حتى على العرض والشرف والكمال، الدنيا آثروها وفضلوها على غيرها. ( وإعجاب كل ذي رأي برأيه )، هذه محنة أخيره، كل من عنده رأي ما يقبل رأي الآخر أبداً ولا يعترف للعالم، العالم لا يعترف للعالم، كل ذي رأي معجب برأيه ما يتنازل وما يقبل الحق أبداً.
التوجيه للمسلم حال ظهور الشح المطاع وغيره
يقول هنا: ( فعليك بخاصة نفسك )، انج، إن هبطت الأمة هل تهبط أنت؟ إذا رأيت هذه الأربعة ظاهرة ما أصبح يقبل منك معروف ولا منكر فماذا تصنع؟ عليك بخاصة نفسك، أقم صلاتك وأد زكاتك، واذكر ربك وتجنب ما حرم عليك، وإن خفت أن يلحقك أذى فارحل، اسكن في الجبال أو الشعاب أو الأودية، حتى تموت طاهراً نقياً، فتنجو وتسعد.قال: ( ودع عنك أمر العامة؛ فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر )، اللهم لا تحينا إليها، ( للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم )، أيها الأصحاب! للعامل في ذلك الزمان مثل أجر خمسين صحابي في البلاء الذي عم وانتشر وثبت هو وصبر، إن غنَّى الناس فوالله ما يغني، إن أدخلوا التلفاز والفيديو فوالله ما يدخله في بيته، إن ألبسوا أولادهم البرانيط فوالله ما يلبسها، إن وضعوا البنوك وأسسوها فوالله ما يفعل، إن كشفوا وجوه نسائهم وبناتهم فوالله ما يكشف، هذا له أجر خمسين صحابياً.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
إذاً: أعيد الآية ولا تنسوا ما سمعتموه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:105]، لبيك اللهم لبيك، ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105]، هذبوها طهروها، احفظوها؛ حتى لا تضيع وتهلك، ( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، لا تتم هداية أمة إلا إذا أمرت بالمعروف وتناهت عن المنكر؛ لأنها إذا سكتت يعمها المنكر ويغشاها الباطل وما يبقى فيها من ينجو ( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ )[المائدة:105]، وهل هناك غير الله نرجع إليه فينبئنا بما كنا نعمل ويجزينا به؟اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
25-07-2021, 05:50 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (47)
الحلقة (458)
تفسير سورة المائدة (53)


شرع الله عز وجل لعباده الوصية في الحضر والسفر وحث عليها ورغب فيها، ومن كان موصياً بشيء فلابد أن يشهد على وصيته أثنان ذوا عدل من المسلمين، فإن كان في سفر أو في أرض غير أرض المسلمين، ولم يجد مسلمين يشهدان فله أن يشهد كافرين على وصيته، فإن حصلت ريبة في شهادتهما فيحلفان عليها، فإن عثر على أنهما كذبا في الشهادة فيؤتى بشاهدين آخرين يقومان مقامهما ويردان شهادتهما ويعيدان الحق إلى أصحابه.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا -والحمد لربنا- مع سورة المائدة المباركة، الميمونة، ومعنا هذه الآيات الثلاث، وهن من أعظم الآيات في القرآن الكريم، احتار لهن العلماء وكبار الصحابة والتابعين والأئمة، فهيا نتلو ونستمع ونتدبر ونتأمل، فإذا جاء الشرح وجدنا أنفسنا على علم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[المائدة:106-108].
سبب نزول الآيات
أذكر لكم ما قيل في سبب نزولها أولاً لتتفهموا معنى الآية: كان تميم الداري رضي الله عنه وعدي بن بداء في الجاهلية تاجرين يتجران من مكة إلى الشام، فخرجا وهما على كفرهما ومعهما رجل آخر، فحضرته الوفاة في الشام ومعه أحسن ما يملك، معه جام من الذهب أراد أن يبيعه لملوك الشام، وهو ذو قيمة كبيرة، فلما حضرته الوفاة قدم إليهما أمواله ومنها الجام هذا وأوصاهما أن يبلغا أمواله إلى أهله بمكة، فلما وصلا إلى مكة قدما ما ترك من مال وأخفيا الجام، وقالا: هذا الذي تركه وليكم.إذاً: فماذا يصنع أهل الميت؟ سكتوا، لكن قالوا: إن لولينا جاماً من ذهب يبلغ كثيراً، فأين ذهب؟ قالا: هذا الذي تركه. وتمضي الأيام ويدخل تميم الداري في الإسلام، قال: فأسلمت وتأثمت، أي: خفت من الإثم، فرددت نصف الذي أخذته من المال، إذ باعا الجام بألفي دينار أو درهم، فدفع خمسمائة لأهل الميت خوفاً من الله عز وجل، والآخر ما زال على كفره، ابن بداء، فرفعت القضية إلى رسول الله بالمدينة، فأنزل الله تعالى هذه الآيات في هذه القضية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ )[المائدة:106]، فيما بينكم، ( إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ )[المائدة:106]، أشرف عليه في سياقاته، ليس معناه: شاهد الموت.
معنى قوله تعالى: (اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم)
(اثْنَانِ )[المائدة:106]، اثنان يشهدان على ما ترك ووصى هذا الميت، ( ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )[المائدة:106]، وهذا قاعدة إلى يوم القيامة: لا تشهد إلا صاحب العدل، كتبت وصيتك فأشهد عليها من هم معروفون بالعدل، أما المعروفون بالحيف والظلم والجور فلا يحق لهم ذلك، ولا يجوز استشهادهم، والآن المحكمة لا تقبل شهادة أي شخص، لا بد أن تثبت عدالته ولو بشاهدين يزكيانه. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ )[المائدة:106]، أي: من غير المسلمين كأهل الكتاب، وهذا القول الراجح، ومنهم من يقول: من قبيلة أخرى أو ناس آخرين، لكن الذي قال به إمام أهل السنة الإمام أحمد هو هذا، وهو أصح ما قيل وإن خالفه الجمهور، (مِنْ غَيْرِكُمْ) أي: من أهل الكتاب.
معنى قوله تعالى: (إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ...)
(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ )[المائدة:106]، أما في بلد الإسلام فما يجوز أن تستشهد كافراً من أهل الذمة اليهود والنصارى، تترك المسلمين وتأتي لتوصي وتشهد كافرين! ما يجوز هذا، لكن إذا كنت في بلاد الكفر في بريطانيا أو أمريكا فإنك تشهد، ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ )[المائدة:106]، ما معنى الضرب في الأرض؟ الضرب بالرجل، فالمسافر يضرب الأرض، ما يرفع رجلاً حتى يضع الثانية، عجب هذا القرآن الكريم! والماشي كم يضرب الأرض مرة؟ ألف مرة أو آلاف المرات، والمراد من الضرب هنا: السفر للتجارة وغيرها، ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ )[المائدة:106]، والموت أكبر مصيبة وأعظمها لا مصيبة أجل منها، ( تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ )[المائدة:106]، تحبسون الشاهدين إذا شك فيهما أو اتهما، ما اقتنع أهل الميت بشهادتهما، فماذا تفعلون بهما؟ تأتون بهما إلى المسجد بعد صلاة العصر، أولاً: المسجد لأنه مكان مقدس ما يستطيع يهودي ولا نصراني ولا مسلم أن يكذب فيه، بل يرهب وترتعد فرائسه، وبعد صلاة العصر بالذات؛ لأن هذا الوقت -كما تعملون- ينزل فيه ملائكة الليل ويعرج ملائكة النهار بأعمال العبد في نهاره وليله، وعند المحراب.إذاً: ( تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ )[المائدة:106]، أي: يقولان: بالله الذي لا إله غيره! ما ترك فلان إلا كذا، أو ترك فلان كذا، ( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ )[المائدة:106]، هذا كله إذا شككتم، أما إذا ما شككتم في الشاهدين على الوصية فما هناك حاجة إلى هذا، لكن إذا شككتم فلا حيلة إلا هذا، ( إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى )[المائدة:106]، أي: الشاهدان يحلفان يقولان: لا نشتري بعهدنا وميثاقنا وأيماننا ( ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ )[المائدة:106]، لماذا؟ ( إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ )[المائدة:106]، كيف نرضى أن نأثم؟
تفسير قوله تعالى: (فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما ...)
( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ )[المائدة:107]، فإذا شككتم في أمرهما واستحلفتموهما وحلفا وبعد ذلك عثرتم على ما يدل على كذبهما، فجأة وقعتم على شيء كان مخفياً ما كان معلوماً، ( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا )[المائدة:107]، بتحريف الشهادة أو الزيادة أو النقصان، ( فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ )[المائدة:107]، نأتي برجلين آخرين يشهدان ويردان شهادة الأولين، وهذا هو العدل، ( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ )[المائدة:107] إن اعتدينا، يقولان هكذا، وترد القضية إلى أصحابها، وهذا الذي أنجزه رسول الله عند محرابه، فجاء من أهل مكة من شهد على رد شهادة الشاهدين وأخذ المال وهو قيمة الجام.

يتبع

ابوالوليد المسلم
25-07-2021, 05:53 AM
تفسير قوله تعالى: (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ...)
قال تعالى وقوله الحق: ( ذَلِكَ أَدْنَى )[المائدة:108]، أي: أقرب، ( أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا \ )[المائدة:108]، إذا كانوا يعرفون هذا وأنهم سيعاقبون، وأنهم سيأتون إلى المحكمة ويشهدون، هذه حالة تجعلهم لا يشهدون بالباطل، ( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ )[المائدة:108]، والعياذ بالله.وأخيراً يقول لنا: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:108]، أي: خافوه فلا تعصوه، لا بالخيانة ولا بشهادة الزور ولا بالقول الباطل ولا بالكذب ولا بالادعاء ولا بالافتراء ولا بأية معصية هي ترك واجب أو فعل حرام، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:108]، فإنه جبار ذو انتقام، من وقف أمامه متجبراً متكبراً معانداً قصم ظهره، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا )[المائدة:108]، اسمعوا هذه التعاليم وطبقوها، ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[المائدة:108]، فمن فسق عن أمر الله ورسوله وخرج عن طاعتهما لا يهديه الله عز وجل، ما أصبح أهلاً للهداية، فليحذر المؤمن من الفسق، فإن من فسق وواصل الفسق يصبح الفسق جبلة في نفسه وفطرة فيه، ومن ثم لا يقبل الهداية ولا يهديه الله، فلهذا يجب أن نسارع إلى التوبة في كل لحظة، ولا يحل تأجيلها ولا تأخيرها ولو بساعة، متى أذنبت عبد الله، متى أذنبت أمة الله فالتوبة على الفور: أستغفر الله.. أستغفر الله، مع الدموع الحارة، والإصرار على ألا نعود إلى هذا الذنب، صاحب هذه التوبة -إن شاء الله- ينجو، وأما الذي يذنب اليوم ويعيد غداً وبعد غدٍ ويستمر على الذنب فيصل إلى مستوى لا يهديه الله عز وجل حسب سنته، قال تعالى -وقوله الحق- من سورة النساء: ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ )[النساء:17]، أي: من زمن قريب. ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ )[النساء:18] أيضاً.
الفسق: ترك واجب أوجبه الله أو رسوله، أوجب فعله أو قوله أو اعتقاده، فتركه عبد الله أو أمة الله ففسق، وفعل أو قول ما حرم الله ونهى عنه وتوعد عليه بالعذاب فسق وخروج عن طاعة الله، فالفاسقون بكلمة (أل)، كما في قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[المائدة:108]، هم الضليعون في الفسق، المتوغلون فيه، المرتكبون له دهراً من الزمن؛ لأنه أصبح من غرائزهم.
قالت العلماء: اللصوص الذين تعودوا السرقة تجده يسحبه العسكري أو البوليس بالسلسلة في يده فتخاف عليه، وهو في تلك الساعة يفكر إذا رجع كيف يسرق، كيف يدخل يده، كيف يعمل كذا من أجل السرقة؛ لأنها أصبحت فطرة له وجبلة في نفسه؛ لأنه تعود عليها، وهكذا الزاني واللائط والكذاب والمنافق، وقل ما شئت، كل من تضلع في الفسق وتوغل فيه زمناً طويلاً حاله هي هذه، ولن يتوب، ما يقبل التوبة ولو عرضتها عليه في أطباق الذهب، فلهذا أجمع المسلمون على أن التوبة تجب على الفور ولا يحل تأخيرها أبداً، ويكفي قوله تعالى: ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ )[النساء:17]، لماذا؟ لأنه إذا توغل لا يرجع، فجر بنساء الناس، أكل أموالهم وسفك دماءهم، فكيف يرجع؟ ما عنده نفسية لأن يرجع أبداً، هذا معنى قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[المائدة:108].
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
اسمعوا الآيات مرة ثانية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:106]، لبيك اللهم لبيك، أعلمنا، علمنا، قال: ( شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ )[المائدة:106]، أما إذا كنا في بلاد الإسلام فما نأتي بشاهد كافر أبداً أو فاسق، لكن نأتي به في بلاد الكفر للضرورة، قال: ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا )[المائدة:106]، متى هذا؟ إذا شك فيهما، ( تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا )[المائدة:106-107]، يبطلان تلك الشهادة بشهادتهما، ويحلفان عند المحراب، ( فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ )[المائدة:107-108] الذي سمعتم ( أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[المائدة:108].
الرد على المجادلين في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
جادل الغافلون أخاً لنا البارحة وقالوا: نحن نقول: الشاة معلقة برجلها، وأنت تقول: لا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلا فما هناك نجاة. فقلت له: لو قلت لهم: ( إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105] شرط، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، والذي ما يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر هل اهتدى؟ لقد ضل وغوى، وقلت له: قل لهم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستحيل أن توجد هداية لأمة بدونهما، إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فما هو إلا زمن والناس كلهم في الذنوب والمعاصي والآثام، ما ينجو أحد، وضربت لهذا أمثلة عدة، قلنا: البلدية عندها كناسون موظفون، لو أن الكناسين أضربوا عن الكناسة وأصبحت كل عجوز ترمي وسخها عند الباب بعد شهر تصير الأزقة كلها مزابل ثم ينتشر فيها الذباب والوباء والمرض؛ لأننا ما نهينا عن المنكر، كل سكت، فأيما قرية أو أسرة يظهر فيها ترك معروف أو فعل مكروه ويسكت عنه فلا بد أن ينتشر فيهم، فلا هداية إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
اسمعوا الشرح الآن بالتأني. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ ما زال السياق في إرشاد المؤمنين وتعليمهم وهدايتهم إلى ما يكملهم ويسعدهم، ففي هذه الآيات الثلاث ينادي الله تعالى عباده المؤمنين فيقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )[المائدة:106]، أي: ليشهد اثنان ( ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )[المائدة:106]، أي: من المسلمين على وصية أحدكم إذا حضرته الوفاة، أو ليشهد اثنان ( مِنْ غَيْرِكُمْ )[المائدة:106]، أي: من غير المسلمين، ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ )[المائدة:106]، أي: كنتم مسافرين ولم يوجد مع من حضره الموت في السفر إلا كافر ]، هذا ابن بداء وتميم الداري كانا كافرين، فلهذا أشهدهما على الوصية، [ فإن ارتبتم في صدق خبرهما وصحة شهادتهما ] إن فرضنا هذا، [ فاحبسوهما، أي: أوقفوهما بعد صلاة العصر في المسجد ليحلفا لكم فيقسمان بالله، فيقولان: والله! لا نشتري بأيماننا ثمناً قليلاً، ولو كان المقسم عليه أو المشهود عليه ذا قربى، أي: قرابة، ( وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا )[المائدة:106]، أي: إذا كتمنا شهادة الله ( لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا )[المائدة:106-107]، أي: وإن وجد أن اللذين حضرا الوصية وحلفا على صدقهما فيما وصاهما به من حضره الموت، إن وجد عندهما خيانة أو كذب فيما حلفا عليه، ( فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ الظَّالِمِينَ )[المائدة:107]، قائلين: والله! لشهادتنا أحق من شهادتهما، أي: لأيماننا أصدق وأصح من أيمانهما، ( وَمَا اعْتَدَيْنَا )[المائدة:107]، أي: عليهما باتهام باطل، إذ لو فعلنا ذلك لكنا من الظالمين، فإذا حلفا هذه اليمين استحقا ما حلفا عليه ورد إلى ورثة الميت ما كان قد أخفاه وجحده شاهدا الوصية عند الموت ]، كما تقدم.
[ قال تعالى: ( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا )[المائدة:108]، أي: أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة عادلة لا حيف فيها ولا جور، وقوله تعالى: ( أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ )[المائدة:108]، أي: وأقرب إلى أن يخافوا أن ترد أيمانهم فلا يكذبوا خوف الفضيحة، وقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:108]، أي: خافوه أيها المؤمنون فلا تخرجوا عن طاعته، ( وَاسْمَعُوا )[المائدة:108] ما تؤمرون به، واستجيبوا لله فيه، فإن الله لا يهدي إلى سبيل الخير والكمال الفاسقين الخارجين عن طاعته، واحذروا الفسق واجتنبوه ].
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: مشروعية الوصية في الحضر والسفر معاً ]، ما معنى: مشروعية؟ أي: جائزة، ما هي بواجبة، المشروعية: كون هذا شرعه الله عز وجل، [ مشروعية الوصية في الحضر والسفر معاً والحث عليها والترغيب فيها ]، والرسول أوصانا، قال: ( لا يبيتن أحدكم إلا ووصيته عند رأسه )، إذا كان له أو عليه، ما من مؤمن عليه ديون أو له ديون لا يبيت ليلة إلا ووصيته مكتوبة عنده، وهذا عمل به المسلمون، عليك ديون للمؤمنين يجب أن تكتبها وتشهد عليها وتوصي، فإذا مت أخذت من التركة، لك أموال عند الناس كذلك؛ حتى لا يضيع حق الورثة، الوصية مشروعة ومتأكدة ومرغب فيها أشد الترغيب، ولكن لو لم يفعلها لا يأثم.
[ ثانياً: وجوب الإشهاد على الوصية ]، إذا وصيت وأنت على سرير الموت: فلان له كذا.. فلان له كذا؛ فلا بد أن تشهد على تلك الوصية، أما بدون شاهد فقد يردونها، يقولون: ما هو بصحيح هذا.
[ ثالثاً: يجوز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود مسلم ]، قد يقول قائل: إذا كان المؤمن الفاسق لا تقبل شهادته فكيف -إذاً- نقبل شهادة بريطاني أو فرنسي؟
الجواب: للضرورات أحكام، إذا كنت بين المسلمين فلا يحل لك أن تشهد كافراً أبداً، حرام عليك، لكن إذا كنت بين كافرين فلا تضيع حقوق الورثة، لا بد أن تشهد، وهذا الذي قال به الإمام أحمد رحمه الله.
[ يجوز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود المسلم ]، تعذر: أصبح لا يمكن، من غير الممكن، أنت في مستشفى في بريطانيا وما هناك مسلم فكيف تصنع؟ أما يذهب الناس يتعالجون؟ ولاحت له حالات الوفاة وعليه وصايا، فيشهد اثنين من أهل المستشفى كافرين، وإذا أردنا أن نحلف الكافرين فبم نحلفهما؟ بما يعظمان، حتى بعيسى ومريم ؛ لأنهم إذا كانوا يعظمون شخصاً لا يستطيعون أن يكذبوا معه.
[ رابعاً: استحباب الحلف بعد صلاة العصر تغليظاً في شأن اليمين ]، في المسجد وعند المحراب وبعد العصر، فالمؤمن ترتعد فرائصه ويخاف من هذا الموقف، إذا كان فيه إيمان يتحرك إيمانه، ويعترف بالحق ولا يكذب ولا يشهد بالباطل.
[ خامساً: مشروعية تحليف الشهود إذا ارتاب القاضي فيهم أو شك في صدقهم ]، شاهدان شهدا على أن فلاناً قتل فلاناً، أو أخذ حق فلان، وشك القاضي أنهما قد يكونان كاذبين لإرادة كذا أو كذا؛ فماذا يصنع القاضي؟
قال: [ مشروعية تحليف الشهود إذا ارتاب القاضي فيهم أو شك في صدقهم ]، لا بد أن يستحلفهما وعند المنبر أيضاً بعد العصر، حتى لا تضيع حقوق المؤمنين والمؤمنات.
اللذان عند الوصية شهدا فشككت أنت فيهما، فتأتي أنت وواحد معك فترد الشهادة؛ فما كل من يشهد يصدق، لا سيما وهم كافران، فيأتي شاهدان آخران ما كان حاضرين عند الوصية، وهذه الشهادة كانت لهما ومن أجلهما فشكا فيمن شهدا، يرفعان القضية إلى المحكمة، يقولان: نحن نشك في شهادة هذين الرجلين، أبونا ترك أكثر من هذا.
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع، وأن يجعلنا من أهل القرآن والعمل به.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
25-07-2021, 05:56 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (48)
الحلقة (459)
تفسير سورة المائدة (54)



يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين، ويأتي بالنبيين فيسألهم عن استجابة أقوامهم إليهم وتذكيره لهم بما أنعم به عليهم، ومن ذلك أنه يأتي بعيسى عليه السلام ويذكره بإنعامه عليه وعلى والدته بسائر النعم، واصطفائه له بالنبوة والرسالة، وتأييده له بالمعجزات الباهرات، وهداية الحواريين من بني إسرائيل للإيمان به واتباعه ونصرته.
تفسير قوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي، وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم لنا هذا الخير إنك ربنا وعلى كل شيء قدير.
ما زلنا مع سورة المائدة المباركة، المدنية، الميمونة، ونحن في آخرها، ومعنا هذه الآيات الأربع فهيا نتلو ونتدبر ونتأمل، والله نسأل أن يشرح صدورنا وينور قلوبنا، ويفتح علينا في العلم والعمل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:109-111].
قوله تعالى: ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ )[المائدة:109]، متى هذا؟ يوم القيامة. يجمعهم في أي مكان؟ على صعيد واحد في عرصات القيامة وساحات فصل القضاء، واقرءوا لذلك قول الله عز وجل: ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي )[الفجر:22-24]، واذكروا قول الله تعالى: ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ )[الزمر:68-69].
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ )[المائدة:109]، يوجه هذا السؤال إلى الرسل الذين لهم أتباع وأمم، ( مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109]، موقف صعب جداً، فيذهلون ويندهشون، لا يسعهم إلا أن يقولوا: ( لا عِلْمَ لَنَا )[المائدة:109]، فيفوضون الأمر لله، ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109]، تسألنا وأنت أعلم منا، فالعلم عندك، ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109]، ما غاب شيء عن علم الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ...)
(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:111]، هذا كله في عرصات القيامة وساحة فصل القضاء، والله! كأننا شهود هناك حاضرون نسمع هذا ونراه، وهذا من فضل الله تعالى علينا، أعطانا علوماً ما عرفها غيرنا. يقول تعالى: اذكر يوم يجمع الله الرسل، يا من لم يتقوا الله وفسقوا عن أمره وخرجوا عن طاعته وكتموا الشهادة وكذبوا على المؤمنين! اذكروا ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ )[المائدة:109] سائلاً ( مَاذَا أُجِبْتُمْ )[المائدة:109]، هل آمن بكم أقوامكم، هل اتبعوكم أم كفروا بكم، أم عذبوكم؟ ماذا حصل؟ فيقولون لصعوبة الموقف والاندهاش: ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109].
واذكروا أيضاً: ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:110]، في عرصات القيامة، في ساحة فصل القضاء، وخص عيسى بالذكر في هذا الموقف؛ لأن هناك أمتين عظيمتين -اليهود والنصارى- جانبت الحق فيه، اليهود قالوا: عيسى ساحر وابن زنا، وكفروا وكذبوا وحاربوه، والنصارى قالوا: عيسى هو الله وابن الله، ملتان عظيمتان وأمتان كبيرتان في العالم، اليهود والنصارى، والكتاب يدعو اليهود والنصارى إلى الإسلام وإلى الإيمان، فاسمعوا وهو يعرض عليهم هذا الموقف وهم أهله: ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:110]، لماذا ما قال: يا عيسى ابن فلان؟ لأن عيسى لا أب له، وإنما له أم فقط، واسمها: مريم ، وبالعبرية: خادمة الله، مريم معناها: خادمة الله، سمتها والدتها حنة، وهي امرأة عمران عليهما السلام، كانت لا تلد وتاقت نفسها للولادة والولد، ورأت عصفوراً يزق أفراخه في الحديقة فجاشت نفسها وهاجت، وسألت ربها إن أعطاها والداً أن تجعله لله، وفعل الله بها ما طلبت، وما إن وضعت مريم حتى قمطتها في قماطة، وخرجت بها إلى علماء بني إسرائيل ( أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ )[آل عمران:44]، هذه نذيرة الله عز وجل، وكفلها الله زكريا؛ لأن زكريا رسول من رسل الله ونبي من أنبيائه، وامرأته أخت حنة، فتدبير الله لهذه النذيرة أن جعل كفيلها رسولاً وجعل امرأته خالتها، كأنها في حجر أمها، ( فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ )[آل عمران:36]، وهل كان لـمريم ذرية؟ إي والله، عيسى عليه السلام، واستجاب الله لـحنة ، فما عرفت ابنتها معصية الله ولا عرف عيسى ذنباً قط، دعوة حنة واستجابة الرحمان جل جلاله وعظم سلطانه، ففي عرصات القيامة يأتون إلى آدم يطلبون منه أن يشفع لهم عند الله ليقضي بينهم؛ لطول الموقف، فيذكر آدم ذنبه إذ نهي عن الأكل من الشجرة فأكل، فيستحي أن يواجه الله وهو عليه هذا الذنب، فيحيلهم إلى نوح فيذكر ذنبه في دعوته ( لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا )[نوح:26]، فيستحي ويحيلهم إلى إبراهيم، فيذكر أنه كذب ثلاث كذبات في عمر أكثر من مائة وعشرين سنة، وكثيراً ما نقول: والله! لكذبات إبراهيم أفضل من صدقنا؛ لأنه كذب لله، ويحيلهم إلى موسى فيذكر قتله لذلك القبطي فكيف يواجه الله، فيحيلهم إلى عيسى، أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيسى لم يذكر ذنباً قط؛ لأنه لم يقارف ذنباً قط، استجابة الله لدعوة حنة ، فهنيئاً لمن يدعو له عبداً صالح أو مؤمنة صالحة.
(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:110]، وهنا أذكركم من باب تذكير الناسين، وتعليم غير العالمين أن آدم عليه السلام خلق من غير أب ولا أم، آدم أبو البشر لا أم له ولا أب، من أبوه؟ والله! لا أب له. من التي ولدته؟ والله! لا أم له، إذ خلقه الجبار من طين فاكتملت خلقته ونفخ فيه من روحه فإذا هو آدم أبو البشر، وخلق حواء أم البشرية كلها من أب بلا أم، حواء امرأة لا أم لها، والله! لا أم لها ولكن لها أب، إذ خلقها الله من ضلع آدم الأيسر بكلمة (كن) فكانت، ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )[يس:82]، حواء بلا أم، وعيسى بأم ولا أب، فهذا عيسى ابن مريم البتول العذراء.
(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ )[المائدة:110]، وهل لله من نعمة على عيسى وأخرى على والدته؟ أي نعم، واسمعوا بيان هذه النعم، يفصل الجبار تفصيلاً، فأين اليهود.. أين النصارى ليسمعوا كلام الله؛ ليخرجوا من ضلالهم وفتنتهم وعماهم وحيرتهم؟
معنى قوله تعالى: (إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً)
قال تعالى: ( اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ )[المائدة:110]، القُدْس والقُدُس: الطهر والصفاء، وروح القدس: جبريل عليه السلام، ويوجد في الملائكة الروح، ولكن روح القدس هو جبريل عليه السلام، والروح عيسى، روح قدس أيضاً، روح طاهرة، لكن أيده بروح القدس بجبريل يقف معه في كل موقف يوجهه ويدفع عنه ويبين له، تأييد بروح القدس، ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )[المائدة:110]، (المهد): ما يوضع فيه المولود الجديد من سرير من خشب ونحوه، إذ الأم ليس دائماً في يدها ترضعه، فهي تشغل، تطبخ وتغسل فتضع ولدها على السرير المسمى بالمهد، ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ )[المائدة:110]، وقد كلم في المهد، وجاء هذا من سورتها مريم عليها السلام، إذ قال تعالى: ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا )[مريم:25-26]، لا تدخلي معهم في صراع ولا كلام، لا تكلمي أحداً، اعتذري وقولي: إني صائمة فلا أكلم أحداً، فلما ألحوا عليها فأشارت إليه كلموه هو، فنطق، فقال عيسى الرضيع في مهده: ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا )[مريم:25-33]، هذه كلماته -والله- في المهد، أخبر عن المستقبل بما فيه وتم كل هذا كما أخبر، هذه من إنعام الله على عيسى وأمه: ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )[المائدة:110]، لولا قوله: ( وَكَهْلًا )[المائدة:110] لفهمت مريم وغيرها من الناس أن عيسى يموت صغيراً كما يموت الصبيان في السابعة، في العاشرة، في الحادية عشرة، لكن كلمة (وكهلاً) معناها: أنه سيعيش حتى يبلغ سن الكهولة، والكهولة بعد الشبيبة، الشبيبة تنتهي بالثلاثين ومن نزل عن الثلاثين دخل في الكهولة، إذا بلغ الأربعين اشتد ساعده وعظمت كهولته، وانحدر إلى الشيخوخة، ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )[المائدة:110]، وعيسى عليه السلام عاش في الدنيا ثلاثاً وثلاثين ورفع إلى الملكوت الأعلى، وهل هناك من ارتاد الملكوت الأعلى من البشر؟ إن أول رائد -ولا رائد سواه- هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في رحلة من أعجب العجائب، من بيت أم هانئ القريب من المسجد الحرام إلى زمزم حيث أجريت له عملية جراحية لغسل القلب وحشوه بالإيمان والنور، ومن ثم في لحظات وهو في بيت المقدس، ومن ثم عرج به إلى الملكوت الأعلى إلى ( سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى )[النجم:15-18]، فوالله! لدخل الجنة ووطئها بقدميه اللتين الآن في قبره، ورأى قصورها وشاهد حورها وأنهارها ونعيمها، وعرج به فوق ذلك الملكوت فدنا من الرب وكلمه كفاحاً بلا واسطة، ففرض عليه الصلوات الخمس في هذه الرحلة، فلهذا أعظم العبادات الصلوات الخمس، ما شرعت في الأرض ولكن في الملكوت الأعلى.

يتبع

ابوالوليد المسلم
25-07-2021, 05:56 AM
معنى قوله تعالى: (وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل)
قال: ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ )[المائدة:110]، علمه الكتاب فكان يخط بالقلم ويحسن ذلك ويجيده، والحكمة في قوله وعمله، لا يقول إلا مع الحكمة ولا يفعل إلا معها، ولا يترك إلا بها، لا تفارقه الحكمة، والحكمة: وضع الشيء في موضعه، فالذي يضع الشيء في غير موضعه هذا أحمق ويتخبط ولا حكمة عنده، وضربنا لذلك أمثلة: لو أن شخصاً في حلقة الدرس يزحزح من حوله ويقول: ابتعدوا وينام، فهل من الحكمة أن ينام هنا؟ لا، هل هذا مكان للنوم؟! لكن لو كان في بيته أو في مكان آخر فنعم. لو أن شخصاً خرج عند باب المسجد وبال، فهل وضع البول في موضعه؟ إن موضعه الحمامات والمراحيض، فهذا أحمق.
فالحكيم: هو الذي تصرفاته كلها لا يخطئ فيها، يضع كل شيء في موضعه، الطعام، الشراب، اللباس، البناء، السفر، الهدم، كل عمله قائم على مبدأ وضع الشيء في موضعه، وهذه تطلب من الله، فاسأله أن يعطيك الحكمة، فمن طلب وجد.
قال: ( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ )[المائدة:110]، اذكر ( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ )[المائدة:110]، التوراة: كتاب أنزله الله على موسى، أحد الكتب المقدسة الأربعة، التوراة فيها ألف سورة، وهي مأخوذة من النور والتورية، فعيسى عليه السلام قرأها وحفظها وفهمها وهو صغير، وأوحى الله إليه الإنجيل، فعلمه إذاً التوراة والإنجيل.
معنى قوله تعالى: (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني)
يقول تعالى: واذكر أيضاً ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي )[المائدة:110]، اليهود طالبوا عيسى بالآيات، بالمعجزات العجب، من جملة ذلك أنهم قالوا: إذا كنت رسول الله فاصنع لنا طيراً نشاهده يطير في السماء، فقال: باسم الله، فأخذ طينة وألانها وعجنها وصور طيراً كطير من الطيور ونفخ فيه باسم الله فطار أمامهم، فقالوا: ساحر، لا يريدون أن يؤمنوا، هذه آية من الآيات العظمى، ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي )[المائدة:110]، الله الذي قال له: طر وكن طيراً، هذا توبيخ لليهود والنصارى وتأديب لهم لو كانوا يقبلون على القرآن ويسمعون، وهذا في عرصات القيامة، يوبخون هذا التوبيخ ليعظم الحكم عليهم وتشتد بهم المحنة. (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي )[المائدة:110]، هو الذي أذن له في ذلك، ( فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي )[المائدة:110] أيضاً، لولاي ما طارت.
معنى قوله تعالى: (وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني)
(وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي )[المائدة:110]، الكمه: هو أن يولد المولود بلا عينين، أعمى، أي: عيناه مطموستان، ينفخ فيهما ويمسحهما باسم الله فيعود بصيراً، ولو جاءت الدنيا كلها فلن تستطيع أن تخلق عينين، أما هذا الذي يصنعونه من زجاج فكله كذب، أما إيجاد عين تبصر فيستحيل على البشرية أن توجدها، فهذا الذي يولد أكمه لا يبصر شيئاً ينفخ فيه ويمسح على عينيه أو يرفع يديه إلى ربه يسأله فيعود بصره.والبرص داء عضال، إلى الآن مع هذا الاكتشاف وهذا التقدم هل استطاعوا أن يوقفوا البرص ويعالجوه؟ ولهذا ذكر تعالى البرص، فالأبرص ينفخ فيه، يمسح على يديه ورجله فيعود كما كان بشرته نظيفة بيضاء، ( وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ )[المائدة:110]، ومع هذا ما قالوا: رسول الله؛ لأنهم يحافظون على المادة والعياذ بالله.
قال تعالى: ( وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي )[المائدة:110]، لولا الله فهل سيبرئ؟ لا شيء. لولا أن الله أمره فهل سيفعل؟
(وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي )[المائدة:110]، اذكر هذا أيضاً، ميت في قبره، فيقولون: يا روح الله.. يا عيسى! إن كنت رسول الله فادع ربك يخرج لنا هذا الميت، فيدعو ويخرج الميت، حتى جاءوا إلى قبر سام بن نوح ، وقالوا: ادع ربك يخرج لنا هذا إن كنت رسولاً، فقام يصلي ويدعو فخرج من قبره سام بن نوح ، ( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي )[المائدة:110].
والكذابون والمفترون يقولون: هذه كلها افتراءات، ومن ذلك أن عجوزاً مات ولدها، والحادثة كما هي في الإنجيل، امرأة مات ولدها والجنازة على أعناق الرجال في الشارع مشاهدة، فقالت: يا روح الله! ادع الله أن يحيي ولدي، فدعا الله فجلس الولد على السرير فأنزلوه ومشى مع أمه، فقالوا: هذه مؤامرة بين هذه العجوز وبين عيسى، اتفق معها وقال: إذا كنا مارين فقولي: ادع الله، والولد حي ما هو بميت! قالوا ذلك، ولكن هذا الذي في القبر كيف يخرج من القبر؟ هل هناك مؤامرة في القبر؟ مستحيل.
(وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى )[المائدة:110]، والإخراج غير الإحياء من القبر.
معنى قوله تعالى: (وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات...)
(وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )[المائدة:110]، وعزموا على قتله، فرئيس الشرطة جاء بشرطه ورجاله إلى منزل عيسى عليه السلام وطوقوه وقالوا: الآن نأخذه ونعلقه، فشاء الله عز وجل أن يفتح روزنة من السقف، ويأخذ عيسى إلى الملكوت الأعلى، ويلقي الشبه على رئيس البوليس، لما انفتح الباب دخل رئيس الشرطة فألقى الله الشبه عليه، فلما تأخر وما خرج تدفق الجيش فوجدوه كأنه عيسى، فألقوا القبض عليه وخرجوا، ومن الغد قتلوه وصلبوه أمام العالم، والله يقول: ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ )[النساء:157]، وصدق الله العظيم، ألقى الشبه عليه فقتلوا رئيس شرطتهم، وما عرفوه وصلبوه وعلقوه على الأخشاب، وعيسى رفعه الله إليه، وسوف ينزله عما قريب، وإننا نقترب من أيام نزوله، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( كأني بابن مريم في الروحاء ملبياً بحج )، فوالله! ليحجن.ومن هنا أذكر شيئاً ولا تقولوا: قال الشيخ جازماً، فقد ذكر فقهاء المسلمين -وقرأنا هذا في الفقه المالكي- أن من الجائز أن يدفن عيسى في الحجرة الشريفة، وذلك لسببين قويين:
أولاً: يوجد في الحجرة مكان إنسان، حيث الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وبقي مكان قدر ما يدفن فيه إنسان، فمن هذا الذي يدفن فيه؟
وعيسى سينزل ويحج، إذاً: سيزور، فمن الجائز أن يدفن مع حبيبه صلى الله عليه وسلم، ولو تجتمع البشرية كلها على أن تدفن في هذا المكان إنساناً فلن تستطيع، ويدفعها الله عز وجل، لكن إذا أعده لعبده ورسوله ليدفن مع أخيه فنعم، أما قال: ( أنا أولى بعيسى )؟
وتذكرون المؤامرة التي تمت بين بعض المجرمين على أن ينبشوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذوا جثته الطاهرة، وهذه الحادثة مكتوبة وشائعة وليست أبداً بغريبة ولا مستغربة، في سقيفة الرصاص كان لهم منزل، وأخذوا يحفرون تحت الأرض ويحملون التراب في زنبيل ويرمونه، في اليوم أو اليومين يخرجون زنبيلاً حتى ولو بلغوا خمسين سنة، المهم أن يصلوا إلى القبر الشريف ويأخذوا جسد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء من جهة الشرق الأقصى أو الشمال.
فلما أوشكوا أن يصلوا حيث دخلوا تحت المسجد وكادوا أن يصلوا إلى الحجرة رأى أمير المدينة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وقال له: أنقذني فإن هناك من يريد نبش قبري. وأراه صورة ذلك المجرم الذي يعمل على نبش القبر، فأمر بإقامة حفل أو دعوة عامة لأهل المدينة، وما كانوا كثيرين مثل اليوم، فجمعهم على غداء، وجلس على كرسيه والناس يدخلون فيأكلون ويخرجون وهو يشاهد، وما جاء هذا الرجل، فقال لعمدة المدينة: من بقي؟ فقال: ما بقي إلا شخص كبير السن لا يجيب الدعوة. فقال: أحضروه، فجاءوا به فنظر إليه فقال: هذا هو. امشوا معه برجال الشرطة، فوجوه قد حفر من سقيفة الرصاص حوالي مائتي متر، ووصل تحت المسجد إلى الحجرة، ومن ثم بنو الحجرة بالرصاص إلى أسفل الأرض، جدار من حديد يحيط بالحجرة إلى أسفل الأرض، وقدرة الله أعظم من هذا، فلن تستطيع البشرية أن تنال من جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم..
قال تعالى: ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ )[المائدة:110]، أي: جئتهم بالبينات وهي المعجزات الخوارق للعادات فقالوا: ساحر، وعزموا على قتله، وهم في حكم من قتل عيسى، فاليهود ما قتلوا عيسى، لكن تلك الفعلة تعتبر قتلاً، وقتلوا محمداً صلى الله عليه وسلم إذا تآمروا مرتين على قتله، ولكن الله صرفهم، مرة سقوه السم والعياذ بالله، فهم يعتبرون قتلته، وهم قتلة الأنبياء ولا عجب.
إذاً: ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ )[المائدة:110]، أي: من بني إسرائيل، أي: اليهود، ( إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )[المائدة:110]، وفي قراءة: (إلا ساحر مبين).
تفسير قوله تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ...)
وأخيراً: اذكر ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:111]، من هم الحواريون؟ أنصار الله، أنصار عيسى عليه السلام، هؤلاء أوحى الله إليهم بواسطة عيسى، أو ألقى في روعهم وقلوبهم؛ لأن الإيحاء له ثلاث مراتب، منها: الإلهام، والإلقاء في الروع، يفهم عن الله، وجائز أن يكون عيسى هو الذي دعاهم.(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ )[المائدة:111]، ماذا أوحى إليهم؟ ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي )[المائدة:111]، وهو عيسى عليه السلام، فقالوا ماذا؟ ( آمَنَّا وَاشْهَدْ )[المائدة:111] يا ربنا ( بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:111]، أين اليهود والنصارى الذين يحاربون الإسلام والمسلمين؟ لا يقبل دين سوى الإسلام، وما كان عبد صالح إلا وهو مسلم؛ لأن الإسلام إسلام القلب والوجه للرب، قلبك لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، وجهك لا تقبل به إلا على الله، فمن أعطى قلبه ووجهه لله أصبحت حياته كلها وقفاً على الله، فهو المسلم الحق الذي أعطى لله عز وجل ما أعطاه.
فاللهم اجعلنا من المسلمين.. اللهم اجعلنا من المسلمين.. واجمعنا يا رب العالمين مع الصالحين، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
25-07-2021, 05:57 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (49)
الحلقة (460)
تفسير سورة المائدة (55)

يحذر الله عز وجل عباده المؤمنين من أهوال البعث في اليوم الآخر، يوم يجمع النبيين والمرسلين ويسألهم عن دعوتهم ومن أجابهم إليها، وفي هذه الآيات يخص الله عز وجل عيسى بالذكر من بين الأنبياء؛ لأن أمتين عظيمتين غوتا فيه، فاليهود طعنوا فيه واتهموه بالسحر، واتهموا أمه بالزنا، وحاولوا قتله، أما النصارى فقد غلوا فيه وجعلوه إله مع الله تارة، وجعلوه ابن الله تارة أخرى.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، وما زلنا مع هذه الآيات الأربع التي تدارسناها أمس في مثل هذا الوقت، وما استوفينا دراستها، فهيا بنا نتلوها ونتدبر معانيها ثم ننتهي إلى هداياتها، فنسأل الله تعالى أن يهدينا بها، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا برحمتك شر ما قضيت؛ إنك تقضي ولا يقضى عليك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:109-111].
سؤال الرسل يوم القيامة عما أجابتهم به أممهم
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ )[المائدة:109]، هيا نذكر هذا اليوم؛ حتى نتمكن من تقوى الله التي أمرنا بها، وحتى ننجو من الفسق والخروج عن طاعة ربنا؛ فإن ذكر يوم القيامة وما يتم فيه وما يجري فيه وما يجزى به الناس فيه من شأنه أن يوجد الخوف في قلوبنا من ربنا فلا نعصيه ولا نخرج عن طاعته، فاذكر يا عبد الله.. اذكري يا أمة الله ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ )[المائدة:109]، أين يجمعهم؟ في ساحة فصل القضاء وذلك يوم القيامة، والرسل: جمع رسول، وقد عرفنا -والحمد لله- عددهم؛ إذ هم: ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، أما الأنبياء فهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، جاء هذا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم.الرسل يجمعهم الله فماذا يقول لهم؟ ( فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ )[المائدة:109]، أخبرونا بم أجابكم أممكم ومن أرسلتم إليهم تدعونهم إلى أن يعبدوا الله وحده وأن يطيعوه في أمره ونهيه؛ ليكملوا ويسعدوا، أرسلتم إليهم لتحذروهم من الشرك ومغاضب الرب، وذلك بالفسق والفجور والخروج عن طاعة الله، فماذا أجبتم؟
فمن هول الموقف وصعوبة الحال يصابون بالذهول، فيفوضون الأمر إلى الله ويقولون: ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109]، فنحن إن علمنا شيئاً خفي عنا آخر، إن علمنا الظواهر خفي عنا البواطن، وأنت علام الغيوب.
والغيوب: ما غاب عن العين والحسن، فلا يدرك بالسمع ولا بالبصر، والغيوب لا يعلمها إلا الله عز وجل، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يدعي علم غيب، فقد استأثر الله بعلم الغيب، واختص به ولم يسمح به لغيره إلا من شاء أن يطلعه على شيء من الغيب، قال تعالى: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا )[الجن:26-28].
والرسول نفسه يقول له ربه تعالى: ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )[الأعراف:188]، فكل من ادعى أنه يعلم ما يجيء به الغدو أو ما تحمله فلانة أو ما في قلب فلان فهو طاغٍ من الطغاة ملعون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو دجال وكذاب، وإن كانت الشياطين تسترق السمع، وقد تظفر بكلمة فيكذبون مائة كذبة يصدقون في واحدة، ومع هذا لا يحل تصديقهم أبداً، فمن أتى عرافاً أو كاهناً أو جزانة أو مدعية علم الغيب ليستفسر ويتساءل عما يحدث فقد خرج من ملة الإسلام، ولا تقبل صلاته أربعين يوماً، وهؤلاء الرسل فوضوا الأمر لله وقالوا: ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109].
تذكير عيسى عليه السلام بنعم الله عليه وعلى والدته
ثم اذكر أيضاً يا عبد الله.. واذكري يا أمة الله ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:110]، هيا بنا نشهد هذا المشهد العظيم، ويا ليت اليهود والنصارى يشهدونه معنا، إذ اليهود -والعياذ بالله- فرطوا في شأن عبد الله ورسوله عيسى، وبالغوا في التفريط حتى اتهموه بالسحر، وأنه ابن زنا وأنه كذاب، والنصارى غلوا في شأن عيسى ووالدته فألهوهما وجعلوهما إلهين مع الله وقالوا: عيسى ابن الله، وقالوا: هو ثالث ثلاثة مع الله، خبط وخلط وجهالات لا تخرج منها تلك الطائفة إلا إذا جاءت وأصغت تسمع كلام الله في هذا الكتاب القرآن العظيم، فالآية هذه تعالج أمر الأمتين الضالتين وتكسب أمة الهداية زيادة هداية وإيمان واطمئنان.(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ )[المائدة:110]، وهنا -يا عباد الله- يجب أن نذكر نعم الله علينا؛ حتى نشكر تلك النعم، فالذين لا يذكرون نعم الله عليهم لا يشكرونها، وقد أمر الله بني إسرائيل في آيات كثيرة فقال: ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ )[البقرة:40]، فإن من ذكر نعمة الله شكرها، ومن نسيها كفرها، ما من مؤمن يذكر نعمة الله عليه في صحة بدنه، في حضور قوته، في سلامة عقيدته، في صحة وجوده إلا قال: الحمد لله.. الحمد لله، والذي يأكل ولا يذكر، يشرب ولا يذكر كيف يشكر؟ كيف أعبر عن هذه الحقيقة وهي حقيقة غفلنا عنها؟ الذي لا يذكر نعم الله عليه لا يشكرها، اذكر فقط نعمة سمعك، من وهبك هذا السمع؟ أليس الله؟ ما إن تذكر هذه النعمة وترى من هو أصم لا يسمع حتى تقول: الحمد لله، ترى أعمى يقاد بين الناس، فما إن تذكر هذه النعمة حتى تقول: الحمد لله. ترى فقيراً لاصقاً بالأرض جوعاً وعرياً يتكفف الناس فتذكر ما أنت عليه فتقول: الحمد لله. يا من هو على عروس يبني عليها ويدخل ويخرج! اذكر العزاب الذين حرموا ذلك حتى تقول: الحمد لله.. الحمد لله. يا صاحب الوظيفة! اذكر من لا وظيفة لهم وهم يتسولون، اذكر هذا لتقول: الحمد لله.
ما استطعت أن أعبر عن هذه الحقيقة، ما نشكر الله إلا إذا ذكرنا آلاءه ونعمه علينا، وهو القائل في سورة الرحمن: ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )[الرحمن:13]، فقالت الجن قبل الإنس: لا بشيء من آلائك نكذب يا ربنا، ها نحن في هذا المجلس وغيرنا في المقاهي والملاهي والملاعب ومجالس السوء والباطل والمنكر، ونحن تصلي علينا الملائكة وتستغفر لنا وفي بيت ربنا وآمنون غير خائفين، راجون غير آيسين ولا قانطين، لم لا نذكر هذا حتى نقول في صدق: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.
إنعام الله على عيسى بتأييده بروح القدس وتكليمه الناس في المهد
الله يذكر عيسى وأمه: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ )[المائدة:110]، ويبين مظاهر النعمة فيقول: ( إِذْ أَيَّدتُّكَ )[المائدة:110]، أي: قويتك ونصرتك ( بِرُوحِ الْقُدُسِ )[المائدة:110]، فأية نعمة أعظم من هذه؟ يجادل المبطلين ويحاج الكافرين ويواجه المعانين، فلو لم يكن له من يعينه ويقف إلى جنبه فإنه سيعجز ويضعف ويسقط، لكن الله امتن عليه فأيده بجبريل عليه السلام المسمى روح القدس، فلا يأتون بشبهة إلا ويردها، ولا يحاولون مكراً إلا فضحه وأظهره؛ لأنه إلى جنب عيسى عليه السلام: ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ )[المائدة:110].ثانياً: ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )[المائدة:110]، أية نعمة أعظم من هذه النعمة؟ أما كلم الناس وهو في مهده؟
وذكرت أنه لولا قوله تعالى: ( وَكَهْلًا )[المائدة:110] لحزنت مريم وقالت: ولدي يموت قبل أن يبلغ سن التكليف، فقال تعالى: ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )[المائدة:110]، وفعلاً أبقاه الله حتى بلغ الثالثة والثلاثين، ثم رفعه إلى الملكوت الأعلى، هو -والله- فيه، وسينزل ويحج هذا البيت ويعتمر ويعيش زمناً، قد يبلغ الثلاثين من السنين فيكون عمره كعمر النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاث وستون سنة.

يتبع

ابوالوليد المسلم
25-07-2021, 05:58 AM
إنعام الله على عيسى بتعليم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل
(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ )[المائدة:110]، هذه نعم أخرى، ( عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ )[المائدة:110]، ونحن أما علمنا الكتاب، أما علمنا الحكمة، أما علمنا القرآن؟ لم لا نذكر الله ونشكره على هذه النعم؟ أم ليست ذات قيمة؟ أعوذ بالله، شتان ما بين أمي لا يقرأ ولا يكتب وبين من يكتب ويقرأ ويجيد الكتابة والقراءة، والتوراة والإنجيل حواهما القرآن وفاض عليهما وزاد عنهما، فلم لا نقول: الحمد لله؟(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي )[المائدة:110]، اذكر هذه النعمة يا عيسى، يذكرها في عرصات القيامة؛ لتقوم الحجة لله على اليهود والنصارى، ويفضحون ويخزون ويذلون في عرصات القيامة بهذه التقريرات الإلهية لعبده عيسى بين يديه وهم يسمعون الإنس منهم والجن.
إنعام الله على عيسى بمعجزة خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى
قال تعالى: ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ )[المائدة:110]، وبينا أنهم قالوا: إن كنت رسول الله كما تزعم فاخلق لنا من هذا الطين طيراً نشاهده وهو يطير في السماء، فما هي إلا أن جمع طيناً وصوره في صورة طير بإذن الله ونفخ فيه فطار بإذن الله وهم يشاهدون، وفي النهاية قالوا: ساحر، هذه مظاهر السحر، وإلا فكيف يصنع الإنسان طيراً ويطير، هذه تمويهات على عقولنا وقلوبنا وأعيننا!قال تعالى: ( وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ )[المائدة:110]، وقد عرفنا أن الأكمه الذي يولد أعمى، فالذي ولد بلا بصر لو اجتمعت الدنيا كلها فلن تستطيع أن تصنع له بصراً يبصر به، والله! لا يستطيعون.
وهذا البرص الداء الذي وجد في الكون هل استطاع الطب الحديث وقد تفوق أن يوجد دواءً للبرص؟ لا، فقولوا: آمنا بالله.
ولهذا خص بالذكر العمى والبرص، وهما نعمتان عظيمتان، حين تنظر إلى الأبرص وجلده وأنت معافى أما تقول: الحمد لله؟ والله! إن الملايين ما يقولون: الحمد لله، ولا يعرفون هذا ولا يذكرونه، يمر بين أيدهم أعمى يقاد فلا يقولون: الحمد لله؛ وذلك لغفلة المؤمنين ولموت الكافرين.
(وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي )[المائدة:110]، وقد بينا أمثلة لذلك: فسام بن نوح قالوا: ادع الله أن يخرجه لنا، فخرج من قبره وشاهدوه وما آمنوا، وكان على النعش طفل وأمه تصرخ: يا روح الله! ولدي مات فادع الله أن يحييه، فدعا فجلس الولد على النعش ومشى مع أمه، فقالوا: هذه مؤامرة اتفاق بين عيسى وهذه العجوز، فمن القائل؟ اليهود بنو عمنا، الذين يعملون منذ أن طلع فجر الإسلام على إطفاء هذا النور والقضاء عليه، ونجحوا في مجالات شتى، وها نحن نصرخ هذه الأيام على هذه القبعات التي استوردناها من مصانع اليهود وأتباعهم وننشرها بين أولاد المسلمين في الحرمين الشريفين، أسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟ هذه القبعات التي هي لليهود وهي زيهم الذي يمتازون به، كيف تتحول إلى أبناء المسلمين ليألفوا ذلك ويستأنسوا به، ليصبحوا لا يبغضون هذا المنظر ولا يرهبونه بل يعتزون به ويضحكون؟ هذه ظاهرة عجيبة غريبة، أن القبعات التي تسمى بالبرانيط أصبحت لأولاد المسلمين وشبابهم، وتستورد بالآلاف وتباع بالأثمان، ويشتريها أحفاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزغردي يا يهودية وهللي فقد نجحتِ بعد أن ألبستنا البرانيط، وعما قريب ستكون الصلبان في أعناقنا.
إنعام الله على عيسى بإنجائه من كيد اليهود
(وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )[المائدة:110]، وعزموا على قتلك وصلبك والقضاء على وجودك، فمن كفهم سوى الله؟ هل لعيسى جيوش وجنود، أو أبناء عم، أو قبيلة؟ كلا. فمن كف عنه اليهود؟وقد ذكرت لكم حادثة إلقاء القبض على رئيس الشرطة، جاءوا عازمين على قتله فطوقوا بيته عليه السلام وحاصروه فترة فما خرج أحد، ففتحوا الباب فدخل رئيس الشرطة إلى المنزل، وعيسى رفعه الله من الروزنة وألقى الله الشبه على مدير الشرطة، فدخلوا عليه وتدفقوا ورفعوه بين أيدهم على أنه هو عيسى، وأخذوه إلى المحبس حتى نصبوا أخشابهم وآلات قتلهم وصلبوه، والذي صلبوه -والله- ما هو بعيسى، وإنما الرجل اليهودي الذي ألقى الله الشبه عليه، قال تعالى من سورة النساء: ( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ )[النساء:157]، هذه النعمة يذكرها فيشكر الله، ونحن كف أيضاً عنا أعداء الإسلام، وآخر ما كف عنا حرب الخليج، أما أرادوا إطفاء نور الله، أما أردوا تمزيق راية لا إله إلا الله؟ والله! لهذا الذي أرادوا، فمن صرفهم؟ من رد كيدهم؟ أليس الله؟ لم لا نذكره لنشكره؟ والله يذكر عيسى: ( اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ )[المائدة:110] .. ( إِذْ أَيَّدتُّكَ )[المائدة:110].. ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ )[المائدة:110].
منة الله على عيسى بإيمان الحواريين ونصرتهم له
وأخيراً قال تعالى: واذكر أيضاً: ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي )[المائدة:111]، ( أَنْ آمِنُوا بِي )[المائدة:111]، أولاً، ( وَبِرَسُولِي )[المائدة:111] ثانياً، فمن أوحى إلى الحواريين؟ أليس الله؟ ألقى في قلوبهم، ألقى في روعهم: ( أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:111].من هم الحواريون؟ يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم في الزبير : ( حواريي الزبير )، حواري رسول الله الزبير بن العوام ، والحواري باللفظ العام: هو الذي برز في طهارته وصفائه ونوره ونصر الله ورسوله، فالحوارين عند عيسى كأصحاب رسول الله عنده صلى الله عليه وسلم، الذين وقفوا إلى جنبه يحمونه ويدافعون عنه وينصرونه، وجاء ذكرهم في آخر سورة الصف؛ إذ قال تعالى عنهم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ )[الصف:14]، هذا النداء موجه إلينا نحن معشر المسلمين، فهل استجبنا أم لا؟ ( كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ )[الصف:14]، كيف ننصر الله؟ ننصره في دينه وفي أوليائه، ننصره في عباده بأن لا نسمح أن يعتدوا أو يظلموا أو يفسقوا أو يفجروا، أو يعبدوا غير ربنا، ننصره في أوليائه فنقف إلى جنبهم ولا نذلهم ولا نخزيهم، ننصر الله في أن نعبده وحده.
إذاً: من رأى منكم برنيطة على رأس ولد فلينصر الله فيها، قلت لكم: اذهبوا إلى بائعي هذه البرانيط، ليذهب اثنان أو ثلاثة، وابتسموا في وجه صاحب الدكان، وقولوا: هذا ما يجوز أبداً، يخشى عليك عقوبة من الله، أنت تنشر هذا الباطل، هذه فتنة من حيث لا تدري يا عبد الله، ( من تشبه بقوم فهو منهم )، فهذا الذي تشبه باليهود والنصارى سوف يصبح يحبهم ويقبل عليهم ويرضى عنهم وبما جاءوا به إليه، وبذلك ينسلخ من دينه وإسلامه.
(كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ )[الصف:14]، أي: انصروا دينه وأولياءه.
(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ )[المائدة:111]، ماذا؟ ( أَنْ آمِنُوا بِي )[المائدة:111] أولاً ( وَبِرَسُولِي )[المائدة:111] عيسى عليه السلام، ( قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ )[المائدة:111] يا ربنا ( بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:111]، ما معنى (مسلمون)؟
قلنا: الإسلام هو أن تسلم قلبك لله: خذ يا رب قلبي، ووجهك لله: خذ يا رب وجهي، فتصبح حياتك كلها وقفاً على الله، قلبك لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، وجهك لا يتجه في الحياة إلا إلى ما يرضي الله، إذ أنت عبده وأنت وليه وهو قد استوقفك عليه، فأنت وقف على الله، وآية الوقفية من سورة الأنعام واضحة صريحة: ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:162]، هل بقي شيء بعد الحياة والموت؟ ( لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )[الأنعام:162-163]، إننا -والله- لوقف على الله، فليس للشيطان أن يأخذ من غلالنا أبداً ولو كلمة؛ لأننا وقف على الله، حياتنا ومماتنا لله، فلا تستول علينا الشياطين ولا الكافرون، فلا نعبد غير الله، ولا نذعن ولا ننقاد ولا نسلم إلا لله؛ تحقيقاً لهذا الوقف.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
نسمعكم الآن الآيات في الشرح.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ يحذر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين من أهوال البعث في اليوم الآخر، يوم يجمع الرسل عليهم السلام ويسألهم وهو أعلم بهم فيقول: ( مَاذَا أُجِبْتُمْ )[المائدة:109]، أطاعتكم أممكم أم عصتكم؟ فيرتج عليهم ويذهلون ويفوضون الأمر إليه تعالى ويقولون: ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109]، إذا كان هذا حال الرسل فكيف بمن دونهم من الناس؟!
ويخص عيسى عليه السلام من بين الرسل بالكلام في هذا الموقف العظيم؛ لأن أمتين كبيرتين غوت فيه وضلت: اليهود ادعوا أنه ساحر وابن زنا، والنصارى ادعوا أنه الله وابن الله، فخاطبه الله تعالى وهم يسمعون: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ )[المائدة:110]، فأنت عبدي ورسولي وأمك أمتي، وذكر له أنواع نعمه عليه فقال: ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ )[المائدة:110]، جبريل عليه السلام، ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ )[المائدة:110] وأنت طفل، إذ قال وهو في مهده: ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا )[مريم:30-33] ]، هذه -والله- قالها وهو في قماطه على مهده، في أيام ولادته الأولى، فكيف وصلنا هذا الهدى وهذا الخير؟ إنه فضل الله علينا بهذا الكتاب وهذا الرسول.
[ وقوله: ( وَكَهْلًا )[المائدة:110]، أي: وتكلمهم وأنت كهل أيضاً، وفيه بشرى لـمريم أن ولدها يكبر ولا يموت صغيراً، وقد كلم الناس وهو شاب وسيعود إلى الأرض ويكلم الناس وهو كهل، ويعدد نعمه عليه فيقول: ( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[المائدة:110]، فكنت تكتب الخط وتقول وتعمل بالحكمة، وعلمتك التوراة كتاب موسى عليه السلام والإنجيل الذي أوحاه إليه، ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي )[المائدة:110]، أي: اذكر لما طالبك بنو إسرائيل بآية على نبوتك، فقالوا لك: اخلق لنا طيراً، فأخذت طيناً وجعلته على صورة طائر وذلك بإذني لك، ونفخت فيه بإذني فكان طائراً ] بإذنه، ولولا أن الله أذن له أن يصور فهل سيفعل؟ لن يفعل؛ لأن الله لم يأذن لمؤمن أن يصور صورة، وفي الحديث: ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون )، لولا أن الله أذن لعيسى لما فعل، قال: أذنت لك في التصوير، والمسلمون اليوم غمرتهم التبعية والذيلية لليهود والنصارى؛ فأصبحوا مثلهم إلا من رحم الله.
قال: [ أي: اذكر لما طالبك بنو إسرائيل بآية على نبوتك فقالوا لك: اخلق لنا طيراً فأخذت طيناً وجعلته على صورة طائر وذلك بإذني لك، ونفخت فيه بإذني فكان طائراً، واذكر أيضاً إذ ( وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ )[المائدة:110]، وهو الأعمى الذي لا عينان له، ( وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي )[المائدة:110]، أي: بعوني لك وإقداري لك على ذلك، ( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى )[المائدة:110]، أي: من قبورهم أحياء، فقد أحيا عليه السلام عدداً من الأموات بإذن الله تعالى، ثم قال بنو إسرائيل: أحي لنا سام بن نوح . فوقف على قبره وناداه فقام حياً من قبره وهم ينظرون، واذكر: ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ )[المائدة:110]، فكذبوك وهموا بقتلك وصلبك، ( فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )[المائدة:110]، واذكر ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ )[المائدة:111] على لسانك ( أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي )[المائدة:111]، أي: بك يا عيسى، ( قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:111]، أي: منقادون، مطيعون لما تأمرنا به من طاعة ربنا وطاعتك ] يا رسول الله، هذا معنى هذه الآيات النورانية، فهل نشبع منها؟ والله ما نشبع، لو نكررها الدهر كله ما تنتهي أنوارها ولا تنقطع هدايتها للأحياء لا للأموات.
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: شدة هول يوم القيامة وصعوبة الموقف حتى إن الرسل ليذهلون.
ثانياً: وجوب الاستعداد لذلك اليوم ]، هل نستعد له بالأموال في البنوك؟ هل ندخر الدقيق والشحم؟ بأي شيء نستعد ؟ بطاعة الله ورسوله، بتقوى الله.
[ ثالثاً: توبيخ اليهود والنصارى ] في هذا الموقف العظيم [ بتفريط اليهود في عيسى وغلو النصارى فيه ] عليه السلام.
[ رابعاً: بيان إكرام الله تعالى لعيسى وما حباه به من الفضل والإنعام.
خامساً: ثبوت معجزات عيسى عليه السلام وتقريرها ]، فهي مقررة في القرآن، ما هي حكايات ترددها الناس.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
02-08-2021, 05:03 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (5)
الحلقة (361)
تفسير سورة المائدة (56)


بعد أن ذكر الله بهيمة الأنعام وأنها حلال لعباده المؤمنين، ثم بين لهم ما حرم عليهم فيها وخاصة فيما يتعلق بما أكل السبع، أجاب هنا سبحانه على ما يتعلق بسؤالهم عما أحل لهم، فذكر سبحانه أنه أحل لهم بهيمة الأنعام التي سبق ذكرها من قبل والخالية من العيوب التي سبق ذكرها أيضاً، وأضاف إليها قسمان آخران وهما ما صادته السباع المعلمة بعد ذكر اسم الله على الصيد عند إطلاقها عليه، وكذلك طعام أهل الكتاب المذبوح حلال للمسلمين، وطعام المسلمين حلال لهم.
تفسير قوله تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم هذا الأمل لنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
سبب تسمية السورة بالمائدة
وها نحن مع سورة المائدة، والمائدة -يا أبناء الإسلام- ما يكون عليها أنواع الطعام، سميت هذه السورة بسورة المائدة لذكر المائدة في آخرها، وذلكم أن مجموعة من الحواريين من أتباع عيسى وأنصاره قالوا: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:112-115]، فلهذا من أشد الخليقة عذاباً من أكل من المائدة وكفر والعياذ بالله.وهي سورة الأحكام؛ لأنها مدنية من أخريات ما نزل، وتذكرون بالأمس الآية الكريمة وما حوته من أحكام، والآن مع آيتين أخريين تحملان أحكاماً أيضاً، وسنسمع تلاوتهما، وتدبروا وتأملوا وتغنوا إن استطعتم بتلاوتهما.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[المائدة:4-5].
سبب نزول الآية الكريمة
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ )[المائدة:4]، من السائل؟ أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم، ذكر القرطبي في تفسيره -وهو من أسلم التفاسير- قال: هذه الآية نزلت بسبب عدي بن حاتم وزيد الخيل ، بسبب عدي بن حاتم الطائي المعروف، والثاني: زيد الخيل الذي سماه الرسول بعد زيد الخير ، ففاز بها.قال: إذ قالا: يا رسول الله! إنا قوم نصيد بالكلاب، يصيدون ماذا؟ الغزلان والأرانب وما يؤكل، قالا: نصيد بالكلاب والبزاة، والباز: معروف من الطير، والبزاة: جمع باز، وإن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء، يعني بقر الوحش وحمر الوحش، والظباء يعني: الغزلان، قالا: فمنه ما ندرك ذكاته- أي: قبل أن يموت نذبحه ونذكيه- ومنه ما تقتله -أي: الكلاب والبازات- فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا إذاً؟ فنزلت هذه الآية، أو قرأها رسول الله عليهم.
قال تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ )[المائدة:4] عرفنا السائلين: زيد الخير وعدي بن حاتم الطائي ، يسألان: ماذا أحل لهم؟ الجواب: ( قُلْ )[المائدة:4] يا رسولنا: ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:4]، كل طيب فهو حلال، كل خبيث منتن عفن فهو حرام.
وقد قلت: لا يحل ولا يحرم إلا الله، أولاً: لأنه المالك، فصاحب الطعام أو الشراب أو اللباس أو الحيوان هو الذي إن شاء أعطاك وإن شاء منعك، أليس الله مالك كل شيء وهو خالق كل شيء؟ الأموال كلها ملكه، يبيح منها ما يشاء، ويمنع ما يشاء، هذه أولاً، بوصفه المالك فلهذا هو الذي يحل أو الذي يمنع.
الثانية: أنه يعلم ما ينفع وما يضر من مخلوقاته حالاً ومستقبلاً، ونحن لا نعرف؛ فلعلمه وخبرته إذ هو خالق هذه الأشياء يعلم ما يضر وما ينفع، فمن هنا إذا أحل فكل وإذا حرم ومنع فامتنع، وهل يستطيع إنسان أن يحل أو يحرم على عباد الله شيئاً؟ ما يستطيع، أولاً: لأنه لا يملك، ما هو الخالق للأشياء، ليست ملكه حتى يمنع ويعطي.
وثانياً: لأن الله يعلم ما ينفع من مخلوقاته وما يضر، فما علمه نافعاً أذن فيه وأباحه، ما علم ضرره وفساده منعه على عباده، هذا هو سر التحليل والتحريم.
فها هم رضوان الله عليهم يسألون: ماذا أحل لهم؟ بين لنا يا رسول الله ما أحل الله لنا؟ ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ )[المائدة:4] نيابة عنا، فالرسول نائب عن الله، الوحي ينزل عليه هو، وكله الله بهذا، وأسنده إليه، ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:4] جمع طيبة، والطيبات: ما أحله الله تعالى، كل ما أحله الله تعالى طيب، وكل ما حظره الله تعالى ومنعه خبيث، أي: ضار غير نافع، سواء المناكح، المآكل، المشارب، المراكب، كلها، هذا أولاً.
معنى قوله تعالى: (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله)
ثانياً: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ )[المائدة:4]، هذه العبارة غريبة عنا نحن العوام، ما معنى: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ )[المائدة:4]؟ الجوارح عندنا هي السمع والبصر واللسان واليد والرجل والفرج، سميت بالجوارح لأننا نجترح بها، أي: نعمل بها، هذه الأعضاء سميت جوارح لأننا نكتسب بها، فالعين أما تبصر بها حاجتك؟ اللسان أما تنطق به عما تريد؟ يدك أما تعطي وتأخذ بها؟ هذه جوارح أم لا؟ والجوارح سبع. وهنا قال: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ )[المائدة:4] الجوارح هنا: الكلاب والبازات التي تجترح، الكلب يجترح فيأخذ بيده وفمه، الباز هذا الطائر عند الذين يربونه ويؤدبونه كذلك يجترح ويكتسب، هذه الجوارح من الحيوان بها نكتسب أيضاً اللحم ونأكل.
(وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ )[المائدة:4] التي هي كلاب الصيد، والطيور التي أعدت لهذا كالبازات.
وقوله تعالى: ( مُكَلِّبِينَ )[المائدة:4] أنتم تعلمونهم مكلبين لها، معلمين لها، فالكلب يجرح، لكن لا بد أن تعلمه، وحقيقة الكلب المعلم أنك إذا أرسلته مشى، وإذا دعوته رجع، أما إذا دفعته فعصاك، لوى رأسه وما مشى، أو ناديته فأبى أن يستجيب فهذا ما هو بمعلم، هذا صعلوك لا يصح أن تصيد به، لا بد أن تعلمه ليصبح إذا أرسلته ينطلق، وإذا دعوته يرجع، وإذا قلت له: قف يقف. وهذا يحتاج إلى مران ورياضة، وهذا واقع، وإذا ما علمتم أنتم فهو معلوم عند الناس.
(مُكَلِّبِينَ )[المائدة:4] أي: حل كونكم مكلبين لتلك الكلاب حتى تصبح تصيد لك. ( تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:4] الله الذي علمنا أم لا؟ علمنا أن نأتي ونذهب ونرجع ونأخذ ونمسك ونطلق، فكذلك هذا الطير أو هذا الكلب من كلاب الصيد؛ إذ نحن الذين نعلمه مما علمنا الله عز وجل.
فالكلب الذي علمته أنت المكلب له، فإذا عرفت أنه أصبح عالماً بحيث إذا أرسلته ينطلق، وإذا قلت: ارجع رجع، هذا معلم، كلبته فأصبح مكلَّباً وأنت المكلِّب.
ولعل السر في هذا أن التعليم أزال معنى الكلب منه، أصبح كإنسان، إذا أرسلته انطلق، وإذا دعوته جاء، يأخذ الغزال أو الأرنب ويأتي به، ولا يأكل منه أبداً، فإن كان يأكل منه فما هو بمعلم، هذا ما صاد لك أنت، صاد لنفسه، وفي هذه الحالة إذا وجدته يأكل منها وأدركتها حية أدركت فيها الروح فذكيتها جاز لك ذلك.
(وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:4] إذاً: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4]، أي: لكم، (على) بمعنى: اللام، فكلوا أيها المؤمنون مما أمسكن -أي: أمسكت الكلاب أو الطيور- عليكم، أي: لأجلكم، إذا كان يمسكها لنفسه فما يصلح أكلها، هو يأكلها، لكن إذا كان يأخذها ويقف عندها، أو يمسكها ويبقى ينتظرك؛ إذ ما يستطيع أن يجيء بالغزال على ظهره فحينئذ لك أن تأكل.
معنى قوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه)
قال تعالى: ( تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:4] إذاً: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4]، إذا أمسكن لههن فلا تأكلوا، إذا كان كلبك الذي تصيد به، أو هذا الباز ترسله يصيد له هو ويأكله فهذا ما هو لك أنت، فما أمسكن عليكم.ثانياً: ( وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4]، حين ترسل الكلب تقول: باسم الله، تقول: باسم الله، وتطلق رصاصتك على الغزال أو على الحيوان، لا بد من ذكر اسم الله: ( وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4]. ومن هنا إذا وجدتها ميتة وقد سميت الله عليها فهي لك، على شرط: ألا يكون أكلها هو وقتلها، هي من نفسها ماتت، والطير أو الكلب ما أكلها، فإن أكل منها ووجدتها ميتة فلا، وإذا وجدت فيها الحياة ذكيتها.
معنى قوله تعالى: (واتقوا الله إن الله سريع الحساب)
وقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[المائدة:4]، يا عباد الله! خافوا ربكم، فإن الله إذا حاسب فما يحتاج إلى مائة سنة، ولا عشر ليال، اتقوه لا تخرجوا عن طاعته، أحل لكم ما أحل فأحلوه، حرم ما حرم فحرموه، ولا تتجاوزوا ذلك ولا تعتدوه، وإلا فأنتم عرضة لنقمة الله عز وجل، وهذا يدل دلالة قطعية على أن الذي يفسق عن أمر الله، ويخرج عن طاعته، ويستحل ما حرم الله أو يحرم ما أحل الله، معناه: أنه أعلن الحرب على الله، فليتهيأ.(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[المائدة:4] هذه الآية الأولى خلاصتها: أنه يحل لنا ما أحل الله لنا من الطيبات مطلقاً من فواكه وخضر ولحوم، كل ما أحل الله، وما علمنا من الجوارح مكلبين، نحن الذين نصيد ونملك كلاب الصيد، هذه الكلاب هي التي يجوز للمؤمن أن يشتريها، وأن يستعملها، أما الكلاب التي لا تصيد ولا تحرس غنماً ولا زرعاً فلا يحل لمؤمن أبداً أن يدخلها بيته، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يربط كلباً في بيته، فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، جبريل على باب الرسول تردد، أبى أن يدخل، قال: إن بالبيت جرواً فلا أدخل، فأخرجه الرسول وأبعده.
وبلغنا أننا لما وسع الله أرزاقنا أصبحنا نقلد اليهود والنصارى في الكلاب، فلان له كلب في سيارته من ورائه، ويربطه في بيته، والله إن ذلك لعرضة لنقمة الله عز وجل، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[المائدة:4]، كلب الماشية يرعاها يمشي معها، كلب المزرعة في المزرعة، كلب الصيد تخرج به حيث تصيد، أما كلب في منزلك فهكذا جرينا وراء النصارى واليهود.
ومن قال: وإذا كنت أخاف اللصوص على بيتي؟ قلنا: اربطه خارج البيت، إذا نبح باللصوص فاخرج.
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ )[المائدة:4] أجبهم يا رسولنا. ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:4] مطلقاً ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ )[المائدة:4] أي: معلمين، لا بد أن تعلم هذا الكلب الذي تصيد به؛ حتى يصبح إذا دفعته اندفع، وإذا دعوته رجع، ويصيد الغزال أو الأرنب ويقف عليه ولا يأكله بفمه، هذا هو المعلم، هذا الذي إذا صدت به حل لك ذلك، ويجوز لك اقتناؤه وشراؤه وبيعه.
وقوله تعالى: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4] هذه إباحة الله وإذنه لنا، ( مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4] أي: من أجلكم، لا من أجلهن.
(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4] حين نرسل الطير أو الكلب نذكر اسم الله، حين نطلق الرصاصة نقول: باسم الله ونطلق عليها، لا بد من هذا، ( وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4] هذا فعل أمر أم لا؟ كيف نقول؟ باسم الله، هذا هو ذكر الله، وأطلق رصاصتك أو أرسل كلبك الذي يصيد.

يتبع

ابوالوليد المسلم
02-08-2021, 05:04 AM
تفسير قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ...)
ثم قال تعالى في الآية الثانية: ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:5] كلوا واشربوا كل طيب، واتركوا كل خبيث ومنتن وعفن.والخبائث معروفة أم لا؟ تقدم أنها عشر: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3].
(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:5] وشيء آخر: ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5]، من هم الذين أوتوا الكتاب؟ اليهود والنصارى، كتاب اليهود التوراة التي أنزلها الله على موسى، وكتاب النصارى الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على عيسى، هل هذين الكتابين صافيين نقيين طاهرين ما فيهما كذب ولا زيادة؟ والله إنهما محشوان بالباطل، الإنجيل في يوم من الأيام حولوه إلى ثلاثين إنجيلاً، ولما انفضحوا وانكشفت عورتهم اجتمعوا في روما وجمعوه في خمسة أناجيل: برنابا، ولوقا، ويوحنا، ومتى، ومرقس، الشاهد عندنا: أن الكتاب أصبح خمسة، إذاً: أربعة أخماس كلها كذب؛ فلهذا هم ضالون ضلالاً.
(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5] إذا ذبح النصراني أو اليهودي البقرة أو البعير أو الشاة أو الدجاجة أو الطير فسم الله وكل؛ لأنهم أهل كتاب، أي: يؤمنون بالله واليوم الآخر، وبالرسل وبالملائكة، فهم قريبون منا، نأكل طعامهم، ويأكلون طعامنا، والمراد من الطعام هنا: المذبوح، فإذا ذبح الشاة وطبخ لك اللحم فكل، أعطاك فخذاً أو نصف شاة فلك ذلك، على شرط: ألا يذكر عليها اسم المسيح، فإنها حينئذ مما ذبح على النصب، كالذي يذبح باسم عبد القادر ، فما تؤكل، كذلك الذي يذبح باسم المسيح ما تؤكل من باب أولى، لكن ذبحها للأكل، ما هي لعيسى ولا لأمه، هذه الذبيحة إذا ذبحها وأسال دمها لك أن تأكل، لكن إذا كان خنق الدجاجة أو الأرنب أو الحيوان حتى مات، ثم سلخه وأكله هل يجوز أكله؟ لا؛ فهو ميتة.
أقول: كان اليهود يذبحون تديناً ورحمة بالشاة، ثم جاءت فلسفة جديدة، قالوا: كيف تذبحون الحيوان وتأكلونه؟ فذهبنا إلى مجزرة في باريس لنشاهد، وجدناهم أمامنا جاءوا بثور عظيم فأوقفوه، ثم جاءوا بعصا من حديد وأدخلوها في رأسه، وأخذوا يديرونها بالكهرباء حتى اخترق الظهر ومات، لما مات وفقد الحياة ذبحوه، فهل هذا يجوز أكله ؟ لا يجوز.
لو كان جملاً أو ثوراً وما استطاعوا ذبحه فضربوه بحديدة فأغمي عليه ثم ذبحوه فإنه يؤكل، لكن أن يقتلوه بالكهرباء حتى يفقد الحياة ويموت، وبعد ذلك يذبح أو لا يذبح فهو جيفة منتنة.
ذبائح أهل الكتاب حل لنا؛ لأنهم يذبحون كما نذبح، وإن لم يذكروا الله، لكن الشرط ألا يذكروا اسم إله معبود، فحينئذ تكون مذبوحة لغير الله، لكن مع اللحم الذي يذبح للآكلين من الناس إذا ذكوها بكل ما يسيل الدم ويزهق الروح يجوز أكله من لحومهم، ويجوز لهم أيضاً أن يأكلوا من لحومنا، أعطهم لحم ذبيحتك ليأكلوه.
اسمع النص الكريم: ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ )[المائدة:5] أي: حلال. ( وَطَعَامُكُمْ )[المائدة:5] أنتم ( حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5]، لا تقل: هذا يهودي ما نعطيه ليأكل، إذا احتاج إليك فأعطه، ( وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5] هذه الأولى.
معنى قوله تعالى: (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم)
والثانية: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ )[المائدة:5] أي: ومما أحل لكم أيها المؤمنون ( الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة:5]، المحصنات: جمع محصنة، وهي العفيفة غير الزانية والباغية، إياك أن تتزوج بالزانية، وإن كانت بنت من كانت، لقول الله تعالى: ( وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ )[النور:3]، امرأة من المؤمنين معروفة بالبغاء والزنا لا يحلها لك الله أبداً، إلا إذا تابت ومضى عليها زمن، وأهل البلاد كلهم يشهدون بتوبتها منذ كذا عاماً فلا بأس، أمة تتعاطى الزنا لا يحل لك أن تتزوجها؛ لأن الله قال: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ )[المائدة:5]، ما معنى المحصنات؟ العفيفات، التي عرفت بالعفة والطهر والصفاء، أما إذا عرفت بالبغاء فلا يحل نكاحها، حرام، منعنا الله منها. وإن أردت أن تتزوج بغياً فإنها تأتي برجل في بيتك ينكحها، فكيف تعيش أنت؟ متعودة على الخبث، غداً تخرج من البيت وتبيت في بيت آخر، فماذا تصنع أنت؟ فهذا تدبير مولانا عز وجل، يدبر لأوليائه وعباده المؤمنين.
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ )[المائدة:5] أولاً ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة:5] أي: اليهوديات والنصرانيات، على شرط: ألا تكون داعرة وبغياً، تعرفها بجيرانها أنها عفيفة وطاهرة، لا بأس أن تتزوجها، أما أن تعرف أنها عاهرة وبغي تأتي الفجور فلا يصح.
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة:5] بقي الشرط: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )[المائدة:5]، ما الأجور؟ المهور، الصُّدُقات، لا بد من مهر ولا بد من عقد، الولي أو القاضي يعقد لها إذا فقدت الولي، على مهر كذا، فأركان النكاح أربعة: المهر والشهود والصيغة والولي.
معنى قوله تعالى: (محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان)
إذاً: قال: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )[المائدة:5] حال كونكم ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ )[المائدة:5] الخدن: هو الصديق السري في الخفاء، كان في الجاهلية لا تزني الحرائر أبداً، الإماء يقع منهن الزنا، لكن الحرة العربية لا، ولما بايع صلى الله عليه وسلم المؤمنات في مكة عام الفتح عند جبل الصفا جاءت هند فقالت: أوتزني الحرة يا رسول الله؟! لأن البيعة كانت على خمس مواد: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى )[الممتحنة:12] ماذا؟ ( عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ )[الممتحنة:12] فقالت: أوتزني الحرة؟! لكن قد تتخذ صديقاً في الخفاء، يتخذها شاب في السر ولا يسمع أحد، هذا معنى: متخذات أخدان، كذلك ( وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ )[المائدة:5].
معنى قوله تعالى: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين)
وأخيراً: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ )[المائدة:5] أي: بالإسلام وشرائعه ومبادئه وقوانينه فقد حبط عمله، من ارتد عن الإسلام، الإيمان هنا بمعنى: الإسلام، إذ الإسلام والإيمان شيء واحد، المسلم هو المؤمن، ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[المائدة:5]، كل عمل جديد، أما الماضي فقد محي انتهى، وإن مات بدون توبة فهو من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم؛ لقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ )[الزمر:15] بالمعنى الحقيقي ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ )[الزمر:15] أولاً ( وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )[الزمر:15] .
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
اسمعوا هداية الآيات، لعلكم تستنبطون من الآية ما قد تعلمون. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

[ هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
أولاً: مشروعية سؤال من لا يعلم عما ينبغي له أن يعلمه ]، بل وجوب سؤالك من يعلم عما لا تعلم، أما قال تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فكل من لا يعلم يجب أن يسأل حتى يتعلم، ولو يرحل ويسافر، لقوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ )[المائدة:4] فقد سألوه وبين لهم.
مشروعية سؤال من لا يعلم حتى يعلم، فإذا علم بالمنع امتنع، وإذا علم بالجواز فعل، أخذنا هذا من قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ )[المائدة:4].
[ ثانياً: حلية الصيد ]، أي: ما يصاد من ظباء وغزلان وبقر الوحش، قل ما شئت من حيوانات [ إذا توافرت شروطه ]، [ هي أن يكون الجارح معلماً ]، الكلب الذي يجترح ويصيد لك يكون معلماً، من علمه؟ أنت، كيف علمته؟ الله علمك، حقيقة علمه: أنك إذا قلت له: امش مشى، أو تعال يرجع، فإذا سمى الله تعالى صاحبه عليه ومات الصيد ولم يأكله الكلب جاز أكله.
قال: [ أن يكون الجارح معلماً، وأن يذكر اسم الله عليه عند إرساله، وألا يأكل منه الجارح ] الذي أرسلته، فإن أكل منه فقد صاده لنفسه، ما صاده لك، [ ويجوز أكل ما صيد برصاص أو بآلة حادة بشرط ذكر اسم الله تعالى عند رميه، ولو وجد ميتاً فلم يذك ]، أنت أطلقت رصاصتك على ظبي، ووجدته ميتاً بضربتك وقد سميت الله فكل، ولا بد أن تكون آلة الصيد مما هو حاد، ما هي بعصا أو حجر.
قال: [ ثالثاً: إباحة طعام وذبائح أهل الكتاب ]، فتتغدى وتتعشى عند يهودي ولا بأس، أو عند من شئت، وتغديه أو تعشيه، تأكل من ذبيحته أو يأكل من ذبيحتك، فقد أذن مولاكم لكم.
[ رابعاً: إباحة نكاح الكتابيات ]، ما المراد من الكتابيات؟ نساء اليهود والنصارى، [بشرط أن تكون حرة وعفيفة ]، فإن كانت مملوكة أمة فلا يجوز التزوج بها، حتى الأمة من غير أهل الكتاب، حتى العربية إذا كانت غير مؤمنة لا يجوز التزوج بها، وخاصة الكتابية، لا بد أن تكون حرة ما هي بمملوكة لشخص، وأن تكون عفيفة غير زانية، فيجوز بشرطين: الحرية والعفة.
وهذا إذن بالجواز فقط وأنت حر، اختر من يصلح لك، إذا شئت أن تتزوج يهودية أو نصرانية بشرطين:
أولاً: أن تكون حرة ما هي بأمة مملوكة، والثاني: أن تكون عفيفة غير زانية، وأنت حر.
قال: [ رابعاً: إباحة الكتابيات بشرط: أن تكون حرة عفيفة، وأن يعقد عليها العقد الشرعي، وهو القائم على الولي والشهود والمهر، والصيغة بأن يقول الخاطب لمن يخطبه من ولي أو وكيل: زوجني فلانة، فيقول: قد زوجتكها ].
عرفنا أنه يجوز أن تتزوج يهودية أو نصرانية بشروط، أولاً: أن تكون حرة ما هي بأمة.
ثانياً: أن تكون عفيفة ما هي بزانية.
ثالثاً: تحقق شروط النكاح: الولي والشهود، والمهر، والصيغة، لا يتخذها صديقة ويقول: هذه أذن الله لي فيها.
[ خامساً: حرمة نكاح المتعة ونكاح الخلة والصحبة الخاصة ].
حرمة نكاح المتعة؛ لأن نكاح المتعة يتزوجها أسبوعين ونحوهما، فهل هذا يجوز؟ هذا الروافض يعيشون عليه، يعدونه من العبادات، ولا سبب إلا من أجل أن ينفصلوا عن المسلمين، أسألكم بالله: أفيكم كلكم فحول أم لا؟ لو تعلم أن فلاناً خطب بنتك وزوجته وهو ينوي أن يفتض بكارتها بعد أسبوع ويطلقها، هل تفرح وتسعد؟ تستطيع أن تنظر إلى وجهه؟ كيف يجوز هذا؟ لأن نكاح المتعة نكاح إلى أجل، سبعة أيام، ثمانية عشر، وكذا ثم يتركها، وقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمته، وكان مباحاً قبل أن يعلن الرسول حرمته.
ونكاح الخلة، والخلة: الصداقة، يتخذ الرجل صديقة في الخفاء، وكذلك متخذات الأخدان، فهذا حرام.
[ سادساً: المعاصي قد تقود إلى الكفر ]، كثرة المعاصي قد تقود صاحبها إلى أن يكفر، من أين أخذنا هذا؟ من ختم الآية: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ )[المائدة:5]، كيف يكفر بالإيمان؟ بالجري وراء المعاصي والذنوب حتى يفسد قلبه، تنطمس بصيرته ويرتد.
[ سابعاً: المرتد عن الإسلام يحبط عمله، فلو راجع الإسلام لا يثاب على ما فعله قبل الردة، وإن مات قبل العودة إلى الإسلام خسر نفسه وأهليه يوم القيامة، وذلك هو الخسران المبين ].
معاشر المستمعين والمستمعات! تعلمتم علماً، فوالله إنه لواجب كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف هذا، وكيف نعرف ونحن هجرنا بيوت الله؟ نجتمع على القرآن فقط من أجل الأكل والشرب، على الأموات، فكيف نتعلم؟
إذاً: هيا نعد: يا أهل القرية! من هذا اليوم لا يتخلف رجل ولا امرأة عن صلاة المغرب والعشاء؛ لنتعلم كتاب الله وحكمة رسوله كل ليلة طول الحياة، فهل سيبقى جاهل أو جاهلة؟ ما نحتاج إلى قلم ولا قرطاس أبداً، نتعلم كتاب الله هكذا، كما تعلم أصحاب رسول الله.
الأسئلة

الموقف من الذهاب للجهاد في الوضع الحالي
السؤال: يطلب من فضيلتكم أن تدعو الله له أن يوفق والديه بالسماح له بالجهاد؟! الجواب: هذا سؤال سياسي، وأقول: بالله الذي لا إله غيره لا يوجد اليوم جهاد في سبيل الله في العالم قط، وقد يقال: كيف -يا شيخ- تقول هذا الكلام؟ فأقول: الجهاد في سبيل الله أن يبايع المسلمون إماماً لهم، ويلتفون حوله، ويربيهم ويهذبهم، ويقودهم إلى الكمالات، ثم حين تزدهر ديارهم بالأنوار والصلاح والطهر ننقل هذا النور وهذه الهداية إلى إخواننا في البشرية، فترسو سفنهم عند شاطئ بلاد من البلاد، ويطالبونهم بالدخول في الإسلام، أو بالدخول في ذمة المسلمين، أو القتال والجهاد، فهل هذا موجود؟
فعلتموه في الأفغان وعصيتم الرحمن، وقلنا: لا يجوز إلا أن تبايعوا وأن يؤمكم إمام واحد، وقلنا: هذا الجهاد فيه دخن، وأنتم تضحكون علينا، فما هي نتائجه؟ هل قامت دولة الإسلام؟ هل عبد الله عز وجل وحده؟ والبوسنة والهرسك وغيرها بدون إمام وإسلام، فوالله ما هو بالجهاد.
الجهاد الذي تطلبونه هو أن يكون للمسلمين إمام، والمسلمون كلهم نور وهداية، وينقلون النور والهداية إلى الأمم الكافرة، ويقاتلونهم إذا رفضوا الدخول في الإسلام، أو يغزو عدو كافر بلاد الإسلام ليحطمها ويسقط رايتها، حينئذ يجب دفعه ورده وهو جهاد.
أما هذه التخبطات وهذه الأفهام الباطلة فما نقول فيها: جهاد، جاهدوا أنفسكم أولاً، روضوها على الحب والولاء لله ورسوله والمؤمنين.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
02-08-2021, 05:05 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (50)
الحلقة (362)
تفسير سورة المائدة (57)

الحواريون هم أتباع موسى الذين آمنوا به ونصروه، وهم هنا يطلبون من عيسى عليه السلام آية تدلهم على صدق نبوته، شأنهم في ذلك شأن كل بني إسرائيل، فطلبوا منه أن يدعو ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، لتكون عيداً لهم وآية دالة على وحدانية الله وعظمته، فاستجاب الله لهم وأنزلها عليهم؛ لكنه توعد من يكفر منهم بعدها فإنه سيعرض نفسه لعذاب لم يذقه أحد من قبل.
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ راجين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة نودعها، فنحن في آخر آياتها، والسورة مدنية، مباركة، ميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الأربع:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:112-115]. ‏
دلالة الأخبار القرآنية على صدق الرسالة المحمدية
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الأنباء، هذه الأخبار، هذه الأحاديث، هذه الأحداث من أين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يعرفها وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب وبلغ أربعين سنة ولم يعلم شيئاً؟إذاً: الإخبار بهذا والتحدث عنه في صدق دال دلالة قطعية على أن محمداً -والله- لرسول الله، وعلى اليهود والنصارى أن يؤمنوا، أن يصدقوا برسالته، ويدخلوا في ظل دينه لينجوا ويسعدوا، وإلا فهم خاسرون هالكون، يطلبون برهنة وتدليلاً على صدق نبوته، فهل يوجد دليل أكثر من هذا؟ من أعلمه؟ من حدثه بهذا؟ من كان حاضراً مع الحواريين وعيسى وهم يسألونه وهو يجيب؟ هذه وحدها تشهد أن محمداً رسول الله.
اذكر يا رسولنا ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ )[المائدة:112]، والحواريون: هم أصحاب عيسى، كأصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعشرة المبشرين بالجنة وأهل بدر وأهل الإيمان والهجرة، الحواريون: جمع حواري، بمعنى: الناصر والمؤيد.
ماذا قال الحواريون؟ قالوا: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:112]، نادوه باسمه العلم مضافاً إلى والدته مريم البتول العذراء بنت عمران، ومعنى مريم: الخادمة أو خادمة الله.
توجيه سؤال الحواريين عن استطاعة الله تعالى
قال الحواريون: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:112]، واحتار الصحابة والتابعون والمفسرون في توجيه هذه الجملة، كيف يقولون: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ )[المائدة:112]؟ فهل الله عاجز وهو الذي خلق السماوات والأرض والجنة والنار والخلق كله، هل يقال: هل يستطيع أو لا يستطيع؟ ومن الأجوبة أن المراد من ( هَلْ يَسْتَطِيعُ )[المائدة:112]، أي: هل يطيعك فيما تطلب منه، كما تقول في الاستفعال: استخبرته، استنبأته هل يفعل؟ أي: طلبت منه أن يفعل كذا. استعملته أي: طلبت منه العلم، فـ(هل يستطيع) بمعنى: هل يطيعك الله فيما لو دعوته أن ينزل علينا مائدة من السماء، فلهذا قلنا معاني المفردات في الكتاب: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ )[المائدة:112]، أي: هل يطيع ويرضى لو طلبت منه هذا؟
لأنه كيف يقولون لمن خلق السماوات والأرض والعوالم كلها: يقدر أو لا يقدر أن ينزل علينا مائدة، سفرة عليها خبز ولحم!
فمن توجيهات الصحابة والتابعين أن ( هَلْ يَسْتَطِيعُ )[المائدة:112]، بمعنى: أيطيعك إذا أنت دعوته وطلبت منه أن ينزل علينا مائدة؟
وقرئ: (هل تستطيع)، وهنا زال الإشكال، هل تستطيع أن تدعو ربك يا عيسى لينزل علينا مائدة من السماء، ولو كانت هذه القراءة قراءة مجمعاً عليها ما بقي إشكال، لكن القراءة التي عليها جمهور القراء هي: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ )[المائدة:112].
وهنا شيء آخر أيضاً يصلح جواباً: وهو أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا من مكة مجاهدين يقاتلون المشركين في الطائف، ومروا بشجرة من السدر فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، كما قال قوم موسى لموسى: ( اجْعَل لَنَا إِلَهًا )[الأعراف:138]، بالأمس دخلوا في الإسلام وانتصر الإسلام وأضاءت الدنيا بنوره مشارقها ومغاربها ويقولون: اجعل لنا ذات أنواط! أي: شجرة نعلق بها رماحنا وسيوفنا ونتبرك بها لننتصر إذا قاتلنا! فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( سبحان الله! ما زدتم أن قلتم كما قال بنو إسرائيل لموسى: ( اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ )[الأعراف:138] )، لما نجى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق من البحر مشوا فإذا بقرية فيها من يعبد وثناً، فلما شاهدوا ذلك ( قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا )[الأعراف:138]، وهم مع موسى، فلا عجب أن يقول تلك المقالة لعيسى بعض أتباعه، وليس بشرط أن يكون الحواريون أنفسهم، بل من معهم من الجهلة ممن لم يعلموا بعد، يوجد بينهم من قال هذه الكلمة: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:112]، ويؤيد هذا قوله لهم: ( اتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:112]، لو كان كلامهم ليس كفراً ولا محرماً لما قال لهم: اتقوا الله.
تذكير عيسى عليه السلام قومه بتقوى الله تعالى
إذاً: ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً )[المائدة:112]، ما هي المائدة؟ هي الخُوان، ويقال فيه: الخِوان أيضاً بالكسر والضم، وهو ما نسميه بالسفرة سواء كان عليها طعام أم لا. (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:112]، من فوق من الملكوت الأعلى، فعيسى عليه السلام تأثر وقال: ( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )[المائدة:112]، فهذا القول ما يصدر عن المؤمنين، فكيف يصدر عنكم أنتم؟ ( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )[المائدة:112] في قولكم: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:112]، وهذا المقام واضح.
تفسير قوله تعالى: (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ...)
فحاولوا أن يعتذروا فقالوا: ( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا )[المائدة:113]، قلوبنا ما اطمأنت ولا سكنت لأمور الغيب، ومن ذلك رؤيتهم لله عز وجل ودار السلام وما فيها ودار الشقاء وما فيها، هذه كلها من الإيمان، والرؤية لذلك تسكن بها القلوب وتطمئن النفوس، وهذا إبراهيم الخليل عليه السلام قال: ( أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي )[البقرة:260]، هل كان إبراهيم يشك في أن الله يحيي الموتى؟ لا والله، وهو يشاهد الإحياء يومياً في المخلوقات، ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى )[البقرة:260]، أنا مؤمن، ( وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي )[البقرة:260]، فالمشاهدة أقوى تأثير من التصديق بالقلب، فأنت تسمع بالمسجد النبوي وأنت في الهند أو في اليابان، وهذا سماع ما هو بيقين، لكن كونك فيه أعظم ما بقي ارتياب أو شك.
إذاً: فأمر الله تعالى إبراهيم أن يأتي بطير ويذبحه ويوزع اللحوم ويناديها فتأتيه، ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[البقرة:260]، وفعل إبراهيم.
إذاً: ( قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا )[المائدة:113] في إخبارك أنك نبي الله ورسوله وأنك تبلغ عنه، ( وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ )[المائدة:113] على تلك المائدة ونحدث بها من بلغنا ومن سيبلغنا فيزداد إيمان المؤمنين.

يتبع

ابوالوليد المسلم
02-08-2021, 05:05 AM
تفسير قوله تعالى: (قال عيسى ابن مريم اللهم أنزل علينا مائدة من السماء ...)
إذاً: أجابهم عيسى: ( قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ )[المائدة:114]، أي: يا الله، فحذفت (يا) وعوض عنها الميم، والأصل: يا الله، كما تنادي: يا إبراهيم، ولكن الله عز وجل واسمه الأعظم: الله، فحذفت (يا) وعوضت عنها الميم في آخر الكلمة.والله عز وجل يسمع نداء كل مناد في أعماق الكون وفي أعلاه، يعلم السر والجهر، ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى )[طه:7]، فلهذا لا تقل: يا الله كما تنادي البعيد ليسمعك، قل: اللهم؛ فإنه قريب منك يسمع نداءك.
(اللَّهُمَّ رَبَّنَا )[المائدة:114]، أي: يا ربنا، يا خالقنا، يا رازقنا، يا إلهنا الحق، يا معبودنا الذي لا يعبد سواه، يا مالك أمرنا! ( أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:114]، استجاب للحواريين؛ لأنهم اعتذروا فقالوا كذا وكذا، فقال: أبشروا، فرفع يديه إلى السماء، وورد أنه وقف يصلي وضم رجليه إلى بعضهما، ذكر هذا ابن كثير ؛ فلهذا من الأدب في الصلاة وأنت تتكلم مع الله أن تقف وقفة الخاضع الذليل المتأدب.
قال: ( اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:114]، وعلل عليه السلام فقال: ( تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا )[المائدة:114]، واستجاب الله وبقي هذه العيد إلى اليوم في الربيع، فهناك عيد عند النصارى يسمونه شم النسيم، وعيد الفصح، والأصل هو عيد المائدة، والعيد من: عاد يعود إذا رجع، فكل عام يعود فهو عيد، وللمسلمين عيدان، والله ما هما إلا اثنان: عيد الأضحى وعيد الفطر، أو عيد رمضان وعيد الحج، يعودان كل سنة، والحمد لله؛ فعيدنا نحن نعبد الله تعالى فيه بالصلاة والصدقات والذكر والدعاء، وعيد النصارى يرقصون في الليل ويأكلون البقلاوة؛ لأنهم ضلال، أموات، فاسدون، هابطون، حتى لو كان عيداً كما كان فهو باطل نسخه الله لما طرأ على عباداتهم من الباطل، فلم يبق من دين حق يعبد به الله إلا هذا الدين، فلهذا هم خاسرون وهالكون.
(قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ )[المائدة:114] دالة على قدرتك وعظمتك وجلالك ووجودك وربوبيتك وإلهيتك وعلى شرعك وأنبيائك، هي أعظم آية.
(وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ )[المائدة:114]، هنا لطيفة: لم قال: ( وَارْزُقْنَا )[المائدة:114]؟ كأنهم ما طلبوا إلا هذه المائدة فقط وبعد ذلك لا يأكلون ولا يشربون، فقال: ( وَارْزُقْنَا )[المائدة:114] طول حياتنا الطعام والشراب وكل ما نحتاج إليه وأنت خير الرازقين، وهذا أفضل من طلب المائدة فقط، واستجاب الله الرحمن الرحيم.
تفسير قوله تعالى: (قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين)
فاسمعوا إجابة الله: ( قَالَ اللَّهُ )[المائدة:115]، كيف قال هذا؟ بواسطة الوحي وهو إلقاء في روع عيسى، أو يهتف به هاتف كجبريل فيكلمه، إلا أنه لا يكلمه الله كفاحاً، وهذا لم يتم في الأرض إلا لموسى عليه السلام، وفي الملكوت الأعلى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما عدا هذا فالله يوحي ويأمر وينهى ويعلم ويبشر ويخبر بواسطة الوحي، وهي ثلاثة كما جاء في سورة الشورى: إما أن يرسل ملكاً يتكلم معه، وإما أن يلقي في روعه فيفهم عن الله عز وجل، أو يكلمه كفاحاً بدون واسطة، قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ )[الشورى:51]. إذاً: ( قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:115]، لأنهم طلبوا ما لم يطلبه الخلق، وأرادوا أن يشاهدوا المائدة من السماء تنزل ونزلت وهي لحم وخبز، لكن لا تفهم من اللحم أنه كلحمنا هذا وخبز كخبزنا، لا بد أنه من أجود ما يكون من اللحم والخبز، ما هناك مرق ولا فاكهة، بل خبز ولحم.
فاسمعوا هذا الإعلام الإلهي: فالذين طالبوا بالمائدة واستجاب الله لهم توعدهم الله بأن من كفر يعذبه عذاباً لا يعذب مثله أحداً من العالمين، فالكفر كفران، فالذي يكون من أهل الإسلام والإيمان ويكفر ارتد هل كفره ككفر شخص ما عرف الله ولا الرسول؟ كلا. كما أن سخط الله وغضبه على العالم ليس كسخط الله وغضبه على الجاهل.
فكذلك هؤلاء شاهدوا آية من آيات الله، الطعام ينزل من السماء وهم يشاهدون بين أيدهم، فمن ينكر ويكفر ويخرج عن دين الله يعذب عذاباً لم يعذب قط بمثله.
وجاء أيضاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم أن هناك أيضاً من يعذب هذا العذاب:
أولاً: آل فرعون؛ إذ قال تعالى: ( أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )[غافر:46].
والصنف الثاني: المنافقون منا؛ إذ قال تعالى: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ )[النساء:145].
فهيا أسمعكم التلاوة: ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:112-115].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
والآن نستمع إلى شرح الآيات في التفسير.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ معنى الآيات:
يقول تعالى لعبده ورسوله عيسى: واذكر ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ )[المائدة:111] ]، هذا التوجيه معناه أن هذه الآيات لها اتصال بما سبق، فقد تكلم عيسى في عرصات القيامة، فالله يسأل وهو يجيب، كذلك هذا يحدث في عرصات القيامة والكلام متصل، وهذا وجه محمود، ولا نقول: هذا كلام مستأنف، بل مرتبط بالأول، وهذا علامة على أن محمداً رسول الله، فكيف يخبر عن هذا الغيب ويتحدث بهذه الأحداث التي وقعت منذ مئات السنين إن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
[ يقول تعالى لعبده ورسوله عيسى: واذكر ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ * إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:111-112]، ولما كان قولهم هذا دالاً على شك في نفوسهم وعدم يقين في قدرة ربهم قال لهم عيسى عليه السلام: ( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )[المائدة:112]، فلا تقولوا مثل هذا القول.
فاعتذروا عن قولهم الباطل ( قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ )[المائدة:113] أنها نزلت من السماء بسؤالك ربك ذلك، وهنا ( قَالَ عِيسَى )[المائدة:114] عليه السلام داعياً ربه ضارعاً إليه: ( اللَّهُمَّ )[المائدة:114]، أي: يا الله! ( رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا )[المائدة:114]، أي: للموجودين الآن منا، ( وَآخِرِنَا )[المائدة:114]، أي: ولمن يكون بعدنا ( وَآيَةً مِنْكَ )[المائدة:114]، أي: وتكون آية منك، أي: علامة على وحدانيتك وعظيم قدرتك، وعلى صدقي في إرسالك لي رسولاً إلى بني إسرائيل
(وَارْزُقْنَا )[المائدة:114]، وأدم علينا رزقك وفضلك، ( وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ )[المائدة:114].
فأجابه تعالى قائلاً: ( قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ )[المائدة:115]، وحقاً قد أنزلها، ( فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ )[المائدة:115] يا بني إسرائيل السائلين المائدة بأن ينكر توحيدي أو رسالة رسولي أو عظيم قدرتي؛ ( فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:115]، ولذا مسخ من كفروا منهم قردة وخنازير ]، الذين كفروا بعد هذا مسخوا قردة وخنازير، إذ مسخوا على عهد داود وعيسى ابن مريم.
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات ]، فهيا نأخذ ما فيها من الهداية؛ لنستعين بذلك على مسيرنا إلى الله عز وجل ونحن أطهار أصفياء.
قال: [ من هداية الآيات:
أولاً: جفاء اليهود وغطرستهم وسوء أدبهم مع أنبيائهم ]، فالحواريون يهود أم لا؟ أليسوا هم من بني إسرائيل؟
إذاً: يستفاد من هذه الآية [ جفاء اليهود ] والجفاء: الغلظة والقسوة، [ وغطرستهم وسوء أدبهم مع أنبيائهم؛ إذ قالوا لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ )[المائدة:24] ]، وهل هناك جفاء وغطرسة أكثر من هذا؟ قالوا: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ )[المائدة:24]، ما نستطيع أن نقاتل العمالقة، فاذهب أنت وربك وقاتلا، هذه مقالة كفرية ما فقهوها، لكن لجهلهم وظلمة نفوسهم؛ لأنهم تربوا في حجور الفاسدين والهابطين.
قال: [ وقالوا لعيسى: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:112] ]، أليس هذا من الجفاء والغطرسة والغلظة؟
[ ثانياً: في قول عيسى لهم: ( اتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:112] دال على أنهم قالوا الباطل ].
معشر المستمعين! كررنا القول: بم يتقى الله؟ أنت تقول لي: يا فلان! اتق الله، فبأي شيء نتقيه؟ هل بالجيوش الجرارة؟ بالأنفاق في أعماق الأرض؟ بالهرب في الجبال ورءوسها، بم يتقى الله؟ أنا أتقي الشمس بالمظلة وأتقي الجوع بالخبز والماء، وأتقي البرد بالكساء، والله يتقى بماذا عندما تريد أن تتقي الله؟ لا يتقى الله بشيء إلا بطاعته وطاعة رسوله، أي: بفعل ما يأمران به وترك ما ينهيان عنه، ولا يتقى الله بشيء غير هذا؟
أنا أريد أن أتقي الله فتعلمت الليلة أن أطيعه في أمره ونهيه، أفعل الأمر وأترك النهي، لكنني ما عرفت الأوامر هذه، كيف نفعل؟ علموني؟ الجواب: عليك بفلان اقرع بابه وقل له: علمني أوامر الله التي أمرني بها، وبين لي نواهيه التي نهاني عنها، وبذلك تستطيع أن تتقي الله، أما كونك تعرف تقوى الله بطاعته وطاعة رسوله فلا يكفي، لا بد من معرفة ما هي الأوامر التي تطيع فيها، وما هي النواهي التي تطيعه فيها بتركها.
خلاصة القول: لن تستطيع أن تتقي الله ما لم تعلم، لن تستطيع يا ابن آدم أن تتقي الله ما لم تعلم أوامره وكيف تؤديها، ونواهيه وكيف تتجنبها، فطلب العلم فريضة، لا بد من هذا، وهل يستطيع عبد أن يكون ولياً لله وهو لا يعرف تقوى الله؟ مستحيل أن تكون ولي الله وأنت لا تتقيه.
قال: [ في قول عيسى لهم: ( اتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:112] دال على أنهم قالوا الباطل، كما أن قولهم: ( وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا )[المائدة:113] دال على شكهم وارتيابهم.
ثالثاً: مشروعية الأعياد الدينية لعبادة الله بالصلاة والذكر؛ شكراً لله تعالى، وفي الإسلام عيدان: الأضحى والفطر ]، لا غير، لا رجبية ولا مولد.
[ رابعاً: من أشد الناس عذاباً يوم القيامة: آل فرعون، والمنافقون، ومن كفر من أهل المائدة ]، قال تعالى: ( أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )[غافر:46]، وقال: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا )[النساء:145]، وقال: ( فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:115].
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
02-08-2021, 05:07 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (51)
الحلقة (363)
تفسير سورة المائدة (58)




أفرط النصارى في رفع عيسى عليه السلام حتى اتخذوه إلهاً من دون الله، ويوم القيامة يوقفه الله عز وجل ويسأله -سؤال المبكت للنصارى على فعلهم- عن صحة ما فعلوه من تأليهه وعبادته من دون الله، وموقفه عليه السلام من ذلك، حتى يقيم الحجة على النصارى الكاذبين، ويرفع مقام نبيه الصادق الأمين.
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع خاتمة سورة المائدة المباركة، الميمونة، نودعها في ليلتنا هذه وعسى الله أن يردنا إليها إن أطال أعمارنا مرة أخرى، وهو على كل شيء قدير، ومعنا خمس آيات، فهيا نتلوها متدبرين، متفكرين، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[المائدة:116-120].
قول ربنا: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ )[المائدة:116]، أي: اذكر يا رسولنا، يا خاتم أنبيائنا، يا محمد صلى الله عليه وسلم، اذكر: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:116]، وذلك في عرصات القيامة، ما هو في هذه الحياة، وذلك يوم يبعث الله الخلائق.
وما قال: وإذ يقول الله، وإنما: اذكر إذ يقول الله، فهذا أمر متحقق مقطوع الوجود يعبر بالماضي عنه لا بالمضارع، ومثله: ( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ )[النحل:1]، وهو قيام الساعة.
تبكيت الله للنصارى بسؤاله لعيسى عليه السلام عن تأليههم له
اذكر ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:116]، قال له مستفهماً إياه ليبكت النصارى وليذلهم ولتقوم الحجج أمام العالم الموجود عليهم: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ )[المائدة:116]، وحاشا عيسى أن يقول ذلك، ولكنه التوبيخ والتقريع والتأنيب لأولئك الذين ألهوا عيسى وأمه وعبدوهما من دون الله، أما عيسى فقد تقدم خبره: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ )[المائدة:72]، هذا فيه تقريع وتأنيب وإقامة الحجة أمام العالم والمخلوقات يومئذ على هؤلاء عبدة المسيح، وعلى الكافرين به من اليهود، ولو كانت الهداية بيد الإنسان لما وجد يهودي ولا نصراني يسمع هذه الآيات إلا قال: آمنت بالله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لكن الله يدخل في رحمته من يشاء.
رد مزاعم النصارى في نفي تأليههم لمريم عليها السلام
(أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ )[المائدة:116]، من أم عيسى؟ مريم البتول العذراء، ويوجد الآن من يقول: نحن ما ألهنا مريم ، ووالله! لقد ألهها مئات بل ملايين منهم، والله أخبر وهو العليم الخبير، والله! لقد اتخذوها إلهاً مع الله، وإن لم يتخذها هؤلاء الفلانيون فهؤلاء اتخذوها، وهم اثنتان وسبعون طائفة.واتخاذهم لها إلهاً بمعنى: أنهم عبدوها، يقدسون اسمها ويرقصون ويدعون ويستغيثون به، هذا هو التأليه، هذه هي العبادة، فالذين ضلوا من أمة الإسلام عندما يقدسون الأولياء ويدعونهم ويستغيثون بهم ويرفعون أصواتهم أليس ذلك هو التأليه والعبادة؟ والله! إنه لهو التأليه والعبادة، يقولون: ما ألهناهم أبداً، ما اتخذنا عبد القادر إلهاً مع الله. ووالله! لقد اتخذتموه إلهاً ما دمتم تستغيثون به، تقولون: يا راكب الحمراء.. يا مولى بغداد.. يا سيدي عبد القادر وأنت في الغرب والشرق، تدعونه دعاء الله وتقولون: ما عبدناه؟ أية عبادة أعظم من هذه؟ وتقول: هذه الشاة لسيدي عبد القادر ، هذه البيضة لسيدي عبد القادر ، والمرأة تريد أن تنتج الدجاجة فتأتي بالبيض الملقح وتضع عشر بيضات تحت الدجاجة وتعلم على واحدة بالفحم الأسود وتقول: هذه لسيدي عبد القادر ؛ حتى يبارك الجميع ويخرج الدجاج، من إندونيسيا إلى موريتانيا هذا هو الحال، هبطت هذه الأمة أكثر من ثمانمائة سنة.
والشاهد عندنا في تأليههم لعيسى ومريم ، ولا يقل قائل: ما ألهنا مريم ؛ فقد عبدتموها، ما قلتم فيها: إله، بل قلتم: أم الإله، ولكن دعاؤها والاستغاثة بها والذبح لها والركوع والانحناء وتعليق صورتها هذه هي العبادة، هذا هو التأليه. والشاهد عندنا أنه قد يقول قائل: ما ألهنا مريم. والله يقول -وقوله الحق- في عرصات القيامة: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[المائدة:116].
جواب عيسى عليه السلام عن سؤال ربه عز وجل
فقال عيسى: ( سُبْحَانَكَ )[المائدة:116]، تنزيهاً لك وتقديساً عن أن يعبد معك غيرك، ما يكون لي أبداً وليس من شأني أن أقول ما ليس لي بحق، وهل لي من حق في أن أعبد أنا؟ فهل أنا خلقت، هل أنا رزقت، هل أنا أمت، هل أنا أحييت؟ كيف يكون لي حق العبادة، إذ العبادة تكون بالحق؟ فالذي خلقك ورزقك وحفظ حياتك وأوجد الكون كله هذا يستحق عبادتك، أما الذي لا دخل له فيك أبداً فكيف تعبده؟ (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ )[المائدة:116]، كوني أقول للناس: ألهوني أو ألهوا أمي ما عندي حق بهذا، إنما يعبد الله عز وجل بحق إيجادنا وحفظنا وامتداد حياتنا وخلق الحياة كلها من أجلنا، هذا يستحق أن يعبد، أما الذي ما خلق ولا رزق ولا أمات ولا أحيا ولا أصح ولا أمرض فكيف يعبد؟ بأي حق؟
ثم قال: ( إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ )[المائدة:116]، من باب الفرض والتقدير، والعالم كله يسمع في عرصات القيامة، ( إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ )[المائدة:116]، أي: هذا القول، وهو أني قلت للناس: ألهوني ووالدتي، إن كنت قلته فأنت تعلمه، وزيادة أنك ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي )[المائدة:116]، إن كنت أخفي شيئاً ولا أظهره فأنت تعلم ما في باطن نفسي، ( وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ )[المائدة:116]، فسرك لا أعرفه وأما سري أنا فإنك تعرفه، ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:116]، هذا التذييل: ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:116]، الغيوب كلها أحاط بها علم الله عز وجل، وكيف لا وهو خالقها، من النملة إلى كوكب السماء، كل الخلق مخلوق لله، ألا يعلم من خلق؟ أيخلق الشيء ولا يعلمه؟ كيف يقع شيء ويقال: غاب عن الله وهو خالقه؟
(مَا قُلْتُ لَهُمْ )[المائدة:117] يا رب ( إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ )[المائدة:117]، الذي أمرتني أن أقوله لهم قلته، والذي ما أمرتني أن أقوله ما قلته، أنا عبدك ورسولك، والذي أمره الله أن يقوله هو: ( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )[المائدة:117]، (أن) التفسيرية، أي: اعبدوا الله ربي وربكم، هذا الذي قلته، هذا الذي أمر الله به عيسى وأمر به رسوله محمداً وكل المرسلين، كل رسول يقول للناس: ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )[المائدة:117]، فكيف نعبده؟ أي: عظموه وأطيعوه وأحبوه وخافوه وارهبوه، ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ )[المائدة:117]، وهو: ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )[المائدة:117]، اعبدوه بتعظيمه وإجلاله وإعظامه والرهبة منه والخوف، وطاعته فيما يأمر وفيما ينهى.
(وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ )[المائدة:117]، لما كنت حياً بينهم موجوداً فيهم كنت شاهد على ما يقولون وما يعملون، فلما توفيتني توليت أنت ذلك، هذه التوفية هي توفيته الأيام التي كتب له أن يعيشها في الدنيا، ثم رفعه إلى الملكوت الأعلى، تقول: وفيت فلاناً دينه: أعطيته حقه، وفيته ما وعدته به، فالله عز وجل وفى عيسى ما كتب له أن يعيش في الدنيا آمراً ناهياً رسولاً في بني إسرائيل ثلاثاً وثلاثين سنة ثم رفعه، ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي )[المائدة:117] وفيتني أيامي التي كتبتها لي. وسوف ينزل عما قريب ويعيش إن شاء الله ثلاثين سنة أخرى، وهو الذي يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، هذه الأخبار شاهدة صادقة والذي ينكرها يكفر، وفي القرآن الكريم: ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ )[الزخرف:61]، ذكر أن عيسى علم على الساعة، ساعة نهاية هذه الحياة، ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا )[الزخرف:61].
إذاً: ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ )[المائدة:117] بعد ذلك ( أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )[المائدة:117]، هو مطلع وعالم بحالهم.

يتبع

ابوالوليد المسلم
02-08-2021, 05:07 AM
تفسير قوله تعالى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)
ثم قال عليه السلام: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ )[المائدة:118]، والمالك لهم، والسيد عليهم، أنت خالقهم، ومن يعترض على الله؟ إذا كنت تملك شاة تريد أن تذبحها فهل هناك من يقول: لا تذبحها؟ أنت المالك، ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ )[المائدة:118]، وأنت المالك لهم فافعل ما تشاء، ( وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[المائدة:118]، العزيز: الغالب الذي لا يمانع في مراده، والحكيم: الذي يضع كل شيء في موضعه، فهو تعالى يغفر للمذنبين غير المشركين، يغفر للمذنبين الذين أذنبوا من غير المشركين، أما الذين ماتوا على الشرك والكفر فهم آيسون قانطون، والله أخبر في غير آية، ورسله صرحت بذلك، فعيسى نفسه قال: ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ )[المائدة:72]، والتحريم: المنع الكامل.إذاً: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ )[المائدة:118]، من يعترض عليك؟ ( وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[المائدة:118]، تقدر على ذلك وتغفر لمن يستحق المغفرة؛ لأن الحكيم يضع الشيء في موضعه.
إذاً: فبنو إسرائيل الذين بعث فيهم عيسى وجد منهم المسلمون المؤمنون كالحواريين وغيرهم، وفيهم المذنبون، فهؤلاء يغفر لهم ويرحمهم، أما من كفروا وماتوا على الشرك والكفر فهم آيسون قانطون، وهذا مجرد اعتذار من عيسى لربه وتفويض الأمر إلى الله، يقول: أنا كنت معهم كذا وكذا، وقد دعوتهم إلى ما أمرتني به، ثم توفيتني وأنت بعد ذلك الرقيب الشاهد عليهم، فإن تعذب عبادك وإن تغفر ( فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[المائدة:118]، موقف عظيم يقفه عيسى، وكيف لا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهذا أين يتم؟ في عرصات القيامة، في الساحة العظمى حين يأتي الرب ويحكم بين الناس.
تفسير قوله تعالى: (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ...)
فأجابه الرحمن فقال تعالى: ( قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )[المائدة:119]، أهل الإيمان والعمل الصالح، الصادقون في إيمانهم وصالح أعمالهم في هذا اليوم ينفعهم صدقهم، والكاذبون المشركون والعابثون يا ويلهم، هذا اليوم يوم اجتماع الخليقة لفصل القضاء، ( يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )[المائدة:119]، فادعوا الله أن نكون منهم؟ فاللهم اجعلنا منهم.والصادقون: جمع صادق، الصادق في إيمانه وفي عمله، لا ريب ولا شك ولا شيء يختلج في النفس، صدقه كامل وسلوكه كامل وتام.
إذاً: ( هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )[المائدة:119]، بيان ذلك: قال تعالى: ( لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا )[المائدة:119]، من أعلن عن هذا النعيم؟ الرب تبارك وتعالى، الله الذي قال هذا، ( يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا )[المائدة:119] بلا نهاية.
وأنهار الجنة أربعة، هذه الأنهار تجري تحت الأشجار والقصور، قال تعالى: ( فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ )[محمد:15]. ‏
فوز الصادقين برضوان الله
ثم ختم تعالى هذا الإنعام بما هو أعظم من الجنة ونعيمها: ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )[المائدة:119]، نعيم الجنة مهما كان لا يساوي رضا الله عز وجل. وقد مثلنا لإخواننا حتى يفهموا -وكلنا عوام وأشباه عوام- فقلنا: أنت ينزلك شخص منزله ويكرمك بالطعام والشراب وهو ساخط غضبان عليك، مكشر في وجهك عابس مقطب الجبين، فهل ستسعد؟ ستمل هذا النعيم مهما كان، لكن إذا كان راضياً عنك، يبتسم في وجهك ويناديك بأحسن أسمائك وإن قل الطعام والشراب فأنت في رضا وفي سعادة، فلهذا كان رضا الله أعظم نعيم الجنة، ولهذا ختمه بقوله: ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )[المائدة:119]. والنعيم الآخر هو أن يكشف عن وجهه الحجاب ويريهم وجهه الكريم فتغمرهم فرحة ما عرفوا مثلها قط.
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )[المائدة:119]، قال تعالى: ( ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )[المائدة:119]، ما قال: هذا الفوز العظيم؛ لأنه عال، فلذلك قال: ( ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )[المائدة:119]، ما هو الفوز بالشاة والبعير والمرأة والولد والوظيفة والمنصب، فما هذا بشيء، الفوز العظيم: أن تنجو من عذاب الله وتدخل الجنة دار الكرامة مع أولياء الله، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )[آل عمران:185]، بيان ذلك: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )[آل عمران:185]، ومن أدخل النار وأبعد عن الجنة فقد خاب وخسر، فمن منا يرغب في أن يفوز؟ كلنا ذاك الرجل. فما الطريق؟ الطريق هو أن نعمل في صدق على تزكية نفوسنا وتطهير أرواحنا؛ لقوله تعالى في قضائه وحكمه: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، هنا تقرير المصير ليوم القيامة.
يا أمة الله! اعملي على تزكية نفسك. وإن قلت: كيف أزكيها؟ فاسألي أهل العلم يعلموك، وإن كنت تريدين الخبر الآن فآمني بالله وبكل ما أمر الله بالإيمان به، ثم اعملي الصالحات التي هي الصلاة وما إليها من العبادات، وابتعدي عما يدسي نفسك من الشرك والمعاصي، وإن زلت قدمك وسقطت على ذنب فعلى الفور اصرخي بكلمة: أستغفر الله.. أستغفر الله وأتوب إليه، ولا تزالين تبكين وتدعين حتى يزول ذلك الأثر، وحافظي على هذا حتى الوفاة.
تفسير قوله تعالى: (لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير)
ثم قال تعالى: ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ )[المائدة:120]، كل شيء لله، الجنة والنار والكفار والمؤمنون والعوالم كلها لله؛ إذ هو خالقها وموجدها، كان الله ولم يكن شيء منها، فله ملك السماوات والأرض، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، يعز من يشاء ويذل من يشاء، يزكي من يشاء ويضل من يشاء. وعلمنا أن مشيئته تابعة لحكمته، ما هي مشيئة هوجاء كمشيئتنا، إذ هو الحكيم، يشاء رحمة عبد أقبل عليه واطرح بين يديه يبكي بين يديه.
(لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ )[المائدة:120] من خلائق، أما الملائكة فقد عرفنا، فالسماوات السبع تئط بالملائكة.
(وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[المائدة:120]، ما من شيء أراده إلا قدر على إيجاده، فلهذا ادعه واسأل ما شئت مما هو خير لك، فالله لا يعجزه شيء، لكن لا تتنطع وتغل في الأسئلة تقول: يا رب! ارزقني أولاداً صالحين وأنت لم تتزوج وعندك المال وأبيت أن تتزوج، هذا السؤال بدعة وباطل، تقول: يا رب! فقهني في الدين وأنت في المقاهي، ولا تجلس أبداً بين عالم تتعلم عنه، فكيف يفقهك في الدين؟
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
ولنستمع إلى الشرح الذي هو في التفسير زيادة لعلمنا. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ معنى الآيات: يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر لقومك ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ )[المائدة:116] تعالى يوم يجمع الرسل ] في عرصات القيامة [ ويسألهم: ماذا أجبتم؟ ويسأل عيسى بمفرده توبيخاً للنصارى على شركهم: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي )[المائدة:116]، أي: معبودين؟ يقرره بذلك، فينفي عيسى ذلك على الفور ويقول منزهاً ربه تعالى مقدساً: ( سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ )[المائدة:116]، ويؤكد تفصيه] وخروجه [ مما وجه إليه توبيخاً لقومه: ( إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ )[المائدة:116] يا ربي، إنك ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي )[المائدة:116]، فكيف بقولي وعملي ] إذا عملت؟ فهو من باب أولى، [ وأنا ( وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ )[المائدة:116]، إلا أن تعلمني شيئاً، لأنك ( أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ )[المائدة:116-117] أن أقوله لهم، وهو: ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا )[المائدة:117]، أي: رقيباً، ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي )[المائدة:117] برفعي إليك ( كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ )[المائدة:117]، ترقب أعمالهم وتحفظها لهم لتجزيهم بها، ( وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )[المائدة:117]، أي: رقيب وحفيظ.
(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ )[المائدة:118]، أي: من مات منهم على الشرك بأن تصليه نارك فأنت على ذلك قدير، ( وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ )[المائدة:118]، أي: لمن مات على التوحيد فتدخله جنتك فإنه لذلك أهل ( فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ )[المائدة:118] الغالب على أمره، ( الْحَكِيمُ )[المائدة:118]، الذي يضع كل شيء في موضعه، فلا ينعم من أشرك به ولا يعذب من أطاعه ووحده.
فأجابه الرب تبارك وتعالى قائلاً: ( قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )[المائدة:119]، صدقوا الله تعالى في إيمانهم به فعبدوه وحده لا شريك له ولم يشركوا سواه، ونفعه لهم أن أدخلوا به جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها لا يخرجون منها أبداً، مع رضا الله تعالى عنهم ورضاهم عنه بما أنعم به عليهم من نعيم لا يفنى ولا يبيد، ( ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )[المائدة:119]، إنه النجاة من النار ودخول الجنات.
وفي الآية الأخيرة يخبر تعالى أن له ( مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ )[المائدة:120] من سائر المخلوقات والكائنات خلقاً وملكاً وتصرفاً يفعل فيها ما يشاء فيرحم ويعذب، ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[المائدة:120]، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ].
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: توبيخ النصارى في عرصات القيامة على تأليه عيسى ووالدته عليهما السلام.
ثانياً: براءة عيسى عليه السلام من مشركي النصارى وأهل الكتاب.
ثالثاً: تعذيب المشركين وتنعيم الموحدين قائم على مبدأ الحكمة الإلهية ]، فالنفس الزكية يرحمها والخبيثة يعذبها.
[ رابعاً: فضيلة الصدق وأنه نافع في الدنيا والآخرة، وفي الحديث الصحيح: ( عليكم بالصدق؛ فإنه يدعو إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال العبد يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) ]، والعياذ بالله.
[ خامساً: سؤال غير الله شيئاً نوع من الباطل والشرك ]، طلب شيء من غير الله ممن لا يملك ذلك شرك والعياذ بالله تعالى؛ لأن غير الله لا يملك شيئاً، [ ومن لا يملك كيف يعطي ومن أين يعطي؟ ].
أقول: الذين يسألون الموتى والغائبين والأحجار والكواكب والأنبياء هؤلاء يسألون من لا يسمع دعاءهم ولا يجيب نداءهم، فهذا السؤال شرك والعياذ بالله، وهم مؤلهون لمن سألوه ودعوه، أما أن تسأل أخاك وهو إلى جنبك أو على مقربة منك ويسمع صوتك ويقدر على أن يعطيك فلا بأس، أذن الله لنا في هذا ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى )[المائدة:2]، لكن كونك تأتي إلى خربة من المباني ما فيها أحد وتقف عند الباب: يا أهل الدار! أعطونا، أغنونا، أشبعونا؛ فإنك تضحك الناس عليك؛ لأن الدار ما فيها أحد، هي خربة من الخرائب، فالذي يقف أمام قبر علي أو فاطمة أو الرسول ثم يقول: يا رسول الله.. يا فلان! أعطني؛ والله لقد أشرك في عبادة الله؛ لأن الذي تدعوه معناه: أنك أعطيته منزلة الله، أصبح يسمع ويرى ويقدر على أن يعطي ويمنع وهو غائب عن الناس، فكيف يصح هذا؟
فالله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعليهم، وأن يوفقنا وإياهم لما فيه حبه ورضاه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
02-08-2021, 05:08 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (6)
الحلقة (364)
تفسير سورة المائدة (59)

الوضوء شرط من شروط صحة الصلاة فريضة كانت أو نافلة، فلا تصح صلاة بدون طهارة، لذلك فقد ذكر الله عز وجل في كتابه صفة هذه الطهارة، وهي أن يغسل المرء وجهه مع ما يشمله من مضمضة واستنشاق، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، ثم يمسح برأسه مع الأذنين، ثم يغسل الرجلين مع الكعبين، وبذلك يكون قد أتم الوضوء.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل.
وها نحن مع سورة المائدة المباركة المدنية الميمونة، وقد تساءل بعض المستمعين وقالوا: ما تأكدنا من صحة ما فهمنا من آيتي البارحة، فإليكم معاشر المستمعين والمستمعات بيان تلك الأحكام مرة أخرى.
تحليل الله تعالى لعباده طيب المآكل وتحريم الخبيث كالميتة ونحوها
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[المائدة:4].هذه الآية الكريمة أولى الآيتين، وقد روي أن عدي بن حاتم الطائي وزيد الخير سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أحل لهم من الصيد، فأجابهم الله تعالى بقوله: ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:4]، فكل طيب لذيذ ما فيه جراثيم ولا ميكروبات ولا تعفن ولا أذى فهو حلال، كل وسم الله تعالى.
أما العشرة المحرمات فهي خبيثة، وهي المذكورة في الآية التي قبلها: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3]، هذه العشر محرمات، وما عداها طيبات.
تحليل أكل صيد الحيوان المعلم بشروطه
ثم أعطانا الله عز وجل نعمة أخرى فقال: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[المائدة:4]، فالمراد من هذا: أن يكون لك كلب من كلاب الصيد، أو يكون لك حيوان غير الكلاب كالفهود والسباع، روضتها ومرنتها فأصبحت تصيد لك، أو يكون لك فهد أو طير من الطيور كالبازات، هذه إذا أنت علمتها وأصبحت تطيعك وتصيد لك فباسم الله استعملها، أرسلها وقل: باسم الله عند إرسالها، سواء كانت كلباً من كلاب الصيد، أو كانت سبعاً من السباع، أو كانت طيراً من الطيور.(وَمَا عَلَّمْتُمْ )[المائدة:4] على شرط أن تعلم هذا الحيوان، وعلامة أنه تعلم أنك إذا أرسلته ينطلق، وإذا دعوته يرجع إليك، أما إذا قلت له: ائتني بكذا وما تحرك، أو يمشي ثم يرجع، فمعناه أنه ما تعلم، هذا لو صاد لا يحل أكل صيده إلا إذا وجدته حياً وذكيته.
أما الذي علمته فتعلم وأصبحت إذا أرسلته ينطلق، وإذا دعوته رجع فهذا قل: باسم الله عند إرساله فقط، فإذا هو صاد غزالاً أو ظبياً أو حيواناً وأكل منه فلا يحل لك؛ لأنه ما صاد لك، صاد لنفسه، والله يقول: ( مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4] لا عليهن، فإن فرضنا أنه جرح هذه الغزالة، وأدركتها حية مستوفية الحياة كما تقدم فذكها وكل، أما إذا أدركتها قد ماتت وقد أكل منها فهي جيفة منتنة لا تحل لك: ( مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4].
فحيوانات الصيد أبرزها الكلاب المعدة لذلك، يقال فيه: الكلب السلوقي، نوع خاص، هذا الكلب السلوقي إذا علمته يوماً بعد يوم أصبح طوع يدك، إذا قلت له: اذهب ذهب، إذا قلت له: ائت أتى، إذا قلت له: قف وقف! وهذا كله ممكن وواقع.
هذا الذي علمته وأصبح مكلباً معلماً إذا أرسلته على حيوان تريد صيده ينبغي أن تقول: باسم الله اذهب، لا بد من ذكر اسم الله، فإذا كان معلماً وسميت الله عز وجل ولم يأكل من ذاك الحيوان حل لك أكله، فإن أكل منه فقد صاده لنفسه لا لك، فإن فرضنا أنه وجدت الحياة مستقرة فيه وذكيته فلك ذلك، فإن وجدته قد مات فلا يحل أكله.
أما إذا كان معلماً وسميت الله تعالى وأرسلته فانطلق وأخذ الحيوان وقتله، ولكن ما أكل منه، فهذا إن وجدته ميتاً فهو حلال لك، وذلك لحديث الصحيحين، ففي البخاري ومسلم : ( إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله عليه ) عند الإرسال ( فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة ).
يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم معلماً كما في البخاري ومسلم: ( إذا أرسلت كلبك المعلم ) بهذا الشرط، ثانياً: ( فاذكر اسم الله عليه عند إرساله، فإن أمسك عليك ) لأنه إذا أمسك علي صاحبه فإنه يقف عند الصيد، أو يمسكه ويبقى ينتظرك، أو يحمله ويأتي به إليك، لكن إذا أمسك على نفسه هو فسوف يأخذ في أكله، ( فإن أمسك عليك فأدركته حياً ) فلا تنتظر حتى يموت، تقول: آكله، لا يجوز؛ لأنك أدركته حياً فذكه، لكن لو أدركته ميتاً وبالشروط الثلاثة فهو حلال.
قال: ( فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله )، أما إذا أكل فمعناه: أنه ما صاده لك، ما هو بمعلم، ( فإن أخذ الكلب ذكاة )، قتل الكلب له ذكاته.
المعنى الإجمالي لقوله تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم ...)
يقول تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ )[المائدة:4] أي: أجبهم يا رسولنا. ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:4] الفواكه، الخضار، اللحوم، كل الطيبات، لكن كل واذكر اسم الله واحمده في النهاية، كل أكل لا بد أن تستفتحه باسم الله، وأن تختمه بحمد الله.(وَمَا عَلَّمْتُمْ )[المائدة:4] أي: وأحل لكم ما أحل لكم ( مِنَ الْجَوَارِحِ )[المائدة:4]، الجوارح: جمع جارحة وهي التي تجرح، أي: تكتسب، الكلاب السلاقية والبازات والفهود وبعض الحيوانات التي يصيدون بها، مرنوها وروضوها وأصبحت تستجيب لهم.
(مُكَلِّبِينَ )[المائدة:4]حال كونكم مكلبين، أي: معلمين، ( تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:4] ما الذي علمنا الله؟ علمنا كيف نعلم الحيوانات، ( فَكُلُوا )[المائدة:4] إباحة وإذن، ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4] أما الذي أمسكنه عليهن فلا يحل لكم، وكيف نعرف أنها أمسكت لها؟ إذا وجدتها تأكل من الصيد فقد صادت لنفسها، ما هي بمعلمة، أما إذا ضربتها ووقفت عندها ولو ماتت فهي حلال بإذن الله عز وجل وإذن رسوله صلى الله عليه وسلم.
(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4] متى؟ عند إرسال الكلب، أو إرسال الرصاصة، أو إرسال الآلة التي تصيد بها، فإن أدركت ذلك الحيوان حياً فاذبحه، لا تقل: أنا صدت وضربه الكلب وتتركه يموت، لا بد من تذكيته لأنه حي، لكن إن أدركته قد مات فكله.
وقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:4] أي: فيما أحل لكم وحرم عليكم، في هذه التعاليم الدقيقة راقبوا الله، وائتوا بها على الوجه المطلوب، فلا يحل لك أن تأكل حيواناً إلا إذا توافرت شروط الإذن من الله عز وجل.
أما الأربعة الأولى: الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله وذكر عليه اسم غير اسم الله؛ فهذه لا خلاف فيها، فهي بالإجماع محرمة، يبقى الصيد له أهله ورجاله، فالذي تعلم وتدرب وأصبح يعرف كيف يرسل البازي أو العقاب أو الفهد من الطيور، وكيف يأتي له بالأرنب أو بالطير، إذا علمه وعرف أنه متعلم فحينئذ يقول: باسم الله ويرسله، فإن وجده أكل مما صاده فلا يحل أكله، فإن أدركه حياً كامل الحياة ذبحه وأكله، فإن أدركه ميتاً والكلب ما أكل منه أكله وإن وجدته ميتاً.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى، وهي قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4].
التحليل العام للطيبات وطعام أهل الكتاب
في الآية الثانية يقول تعالى: ( الْيَوْمَ )[المائدة:5] من أواخر أيام الحياة النبوية، وذلك في عرفة، ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:5] عموماً ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5]، والذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى فقط، وإن نحن أضفنا إليهم المجوس فمن أهل العلم من يقول: المجوس كان لهم كتاب، لكن الذي عليه أكثر أهل العلم أنهم اليهود والنصارى فحسب.(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:5] فاحمدوا الله، وكذلك ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5]، يجوز أن يستدعيك يهودي أو نصراني على غداء أو عشاء فتأكل، لكن إن قدم لك لحم خنزير فقل: أنا مسلم لا آكل، أو قدم لك خمراً فقل: لا، أعطني لبناً أو عصيراً، وكل ذلك الطعام، أو دعاك نصراني مسيحي فكذلك، جاءك نصراني مسيحي فقال: الغداء عندكم اليوم؛ فكذلك تطعمه، وقدم له اللحم المشوي، ولكن إن قال: نريد خمراً فقل: لا، نحن مسلمون لا نشرب الخمر، قال: أرأيت لو طبخت لنا شيئاً من لحم الخنزير، فقل: هذا فيه مرض، وهو خبيث وحرام.
ودل على جواز أكل طعامه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل في بيت اليهودي الذي استدعاه لضيافة.
(وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5]، هذا بشرط: أن يكون اللحم الذي طبخه مذكى، اليهود إلى اليوم يذكون كما يذكي المسلمون، لكن النصارى غلبت عليهم البلشفة الشيوعية والكفر فما أصبحوا يذكون، فإذا علمت أن هذا اللحم شاته ما ذبحت أو بقرته ما ذبحت أو بعيره ما ذبح فلا يجوز أكله، لا تقل: أذن الله لي! أذن لك إذا كان مذكى ما هو بجيفة، فهل لو قدم لك اليهودي في الضيافة جيفة يجوز لك أكلها؟ لا يجوز.

يتبع

ابوالوليد المسلم
02-08-2021, 05:08 AM
إباحة نكاح المحصنات المؤمنات والمحصنات الكتابيات
(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ )[المائدة:5]، أي: مما أذن الله لكم وأباحه لكم وأحل لكم: المحصنات من المؤمنات. والمحصنة: المحفوظة المصونة، تلك التي ما عرفت بالزنا والعهر، محصنة محمية محفوظة بحفظ الله، ما قيل عنها: إنها زنت، وهي أيضاً مؤمنة تؤمن بالله ولقائه، وتقيم الصلاة وتعبد الله، فتزوجها، من أذن لنا في هذا؟ مالكها وسيدها، الله الذي أذن.وكذلك ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة:5] اليهود والنصارى، يجوز أن تتزوج مسيحية أو يهودية، ولا تقل: هي أفضل، إن وجدت المؤمنة فهي أفضل وخير، لكن أن لم تجد مؤمنة، أو وجدت هذه تنتفع بها، وترجو أن يهديها الله ويدخلها في رحمته فلا بأس، أو تكون في بلادها، فيجوز أن تتزوج الكتابية المحصنة الحرة، فإن كانت أمة مملوكة لواحد فلا يحل نكاحها وهي كافرة، وإن كانت حرة ولكنها غير محصنة غير عفيفة -أي: زانية- فلا يصح نكاحها.
قال تعالى: ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة:5]، والمحصنة: العفيفة الطاهرة، التي لم يسمع عنها زنا، ولم تعرف به أبداً، فإن كانت مشهورة بذلك معروفة فلا يحل نكاحها ولو كانت مسلمة -فضلاً أن تكون كتابية- حتى تتوب فيتوب الله عليها.
شروط إباحة المحصنات من المؤمنات والكتابيات
ثم قال تعالى: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ )[المائدة:5]، يقول تعالى: هذه الإباحة إذا أنت آتيتها مهرها، لا تتزوج مسلمة ولا كتابية بدون مهر، المهر لا بد منه، فأركان النكاح أربعة: المهر ويسمى بالصداق، ثانياً: ولي المرأة أبوها أو أخوها، والقاضي ينوب عنه، أو شيخ القبيلة إذا لم يكن هناك قاض، لا بد من ولي، ثالثاً: شاهدان عدلان، رابعاً: الصيغة، أن تقول: زوجني وليتك فلانة فيقول: زوجتك على كتاب الله، فتقول: قبلتها ورضيتها زوجة، هذه الصيغة ركن من أركان النكاح.قال تعالى: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ )[المائدة:5] غير زناة، لا أن تعطيها مليوناً وتقول: قال الله تعالى: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )[المائدة:5]، فخذي الأجر! بل لا بد من القيد الأول: حال كونكم محصنين أعفاء غير زناة.
فالله تعالى يقول: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ )[المائدة:5] أي: النساء العفيفات أو المحصنات من المؤمنات وأهل الكتاب، إذا آتيتموهن أجورهن حال كونكم محصنين غير زناة، لا أن تأتي إلى امرأة وتزني بها، وتقول: أنا أعطيت أجرها! فأنت لست بمحصن في هذه الحال، أنت زان وعاهر، لا بد أن تكون حال كونك محصناً عفيفاً طاهراً.
(مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ )[المائدة:5] والسفاح الزنا، فالذي يأتي دور بغاء في العالم ويزني ويعطيها المال فهل يكفي هذا المال في الحل؟ لو أعطاها ملياراً لا يحل له نكاحها؛ لأنه زان، فالقيد الأول: ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ )[المائدة:5].
(وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ )[المائدة:5] ثانياً، والمتخذ الأخدان: رجل يظهر أنه عفيف ما يعرف بالفاحشة، ويتخذ له خليلة من الصغار أو الكبار، ويلازمها ويأتيها في الخفاء على أنها صديقته، فهذه حرام ولا فرق، ما هناك فرق بين الزنا العلني وبين السري، لا تقل: هذه تحبني وأحبها منذ كذا وكذا!
(وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ )[المائدة:5]، وفي النساء: ( وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ )[النساء:25] أي: هن كذلك. هذا الذي أراد الله عز وجل.
أثر الكفر والردة على العمل الصالح قبلهما
ثم قال تعالى: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ )[المائدة:5] بالإسلام ( فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ )[المائدة:5]، لو عبد الله سبعين سنة لا يثاب على ركعة ولا على صيام ساعة، كل ذلك العمل هبط واحترق، فإن مات على غير توبة فإلى دار الخلد في جهنم، وإن تاب يستأنف الحياة من جديد، يحج من جديد ويصوم ويكتب له ما كتب الله، أما ما مضى فقد انتهى بالردة والكفر: ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ )[الزمر:65]، وهذه الآية: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ )[المائدة:5] والمراد من الإيمان: الإسلام ( فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ )[المائدة:5]، فما هي المناسبة؟ إن الذي يستبيح الزنا والعهر معناه: أنه كفر بالإيمان، الذي يستبيح ما حرم الله مرتد وكافر بالإجماع! بخلاف ما إذا كان يعرف أنه حرام ويفعله، فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، أما أن يقول: أيش فيه؟ ولا يبالي فهو مرتد كافر، ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[المائدة:5] الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم، وهذا هو الخسران المبين.
الأسئلة
حكم سؤال الكتابي عن أصل اللحم حال الشك فيه
السؤال: هل يجوز أن أسأل الكتابي إذا شككت أن اللحم الذي قدمه لي لحم خنزير؟ الجواب: اسأله، وإذا غلب على ظنك أنه لحم غنم أو بقر فلا تسأله، وإذا شككت فـ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )، والغالب أنه يقول من أول مرة: هذا اللحم حلال ما هو بخنزير أو كذا.
حكم الأكل مع أهل الكتاب على مائدة يشربون عليها الخمر
السؤال: هل يجوز الأكل مع أهل الكتاب على سفرتهم وهم يشربون الخمر؟ الجواب: إذا لم يخف من أنهم يقتلونه أو يضربونه إذا سكروا له فأن يأكل معهم، وإذا خاف أن يضرب على رأسه على رأسه فليترك.
ولو كنت مع مسلمين يضعون الخمر على المائدة فلا يحل لك أن تجالسهم ولا أن تأكل معهم، بل غَيِّر المنكر، لكن هذا يهودي أو نصراني يستبيح الخمر، فليشرب، وأنت لا تشرب، تقول: أنا مؤمن، لكن إذا خفت أنه إذا سكر يؤذيك فاجتنبه، أو تجالسه في الطعام على شرط ألا يقدم خمراً في المائدة.
كيفية التذكية
السؤال: ما هي كيفية التذكية؟الجواب: لا بد من قطع الأوداج والحلقوم، ولو ذبحها من قفاها فلا يصح أبداً.
الفرق بن المخلَصين والمخلصِين
السؤال: ما الفرق بين المخلِصِين والمخلَصِين؟ الجواب: ورد هذا في القرآن بلفظ: المخلَصِين، وبلفظ: المخلِصِين، والمخلِصِين باسم الفاعل أنا وأنت إن شاء الله والسامعون، كل من يعمل عملاً لوجه الله فقط لا رياء ولا سمعة ولا شهرة، أخلص فيه فهو مخلِص.
وأما المخلَصِين فهم الذين استخلصهم الله واصطفاهم، وأغلب ما يطلق لفظ المخلَصِين على الأنبياء والرسل الذين عصمهم الله واصطفاهم لعبادته، وغيرهم يقال فيه: مخلِص، بدليل أنه يخلص عمله لله، فهو من المخلِصِين، وإذا قلت: أنا أريد أن أرقى إلى مستوى أن أكون من المخلَصِين فالسلم موجود، أسلم لله وجهك وقلبك وأعرض عن كل أسباب الحياة يستخلصك الله له، ما يقوى عليك الشيطان.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...)
والآن هيا نتلو هذه الآية الكريمة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )[المائدة:6]. يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:6] لبيك اللهم لبيك. هل نادانا نحن؟! إي والله! فنحن مؤمنون أم لا؟ إذاً: لبيك اللهم لبيك! مر نفعل، انه نترك، هذا استعداد المؤمنين لحياتهم الكاملة.
أي: يا من آمنتم بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، أيها الأحياء! يأمركم ربكم فيقول: ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ )[المائدة:6] أي: إذا أردتم أن تدخلوا في الصلاة، فماذا تفعلون؟ قال: توضئوا. وبين لنا كيف الوضوء؟
صفة الوضوء
ومعلوم أن الوضوء -وهو الطهارة- شرط في صحة الصلاة، فريضة كانت أو نافلة، فلا تصح صلاة بدون طهور أبداً، فذكر أركان الوضوء: وهي غسل الوجه وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين، أربعة، والنية لا بد منها، ما أنت تلعب أو تعبث، ثم الترتيب هذا كما رتبه هو تعالى. تبقى السنن: غسل اليدين ابتداء ثلاث مرات قبل إدخالهما في الإناء إن قمت من نومك، والمضمضة ثلاثاً، والاستنشاق والاستنثار ثلاثاً، هذه سنن بينها الحبيب صلى الله عليه وسلم، لا بد منها، ومسح الأذنين داخل في مسح الرأس.
إذاً: ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ )[المائدة:6] بعد أن تغسل كفيك، وتتمضمض، وتستنشق الماء بأنفك وتنثره تطهيراً له وتطييباً، بعد ذلك تغسل وجهك، وحد الوجه: من منبت الشعر إلى منتهى الذقن طولاً، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضاً، فإن كانت اللحية خفيفة فاغسلها مع البشرة، وإن كانت كثيفة فيكفي أن تمسح فوقها، وتخليلها مستحب، وغسل اليدين مع شيء من العضدين أحسن، لكن لا توصل الماء إلى كتفك، فقط اغسل المرفق وأدخله في هذا؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء ).
ثم امسح رأسك مرة واحدة، اذهب بيديك من الأمام إلى الوراء، ثم عد بهما هكذا لكامل الرأس، ابدأ بمقدمه وقد بللت يديك بالماء، لا تغترف الماء، بلهما فقط بالماء وامسح رأسك، وامسح أذنيك ظاهراً وباطناً، فإذا بقي بلل ماء في كفيك كفى، وإذا جف الكفان فلا بد أن تبل يديك وتمسح أذنيك، ثم اغسل رجليك، ابدأ بالرجل اليمنى؛ لأن الله يحب التيامن في كل شيء، وفي غسل اليدين أيضاً تبدأ باليد اليمنى، فتغسل الرجل اليمنى إلى الكعبين، والكعب هو هذا العظم الناتئ عند ملتقى الساق بالقدم، والكعب تغسله أيضاً احتياطاً، والأفضل أن تخلل أصابع رجليك، وتخليل أصابع اليدين ضروري لا بد منه. هذا هو الوضوء، سواء لفريضة أو لنافلة، أو للطواف أو لمس المصحف، لا بد من هذه النية.
ثواب الوضوء
أقول: هناك جائزة هي الجائزة العظمى، وهي إذا فرغت من الوضوء على هذه الطريقة ترفع رأسك إلى السماء وإن كنت تحت سقف وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. فإن الجائزة أن تفتح لك أبواب الجنة الثمانية، فلو كنت عندها دخلتها! وإذا ما وصلت إليها انفتحت وتغلق، كالأبواب التي تفتح بالكهرباء، إذا قربت من الباب ينفتح، فإذا ما دخلت يرجع ويغلق! فالحمد لله حيث كشف عن عجائب، وإلا قلنا: كيف تفتح له أبواب الجنة الثمانية؟ فالآن عرفنا، بمجرد أن العبد المؤمن الموحد يرفع رأسه ويشهد هذه الشهادة وهو لا يخالفها بقلبه ولا بسلوكه، فإن أبواب الجنة تفتح، فإن كان عند الباب دخل، وإن لم يكن فإنه يفتح ويغلق، وما يزال كذلك حتى يموت فيغلق الباب. ولا يشترط الوضوء لقراءة القرآن، الوضوء يشترط لمس المصحف الكامل، أما أن يقرأ القرآن عن ظهر قلب، أو يقرأ في جزء من أجزاء المصحف فما قال أحد بالوضوء، وإذا أراد أن يتوضأ فليتوضأ حتى لذكر الله، إنما أمرنا الله عز وجل إذا قمنا لأداء الصلاة أن نتوضأ، والطواف بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا بد له من الوضوء، ومس المصحف يقول الله تعالى فيه: ( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )[الواقعة:79] وهكذا.
معنى قوله تعالى: (وإن كنتم جنباً فاطهروا)
يقول تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6]، وإن كنتم معاشر المؤمنين والمؤمنات جنباً، والواحد جنب، والجماعة جنب، كواحد عدل وجماعة عدل. والجنب هو الذي تلبس بجنابة، وهي إيلاج رأس ذكره في فرج امرأته، ولو لم ينزل ولم يخرج منه ماء: ( إذا التقى الختانان وجب الغسل ) تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: إذا خرج منه المني في يقظة أو منام، من أفرز تلك المادة البيضاء الثخينة في منامه أو بلذة في يقظته فهو جنب، يجب أن يغتسل، وإن كان نائماً في المسجد واحتلم يجب أن يخرج فيغتسل ويرجع، هذا هو الجنب، إذا أولج رأس ذكره في فرج امرأته وإن لم يمن فقد وجب الغسل؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى الختانان ) أي: موضع الختانين ( فقد وجب الغسل ).
ثانياً: أن يفرز مادة المني بلذة، سواء بتفكر أو بلمس أو بكذا أو في منامه، رأى نفسه يجامع امرأة، إذا أفرز منياً وجب الغسل بلا تردد، هذا معنى الجنب: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا )[المائدة:6] ماذا عليكم؟ ( فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6] أي: فتطهروا، فأدغمت التاء: فاطهروا، أي: اغتسلوا.
صفة الغسل
وكيف نغتسل؟
الغسل الصحيح الذي ما نعدل عنه هو الذي علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيفيته -أيها الجنب- أن تغسل كفيك ثلاث مرات وأنت ناو رفع الجنابة، ثم تستنجي فتغسل فرجيك وما حولهما غسلاً حقيقياً، ثم تتوضأ وضوءك للصلاة، فإذا فرغت من الوضوء فاغمس يديك في الماء وخلل أصول شعرك ليستأنس بالماء ولا تصاب بالزكام، هذه حكمة من حكم محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا خللت شعرك فخذ غرفة بكفيك وضعها على يمين رأسك واغسل رأسك كله، زد الثانية بكفيك وضعها على الجهة اليسرى واغسل كامل الرأس، ثم ثالثة تضعها على الوسط واغسل رأسك مع أذنيك ظاهراً وباطناً ثلاث مرات، فإذا غسلت رأسك مع أذنيك فحينئذ اغسل شقك الأيمن من رقبتك إلى كعبك، هذه هي الجهة الأولى، والجهة الثانية اليسرى بعدها من عنقك إلى كعبك، وتعهد المغابن: تحت الإبط، فإذا ما تعهدته لا يبتل، وتحت الركبة، فإذا لم تمد رجلك لا يبتل ما تحت الركبة، وكذلك السرة إذا كان فيها تجاعيد، فإذا لم تتبع لم تبتل، لأنك مأمور أن تغسل كل جسمك، ولا تبقى لمعة، والظهر تدلكه بيديك، وإذا أتممت تصب بالماء حتى تطمئن إلى أن الماء قد عم جسمك، هذا هو الغسل الذي أراد الله تعالى.
(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا )[المائدة:6] فماذا تفعلون؟ ( فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6] رجالاً ونساء، المرأة إذا كان عندها ضفائر الشعر فما تحل ضفائرها، تجمعها فقط وتصب الماء وتخللها رحمة بها، إذ قد يشق عليها النقض والبرم مرة ثانية، هذا هو الغسل من الجنابة، وغسل الجمعة هكذا، وغسل الإحرام هكذا، وغسل دخول مكة هكذا، وغسل العيد هكذا، إلا أن النية تختلف، غسل الجمعة سنة، غسل الإحرام كذلك، لكن غسل الجنابة واجب.

ومن أراد أن يغتسل بالصابون والليف فإنه أولاً يغتسل الغسل الواجب، وبعده يغسل بالصابون، هذا أحوط له، وإذا خاف من الماء أن ينفد فإنه يغسل بالصابون، وبعد ذلك يغسل بالماء.

وغسل الميت هكذا إن أمكن، ويجوز أن تغسل جسمك كاملاً وبعد ذلك تتوضأ، فذلك يجزئك، لكن الطريقة الأولى هي السنة النبوية.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
02-08-2021, 05:10 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (7)
الحلقة (365)
تفسير سورة المائدة (60)

بعد أن بين الله لعباده كيفية التطهر للصلاة وذلك بالوضوء، ذكر بعد ذلك نواقض هذا الوضوء من جنابة أو غائط أو إتيان للنساء، وذكر كيفية التطهر لهذه النواقض، وهي الوضوء لمن أتى الغائط، والغسل لمن كان على جنابة أو أتى امرأته، ومن كان واجباً في حقه الغسل ولم يجد ماء، أو وجده ولم يستطع استعماله فله أن يتيمم عوضاً عن ذلك، ويدخل في هذا من أراد الوضوء ولم يجد الماء.
تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة ومع هاتين الآيتين الكريمتين، وقد تدارسنا الأولى منهما الليلة الماضية، ونحن مع الآية الثانية، ولكن نريد الدراسة للكل بعد تلاوة الآيتين:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[المائدة:6-7].
أسباب الجنابة
عرفنا كيف نتوضأ، وكيف نغتسل استجابة منا لأمر ربنا تعالى في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )[المائدة:6] هذا هو الوضوء، ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6]، وعرفنا أبناءنا كيف يتطهرون، ولا بأس أن نعيد بيان ذلك.فقوله: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا )[المائدة:6] من هو الجنب؟ من هي الجنب؟ من هم الجنب؟ من هن الجنب؟ كلمة (جنب) تطلق على الواحد والاثنين والثلاثة، وعلى الذكر والأنثى، والجنب: من قامت به الجنابة، وسببها: إما التقاء الختانين، أي: موضع ختان الذكر وختان الأنثى، بمعنى: إذا أولج الرجل ذكره في فرج امرأته ولو لم ينزل ولم يمن فقد وجب الغسل.

والأمر الثاني: هو أن يفرز المني في نوم أو بلذة في يقظة، نظر إلى امرأته أو مسها فانتعش ذكره وانتصب فأمنى فقد وجب الغسل، نام فرأى نفسه أنه يأتي امرأته أو غير ذلك فتدفق ماؤه فوجب الغسل، فالجنابة بشيئين:
بالتقاء الختانين، أو بإفراز المني، والمني: ماء أبيض ثخين دافق شبيه بلقاح ذكر النخل، هذا هو الجنب، الذي يولج رأس ذكره في فرج امرأته وإن كان ذكره غير منتصب ولا لذة له، فضلاً عن أن يمني، بمجرد أن يحصل دخول رأس الذكر في الفرج يجب الغسل، وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ) الختانان: تثنية ختان، وهل المرأة تختتن؟ نعم، ختان المرأة مكرمة لها، لكن ليس بسنة واجبة كختان الذكور، ويقال فيه: الخفاض.
صفة الغسل من الجنابة
إذاً: وإن كنتم جنباً فماذا تفعلون؟ نتطهر، كيف نتطهر؟ نغتسل غسل الجنابة، وهو كما علمتم: يأتي أحدنا إلى الماء فيغسل كفيه ثلاث مرات ناوياً رفع الحدث الأكبر، أو ناوياً امتثال أمر الله، حيث أمر بالاغتسال فهو يغتسل، أو ينوي رفع هذا الحدث عن نفسه أو الجنابة، لا بد أن يحدث نفسه بهذا، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة كأنه بين الناس، فإذا فرغ من وضوئه حينئذ من باب الطب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه وعلمهم أن يغمس يديه في الماء أو يصب الماء على كفيه، ثم يخلل أصول شعر رأسه بالماء خشية أن يصاب بالزكام؛ حتى تستأنس البشرة، وتقبل الماء هكذا، بعد ذلك يغرف غرفة بكفيه معاً، ويضع الماء على يمين رأسه ويغسل رأسه كله وأذنيه، ثم يأخذ الثانية على الشق الأيسر ويغسل بها عامة رأسه وأذنيه، ويأخذ الثالثة فيضعها على وسط رأسه، ويغسل بها كل رأسه وأذنيه، والأذنان يغسلهما ظاهراً وباطناً، وإذا ما اكتفى بالماء ذاك يزيد ماء، خاصة لأذنيه، لا بد أن يغسلهما من ظاهرهما وباطنهما.ثم يفرغ الماء على شقه الأيمن من رقبته إلى قدمه، فإذا فرغ من الشق الأيمن يأتي إلى الشق الأيسر ظاهراً وباطناً، من الظهر إلى البطن إلى كعبه، ويتعهد المغابن، كتحت الإبطين، والرسغين والسرة وأي مكان يخفى ما يدخله الماء يتعهده ليطمئن، وأما اللحية فإنه يخللها كما يخلل شعر رأسه، لا بد من هذا، وإنما عفي عن المؤمنة إذا كان شعرها مفتولاً بخيوط أحياناً أو مضفوراً، فليس عليها أن تحله، تجمع شعرها على رأسها وتصب الماء وتغسله إن شاءت، هذا هو الغسل.
وإذا كنت تغتسل وفسوت أو ضرطت فماذا تصنع؟ أكمل غسلك، وحين تفرغ منه توضأ بعدما تلبس ثيابك أو قبل ذلك.
وإذا كنت تغتسل فمسست بباطن كفك ذكرك فحينئذ انتقض وضوؤك، إذا فرغت من غسلك توضأ، كالذي فسا أو ضرط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ )، أما إذا مسست فرجك بظاهر الكف فليس عليك وضوء، أو مسست وأنت عليك الثياب فلا ينتقض الوضوء؛ لأن الغريزة الجنسية في الكف واللمس، أما ظاهر الكف فما يضر.
وقد بينا وقلنا: هناك صورة ثانية للغسل، هي أن ينوي الغسل ويغتسل بكامله ثم يتوضأ، أما أن تقول: يغسل جسده ولا يتوضأ فلا، لا بد من الوضوء، إنما الصورة الأولى بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدث بها نساؤه، والصورة الثانية عامة، يدخل فيغتسل بالنية، وبعد ذلك يتوضأ.
مشروعية التيمم للمريض والمسافر

ثم قال تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ )[المائدة:6]، والمريض ذاك الذي ما يقوى على أن يقوم ويغتسل، ذاك الذي فيه جراحات يخشى من مرض وتعب إذا ابتلت، ذاك الذي ما يقدر على أن يستعمل الماء، والمرض قد قام به فلا يستطيع أن يغتسل أو يتوضأ، ( أَوْ عَلَى سَفَرٍ )[المائدة:6] في الغالب أن المسافر يفقد الماء، أيام كنا نسافر على الإبل والبغال والحمير في المغرب والحجاز كان الماء في الغالب يفقده المسافر؛ فلهذا أذن الله عز وجل للمسافر أن يتيمم، لكن بينت السنة أنه إذا لم يجد ماء، أو وجد ماء ولكن لا يكفيه لشربه، والغالب في السفر في الزمان الأول أن المسافر يحتاج إلى الماء ويفقده، عنده قليل ماء يتوضأ به فيموت من العطش، فإن توافر الماء فيجب أن يتوضأ ويغتسل.(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ )[المائدة:6] والسفر معروف، وهو الذي تقصر به الصلاة، ثمانية وأربعون كيلو متر فما فوق إلى آلاف.
معنى قوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط)

(أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ )[المائدة:6] الغائط ما هو؟ أصله المكان المنخفض، وعادة الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته أن يأتي إلى مكان منخفض ليستتر عن أعين الناس، ما يأتي على جبل يكشف عورته، لا بد أن يأتي إلى مكان منخفض يقال له: الغوط والغائط، فهذا المكان إذا جاء أحدنا منه، يعني: خرئ أو بال، لكن كلام الله أعلى، فما قال: الخرء كما نقول، ولا البول، نحن نقول ذلك للتفسير فقط، وإلا فما نقول هذا.لقد كان نساء المؤمنين يتغوطن في الأربع والعشرين ساعة مرة واحدة فقط، ويخرجن إلى مكان منخفض وراء البقيع، ما عندهم مراحيض ولا مياه، وأنتم اليوم كيف حالكم؟ فمن منكم إذا توضأ ذكر هذا وقال: الحمد لله، أو إذا دخل مرحاضاً بالرخام والبلاط والكراسي يخرج فيقول: الحمد لله؟
إذاً: فمن بال أو تغوط وجب عليه الوضوء، والذي يفسو أو يضرط يجب عليه الوضوء، والفساء ريح منتن بلا صوت، والضراط: ريح منتن بصوت.
وعندي لطيفة نفعني الله بها: وهي أن الذي عنده مرض في القولون والمعدة قد يشعر أن فساء خرج منه، والشيطان هذه مهمته، ينفخ في دبرك ليفسد عليك عبادتك، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: إذا لم تشم ريحاً ولم تسمع صوتاً فلا تخرج من صلاتك. فإن الشيطان ينفخ في مقعدك ليفتنك، إذا لم تجد ريحاً كريهة، إذا لم تسمع صوتاً ولم تشم رائحة، وإنما تشعر بحركة في دبرك فتلك نفخة العدو ليفتننا، فلا تخرج من صلاتك، والذي عافاه الله فما عنده مرض فهنيئاً له.

ما ينقض الوضوء من مس النساء

قال تعالى: ( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ )[المائدة:6] رجل أو امرأة ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )[المائدة:6] والملامسة مفاعلة، والغالب أن تكون بين اثنين، وتطلق ويراد بها فعال الواحد، وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنه إذا أراد أن يفسر هذه الآية وسألوه يدخل أصبعيه في أذنيه حتى ما يسمع ويقول: إننا نستحي أن نقولها. يقول تعالى: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )[المائدة:6] بمعنى: جامعتموهن، نكحتموهن، ما هو اللمس باليد، لم يدخل ابن عباس أصبعيه في أذنيه؟ حتى لا يذكر هذا، والملامسة تكون بين اثنين، هذا هو الجماع، ويبقى مس المرأة بيده، فإذا قصد أن يتلذذ بمسها ولمسها بهذه النية فقد انتقض وضوؤه.

ثانياً: إذا لم يقصد أن يتلذذ بامرأته إذا مسها، ولكن لما وضع يده انتعش باطنه ووجد لذة فقد انتقض وضوؤه، فإن لم يقصد ولم يجد لذة فلا ينتقض وضوؤه، أما إذا قصد أن يتلذذ فقد انتقض وضوؤه ولو لم يجد لذة، فإن لم يقصد ولم يجد اللذة لم ينتقض وضوؤه ولو تمرغ عليها.
أم المؤمنين الصديقة عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلني )، وقالت وهي الحكيمة: ( وكان أملككم لأربه )، ما هو مثلكم أنتم، لا تملكون أنفسكم ولا حاجاتكم، أما هو فمصدر الكمال، يقبلها رحمة لها ورفقاً بها، ولكن لا يقصد أبداً لذة ولا يريدها.
المهم القاعدة الأولى التي وضعها أهل العلم: إن قصد اللذة باللمس أو التقبيل ولو لم يجد اللذة انتقض وضوؤه، وإذا ما قصد ولكن لما لمسها وقبل وجد اللذة انتقض وضوؤه، وإذا ما قصد ولا وجد اللذة فلا انتقاض، قبلها أو لامس أو مس.
إذاً: إذا كان مس الكف ينقض الوضوء فكيف بالذي يقصد اللذة من امرأته ويمسها، فقوله تعالى: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )[المائدة:6] إن شئتم قولوا كما قال الحبر: أو جامعتم، وهو الأصل، ويبقى المس بشهوة ثابتاً بالسنة النبوية.
مشروعية التيمم لمن فقد الماء أو عجز عن استعماله

يقول تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6] أي: ولم تجدوا ماء، ما الماء؟ هذا السائل العذب، سواء كان ملحاً أو كان عذباً، أو ماء البحر فتوضأ منه واغتسل، ولهذا يقول المشرع صلى الله عليه وسلم عن البحر: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته).إذاً: فإن لم تجد ماء طهوراً، وإذا وجدت ماء وهو نجس فلا، أو ماء تغير لونه أو ريحه بطعام أو بكذا فلا تتوضأ منه، لا يرفع الحدث إلا الماء الذي على أصل خلقته، كماء نبع من الأرض أو نزل من السماء، أما الماء إذا كان عذباً فأصبح صالحاً بأن صببت فيه مادة أخرى فلا يجوز التطهر به.
فالماء الطهور: هو الباقي على أصل خلقته، فإن صببت فيه ريح مسك وأصبح ذا رائحة فما يصح التطهر به، أو صببت فيه عسلاً وتغير لونه بالعسل فما يصح، الماء الطهور هو الباقي على أصل خلقته التي خلقه الله عليها، ملحاً كان أو عذباً.
(فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6] فماذا تصنعون؟ قال: ( فَتَيَمَّمُوا )[المائدة:6] اقصدوا ( صَعِيدًا طَيِّبًا )[المائدة:6]، الصعيد كالصاعد: ما علا وارتفع، فوجه الأرض كله صعيد، وجه الأرض صاعد فوقها؛ فلهذا إذا أصبحت محتاجاً إلى التيمم مضطراً إليه فاقصد الأرض سواء كانت تراباً أو رملاً أو سبخة أو حجارة، كل ما صعد على الأرض تيمم به، إلا أن التراب أفضل؛ لأن فيه الاعتراف بذلك وهوانك، يمسح المتيمم وجهه بالتراب لوجه الله، أما الحجر الأصم فما فيها شيء، ما يصيبه منه هون ولا دون، لكن التراب أولى، فإن لم يوجد فكل أجزاء الأرض يتيمم بها: ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا )[المائدة:6] هذا الطيب بمعنى: الطاهر، أما إذا كان فيه بول غنم أو حمار فما يجوز التيمم به، وبول الغنم وروثه طاهر ولكن لا تتيمم عليه؛ ما يأذن الله لك أن توسخ وجهك ويديك، لا بد أن يكون طاهراً.

يتبع

ابوالوليد المسلم
02-08-2021, 05:10 AM
صفة التيمم

(فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا )[المائدة:6]، ماذا تفعلون؟ ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ )[النساء:43] آية النساء، وهنا: ( وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6]، كيف أمسح التراب بوجهي؟ الأصل أن أمسح وجهي بالتراب، وليس أن تأخذ وجهك وتمسح به، إذاً: نقول: لا تفهم أنك تأخذ وجهك وتمسح به التراب، ما هو بمعقول هذا، بل المعنى: امسح وجهك بالتراب.وللتيمم كيفيتان سهلتان ميسرتان:
إحداهما: أن تمسح وجهك وكفيك، والثانية: أن تمسح وجهك ويديك إلى المرفقين؛ لقوله تعالى: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ )[المائدة:6].

فالصورة الثانية في الموطأ عن ابن عمر وهي أكمل، وهي أن تقول: باسم الله، فتضرب بكفيك على الأرض، وتمسح وجهك مسحة واحدة، ثم اضرب بيديك على الأرض وامسح إلى المرفق، تمسح وجهك وكفيك مع ذراعيك، هكذا كان ابن عمر يفعل، ويقول: لأن الله قال: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ )[المائدة:6] واليد يدخل فيها المرفق أم لا؟ لكن الله في الوضوء قال: ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ )[المائدة:6]، بين الحد، وفي التيمم ما بين: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ )[المائدة:6]، والصورة الأولى الطيبة الهينة وإن كانت قد تقل عن الأجر؛ لأن عمار بن ياسر كان قد أجنب باحتلام في سرية من السرايا، فلما أجنب قام فتمرغ في التراب، نزع ثيابه وتمرغ، فلما جاء إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وقص القصة على نبيه صلى الله عليه وسلم قال له: ( إنما كان يكفيك أن تقول هكذا وهكذا ) والله إن ذلك ليكفي! ما السر؟ ما الحكمة؟ إن مس التراب هذا ما يزيل القذى ولا الوسخ، فما السر؟ أقول: لما كان التطهر فريضة الله لمن أراد أن يناجي الله، الوضوء والغسل مفروضان، فأيما مؤمن يريد أن يتصل بذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه ليبثه آلامه ويذكر له حاجته فلا بد أن يتطهر، وإلا فلا يقبل، فإذا عجز عن الماء أو عن استعماله فماذا يصنع؟ علمه الله عز وجل أن يعلن عن إذعانه واستسلامه وانقياده، كأنه يقول: لو كنت قادراً يا رب على الماء أو وجدته لاغتسلت أو توضأت، ولكن عجزت. إذاً: أظهر بيان أنك صادق في عجزك ونيتك، فامسح وجهك بالتراب ويديك؛ فلا يخطر ببالك أنك تتصل بالله، وتجلس بين يديه، وينصب وجهه لك وأنت على غير طهارة! لن يكون هذا، وبهذا يبقى المؤمن مع طهره دائماً لا ينسى.

قال تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6] إذ مع وجود الماء ما هناك إلا الوضوء والغسل، ( فَتَيَمَّمُوا )[المائدة:6] اقصدوا ( صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6] إن اكتفيت بوجهك مرة وكفيك؛ ولا تخلل أصابعك لأن العبرة بأن تمتثل أمر الله، حتى تألف الطهر فما تتركه أبداً، مرضت أو صححت.

(فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6] أي: نمسح الوجه والكفين، وهذا أرحم بنا؛ إذ كم من إنسان يلبس ثياباً في الشتاء في البلاد الباردة فيحتاج أن ينزع كل ثيابه إذا أراد أن يتيمم، وفي ذلك مشقة كبيرة ويعانون منها، فنأخذ بهذه الرحمة الإلهية وهذه الرخصة فنقول: يمسح كفيه بعد وجهه ويجزئه.
معنى قوله تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ...)

ثم ختم تعالى الآية بقوله: ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )[المائدة:6]، الحرج: الضيق، مأخوذ من الحرج وهو المكان الكثيف الشجر، مكان ضيق، ما يريد الله تعالى أن يضيّق علينا، وسع علينا، علامة التوسيع أننا إذا ما وجدنا الماء أو ما قدرنا على استعماله نضرب الأرض بالكف ونمسح الوجه والكفين ونصلي أو نناجي ربنا أو نطوف أو نقرأ القرآن.(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )[المائدة:6]، أي حرج، والدليل على هذا هو أنه أذن لك أيها الجنب الذي يجب عليك أن تغتسل إن لم تجد الماء أن تضرب الأرض بكفيك وتمسح وجهك وكفيك، أو مريض ما يستطيع أن يستعمل الماء ولو كان بين يديه، لجراحات ونحوها، فيضرب الأرض بكفيه ويمسح وجهه وكفيه.

(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ )[المائدة:6]، يريد أن يطهرنا؛ لأنه يحب التوابين ويحب المتطهرين، إذا طهرنا أحبنا، لو تركنا أنجاساً فوالله لن يحبنا، بل لكي يرفعنا إلى مستوى حبه ورضاه علمنا كيف نتطهر وأمرنا بذلك.

(لِيُطَهِّرَكُمْ )[المائدة:6]، أولاً، ( وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ )[المائدة:6] ثانياً، ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6] ليعدكم بذلك إلى الشكر، (لعل) هنا الإعدادية: ليعدكم لشكره، ليطهرنا وليتم نعمة الإسلام علينا، نعمة هذه العبادات التي هي أدوات تزكية وتطهير للنفس ولنصبح من الشاكرين لآلائه وإفضاله وإنعامه.

(وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ )[المائدة:6] أولاً، ( وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ )[المائدة:6]، وهي نعمة الطهارة نعمة الإسلام، نعمة الإيمان كما تقدم: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي )[المائدة:3].

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]، نشكر المنعم الله جل جلاله وعظم سلطانه، والشكر يكون أساساً: بإظهار النعمة، يقال: دابة شكور، كلما أكلت ظهر السمن فيها، وأخرى كفور: تأكل وتأكل وما يظهر عليها شيء، إذاً: الشكر: إظهار النعمة، وهو:

أولاً: بالاعتراف بالقلب بالنعمة لله، كانت أو طعاماً أو عافية، تعترف في قلبك بالنعمة وأنها لله.
ثانياً: أن تحمد الله تعالى عليها بكلمة: الحمد لله.
ثالثاً: أن تصرفها فيما يحب أن تصرف فيه، إذا كانت مالاً تنفقه حيث يريد الله أن تنفقه، إذا كانت صحة بدنية تنفقها حيث يريد الله أن تنفقها، في الجهاد والعبادة والعمل الصالح، وإذا كانت جاهًا وحمدت الله تعالى على هذه النعمة فأعن إخوانك المحتاجين إلى جاهك واقض حاجاتهم، وإذا كانت علماً فعلّمه وبينه للناس، فكونوا من الشاكرين.
(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]، قلت: إنها (لعل) الإعدادية، أي: ليعدكم بذلك إلى شكره، علّمنا كيف نعبده؛ من أجل أن نصبح شاكرين، ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]، هيأنا لأن نشكره، علمنا كيف نتوضأ ونغتسل وكيف نتيمم ونرفع الأحداث حتى نشكره بالطاعة، لنصبح شاكرين لله، والذي لا يتوضأ هل شكر الله؟ الذي ما يغتسل هل هو شاكر؟ والذي ما يصلي ولا يذكر كافر ما هو بشاكر.
تفسير قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا...)
وأخيراً يقول تعالى: ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ )[المائدة:7] أولاً، ( وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ )[المائدة:7]. (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ )[المائدة:7]، أي: نعمة خلقنا، نعمة إمدادنا، نعمة هدايتنا، فأول شيء أننا مخلوقون خلقنا الله تعالى، فاشكروه على نعمة الخلق والإيجاد، ونعمة الإمداد، فمن أمدنا بالطعام والشراب والهواء الذي نتنفس فيه، والغذاء والهواء عنصرا البقاء والحياة، فمن رب هذا الأكسجين؟ إنه الله تعالى. هل الدولة هي التي صنعته؟ والماء والطعام من خالقهما؟ الله، إذاً: فنشكر الله على نعمة الإيجاد والإمداد، أوجدنا بفضله وأمدنا بما يبقىي علينا حياتنا إلى نهايتها، إذاً: فليشكر الله عز وجل.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ )[المائدة:7]، في الخلق والإيجاد، في الإيمان والإسلام والإحسان، غيركم كفرة فجرة فساق يأكل بعضهم بعضاً، وأنتم أنعم الله عليكم بهذه النعمة: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي )[المائدة:3]، فالوضوء والتيمم والعبادة مظاهر الشكر لله عز وجل، والذي لا يعبد الله ما شكر ولا يعتبر من الشاكرين.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ )[المائدة:7]، ما هذا الميثاق الذي واثقنا الله وربطنا به؟ هو أنك لما قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقد بايعت الله، هذا هو الميثاق، وهو أن تعبد الله تعالى وحده بما شرع لك أن تعبده به، ولا تشرك به أبداً أحداً في عبادته، اذكر هذا الميثاق، فمن كفر نقض الميثاق، من ترك الصلاة والعبادة ترك الميثاق ونقضه.

(وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ )[المائدة:7]، متى؟ ( إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا )[المائدة:7]، من هو الذي قال: سمعنا وأطعنا؟ كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قال: سمعت وأطعت وقام اغتسل وصلى.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ )[المائدة:7]، بشكره وبالثناء عليه وبامتثال أمره وبطاعته وبحمده، ( وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ )[المائدة:7]، لما دخلنا في الإسلام كيف دخلنا؟ دخلنا بـ(لا إله إلا الله، محمد رسول الله).

إذاً: أقول واسمعوا: الذي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قد عاهد الله على الاستمرار في هذا الدين وعلى عبادة الله بما شرع وبين، وعليه أن لا يشرك في عبادة الله كائناً من كان، لا يشرك ملكاً ولا نبياً ولا رسولاً ولا ولياً ولا كائناً من الكائنات؛ لأنه يقول: أنا أشهد على علم أنه لا يوجد إله إلا الله، فكيف يخون إذاً ويوجد له من يعبده مع الله ولو بكلمة؟
ثانياً: أن لا يرضى بأن يعبد مع الله غيره أبداً؛ لأنك أقررت بأنه لا يستحق العبادة إلا الله وها أنت تعبده وحده، فكيف ترضى بعبادة غيره لفلان وفلان؟ فلهذا لا نرضى بالشرك والكفر أبداً، ويوم نقدر على نقل هذه الأنوار فإننا ننقلها إلى الأبيض والأسود كما فعل أصحاب رسول الله وأحفادهم، ما نرضى أن تبقى دولة أو أمة لا تعبد الله عز وجل، وإلا فقد رضينا بالكفر.
معنى قوله تعالى: (واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور)
(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:7]، هذا الأمر الأخير: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:7]، كيف نتقيك يا رب وأنت الجبار؟! ومن نحن حتى نتقيك! الجواب: يقول: تتقوني بطاعتي، من أذعن لأمري ونهيي وانقاد فقد اتقى عذابي، أما الذي لا يعبد ربه ولا يطيعه فبم يتقيه؟ هل بالجبال والصخور والجيوش؟ إن الخليقة كلها في قبضة الجبار.
إذاً: لا يتقى الله بالأسوار ولا الحصون ولا الجيوش ولا الحيل أبداً، وإنما يتقى بالإسلام له والإذعان، أذعن لربك، إذا قال: قل فقل، وإذا قال: اسكت فاسكت، بهذا فقط يتقى الله عز وجل، أي: بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأخيراً قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[المائدة:7]، هذه من يطيقها، كل ما يجول في خاطرك وتتحدث به في نفسك الله عليم به كالظاهر، فكيف -إذاً- تستطيع أن تخونه في الوضوء أو التيمم أو العبادة وهو يعلم ذات صدرك؟ ما في باطنك يعلمه كما يعلم ظاهرك، هذه المراقبة التي يفوز بها من هيأهم الله لذلك، يعيش العبد أو الأمة يراقب الله في كل حركاته وسكناته، حين يأخذ يتوضأ إذا رأى الماء كثيراً يقلله؛ لأن الله معه، فكلما صببنا الماء من الصنبور نغلقه ونذكر مراقبة الله لنا، إذا أردت أن تأكل أن تشرب أن تقول أن تعطي دائماً تذكر أن الله معك ويراك ويعلم ما في صدرك.

وهذه جاءت في الآية العظيمة التي هي سلم الوصول إلى الكمال: ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ )[العنكبوت:45]، أولاً، ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ )[العنكبوت:45]، ثانياً، ( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ )[العنكبوت:45]، ثالثاً، ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ )[العنكبوت:45]، الرابعة، فهذا سلم الوصول إلى الكمال:
أولاً: قراءة القرآن بالليل والنهار.
ثانياً: إقام الصلاة كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: ذكر الله في كل الأحايين إلا إذا جلست على المرحاض تتغوط.
رابعاً: أن تعلم أن الله يعلم ما تصنع فتراقبه في كل حركاتك وسكناتك، فإذا وصلت إلى هذا فأبشر واعلم أنك من خيرة أولياء الله عز وجل.

اللهم اجعلنا منهم.. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وتوفنا وأنت راضٍ عنا وألحقنا بهم يا رب العالمين.

وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
06-08-2021, 08:10 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (8)
الحلقة (366)
تفسير سورة المائدة (61)

شرع الله عز وجل الطهارة لعباده، وجعلها شرطاً لأداء عبادة من أهم العبادات ألا وهي الصلاة، والطهارة للصلاة تكون نوعان؛ أما الغسل لرفع الحدث الأكبر، وإما الوضوء لرفع الحدث الأصغر، وقد يسر الله عز وجل على عباده في هذا الشأن، فمن لم يجد ماء لغسله أو وضوئه فله أن يتيمم صعيداً طيباً فيمسح به وجهه وكفيه ظاهراً وباطناً، وهذا من رحمته سبحانه بعباده.

تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ ذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة، ومع هاتين الآيتين، سبق أن درسناهما ولكن لم نستوفهما كما ينبغي أن ندرسهما.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[المائدة:6-7]. ‏

توجيه معنى القراءتين في (أرجلكم) والرد على الرافضة في ذلك
ألفت النظر إلى أنه قرأ بخفض ( وَأَرْجُلَكُمْ )[المائدة:6]، هناك قراءة بالكسر: ( وأرجلِكم )، عطفاً على (برءوسكم).ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم هو المسئول عن بيان كلام الله لقول الله تعالى: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )[النحل:44]، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ ويغسل رجليه ولا يمسحهما طيلة عشر سنين، وإنما المسح لمن لبس الشراب أو الجورب أو الخف، لكل من ستر رجله وقاية لها من البرد أو الحر أو الشوك، له أن يمسح على ذلك الغطاء الذي على رجله.

وهنا إخواننا من الشيعة يمسحون أرجلهم ولا يغسلونها وهي عارية عن الجورب أو الموق أو الخف، وجاءني أحدهم في الحلقة وقال لي: لماذا أنتم لا تمسحون على أرجلكم والآية الكريمة تقول: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ )[المائدة:6]؟

فمما فتح الله به علي وأسكته أن قلت له: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساؤه وأصحابه وبناته والأمة معه كم سنة وهو يتوضأ؟ عشر سنين، والله ما مسح رجليه إلا إذا كان عليهما الخف أو الجورب، وكان يغسل رجليه ويقول: ( ويل للأعقاب من النار )، فالذي لا يهتم بغسل رجليه ويبقى العقب هذا غير مغسول تأكله النار، فوالله لقد سكت الرجل، وماذا يقول؟
فقراءة الجمهور: ( وَأَرْجُلَكُمْ )[المائدة:6]، عطفاً على: (وجوهكم): اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم إلى الكعبين، وليس معقولاً أبداً أن الرجل التي تمشي بها في المزابل في الطرقات تمسح عليها ووجهك تغسله!

ألم يُقصد بهذه الطهارة للجسم أيضاً؟ فرجلك التي تمشي بها في كل مكان لا تغسلها وتمسح فوقها هكذا، ووجهك النظيف الذي ما يتعرض للوسخ يجب أن تغسله ثلاث مرات، وكذلك يداك!
والشاهد عندنا لفت نظركم إلى أن هذه القراءة بالكسر أفادت المسح إذا كان على الرجل خف أو جورب أو موق، فما أضعنا القراءة هذه، نفعنا الله بها.
وأما قراءة الجمهور فهي عطف على الوجوه: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )[المائدة:6]، أي: واغسلوا أرجلكم -بقراءة الجر- وامسحوا بأرجلكم إذا كان على الأرجل خفاف أو جوارب أو ما إلى ذلك.

إذاً: عرفتم المسح على الخفين أو على الجورب أو على الموق وعلى كل ما يستر الرجل من أجل وقايتها من الحر أو البرد أو الحجارة والأشواك، ففي غزوة ذات الرقاع لفوا على أرجلهم قطعاً من القماش أو خرقاً وكانوا يمسحون عليها.

أثر الخلاف في معنى (من) في قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)
(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا )[المائدة:6]، كيف نفعل؟ قال تعالى: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6]، و(من) هل هي ابتدائية أو تبعيضية؟بعض أهل العلم قالوا: هذه تبعيضية، فلا بد من مسح جزء من التراب، وقالوا: ينبغي أن يكون المسح من التراب حتى يعلق بيدك جزء منه، وخالفهم الجمهور وقالوا: (من) للابتداء، كقولك: خرجت من القاهرة أو من البصرة، ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6]، أي: بابتداء من ذلك الذي صعد على وجه الأرض، سواء كان حجارة أو سبخة أو رملاً أو تراباً، إلا أن التراب أولى، متى وجد فهو أولى من الحجارة، فإن انعدم التراب فكل ما علا على الأرض وارتفع فوقها فهو صاعد عليها، فتضرب يديك -كما سيأتي وكما سبق- وتقول: باسم الله، وتمسح وجهك وكفيك.


رحمة الله تعالى بعباده الظاهرة في بيان مقاصد تشريع التيمم

(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )[المائدة:6]، أي: ضيق ومشقة وتعب. فلهذا إن كنت مريضاً أو كنت صحيحاً والماء بارداً ولا تستطيع أن تغتسل تخاف أن تمرض؛ فإنك تتيمم، فعمرو بن العاص تيمم في غزوة وصلى وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وما أنكر عليه.إذاً: ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ )[المائدة:6]، ليطهر أبداناً وأرواحاً، هذه مواد التطهير للبدن وتعود أيضاً بالطهارة على الروح، من فعل هذا الوضوء أو هذا الغسل إيماناً بالله وطاعة له وامتثالاً لأمره؛ فهذه الطاعة تحيل نفسه إلى كتلة من النور، فكما تزكو النفس يزكو البدن ويطيب ويطهر، ( لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ )[المائدة:6]، ألا وهي نعمة الإسلام، نعمة عبادة الله عز وجل والحياة على هذا الدين الإسلامي؛ رجاء أن نشكره في كل أحوالنا وفي كل أمورنا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
الآن نريد أن ندرس الآيتين من الكتاب: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ معنى الآيتين:
نادى الرب تعالى عباده المؤمنين به وبرسوله وبوعده ووعيده] ناداهم فقال: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:6]، نادى الرب تعالى عباده المؤمنين به وبرسوله وبوعده لأوليائه ووعيده لأعدائه [ ليأمرهم بالطهارة ] الوضوء، الغسل، التيمم.[ ليأمرهم بالطهارة إذا هم أرادوا الصلاة ]، فقوله تعالى: ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ )[المائدة:6] أي: أردتم أن تصلوا؛ لا أنه يكون غير متطهر ويقوم ليصلي. [ وهي مناجاة العبد لربه لحديث: ( المصلى يناجي ربه )]، كأنما يقول: أيها المؤمنون! من أراد منكم أن يناجيني فليتطهر، لا يأتني وهو غير طاهر. فالصلاة مناجاة، يقال: فلان يتناجى مع فلان: يتكلم معه سراً، والرسول يقول: ( المصلي يناجي ربه )، فالحمد لله، نحن في الأرض وهو فوق العرش بائن من خلقه فوق السماوات ونتكلم معه ويسمعنا ويرانا أكثر مما يسمع بعضنا بعضاً ويرى بعضنا بعضاً.

فلهذا من ذنوبنا إساءة المناجاة، كيف نخلو برب العالمين نتكلم معه ونعرض عنه بقلوبنا ونصبح واقفين بين يديه مشغولين عنه حتى بالمطبخ وما فيه من طعام، فهذه زلة كبيرة وقل من يشعر بها، أيقبل عليك سيدك يسمع منك وينظر إليك وأنت تائه في متاهات أخرى؟! هذه من ذنوبنا.
[ وبيّن لهم الطهارة الصغرى منها: وهي الوضوء، والكبرى: وهي الغسل ]، وقد عرفنا الوضوء والغسل وما زلنا نتعلم، [ وبين لهم ]، أي: للمؤمنين به وبرسوله، بين لهم [ ما ينوب عنهما ]، أي: عن الوضوء والغسل، ينوب عنهما التيمم، [إذا تعذر] وصعب [وجود الماء الذي به الطهارة، أو] الماء موجود ولكن [عجزوا عن استعماله] لمرض ونحوه، [وهو التيمم، فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ )[المائدة:6]، وحدُ الوجه طولاً من منبت الشعر أعلى الجبهة إلى منتهى الذقن أسفل الوجه ]، منبت الشعر في الجبهة في الغالب معروف، أي: حتى وإن كان أصلع، [إلى منتهى الذقن أسفل الوجه، وحده عرضاً من وتد الأذن اليمنى إلى وتد الأذن اليسرى ]، والوتد: الشحمة، ذلك اللحم الذي كأنه يثبت الأذن ويرسخها كالوتد الذي تشد به الخيمة.

قال: [ ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ )[المائدة:6]، فيشمل الغسل الكفين والذراعين إلى بداية العضدين، فيدخل في الغسل المرفقان ]، المرفقان: ما ترتفق به حين تتكئ، فقوله: إلى المرفقين، (إلى) بمعنى: مع المرفقين، تقول: وصلت إلى المدينة. يعني: ما دخلت فقط فوصلت إلى الباب، لا بد أنك دخلت فيها، فـ(إلى) تكون بمعنى:(مع).

قال: [ ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ )[المائدة:6]، واللفظ محتمل للكل والبعض ]، فقوله تعالى: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ )[المائدة:6]، هل الباء للتبعيض فيكفي بعض الرأس؟ أو الباء للإلصاق أي: لا بد أن تلصق يدك مع رأسك؟ على كل حال نحن مسلمون لا نتمذهب ولا نتعصب، ما بلغنا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم وبلغه لنا أئمتنا وهداتنا نعمل به ولا نخالفه، فمن هنا فالمسح الحقيقي الوافي الكامل: أن تبدأ بيديك من أول الرأس وتمضي بهما إلى القفا وتردهما، وقد مسح رأسك كله، هذا المطلوب.

ولكن تأتي رخص، حيث يكون على رأسك عمامة مشدودة وأنت في سفر أو في حال برد ما يقتضي موقفك أن تحلها، فتزحزحها هكذا وتمسح بعض الرأس وتتم الباقي على عمامتك، فنكون قد أخذنا بمعنى الباء من الجهتين: التبعيض والإلصاق.
والنساء كالرجال، فإذا رأسها مربوطاً برباط شديد فإنها تزحزحه عن بعض الشعر وتعمم المسح على خمارها، وما عصينا الله وما خرجنا عن قول أئمة الإسلام.
أما أنك لا لشيء تمسح هكذا فقط، فما أظن هذا إلا لعباً واستهزاءً وعنترية فقط؛ تقول: لأن الباء للتبعيض، والرسول صلى الله عليه وسلم ما غسل رجليه وما مسح رأسه! لقد مكث عشر سنين وهو يمسح، فهل قال هكذا بيديه فقط؟
قال: [ ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ )[المائدة:6]، واللفظ محتمل للكل والبعض ] أي: لكل الرأس ولبعضه، [ والسنة بينت أن الماسح يقبل بيديه ويدبر بهما فيمسح جميع رأسه، وهو أكمل، وذلك ببلل يكون في كفيه، كما بينت السنة مسح الأذنين ظاهراً وباطناً بعد مسح الرأس ]؛ لأن الأذنين جزء من الرأس، فمن مسح رأسه يمسح أذنيه ظاهرها وباطنهما على حد سواء، فإذا بقي البلل في كفيه مسح أذنيه، وإن جف الكفان فإنه يجدد الماء من جديد فيصب على يديه ويمسح أذنيه.

فقوله تعالى: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ )[المائدة:6]، يدخل في الرأس الأذنان، لأنهما جزء من الرأس.

قال: [ وقوله: ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )[المائدة:6]، أي: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، والكعبان: هما العظمان النائتان عند بداية الساق ] ساق الرِّجل، عظم من هنا وعظم من هنا، عظمان نائتان، أي: بارزان عند بداية الساق.

يتبع

ابوالوليد المسلم
06-08-2021, 08:11 PM
بعض المسائل المتعلقة بالوضوء وأحكامه
قال: [ وبينت السنة ] سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: طريقته ومنهجه الذي كان عليه وورثه المؤمنين من بعده. [ وبينت السنة رخصة المسح على الخفين بدلاً من غسل الرجلين، كما بينت غسل الكفين والمضمضة والاستنشاق والاستنثار، وكون الغسل ثلاثاً ثلاثاً على وجه الاستحباب ]. السنة هي التي بينت غسل الكفين ثلاثاً ثم المضمضة، ثم الاستنشاق والاستنثار، النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي بين هذا، والآية مجملة والرسول المبين صلى الله عليه وسلم.
والغسل ثلاثاً ثلاثاً على وجه الاستحباب، المفروض أن تعمم وجهك بالماء ويديك بالماء، فإن اكتفيت بغسلة واحدة أجزأك ذلك، لكن السنة أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً؛ لأن الله وتر يحب الوتر؛ ولأنها أضمن أن تغسل عضوك غسلاً كاملاً.
وإذا لم تكف الغسلات الثلاث فيجب أن تعود فتغسل ثالثة ورابعة وخامسة، المهم أن تعم وجهك ويديك بالماء بغسلة بغسلتين بثلاث وذلك أفضل.
قال: [ و] بينت السنة أيضاً [ قول باسم الله عند الشروع، أي: البدء في الوضوء ]، قبل أن تفرغ الماء على كفيك تقول: باسم الله، باسمه تتوضأ، لولا أنه أذن لك أن تتوضأ باسمه وبعونه وقدرته لشللت على الفور، ما تستطيع أن تفعل شيئاً.
قال: [كما بينت السنة وجوب الترتيب بين الأعضاء المغسولة الأول فالأول ]، الوجه فاليدان فالرأس فالرجلان، لو أن شخصاً يقول: أنا أغسل رجلي أولاً لأستريح ثم أغسل بعد ذلك وجهي ويدي، لقلنا: ما يصح هذا، أو يغسل أولاً يديه ورجليه ثم يقول: أترك وجهي الأخير حتى أجففه، ما يصح غسله؛ فالله تعالى ذكرها مرتبة فقال: ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )[المائدة:6]، فالذي يركب رأسه ويقول: أيش في ذلك؟ أنا سأبدأ بكذا، فإنه يكفر، لأنه يرد على الله عز وجل، لكن في حال العجز أو النسيان لا بأس، أما أن يتعمد المخالفة فهذا على شفا حفرة من النار.

قال: [ ووجوب الفور أيضاً بحيث لا يفصل بزمن بين أعضاء الوضوء حال غسلها، بل يفعلها في وقت واحد إن أمكن ذلك].
الترتيب عرفناه، الوجه فاليدان فالرأس فالرجلان، وترك الموالاة كأن يغسل كفيه فيتمضمض فيستنشق فيغسل وجهه ثم يقول: نستريح، يا أم فلان! أعطنا كأس قهوة، وبعد أن يشرب يأخذ في غسل رجليه بعد ذلك أو يديه، فهل يجوز هذا؟ لا يجوز؛ فلا بد من الفورية، اللهم إلا في حال العجز، كما لو أن الماء انقطع فوقف وذهب يأتي بالماء، فقد يبقى نصف أو ربع ساعة حتى يحصل عليه، فيبني على ما غسل، أو انكفأ الإناء الذي كان فيه الماء وهو ما غسل رجليه، فلا بد أن يطلب الماء، أو ينتظر حتى تجيء أمه بالماء، وليس عليه شيء؛ لأنه مضطر ما هو بمتعمد.
وهل يصح أن يتوضأ ويقول: سأترك رجلي لأغسلهما عند المسجد؟
الجواب: لا يصح، فالموالاة والفورية ركنان من أركان الوضوء وفريضتان من فرائص الوضوء إلا في حال العجز أو النسيان، نسي رأسه ما مسحه وقد جفت أعضاؤه فيمسحه وهو في البيت أو في السوق ولا حرج، نسي يده ما غسلها فإن كان في المجلس في موضع الوضوء فإنه يغسل يديه ويكمل وضوءه، ولكن إذا جفت أعضاؤه وبعد فترة قال: أنا ما غسلت يدي اليمنى فيغسلها وحدها ولا حرج.
قال: [ وأكدت السنة وجوب النية حتى لكأنه شرط في صحة الوضوء ]؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات )، لو تدخل الحمام وتغتسل أربع ساعات بالماء الصابون ولم تنو رفع الجنابة فأنت -والله- ما زلت جنباً، لو تدخل النيل بكامله ولم تنو رفع الحدث الأكبر فأنت جنب، فالنية شرط في صحة الوضوء وفي كل العبادة، وفريضة من فرائض العبادة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى ).

ذكر بعض موجبات الغسل
[ وقال تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا )[المائدة:6]، أي: وإن أصابت أحدكم جنابة وهي الجماع والاحتلام، فمن جامع زوجته فأولج ] أي: أدخل [ ذكره في فرجها ولو لم ينزل ] أي: يخرج منه الماء [أي: لم يخرج منه المني فقد أجنب، كما أن من احتلم في منامه فخرج منه مني فقد أجنب، بل كل من خرج منه مني بلذة في نوم أو يقظة فقد أجنب ] وعلى الجنب الغسل، وقد عرفناه، يستنجي ويتوضأ وضوء الصلاة ثم يخلل شعر رأسه ويغسل رأسه ثلاث مرات مع أذنيه ويغسل شقه الأيمن إلى الكعب والأيسر إلى الكعب ظهراً وبطناً، هذا هو الغسل.قال: [ وانقطاع دم حيض المرأة ودم نفاسها كالجنابة يجب منه الغسل ]، إذا انقطع دم الحيض، والحيض من النساء ولذا يقال: امرأة حائض، لأن الرجل ما يحيض، فما يحتاج إلى أن تأتي بتاء التأنيث لتفرق بين الذكر والأنثى، إذ هل يقال: رجل حائض؟! لا يصح، يقال: رجل واقف، وامرأة واقفة، رجل آكل، وامرأة آكلة، رجل مستحٍ، وامرأة مستحية، أما الذي هو خاص بالأنثى فما يؤنث، فهذه التاء تسمى تاء التأنيث للفرق بين الذكر والأنثى، وفي الحيض والنفاس لا يقال ذلك للرجل.
قال: [ وقوله: ( فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6]، يريد: فاغتسلوا، وقد بينت السنة كيفية الغسل، وهي: أن ينوي المرء رفع الحدث الأكبر ]، أن ينوي المغتسل رفع وإزالة الحدث الأكبر، فالحدث الأصغر الوضوء والأكبر الغسل، وسمي حدثاً لأنه حادث ما هو بلازم ودائم، وإنما حدث له.

[وهي: أن ينوي المرء رفع الحدث الأكبر بقلبه ]، لا يقول: اللهم إني نويت أن أغتسل، اللهم إني أريد أن أرفع الجنابة، لا حاجة إلى هذا، بقلبه فقط ينوي رفع الحدث، أو ينوي طاعة الله: أمرني ربي إذا أجنبت أن أغتسل فأنا أغتسل. [ ثم يغسل كفيه قائلاً: باسم الله ]، وإذا كان في المرحاض فلا يقول: باسم الله، ما يذكر اسم الله، يسكت، ويذكر ذلك في قلبه، [ ويغسل فرجيه ] القبل والدبر [ وما حولهما، ثم يتوضأ الوضوء الأصغر المعروف، ثم يخلل أصول شعر رأسه ببلل يديه ] حتى تستأنس البشرة ولا تتألم من الماء البارد، [ ثم يغسل رأسه ثلاث مرات، ثم يفيض الماء على شق جسده الأيمن كله من أعلاه إلى أسفله، ثم الأيسر، ويتعاهد الأماكن التي ينبو عنها الماء فلا يمسها؛ كالسرة وتحت الإبطين والرفقين وهما أصل الفخذين ]، ويغسل الأذنين مع الرأس، يغسل أذنيه ظاهراً وباطناً مع رأسه ثلاث مرات.

مشروعية التيمم ومتى ينتقل إليه من الوضوء والغسل
[ وقوله تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6]، ذكر تعالى في هذه الجملة الكريمة نواقض الوضوء وموجب الانتقال منه إلى التيمم فقال: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى )[المائدة:6]، فالمريض قد يعجز عن الوضوء؛ لضعف جسمه بعدم القدرة على التحرك، وقد تكون به جراحات أو دمامل يتعذر معها استعمال الماء حيث يزداد المرض بمس الماء] فيتيمم.[ وقوله: ( أَوْ عَلَى سَفَرٍ )[المائدة:6]، إذ السفر مظنة عدم وجود الماء ] كما قدمنا، فالذي يسافر على ناقته وبعيره مسافة يوم وليلة من أين يأتي الماء وكيف يحصل عليه؟ فالغالب أن المسافر في الزمان الأول يحتاج إلى الماء، فقال تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ )[المائدة:6].

قال: [ هذه موجبات الانتقال من الوضوء إلى التيمم ]؛ ينتقل من الوضوء إلى التيمم حال انعدام الماء أو العجز عن استعماله.
[ وقوله عز وجل: ( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )[المائدة:6]، ذكر في هذه الجملة الأولى نواقض الوضوء إجمالاً: وهو الخارج من السبيلين ]، وهما طريق الماء وطريق الخرء، والطريق: هي السبيل، فالمراد من السبيلين: القبل والدبر.

قال: [ وهو الخارج من السبيلين من عذرة وفساء وضراط وبول ومذي ]، ومني أيضاً، فالخارج من القبل كالخارج من الدبر ناقض للوضوء، والفساء: هواء يخرج مع رائحة كريهة، والضراط صوت يسمع، والمذي: ماء رقيق يخرج عند انتعاش الذكر أو انتصابه فيوجب الوضوء ولا يوجب الغسل، والمني أيضاً قد يخرج بدون لذة.
كان عندنا في القرية رجل حشاش غفر الله لنا وله، وكان يجادلنا ونحن طلبة علم صغار يقول: أنتم تدرسون العلم؟ أنا أسألكم سؤالاً: ما هي النجاسة التي لا تطهر إلا بنجاسة؟ قلنا: مستحيل هذا، كيف تكون نجاسة لا تطهر إلا بنجاسة! قال: اذهبوا تعلموا إذاً، ما تعلمتمز وبينها لنا، وهي: أنه إذا بال الفحل يخرج منه الودي، وهو ماء أبيض ساخن كالمني، هذا الودي إذا خرج لا يمكن أن يزول بالماء، لا يغسل إلا بالبول، أي: إذا بلت انقطع، وقبل أن تبول يبقى معك فأنت تصلي وهو يسيل، وهو نجاسة، فلا تطهر إلا بنجاسة وهي البول، وهذه لطيفة فقهية.
وعندنا هنا ثلاثة أشياء: المني والمذي والودي: فالمني: ماء متدفق يخرج عند انتعاش الذكر، هذا يوجب الغسل إجماعاً في يقظة أو في نوم.
والثاني: المذي، وكان علي رضي الله عنه مذاء، قال: استحييت من رسول لمنزلتي منه، أنا زوج فاطمة ، فقال للمقداد بن الأسود : اسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المذي. فقال: ( يغسل ذكره ويتوضأ )، فالمذي هذا: ماء رقيق يوجد عند النظر أو اللمس وانتعاش الذكر، هذا ينقض الوضوء بالإجماع ويغسل بالإجماع، ولكن ليس بجنابة.
والودي: يوجد في الفحول، هذا يخرج عندما يتبول المرء يخرج بعد بوله ماء ثخين أبيض ما ينقطع إلا إذا بلت، فحاول أن تبول ولو بعد خمس دقائق، أو قف واجلس فإذا خرج منك بول انقطع، فهو نجاسة لا تطهر إلا بنجاسة، هذه الفذلكة يذكرها الفقهاء ولا حرج.
قال: [وهو الخارج من السبيلين من عذرة وفساء وضراط وبول ومذي، كنى عنه بقوله: ( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ )[المائدة:6]، وهو مكان التغوط والتبول، وذكر موجب الغسل وهو الجماع، وكنى عنه بالملامسة، تعليماً لعباده المؤمنين الآداب الرفيعة في مخاطباتهم.

وقوله: ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6]، ماءاً للوضوء أو الغسل، بعد أن طلبتموه فلم تجدوه فتيمموا، أي: اقصدوا، من أم الشيء: إذا قصده ]، أم الدار: إذا قصدها، أم الناس: كانوا وراءه وهو أمامهم، [( صَعِيدًا طَيِّبًا )[المائدة:6] يريد ما صعد على وجه الأرض من أجزائها؛ كالتراب والرمل والسبخة والحجارة ]، ومع هذا التراب أفضل؛ لأن فيه أن تذل لله عز وجل وأن تمسح كفيك ووجهك بالتراب، وهذه مظاهر العبودية لله عز وجل، لو أن متكبراً قال: كيف أمسح وجهي بالتراب، لا أمسح إلا بالحجارة، فهل يصح هذا من مؤمن؟ هذا هو الكبر، لكن إذا ما وجد التراب فإنه يمسح على أي شيء ظهر على الأرض من أنواع أجزائها التي تصعد عليها.

قال: [ وقوله: ( طَيِّبًا )[المائدة:6]، يريد به: طاهراً من النجاسة والقذر، وقوله: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6]، بيّن فيه كيفية التيمم، وهي: أن يقصد المرء التراب الطاهر وإن تعذر ذلك فما تيسر له من أجزاء الأرض، فيضرب بكفيه الأرض فيمسح بهما وجهه وكفيه ظاهراً وباطناً مرة واحدة ]، هذا الذي علم الرسول صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر .

ولا يجوز المسح على الحائط ونحوه مما دخلت فيه يد العمران، إذ ما هو بأصلي هذا، ما هو من أصل الأرض، وإنما ما صعد على الأرض من أجزائها.
قال: [ وقوله تعالى: ( مِنْهُ )[المائدة:6]، أي: من ذلك الصعيد، وبهذا بيّن تعالى كيفية التيمم، وهي التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي الله عنهما.


تسهيل الله على عباده بالرخص في العبادات
وقوله تعالى: ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )[المائدة:6]، يخبر تعالى أنه يأمرنا بالطهارة بقسميها: الصغرى وهي الوضوء، والكبرى وهي الغسل، وما ينوب عنهما عند العجز، وهو التيمم، ما يريد بذلك إيقاعنا في الضيق والعنت، ولكنه تعالى يريد بذلك تطهيرنا من الأحداث والذنوب، لأن الوضوء كفارة لذنب المتوضئ كما جاء بيانه في السنة.وقوله تعالى: ( وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]، أي: بهدايتكم إلى الإسلام وتعليمكم شرائعه، فيعدكم بذلك لشكره وهو طاعته بالعمل بما جاء به الإسلام من الأعمال الباطنة والظاهرة، وهو معنى قوله: ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]. هذا ما دلت عليه الآية الأولى.

أما الآية الأخيرة وهي قوله تعالى: ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[المائدة:7]، فإنه تعالى يأمر عباده المؤمنين أن يذكروا نعمته عليهم بهدايتهم إلى الإيمان؛ ليشكروه بالإسلام، كما يذكروا ميثاقه الذي واثقهم به: وهو العهد الذي قطعه المؤمن على نفسه لربه تعالى بالتزامه بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم عندما تعهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

وأما قوله: ( إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا )[المائدة:7]، قد قالها الصحابة بلسان القال عندما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وقد قالها كل مسلم بلسان الحال لما شهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة.

وقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:7]، أمر بالتقوى التي هي لزوم الشريعة والقيام بها عقيدة وعبادة وقضاء وأدباً، وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[المائدة:7]، يذكرهم بعلم الله تعالى بخفايا أمورهم؛ حتى يراقبوه ويخشوه في السر والعلن، وهذا من باب تربية الله تعالى لعباده المؤمنين لإكمالهم وإسعادهم؛ فله الحمد وله المنة ].

هداية الآيات
[ أولاً: الأمر بالطهارة وبيان كيفية الوضوء وكيفية الغسل، وكيفية التيمم ] كما في هذه الآية.[ ثانياً: بيان الأعذار الناقلة للمؤمن من الوضوء إلى التيمم.
ثالثاً: بيان موجبات الوضوء والغسل.

رابعاً: الشكر هو علة الإنعام.
خامساً: ذكر العهود يساعد على التزامها ].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
06-08-2021, 08:12 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (9)
الحلقة (367)
تفسير سورة المائدة (62)

يدعو الله عز وجل عباده المؤمنين إلى أن يكونوا قائمين بعبادته سبحانه، شاهدين بالعدل ولو على الآباء أو الأبناء أو الإخوان، وحتى لو كانت الشهادة لصالح عدو أو مبغض فينبغي أن تؤدى على وجهها، وبهذا يمتاز المؤمن عن غيره، ويستحق أن يكون مقرباً عند الله، لأنه حقق التقوى التي أمره الله بها.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
ما ينتقض به الوضوء من اللمس

قوله تعالى: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )[المائدة:6]، فسرنا الملامسة بمعنى: الجماع، وكان ابن عباس رضي الله عنه يدخل أصبعيه في أذنيه؛ حتى لا يغتر بلفظة أخرى معروفة عند العامة، فهو يقرر أن معنى قوله تعالى: ( أَوْ لامَسْتُمُ )[المائدة:6]، أي: جامعتم النساء، فمجامعة النساء -وهي أن يغيب رأس الذكر في الفرج- موجبة للغسل، أمنى أو لم يمن، انتعش ذكره أو لم ينتعش؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى الختانان وجب الغسل ).ثم قضية لمس الذكر: ( من أفضى منكم بيده إلى فرجه فليتوضأ )، أفضى بمعنى: ما هناك حائل لا ثوب ولا سراويل ولا أي شيء فمس ذكره بباطن كفه، فقد انتقض وضوؤه ووجب عليه الوضوء، لأن اللمس لا يكون بظهر اليد، هذا اللمس مظنة وجود لذة، إذا مس ذكره بكفه فذلك مظنة أن يحدث في نفسه لذة، هنا وجب الوضوء، أما إن أفضى ولكن كان بينه وبين ذكره ثوب أو سراويل فلا شيء عليه، أو وهو يغتسل مس ذكره بظاهر كفه فلا ينتقض وضوؤه، لا ينتقض الوضوء إلا بمس الذكر بباطن الكف: ( من أفضى منكم بيده إلى فرجه ).
وهنا يأتي اللمس بمعنى: المس، فمن أراد أن يتلذذ من امرأته فمسها بقصد أن يتلذذ انتقض وضوؤه ولو لم يجد لذة، وإذا ما قصد شيئاً ولكن ما إن مسها حتى حدث في نفسه انتعاش وشهوة فقد انتقض وضوؤه.
وقد يقال: كيف نفعل حال مزاحمة النساء؟ فنحن نقول: أولاً: لا يحل لنا أن نماس النساء لا بأجسامنا ولا يأيدينا، لكن إذا حصل في الطواف فكونك تقصد اللذة هذا ما يعقل ولا يقوله مؤمن، إلا إذا كان امرء فاسقاً يطوف ليعصي الله عز وجل، أما مؤمن يطوف وينوي اللذة فمستحيل، لكن إن حصلت فما إن مسها حتى انتعش فقد انتقض وضوؤه فيخرج ليتوضأ.
أحكام المسح على الخفين

بقي المسح على الخفين والجوربين والشرّابين، والتقشيرين باللغة المغربية، سمي تقشيراً لأنه يقشر، ينزع كالقشرة، والقول الأسلم الذي ما فيه كلفة: أن كل ما غطى الرجل وسترها من أجل دفع الحر أو البرد، كل ما ستر القدم مع الكعبين فهو يصح أن تمسح عليه، فإن كان بعض الرجل مكشوفاً فلا، إلا إذا كان جزءاً قليلاً فلا بأس، أما ثلث الرجل وربعها يكفشف فما عندك شيء.وسواء كان من جلد أو كان من صوف أو كان من ورق أو كان من ورق الشجر، المهم أنه يستر الرجل، هذا القول أسلم وأقرب إلى الرحمة الإسلامية، أما الفقهاء فمنهم من يشترط أن يكون من جلد، فنقول: ما دام أنه ما شدد الشرع علينا فلم نشدد؟
وأما كيفية المسح ففيها طريقتان:
الطريقة معروفة عند الفقهاء: أن تضع قدمك بين يديك وتمسح بيد فوق الرجل وأخرى تحتها، وهذا فيه كلفة.
وحديث علي رضي الله عنه برد قلوبنا وهدأ نفوسنا، حيث قال رضي الله عنه: لو كان الدين بالعقل لكان مسح أسفل الخف أولى من ظاهره. لأن هذا يلي التراب فهو الذي يمسح، لكن الشارع مسح أعلاه.
وقد عرفتم السر يا علماء الأسرار، وهو أنه ليبقى المؤمن ملتزماً بغسل رجليه، لو كان كل من لبس شراباً يمسح فممكن أن ينسى غسل رجليه؛ فليبقى مرتبطاً بغسل رجليه فإنه إذا غطاهما بشيء يسمح فوقهما، فلهذا لا تكلف نفسك، وإنما بُل يدك بماء وامسح بها ظاهر الخف، ونحن هنا ما التزمنا بمذهب معين، نحن مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأئمة الإسلام ما خرجنا عما قال أئمة الإسلام الأربعة، لكن لا ننتسب إلى واحد ونترك السنة.
وأما شروط جواز المسح فهي: أن يلبس خفيه أو شرابيه على طهارة بلا خلاف، يكون قد توضأ أو اغتسل، ثم لبس خفيه أو شرّابيه، أما أن يكون قد لبسهما على غير وضوء فلا يجوز المسح أبداً، لا بد من نزعهما وغسل رجليه، هذه ما فيها خلاف.
ثم المدة: فمنهم من يقول: يمسح أسبوعاً، ومنهم من يقول: بلا حد، فإذا ما نزعهما ولا أصابته جنابة مسح دائماً.
والقول الراجح الذي به العمل هو الذي حدده صلى الله عليه وسلم: يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، توضأ لصلاة الصبح ولبس شرابه فإنه يتوضأ الظهر ويمسح وفي العصر يمسح وفي المغرب يمسح وفي العشاء يمسح، ثم جاءه الصبح فيجدد ويمسح يوماً وليلة، وإن سافر ثلاثة أيام بلياليها فيمسح على شرط ألا ينزع الخفين وألا يصاب بجنابة، فإذا أجنب فإنه يغتسل، انتهى المسح.
وإذا انتقض وضوؤه بفساء أو بضراط وتوضأ فإنه يمسح فقط على خفيه ليوم وليلة، مثلاً: لو مسح على خفه بعدما توضأ للعصر فإنه يمسح المغرب والعشاء والصباح والظهر.
هذه أحكام قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6]، معنى ( فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6]؟ أي: اغتسلوا، ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6]، فماذا نصنع؟ ( فَتَيَمَّمُوا )[المائدة:6] اقصدوا ( صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]، فالحمد لله، والشكر لله.

يتبع

ابوالوليد المسلم
06-08-2021, 08:12 PM
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط...)
والآن مع نداء من نداءات سورة المائدة، حيث يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:8]، لبيك اللهم لبيك، نادانا مولانا ونحن نسمع، أما نقول: لبيك وسعديك؟ لقد قالها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.وكان عبد الله بن مسعود يقول: إذا سمعت (يا أيها الذين آمنوا) فأعرها سمعك. إياك أن تغفل أو تلوي رأسك؛ فأنت منادى، والله يقول: (يا أيها الذين آمنوا)، فقل: نعم رب، ماذا تريد؟
وقد علمنا أن الله لا ينادينا لهواً ولا لعباً ولا باطلاً، ما ينادينا إلا ليأمرنا بما فيه خيرنا وسعادتنا، أو لينهانا عما فيه شقاؤنا وضلالنا، أو يأمرنا فيبشرنا بما يزيد في طاقة أعمالنا وصالحها، أو ينادينا ليحذرنا مما يؤذينا ويضرنا، أو ينادينا ليعلمنا، ينادينا لخمسة مقاصد.
هنا ماذا يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ )[المائدة:8]، كونوا قائمين له، ( قَوَّامِينَ )[المائدة:8] بعبادة الله وطاعته، وقد تقدم من العبادة الوضوء والغسل والتيمم، وأعظم من ذلك العهد الذي أعطيناه له: ( وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا )[المائدة:7]، إذاً: ( كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ )[المائدة:8]، بالقيام بتلك الواجبات والمهام فعلاً أو تركاً.

ثانياً: ( شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ )[المائدة:8]، كونوا شاهدين بالعدل عندما تشهدون ولو شهدت على أبيك أو أمك، والقسط: العدل، بخلاف الميل والجور، لا حيف ولا جور، ( كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ )[المائدة:8]، أي: قائمين أعظم قيام بما أوجب، وبما نهى وحرم.

معنى قوله تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)
قال تعالى: ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا )[المائدة:8]، ولا يحملنكم بغض قوم أو إنسان على ألا تعدلوا، فكونه عدوك آذاك أو ضربك ودعيت لتشهد وأنت على علم فيجب أن تعدل في شهادتك، ولا تشهد على هذا الذي آذاك وعاداك ولو كان يهودياً أو نصرانياً، وبهذا نمتاز نحن عن البشر، تجد أحدنا يشهد على أبيه أنه قتل؛ حيث يحتاج القاضي إلى اثنين يشهدان على أنه قتل، فيأتي الابن يقول: لقد قتل أبي هذا.وآية النساء التي سبق أن درسناها لاحظ كيف تختلف عن هذه في اللفظ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا )[النساء:135]، فهذا الموقف لا يقفه إلا الربانيون من هذه الأمة، يشهد على أبيه، على أمه، على ابنه، على أخيه بالعدل، ولا يلوي لسانه ولا يحرف الشهادة.

وليس عندنا تقية، التقية عند الروافض، بل عندنا: ( فَاصْدَعْ )[الحجر:94]،كأنه قذيفة، ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ )[الحجر:94].

نقول: يا عباد الله .. أيها المؤمنون! أمرنا بأن نكون قوامين لله في طاعته وطاعة رسوله، من الوضوء إلى الغسل، إلى التيمم، إلى الصلاة إلى العبادات، وأن نكون شهداء بالعدل، ولا يحملنا بغض إنسان أو كفره على أن نقول فيه الباطل ونشهد بالزور أبداً، كن مطمئناً، هذا نظام حياتنا.
الأمر الثاني: ( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )[المائدة:8]، أقرب إلى أن تظفروا بتقوى الله، التي هي ملاك أمركم وتحقيق ولايتكم لربكم، العدل يقود إليها، فالذي يعيش على العدل هل يخون الله في أمره ونهيه؟ كلا، الذي يعيش على العدل والقسط توجد لديه ملكة نفسية ما يعصي بها الله عز وجل ولا رسوله، ومن لم يعص الله ولا رسوله فقد ظفر بالتقوى، والتقوى ما هي؟ أليست طاعة الله والرسول؟ فملكة العدل تورثك التقوى، وتجعلك من أهلها.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ )[المائدة:8]، (شُهَدَاءَ) هنا: جمع شاهد، ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ )[المائدة:8]، أي: لا يحملنكم، ( شَنَآنُ قَوْمٍ )[المائدة:8]، الشنآن: البغض والعداء والعداوة، ( عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )[المائدة:8]، هذا هو شأن الله عز وجل مع أوليائه، فمن هؤلاء الذين يخاطبهم ويبين لهم ويهديهم؟ أليسوا أولياءه؟ يريد منهم أن يكملوا ويسعدوا، يريد أن يجاوروه في الملكوت الأعلى، ومن هنا أمرهم بتزكية النفس وتطييبها.
تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم)
ثم قال تعالى: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[المائدة:9]، وعدهم بماذا؟ وهل وعد الله حق أم لا؟ فإذا وعدك الله بالشيء فهل ممكن أن يخلف؟ هل يعجز أو ينسى؟ لا عجز ولا نسيان أبداً، فوعد الله ناجز.يقول تعالى: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[المائدة:9]، وعدهم بماذا؟ قال: ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ )[المائدة:9] لذنوبهم، ( وَأَجْرٌ عَظِيمٌ )[المائدة:9]، هو نزولهم في الملكوت الأعلى في الجنة دار السلام في جوار ربهم تعالى، فهل هناك أجر عظيم أكثر من الجنة؟ لو أعطيت بنوك الدنيا كلها فذلك أجر عظيم، لكن هل يبلغ عظم الجنة؟

فقوله تعالى: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[المائدة:9]، ما المراد من الصالحات هذه؟ هل هي علاج المرضى كما يفعل القسس والرهبان؟ هل توزيع الخبز على الجياع؟ ما المراد من الصالحات؟
الصالحات: كل اعتقاد أو قول أو عمل أمر الله به وفرضه أو ندبنا إليه أو رغبنا فيه، من عمله طهر به نفسه وزكى روحه، فهو لذلك عمل صالح؛ لأنه يزكي النفس ويطهرها، يدخل فيه الصلاة والزكاة والرباط والجهاد وبر الوالدين والأمر بالمعروف.. كل العبادات تحت شعار: العمل الصالح.
صفة المؤمن الموعود بالمغفرة والأجر العظيم
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:9] أولاً، لأن الصالحات إذا لم يعملها المؤمن إيماناً لا تنفعه، لا تنتج له زكاة ولا طهراً، فالإيمان شرط، بدليل أن الكافر لو تصدق بملء الأرض ذهباً لا يفديه يوم القيامة: ( وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ )[الزمر:47]، ولكن هل يقبل منهم؟إذاً: وعد الله الذين آمنوا حق الإيمان، فالشيوعيون يقولون: نحن مؤمنون، اليهود مؤمنون، النصارى، المجوس، كلهم مؤمنون، فمن هو المؤمن بحق؟
المؤمن بحق هو ذاك الذي آمن بوجود الله رباً وإلهاً وآمن بكل ما أمر الله أن نؤمن به، من الملائكة، من الكتب، من الرسل، من البعث، من الجزاء، من الدار الآخرة، من القضاء والقدر، وأعظم من ذلك أن آمن بمحمد رسولاً ونبياً، فلو آمن بكل الرسل وكفر بمحمد فوالله إنه لكافر، لو آمن بكل الرسل وكفر بعيسى فوالله إنه لكافر، لو آمن بكل الملائكة إلا جبريل فوالله إنه لكافر، آمن بيوم القيامة إلا أنه قال: ما نؤمن بجنة ولا نار، فوالله إنه لكافر، فالمؤمن عبد آمن بالله رباً وإلهاً ثم صدق بكل ما أخبر الله به من شأن الغيب والشهادة، وبكل ما أمر الله أن نؤمن به، ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا )[التغابن:8]، هذا المؤمن، ومن أراد أن يعرف هل هو مؤمن أو لا فعندنا شاشة قرآنية، ما هي بتلفاز ولا فيديو، شاشة بيضاء قرآنية، من وجد نفسه فيها قال: الحمد لله، ومن لم يجد نفسه فليعلم أنه ما هو بمؤمن، فليمش إلى أهل العلم ويسألهم: كيف نؤمن؟
قال تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ )[الأنفال:2]، أي: بحق وصدق، لا بالادعاء والنطق، ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ )[الأنفال:2]، من هم يا رب؟ ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )[الأنفال:2-4].

وفي شاشة أخرى قال تعالى من سورة التوبة: ( وَالْمُؤْمِنُونَ )[التوبة:71]، أي: بحق وصدق، ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )[التوبة:71]، امرأة صينية وأنت أمريكاني، فأنت أخوها وهي أختك، فانصرها إذا احتاجت إلى نصرك، وتحبها كما تحب أختك وأمك، مؤمن أسود غربي وأنت أبيض صقلبي، يجب أن تحبه وأن تنصره، متى استغاث بك واستنصرك نصرته، ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ )[التوبة:71]، شاشتان في القرآن، فانظر تجد نفسك في الشاشتين إن شاء الله، وإن غبت في موطن فعجل لتظهر فيه.
حاجتنا إلى التخلص من الذنوب
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ )[المائدة:9]، مغفرة لأي شيء؟ لذنوبهم، وهل يعقل أن العبد ما يذنب؟ هل هو معصوم؟ لو كان ابن سنة أو سنتين أو عشر فممكن، وإذا عاش سبعين سنة فمن الجائز ألا يذنب، وقد عرفنا أن الذنب ليس دائماً هو أن تسرق أو تزني، بل تقصيرنا في شكر الله من ذنوبنا، أما أمرنا بالشكر؟ فالذي يأكل وما يقول: الحمد لله، أو يركب الطائرة ولا يقول: الحمد لله أليس بمذنب؟ فطهر نفسك وبعد ذلك تدخل الجنة، يدل لذلك قول الله تعالى: ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ )[آل عمران:133] أولاً، وإلى ( وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ )[آل عمران:133]، فأولاً: التوبة، ثم العمال الصالح، أما الذي ما زال على الشرك ويعمل الصالحات فما تنفعه.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
06-08-2021, 08:13 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام - (1)
الحلقة (368)
تفسير سورة المائدة (1)

الله عز وجل هو خالق السماوات والأرض، وخالق الظلمات والنور، ومدبر الخلائق والأكوان، لا يكون شيء في السماوات أو في الأرض أو بينهما إلا بإذنه، وهو الذي خلق هذا الإنسان من طين، وعلم ما يختلج في صدره وما يتردد في فكره وسره، ومع ذلك تجد الجهال من خلقه يكفرون به سبحانه، ويعدلون به أصنافاً وأوثاناً لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً، فضلاً عن أن تملكه لغيرها، فسبحان من بيده الهدى والضلال.
بين يدي سورة الأنعام
القضايا العقدية المقررة في سورة الأنعام
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات، إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
وها نحن الليلة مع فاتحة سورة الأنعام، سورة الأنعام من السبع الطوال، هذه السورة -معاشر المستمعين والمستمعات- زفَّها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعون ألف ملك ولهم زجل وتسبيح.
هذه السورة المكية تقرر ثلاثة مبادئ:
أولاً: توحيد الله تعالى.
وثانياً: إثبات لقاء الله تعالى.
وثالثاً: رسالة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
توحيد الله، لقاء الله، تقرير النبوة المحمدية.
وهذه السورة لجلالتها وددنا لو أنها يحفظها كل مؤمن ومؤمنة، وخاصة طلاب العلم، سواء الذين يطلبون الصناعة أو الكيمياء، أو الطب، أو علم الفلك، حفظ هذه السورة خزينة من خزائن النور، صاحبها لا يضل بإذن الله تعالى.
فهيا ندرس هذه الآيات الثلاث منها:
تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ...)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:1-3] من خير وشر.
السور المفتتحة بالحمد
معاشر المستمعين والمستمعات! السور التي افتتحت بحمد الله عز وجل في كتاب الله خمس: أولاها: الفاتحة. وثانيتها: الأنعام. وثالثتها: الكهف. ورابعتها: سبأ. وخامستها: فاطر.أول سورة في كتاب الله هي: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الفاتحة:2]، افتتح الله تعالى بها كتابه، فهي فاتحة الكتاب، ولا تصح صلاة بدون قراءتها.
والسورة الثانية الأنعام، وسميت بالأنعام لذكر لفظ الأنعام فيها أربع مرات، والأنعام هي: الإبل، والبقر، والغنم: الضأن والماعز، هذه هي الأنعام التي أحلها الله تعالى لنا.
معنى قوله تعالى: (الحمد لله)
فهذه السورة مفتتحة بكلمة: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ )[الأنعام:1]، أي: المدح والثناء الجميل الحسن هو لله، الحمد: الثناء بالجميل، فالثناء الحسن هو حق الله عز وجل. و(أل) هنا للاستغراق، جميع المحامد هي حق الله عز وجل، هي لله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ )[الأنعام:1] عز وجل.و(الله) هذا الاسم علم على ذات الرب عز وجل، كل ذاتٍ لها اسم تعرف به، حتى الإنسان والحيوان بل والنباتات، هذا عنب وهذا تفاح، والله جل جلاله بارئ النسم وخالق الخلق له اسم هو (الله)، وله تسعة وتسعون اسماً منها (الله)، ناده: يا ألله، ناده: (اللهم) وسل حاجتك، وارفع إليه شكواك، والله يسمع دعاءك أينما كنت ولو كنت في جوف سمكة بالبحر الأسود المظلم، يسمع صوتك، وقد سمع صوت يونس ذي النون عليه السلام وهو في ظلمة بطن الحوت، في ظلمة البحر، في ظلمة الليل، إذ قال تعالى عنه: ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )[الأنبياء:87]، إذ نادى في الظلمات: ظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، ( لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )[الأنبياء:87] ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ )[الأنبياء:88].
أبشروا يا من هم مؤمنون صادقون في إيمانهم، هذا وعد الله كما نجى يونس ينجي المؤمنين من ظلمات الجهل، من ظلمات الفقر، من أية ظلمة من الظلمات، ادع وارفع يديك إليه واسأل حيثما كنت فإنه قريب مجيب، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه.
(الحمد): الوصف بالجميل، الثناء الحسن، إذ كل جميل يليق بالله عز وجل، كل حسن الله أهله، كل ثناء بالطيب والخير هو لله عز وجل، ( الْحَمْدُ لِلَّهِ )[الأنعام:1].
آداب مدح الناس وحمدهم
وهنا ألفت النظر إلى أننا لا يصح منا أن نحمد من ليس هو بأهل للحمد، وإلا كنا كاذبين، فلا يُحمد شيء إلا إذا كان له وصف جميل يستحق به الثناء والحمد، ومن حمد أو مدح وأثنى على من ليس لذلك بأهل فهو كاذب والعياذ بالله، وهذا الله عز وجل في هذه الفواتح الخمس يذكر الحمد له ويذكر سببه.الحمد لله لم؟ كيف؟ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )[الفاتحة:2-4]، أما يحمد على هذا؟ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )[الأنعام:1]، أما يحمد على هذا؟ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا )[الكهف:1]، ( قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا )[الكهف:2]، كيف لا يحمد؟ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ )[سبأ:1]، تحمد الذي له بعير أو شاة، فكيف بالذي له ما في السماوات والأرض؟ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[فاطر:1]، وخالقها.
فمن هنا بيَّن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم آداباً فزنا بها:
أولاً: لا نحمد إلا من كان أهلاً للحمد، وإذا حمدناه أو مدحناه فلا ينبغي أن نمدحه في وجهه، نذكره بالخير وهو غائب، أما أن نمدحه في وجهه فقد قال في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قطعت عنق صاحبك ).
وقد قررنا -والحمد لله والله شاهد- وبينا منذ عشرات السنين أنه حين يأخذ العرب يمدحون رئيسهم ويتبجحون ويحمدونه؛ لا يشعر حتى يطغى ويتجبر ويتكبر ويفعل العجب، ولفتنا النظر وقلنا: لا يصح هذا أبداً، الرسول صلى الله عليه وسلم ما أذن لصاحب أن يمدح رجلاً بين يديه، وقال: ( قطعت عنق صاحبك)، ولو شئنا لسمينا الزعماء الذين أضللناهم وألقيناهم في الضلال بسبب مدحنا وثنائنا وتبجحنا حتى طغوا، ومن أبسط ما يكون: طالب علم يشاهد ذكاءه أو فطنته أو حرصه فيأخذ في مدحه ينتكس، يرى نفسه أنه أعلم الناس، أذكى الناس، فيهبط من حيث لا يشعر.
إذاً: فالله عز وجل يحمد نفسه وهو أهل للحمد والثناء، ومع هذا يذكر علة ذلك الحمد وسببه، وحسبنا أن يعلمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أننا إذا مدحنا لا نغالي ونبالغ، ولا نمدح في وجه الشخص حتى لا يتأثر أو يصاب بمحنة، فنذكره بخير في حال غيبته لا مواجهة.
فها هو تعالى يحمد نفسه، ويذكر سبب ومقتضى هذا الحمد: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ )[الأنعام:1]، ما بنى قصراً أو سفينة، أو حرر إقليماً، أو غزا وانتصر على جيش، خلق السموات والأرض، ووالله ما كانا موجودين وأوجدهما، وأنت لا تدعى إلى غيب، بل ارفع رأسك إلى السماء تشاهد كواكبها ونجومها وهواءها وأمطارها وشهبها، ضع رأسك للأرض تشاهد هذه المخلوقات، من خلقها سوى الله؟ والله لا خالق إلا هو، ولم يوجد في البشرية من ادعى خلق كوكب من الكواكب، خلق السموات السبع والأرضين السبع أيضاً، وقد كان الله ولا شيء، لا سماوات ولا أرضون، وأوجدهما العزيز الجبار، أهذا لا يستحق الحمد؟ إذا لم يحمد هو فمن يحمد؟
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ )[الأنعام:1] فهذه الأجرام التي تشاهد ويلمس بعضها ويحس أوجدها الله عز وجل.

يتبع

ابوالوليد المسلم
06-08-2021, 08:14 PM
معنى قوله تعالى: (وجعل الظلمات والنور)
(وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )[الأنعام:1]، أوجد الظلمات والنور أيضاً، هل تستطيع الخليقة أن توجد ظلمة؟ ما تستطيع. هل تستطيع أن توجد نوراً؟ ما تستطيع. من جعل الظلمات والنور؟ والحياة البشرية متوقفة على هذا، لولا الظلمة والنور لما استطاعت البشرية أن تعيش وتوجد، والظلمات والنور من الأجرام المحسوسة، وهناك ظلمات الجهل والكفر والظلم، ظلمات أشد حلوكة وظلاماً من ظلام الليل، وهناك أيضاً نور أشد من نور الشمس وأقوى وأصفى كثيراً، هو نور العلم والإيمان. فمن جعل الظلمات والنور؟ هل ثم من يرفع يده ويقول: فلان الفلاني، أو بنو فلان، أو بنو فلان؟ فاحمد يا ألله نفسك، فأنت أهل الحمد والثناء، ونحن نحمدك يا ربنا: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )[الأنعام:1].
فالسموات السبع وما فيهن والأرضون السبع وما فيهن من مخلوقات الله عز وجل الله خالقها وموجدها، هذه الأجرام المحسوسة، وظلمات البر والبحر، الظلمات في الليل والنهار، والأنوار التي نعيش عليها في أيامنا من أوجدها؟ الله عز وجل.
معنى قوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)
(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، ومع ذلك فالذين كفروا يعدلون بربهم، يا للعجب؟! يا للغرابة؟! مع هذا يعدلون بربهم أوثاناً وأصناماً، مخلوقات هابطة ساقطة، ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1] به غيره من المخلوقات، هذا يعبد الملائكة، وهذا يعبد الشمس، وهذا يعبد القمر، وهذا يعبد النار، وهذا يعبد الظلام، هذا يعبد عبد القادر ، هذا يعبد عيسى، هذا يعبد أمه، لأنهم كفروا فلهذا عدلوا غير الله بالله، وأقبلوا على غير الله يتضرعون ويبكون ويسألون ويتمسحون، معرضين عن الله عز وجل، حالهم تستدعي التعجب لنا، ولهذا جيء بـ(ثم) للفصل والبعد: ( الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، يعدلون به غيره، عدل بفلان فلان، عدل بفلانة امرأته الأخرى، فالذين أقبلوا على غير الله يركعون، يسجدون، يسبحون، يغنون، يصلون، يدعون، يتقربون بذبيحة بكذا ولو بشمعة يوقدونها، والله لقد عدلوا بربهم سواه، وسبب ذلك ظلمة الكفر، لو كانوا مؤمنين حق الإيمان، صادقين في إيمانهم لمعرفتهم بربهم وجلاله وعظمته وكماله، ولمعرفتهم بأن المخلوقات كلها مفتقرة إلى الله محتاجة إليه، لولا الله ما كانت ولن تكون، هؤلاء المؤمنون لا يعدلون بربهم، لكن ظلمة الكفر، وظلمة الجهل هي التي تجعل الإنسان يغمض عينيه عن خالق السموات والأرض وهذه المخلوقات، ويفتح عينيه في حجرة أو شجرة يستغيث بها ويدعوها، سواء كانت من الملائكة أو من البشر والرسل، أما عبدوا عيسى عليه السلام؟ أما استُشهِد يوم القيامة: ( أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[المائدة:116]، معنى هذا أنهم اتخذوه إلهاً، عبدوه، أعطوه قلوبهم، ونياتهم، وأقوالهم، وعكفوا على عبادته.
الجهل وأثره على المسلمين في إيجاد مظاهر الشرك والبعد عن الهداية القرآنية
(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، يا عبد الله! ما معنى يعدلون؟ يعدلون به غيره. بدل أن يطرح بين يديه يطرح تحت صنم، بدل أن يرفع يديه إلى ربه يستغيث به يرفع يديه يستغيث بـعبد القادر ، بـمبروك ، يا مولاي إدريس ، يا سيدي البدوي ، يا عيدروس ، يا فلان يا فلان! هذا الجهل عم ديار الإسلام أكثر من ثمانمائة عام، وهذه اليقظة الجديدة لها عوامل وأسباب، وإلا فالقرية الواحدة تجد فيها كذا معبوداً يُعبد من دون الله، القرية الواحدة تجد فيها كذا طريقة، تجانيون وقادريون وعلوانيون وفلانيون، والقرية صغيرة، أصاب الأمة ظلام لا حد له، وعلة ذلك أن الثالوث الأسود -المجوس، واليهود، والنصارى- عرفوا سر حياة هذه الأمة وسر هدايتها، ألا وإنه القرآن العظيم، كتاب الله النور الإلهي، فصرفوهم عن الاجتماع عليه من تلاوته وتدبره، وفهم مراد الله وما يريد لهم في كتابه، وجعلوه موقوفاً على الموتى، لا يجتمع اثنان على قراءة القرآن إلا على الميت، من إندونيسيا إلى موريتانيا، حتى مدينة الرسول ومكة بلد الله، قبل هذه الدولة دولة عبد العزيز كانوا كغيرهم من العالم الإسلامي، لا يجتمعون على قراءة القرآن إلا ليلة الميت، وإياك أن تقول: قال الله، فإنك تكفَّر، وقالوا القاعدة: (تفسير القرآن صوابه خطأ، وخطؤه كفر)، فتقول: قال سيدي فلان، قال الشيخ، قال كذا، أما قال الله فلا! فكمموا هذه الأمة، وألجموها وأسكتوها، فانتظمها الجهل من الشرق إلى الغرب، وظهرت جاهلية أفظع من جاهلية الأولين، ورحم الله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب الذي كانوا يكفرونه ويقولون: صاحب مذهب خامسي أيام الظلام العاتي، والآن خفَّ هذا، يقول رحمه الله تعالى: المشركون إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين.
وهذا عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه سبب إسلامه أنه لما فتح رسول الله مكة بإذن الله هرب رؤساء الطواغيت وشردوا، ومن بينهم عكرمة هرب إلى البحر، ما يريد أن يرى وجه محمد بعد يومه، وصل إلى ميناء من الموانئ، فوجد سفينة تريد أن تقلع، وسفن ذاك الوقت بلا بنزين، فركب، وتعمقت السفينة في البحر كيلو متر أو كذا، قال ربان السفينة أو ملاحها: يا معشر الركاب! الحمولة ثقيلة، فانظروا ماذا تصنعون أو نرجع. قالوا: نرجع.
سبحان الله! ربان السفينة غير ربانها مع يونس، سفينة يونس عليه السلام قال ربانها: يا إخواننا! الحمولة ثقيلة، ولا بد من إسقاط واحد، من منكم يتبرع ويحيي الآخرين فيلقي بنفسه في البحر، وينجو إخوانه. فما استطاع واحد أن يتبرع، قالوا: إذاً: القرعة، فمن خرجت القرعة عليه نرميه بالقوة، فاقترعوا، فوقعت على يونس بن متى، ( فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ )[الصافات:141]، جمعوا ثيابه عليه ودفعوا به في البحر، فأمر الله سمكة من عظام السمك ففتحت فاها فدخل يجري فيها، لا مضغته ولا آذته، ( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ )[الصافات:142]، لأنه هرب من الدعوة، ما واصلها، ما كان من حقه أن يخرج من بلاد نينوى، هذه حادثة.
والذي نريده شاهداً لما نقول ما ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، قال: يا للعجب: مشركو العرب كانوا يوحدون الله في الشدة، ويشركون به في الرخاء، أما مشركو اليوم ففي الرخاء والشدة على حد سواء!
ومن ذلك خبر عكرمة ، فـعكرمة لما فتح الله على رسوله مكة هرب حتى لا يواجه الرسول ويؤمن به أو يذل، فوجد سفينة تريد أن تقلع فركب، لما ركب السفينة واضطربت بموج البحر قال الربان: يا قوم! ادعوا الله، ارفعوا أيديكم لينجيكم من الغرق، فعكرمة تفطَّن فقال: سبحان الله! أنا هربت من التوحيد، والآن يلحقني حتى في البحر! ارجع بي إلى الشاطئ حتى أذهب إلى محمد وأسلم، أنا ما هربت إلا من كلمة: لا إله إلا الله، والآن في حال البحر تقول: ادعوا الله ولا تدعوا غيره لينجيكم؟ فقال: والله لترجعن بي إلى الساحل. ورجع وأتى الرسول وبكى، وشهد إن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
قال تعالى: ( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ )[العنكبوت:65]، أيُّ حال أحسن: حال المشركين الأولين، أم حال المشركين المحمديين المنسوبين إلى الإسلام؟ الأولون على الأقل في حال الشدة يفزعون إلى الله وحده، هذا ما هو كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، هذا -والله- كلام الله: ( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )[العنكبوت:65]، لماذا دعوه؟ لأن السفينة تضطرب والأمواج تكاد تغرقها، ففزعوا إلى الله عز وجل فأنجاهم، فإذا نجاهم إلى البر رجعوا إلى الشرك والتبرك بالأحجار.
ذكر قصة الحجيج المستغيثين بغير الله تعالى لاضطراب سفينتهم
ورحم الله الشيخ رشيد رضا صاحب المنار، حقاً إن تفسير المنار منار هداية، يذكر أن شيخه محمد عبده قال: كنا أيام الدولة العثمانية، وكانت سفينة كبيرة تجمع الحجاج، تبدأ من طرابلس في الغرب، إلى الإسكندرية إلى اللاذقية أو أحد هذه الموانئ على البحر الأبيض، وتحمل الحجاج من كل إقليم خمسة أو عشرة في ذاك الزمان.قال: فلما مشت السفينة وتعرضت لهزة شديدة من الأمواج أخذ الحجاج يستغيثون: يا سيدي عبد القادر ، يا رسول الله، يا فاطمة ، يا حسين ، يا بدوي ! أنجنا.. أنقذنا، نحن بكم وبالله! وكان بينهم رجل، فرفع يديه إلى الله وقال: اللهم أغرقهم فإنهم ما عرفوك.
كأنكم حاضرون، وجربنا هذا، أنا قلت لكم: كان سائق يسوق بي من أهل العلم، فالسيارة خرجت بنا عن الطريق، وإذا به: يا رسول الله.. يا رسول الله! ولو هلك لكان إلى جهنم، فلا عجب في هذا أبداً.
أما قلت لكم -والله يشهد- الرجل يذكر الله بالألف وأكثر: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، ثم حين تأخذه سنة من نوم فتسقط المسبحة من يده إذ به يقول: يا رسول الله! أو يأتي بـعبد القادر ، فما معنى: لا إله إلا الله إذاً، لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، وعند الحاجة: يا سيدي فلان!
هذا هو معنى ظلمة الجهل، فالإيمان ليس مجرد أن تقول: أنا مؤمن، أو تكون ابن مؤمنين، الإيمان أن تسأل عن الله وتعرفه بأسمائه وصفاته، وجلاله وكماله، وعظمته ورحمته، فتمتلئ نفسك وقلبك بحبه والخوف منه، ثم حينئذ إذا قلت: الله لا تبالي بأي مخلوق من المخلوقات، هذا هو الإيمان وهذا هو المؤمن، لا مجرد مؤمن ما عرف من هو الله، ولا كيف الله، فتأتي أدنى محنة فينسى الله ويفزع إلى غير الله عز وجل.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، يا للعجب! يا للغرابة! ماذا نقول؟ هذا كلام الله، لكن نلفت النظر إلى العلة، قال: ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا )[الأنعام:1]، عرفت السبب أم لا؟ ظلمة الكفر هي التي رمت بهم في هذه المزبلة، فأصبحوا يعدلون بالرب العظيم مخلوقات لا تبدي ولا تعيد، ولا تحيي ولا تميت، ولا أوجدت ذرة من الكون، يسوونها بالله فيستغيثون بها وينادونها، كما نقول: يا الله! ويتقربون إليها بالقرب التي لا تكون إلا لله، من الذبح، والنذر، والحلف، وما إلى ذلك.
تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون)
ثم قال تعالى ( هُوَ )[الأنعام:2] لا غيره ( الَّذِي خَلَقَكُمْ )[الأنعام:2] يا بني آدم، أبيضكم كأسودكم، أولكم كآخركم، ( خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ )[الأنعام:2]، إذ خلق أبانا آدم من مادة الطين، تراب مبلل حتى يتغير ويصبح كالحمأة، ومنه صنع الله عز وجل بيديه آدم عليه السلام، ونفخ فيه من روحه، وخلق أنثاه حواء من ضلعه الأيسر، ونحن تناسلنا من آبائنا وأمهاتنا، أصلنا من طين، والفواكه.. الحبوب.. الثمار.. كلها من الطين، دماؤنا من الطين، أعصابنا وعظامنا مكونة من الطين. هذا الذي خلقنا من الطين نغمض أعيننا عنه، ولا نسأل عنه، ونلتفت إلى غيره ونعبده بالتمجيد والتعظيم والطاعة!
المراد بالأجلين في الآية الكريمة
(خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا )[الأنعام:2]، هذه أعظم من الأولى، قضى أجل الموت، هل استطاع الحزب الشيوعي لما شاب لينين وبعده ستالين هل استطاعوا أن يحتفظوا بحياة هذا الزعيم؟ وزعماء العرب الذين قدسناهم ورفعناهم إلى السماء حتى ضلوا هل استطعنا أن نحفظ حياتهم، ينقلونهم إلى روسيا للعلاج وما نفع.(ثُمَّ قَضَى )[الأنعام:2]، حكم وقدر، ( أَجَلًا )[الأنعام:2] ألا وهو أجل كل إنسان ذكر أو أنثى، محدد -والله- باللحظة، بأقل من الدقيقة والثانية، هل استطاعت البشرية أن تنقض هذا الحكم لو كان لها علم أو قدرة، أو لها آلهة تستطيع أن ترد على الله هذا القضاء وتحيي من تشاء، هل تم هذا أو وجد؟ ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )[آل عمران:185]، هذا قضاء الله وحكمه، قضى أجلاً وأجل آخر مسمى عنده، وهو أجل نهاية هذه الحياة.
آجالنا كما تشاهدون: توفي فلان، توفيت فلانة، آجال محدودة باللحظة، وقبل أن يخلق الله السموات والأرض كتب في كتاب المقادير.
والأجلُ الآخر معروف لله تعالى ولم يطلع عليه أحد سواه، أجل نهاية الحياة وبداية الحياة الآخرة، هذا لا يعرفه إلا الله، ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً )[الأعراف:187]، هذا الأجل الثاني، ( قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ )[الأنعام:2]، ولو كان إنسان يستحي لذاب حياء من الله، ثم أنتم يا بني آدم تشكون في ربكم، وفي لقائه وقدرته، وفي رسله وشرعه وكتابه، أين يذهب بعقولكم؟
والامتراء: الشك والعصيان، فكل من عبد غير الله شك في الله وارتاب، كل من عصى الله وخرج عن طاعته وفسق عن أمره ما آمن الإيمان الحق، ما عرف الله معرفة تجلب حبه في قلبه والرهبة منه في نفسه فيخافه ولا يعصيه.
تفسير قوله تعالى: (وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون)

(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ )[الأنعام:3] المعبود في السموات كما هو المعبود في الأرض، إذ قال تعالى من سورة الزخرف: ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ )[الزخرف:84]، وهنا يقول: ( وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ )[الأنعام:3]، سواء كنتم في السموات، في الجبال، في السحب، أو في أعماق الأرض، ( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ )[الأنعام:3] أي: ما تخفونه من كلام، وما تجهرون به، وفوق ذلك: ( وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3].(وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3] من الكلمة، أو بعض الكلمة، من الحركة والخطوة ودونها، كل ما نكسبه بأسماعنا، بأبصارنا، بألسنتنا، بأيدينا، بفروجنا، ببطوننا، إذ هذا هو الكسب، كل ذلك معلوم عند الله عز وجل، ويجزي به، ويرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، لكن رحمته قائمة على مبدأ عدله، وتعذيبه كذلك.
فيا معشر المؤمنين! هيا نقبل على ربنا صادقين، نذكره، نمجده، نحمده، نعمل على طاعتنا له، حتى يتوفانا وهو راض عنا، اللهم حقق لنا ذلك، اللهم توفنا وأنت راض عنا، إنك ولينا وولي المؤمنين.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
06-08-2021, 08:17 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (2)
الحلقة (369)
تفسير سورة المائدة

النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا بشر، وتظهر بشريته في حزنه وتألمه حين يعرض عنه المشركون ويكذبونه، والله عز وجل يعزيه ويواسيه بإخباره أنهم إنما يكذبون بآيات الله ورسالاته، وحالهم هذا شبيه بحال من أنكروا الرسالات السابقة، وكذبوا الأنبياء الذين جاءوا من قبل، فما عليه إلا الصبر على ما يلاقي في سبيل دعوته؛ لأنه لا يمكنه أنه يأتيهم بغير ما آتاه الله من الآيات والبراهين، ولو شاء الله لهم الهداية جميعاً لهداهم، ولكنها حكمة بالغة منه سبحانه بأن يكون من عباده المؤمن والكافر، وهو الحكيم الخبير.
تفسير قوله تعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلك السورة التي علمنا أنها زفت بسبعين ألف ملك من ملائكة الله، ولهم زجل وتسبيح، وعلمنا أنها تقرر تلك الأصول الثلاثة:
أولاً: توحيد الله عز وجل بألا يعبد في الملكوت سواه.
ثانياً: تقرير نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته.
ثالثاً: تقرير مبدأ البعث الآخر أو الحياة الآخرة، البعث والجزاء.
فهذه السورة على جلالتها تقرر هذه الأصول الثلاثة، وقد علمنا أن العبد إذا عرف الله ثم عبده وحده حيي وأصبح حياً يسمع ويبصر ويعطي ويأخذ، فإذا آمن بالله رباً لا رب غيره وإلهاً لا إله سواه، فكيف يعبده؟ لا بد من طريق محمد صلى الله عليه وسلم، فآمن بالرسالة، ولِمَ يعبده؟ يعبده لأن يكرمه يوم يلقاه، وينزله في منازل الأبرار، فهو -إذاً- مؤمن بهذه القواعد أو الأصول الثلاثة، وهنا هذه الآيات الثلاث قبل الشروع في تفسيرها نسمع تلاوتها من أبي بكر المدني تلميذ شيخكم فتح الله عليه وعليكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:33-35].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )[الأنعام:33]، وفي قراءة سبعية: (ليُحزِنُك) من: أحزنه يحزنه، وقراءة (لَيحزُنَك) من: حزنه يحزنه.
من القائل: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )[الأنعام:33]؟ إنه الله تعالى، والله إنه الله، إذ هذا كلامه في كتابه، من المخاطب بهذا؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(قَدْ نَعْلَمُ )[الأنعام:33]، وعزتنا وجلالنا ( إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )[الأنعام:33]، ومعنى يحزنك: يصيبك بالحزن والغم والكرب، لماذا؟ لأنهم يقولون: كذاب، ساحر، شاعر، مجنون، مفتر، ويأتون بالأباطيل والترهات وكلها يضفونها عليك، فنحن نعلم منك هذا.
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )[الأنعام:33]، أي: يدخلونك في دائرة الحزن والغم والكرب، ونحن أرحم بك منك بنفسك، فاصبر يا رسولنا! وهذا يتفق -أيضاً- مع كل مؤمن يدعو إلى الله ليعبد وحده، فيجد من يسخر منه ويهزأ به، ويكذبه ويعترض طريقه، إذاً: فليذكر هذا فيجد فيه الأسوة والقدوة فيتحمل ويصبر على دعوة الله.
تكذيب الكفار ليس لشخص النبي وإنما لما جاء به من دين
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ )[الأنعام:33]، وقرئ: ( فإنهم لا يَكْذِبونك )، والكل صحيح، ( لا يُكَذِّبُونَكَ )[الأنعام:33] عندما يردون عليك ويقولون كذا وكذا هم في نفس الوقت يعلمون أنك ذو الصدق وأنك أصدق الخلق، وأنك لا تكذب، وما جربوا عليك كذبة واحدة قط، فإذا اعترضك المعترضون وأخذوا يطعنون ويصفونك بتلك الصفات الباطلة فلا تفهم أنهم يعتقدون ذلك، بل يعلمون أنك رجل الصدق، وكبارهم كالأخنس بن شريق وأبو جهل وأبو سفيان كلهم يعرفون أنه صادق فيما يقول، وحاشاه أن يكذب، ولكن الدفاع عن المصلحة عن الموقف عن الشرف عن المركز أصحابه يقولون الباطل، لكن -يا عبد الله- لا تحزن ولا تكرب إذا هم وصفوك بما أنت بريء منه؛ لأنهم لا يعتقدون ذلك فيك أبداً، وإنما حملهم على ذلك أن يبقوا على ألهتهم وعبادتهم وعاداتهم، وأن تبقى الأمة مجتمعة عليهم، فيدفعون بهذا القول، وهذا فيه تسلية لرسول الله وتعزية له، فإذا لم يعزه الله ويصبره فكيف سيصبر؟ كيف سيثبت وهو فرد ضده العالم بأسره.
عماية الظالمين عن الحق مكابرة وعناداً
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ )[الأنعام:33]، ماذا؟ ( وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ )[الأنعام:33]، هذه صفتهم، هذه شنشنتهم وعادتهم، الظالمون يكذبون، ولكن الظالمين يكذبون بآيات الله، ومنها أنت يا رسول الله، أنت آية من آيات الله، يكذبون بآيات الله المقررة للتوحيد والداعية إليه، الآيات المبطلة للشرك والمحاربة له، ظلمهم يحملهم على التكذيب، وهذه أيضاً سنة بشرية، فالظالم الذي يعيش على غير صراط الله المستقيم لا بد أن يجحد وينكر ويكذب، ديدنه: لا أعترف، لا أقول بهذا، هذا باطل، هذا كذا، دفاعاً عما يحميه ويذود عنه، هل تتبدل هذه السنة؟ لا تتبدل.إذا أصبح المرء ظالماً يضع الأمور في غير موضعها، وظلم نفسه وظلم غيره؛ فهذا الذي يدافع عن الباطل ويكذب بكل آية، لو شاهد الملائكة تنزل لقال: ما شاهدنا. كما قال تعالى في سورة الحجر: ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ )[الحجر:14]، رحلة إلى الملكوت الأعلى هذا صاعد وهذا هابط، نزهة يوم كامل، ففي المساء لن يعترفوا، ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ )[الحجر:14-15]، فقط أصاب أبصارنا السكر فهي فاقدة الشعور فظننا أننا نصعد إلى السماء ونهبط، أو لقالوا: سحرنا محمد صلى الله عليه وسلم، ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا )[الحجر:14] طول النهار ( فِيهِ يَعْرُجُونَ )[الحجر:14]، والذي يعرج يهبط، ( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ )[الحجر:15]، من أخبر بهذا؟ إنه خالق قلوبهم وغارز غرائزهم وطبائعهم، وإلى يوم القيامة، هذا شأن المنكرين للحق المحاربين له ولأهله، لا ينفعهم آي ولا ينفعهم معجزة، ما يريدون أن يتبعوا.
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ )[الأنعام:33]، هذا يسليك، ما اتهموك بالكذب أبداً، بل يعرفون أنك صادق أمين، ما جربوا الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم أربعين سنة قبل النبوة، ويعترفون بهذا ويقررونه حتى أبو جهل ، ولكن العلة أن الظالمين يجحدون بآيات الله؛ لأنها تتنافى مع ظلمهم وما هم عليه.
تفسير قوله تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ...)
الآية الثانية: يقول تعالى: ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )[الأنعام:34]، هذه هي التعزية والتسلية وحمل الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يثبت ويصبر؛ لأنه يعاني شدائد وآلاماً ما عرفناها، وأنت طول عمرك لو يكذبك أحد يوماً من الأيام ويتهمك تكرب وتحزن.(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ )[الأنعام:34]، كذب نوح، كذب هود، كذب صالح، كذب شعيب، كذب موسى، كذب هارون، كذب إبراهيم، رسل كذبوا من قبلك، ( فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا )[الأنعام:34]، فاصبر أنت يا رسولنا كما صبر إخوانك الذين سبقوك من الرسل، اصبر على دعوة الله لا تتركها أو تتنكر لها، أو تصبح تدعو يوماً وتغيب آخر تطلب إجازة وراحة، بل صبر متواصل.
ذكر خبر نبي الله يونس عليه السلام
وقد أعلمنا الله عن نبيه ذي النون، وقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) من باب إكرام الرسول له، فيونس عليه السلام ما أطاق وما اصطبر فترك القوم وهرب، وشاء الله أن يحدث له حادث في البحر، ثم يعود فيجدهم كلهم مؤمنين، ولا يوجد على سطح الأرض أمة آمنت كلها إلا قوم يونس، والقصة كما هي في سورة: ( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا )[الصافات:1]، حين تألم وضاق وما أطاق، هذا يسب وهذا يكذب وهذا يشتم، يستجيب واحد وينكر مائة، فهرب إلى ساحل البحر -البحر الأحمر هذا أو الأسود- ووجد سفينة مبحرة أوشكت أن تبحر فركب، لما ركب السفينة صاح ربانها وقال: الحمولة ثقيلة ولا بد من غرق السفينة أو تسقطون واحد منها تخففون حملها. من يتطوع.. من يتبرع لإنقاذ الركاب؟ ما وجدوا أحداً، فاضطروا إلى الاستهام -أي: الاقتراع- فاستعملوا القرعة، فمن خرجت القرعة عليه كان هو الذي يلقى في البحر وتسلم السفينة بركابها، فاقترعوا فجاءت على يونس: ( فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )[الصافات:141-144] إلى يوم القيامة، ولكن كان في ظلمات البحر وبطن الحوت يسبح: لا إله إلا أنت سبحانك إنك كنت من الظالمين، كما قال تعالى: ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ )[الأنبياء:87-88].وورد أن من أصابه غم أو هم أو كرب ففزع إلى الله بهذا الذكر فرج الله ما به، لكن يصبر، ما هي ساعة أو ليلة، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فلما استجاب الله له ولفظه الحوت على ساحل البحر أنبت الله عليه شجرة اليقطين الدباء؛ لأن ورقها ناعم من جهة، ومن جهة أخرى لا يقع الذباب عليها، وهو قد نضج لحمه من الحرارة في بطن الحوت، فبقي حتى تماثل للشفاء وهو تحت تلك الشجرة، ومن أين يشرب ويأكل؟ سخر الله له وعلاً من الوعول تأتي من الجبل فتقرب منه وتدنو منه فيرتضع ثديها بفمه حتى تماثل للشفاء وعاد وإذا بأهل القرية كلهم مؤمنين، أسلم أهل القرية كلهم.
والشاهد عندنا ماذا؟ ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا )[الأنعام:34]، السخرية التي تلقاها نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً، ما سخرت أمة برسولها كما سخرت أمة نوح بنوح، ومن أراد أن يرى فرعون يسخر من موسى فليقرأ القرآن.
أهمية الصبر في حياة الأنبياء والدعاة
الشاهد عندنا أن الله تعالى يوجه رسوله أن: اصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، فقد كذبوا وأوذوا ( حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )[الأنعام:34]، إذاً: فاصبر أنت فلا بد أن يأتي نصرنا، وهكذا دعاة الخير والحق إذا صبروا لا بد أن ينتصروا.
أخشى أن يفهم هؤلاء المكفرون للمسلمين والمدعون للجهاد أنهم الذين سينتصرون، والله لا ينتصرون، ما هم بأولياء الله، ما هم بدعاة إلى الله، بل دعاة الفتنة والضلال.
فقول ربنا جل ذكره وهو يخاطب مصطفاه وحبيبه: ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا )[الأنعام:34]، ما هو بتكذيب فقط، الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند الكعبة لما سجد جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور، والسلا: ما يخرج من بطن البهيمة عند الولادة، حيث نتجت ناقة عند الصفا وبقي سلاها، فجاء بالسلا ووضعه بين كتفي رسول الله وهو ساجد، هل هناك أعظم من هذا الأذى؟ أما في أحد فقد كسرت رباعيته وشج وجهه ودخل خوذتا المغفر في وجنتيه.
والشاهد عندنا: ( وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )[الأنعام:34]، اسمع! ( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ )[الأنعام:34]، كلمات الله التي فيها الوعد والوعيد هل تتبدل؟ إذا وعد بالنصر تحقق النصر، وإذا أوعد بالعذاب نزل العذاب.

يتبع

ابوالوليد المسلم
06-08-2021, 08:35 PM
النصر نتيجة المسلك الصحيح في الدعوة لا مسلك العنف
أقول: إن الدعاة الصالحين البررة دعاة الحق الذين يسلكون مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان الحق والهدى، لا بالاغتيالات والسب والشتم والتكفير، هؤلاء لو صبروا ينصرهم الله، لهذا الوعد الإلهي: ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا )[الأنعام:34]، إلى متى؟ ( حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )[الأنعام:34]، وإن ارتبت أو شككت فالله يقول: ( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ )[الأنعام:34]، إذا قضى الله تعالى أمراً فلن تستطيع دولة ولا أمة ولا شخص أن يمحوه ويستبدله بآخر، إذا قدر أمراً ينفذ كما أراد الله، وقد قضى أن ينصر أولياءه، ما وجد أولياء لله في صدق وحق يدعون إلى الله وإن أوذوا وإن كذبوا إلا نصرهم الله، ولا نشك في نصرة الله لهم، لكن الآن أين هؤلاء؟ أين هؤلاء الدعاة؟أما جماعة التكفير والتفجير فهؤلاء أبرأ إلى الله من أن يكونوا أولياء الله أو يكونوا مع الله حتى ينصرهم، ولن ينتصروا، هل فهمتم هذا التعقيب أم لا؟
هم يقولون: كذبت رسل قبلنا وأوذوا حتى نصرهم الله ولا مبدل لكلمات الله، وسينصرنا الله، ونقول: الذي يقول هذا القول هو الذي يدعو إلى الله بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول في مكة مكث ثلاث عشرة سنة، فهل أمر صلى الله عليه وسلم أن يغتال واحداً من المشركين؟
لقد أوذي وأوذي أصحابه، وكان يمر بهم وهم يعذبون ويقول: ( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة )، فلِمَ لم يوعز إلى حمزة البطل أو عمر أن: اغتل أبا جهل وأرحنا منه؟ فأين الاغتيالات؟
ولما جاء إلى المدينة ماذا فعل؟ صالح اليهود من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وكتب عقداً عجباً لو تقرءون وتعرفون ما فيه، لكن لما نقضت كل قبيلة عقدها استحلت العقاب والعذاب، فأول من نقض بنو قينقاع فأجلاهم، وما قتلهم ولا صلبهم ولا سلب أموالهم، أجلاهم وأبعدهم عن المدينة، فالتحقوا بديار الكفر.
وبنو النضير كذلك هموا بقتله وتآمروا عليه وأرادوا أن يقتلوه، وحاصروهم وانقادوا واستسلموا وأخذوا أموالهم وما يملكون والتحقوا بالشام.
وبنو قريظة لما انضموا إلى المحاربين قتلهم، لكن ما قتل أطفالهم ولا قتل نساءهم، وإنما قتل مقاتلتهم من رجالهم، فهذا دين الله يشوهونه ويدوسونه بنعالهم ويقولون: هذا دين الله.
معنى قوله تعالى: (ولقد جاءك من نبأ المرسلين)
(وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ )[الأنعام:34]، ولقد جاءك -يا رسولنا- من نبأ المرسلين السابقين، قص عليه قصة موسى وهارون، فموسى دعا إلى الله أربعين عاماً، ونوح دعا تسعمائة وخمسين عاماً، وإبراهيم دعا ثمانين أو ومائة وعشرين سنة، وهكذا جاء من نبئهم، وكذلك يوسف عليه السلام، كل الأنبياء صبروا، فحين تجيئك أنباؤهم تحملك على الصبر والثبات كما صبروا وثبتوا. (وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ )[الأنعام:34]، جاءه بأي واسطة .. بأي طريق؟ بطريق القرآن والوحي الإلهي، مفرقاً في سور القرآن هنا وهناك.
تفسير قوله تعالى: (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ...)
وقوله تعالى: ( وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ )[الأنعام:35]، هل هذا فيه عتاب للرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا. بل فيه حمل له على زيادة الصبر والثبات، وإن كان كبر عليك إعراض قومك وما استطعته وما أطقته، إعراضهم عن دينك وعما جئت به، يسمعون كلمة لا إله إلا الله فيلوون رءوسهم ويلتفتون إلى غيرك، إذا كبر عليك هذا الإعراض وما أطقته لضعفك لبشريتك؛ فماذا تصنع؟(فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ )[الأنعام:35]، أي: سرباً تحت الأرض وتغوص فيه وتبحث عن آية من الآيات، ( أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ )[الأنعام:35]، درجة بعد أخرى؛ حتى تصل إلى الملكوت الأعلى وتأتيهم بآية فافعل، لكن ما هو من شأنك وما ذلك في قدرتك ولا تستطيع، إذاً: ما عليك إلا الصبر. أرأيتم هذه المواجهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هذه لو قيلت لواحد منا لذاب؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يعاني في مكة ما يعاني.
وإن استطعت أن تبتغي تطلب لك نفقاً في الأرض سرباً من الأسراب فتأتي بآية، أو تتخذ سلماً إلى السماء فتأتيهم بآية فافعل، ولكن ما هو شأنك هذا ولا تستطيعه ولا تقدر عليه، فلم يبق -إذاً- إلا التحمل والصبر على الأذى، لكن وعد الله آت ونصرته حقيقية، فقد مكث ثلاث عشرة سنة، أضف إليها سنة في المدينة، وفي السنة الخامسة عشرة هزمهم في بدر، قتل فيها سبعون طاغوتاً من طواغيت المشركين وعلى رأسهم أبو جهل .
هكذا يقول تعالى له: ( وَإِنْ كَانَ )[الأنعام:35]من باب الفرض ( كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ )[الأنعام:35]، وما أطقته، وما المراد من إعراضهم؟
إعطاؤه عرضهم، أي: لا يسمعون كلامه، ولا ينظرون إليه، إما أن يدخلوا أصابعهم في آذانهم، إما أن يستغشوا ثيابهم، إما أن يقولوا: اتركوه فإنه يقول الباطل، فهل هذا يؤلم أم لا يؤلم، أنا مقبل عليكم، أدعوكم إلى ربكم، إلى سعادتكم وأنتم إما تضحكون وإما تقولون: دعوه يصيح، سبحان الله! هذا يتكرر مع البشرية إلى يوم القيامة، والله لا يوجد داع بحق إلا وسيلحقه هذا الأذى، وما عليه إلا أن يصبر فينصره الله، فالعاقبة له، وإلى الآن ما ظهرت جماعة تدعو وتصبر، ما رأينا.
(وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ )[الأنعام:35]، النفق: هو السرب في الأرض، والجمع: أنفاق.
(أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ )[الأنعام:35]، قالوا: السلم مأخوذ من السلامة؛ لأن الهابط لا يسلم، لكن الصاعد يسلم.
(فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ )[الأنعام:35]، ما المراد من الآية؟ ما هي آية قرآنية، الآية هنا هي المعجزة، كأن ينزل ملك الموت ويميت عشرة أو عشرين منهم، أو ينشق القمر، أو يخرج ميت من المقبرة، أو ينزل الذهب من السماء وهم يشاهدون، فالآية: هي الخارقة للعادة التي ما جرت العادة بها، وهي المعجزة؛ من أجل أن يؤمنوا، وقد أعلمه الله أنهم لا يؤمنون ولو رأوا كل آية؛ لأن الله كتب عذابهم في جهنم.
معنى قوله تعالى: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى)
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35]، فلهذا لا يكلفك الله ولا تكلف نفسك بما هو غير مطاق ولا مستطاع، لا تبحث في الأرض ولا في السماء، فوض الأمر إلى الله، فالله لو شاء هدايتهم لهداهم، ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35]، وقد فعل؛ فما هي إلا ثلاث عشرة سنة وأضف إليها ثماني وإذا مكة كلها أنوار لله، ليس هناك من يقول: يا عزى ولا يا لات، كلهم يعبدون الله عز وجل، وقبل أن يقبض والجزيرة كلها على: لا إله إلا الله، فهل جاء النصر أم لا؟ ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35]، وهم الآن مجتمعون على الباطل، والهدى متفرقون عنه معرضون، لكن لو أراد الله لصرف قلوبهم عن الباطل إلى الحق، ولأصبح كل من يسمع لا إله إلا الله يجيب، لو شاء تعالى ذلك، لكن لم لا يشاء؟ لقد عرفنا أن الله حكيم، أوجد عالم الشقاء وعالم السعادة، النار والجنة، الجنة فوقنا والنار تحتنا، أوجد هذين العالمين وأوجد لكل إنسي وجني منزلاً فيه، منزل في الجنة وآخر في النار، هذا ملكه وتدبيره، فهل إذا قمت تبني في دارك يقال لك: لماذا؟ أو تغرس فيه غرس يقال: لا تفعل هذا؟ فهكذا أراد الله هذا، فأعد الجنة والنار، ثم وضع القانون الذي يدخل الجنة والذي يدخل النار، هذا القانون أن يبعث الرسول في أمة من الأمم، في جماعة من الجماعات، يدعوهم إلى الله، يحببهم إلى ربهم، يعرفهم به، فإن استجابوا وأقبلوا وتابوا وطهروا فمنازلهم دار السلام، وإن استكبروا وأعرضوا وأدبروا وحاربوا فمآلهم دار البوار جهنم، أليس كذلك؟
إذاً: فلو شاء لهدى الناس أجمعين، لكن إذا هداهم فمن سيدخل النار؟ ولماذا أوجدهاسبحانه؟! لا بد من وجود الكافرين، فلو شاء الله لهداهم أجمعين، لكن تلك الهداية القسرية القهرية بأن يدخل الإيمان في قلوبهم لا تنفعهم، لكن لا بد من هداية يطلبونها، ويجرون وراءها؛ حتى يظفروا بها ويحصلون عليها.
( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35]، ومعنى هذا: خفف من كربك وحزنك وألمك يا رسولنا! وهذه الآيات ما نزلت إلا للتخفيف عن الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه الآيات الثلاث ما فيها إلا معنى التخفيف عن رسول الله؛ لما يعاني من الكرب والحزن والألم.
معنى قوله تعالى: (فلا تكونن من الجاهلين)
وقوله أخيراً: ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:35]، هذه صفعة على وجوهنا، هل الجهل محمود أم مذموم؟ والجواب: مذموم، لو كان محموداً لما قال الله لرسوله: ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:35]، ولقال: كن من الجاهلين، قال: إياك أن تكون من الجاهلين، وكل كافر جاهل، كل مشرك جاهل، كل ظالم فاسق فاجر -والله- جاهل، إذ لو علم لما فسق ولا فجر، ولما كذب ولما كفر. إذاً: هذه الآية تذم الجهل، فهيا نبتعد عنه، ووالله العظيم! للكروب والآلام والمصائب التي تنزل بالمسلمين اليوم وقبل اليوم منذ مئات السنين سببها الجهل، فهل قيل: العالم الفلاني عالم بحر وهو فاجر؟ والعالم الفلاني يقتل الناس؟ والعالم الفلاني يعذب امرأته؟ والله لأعلمنا أتقانا، قرر هذا الله في كتابه: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )[فاطر:28]، والرسول قال: ( أنا أعلمكم بالله وأتقاكم له )، لكن العلم خلاف الجهل، فالعلم بم يكون، بصنع البقلاوة والحلاوة؟
يكون بمعرفة الله معرفة يقينية، وبما يحب الله وبما يكره الله، وبوعده لأوليائه ووعيده لأعدائه، هذا العلم هو الذي تتم به سعادة الفرد والجماعة، أما الجهل فيقول الله لرسوله عنه: ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:35] الحمقى الذين فقدوا الحلم والبصيرة، الذين فقدوا المعرفة والطريق إلى الله، لا تكن منهم.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
مرة ثانية أسمعكم الآيات فتأملوا، وقد قلت لكم: إنها نزلت من أجل ماذا؟ تسلية رسول الله وتعزيته حتى يخف عليه الحمل الذي هو عليه.(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ )[الأنعام:33-34]، وقد يأتيك نصرنا إذ وعدك الله به، ( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ )[الأنعام:34]، قصص تضمنها القرآن الكريم فيها العزاء وفيها الحمل على الصبر، فيها ما فيها من عجائب الدعوة، جاءته صورة القصص بما فيها، الشعراء، النمل، ثم قال له: ( وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ )[الأنعام:35] يا رسولنا وما أطقت وما استطعت، فماذا تفعل؟ ( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ )[الأنعام:35] فافعل، وهل يستطيع؟ وحين يحفر في الأرض ألف كيلو هل يجد ما يريد؟ أيجد آية، أخرجها؟ ولو غاص في الأرض وجاءهم بعجيبة ما صدقوا، ما كانوا مستعدين لأن يؤمنوا، أو سلماً في السماء، فتصعد وتأتي بعجيبة من السماء ولا يؤمنون؛ لأنهم ظالمون وعارفون أنك على حق، لكن يريدون البقاء على حالهم ومركزهم وديانتهم.
(وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ )[الأنعام:34-35]، فافعل ولكن لا تستطيع، ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35].

إذاً: فلا تكرب ولا تحزن، وادع فقط، وبَيِّن، استجاب من استجاب فما أنت بمسئول، وهذه هي دعوة الله إلى اليوم، فإذا رأيت شخصاً على وسطه برنيطة فقل له: يا عبد الله! ما ينبغي هذا. فإن نزعها حمدت الله، وإن قال: ماذا فيها؟ فاسكت، وكذلك تقول: يا أمة الله! غطي وجهك، لا ترفعي صوتك، فإن سكنت ورضيت فالحمد لله، وإن قالت: ماذا في ذلك؟ فاسكت؛ لأن القلوب بيد الله عز وجل، واذكر قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35]، إذاً: ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:35].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
هداية هذه الآيات نسمعكموها، أربع هدايات تأملوا فيها: [ أولاً: ثبوت بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ]، فالرسول بشر، فكيف ثبتت بشريته؟ لأنه يكرب ويحزن، فهذا بشر أم ملك؟ ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ )[الأنعام:33]، يقع في الحزن.
[ أولاً: ثبوت بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذا هو يحزن لفوت محبوب كما يحزن البشر لذلك ]، كما يحزن الناس لذلك.
[ ثانياً: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر حتى يأتيه موعود ربه بالنصر ]، وصبر ثلاثاً وعشرين سنة وجاء النصر.
[ ثالثاً: بيان سنة الله في الأمم السابقة ]، فالتكذيب والعناد والوقوف في وجه الدعوة هذا شأن الأمم السابقة، ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )[الأنعام:34].
[ رابعاً: إرشاد الرب تعالى رسوله إلى خير المقامات وأكمل الحالات بإبعاده عن ساحة الجاهلين ]، ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:35]، وعلى كل مؤمن ومؤمنة ألا يكون مع الجاهلين في فسقهم وظلمهم وفجورهم وخطئهم وباطلهم، وبهذا يجب أن نجتمع على كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتنا وبيوت ربنا؛ حتى نخرج من هذه المحنة فتنة الجهل والعياذ بالله تعالى.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
06-08-2021, 08:37 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام - (3)
الحلقة (370)
تفسير سورة المائدة


يرسل الله عز وجل الرسل وينزل معهم الكتب لتبليغ شرعه سبحانه للناس، لكن سنة الله التي لا تتبدل أنه لا يقبل هذه الدعوة كل أحد، ولا يذعن لها كل المدعوين، فمن كان قلبه حياً قبلها وانتفع بها، أما من كان أصم لا يسمع وأبكم لا ينطق فإنما يعيش في ظلمات الكفر وحاله كحال الميت الذي لا ينتفع بدعوة ولا ذكرى، وهؤلاء وأولئك داخلون تحت مشيئة الله، فمن أراد له الله الهداية اهتدى، ومن أراد له الضلالة هلك في مهاوي الردى.

تفسير قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، وها نحن نستمع إلى تجويد الآيات الثلاث التي ندرسها إن شاء الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[الأنعام:36-39].
الاستجابة للحق لا يكون إلا ممن يسمعون
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ )[الأنعام:36]، إي والله، إنما يستجيب لدعوة الحق ويقبلها ويأخذ بها الذين يسمعون، أما الذين لا يسمعون فأولئك الذين يدخلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا، أولئك الذين يستغشون ثيابهم حتى لا يسمعوا، أولئك الذين إذا سمعوا صوت الحق أو كلمته أدبروا وأعرضوا، ما يريدون أن يسمعوا، فهؤلاء لا يستجيبون، فلا تأسف يا رسولنا ولا تكرب ولا تحزن عليهم.(إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ )[الأنعام:36]، والسماع بواسطة هذه الحاسة أو الآلة: الأذنين، ولو شاء الله ما سمع أحد، ولكن وهبنا الله هذه الآلة التي نسمع بها، فإذا أراد المرء أن يسمع سمع، ولكن إذا أبى أن يسمع كره كلام المتكلم؛ لتعارضه مع مصالحه وفوائده، فهذا لا يستجيب أبداً، فادع أنت بأعلى صوتك: أيها الناس! توبوا إلى الله إلى ربكم. فالذين يسمعون النداء لأنهم متهيئون وليس هناك موانع ولا حجب تحجبهم سيستجيبون لك، والذين لا يسمعون لإعراضهم وكبرهم وعدم رغبتهم في الدعوة الإسلامية، هؤلاء لا يستجيبون، فلا تتألم ولا تحزن ولا تكرب.
فحصر الله تعالى استجابة دعوة الداعي فيمن يسمعونه، أما الذين فقدوا حاسة السمع بمكرهم وكفرهم وخداعهم وباطلهم؛ فهؤلاء لا يستجيبون ولو ظللت يومك كاملاً تقول: أيها الناس! أنقذوا أنفسكم، زكوا أرواحكم، هذبوا عقولكم، لا يستجيبون.
تشبيه حال المعرضين عن سماع الحق بالموتى
فبهذا خفف الله تعالى عن رسوله ألم النفس الذي يلحقه من إعراض المتكبرين واستكبار المشركين: ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )[الأنعام:36]، فالذين لا يسمعون في الحقيقة هم الموتى، ضع ميتاً بين يديك وناده: يا فلان ثلاثاً أو سبع مرات فإنه لا يستجيب؛ لأنه ميت.والذين أعرضوا عن الحق وتعمدوا الإعراض؛ لأنه تنافى مع ما هم عليه من الباطل والشر شأنهم شأن الموتى، فهم موتى وسوف يبعثهم الله ويحاسبهم ويجازيهم.
(وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )[الأنعام:36]، أي: يرجعهم الملائكة ويقودونهم إلى ساحة فصل القضاء، فالجملة -كما بينت لكم- فيها تخفيف عن رسول الله، وعن كل مؤمن يدعو إلى الله ويعارض، ولا يسمع له ولا يستجاب لدعوته، فليذكر هذا ليخف ألمه عن نفسه، إذ الذين يستجيبون هم أهل السمع المتهيئون لأن يسمعوا الحق والخير ويقبلوه، والموتى لا يستجيبون، ومصيرهم أن يحشرهم الله إليه ثم يجمعوا إلى ساحة فصل القضاء ليلقوا جزاءهم، فاتركهم لذلك.
وقوله تعالى: ( وَالْمَوْتَى )[الأنعام:36] فيه لطيفة: هي أن الذي لا يسمع الحق ويعرض عنه كالميت؛ لأن الميت -والله- لا يسمع أبداً، أما الحي فالمفروض أنه يسمع، فإذا كان لا يسمع وأنت تصرخ في وجهه وتدعوه إلى الحق والخير والفضيلة وهو مكب على الباطل والرذيلة فإنه ميت.
(وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ )[الأنعام:36] من قبورهم، ثم يساقون ويجمعون في ساحة فصل القضاء ليجزيهم الله عز وجل على كفرهم وشركهم وعنادهم، هكذا يسلي الله تعالى رسوله، ويبين للمؤمنين هذه الحقيقة، فالذي لا يسمع نداء الحق والخير اعتبره من الأموات؛ إذ لو كان حياً لكان يسمع، واتركه إلى الله فسوف يحشره الله عز وجل في ساحة فصل القضاء ويرجع إليه ويجزيه بما هو أهل له، هذا معنى قوله تعالى: ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )[الأنعام:36].
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه...)
ثم قال تعالى: ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ )[الأنعام:37]، من القائل هنا؟ المشركون، أبو جهل وعقبة بن أبي معيط والأخنس بن شريق ، أولئك الطغاة العتاة، ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ )[الأنعام:37]، وبذلك نؤمن ونتبعه ونمشي وراءه، أما إذا لم يعط الآية وما شاهدناها فلا نؤمن، والمراد من الآية كأن يحيي لهم ميتاً، أو أن يروا الملائكة ينزلون وهم يشاهدونهم، أو يأتيهم بخارقة من خوارق العادات التي تعجز الناس عادة، وبذلك يقولون: نؤمن، والله يعلم أنهم لا يؤمنون.(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ )[الأنعام:37]، بمعنى: هلا أنزل عليه آية من ربه، كما كانت تنزل على أنبياء ورسل من قبله. ‏
معنى قوله تعالى: (قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون)
فعلم الله تعالى رسوله الجواب كيف يرد عليهم، فقال لهم: ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً )[الأنعام:37]، ما هو بعاجز أبداً، ( إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً )[الأنعام:37]، ولو كانت كوكباً من السماء ينزل إلى الأرض، أو الملائكة يشاهدونهم، أو ينادي أهل القبور فيأتون أحياء يمشون، وقد طالبوا بانشقاق القمر فانشق القمر.(وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )[الأنعام:37]، وهذا هو السر والحكمة في عدم استجابة الله لهم، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )[الأنعام:37]، لو كانوا يعلمون لعلموا أولاً: أنهم إذا نزلت الآية ولم يؤمنوا يهلكون ويدمرون كما هي سنة الله، فلو كانوا يعلمون الحكمة في عدم إنزال الآية ما طالبوا بها، ولكن جهلهم هو الذي حملهم على أن يطالبوا بهذه المطالب.
ثانياً: لو كانوا يعلمون الحكمة والسر في عدم إنزال الآية لعلموا أن الله عز وجل يبعث رسوله وينزل عليه كتابه ويأمره بالبيان والبلاغة والدعوة إليه، فمن استجاب فزكى نفسه وطيبها وطهرها بالإيمان والعمل الصالح فاز بولاية الله وكرامته، وأسكنه الله فسيح جناته، ومن استكبر وآثر الدنيا والشهوة وأعرض اسودت نفسه وخبثت روحه وكان من أهل الجحيم والعياذ بالله.
لكن هم لا يعلمون هذا، ولهذا قال تعالى: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )[الأنعام:37]، كلهم لا يعلمون، ولكن من باب الاحتراز قال: (أكثرهم)، فقد يكون بينهم من يعلم شيئاً من هذا.
عظيم جهل المشركين في طلب الآيات الكونية وإعراضهم عن الآيات القرآنية
(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ )[الأنعام:37]، هم يؤمنون بالله رب محمد والعالمين ورب البيت العتيق، وهذه المطالبة كانت ليصروا على كفرهم وشركهم وعنادهم، وحتى يصرفوا الجهلاء والعوام والأتباع عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هذا الكلام يقوله بعضهم لبعض؛ حتى لا يؤمن أحدهم ولا يستجيب، فقالوا: ( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ )[الأنعام:37]، لو كان كما يدعي أنه رسول الله وأنه لا إله إلا الله؛ فهلا أنزل عليه آية تدل على ما يقول؟ وسبحان الله! إن الآيات القرآنية النازلة أعظم من الآيات المطلوبة؛ لأن الآية المطلوبة أن تنشق السماء أو ينزل مطر أو ينطق ميت ثم تنتهي بعد ساعة، لكن آيات القرآن خالدة، كيف يكون لأمي لا يقرأ ولا يكتب أن يتكلم بهذا الكلام، ويتلقى هذه العلوم والمعارف؟ إنها ليست من عنده، بل من الله.فكيف لا يكون نبياً ورسولاً؟ كيف يطلب الحجة على أنه رسول الله وهو يتكلم بكلام والله يأمره ويقول: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ) [الأنعام:109]، ولكن من كتب الله شقوتهم وضلالهم لا يستجيبون، بل يعاندون ويكابرون حتى يموتوا على كفرهم وعنادهم وشركهم.
(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ )[الأنعام:37] يا رسولنا، قل لهم: ( إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً )[الأنعام:37]، ما هو بعاجز أبداً، الذي رفع السموات فوق بعضها، الذي أوجدهم وأطعمهم وسقاهم وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً وقلوباً هل هو عاجز عن أن ينزل آية؟ وآياته في الكون كله ظاهرة، ليرفعوا رءوسهم إلى السماء فيشاهدوا الشمس والقمر والكواكب، ولكنه الجهل: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )[الأنعام:37]، فأكثر المعاندين والمجادلين والمخاصمين والمحافظين على الباطل وعلى الفساد والشر أكثرهم -والله- لا يعلمون العلم الحقيقي، العلم الذي هو أسرار وحكم الله عز وجل في خلقه وعباده.
تفسير قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ...)
ثم قال تعالى: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ )[الأنعام:38]، هذا خبر من أخبار الله تعالى، يقول عز وجل: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ )[الأنعام:38]، والدابة كل ما دب دبيباً على الأرض، أسرع في مشيه أو تباطأ، يدخل في هذا الإنسان والحيوانات التي تمشي على الأرض.(وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ )[الأنعام:38] في الملكوت الأعلى في السموات، في الكون كله ( بِجَنَاحَيْهِ )[الأنعام:38] احتراس؛ لأن العرب يقولون: طار فلان ويطير فلان مبالغة في سرعته، فأعلمهم أن الطائر الذي يطير بجناحيه، ويدخل فيه أنواع الطير على اختلافها، وهي أنواع وأمم، انظر إلى العصافير وانظر إلى الغربان والبازات، كل هذه الطائرة وكل هذه الدابة على الأرض ( أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ )[الأنعام:38]، والأمم: جمع أمة، والأمة ما يجمعها وقت واحد، أو يجمعها لسان واحد، أو يجمعها إقليم وأرض ومكان واحد، يقال فيه: أمة.

فارفعوا رءوسكم وانظروا إلى الكون، افتحوا أعينكم وأبصاركم في هذا الخلق العظيم، ومن ثم تستحون أن تقولوا: لو أنزل الله عليه آية وهذه الآيات كلها بين أيديكم.
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ )[الأنعام:38] تدب وتمشي من إنسان أو حيوان، ( وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ )[الأنعام:38] في السماء ( إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ )[الأنعام:38].

يتبع

ابوالوليد المسلم
06-08-2021, 08:37 PM
من تكون لها الرسالة من أمم الأرض
وهنا سؤال: هل يرسل الله تعالى إلى تلك الأمم رسلاً يدعونهم إليه ويعرفونهم به ليعبدوه وحده؟ أما الإنس فهذا أمر مقطوع به، وهذا رسول الله وهذا كتاب الله، أما الجن فلم يرسل الله تعالى إليهم رسلاً بمعجزات، ولكن يرسل إليهم من ينذرونهم، وهم النذر، يفهمون عن عيسى وموسى أو نوح ويبلغون إخوانهم من الجن، ويعلمونهم ما يعمله الآدميون بواسطة نبيهم أو رسولهم، وهذا دل عليه القرآن الكريم في آخر سورة الأحقاف: ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأحقاف:29-32].
أقول: يجب أن نعلم أن عالم الإنس يرسل الله تعالى فيهم الرسل، وقد بلغت الرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، والأنبياء عشرات الآلاف، والجن عالم وأمة من أمم خلق الله، هؤلاء يأتيهم الحديث والنبأ والخبر والعلم من طريق الرسول الذي يرسله الله في البشر، إخوانهم ينقلون عنه ويبلغونهم.
وأما الدواب -الطير في السماء، والحيتان في الماء، وباقي الحيوانات على الأرض- فالذي نعلمه يقيناً أنها تسبح الله عز وجل: ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ )[الإسراء:44]، والتسبيح تنزيه الله وتقديسه عن كل النقائص وعن الإشراك به والعياذ بالله، ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ )[الإسراء:44]، فالحيوانات تسبح الله عز وجل.
لكن كيف وصلها ذلك؟ هل هي غرائز غرزها الله فيها؟ هذا معقول، أن يكون فطرها على هذا، وإن شاء الله عَلََّم منها من شاء من جنسها وبلغها.
جمع الله الحيوانات يوم القيامة وتصييره لها تراباً بعد القصاص بينها
والذي يجب القطع به أن هذه الحيوانات أمة من أمم الخلق مثلنا، وسوف تجمع يوم القيامة ويقتص منها، ولهذا تحرم أذية الحيوان، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يؤذي حيواناً من الحيوانات إلا ما أذن فيه الشارع مما هو ضار مؤذ، فهذا يقتل ولكن قتله لا يكون بصورة بشعة كالتمثيل به مثلاً أو قطع بعض أجزائه، بل بالقتل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة )، وعلمنا أن الله تعالى: ( يقتص من الشاة القرناء للشاة الجماء ) التي ليس لها قرن، فكل هذه الدواب وهذه المخلوقات تحشر في ساحة فصل القضاء ويجزي الله تعالى المحسنين ويعاقب المسيئين.وهل تدخل الدواب الجنة دار النعيم أو النار دار العذاب؟ الجواب: بعدما يتم فصل القضاء ويقتص للضعيف من القوي يقول الله تعالى لتلك الأمم: كوني تراباً. فتتحول كلها إلى تراب، لا يبقى أسد ولا ثعلب ولا ذئب ولا طير ولا أحد، ودليل ذلك قول الله تعالى من آخر سورة النبأ: ( يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا )[النبأ:40]، حين يشاهد تحول تلك الحيوانات المخلوقات العظيمة إلى تراب يتمنى لو كان مثلها.
أما الإنس والجن فهم يدخلون الجنة ويدخلون النار بأجسام عرفنا الرسول بها، أجسام خلقها الله لذلك العالم، عالم الخلد والبقاء.
إذاً: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ )[الأنعام:38] في السماء، ( إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ )[الأنعام:38]، في ماذا؟ في الأكل والشرب، في المرض في الصحة، في قبول الحق في الإعراض عنه أمثالكم.
معنى قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)
ثم قال تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:38]، والتفريط: الإهمال والترك وعدم المبالاة بالشيء، ما فرطنا في الكتاب الذي هو كتاب المقادير، الذي هو اللوح المحفوظ، الذي هو الإمام المبين، كتب فيه الشقاوة والسعادة، وكتب فيه الأشقياء والسعداء، وكتب فيه عوامل السعادة وعوامل الشقاء، أسباب الشقاء وأسباب السعادة، كل هذا مكتوب مدون محصى قبل أن يخلق الله الإنس والجن، وسوف يتم الجزاء بحسب ذلك الكتاب اللوح المحفوظ والإمام المبين.ثم هنا لطيفة أخرى: قد يراد بالكتاب القرآن العظيم، نعم ما فرط الله عز وجل في القرآن من شيء تحتاج إليه العقول أو الأفكار أو الفهوم أو الأبدان إلا وبينه تعالى، إما بالتنصيص عليه أو بالإشارة إليه أو بالقياس عليه، لا يوجد شيء تفتقر إليه البشرية من أجل تزكية نفوسها أو إصلاح أعمالها أو دنياها ولم يشر إليه تعالى في القرآن، وبالتتبع ظهر هذا، لا توجد عبادة من شأنها تنقية النفس ولا عمل من شأنه إصلاح البدن إلا وفي القرآن ما يشير إليه ويذكره، فلهذا صارت هذه الجملة صالحة لكون المراد اللوح المحفوظ الكتاب المبين، وللقرآن العظيم.
ولك أن تقول: ما فرط الله في كتابه القرآن من شيء، كل ما تحتاج إليه الأمة موجود مبيّن يعرفه من عرفه ويجهله من جهله، وهذا فضل الله تعالى وإنعامه علينا والحمد لله.
معنى قوله تعالى: (ثم إلى ربهم يحشرون)
ثم قال تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ )[الأنعام:38]، ثم إلى خالقهم ومالك أمرهم ومدبر حالهم -وهو الله- يحشرون كلهم: الإنس، والجن، والحيوانات على اختلافها وتنوعها، الكل يحشر إلى الله، من يحشره ويجمعه؟ الملائكة المكلفون بالحشر والجمع، هم الذين يرجعون بالناس إلى ربهم، هذا الحشر، هذا الجمع في ساحة فصل القضاء ليتم القضاء والحكم العادل بين تلك الخلائق إنسها وجنها وحيواناتها.ولا تنسوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا في غير حديث، من ذلك: أن الله يقتص للشاة القرناء من الشاة الجماء التي لا قرن لها، ثم يقول بعد ذلك لتلك العوالم من الحيوانات: كوني تراباً فتكون تراباً.

دلالة حمل الكتاب في الآية الكريمة على القرآن الكريم
فلنتأمل قوله تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ )[الأنعام:38].وهنا إذا قلنا: الكتاب هو القرآن فمعناه أنه لم تبق حجة لإنسان يحتج بها على الله يوم القيامة إذا هو قرأ القرآن وآمن به، ويقول: ربنا ما بينت لنا كذا، أو ما علمتنا كذا. فكل ما من شأنه تزكية النفس وتطهيرها موجود في القرآن، وكل ما من شأنه أن يحفظ الجسم الآدمي سليماً والعقل البشري كذلك في القرآن، فجميع محاب الله وما يأمر به هو لتزكية النفس والحفاظ على الجسم والعقل والبدن، وكل ما حرم الله من السحر، والغش، والخداع، والقتل.. كله من أجل الحفاظ على تزكية النفس وتطهيرها، فما فرط الرحمن في القرآن من شيء.
تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات ...)
ثم قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ )[الأنعام:39] يعني: بعد هذا البيان كله فالذين كذبوا بالآيات هم الصم الذين لا يسمعون، البكم الذين لا ينطقون، العمي الذين لا يبصرون؛ لأنهم يمشون في الظلام، والماشي في الظلام هل يهتدي إلى شيء؟ لا يهتدي. آية البقرة قالت: ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ )[البقرة:18]، وهنا قال: ( صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ )[الأنعام:39] من باب تلوين العبارة، فالماشي في الظلام لا يشاهد شيئاً، وقد فقد سمعه فهو لا يسمع ونطقه فهو لا ينطق، ويضاف إلى ذلك أنه لا يرى شيئاً، وإلا فكيف يكفر الإنسان بربه؟ هو يعلم أنه مخلوق، يعلم أن الله عز وجل هو الذي أوجد له هذه الأقوات التي يأكل ويشرب، هو الذي أوجد له هذه الأرض عليها يسكن، هو الذي رفع السماء فوقه، فكيف يجحده وينكره؟ كيف يتأتى؟
ولكن التكذيب الذي ينشأ أولاً عن الجهل، ثم عن الاغترار والتقليد الأعمى، واتباع أصحاب الهوى، فإذا كذب وعرف بين الناس بأنه ينكر هذا الدين أو هذه الملة أو هذا الخلق؛ فحينئذ يفقد سمعه، تتكلم معه طول الليل فلا يسمع صوتك، يفقد لسانه فلا ينطق بمعروف أبداً، أبكم لا يستطيع أن يقول: يا بني فلان، أو يا فلان! الحق كذا وكذا. ثم هو يمشي في الظلام لا يعرف الحق ولا يهدي إليه غيره؛ وذلك لتكذيبه.
ماذا قال تعالى؟ قال: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا )[الأنعام:39] القرآنية التنزيلية، وآيات الله الكونية العلوية والسفلية؛ إذ كل كائن آية على وجود الله، البعوضة دلالة على وجود خالقها، السمكة في بطن البحر وعمقه من خلقها؟ من أوجدها؟ من غذاها؟ لا بد أن تقول: الله، فالمحنة كما كانت أولاً في الجهل هي الآن في التكذيب، المكذب من هو؟ الذي يعرف الحق وينكره، هذا التكذيب، يعرف ما تقوله أنه حق، ويقول: هذا كذاب فلا تسمعوا له. فهذا المكذب هو بمثابة الأصم الذي لا يسمع كلمة، والأبكم الذي لا يقوى على النطق بحرف واحد، والأعمى الذي لا يبصر أو الماشي في الظلام الذي لا يشاهد شيئاً. ‏
عاقبة الجهل والتكذيب بالحق
معاشر المستمعين والمستمعات! عرفتم الجهل والتكذيب، البلاء والشقاء كله من هاتين الفتنتين: الجهل: وهو عدم معرفة الأسرار والحقائق والأحكام، هذا من شأنه أن يجعل العبد يتكبر ويعرض ولا يسمع، ولكن التكذيب أعظم من ذلك، إذا كذّب الإنسان بالشيء فإنه لا يستجيب، ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ )[الأنعام:39] ظلمات الحياة، بمعنى إنهم عميان لا يبصرون.ومرة ثانية: لماذا يكذب الإنسان؟ أنا أخبركم أننا في المسجد النبوي، فهل هناك من يقول: لا؟ فالذي يكذب يقول: أنت تكذب، ما أنت في المسجد النبوي! لفائدة، لمصلحة، لغرض يتعلق به، هذا المكذب -والعياذ بالله تعالى- يفقد سمعه وبصره ولسانه، لا ينطق بالحق أبداً؛ لأنه كذب فكيف يعترف به؟ يفقد بصره فما يرى شيئاً كأنه في الظلام، ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ )[الأنعام:39]، فالتكذيب: هو إنكار الحق الثابت من أجل صرف الناس عنه، أو تحقيق فائدة ومصلحة للمكذّب.

فهذا الذي يصاب بهذا الداء -داء التكذيب- مثله مثل الأصم الأعمى الأبكم، لا يقول كلمة الخير أبداً، ما يعرف أن ينطق بها، فاقد حاسة النطق، لا يبصر ولو عرض عليه الكون كله، لا يشاهد والعياذ بالله تعالى، هكذا يقول تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ).
معنى قوله تعالى: (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم)
وأخيراً يقول تعالى: ( مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ )[الأنعام:39] رد الأمر إليه عز وجل، من يشأ الله إضلاله أضله، بيده الهداية وبيده الإضلال، ثق في هذا واطمئن، من يشأ الله أن يضله أضله، فيصبح لا يسمع ولا يبصر ولا يرى، في متاهات لا يسمع كلمة الحق ولا ينطق بها، ولا يبصر آية من آيات الله الدالة عليه؛ لأن الله أراد إضلاله: ( مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[الأنعام:39].معاشر المستمعين! أريد أن أقول: الهداية والإضلال بيد الله، فهو الخالق المدبر للكون والحياة، من شاء إضلاله أضله، ومن شاء هدايته هداه إلى الصراط الموصل إلى سعادته ونجاته.
وهنا ما الذي ينبغي أن ننتقل إليه بعدما علمنا أنه لا يملك الهداية والإضلال إلا هو؟ والله العظيم إنه لهو الذي بيده الهداية وبيده الإضلال، كما بيده أن الموت وبيده الحياة على حد سواء.
ثانياً: إذا آمنا بهذا واطمأنت إليه نفوسنا يجب أن نطلب الهداية منه ونستعيذ به من الضلال، نطرح بين يديه في كل صلاة وفي كل سجود، نسأله هدايتنا ونستعيذ به من إضلالنا؛ لأنه يملك الإضلال ويملك الهداية، هذه الثانية، وهي بعد اعترافنا بأن الهداية والإضلال بيد الله، يجب أن نعرف أن للهداية أسبابها وللإضلال أسبابه.
ويجب أن نطلب الهداية من الذي يملكها، وأن نستعيذ به من الإضلال الذي يملكه، ومعنى هذا: أنه لا بد من الافتقار اللازم للعبد، فلا تستغن أبداً عن الله.
الهداية لها أسباب، فما أسبابها؟ أن تصغي، أن تسمع، أن تستخدم حواسك وتنظر، أن تجرب فتظهر لك النتيجة فتحصل على هدايته، تسأل فقط: أنا أريد مكة فدلوني على الطريق، فيقال لك: خذ كذا وكذا ولا تلتفت إلى كذا وكذا؛ لأنك راغب في الهداية.
والذي يطلب الضلال ويعرض عن الهداية يسلك سبل الضلال: الكذب، والجهل، والعناد.. هذه كلها عوامل إضلاله، فلا تفهم أن الله عز وجل يضل مهتدياً أبداً، أو طالب هداية يحرمه لأنه قادر على إضلاله! ما قرع باب الله أحد يريد الهداية إلا هداه، ما طلب إنسان الهداية إلى الصراط المستقيم إلا هداه الله إلى ذلك، ومن أعرض واستكبر وعاند وأعرض ضل بسبب إعراضه واستكباره وعناده وتكذيبه.
هكذا يقول تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ) كيف يهتدون؟ ( مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[الأنعام:39].
تسلية الرسل والدعاة إلى الله تعالى في حزنهم لإعراض المدعوين عن الحق
أخيراً: هذه تعزي المؤمنين والدعاة وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يكربوا ويحزنوا؛ لعلمهم أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، من كتب الله ضلاله فلن يهديه، ومن كتب هدايته فلن يضله، ولكن لا بد من أن تقرع باب الله وتسأله الهداية، ولا بد أن تستعيذ به من الضلال.هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا دائماً وإياكم بما ندرس من كتاب الله ونسمع.

وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
15-08-2021, 02:02 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
الحلقة (371)
تفسير سورة المائدة (4)

كان العرب في الجاهلية يؤمنون بالله عز وجل رباً، ويلجئون إليه في الشدائد والملمات، أما حين يكونون في حال من اليسر والأمن انشغلوا بعبادة الأصنام والأوثان، وقد عاب الله عز وجل عليهم هذا الفعل، مخبراً إياهم أنه إنما يبتلي عباده ليتضرعوا إليه، ويتذللوا وينكسروا بين يديه، فمن تاب وآب قبله الله، ومن استبد به شيطانه، واستمر في طريق الغواية أملى له الله سبحانه وفتح عليه من خير الدنيا، حتى إذا فرح بها واطمأن إليها أخذه الله بغتة، ومن أخذه الله لم يفلته.
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأنعام المكية التي تعالج أصول العقيدة: التوحيد، النبوة المحمدية، البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا، إما بالجنة دار النعيم، وإما بالنار دار البوار والعذاب الأليم.
وها نحن مع هذه الآيات فليتفضل الابن بتلاوتها ونحن مصغون مستمعون، نسأل الله أن ترق قلوبنا ونحصل على أجر ومثوبة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:40-45].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[الأنعام:40] من الآمر؟ الله جل جلاله، فالقائل الله عز وجل، والمأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله يأمره أن يقول حتى يقرر مبدأ لا إله إلا الله: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ )[الأنعام:40] أيها العادلون بربكم أصناماً وأحجاراً وتماثيل، أخبروني ) إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ )[الأنعام:40] بالقحط والجدب، بالأوبئة والأمراض، بالصواعق وألوان العذاب ( أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ )[الأنعام:40] ساعة الموت، حشرجت النفس وغرغرت، ساعة القيامة ونهاية الحياة، في هذه الحالة ( أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[الأنعام:40]؟ والله لا تدعون إلا الله.
وهذه حال العرب المشركين، قد يختلفون مع بعض الأمم، فالعرب والمشركون سكان هذه الجزيرة كانوا يؤمنون بالله رباً لا رب غيره، وكانوا يلجئون إليه ويدعونه عند الشدائد، ولكن إذا كانوا في حال يسر وخير ينشغلون بالتماثيل والأصنام.
فها هو تعالى يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ )[الأنعام:40] أي: أخبروني ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ )[الأنعام:40] والعذاب ألوان وأنواع كما بينا: مرض عام، فقر، قحط، حرب، ( أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ )[الأنعام:40] الساعة هي ساعة القيامة أو ساعة الموت أيضاً، ( أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ )[الأنعام:40] وتستغيثون، وتبكون، وترفعون أيديكم (إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[الأنعام:40]؟ الجواب: لا يدعون مع الله يومها غير الله.
ذكر خبر إسلام عكرمة بن أبي جهل لاستغاثة راكبي السفينة بالله خشية الغرق
ولنذكر تلك اللطيفة التي رويت عن عكرمة بن أبي جهل ، ورضي الله عن عكرمة ولعن أبا جهل ، لما فتح الله على رسولنا مكة ودخلها بجيشه الغازي الفاتح فر غلاة الظلمة، ومن بينهم -كما تقول الرواية- عكرمة ، فنزل على ساحل البحر الأحمر يريد الخروج من الجزيرة، فوجد سفينة أوشكت على الإقلاع، فركب، ولما توسطت السفينة البحر قال الملاح: أيها الركاب! ادعوا ربكم، أخلصوا له الدعاء لينقذكم من الغرق، فأخذوا يدعون: يا ربنا! يا إلهنا! يا رب إبراهيم! يا رب العالمين! ولم يذكروا اللات ولا العزى ولا مناة ولا هبل، ففكر عكرمة وقال: هذا الذي هربت منه يلحقني حتى في البحر؟ والله لترجعن بنا إلى الساحل، وأمشي إلى محمد وأسلم بين يديه.
صور وقصص من شرك بعض المسلمين في حال الشدة

وهذه الحقيقة واضحة عندنا كالشمس، مشركونا لجهلهم لا يخلصون الدعاء لله وحده في الرخاء ولا في الشدة، والمشركون من العرب يخلصون لله الدعاء في الشدة ويشركون في الرخاء، وآيات القرآن في هذا كثيرة وواضحة، آيات القرآن المثبتة أن المشركين كانوا يستغيثون بالله ويفزعون إليه في حال الشدة، ولا يدعون اللات ولا هبل ولا إلهاً آخر، أما عوامنا وضلالنا في فترة سبعمائة سنة فكانوا يشركون في حال الشدة والرخاء على حد سواء، وقد قلت لكم: كانت المرأة تمسك بحبل الوضع في الولادة وهي تقول: الله يا سيدي فلان! فهل هناك موقف أصعب من هذا؟ وسفينة الحجاج التي ركب فيها الشيخ محمد عبده رحمة الله عليه مبحرة من طرابلس في طريقها إلى الإسكندرية، وهي تحمل الحجاج أيام الدولة العثمانية، يقول: اضطربت السفينة وخافوا الغرق، فأصبحوا يرفعون أصواتهم: يا رسول الله! يا بدوي ! يا سيدي فلان! يا سيدي فلان! وبينهم رجل معلم بصير، فما تمالك نفسه حتى قام ورفع يديه وقال: اللهم أغرقهم فإنهم ما عرفوك! وماذا يفعل غير هذا؟ في حال الموت ما عرفوا الله!
وذكرت لكم حادثة السيارة التي خاف صاحبها أن تنقلب وهو من إخواننا الموحدين، لكن دخله التوحيد على كبر سنه، وإذا به يقول: يا ألله، يا رسول الله.. يا ألله، يا رسول الله؛ خشية أن تنقلب، هذه صورة ومثلها ملايين.
أمة أبعدوها عن هذا الكتاب، هذه الآيات ما عرفوها ولا سألوا عنها قط، فكيف -إذاً- تهتدي بدون هذه؟ كيف تمشي بدون نور وتهتدي؟ لا يمكن.
إذاً: فلنستمع إلى هذه الآيات الست تقرر أنه لا إله إلا الله، لا أحد يدعى ولا يستغاث به ولا يستعاذ بجنابه ولا يطلب منه إلا الله في حال الخير والشر، والرخاء والشدة، في البأساء والضراء.
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ )[الأنعام:40] قل لهم، حدثهم ( أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ )[الأنعام:40] وقد عرفنا العذاب ألوانا وأنواعاً: فقر، مجاعة، قحط، عدو يتسلط عليهم، وباء يجتاح بلادهم، ( عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ )[الأنعام:40] ساعة القيامة أو ساعة الموت، في هذه الحالة حالة الشدة ( أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[الأنعام:40] لا والله لا يدعون إلا الله.
تفسير قوله تعالى: (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون)
قال تعالى: ( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ )[الأنعام:41] اسبقهم إلى الجواب، بل إياه جل جلاله وعظم سلطانه تدعون لا تدعون غيره ولا سواه؛ لأنكم تعرفون أنه لا يكشف كربكم ولا يزيل همكم وغمكم إلا الله، أما هذه التماثيل فلا قيمة لها.إذاً: ( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ )[الأنعام:41]، يكشف ما تدعون إليه من الغم والكرب إن شاء، ما هو بمقهور أو ملزم ولا بد؛ لأنه يعذب بحكمة ويرحم بحكمة، يعطي بحكمة ويمنع بحكمة، فلهذا كان التقييد من ألطف ما يكون ( فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ )[الأنعام:41] أي: ما تدعونه لكشفه وإبعاد ما نزل بكم ( إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:41]، لا يبقى في ذهنهم اللات، ولا العزى، ولا مناة، ولا سيدي عبد القادر، ولا العيدروس ، كل هذا يزول من آذانهم، إلا عند ضلالنا نحن فلا يزول أبداً، ولعل من الحاضرين من يشك في هذا الكلام! هل تتصور أن شخصاً يكذب على المسلمين في مسجد رسول الله؟ من جرب علينا كذباً منذ أربعين سنة؟ انزعوه من أذهانكم، إن لم يكن هذا هو الحق فما هو الحق؟

(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ )[الأنعام:41] أنتم ( مَا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:41] به، فما تقولون: يا هبل، ولا يا إبراهيم، ولا إسماعيل.. هذه حقيقة واضحة أم لا؟ المشركون العرب بخلاف مشركي النصارى أو غيرهم؛ لأن بعضهم يتصور الله في الشمس أو في القمر ويعبدهما، ولا يستغيث بالله ولا يعرفه، هذه أمة أخرى تتصور أن الله حل في جسم عيسى، فهم يدعون عيسى كأنهم يدعون الله، وهذا شرك هابط، شرك العرب الذي نزلت الآيات فيه شرك معقول، يؤمنون بخالقهم ورازقهم، ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )[الزخرف:87]، ما ينكرون هذا أبداً، يحلفون بالله وينذرون له أيضاً، فشركهم أخف من شرك الذين ألهوا عيسى والذين يؤلهون الشمس والقمر والمخلوقات.

يتبع

ابوالوليد المسلم
15-08-2021, 02:03 PM
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون)
ثم قال تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ )[الأنعام:42] يا رسولنا ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ )[الأنعام:42]، البأساء مؤنث البؤس والشدة، كالحرب، كالجوع، والضراء ما يضر ويهلك الأجسام والعقول من أنواع العذاب، فعلنا بهم ذلك لحكمتنا العالية، هم عبيدنا، لكن ابتلاءهم وامتحانهم لأجل صالحهم، سنتنا أننا بلوناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون إلينا، والتضرع هو التذلل والانكسار أمام الجبار بالصوت المنهزم، والهيئة المنهزمة، وقد بينا أيضاً في يوم من الأيام حول قوله تعالى: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[الأعراف:55] وقلنا: إن العنز ربيناها وعشنا معها في قرانا، حين تلد الجدي تراه بعينيك يأتي وله نغم خاص يطلب اللبن ليرضع، فالعنز تدنوا من الجدي، والجدي تسمع له نغماً ورعدة وصوتاً، هذا الذي بينه تعالى، هذا التضرع، فلهذا دعاء الله ما هو بالعنترية، ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا )[الأعراف:55] أي: متضرعين، متذللين، مرتعدين، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أنا إذا دعوت عرفت أنه استجيب دعائي أو لم يستجب، فقيل لها: كيف تعرفين؟ قالت: إذا أخذتني الرعدة وسالت الدموع عرفت أن دعوتي استجيب لها.وهذا ربنا يدعونا إلى هذا: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[الأعراف:55].
إذاً: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ )[الأنعام:42] يا رسولنا، أمة نوح، أمة هود، أمة صالح، أمة إبراهيم .. ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ )[الأنعام:42] أي: بالبلاء والشقاء وبالعذاب امتحاناً لهم ( لَعَلَّهُمْ )[الأنعام:42] أي: كي ( يَتَضَرَّعُونَ )[الأنعام:42]، رجاء أن يتضرعوا، فما تضرعوا، والمفروض أنهم يتضرعون، فإذا تضرعوا رفع الله عنهم العذاب والبلاء.
تفسير قوله تعالى: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون)
يقول تعالى: ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:43]. فالمفروض فينا نحن -أبناء الإسلام- إذا أصابنا كرب، هم، غم أن نفزع إلى الله عز وجل، وأن نتضرع ونبكي وترتعد فرائصنا، وتوجل قلوبنا حتى يفرج الله ما بنا، لكن هذا الباب ما فتح، أغلق عن المسلمين، هل بلغنا أن أهل إقليم مصابون بكذا وكذا فزعوا إلى الله وتضرعوا وبكوا؟ ما فعلوا، حصل عندنا في هزات اليهود حين يضربون العرب، حيث كان في الزمان الماضي يفزع العرب إلى الله، ومن مظاهر ذلك: ترك الغناء والمزامير في الإذاعات، وتبقى فقط تبث ذكر الله والكلام الطيب، وما إن يعلن عن وقوف الحرب والمصالحة حتى تعود حليمة إلى عادتها القديمة، وضع سيئ كأننا لا نعرف كلام الله ولا كتاب الله.
فربنا سبحانه وتعالى يقول: ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:43]، أي: فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا وبكوا واطرحوا بين أيدينا وسألونا العفو أو النجاة؟ ولكن العكس هو الذي كان، حيث قست قلوبهم، لهذا لم يبكوا بين أيدينا ولم يسألونا، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الشرك والمعاصي والفسوق والظلم والكفر، الشيطان زين لهم ما كانوا يعملونه، فلم يتخلوا عنه ولم يتركوه مع أنهم أصابهم ما أصابهم.
تفسير قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ...)
قال تعالى: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ )[الأنعام:44] الذي ذكرتهم به أنبياؤهم ورسلهم من وعيد الله ووعده نسوه، ( فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ )[الأنعام:44]، فالمياه تدفقت والأمطار والنباتات والزروع والضروع؛ لأنهم ممتحنون.(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ )[الأنعام:44] مما هو معروف بين الناس من المال، والذرية، والسلطان.. وقل ما شئت، ( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا ([الأنعام:44] وزغردوا وولولوا، وصفقوا وعقدوا حفلات الرقص ( أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ )[الأنعام:44]. ‏

الواجب على العبد حال تقلبه في الرخاء والبلاء
هذه الآية يقول عنها الحبر وغيره: إنها تبين لنا امتحان الرب لنا. فيا أمة الله، يا عبد الله! إن كنت في خير وعافية فإنك مبتلى، وإن كنت في شر وبلاء فإنك مبتلى، فاعرف كيف تعيش، إذا كنت في عافية ونعمة فأكثر من العبادة والطاعة والتضرع لله عز وجل والدعاء، لا تصرف تلك النعم في معاصي الله، ولا تشتغل بها فتنسى ذكر الله؛ فإنك مهيأ لأن تسلب من يديك، ثم تيأس -والعياذ بالله* وتبلس، وينقطع رجاؤك، وإذا كنت في بلاء فاعلم أن هذا البلاء له سبب هو الذنب، إذاً: فاصبر على طاعة الله، وواصل البكاء بين يدي الله وكلك صدق حتى يفرج الله تعالى ما بك، أما أنك في ساعة الرخاء تشتغل باللهو والباطل والغناء وتنسى ذكر الله، وإذا جاءتك المحنة والبلاء تفزع إلى غير الله، أو تصاب باليأس والقنوط وتعرض عن ذكر الله؛ فهذا لا يليق بالمؤمن ولا يفعله مؤمن حق أبداً.
الخيرية الكلية في حياة المؤمن في السراء والضراء
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: ( عجباً لأمر المؤمن ) المؤمن بحق وصدق ( إن أمره كله له خير )، سواء أكان شراً أو خيراً، كله خير ( وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء ) حالة مسرة مفرحة، غنى وراحة وأمن وطمأنينة ( شكر فكان خيراً له )؛ ليبقى ذلك الخير، ( وإن أصابته ضراء ) من الضر والأذى ( صبر فكان خيراً له ).( عجباً لأمر المؤمن ) عجباً لأمر من؟ المؤمن، و(أل) تدل على الوصف المتين العريق، ما قال: عجباً لأمر مؤمن، بل قال: المؤمن، أي: الحق الثابت الإيمان ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير )، بيان ذلك: ( إن أصابته سراء شكر ) ما السراء؟ الحالة المسرة المفرحة التي تفرح وتسر، سواء صحة في بدن، أو مال في الجيب، عز في البلاد، كرامة.. قل ما شئت من أنواع السراء.
ففي هذه الحالة ماذا يصنع المؤمن؟ يغني، يرقص، يكثر من الطعام والشراب، يتنقل في عواصم الدنيا يتبجح؟ أهذا هو المؤمن؟
إن المؤمن حينئذ يشكر بقلبه ولسانه، لا يفتأ يحمد الله على كل لقمة يأكلها، على كل خطوة يخطوها، شكر الله فامتثل أوامره في صدق واجتنب نواهيه في صدق كذلك، وهو لا يبرح أن يحمد الله ويثني عليه طول يومه وطول عامه، هذا كان خيراً له، تلك النعمة من صحة بدن، أو مال، أو جاه أنفقها في مرضاة الله، أنفقها في سبيل الله، ليزيد رضا الله عنه، فهو في خير.
حال غير المؤمن في تقلبه في السراء والضراء
( وليس ذلك إلا للمؤمن )، غير المؤمن إذا حصل له دولة صال وجال وظلم وفعل كما نشاهد ونسمع، وإذا أصابه ذل انكسر وتحطم؛ لأنه فاقد البصيرة أعمى، ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ )[البقرة:18]؛ لأن الإيمان الحق هو بمثابة الروح للإنسان، المؤمن الحق حي والحي لا يسلك إلا مسالك الخير والرحمة والهدى، ويتجنب مسالك الشر والباطل والفساد؛ لأنه حي، وغير المؤمن ومن كان إيمانه لا يساوي شيئاً، إيمان عن تقليد وجهل، ما عرف الله ولا سأل عنه ولا بكى يوماً بين يديه، هذه الصور كالجنسيات. أذكركم بحادثة مضت، وهذه الحوادث هي عظات وعبر لمن يعتبر، قال كاتب في مجلة أو صحيفة منذ حوالي ثلاثين سنة: إنه لقي فتاة في جدة، فسألها عن جنسيتها فقالت: مصرية، قال: والتدين؟ قالت: أظنني مسلمة! فهل هذه مؤمنة؟ أهذا هو المسلم؟
بل بأذني سمعت خارج البلاد من بين إخواننا هنا من يقول: إنما هي أوقات محدودة، وسوف ترتقي ديارنا، ويزول الحجاب والعمى ويقع ويقع ويقع! والله بأذني سمعته، انتبهتم؟ يقول: إنما هو زمن، ولن تستمر المملكة هابطة هكذا، سيأتي يوم ليس فيه هذا الحجاب وهذا التستر ، فهل هؤلاء مؤمنون مسلمون؟ ما عرفوا الإيمان ما هو ولا الإسلام.
يقول صلى الله عليه وسلم: ( عجباً لأمر المؤمن ) بحق ( إن أمره كله له خير )، بيان ذلك: ( إن أصابته سراء شكر )، بينوا لنا الشكر يرحمكم الله؟
هو الاعتراف بالنعمة بالقلب، والنطق باللسان: الحمد لله.. الحمد لله، وتسخير تلك النعمة في مرضاة الله، أعطيت ملايين الريالات فلا تنفق ريالاً واحداً في معصية الله أبداً، أعطيت صحتك وبدنك وكل هذه الطاقة فلا تمش خطوة واحدة في سخط الله، أعطيت بصرك فلا تفتح عينيك مرة واحدة في غير ما يرضي الله.. هذا هو شكر الله على نعمه.

معنى قوله تعالى: (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)
يقول تعالى: ( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا )[الأنعام:44] والذي آتاهم هو الله تعالى، أعطاهم من الخير والأمن، ( أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ) بدون علامات سابقة ( فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ )[الأنعام:44] آيسون قانطون، لاصقون بالأرض كلهم كروب وهموم، يقال: أبلس الشيء: إذ أيس وانقطع أو تهشم وتحطم.
تفسير قوله تعالى: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)
وختم الله عز وجل بيانه لعباده المؤمنين بقوله: ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:45].(فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا )[الأنعام:45] الظالمون قطع دابرهم، فأخْذ من وراءهم ومن أمامهم من باب أولى، بمعنى: لم يبق منهم شيء، آخرهم أخذ فكيف بالوسط والأول؟ ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ )[الأنعام:45] ماذا فعلوا؟ ( ظَلَمُوا )[الأنعام:45]، ماذا تقولون في الظلم؟ هل ينجون؟

الظلم أعلاه الشرك بالله عز وجل، كل من صرف عبادة الله لغير الله فقد ظلم ربه وأخذ حق مولاه وأعطاه لمن لا يستحقه، كل من عبد غير الله بعبادة ولو كانت الدعاء فقط، أو الذبح فقط، أو النذر فقط، أو الاستغاثة فقط.. كل من وضع عبادة الله التي تعبد بها عباده وأنزل بها كتابه وبعث بها رسوله وصرفها لولي من الأولياء، لصالح من الصلحاء، لملك من الملائكة فقد ظلم؛ إذ الظلم -كما علمنا وتقرر عندنا- وضع الشيء في غير موضعه.
فالعبادة التي شرع الله لتزكية النفوس وتطهير الأرواح هذه ليس من حق أحد أن يصرفها لغير الله عز وجل، إن صرفها لغير الله أظلمت نفسه وخبثت، وأنتنت وتعفنت، ولكن لا يرضى الله تعالى بهذا، أيخلقه ويرزقه ويغدق عليه نعمه، ثم يلتفت إلى غيره يدعوه ويرفع إليه يديه هكذا ويترك ربه؟ هذا ينبغي أن يقطع دابره.
بهذا لا يبقى بيننا من يفكر في الظلم أو يحاول أن يظلم، وإذا خطر بباله خاطر الظلم استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وفزع إلى الله ولجأ إليه.
درسنا الليلة عرفنا أن الله يمتحن ويبتلي بالسراء والضراء، لا تقل: نحن في خير وعافية والأموال كذا وكذا..وهذا دليل أنه مرضي عنا! والله ما هو إلا اختبار، فإن شكرنا دامت مدة النعمة، واستمر زمانها، ويوم نكفرها قد نمتحن فترة من الزمن -السنة والسنوات والعشر-، فإذا لم نرجع سلبت من بين أيدينا ولا ترد، إلا أن هذه الأمة لا تؤخذ بعذاب الاستئصال والإبادة الكاملة، لكن تؤخذ بألوان من العذاب، ومن مظاهر ذلك العذاب أن أذلنا وسلط علينا الكفار قرناً من الزمان وهم يسوسوننا، أليس هذا من عذاب الله؟ بلى.
لزوم المؤمن حمد الله تعالى في سائر أحواله
وأخيراً يقول تعالى: ( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:45] هذه الجملة تقال عند كل خير وغيره، عندما تتجلى وتظهر آيات الله، إنعامه، عذابه، قل: الحمد لله رب العالمين، شبعت فقل: الحمد لله، نزلت من على دابتك سليماً فقل: الحمد لله رب العالمين، بلغك أن إسرائيل أخذتها العواصف وغرق اليهود فقل: الحمد لله رب العالمين.. وهكذا كلما تجددت نعمة أو ظهرت نقمة من الله لخصومه وأعدائه تقول: الحمد لله رب العالمين، علمنا الله هذا؛ إذ قال تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:45] على قطع ذلك الدابر، وإنهاء أولئك المجرمين، وكم من ظالم وجبار ومفسد بين العرب عاشرناهم نحمد الله إذ قطع دابرهم. نتلو الآيات مرة أخرى: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[الأنعام:40] لا يدعون غير الله ( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ )[الأنعام:41] دعوه لرفع المرض، أو لكذا فيكشفه إن شاء ( وَتَنسَوْنَ )[الأنعام:41] في تلك الحالة ( مَا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:41]، ما يبقى من يقول: سيدي عبد القادر، ولا مبروك. وهذا حال المشركين الأولين، أما جماعتنا فيزدادون شركاً أكثر، لأنهم جهال ما عرفوا، لقد أضلوهم.
هذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لولا الحرس ولولا البوليس والهيئة لرأيتهم يركعون ويسجدون كأنهم ما هم بمؤمنين، أما الاستغاثات فحدث ولا حرج: يا رسول الله! يا أبا فاطمة ! يا كذا افعل وافعل، وينسون الله نهائياً، وذلك للجهل وظلمته، حرموا هداية القرآن وأبعدوا عنها.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ )[الأنعام:42]، والبأساء والضراء أنواع من العذاب. ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:43]، إذاً: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ )[الأنعام:44] من الخير ( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:44-45].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
15-08-2021, 02:06 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام - (5)
الحلقة (372)
تفسير سورة الانعام

يذكر الله عز وجل عباده في هذه الآيات بالنعم التي أنعم بها عليهم في أنفسهم، سائلاً إياهم عمن يمكنه أن يعوضهم عنها من المخلوقات إن أخذها الله منهم وحرمهم منها، وإن انتقم الله من أهل قرية أو أمة من الأمم فإنه لا يهلك إلا الظالمين المكذبين، وينجي الله المؤمنين من عباده، المصدقين بآياته ورسالاته، ويأتون يوم القيامة آمنين، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، سورة التوحيد، تلكم السورة التي زفت من الملكوت الأعلى بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، هذه السورة التي تعالج أركان العقيدة الضرورية:
أولاً: توحيد الله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فلا رب غيره ولا إله سواه، ولا يشبهه كائن من الكائنات لا في صفاته ولا في أفعاله.
ثم تقرير النبوة المحمدية، وهي: أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العدناني من ذرية إسماعيل بن إبراهيم رسول الله حقاً وصدقاً.
ثالثاً: عقيدة البعث والجزاء، البعث من تحت الأرض للوقوف في ساحة فصل القضاء من أجل الحساب الدقيق ثم الجزاء الأوفى: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه )[الزلزلة:7-8]، هذه السورة بآياتها تقرر هذه الحقيقة، وها نحن مع هذه الآيات بعد أن نسمع تلاوتها من الأستاذ أبي بكر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )[الأنعام:46-49].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ )[الأنعام:46] من الآمر لرسول الله أن يقول؟ إنه الله جل جلاله، والآن نحن نسمع كلام الله، إي والله، ما أسعدنا، ما أرفعنا وأسمانا، وصلنا إلى أن أصبحنا نجلس فنسمع كلام الرب! وأعجب من هذا أن ملايين الخلق لا يسمعون كلام الله ولا يعرفونه.
خطاب المعرضين عن ربهم ببيان عجز الأوثان عن رد ما ذهب الله تعالى به من أبدانهم

يقول تعالى لرسوله ومصطفاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ ) لقومك العادلين بنا أصناماً وأوثاناً، قل لهؤلاء المشركين المعرضين عن الله: ( أَرَأَيْتُمْ ): أي: أخبروني، ( إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ ) ففقدتم السمع فأصبحتم لا تسمعون، وفقدتم البصر فأصبحتم لا تبصرون، ( وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ ) فأصبحتم لا تعقلون ولا تفهمون، ولا يصل إلى قلوبكم شيء، أصبحتم كالأصنام وكالحجارة، إن فعل الله بكم هذا هل هناك من إله غير الله يأتيكم بهذه التي أخذت منكم؟ والله لا أحد. خطاب يصل إلى أعماق النفس، ما فيه تهيج، ولا فيه تنطع، ولا فيه إهانة، ولا فيه إذلال، فقط أخبروني إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم هل يوجد إله غير الله يأتيكم بذلك؟ والله لا يقول أحد: نعم يوجد إله عندنا يفعل بنا هذا، وقل هذا اليوم وبعد اليوم ولكل إنسان في الحياة ممن يعرضون عن الله عز وجل فلا يذكرون ولا يشكرون، قل لهم: أخبرونا أيها المعرضون، أيها الملاحدة، أيها العلمانيون، أيها الشهوانيون، أيها الماديون الذين لا تذكرون الله ولا تدعونه، ولا تستغيثون به، أخبرونا إن أصابك الله بفقد بصرك، والله لو اجتمعت أطباء الدنيا كلها ما ردوا بصرك، أو أخذ سمعك فأصبت بالصمم، والله لا يوجد من يرد إليك سمعك أبداً، أرأيت إن فقدت العقل وأصبحت كالمجانين تهرف بما لا تعرف، وتعمل ما لا تريد أن تعمل، هل هناك من يرد عليك عقلك؟ والله ما كان إلا الله، إذاً: لم لا نؤمن به ونعبده، ونتحبب إليه ونتملقه بفعل محابه واجتناب مكارهه؟
لا تقل: هذه نزلت في كفار مكة! فهذا كتاب الله للإنس والجن، لهدايتهم ما داموا على سطح الأرض، ولن يفقد هذا النور تأثيره إلا يوم يرفعه الله.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ )[الأنعام:46]؟ الجواب: لا أحد، أولاً: لا يوجد إله حق مع الله، لا إله إلا هو، والآلهة المدعاة المفتراة المكذوبة سواء كانت من الملائكة، أو الإنس، أو من الأنبياء والرسل، أو من الصالحين، أو من الجمادات.. كل هذه لا تملك أن ترد سمعكم وأبصاركم، ولا أن ترد إليكم وعيكم في قلوبكم.
(مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ )[الأنعام:46]؟ والله لا أحد.
معنى قوله تعالى: (انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون)

ثم قال لرسوله ومصطفاه: ( انظُرْ )[الأنعام:46] يا رسولنا ( كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ )[الأنعام:46]، يا للعجب! انظر كيف نلون الأساليب والعبارات، ونضرب الأمثلة المتنوعة لعلهم يرجعون، لعلهم يفيقون، لعلهم يصحون، ومع هذا هم يصدفون، يغلقون آذانهم ولا يسمعون! حالة تدعو إلى العجب.ونقتبس من نور الله فنقول: ما لإخواننا الذين انغمسوا في المعاصي بيننا يسمعون المواعظ والهداية والآيات والسنة من إذاعة القرآن، ما لهم صادفين معرضين عن بيوت الله وذكر الله، منهمكين في اللهو واللعب والباطل والشهوات، ما لهم وقد صرف الله الآيات، وها نحن نسمعها ليل نهار، لم نصدف ونعرض ولا نلتفت؟
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون)
ثانياً: قل لهم: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ )[الأنعام:47] أي: أخبروني ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ )[الأنعام:47] أي: أخبروني إن جاءكم عذاب الله عز وجل سواء بالإبادة والاستئصال أو بفقد السمع والبصر، أو بفساد القلب ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً )[الأنعام:47] وأنتم غافلون لا شعور ولا تأمل ولا فكر في نفوسكم، فجأة يأتي العذاب، أو يأتيكم بعدما تلوح آياته في الآفاق وعلامته بينكم، أو يأتيكم ليلاً وأنتم نائمون، أو نهاراً وأنتم يقظون تعملون، لا فرق بين هذا وذاك.أخبروني ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:47]؟ الجواب: لا والله، لا يهلك إلا الظالمون؛ لأنهم ظالمون بأفحش الظلم وأقبحه، وهو أخذ حق الله عز وجل بالعبادة وصرفها للأصنام والأحجار، حق الله الذي ما خلق الإنسان إلا ليعبده بذكره وشكره، يسلب هذا الحق ويعطى لغير الله.
الشرك أفحش الظلم وأقبحه
ولهذا -كما علمتم- فلا ظلم أعظم من ظلم الشرك، ظلمك لأخيك الإنسان بأخذ دابته أو ضربه على وجهه ظلم، لكن أخذ حق الله وإعطاءه لمن ليس له بحق أي ظلم أعظم منه! ظلمك لنفسك ظلم، ظلمك لأخيك ظلم، ولكن أفحش وأقبح الظلم هو من يأخذ حق الله الذي أوجد الكون كله من أجله، بل أوجدك -أيها الظالم- من أجل أن تذكره وتشكره، فتعرض عن الله وتكفر، ولا تلتفت إليه وتعبد غيره.ولهذا لما نزلت آية الأنعام -وعما قريب نصل إليها إن شاء الله- في أي الفريقين أشد ظلماً: نحن الموحدون أم أنتم المشركون، كما في خطاب إبراهيم الخليل لقومه، فكان الجواب: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[الأنعام:82]، فلما تليت هذه الآية على أصحاب رسول الله قالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ خافوا، لأنه لا يتحقق الأمن والنجاة والسلامة بالبعد عن عالم الشقاء ودخول الجنة إلا للذين آمنوا حق الإيمان ولم يخلطوا إيمانهم بأي ظلم، فكبر هذا على المؤمنين لما سمعوا هذه الآية، فوجههم رسول الله الحكيم إلى ما قال لقمان الحكيم لابنه وهو بين يديه يعظه ويقول له: ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ )[لقمان:13]، لم يا أبتاه؟ ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )[لقمان:13].
ونحن نقول: لا أعظم من الشرك، فظلمك لنفسك شيء، ظلمك للناس شيء، ظلمك للحيوان شيء، لكن ظلمك لخالقك واهب وجودك المنعم عليك تسلب حقه الذي من أجله أعطاك وجودك وتعطيه لغير الله! تصوروا هل هناك أبشع من هذا؟!
شخص يكسوك، يطعمك، يسقيك، يسكنك، يؤويك ويحفظك يحرسك، فتترك خدمته وتخدم آخر تتملق إليه وتتزلف، كيف يقبل هذا؟ الذي يطعمك ويسقيك ويؤويك ويرعاك ويحفظك يقول لك: اخدمني ساعة أو ساعتين في اليوم، فتعرض عن ذلك ويزين لك الشيطان خدمة من يعاديه وتخدمه، فهل فينا من يقبل هذا؟ هذا هو عين الشرك، فلهذا كان أقبح أنواع الذنوب وأسوأها.
الهلاك عاقبة الظالمين
فماذا قال تعالى لرسوله؟ قال: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ )[الأنعام:47] عذاب الله بالاستئصال والإبادة، أو بفقد السمع والبصر، أو بالقحط أو بما شاء الله من أنواع العذاب، ( بَغْتَةً )[الأنعام:47] وأنتم غافلون، ( أَوْ جَهْرَةً )[الأنعام:47] وأنتم يقظون، ( هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:47]؟ اللهم لا، والله لا يهلك إلا القوم الظالمون.مجموعة على حصير قدم لهم طعام فيه سم، وقيل لهم: احذروا، من أكله مات، فأكل منهم البعض وترك البعض، فهل يهلك غير الآكل؟ والله ما يهلك إلا الآكل وإن كانوا على حصير واحد والطعام بين أيديهم، فلا يقتل السم إلا الذي شربه أو أكله فقط.

يتبع

ابوالوليد المسلم
15-08-2021, 02:07 PM
كثرة الخبث سبب للهلاك
علمنا الله عز وجل أنه إذا جاء عذاب الاستئصال والإبادة للأمم السابقة ينجي الله المؤمنين مع نبيهم ورسولهم، يرحلون قبل نزول العذاب بيومين أو ثلاثة من تلك الديار وينزل العذاب بالآخرين، إلا أن عذاب هذه الأمة هو عذاب غير استئصال ولا إبادة كاملة، فإنه إذا كثر الفسق والفجور والشر والفساد وأنزل الله نقمته بهم يتأذى ويهلك بها الفاسق والبار والصالح، والفاسقون هذا جزاؤهم، والصالحون يثابون ويؤجرون على هذه المصيبة، وترتفع درجتهم يوم القيامة، قال تعالى: ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً )[الأنفال:25] من شأنها ( لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[الأنفال:25]، وقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( نعم إذا كثر الخبث ) لأم المؤمنين زينب حين سألته: أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟ وذلك أنه قال: ( ويل للعرب من شر قد اقترب ثلاث مرات وهو فزع، لما شاهد الغيوم والسحاب والعواصف، فقالت: أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟ قال: نعم إذا كثر الخبث ).
أهمية اتقاء نقمة الله تعالى بتوسيع دائرة الصلاح وتضييق دائرة الفسق في المجتمعات
ولهذا نقول لأبناء هذه الديار فقط؛ لأن إخواننا في بلادنا الأخرى الفسق فيهم أكثر من الصلاح، لكن هذه البلاد التي فيها الصلاح أكثر، ويظهر فيها الفسق، نقول لهم: اعملوا ليل نهار على تقليل هذا الفسق وتقليل أصحابه وفاعليه بوعظهم، بإرشادهم، بالاتصال بهم، بكل وسيلة فيها رفق ورحمة وعطف، بإبعاد هذه الموجبات للفساد، يا عبد الله! لا تدخل الدخان في دكانك، من ألزمك يا بائع الفيديو، لم تبيع الفيديوهات في مدينة الرسول؟ يا بائع الأشرطة الباطلة! من حملك على هذا؟ يا عبد الله المؤمن! لم تفتح بنكاً ربوياً في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ عجل فحوله إلى مصرف إسلامي وارفع رأسك إلى السماء، ويغفر الله لك ذنبك ويرفع درجتك، ويغنيك بأكثر مما في يدك.على كل مواطن أن يعمل على إصلاح بيته، أولاده، أقربائه، حتى نعيش دائماً والفسق أقل نسبة من الصلاح، فما دام الصلاح أكثر فالأمن حاصل، لكن إذا كان جانب الفسق أكثر فإننا ننتظر الساعة لا محالة.
من ألزمنا *-أيها المواطنون السعوديون- بمعصية الله؟ أنرغب فقط بواسطة الشياطين فنستجيب؟ لم لا نعمل على صيانة أنفسنا؟ يا رب البيت! احفظ بيتك، زوجتك وأولادك، أمك وأباك، لقنهم الهدى وعلمهم، اجتمع معهم على آية من كتاب الله يطهر بيتك من الخبث.
أولادكم من حين يخرجون من المدرسة استقبلوهم في باب المدرسة وهم معكم ملازمون لكم، يصلون العصر معكم، يصلون المغرب والعشاء، يتعلمون في هذه الأوقات، لا يلعبون بالكرة ويعبثون في الشوارع ويصيحون ويتعلمون أوسخ الكلام وأفسده، فيصبح الجيل من أسوأ وشر جيل، لم لا نعرف هذا؟
(هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:47]؟ والله ما يهلك إلا القوم الظالمون، هذا كلام الله أم لا؟ فالظالمون الذين خرجوا عن طاعة الله ورسوله، فبدل أن يطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر أطاعوا الشيطان والشهوات والهوى والدنيا، كيف لا يهلكون؟
قل لهم: أخبروني ( أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:47] والجواب: لا. لا يهلك إلا الظالمون كما بينا، الذي يحتسي السم هو الذي يموت.
تفسير قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ...)
ثم قال تعالى مسلياً رسوله: ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ )[الأنعام:48]، ما نرسلهم لأجل أن يهدوا الخلق، ويصلحوا الفاسد، ما هذه مهمتهم، لا يقدرون، فرسول في مليون شخص ماذا يصنع؟ فالمرسلون نرسلهم مبشرين المستجيبين للدعوة، المقبلين عليها، العاملين بها، يبشرونهم بسعادة الدنيا والآخرة، ومنذرين الذين يستكبرون ويعرضون ويشتغلون بأهوائهم وشهواتهم ويعبدون الشياطين، ينذرونهم العذاب قبل أن يحل بهم وينزل بساحتهم، ما لهم مهمة سوى هذه.فالرسول يبشر قطعاً، ولا بد أن يبين كيف تتم البشارة، وينذر ولا بد أن يبين ما ينذر: الشرك، اللواط، الجرائم.. يحذر منها، هذه مهمة الرسل من نوح ومن بعده إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم.
ما مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل هي عمارة الدنيا! إن مهمته التبشير للمقبلين على الله، والإنذار والتحذير ممن يعرضون عن الله عز وجل، فلا تكرب -يا رسولنا- ولا تحزن، وأنتم -أيها المشركون- لم تطالبونه بالآيات والخوارق والمعجزات؟ فما هذه مهمته، ما يستطيع أن يدخل يده في قلوبكم ويقلبها، هذا ليس له، إنما هو مبشر من أجاب الدعوة، ومنذر من أعرض عنها وكفر بها، هذا معنى قوله تعالى: ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ )[الأنعام:48].
عدد الرسل وذكر بعض خبر من أشبههم في العدة من فئات المؤمنين
كم عدد الرسل؟ ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً على عدة أهل بدر، وعلى عدة قوم طالوت الذين قاتلوا ومعهم داود وانتصروا على جالوت ، لما هبط بنو إسرائيل بسبب سفور النساء، حيث كشف النساء عن وجوههن وأصبحن يتجولن في الأسواق كنساء العالم الإسلامي اليوم إلا من رحم الله، ولبسن الكعب العالي، أتعرفون الكعب العالي؟ اذهبوا إلى الدكاكين التي هبط أصحابها، فهم يوردونه بشعور أو بدون شعور ليباع ويهلك به المؤمنون، الكعب العالي هذا أول من لبسه نساء بني إسرائيل، الكعب العالي: حذاء أسفله رقيق وطويل، فحين تمشي تصبح تتبختر وتتمايل، فيذوب قلب الحاضر وراءها، والشيطان هو الذي زين هذا.فلما فسقوا وأضاعوا الصلاة وتعاطوا الربا سلط الله عليهم البابليين فاجتاحوا ديارهم ومزقوهم وأبعدوهم، مضى قرنان أو ثلاثة فنشأت ناشئة جديدة وقالوا: هيا نعيد ملكنا وديننا وسيادتنا، فأتوا أحد أنبيائهم -والأنبياء فيهم بالآلاف- فقال: أنا أخاف ألا تستطيعوا أن تقاتلوا، شاهد فيهم الهبوط والخلاف والفرقة والفسق، فألحوا عليه، فعين لهم بأمر الله طالوت يقودهم، لما عين طالوت قالوا: كيف يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال؟ لا تول علينا قائداً من هذا النوع.
فقال لهم نبيهم: الآية التي تدل على أن الله هو الذي اختاره لكم أن يأتيكم التابوت الذي فيه بقية من بقايا موسى وهارون من دار الكفر، من عاصمة البابليين، وجاءت فشاهدوها معجزة خارقة، فآمنوا ومشوا في أربعين ألفاً، امتحنهم في الطريق قبل وصولهم إلى نهر الأردن، فقال: إن نهراً سيأتي أمامكم ولم يأذن الله لكم بالشرب منه، إلا من اغترف غرفة بيده فقط، فإياكم. فلما وصلوا إلى النهر أكبوا عليه كالبهائم يشربون، فلما شربوا بقي منهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، والباقون كلهم انهزموا، ما يستطيعون القتال، قالوا: كيف نقاتل هذه الأمة وكيف وكيف؟ وقاتل الموحدون المؤمنون ونصرهم الله عز وجل.
معنى قوله تعالى: (فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
يقول تعالى: ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[الأنعام:48]؛ لأن الإيمان والصلاح هما دعائم الولاية، كقول الله تعالى: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[يونس:62] من هم؟ ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ )[يونس:63]، وهنا ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فكل مؤمن صادق الإيمان يعمل الصالحات تحققت له ولاية الله، فإذا والاه الله وأصبح وليه فمن يقوى على أذاه؟ فلا خوف عليهم في الدنيا ولا في القبر ولا يوم القيامة ولا حزن في كل ذلك.هكذا يقول تعالى في مكة: فمن آمن وعمل صالحاً مع أي نبي ومع أي رسول، ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[الأنعام:48].
وقد بينا أن أولياء الله بيننا لا يخافون عندما يخاف الناس، ولا يحزنون عندما يحزن الناس، إن جاءت فاقة فنفوسهم طيبة مرتاحة، والآخرون في حزن وكرب وألم، وإن جاءت حرب أو فتنة فأولياء الله مع الله نفوسهم طيبة، نفوسهم طاهرة، قلوبهم ساكنة يفزعون إلى الله، والآخرون ترتعد نفوسهم، وتتمزق قلوبهم، فهذا عام في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة، أولياء الله لا يخافون ولا يحزنون، وقد ذكرت لكم ولياً شاهدناه، ابتلاه الله بوفاة أبنائه وأطفاله، كانوا يدفنون الطفل وهو يبتسم والناس على القبر يبكون، ولا يبكي ولا يحزن، يخرج ماله كله فلا يبكي عليه ولا يحزن ولا يكرب، وهذا تحقيق قول الله تعالى: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[يونس:62].
فالله تعالى يقول: ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ )[الأنعام:48] ثم ( فَمَنْ آمَنَ )[الأنعام:48] بهم وبالله ووحد الله ( وَأَصْلَحَ )[الأنعام:48] نفسه وزكاها بطاعة الله ورسوله ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[الأنعام:48] في الدنيا ولا في الآخرة.
تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون)
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا )[الأنعام:49] جحدوا بها، لم يعترفوا بها أو لم يعملوا بما تدعو إليه وتأمر به أو تنهى عنه وتحذر منه، ليس بشرط أن يقول: لا أؤمن، قد يقول -كالمنافق-: أنا مؤمن، ثم لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً، ولا ينهض بواجب، ولا يتخلى عن مكروه، فأين الإيمان؟ لا قيمة لدعوى الإيمان إذا لم تتحقق بالاستجابة لله والرسول في طاعتهما بفعل الأوامر وترك المناهي.(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا )[الأنعام:49]، ما قال: كفروا بالله، كذبوا بآياتنا الحاملة لشرائعنا وتعاليمنا وهدايتنا، فلهذا لم يعملوا بها، ( يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ )[الأنعام:49] أي: عذاب الدنيا والبرزخ والآخرة، لا بد أن يمسه ويذوق ألمه ومرارته.

ثم قال تعالى مبيناً العلة: ( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )[الأنعام:49]، أي: بسبب فسقهم. فالباء سببية، ما معنى (يفسقون)؟ يرقصون ويغنون، يلهون ويلعبون، يشركون ولا يوحدون، يعصون ولا يطيعون، فالفسق: هو الخروج عن طاعة الله ورسوله.
أتدرون ما الفويسقة؟ الفأرة، سماها الرسول الفويسقة؛ لأنها تفسق وتخرج على أهل البيت في الليل، فتفسد عليهم طعامهم أو تحرق عليهم بيتهم.
إذاً: فكل من ترك واجباً متعمداً وهو قادر عليه، أو فعل محرماً بدون إكراه عليه فقد فسق، أي: خرج عن الطاعة، فإن فسق في الأمر كله والنهي كله فهو الفاسق بـ (أل) الدالة على الوصف العريق المتين، ففرق بين (فاسق) وبين الفاسق، فسق فلان فهو فاسق بترك واجب أو فعل معصية، لكن الفاسق ذاك الذي أعرض عن أحكام الله وشرعه وأخذ لا يلتفت إلى أمر يقوم به ولا إلى نهي ينتهي عنه ويجتنبه.
إذاً: قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ )[الأنعام:49]، هل بمجرد التكذيب؟ لا؛ لأن التكذيب يحول بينك وبين فعل مزكيات النفس، فالعبد إذا آمن أصبح قادراً على أن يزكي نفسه بأدوات التزكية والتطهير، لكن إذا كذب لا يستعمل أدوات التزكية، إذاً: فالذين كذبوا ما استعملوا أدوات التزكية أبداً، والله يقول: ( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )[الأنعام:49]، ما استعملوا أدوات التزكية والتطهير.
معاشر المستمعين والمستمعات هل عرفتم أن زكاة النفس ضرورية؟ إن ربنا تبارك وتعالى يقول: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، فلنعمل على تزكية أنفسنا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح بعد البعد الكامل عن الشرك والكفر والفسق والفجور، وبذلك يتحقق الهدف لمن طلب الله ومشى يطلب هدايته.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
لهذه الآيات هداية فتأملوا هل تهتدون إليها:[ أولاً: افتقار العبد إلى الله في سمعه وبصره وقلبه ]، وهل نملك نحن أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا؟ [ وفي كل حياته]، هذا الافتقار وهذا العجز وهذا الضعف [موجب عليه عبادة الله وحده دون سواه]، فما دمت عاجزاً عن حفظ سمعك وبصرك وقلبك إذاً فاعبد الذي يحفظ لك ذلك ويهبه لك. فمن أين أخذنا هذا؟
من قوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ )[الأنعام:46] لا أحد.
[ ثانياً: هلاك الظالمين لا مناص منه عاجلاً أو آجلاً ]، والله العظيم! إن هلاك الظالمين لا بد منه، إما أن يكون عاجلاً أو يؤجل إلى أمد محدود، فالظالمون الآن الخارجون عن طاعة الله ورسوله هم تحت النظارة، يمهلهم الله ولكن لا يهملهم، يوم تدق الساعة تنزل المحنة وينزل العذاب.
[ ثالثاً: بيان مهمة الرسل ]، ما هي؟ البشارة والنذارة، ما معنى البشارة؟ تبشير من أطاع بالمستقبل الحسن والسعادة في الدنيا والآخرة، والنذارة لمن عصى وكذب وأعرض، هذه مهمتهم.
[ بيان مهمة الرسل، وهي البشارة لمن أطاع والنذارة لمن عصى، والهداية والجزاء على الله تعالى ]، فعلى الرسول البشارة والنذارة، أما الهداية فليست له، والذي يجازي العباد هو الله، ليس الرسول، فالرسل ليست مهمتهم الجزاء أبداً، وإنما مهمتهم البشارة والنذارة.
[ رابعاً: الفسق عن طاعة الله ورسوله ثمرة التكذيب والطاعة ثمرة الإيمان ]، فمن شك في كتاب الله أو في سنة فإنه لا يعمل، هذه سنة الله، كل الذين لا يستقيمون سبب ذلك شكهم وعدم إيمانهم اليقيني في قلوبهم، ومن صدق واطمأن لا يستطيع أن يفسق، إن فسق الآن يتوب غداً ولا يستمر على فسقه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
15-08-2021, 02:09 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام - (6)
الحلقة (373)
تفسير سورة الأنعام

النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه سبحانه وتعالى ليبلغ دينه للناس، وليتبع ما أوحى الله إليه دون زيادة أو نقصان، وما أعطاه الله عز وجل خزائنه، ولا أطلعه على الغيب الذي يختص به سبحانه، ولا جعله ملكاً، وإنما جعله بشراً يمشي بين الناس، ويتكلم بلسانهم، لينذرهم ويخوفهم من عذاب الله ونقمته إن هم أعرضوا وكذبوا، ويبشرهم بالجنة والنعيم إن هم أطاعوا وصدقوا.
تفسير قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
هذا وما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات التي نسمعها من مرتلها علينا ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد ربنا منها:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ * وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )[الأنعام:50-53] بلى.
أمر الله تعالى رسوله بنفي اختصاصه بخزائن الله وعلم الغيب وكونه ملكاً
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات، هيا نتدارس هذه الآيات:أولاً: من القائل: ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ )[الأنعام:50]؟
هذا كلام الله عز وجل، يأمر رسوله ونبيه ومصطفاه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لخصومه لأعدائه لنفاة التوحيد والعادلين بربهم، لأولئك الذين كذبوا بنبوته ونفوها ونسبوه إلى السحر والشعر والأساطير التي مضت في الزمان السابق، هؤلاء هم رؤساء الشرك في مكة، والله ولي رسوله والمؤمنين، فها هو ذا تعالى يوجه رسوله ويبين له كيف يدحض حججهم الباطلة وكيف يبطل تخرصاتهم وأكاذيبهم التي لا وجه لها من الصحة.
قل يا رسولنا: ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ )[الأنعام:50]، تطالبونني بالأموال وتطالبونني بكذا وكذا وأنا ما عندي خزائن ذلك، ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ )[الأنعام:50]، والخزائن مستودعات الأرزاق، خزانة وخزائن، فخزائن الله التي أودع فيها أرزاق العباد لا أملكها وما هي عندي.
ثانياً: ( وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ )[الأنعام:50].
الغيب استأثر الله تعالى به، هو الذي يعلم ما ينزل بكم وما يصيبكم في المستقبل، وأنا لا أعلم الغيب، ومرده إلى الله، فلا تطالبوني بما لا قدرة لي عليه، بما ليس في طوقي ولا في استطاعتي، وقوفكم هذا وقوف المعرضين فقط، وإلا فليس من شأني أنني أملك خزائن الله وأفتحها على من أشاء وأحجبها عمن أشاء، ولست أنا أبداً بالذي يدعي علم الغيب فيقول: سيصيبكم كذا، سينزل بكم كذا. أنا لا أملك هذا وليس عندي منه شيء.
ثالثاً: ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ )[الأنعام:50]، ما قال: أنا ملك أستطيع أن أزيل الجبال، أو أضرب الجبال برءوسكم، بل قال: أنا بشر ما أنا بملك من الملائكة.
فعلمه ربه أن ينفي عنه هذه الثلاث الصفات:
الأولى: أن ينفي عنه أنه يملك خزائن المال وغير ذلك، هذا استأثر الله به.
ثانياً: أنه لا يعلم الغيب، ما غاب عن العيون لا يملكه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الغيب الحقيقي، وهو ما في الملكوت الأعلى وما تجري به أقضية الله وأقداره.
ثالثاً: ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ )[الأنعام:50] حتى تطالبوني بأن أحول الجبال أو أن أفعل كذا وكذا، هذا ما هو بشأني.
حصر مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم في اتباع ما يوحى إليه
يقول تعالى له: انف هذه الثلاثة وقرر شيئاً واحداً، وهو: ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ )[الأنعام:50]، هذه مهمتي، أنا عبد الله ورسوله مهمتي أن أتبع ما يوحي الله إلي، فإن قال: اسكت سكت، وإن قال: تكلم تكلمت، إن قال: بلغ بلغت، إن قال: أنذر أنذرت، إن قال: اترك تركت، ما أنا إلا متبع لما يوحي ربي إلي من الأوامر والنواهي. وهذا لا ينفي أن يجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل أيام التشريع، فإن أصاب وأقره الله فذاك، وإن لم يصب فالله عز وجل يرشده إلى الصواب، لكن بالصورة العامة رسول الله لا يقول ولا يفعل، لا يأمر ولا ينهى إلا بما يوحي الله إليه، لا يتبع غير ما يوحي الله إليه، ومعنى هذا: أنه لا يتبع رأي ذي رأي ولا فكر ذي فكر، بل يتبع فقط ما أوحاه الله إليه وأذن له فيه، سواء قاله صلى الله عليه وسلم أم فعله أم أمر به أم نهى عنه، وهكذا.(إِنْ أَتَّبِعُ )[الأنعام:50] ما أتبع ( إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ )[الأنعام:50]، من الموحي إليه سوى الله؟
وقد عرفنا طريق الوحي: إما أن يلقي في روعه الكلمة فيفهمها عن الله، أو يخاطبه الله من وراء حجاب، أو يرسل إليه ملكاً يجلس إليه ويعلمه عن الله ويبلغه.
معنى قوله تعالى: (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون)
ثم قال له أيضاً: ( قُلْ )[الأنعام:50] لهم، وهذه هي صور الحجاج وإبطال الباطل ودحض المنكر، قل لهم يا رسولنا: ( هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ )[الأنعام:50] هل يستوي الجاهل والعالم؟ هل يستوي الحي والميت؟ هل يستوي المهتدي والضال؟ هل يستوي الجائع والشبعان؟ من يقول بالاستواء؟ ومعنى هذا: أنكم ضلال وأنا مهتد فكيف نتفق معكم؟ إنكم عميان لا تبصرون الحق لعمى قلوبكم وأنا على بصيرة، أنا على نور من ربي وأنتم على ظلمة الشياطين، فكيف نستوي معكم؟ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ )[الأنعام:50] يا عباد الله! لو تفكروا لقالوا: لا يستوي من يوحى إليه ويعلم ومن لا يوحى إليه شيء ولا يعلم شيئاً، أنت رسول ونحن عباد الله، آمنا برسالتك، آمنا بما جئت به. ومن ثم يهتدون ويدخلون في رحمة الله، ولا تظن أن هذا الكلام ما كان له أثر، بل كل من اهتدى في مكة اهتدى بهذه الآيات الربانية.
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ )[الأنعام:50] الجواب: لا. إذاً: ( أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ )[الأنعام:50]، تفكروا فمن استخدم فكره عرف الحق، أما من يريد ألا يتفكر ولا يتأمل ولا يتذكر فإنه يبقى أعمى ويبقى في الضلال.
وهذه لفتة عندكم: هل يستوي الأعمى بينكم والبصير؟ الجواب: لا. هل يستوي الضال والمهتدي؟ لا. هل يستوي الحي والميت؟ لا. إذاً: كيف تهتدون وأنتم معرضون عن نور الله؟ كيف تهتدون وأنتم لا تؤمنون بوحي الله ولا برسول الله؟ فكروا.
وهذه مظاهر رحمة الله بعباده، لو شاء الله لأنزل الهداية في قلوبهم، لو شاء لولدتهم أمهاتهم مؤمنين، ولكن هذه حكمته، يدخل في رحمته من يشاء، ولكن يعلم ويهدي ويبين، فمن أجاب الله واستجاب له هداه، ومن أدبر وأعرض أضله وأشقاه، وهذا إلى يوم القيامة.
تفسير قوله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون)
ثم قال تعالى: ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:51].هذه الآية تكون للمؤمنين، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة مؤمنون أقلاء، هؤلاء هم الذين تنذرهم بالقرآن الكريم وتخوفهم بما فيه من الأحكام والشرائع، وما يهدي إليهم من الهداية وما يبين من الضلال؛ لأن المؤمنين -كما علمتم- أحياء مبصرون، والحي المبصر السميع يستجيب، إذاً: اترك هؤلاء الضلال -يا رسولنا- وأنذر بالقرآن من هم مؤمنون أحياء غير أموات، كقوله تعالى من آخر سورة ق: ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ )[ق:45]، هذا الذي إذا ذكرته ذكر، أما الذي قلبه ميت وهو في ظلمة فإنك تقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فلا يسمع شيئاً ولا يستفيد، وهذه كرامة المؤمنين وإن كان منهم المذنبون، فإنظارهم يستفيدون منه، إذا خوفهم يوم القيامة وخوفهم بعذاب الله يتوبون إلى الله، من كان على معصية من تلك اللحظة أو الساعة يعزم على تركها فيستفيد بإنذارك بالقرآن يا رسولنا، أما الأموات المشركون الكفرة فكيف يستفيدون؟
وقد يدخل في هذا بعض اليهود والنصارى، إذ هم يؤمنون بالله وبلقائه، كذلك أنذرهم، وأنذر به ( وَأَنذِرْ بِهِ )[الأنعام:51] أي: بالقرآن العظيم، أو بيوم القيامة ( الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ )[الأنعام:51]، والحشر إلى الله هو السوق بواسطة الملائكة إلى ساحة فصل القضاء، واقرءوا لهذا: ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا )[الزمر:68-69]، إذا جاء الرب لفصل القضاء استنارت تلك الأرض كلها بنور الله، ( وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ )[الزمر:69-70]، ثم سيق أهل النار إلى النار وأهل الجنة إلى الجنة، كما في آخر سورة الزمر.
(وَأَنذِرْ بِهِ )[الأنعام:51] أي: بالقرآن، أو بيوم القيامة، كل ذلك صالح، فالقرآن حمال الوجوه، الذين يؤمنون بيوم القيامة أنذرهم به حتى يقللوا من الشر والفساد ويقللوا من الباطل، فينتفعوا بهذا.

يتبع

ابوالوليد المسلم
15-08-2021, 02:10 PM
جهة ما يثبت من الشفاعة وجهة ما ينفى منها
(وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ )[الأنعام:51]، هل لأحد يوم القيامة في عرصات القيامة في ساحة الحكم والقضاء، هل هناك من له شفيع وولي سوى الله؟ والله لا أحد، فإذا أراد الله أن يكرم أحدنا قال: أي فلان! شفعناك في فلانة أو فلان. إذا أراد الله أن يشفع امرأً قال: شفعناك فاشفع. ويحدد له فيمن يشفع، ولا تظن -كما يقول المبطلون وكما زور الضالون وضللوا أمة المؤمنين والمسلمين- أن فلاناً القطب هو الذي يشفع، فهذا كله باطل. فنحن لا ننفي وجود من يشفع يوم القيامة لبعض الناس، ولكن ننفي أن يقول أحد: أنا أشفع لفلان، ومن الآن أعطني بستانك أو أعطني منزلك لأشفع لك، فهم يخرجون من بيوتهم وبساتينهم للمشايخ ليشفعوا لهم، يضمنون لهم الشفاعة.
إذاً: لا يملك الشفاعة يوم القيامة أحد إلا الله، هو الذي يأذن لمن شاء أن يشفع تكريماً له، ويبين له من يشفع فيه أيضاً، فلو أراد محمد صلى الله عليه وسلم -وهو رسول الله- أن يشفع في أبي جهل وعقبة بن أبي معيط فلا يصح ذلك ولا يأذن الله له، ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى )[النجم:26] عمن يشاء، فلا بد أن يأذن الله لك بأن تشفع، ولا بد وأن يرضى عمن تشفع له، فإذا لم يرض له أن يدخل جنته فلن تستطيع أنت أن تشفع له.
ولا ننسى ذاك المنظر العجيب الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في عرصات القيامة في ساحة فصل القضاء، فإن إبراهيم عليه السلام يقول: يا رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون -وهذا جاء في كتاب الله في سورة الشعراء- وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا الخزي يا رب؟ أراد أن يشفع في أبيه، فما كان إلا أن قال الله له: انظر تحت قدميك، فنظر فإذا والده آزر في صورة ذكر من ذكران الضباع ملطخ بالدماء، فما إن نظر إليه إبراهيم حتى اقشعر جلده وصاح: سحقاً سحقاً، أي: بعداً بعداً، فأخذته الملائكة من قوائمه الأربع وألقوه في اصل الجحيم وطابت نفس إبراهيم.
التقوى غاية الإنذار بالقرآن الكريم
إذاً: ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ )[الأنعام:51] يتولى أمرهم، ( وَلا شَفِيعٌ )[الأنعام:51] يشفع لهم، بل الله هو الولي وهو الشفيع.ثم علل لهذا بقوله: ( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:51] الله فلا يعصونه، بم يتقى الله يا عباده؟ بتقواه، لا بالحصون ولا بالأسوار ولا بالسحر ولا بالجيوش أبداً، إنما يتقى الله بطاعته وطاعة رسوله فقط، لا شيء آخر إلا بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله -أي: أطاعه فلم يعصه- فقد زكت نفسه وطابت وطهرت وأصبحت كأرواح الطاهرين، فهذه الروح لا يمكن أن يتلاءم معها العذاب أو الخزي والعار، بل تتلاءم مع أهل الجنة وما فيها من نعيم مقيم.

(وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:51]، أنذر بالقرآن يا عبد الله، أنذروا أيها المؤمنون بالقرآن من يخافون الله ويخشون الوقوف بين يديه؛ رجاء أن يتقوه فيتركوا معاصي الله، فكل من يخالط معصية ويباشرها وأنت تعلم ذلك فعلمه وأنذره وخوفه بلقاء الله، فأنت نائب عن رسول الله.
تفسير قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ...)
ثم قال تعالى: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )[الأنعام:52].
سبب نزول الآية الكريمة
هذه نزلت في حادثة معينة وقد تكررت، وهي أنه أيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة جاءه وفد من المشركين من غلاتهم وكبارهم، وقالوا: إن أردت أن نسمع منك ونفهم ما تقول فأبعد عنا هؤلاء الفقراء والمتسخين لنجلس إليك جلسة خاصة ونفهم ما تقول، أما أن نجلس مع بلال وصهيب وفلان وفلان فلا نستطيع، وقالوا: اكتب لنا بهذا صكاً، وتقول الرواية: استدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ليكتب، فلما هم صلى الله عليه وسلم بهذا الفعل رجاء أن يدخل هؤلاء الرؤساء في الإسلام فيتبعهم الجهال والعوام وتنتهي هذه الحرب، وهذا من باب الرشد والفهم والبصيرة، فلو أسلم أبو جهل وعقبة وفلان وفلان لأسلمت مكة كلها، هكذا فهم ورغب وأراد أن يطبق، قال سعد بن أبي وقاص : أنا وعبد الله بن مسعود وفلان واثنان معنا لا أسميهما، فلما هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يطبق هذه المسألة أنزل الله تعالى قوله: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ )[الأنعام:52]، لا تطردهم من أين؟ من مجلسك ليجلس الطغاة والمشركين، إذ كان يجلس حول الكعبة ويجلس حوله الفقراء، وأما الأغنياء فيلوون رءوسهم متكبرين، يقال لهم: اجلسوا لتسمعوا، فيقولون: لن نسمع؛ فهؤلاء يجترئون علينا ويقولون فينا. وهذه الصفة باقية إلى يوم القيامة، أهل الكبر لا يجلسون في مجالس العلم ولا يجالسون الفقراء بحال من الأحوال إلى يوم القيامة، والكتاب كتاب هداية للأبيض والأصفر إلى يوم القيامة.إذاً: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ )[الكهف:28]، لما أمر بألا يفعل أصبح يجلس مع المؤمنين ثم يقوم عنهم ليتعرض لأولئك الطغاة لعلهم يهتدون، فأنزل الله تعالى: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ )[الكهف:28] احبسها، ( مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )[الكهف:28-29]، هداية من هذه؟ هداية الله، قولوا: آمنا بالله، كيف يكفر بالله؟
ذكر خبر عتاب الله تعالى لنبيه في شأن ابن أم مكتوم
ولا ننسى أيضاً عتاب الله له صلى الله عليه وسلم في سورة عبس، تلك حادثة خاصة؛ حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكلم كبار الطغاة ويدعوهم ليهديهم وعبد الله بن أم مكتوم الأعمى وراءه بعصاه يقول: يا رسول الله! علمني، يا رسول الله! أجبني، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يلتفت لأنه مشغول لعل الله يهدي عمرو بن هشام أو عقبة بن أبي معيط ، فأنزل الله تعالى فيه: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى )[عبس:1-2]، عبس بوجهه وتولى وأعرض، يلتفت إليه ثم يتركه، ( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ )[عبس:1-11]، ما إن نزلت هذه حتى كان صلى الله عليه وسلم إذا جاء ابن أم مكتوم فرش له بعض ردائه وأجلسه إلى جنبه، ويقول: مرحباً بالذي عاتبني ربي من أجله! هل تستطيعون هذا؟ هل تقدرون عليه؟ لو أخذتم قبساً من الأخلاق النبوي فذلك يمكن، شخص سجنت أو اتهمت أو أوذيت من أجله ثم تنسى ذلك كله وترحب به وتؤهل وتسهل وتكرمه، من له نصيب من الخلق النبوي من خلق محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يفعل هذا.
المراد بالدعاء في الآية الكريمة وبيان مقصد الداعين
(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ )[الأنعام:52]، وهنا الدعاء بمعنى الذكر والصلاة: صلاة الصبح وصلاة العصر، والغداة قال أهل العلم: هي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والعشي: من العصر إلى غروب الشمس.قال تعالى: ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ )[الأنعام:52]، يسألونه ما يريدون أن يكملوا به ويسعدوا، هؤلاء تعرض عنهم وهم يدعون ربهم بالغداة والعشي وتلتفت إلى الآخرين!
(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )[الأنعام:52]، أي: وجه الله عز وجل، فحين يصلون ويذكرون ويبكون ويدعون هل يريدون الدينار والدرهم؟ يريدون ماذا؟ أن ينظر الله إليهم ويحبهم ويغفر لهم ويرفعهم، ما يريدون ديناراً ولا درهماً ولا شهوة، يريدون وجه الله فقط، هؤلاء ( مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:52]، لن تحاسب عليهم أنت أبداً، ( وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:52] وهم كذلك لا يحاسبون عليك من شيء، إذاً: أنت في طريقك إلى الله وهم في طريقهم إلى الله عز وجل.
حكم طرد الفقراء والمساكين من مجالس الأغنياء ونحوهم
قال تعالى: ( فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ )[الأنعام:52]، إذاً: فطرد الفقراء أو المساكين من مجالس أهل العلم أو مجالس أهل الفضل محرم عندنا لا يجوز، بل إذا جلس فقير ثيابه رثة تكرمه كما تكرم الغني إذا جلس وثيابه جميلة، عرفتم هذه؟ لا تقل: أبعدوه فهذا وسخ فيه كذا، وإذا دخل الغني تهش في وجهه وتفرح!كنت اليوم عند باب المعارج هذه، وكان هناك اثنان أو ثلاثة على رأسهم إمامنا الشيخ علي ، فنزلت من العربة وصافحت الشيخ علياً وأولئك الأغنياء، وكان أمامي فقير لاصق فجئت وسلمت عليه، فتعجب؛ لأنه ليس معتاداً أن يسلم عليه، فذكرت هذه.
يجب ألا ننسى هذه الهداية الربانية، لا فرق بين الغني والفقير، وإن كان هناك فرق بين العاصي والمطيع، بين المذنب والسليم من الذنوب والآثام، أما النسب والحسب والمال واللباس فهذا لا قيمة له أبداً، ها هو الله يؤدب رسوله بقوله تعالى: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:52]، ما أنت بمسئول عنهم ولا هم بمسئولين عنك يوم القيامة.
(فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ )[الأنعام:52] من أين؟ من جماعة الظلمة. فهل بعد هذا شيء؟ ( فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ )[الأنعام:52]، وجزاء الظالمين معروف، ومن تلك الساعة والرسول صلى الله عليه وسلم لا يفرق بين غني وفقير، ولا بين شريف ووضيع، وكذلك أصحابه وأتباعه إلى اليوم وإلى يوم القيامة.
تفسير قوله تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ...)
ثم قال تعالى في بيان حكمة الفقر والغنى: ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ )[الأنعام:53]، ابتلاء واختبار من الله لعباده، هذا سليم وهذا مصاب، وهذا مريض وهذا مبتلى، هذا غني وهذا فقير، هذا جميل الوجه وهذا ذميمه، لم فعل الله هذا؟ ما الحكمة؟ ما السر؟ لِمَ لَمْ يخلق الكل على أجمل إنسان؟ لم جعلنا كذا وكذا؟ لم فرق بيننا: هذا أسود وهذا أصفر، هذا مريض وهذا صحيح، هذا فقير وهذا غني، هذا جاهل وهذا كذا، ما الحكمة؟قال: ليختبرهم؛ لأنهم مهيئون لحياة الخلد والبقاء في عالم السماء وعالم الأرض، إذاً: فهذه الدنيا دار امتحان واختبار؛ فلهذا يوجد الفقير والغني والمتسخ والنظيف، وأنت مبتلى بذلك.
(وَكَذَلِكَ فَتَنَّا )[الأنعام:53]، من القائل؟ إنه الله. ( بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ )[الأنعام:53]، الأغنياء بالفقراء، والصالحين بالفاسدين، فتنا بعضهم ببعض ( لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا )[الأنعام:53]، أهؤلاء منَّ الله عليهم وأكرمهم وأعزهم ونحن ما فعل بنا هذا؟
معنى قوله تعالى: (أليس الله بأعلم بالشاكرين)
قال تعالى: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )[الأنعام:53]؟ بلى. من هم الشاكرون؟ الذين يعترفون بنعمة الله عليهم ويذكرونها بقلوبهم، ويترجمون ذلك بألسنتهم، ويفصحون عن ذلك بكلمة: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.ثم إن تلك النعمة إذا كانت جاهاً، بحيث صار فلان عنده جاه عند الدولة وعند الأغنياء، أو إذا كنت ذا جاه وجاهك يرتفع ويقبل؛ فأعط للناس شكراً لله عز وجل، إذا كنت ذا صحة بدنية فاشكر نعمة الله، فإذا وجدت من يحمل زنبيلاً ثقيلاً فاحمله معه، أو رأيت من يدفع سيارته فتجرد وادفعها معه، رأيت من يبني جداراً وأنت ليس عندك عمل فشمر ثيابك واشتغل معه في جداره شكراً لله على نعمة هذه الصحة، أو كان عندك مال، أغناك الله وفضلك على غيرك من الناس فاشكر الله بأن تنفق هذا المال فيما يرضي الله عز وجل ويحبه، لا تبخل به، عندك علم فضلك الله به فاشكر الله عز وجل واحمده وعلم، وإذا سألك مؤمن فأجبه ولا تقل: اذهب عني. وبذلك يتم شكرك لله على نعمته، ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )[الأنعام:53]؟ الجواب: نعم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، إنك ولينا ووليهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
15-08-2021, 02:11 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام - (7)
الحلقة (374)
تفسير سورة الأنعام

على المسلم الداعي إلى ربه أن يكون على علم كاف بالله عز وجل، وبتوحيده ووعده ووعيده، وبأحكام شرعه ودينه، وأن يكون عالماً بما يحبه سبحانه وبما يكرهه، وأن يوطن نفسه على الصبر في سبيل دعوته، فيصبر على مدعويه والمقبلين عليه، ويتلطف بهم، ويقربهم إليه، ويصبر على معارضيه من أهل الزيغ والضلال، والله عز وجل كاف عباده الصالحين.
تفسير قوله تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة ومع هذه الآيات التي نسمع تلاوتها مجودة مرتلة من أحد الأبناء، وبعد ذلك نأخذ في شرحها وبيان ما جاء فيها من الهدي الإلهي:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ * قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ * قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ )[الأنعام:54-58].
توجيه النبي صلى الله عليه وسلم بالحفاوة بمن يجيئه من المؤمنين
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نحن الآن مع ربنا تعالى جل جلاله وعظم سلطانه، ومع نبينا ومصطفانا محمد صلى الله عليه وسلم، فلنستمع، فيا لها من حضرة ربانية لقوم يفقهون، اسمع ما يقول ربنا تبارك وتعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا )[الأنعام:54]، وإذا جاءك يا رسولنا ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا )[الأنعام:54] الحاوية لشرائعنا وأحكامنا، المبينة لسبيل النجاة، فماذا تعمل معهم؟ أهل لهم ورحب بهم وسهِّل: ( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ )[الأنعام:54]، ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ )[الأنعام:54].تقدم بالأمس أنه هم بإبعاد فقراء المؤمنين الذين طالبه المشركون بأن يبعدهم عنه ليخلو لهم رسول الله ويجلس إليهم وحده، فلما هم ولم يفعل أنزل الله قوله: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ )[الأنعام:52]، والآن ها هم قد جاءوا، فقال له: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ )[الأنعام:54].
و(السلام عليكم) و(سلام عليكم) بمعنى واحد، وهي كلمة تدل على الأمن والستر وعدم الأذى بحال من الأحوال، أي: سلمتم، فالسلامة من نصيبكم.
بيان ما كتبه تعالى على نفسه من الرحمة بالمذنب عن جهالة بعد توبته وإصلاحه
(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )[الأنعام:54]، أي: أوجبها على نفسه، ولا يوجد من يوجب على الله شيئاً؛ إذ هو القاهر فوق عباده، ولكن لما اعتدنا نحن كلمة: كتب على نفسه كذا، أو كتب له بكذا، بطريق الوجوب؛ خاطبنا بما يزيد في علمنا ومعرفتنا: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ )[الأنعام:54] أي: خالقكم ورازقكم ومدبر حياتكم، كتب إلهكم الذي لا إله غيره ( عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )[الأنعام:54]، فلهذا من تاب إليه مهما جنى وقارف وارتكب من عظائم الذنوب؛ فإنه إذا تاب إليه وأصلح ما أفسده يجد الله غفوراً رحيماً، هذا الخطاب للبشرية كلها إلى يوم القيامة ونحن من بينهم.(كتب) أي: أوجب تعالى على نفسه الرحمة، من مظاهر تلك الرحمة أن من أذنب منا أعظم الذنوب ثم تاب ورجع وعاد إلى الحق والطهر وأصلح ما أفسد، وكان ارتكابه ذلك الإثم بجهالة، لا عن تعمد واستهزاء وكبرياء وكفر والعياذ بالله؛ إذ مثل هذا قد لا يتوب عليه، كما قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )[البقرة:6].
لكن هذا ارتكب الذنب جهالة، ما عنده علم بأن الله يكره كذا أو لا يحب كذا، ما عنده علم أن الله يغضب لأجل كذا أو كذا، غلبته شهوته فارتكب معصية كبيرة أو صغيرة، هذا أوجب الله تعالى على نفسه الرحمة له بأن يغفر له ويرحمه إذا تاب.
أثر اقتراف المحرمات على النفس في غير حالة الإكراه والنسيان
وتأملوا الآية الكريمة: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ )[الأنعام:54] لأنه في جواب (إذا)، ( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ )[الأنعام:54]، والسوء: كل ما يسيء إلى النفس البشرية، يخبثها ويعفنها ويفرض عليها الظلم والنتن، إذ كل معصية لله بترك واجب أو بفعل حرام يتولد عنها هذا الأذى للنفس والقلب، واحلف على ذلك بالله ولن تحنث، اللهم إلا إذا كان فاعل المعصية غير متعمد، أو كان مكرهاً بالحديد والنار، فالمكره كالناسي لا يتأثر أحدهما بهذا، فالمكره على أن يقول كلمة الباطل أو يرتكب جريمة معفو عنه، لأنه لا إرادة له، والناسي غير متعمد كذلك فما يتأثر قلبه بهذا العمل.أقول: المعصية لله والرسول تكون إما بترك واجب يجب أن يفعل، أو بارتكاب منهي يجب أن يترك، هذه هي المعصية، إذا ارتكبها عبد ناسياً كما لو أفطر ناسياً أن اليوم من رمضان، أو ارتكبها مكرهاً بالحديد والنار، فهل هذا تؤثر فيه تلك المعصية؟ لا تؤثر، لا تنتج خبثاً ولا تنتن قلبه ونفسه؛ لأنه فاقد الإرادة أو ناس، وفي الحديث: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )، قاعدة مبينة، أما إذا ارتكب ذلك بجهالة، كأن يقول: سوف أتوب، أو لعل هذا لا يغضب ربي، أو أنا معذور.. أو نحو ذلك من أنواع الجهالات كثيرة، ليخرج ذاك الذي يحارب الله وشرعه علناً وعمداً، إذ هذا لا يتوب الله عليه، فهذا الذي فعل هذه المعصية بجهالة ثم تاب وأصلح، أي: أنه ترك المعصية ونفسه مظلمة ليزكيها ويطهرها بالصلاة بالصدقات بالذكر بالدعاء حتى يزول ذلك العفن والنتن في نفسه، وأصلح ما أفسد، سواء أفسد أموال الناس أو أفسد قلبه ونفسه؛ فإن الله تعالى يتوب عليه.
توجيه الرسول وأتباعه المؤمنين إلى الهدي الرباني في التعامل مع المعترف بذنبه الراغب في التوبة
(ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ )[الأنعام:54] أي: الله عز وجل ( غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الأنعام:54]، يغفر له ذلك الذنب ويرحمه، أمر الرسول أن يبلغ هذا للمؤمنين، أيما مؤمن يجيء ويعتذر ويقول: أذنبت يا رسول الله، يقول له الرسول: مرحباً وأهلاً وسهلاً، سلام عليكم، توبوا يتوب الله عليكم، استغفروا يغفر لكم، ما يواجههم بغلظة ولا بشدة ولا بعنف ولا بغضب أبداً، وهذا منهج الرسول الذي سلكه ويجب أن نسلكه نحن، إذا أذنب أخوك أو أذنبت أختك من المؤمنين والمؤمنات فلا تواجه بالمواجهة القاسية أو الشديدة وهو يقول: قد فعلت فاستغفر الله لي، ادع له بالمغفرة وبشره وهنئه بالتوبة التي رزقهم الله إياها، عملاً بهذا التوجيه الإلهي.ماذا قال تعالى؟ ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا )[الأنعام:54]، هؤلاء ليسوا بمشركين ولا كافرين، ( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الأنعام:54]، وقرئت: (فإنه غفور رحيم) يغفر له ويرحمه، يستر ذلك الذنب ويمحوه ويرحمه، هذه بشرى عاجلة، وهل من المؤمنين من لا يذنب طول الدهر؟ أيما مؤمن يذنب ذنباً ويأتيك يستفتيك أو يعرض عليك ذنبه ويسألك عما يصنع فلا تغلظ القول عليه ولا تعبس ولا تقطب، بل قل: مرحباً وسلام عليك، واصبر وتحمل وإنك كذا وكذا، هذه هداية الله للمؤمنين.
(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ )[الأنعام:54] أي: الله ( غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الأنعام:54]، يغفر له ذلك الذنب ويرحمه برضاه وإدخاله جنة النعيم مع الأبرار والصالحين، أما تفرحكم هذه؟
تفسير قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)
الآية الثانية: يقول تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55]، كهذا التفصيل الذي نفصل به الآيات المبينة للشرائع والأحكام والعبادات؛ كهذا التفصيل نفصل الآيات من أجل أن تظهر طريق المجرمين وتترك وتهجر ويبتعد عنها.(وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ )[الأنعام:55]، أي: كهذا التفصيل بذكر الحادثة أو ذكر ما يتبعها وما يترتب عليها، وطريق التوبة والنجاة، هذا التفصيل من أجل ماذا؟ ( وَلِتَسْتَبِينَ )[الأنعام:55] تتضح ( سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55] فيتركها المؤمنون ويهجرونها ولا يلتفتون إليها، ولو لم يكن هناك تفصيل وبيان فسنقع فيما يقع فيه الآخرون، ومن هنا نستنبط أن طلب العلم واجب وفريضة، حتى تعرف طريق الحق من طريق الباطل، حتى تعرف سبيل النجاة من سبيل الخسران، فالله عز وجل يمتن علينا ويقول: هكذا نفصل الآيات من أجل ماذا؟ ( وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55] وتتضح، ويعرف الإجرام والمجرمون والكفرة والكافرون حتى يتجنب طريقهم ويبتعد عنهم، فهل هذه منة إلهية أم لا؟ لو ما بين لنا طريق الهدى فكيف سنهتدي؟ لو ما بين لنا طريق الضلال وفصلها في الكتاب بعد ذلك فسنفعل ما يفعله الناس ونحن لا ندري؟
أقول: الحمد لله أن فصل الله آياته فبين طريق الهدى وطريق الضلال، فمن أخذ في طريق الهدى اهتدى، ومن أخذ في طريق الضلال ضل أحب أم كره.
(وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ )[الأنعام:55] وفي قراءة: (سبيلَ المجرمين) لتعرف يا رسولنا سبيل المجرمين، من هم المجرمون؟ اللصوص والسراق والزناة والمشركون الكافرون، هذا اللفظ يشمل كل معصية، إذ كل من أذنب ذنباً فقد أجرم على نفسه، لوثها وعفنها وأبعدها عن رضا الله ومحبته، كل من أجرم جريمة على نفسه فهو مجرم، وفعلته جريمة.
(سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55] سبيل الظالمين الكافرين المشركين اللصوص، قل ما شئت، وقد بين تعالى هذا في كتابه، ما بقي إثم غير معلوم في القرآن، ما بقيت جريمة غير مبينة في القرآن بسبب هذا التفصيل.
(وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ )[الأنعام:55] أي: كهذا التفصيل، ( وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55].
أطرح هذا السؤال: ما زلت أشك أن كثيرين لا يفهمون معنى الجريمة، فما الجريمة؟ كل من أذنب ذنباً ولو بنظرة محرمة فقد أجرم على نفسه، أفسدها، صب عليها الدخن والنتن والعفن، فهو مجرم، كل من ضرب أخاً أو سلب ماله أو سبه أو شتمه فقد أجرم أم لا؟ فهو مجرم مرتين: أجرم على ذلك العبد وأجرم على نفسه؛ فلهذا كان كل مذنب مجرم.
(وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55]، لولا هذا الكتاب فهل سنعرف الذنوب والمعاصي؟ لن نعرفها، إن عرفنا شيئاً جهلنا أشياء.
تفسير قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ...)
ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ )[الأنعام:56] أيها المبلغ عنا. هنا رسول الله مع ربه، قل يا رسولنا لهم وأعلن: ( إِنِّي نُهِيتُ )[الأنعام:56]، من نهاه؟ الله ربه وخالقه.(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[الأنعام:56]، فابكوا أو اضحكوا، نهاني ربي أن أعبد الذين تدعونهم من أصنامكم وأوثانكم وحجارتكم، أو من شهواتكم وأهوائكم، أو مما اتخذتموه آلهة وعبدتموه كعيسى ومريم .. وما إلى ذلك، نهاني ربي أن أعبد الذين تدعون من دون الله، وتدعون بمعنى: تعبدون، إذ الدعاء هو العبادة ومخها، فمن دعا غير الله فقد عبده، كل من دعا غير الله فقد عبد من دعاه، إذ الدعاء هو العبادة؛ فلهذا قال: ( نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[الأنعام:56]، لا أدعو اللات ولا العزى ولا وثناً ولا حجراً، أدعو الله وحده فقط، فلا تلومونني إذاً فأنا مأمور، سيدي ومولاي نهاني أن أعبد الذين تدعون من دون الله، فهل نعصيه من أجلكم؟
هذه الآيات تزيل مفاهيم من نفوس المشركين وتوجب فهوماً أخرى، يندهشون مما يقول محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: نهاني ربي أن أعبد الذين تدعون، فلا تلومونني أنا، أنا منهي، أنا مأمور، وأنتم لا تنتهون وتعبدون غير الله.

يتبع

ابوالوليد المسلم
15-08-2021, 02:11 PM
معنى قوله تعالى: (قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين)
ثم قال له مرة أخرى: ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56]، ومعنى هذا: أن كل من عبد غير الله بدعاء.. بحلف.. بذبح.. باستغاثة.. بنذر.. بركوع.. بسجود؛ والله ما فعل ذلك إلا اتباعاً للهوى، لا يملك من الحق في ذلك شيئاً، ولا مقدار واحد من مائة من دليل.(قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56]، معنى هذا: لا أعبد ما تعبدون، ولا أعتقد ما تعتقدون، ولا أسلك ما تسلكون؛ لأنكم على غير علم ولا على بينة، وإنما بالأهواء فقط، كيف أترك بيان ربي وهداية مولاي وأتبع أهواءكم؟ هل يوجد من عرف من أبنائنا وإخواننا التوحيد ويستجيب للخرافة فيدعو غير الله؟ ما ذلك بممكن أبداً مهما كان، تدعو رسول الله: يا رسول الله أغثني، أعطيني! هل هناك من يرضى بهذا الكلام؟ لأن هذا هوى؛ فمن فعله فقد اتبع هواه، آلله أمره بهذا؟ في أي آية أمره أن يدعو غير الله والآيات كلها تندد بهذا؟
فكل من عمل ببدعة أو ضلالة والله لا يملك من الهدى شيئاً، إنما ذلك هوى واتباع النفس والشيطان، والآية نص: ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56]، يخاطب من؟ أبا جهل وفلاناً وطغاة مكة، لا أتبع أهواءكم لأنكم لا علم لكم، وإنما هي أهواء فقط وإملاءات إبليس والشيطان، فكيف أتبع أهواءكم؟
ثم يقول: ( قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ )[الأنعام:56]، إذا أنا اتبعت أهواءكم ومشيت معكم ورافقتكم على ما أنتم عليه ( قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ )[الأنعام:56]، سبحان الله! ما وراء هذا البيان من بيان؟
قل يا رسولنا لهؤلاء الضالين المجرمين الداعين غير الله العابدين سواه من أهوائهم وأحجارهم، قل لهم: ( لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56] ما قال: قل لا أتبعكم، قال: ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56]؛ لأن ما يعبدونه كله من الهوى والشهوات، ما شرعه الله على لسان إبراهيم ولا إسماعيل ولا أنزل به كتاباً ولا بعث به رسولاً، بل مجرد اتباع هوى.
(قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا )[الأنعام:56] إذا أنا اتبعت أهواءكم ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ )[الأنعام:56]، فكيف أرضى لنفسي أن أضل وأرجع من الهداية إلى الضلال؟ هذا لا يقبله عاقل أبداً، كيف أرضى به لنفسي؟ من الذي علم الرسول أن يقول هذا؟ إنه الله جل جلاله، حتى لا يبقى في ذهنك ولا في قلبك شيء، هذه تعاليم الله لرسوله، وأمته تابعة له إلا ما دل الدليل على الخصوصية، فكلنا يجب أن نقول هذه الكلمة: لا أتبع أهواءكم في بدعكم وضلالاتكم، فكيف بعد أن نهتدي ونعرف الطريق ننتكس ونرجع إلى الباطل والخرافة والضلالة، كيف يمكن هذا؟
تفسير قوله تعالى: (قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ...)
ثم قال تعالى: ( قُلْ )[الأنعام:57]، لا إله إلا الله! الله بين يديه رسوله وهو يأمره ويعلمه: ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ )[الأنعام:57].أنا على بينة واضحة كالشمس من أنه لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن البعث حق، وأن الجزاء لازم، وهذا جاء به كتاب الله وكذبتم أنتم به، فيا ويلكم.
قل يا رسولنا وبلغ: ( إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي )[الأنعام:57]، ما أنا بجاهل ولا في هوى وعمى وضلال، أنا على بينة أكثر من وضوح الشمس، كيف لا والله يكلمه وهذا كلامه يوحيه إليه وينزله عليه؟ أبعد هذا شك؟ ( إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ )[الأنعام:57] أنتم ( بِهِ )[الأنعام:57] أي: بالقرآن.. بالتوحيد.. بما جئت به من الهدى، كل هذا كذبوا به، فماذا نصنع معكم إذاً؟
معنى قوله تعالى: (ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين)
قل: ( مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ 9[الأنعام:57]، أما قالوا: ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )[الأنفال:32]؟ اللهم إن كان هذا الذي يقول محمد هو الحق فأهلكنا حتى لا نراه بعد الآن، ( فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )[الأنفال:32]، فهنا قال لهم الرسول بتعليم الله: ( مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ 9[الأنعام:57]، لا أملك أنا العذاب بحيث متى طلبتم أنزله عليكم، لست بملك أبداً، أنا بشر، لا أملك سوى أن أبين الطريق بأمر الله عز وجل.(مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ )[الأنعام:57]، (إن) بمعنى: (ما)، ما الحكم إلا لله، هو الذي يعذب متى شاء ويرحم متى شاء، يبين ويهدي ويعلم ويرشد، أما أنا فعبد من عبيده.
فهم كانوا يستعجلونه بالعذاب: إن كنت صادقاً فيما تقول فأنزل علينا كذا، مر ربك ينزل علينا العذاب. وهي حماقة وجهالة وضلال.
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ )[الأنعام:57]، فلا حكم لأحد، الحكم لله فقط، والله ما الحكم إلا له، هو إن شاء أعطى وإن شاء منع، إن شاء أضل وإن شاء هدى، وإن شاء أدخل الجنة وإن شاء أدخل النار، افهم فهماً سليماً أن الحكم ليس لأحد، لا لملك ولا لنبي ولا لولي ولا لأي أحد، الحكم لله، فافزع إلى الله والجأ إليه واطلبه وابك بين يديه ولا تلتفت إلى غير الله تعالى، والله ما الحكم إلا لله.
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ )[الأنعام:57]، فالقرآن الكريم فيه قصص، والله ما فيه قصة واحدة كذباً، لا والله ولا كلمة واحدة ليس فيها حق، فكل ما يقصه من حال عاد وثمود وفرعون وقوم شعيب والأمم وكيف دمرها، وكيف صرخ أهلها وطالبوا بالعذاب ونزل بهم، كل ذلك يقصه قص الحق.
(يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ )[الأنعام:57]، خير من يقضي ويفصل بين الحق والباطل، بين الشر والفساد، بين الخبث والطهر والصفاء، فقولوا: آمنا بالله.
تفسير قوله تعالى: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم ...)
وفي الآية الأخيرة يقول له ربه سبحانه وتعالى: ( قُلْ )[الأنعام:58] يا رسولنا، ( قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ )[الأنعام:58]، ما الذي يستعجلون به؟ العذاب، يريدون أن ينزل الرسول عليهم العذاب بأمر الله، فلو كانوا يعقلون إذا نزل بهم العذاب وهلكوا فماذا سينتفعون؟ ولكن ما هم بمؤمنين بنزول العذاب، بل يريدون أن يتحدوا رسول الله ويعجزوه، حتى إذا قال: ما عندي ذلك قالوا: إذاً ما هو برسول، فالأمم السابقة كعاد لما تحدوا وطالبوا بالعذاب استجاب الله لرسوله هود فأرسل عليهم عاصفة ثمانية أيام وسبع ليال فما بقي أحد منهم، لكن اقتضت حكمة الله ألا ينزل العذاب بتلك الأمة أو الجماعة التي طغت وطالبت بالعذاب؛ لأن الله يعلم أن منهم من يسلم، وأن منهم من يخرج من صلبه مسلمون يعبدون الله عز وجل، فقال لمصطفاه: قل يا رسولنا: ( لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ )[الأنعام:58] أي: من العذاب ( لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ )[الأنعام:58] وانتهينا، لو كان عندي الآن فسأقول: يا رب أنزل بهم وباء فلا يتنفسون حتى يموتوا، لكن ما يستطيع وما يقدر، اللهم أنزل صاعقة من السماء أو اخسف بهم الأرض من تحتهم حتى تنتهي المشكلة، لكن الرسول لا يملك هذا، ومع هذا أيضاً لو كان يملكه فإنه لا يفعل، إذ هو أرحم الناس، لكن هذا هو الجواب لسؤالهم: ( قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ )[الأنعام:58].لو نزل العذاب يعذب الله به الظالمين، أما غير الظالمين فينجيهم، وقد فعل مع عاد قوم هود، أما نجى الله هوداً والذين آمنوا معه؟ أما فعل هذا مع ثمود فنجى صالحاً ومن معه؟ أما فعل هذا مع فرعون فنجى بني إسرائيل في ستمائة ألف وأغرق فرعون ومن معه؟ وهكذا مع نوح في السفينة أنجى ثلاثة وثمانين رجلاً وامرأة، وأغرق العالم بكامله.
قبح الظلم بالإشراك بالله تعالى
(قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ )[الأنعام:58] وانتهينا، ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ )[الأنعام:58]، تكرر معنى الظلم، وأفظعه وأبشعه وأقبحه ظلمك لربك، تأخذ حقه وتعطيه لأعدائه، بعض الإخوان لا يستسيغون هذه الكلمة، أي ظلم أفظع من أن تأخذ حق مولاك وتعطيه لعدوه، هل هناك أعظم من هذا الظلم؟ الظلم المعتاد أن تأخذ مشلح هذا وتعطيه لفلان، أو تخرج هذا من داره وتعطي الدار لفلان، تسقط هذا عن دابته وتعطيها فلاناً، هذا هو الظلم، وظلمك لربك أن تأخذ حقه، تلك العبادة التي ما خلقك إلا من أجلها، ما رزقك ولا أطعمك إلا لها، فتصرفها عنه إلى غيره، أي ظلم أعظم من هذا؟ ولهذا جاء في القرآن: ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )[لقمان:13]، والظلم قاعدته عندنا: وضع الشيء في غير محله، ويتفاوت الظلم، فالآن لو أدخلت أصبعك في أذنيك وقلت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ليلى غني لنا. فهذا ظلم؛ إذ المكان ما هو بمكان غناء، لكنه ليس كظلم من وقف يبول على سارية المسجد، فالظلم يتفاوت ولكنه كله قبح وشر والعياذ بالله، أعظمه الشرك بالله تعالى، الكفر به عز وجل، الكفر بكتابه بشرعه بأوليائه بما عنده وما لديه.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
[ أولاً: وجوب الرفق والتلطف بالمستفتين وعدم الشدة والغلظة عليهم ].من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الأنعام:54]، فإذا استفتاك مؤمن أو مؤمنة وقال: أنا زنيت أنا كذا فلا تعبس في وجهه، يجب أن تتلطف، وتقول له: تاب الله علي وعليك، غفر الله لك، الله غفور رحيم، والحمد لله وأقبل على الله.. وهكذا، أخذنا هذا من هذه الآية.
قال: [ وجوب الرفق والتلطف بالمستفتين وعدم الشدة والغلظة عليهم ]، فالله أمر الرسول ألا يغلظ ولا يشتد عليهم، بل يقول: سلام عليكم، أهلاً وسهلاً.
[ ثانياً: اتباع أهواء أهل الأهواء والباطل يضل ويهلك ]، لقوله تعالى: ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56] لم؟ خشيت أن أهلك، ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56]؛ لأن أصحاب الهوى في طريق الدمار والخسران، فكيف يتخلى من معه نور الله وهدايته ويمشي مع المبتدعة والخرافيين؟ تترك قال الله وقال رسوله وتجلس تسمع الخرافات والضلالات!
[ ثالثاً: على المسلم الداعي إلى ربه أن يكون على علم كاف بالله تعالى وبتوحيده ووعده ووعيده وأحكام شرعه ]، من أين أخذ هذا؟ من قوله تعالى: ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي )[الأنعام:57]، ما أتكلم عن جهل أو ضلال أو تقليد، أنا على بينة، فعلى الذين يدعون إلى الله عز وجل أن يكونوا علماء عالمين بما يحب الله وبما يكره وبما شرع وبما بين من أنواع العبادات والأحكام، أما قال تعالى لرسوله: ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي )[الأنعام:57]؟ والذي لا بينة له يتكلم بهواه وبالخرافات ليتبعه الناس.
قال: [ثالثاً: على المسلم الداعي إلى ربه] وما بيننا إلا داع، كل مؤمن داع مع امرأته.. مع أولاده.. مع جيرانه، ما هو بشرط أن يجلس في المسجد أو في الجامع ليدعو، كل مؤمن يجب أن يخلف رسول الله في الدعوة، لكن لا بد أن يكون على علم.
[ رابعاً: وجوب الصبر والتحمل مما يلقاه الداعي من أهل الزيغ والضلال من الاقتراحات الفاسدة ].
أخذنا هذا من قوله تعالى: ( مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ )[الأنعام:57].
معاشر المستمعين! هذا كتاب الله، الحمد لله أن قضينا ساعة أو بعضها مع ربنا ورسولنا في بيت مولانا، فما أسعدنا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأعطنا ولا تحرمنا، وارض عنا ولا تسخط يا رب العالمين.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
15-08-2021, 02:13 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام - (8)
الحلقة (375)
تفسير سورة الأنعام

الله عز وجل محيط بكل شيء، عنده مفاتيح الغيب، لا يعزب عنه مثقال حبة في السماء أو في الأرض، يعلم ما يجترحه عباده من أعمال صالحة وطالحة، له الجبروت والملكوت، فهو القاهر فوق عباده، وهو الذي يحفظهم بملائكته، حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته الملائكة، فإن كان مؤمناً صالحاً خرجت روحه كالقطرة تخرج من في السقاء، وإن كان غير ذلك انتزعت روحه انتزاعاً يجد أثره في كل مفصل من مفاصله، وكل عرق من عروقه، ثم مرد الجميع إلى الله مولاهم الحق.
تفسير قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، راجين آملين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة والتي زفت بسبعين ألف ملك من الملكوت الأعلى إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وها نحن مع هذه الآيات الخمس، فهيا نستمع إلى تلاوتها مرتلة مجودة، وبعد ذلك نشرع في تفسيرها وبين مراد الله تعالى منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ )[الأنعام:59-62]. سبحانه لا إله إلا هو.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ )[الأنعام:59] آمنا بالله..آمنا بالله. يخبر تعالى أن خزائن الغيب عنده ومفاتيحها عنده، إذاً: فمن احتاج منكم إلى شيء فليقف أمام ربه وليسأله فإنه عنده مفاتح الغيب، وقرئ (مفاتيح)، و(مفاتح) جمع مفتح، وهو الخزانة المستودعة لما أودع الله فيها من الأرزاق، والمفاتيح أيضاً بيده، فلم يبق مجال لعاقل أن يضع حاجته بين يدي كائن من كان سوى الله عز وجل.
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ )[الأنعام:59]، ليس هناك من ملك ولا نبي ولا ولي يعلم هذا الغيب، هذه المستودعات، هذه الخزائن الله خالقها وموجدها وهو العليم بها، فيا بني الإنسان ويا بني الجان! عليكم بربكم تعالى لا تلتفوا إلى غيره فإنه بيده مفاتح الغيب، هكذا يريد تعالى أن يقول لنا.
(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )[الأنعام:59]، وما هناك إلا بر وبحر، وقدم البر لأن البر أقل من البحر والبحر أوسع، كل الكائنات الموجودة في البر والبحر الله بها عليم، من الذرة إلى المجرة في الملكوت الأعلى، هذا أبلغ من كلمة (عالم الغيب)؛ حتى تنشرح الصدور وتطمئن النفوس وتهدأ القلوب.
يقول تعالى: ( وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )[الأنعام:59] من كائنات على اختلافها وعلى فوائدها وعلى مضارها ومنافعها، ولا يحصيها إلا الله، ويعلم ما يسقط من ورق هذه الأشجار في الجبال والسهول وفي الأماكن المطلقة، والله ما تسقط ورقة من شجر إلا يعلمها.
فهذا الذي يجب أن يعبد، هذا الذي يجب أن يدان له بالطاعة، هذا الذي يجب أن يحب، هذا الذي يجب أن نطرح بين يديه ونسأله ما نحن في حاجة إليه، أما الأهواء والشهوات والأصنام والأحجار والشياطين فكل هذا ضلال مبين.
إحاطة علم الله تعالى بكل شيء وتسطيره في اللوح المحفوظ
(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا )[الأنعام:59]، والورق ورق الشجر، ( وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ )[الأنعام:59]، أي: ولا توجد حبة من البذور على اختلافها وتنوعها من بذرة الكزبرة إلى بذرة الدبا ( وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )[الأنعام:59].علمه الذي أحاط بكل شيء، وأضف إلى ذلك أن كل شيء دونه في ذلك الكتاب، فكيف ينجو الظالمون وكيف يسعد المشركون، وكيف تهنأ نفوس البغاة والظالمين وهم بين يدي الله أكثر من كونك أنت بين يدي أمك أو أبيك؟
هذا العلم الذي أحاط بكل شيء صاحبه يسب ويشتم وينسب إليه الولد ويدعى معه غيره ويتوسل إلى غيره! أمر عجب، وهو الإعراض عن الله وذكره وعن عبادته وحده دون من سواه.
مرة ثانية: تأملوا هذه الآية: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )[الأنعام:59]، ألا وهو كتاب المقادير، ألا وهو اللوح المحفوظ، ألا وهو الإمام المبين؛ إذ جاءت أسماؤه في القرآن ثلاثة: الإمام المبين واللوح المحفوظ وكتاب المقادير.
هذا هو الله فكيف نعرض عنه وعن ذكره وطاعته ونقبل على طاعة الشياطين وما تزينه من الأهواء والخبائث والرذائل؟ ما يبقى إلا أن يقول قائل: ما عرفناه، لو عرفنا هذا لما أعرضنا عنه.
إذاً: لم لا نعرف هذا؟ أما أنزل كتابه وهو بين أيدينا محفوظاً في صدورنا ومكتوباً بسطورنا على أوراقنا؟! وإنما العدو من الإنس والجن هو الذي صرفنا عن دراسة كتاب الله ومعرفة ما جاء فيه من سبل الهداية وطرق الضلال؛ لنبقى هابطين ساقطين حيارى مفتونين، ما هناك جواب إلا هذا.

يتبع

ابوالوليد المسلم
15-08-2021, 02:13 PM
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ...)
هيا إلى الآية الثانية: يقول تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ )[الأنعام:60]، ينيمكم لتناموا. أوتظنون أن النوم سهل؟ والله لولا الله أراده لما استطاع أحد أن ينام، ما هناك فرق بين النوم واليقظة، وقد ننام بالنهار، لكن نوم الليل هو الأكثر وهو الذي تتجه الموعظة به. من يتوفانا في الليل؟ إنه الله تعالى، فالأعمال التي كنا نعملها في اليقظة لها حد تنتهي إليه، إذاً: ينيمنا فإذا نمنا وقف العمل فإذا استيقظنا بدأ التسجيل علينا والعمل، لكن الظاهرة هي ظاهرة النوم، فكيف ننام لولا تدبيره ولولا حكمته ولولا قدرته ومشيئته؟ من منكم يغمض عينيه ويقول: أنا نمت الآن؟ والله لا يغمض ولا يقدر.
وقد جاء من سورة يونس من مظاهر قدرة الله وعلمه أنه تعالى يتوفانا بالنوم، وهنا يقول تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ )[الأنعام:60]، والجرح يكون بالسكين أو بالعود، والمراد من الجرح هنا العمل بالجوارح، أولاً: تجرح بعينك فتنظر ما لا يحل لك أو ما لا يجوز لك ويسجل عليك، تجرح بأذنك فتسمع الخير أو الشر والحق أو الباطل، تجرح بلسانك فتقول المعروف أو المنكر، تجرح بيديك فتسرق وتخطف أو تتصدق، تجرح برجليك فتمشي إلى الحانات ودور الباطل أو إلى المساجد ودور المعرفة والعلم، فكم جارحة هذه؟ خمس.
ويبدو لي أن الجوارح الخمس لا بد أن نجترح بها، أما جرح الأنف والبطن والفرج فتابع، لأننا نجترح فننظر ونسمع ونقول أو نأكل ونشرب ونأخذ بأيدينا ونمشي بأرجلنا.
(وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ )[الأنعام:60] والنهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، أو قل: من اليقظة من النوم إلى النوم، نجترح أي: نكتسب بجوارحنا، وهو تعالى يعلم هذا أم لا؟ وإذا كان يعلمه فهل يجزي به أو يهمله؟
إذا: فوالله إننا لمؤاخذون بجوارحنا إن نحن اجترحنا السيئات، أما إذا اجترحنا الحسنات فليهننا ذلك، لكن إذا اجترحنا السيئات من النظرة المحرمة إلى سماع كلمة الباطل إلى النطق بالسوء إلى الأخذ باليد أو العطاء لما لا يجوز إلى المشي بالرجل إلى ما لا ينبغي؛ فكل هذا يسجل علينا ونجزى به، إلا من تاب وتاب الله عليه فإنه يمحى ذلك الأثر ويزول من نفسه ومن كتاب الملائكة.
معنى قوله تعالى: (ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون)
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ )[الأنعام:60]، أي: في النهار، يتوفانا بالليل ويبعثنا في النهار، لماذا؟ ( لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى )[الأنعام:60]، ننام ونستيقظ إلى أن ينتهي النفس الأخير، انظروا كيف يرعانا نائمين ومستيقظين نعمل الحسنات والسيئات، وهكذا قال: ( ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى )[الأنعام:60]، والذي يقضي هو الله، والأجل هو نهاية العمر، الأجل المسمى نهاية الحياة للإنسان. (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ )[الأنعام:60] مرجعنا إلى من؟ إلى الله، والله ما لنا من مرجع نرجع إليه إلا الله عز وجل، ( ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ )[الأنعام:60] يخبركم بما كنتم تعملونه من الخير والشر، من الحق والباطل، من العبادات الصالحة ومن الشركيات الباطلة، ومن شك في هذا كفر وما آمن بالله، وهذه الحقائق ثابتة ثبوت هذا الكون.
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ )[الأنعام:60] أي: في النهار ( لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى )[الأنعام:60]، أي: لتتم مدة الحياة للفرد والجماعة، ( ثُمَّ ) بعد الموت ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ )[الأنعام:60]، ثم بعد ذلك إذا وقفنا في ساحة فصل القضاء ينبئنا بما كنا نعمل ويجزينا به الخير بمثله والشر بمثله، فقولوا: آمنا بالله، هكذا يتعرف إلينا لنعرفه معرفة يقينية فيزداد حبنا فيه وله وخوفنا منه، فهذه نتائج العلم بالله.
تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ...)
ثم يقول تعالى: ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )[الأنعام: 61]، وهو القاهر المتحكم المسيطر المذل المعز المعطي المانع ( فَوْقَ عِبَادِهِ )[الأنعام: 61]، وليس فوق الله شيء. فهذا هو الذي يتحاب الناس من أجله، هذا هو الذي يطلب ويبحث عنه حتى يعرف معرفة يقين فيتأهل العارف بعبادته وطاعته، وبحبه والمهابة والخوف منه، وهو القاهر وحده، ولا أحد آخر معه.
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )[الأنعام: 61] أولاً ( وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً )[الأنعام:61]، والحفظة من بينهم الكرام الكاتبين، إذ يتعاقب فينا ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، اثنان أحدهما يقعد عن اليمين والثاني عن الشمال من صلاة الصبح إلى نصف إلى أن نصلي العصر، يتركانك بعد صلاة العصر وينزل اثنان من صلاة العصر إلى صلاة الصبح.
وهناك قرين ملازم لا يفارقنا ليلاً ولا نهاراً، وهناك حفظة يحفظوننا من الجن والشياطين أيضاً غير هؤلاء، فمن يرسل هذا الجيش لحمايتك كأنك سلطان؟ ( وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً )[الأنعام:61]، ينزلهم من الملكوت الأعلى يرسلهم علينا لا لنا.
معنى قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون)
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ )[الأنعام:61]، والموت قادم، والله إنه لآت، متى؟ لا ندري، قد يكون الآن أو بعد ساعة أو بعد يوم، فلم ننسى الله ونعرض عن ذكره؟ لم نصاب بهذه المحنة: الإعراض عن ذكر الله والإقبال على الشهوات والأهواء ونحن محكوم علينا بالموت؟ ومن حكمة الله ألا يطلعنا عليه حتى يأتي مفاجأة، وبذلك تتم حكمة الله. لو علمت أنك تموت بعد أسبوع أو بعد شهر فستستقيم، لكن ما دمت في دار الابتلاء والعمل فإنك لا تدري حتى تؤخذ على ما أنت عليه.
(وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً )[الأنعام:61] إلى متى؟ (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ )[الأنعام:61]، هل لله رسل؟ كل من أرسله الله من الملائكة رسول، وكل من أرسله من الأنبياء رسول.
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا )[الأنعام:61] ملك الموت وأعوانه، ملك الموت هو الذي يأخذ الروح ويستلها من الجسم ويسلمها للموكب الذي ينتظره، والموكب إما أن يكون من أهل السعادة أو من أهل الشقاء، فإن كان الميت من أهل الشقاء فلا تسأل عن هذا الموكب كيف وجوههم وكيف أصواتهم، وإذا كان من أصحاب الأرواح الزكية والأرواح الطاهرة فلا تسأل عن طهارة هذا الموكب.
(تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ )[الأنعام:61]، والله ما يفرطون أبداً، مستحيل أن يأتي ملك الموت وأعوانه ثم يقول: نرى أن نؤجل هذا إلى غد أو إلى ساعة من الآن، مستحيل أن يعصوا الله كما نعصيه نحن، ( وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ )[الأنعام:61]، لا بد أن يمضي هذا الحكم الإلهي، إذا جاءت الرسل المرسلة منه لقبض روح فلان فإنهم يأخذونها بالوقت المحدد باللحظة وبأقل من اللحظة ولا يفرطون في ذلك أبداً.
آمنا بالله.. آمنا بالله. هذا كلام الله، أسألكم بالله: هل هذا يقرأ على الموتى؟ أسألكم بالله: هل هذا يهجر ولا يدرس ولا يتدبر ولا يتفكر فيه؟
تفسير قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ...)
قال تعالى: ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )[الأنعام:61-62]، بعد الموت نرد إلى من؟ إلى ملكنا وإلى ولي أمرنا الله تعالى، ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )[الأنعام:62]، مولاهم مالكهم سيدهم ربهم إلههم الذي يملكهم حقاً وصدقاً؛ إذ هو خالقهم ورازقهم وخالق الكون كله من أجلهم، أليس هو مولاهم؟! (ثُمَّ رُدُّوا )[الأنعام:62] بعد استلال الروح من هذا الجسد واستلامها والعروج بها أو الهبوط، وقد علمنا من غير هذه الآية أن الأرواح الطاهرة إذا أخرجت وعرج بها تفتح لها أبواب السماء سماء بعد سماء حتى ينتهي الملائكة بها إلى تحت العرش، ويسجل الاسم في كتاب عليين، وإذا كانت الروح خبيثة منتنة عفنة بأمراض الشرك والمعاصي والكفر والآثام فلا تفتح لها أبواب السماء، وينزلون بها إلى أسفل سافلين، واقرءوا: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ )[الأعراف:40]، ومتى يدخل البعير في عين الإبرة؟ مستحيل! فصاحب النفس الخبيثة مستحيل أن تدخل نفسه دار السلام، هل عرفت البشرية هذا؟ ما عرفت، خمسة وتسعون في المائة -بل تسعة وتسعون- ما عرفوا هذا، معرضون مصروفون، وإلا فلو فكر أحدهم فقال: أنا مخلوق أم لا؟ أي نعم، ومصنوع، فأين صانعي؟ من هو؟ فإن قالوا: يوجد في الصين من يعرفه؛ فإنه -والله- يرحل ليعرفه، وإذا وجد من يعرف صانعه قال: ماذا يريد مني؟ علمني عرفني. يقول: يحب منك كذا وكذا ويكره لك كذا وكذا وقد أعد لك كذا وكذا. فيعبد الله ويسعد بتلك العبادة وإن كان مريضاً أو جائعاً، هذا واقعنا والله يدخل في رحمته من يشاء.
قال: ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )[الأنعام:62]، وهل هناك موال آخرون؟ هناك ولايات لكنها باطلة، لا مولى لك حق إلا الله، كل من ادعى أنك عبده وأنه ولي أمرك فادعاؤه باطل، فمولانا معبودنا ربنا خالقنا الحق هو الله: ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )[الأنعام:62]. ‏
معنى قوله تعالى: (ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين)
ثم قال تعالى: ( أَلا )[الأنعام:62]، ونحن اليوم نستخدم كلمة (ألو) هذه التي شبعنا بها حتى الأطفال الصغار، القرآن يقول: ( أَلا )[الأنعام:62] استمع انتبه، هل أنت واع، هل أنت تفهم؟ هذا معنى ألو. (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ )[الأنعام:62]، اجتمعوا على صعيد واحد في عرصات القيامة ثم لا حكم إلا لله، ليس مع الله أحد في ذلك الموطن يحكم معه، ( أَلا لَهُ الْحُكْمُ )[الأنعام:62]، وقد يقول قائل: إذاً قد يطول الزمان، فلا بد أن يسند ويساعد! والجواب: لا تفهم هذا الفهم فإنه أسرع الحاسبين، أسرع من يحاسب ويجزي كلاً بكسبه وعمله.
فاللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الكسب الصالح، ومن أهل الإيمان والتقوى يا رب العالمين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما تعلمنا واجعلنا من الراشدين، اللهم اجمعنا على كلامك في بيوتك يا رب العالمين، وارزقنا اليقين، اللهم ارزقنا اليقين، وتوفنا وأنت راض عنا وأدخلنا يا ربنا برحمتك في عبادك الصالحين.

وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
26-08-2021, 05:20 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (376)
تفسير سورة الانعام (9)


كان المشركون في جاهليتهم يدعون مع الله آلهة أخرى، حتى إذا وقعوا في الشدة والكرب دعوا الله مخلصين له الدين، فإذا نجاهم من ذلك عادوا لما كانوا عليه سابقاً، وهذا برهان عظيم على بطلان فعلهم وفساد معتقدهم، فالله سبحانه وتعالى الذي تفرد بخلقهم ورزقهم وإحيائهم وإماتتهم قادر على أن ينزل على من يشاء منهم عذاباً من فوقهم، أو من تحت أرجلهم، ولن يجدوا لهم من دونه ولياً ولا نصيراً.
تفسير قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ) .
وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلك السورة التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح.
هذه السورة تقرر أصول العقيدة: توحيد الله عز وجل، إثبات النبوة لمصطفى ربنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتقرير البعث الآخر والجزاء على الكسب والعمل في الدنيا، وها نحن مع هذه الآيات فلنستمع إلى تجويدها من أحد الأبناء ثم نشرع في بيان ما جاء فيها بإذن الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )[الأنعام:63-67].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )[الأنعام:63]، قل يا رسولنا أيها المبلغ عنا، وهو النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، والذي خاطبه فأمره هو الله ربنا ورب العالمين، وتلقى هذا الخطاب بواسطة الوحي الإلهي الذي ينزل به جبريل عليه السلام.
قل يا رسولنا للمشركين من قومك للعادلين بربهم أصناماً وأحجاراً، قل لهم: ( مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )[الأنعام:63]، وما ينزل عليكم من بلاء، سواء كنتم في البر بالأمطار والعواصف والرياح أو في البحر، (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً )[الأنعام:63]، تدعون الله عز وجل وتطلبون منه أن يكشف ما بكم من كرب وأن يزيل ما بكم من غم وهم عندما يصيبكم ذلك.
المفارقة بين شرك العرب الأولين وشرك المعاصرين من المسلمين حال الشدائد
(تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا )[الأنعام:63] أي: حال كونكم متضرعين إليه بالأصوات الخافتة الخفية الدالة على الاستكانة والفقر والحاجة، ما هي بأصوات التجبر والتكبر كما تكونون خارج الهم والكرب، تدعونه تضرعاً وخفية وتحلفون له لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين له العابدين له الموحدين له، وهذه حقيقة قررها القرآن وأثبتها في آيات كثيرة. فالعرب المشركون في الجاهلية إذا كانوا في حال الشدة يفزعون إلى الله يدعونه ويتضرعون له بأصوات الضراعة، وإذا زال الهم والغم أو البؤس أو الشدة نسوا ذلك وأقبلوا على الأصنام يعبدونها بالتقرب إليها بالذبح والنذر والتمسح بها والعكوف حولها، هكذا كانوا.
وهنا نذكر الجهل الذي أصاب أمة القرآن لما صرفت عنه وحول إلى الموتى وحرمه الأحياء، تجد في ديارنا في العرب والعجم إلى الآن إذا أصاب إخواننا هم أو غم أو كرب يفزعون إلى الأولياء وإلى القبور يستغيثون ويستعيذون ويطلبون ويتوسلون، وإذا رفع الله ذلك البلاء وأزال ذلك الكرب والهم كذلك لا يشكرون الله عز وجل، فكانت حالنا أسوأ من حال المشركين، وبيان ذلك أن المشركين في حال الشدة يفزعون إلى الله وفي حال الرخاء يفزعون إلى أصنامهم وينسون شكر الله عز وجل، وذلك لجهلهم، ولجهل أمة الإسلام بعد أن صرفت عن كتاب الله ودراسته حصل لها ما حصل للمشركين، ولكن الذي يؤسف أنه حتى في الرخاء نستغيث بأولياء الله ونستعين بهم إلى غير ذلك، فحالنا أحط من حال المشركين الأولين.
فاسمع ما يقول تعالى عن العرب في جاهليتهم، يقول: (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً )[الأنعام:63] قائلين مقسمين حالفين (لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ )[الأنعام:63] التي نزلت بنا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ )[الأنعام:63] له، فإذا زال ذلك الهم والغم نسوا الله عز وجل وما عبدوه ولا شكروه، هذا إخبار الله، يقول لرسوله: بلغهم ذكرهم ليفيقوا وليرجعوا إلى الحق.
تفسير قوله تعالى: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون)
ثم قال تعالى لرسوله: ( قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ )[الأنعام:64]، قل لهم يا رسولنا: الله ينجيكم من هذه المحنة أو هذه الأزمة التي حصلت، ينجيكم منها ومن كل كرب، ومع الأسف أنتم تشركون، لماذا؟ الجواب: لأنهم ما عرفوا الله وما عرفوا ما عنده وما لديه وما فقهوا ولا علموا، فلهذا يجب أن يصغوا وأن يستمعوا وأن يعلموا ويعملوا، وما بعث الله رسوله فيهم إلا من أجل هدايتهم والأخذ بأيديهم إلى سبيل النجاة والسعادة، لكن الرؤساء منهم يصرفونهم بأساليب الصرف كما تقدم وسيأتي.
تفسير قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم ...)
ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ )[الأنعام:65]، ( قُلْ هُوَ )[الأنعام:65] أي: الله عز وجل ( الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ )[الأنعام:65]، كالصواعق التي تنزل، (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ )[الأنعام:65]،كالخسف والزلزال، وتمضي الأيام والأعوام ويصبح ما ينزل من السماء الصواريخ التي تدمر البلاد والعباد، وتحت الأرض المتفجرات التي تحول الديار إلى بلاقع، وسبحان الله! هذا كلام الله. ‏
معنى قوله تعالى: (أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض)
(قُلْ هُوَ )[الأنعام:65] جل جلاله وعظم سلطانه، هو وحده لا غيره ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ )[الأنعام:65]، ما معنى (يلبسكم شيعاً)؟ أي: يوجد الفرقة بينكم وتفترقون وتصبح كل جماعة تدعو إلى ما تدعو إليه وتبغض الأخرى وتحاربها، تنقسم دولتكم إلى دويلات كل يطلب الملك والسيادة والعز، وتستمر الفتنة بينكم فلا سعادة في الدنيا ولا في الآخرة، فهو القادر على هذا وقد فعله بأمة القرآن وبأمة الإسلام، أليست مفرقة؟ أليست مقسمة؟ أليست شيعاً وطوائف وأحزاباً وجماعات؟ وهي اليوم أذل العالم.
ذكر خبر التسليط على الأمة بتفرقها وتناحرها
وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله زوى لي الأرض ) أي: جمعها ( فرأيت مشارقها ومغاربها )، جمع له الأرض ككتلة بين يديه، وتشاهدون هذا، قد تشاهد نيويورك في صفحة كعرض الكف، كالتلفاز، ولا عجب.قال: ( وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها )، وقد جمعت الأرض بين يديه يشاهدها، قال: ( وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ) الذهب والفضة، ( وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكهم بسنة عامة ) من الجدب والقحط أو البلاء والأوبئة التي تأتي على آخرهم، ( وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها -أو قال: من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ) .
دعا ربه بعدما عرف على وجه شاشة شاهد فيها الكرة الأرضية، وقد كنا قبل أن توجد هذه الآلات نؤمن بما يخبر به الله والرسول، ولا نقول: كيف، والآن -كما قلت لكم- تكون جالساً أمام تلفاز عرضه وطوله ذراع وتشاهد نيويورك بكاملها أو القارة الخامسة.
إذاً: فلا غرابة ولا عجب أن زوى له الأرض وجمعها بين يديه فشاهد مشارقها ومغاربها كما هي، وأعلمه أن ملك أمته سيبلغ هذا -وقد بلغ وتم- وأنه أعطي الكنزين الأحمر والأبيض، وقد كانت أمة العرب فقرها لا وصف له، فأصبح المسلمون في القرن الأول والثاني والثالث أغنى البشر والعالم بالذهب والفضة.
ثم سأل ربه ألا يهلكها بسنة عامة فاستجاب الله له، وسأله أن لا يسلط عليها عدواً من غير نفسها يذلها ويهلكها فاستجاب، ولكن بشرط أن تكون أمتك متفقة متحدة، فإن افترقت واختلفت مذاهب وطوائف وشيعاً وأحزاباً ودويلات؛ فلا بد أن يسلط عليها أعداءها ليذلوها، وكذلك حصل وتم هذا الخبر كما هو، أما استعمرت أمة الإسلام كلها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب وأذلهم الغرب إذلالاً لا حد له؟ ومن مظاهر ذلك الآن أن حفنة من اليهود أذلوا العالم الإسلامي بكامله إذلالاً كاملاً، ومن هنا نعرف أن الفرقة هي سبب البلاء والشقاء، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو سبب الجهل العميق، بحيث أصبحوا لا يعرفون الله ولا يحبونه ولا يخافونه، فضلاً على أن يعرفوا ما يحب وما يكره، وتحقق هذا.
دعوة لاجتماع الأمة على كتاب الله وسنة رسوله وتوحيد أقاليمها
فهيا نرجع إلى الله عز وجل، فما أخبر الرسول بهذا إلا لأنه لا بد أن نسلم أنفسنا وننقاد، علمنا لنحذر ونتقي هذه الفتنة، فأي مانع يمنع أن يجتمع المسلمون على كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يبقى مذهب حنبلي ولا شافعي ولا مالكي ولا جعفري ولا زيدي ولا إباضي؟ آالله أمرنا بهذا؟ والله ما أمر. ثانياً: إذا أنهينا الفرقة في أربع وعشرين ساعة فإن معنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك بيان الحلال والحرام والآداب والأخلاق والعبادات والسياسة المالية والاقتصادية والعسكرية، كل ما نحتاجه موجود في كتاب الله وسنة رسوله.
في أربع وعشرين ساعة نكون أمة واحدة، ذلك أن ولاة الأقاليم الإسلامية يجتمعون في هذه الروضة ويبايعون إمام المسلمين وكل يعود والياً على إقليمه، فماذا يكلف هذا؟ لا شيء. وماذا يثمر هذا؟ كل الخير، أما أن نرضى بالفرقة والخلاف حتى في العقائد والعبادات، ونعرض عن الشريعة بما فيها ونعرض عن كتاب الله فلا ندرسه ولا نجتمع عليه وإنما نقرؤه على الموتى؛ فما الذي يرجى لنا سوى الذل والهون والدون؟
أقسم لكم بالله على أنه لا ينتظم أمرنا وتستقيم حياتنا ونقود البشرية إلى سعادتها بعد أن ننجو نحن ونسعد إلا بترك الفرقة كيفما كانت، البلد الآن مذهبه واحد وفيه جماعات مفترقة: هذا صوفي وهذا كذا وهذا كذا وهذا كذا، مفترقون في بلد واحد، المذاهب متفرقة ومتعددة، كل جماعة تعتز بمذهبها، آالله أمر بهذا؟ حاشاه تعالى أن يأمر بهذا وهو القائل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا )[آل عمران:102-103] هذا أمره ونهيه أم لا؟

يتبع

ابوالوليد المسلم
26-08-2021, 05:20 AM
صور من الفوضى في الحياة الإسلامية البعيدة عن الهدي الإلهي
عجب هذا القرآن! اسمع ما يقوله تعالى لرسوله والأمة تسمع، يقول له: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ )[الأنعام:65] يخلطكم ( شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ )[الأنعام:65] وحصل هذا أم لا؟ قبل وجود الاستعمار بسنوات في بدايته كيف كان حال المسلمين؟ في بلاد المغرب لا تمشي من قرية إلى أخرى حتى تدفع جزية بين العرب أنفسهم! هنا في المدينة كان يؤخذ باب منزلك كي يباع في السوق ولا تستطيع أن تتكلم.
عندنا نخلة كبيرة يقول لنا آباؤنا عنها: هذه علق بها مائة رأس من قبيلة عدوة لنا! مائة شخص ذبحوهم وعلقوا رءوسهم، وهذا في بلاد العالم الإسلامي بكامله، ولولا ذلك لما سلط عليهم النصارى، سلطهم عليهم رحمة بهم وشفقة عليهم، تدبير الله عز وجل، وما عرف العرب الأمن هكذا إلا بعد أن حكموا ببريطانيا وبفرنسا وغيرها، وهذا هو شأن من يرضون بالانقسام والفرقة والبعد عن الله عز وجل.
وها هم تحت النظارة، لا تظنوا أن الله غاب أو عجز، ما زال هو القوي القاهر القادر على ما يشاء، فإما أن نسلم قلوبنا ووجوهنا له ونصبح أمة واحدة كشخص واحد، وإما ينزل بنا بلاء أصعب وأشد من البلاء الأول، وبلغوا هذا.
معنى قوله تعالى: (انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون)
ثم قال تعالى لرسوله: ( انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ )[الأنعام:65]، انظر يا رسولنا كيف نصرف الآيات هذه التي تتلى وننوعها ونبين ما فيها من هداية رجاء أن يفقهوا. وأكثرهم فقه وعرف، لكن الآن لما هبطنا لم يعد كثير من المسلمين يفقهون أبداً ولا يعرفون، أما الأولون ففقهوا ودخلوا في الإسلام، ما هي إلا سنيات -خمس وعشرون سنة- وما بقي كافر في الجزيرة، لكن نحن هل أقبلنا على الآيات وقد صرفت؟ أسألكم بالله: كم درساً يوجد في العالم الإسلامي مثل درسنا هذا في تفسير كتاب الله؟ بعض العلماء يقول: لا يجوز تفسير كلام الله، ويقرءون القرآن على الموتى! وأوضح من هذا أننا دائماً نقول: من منكم جلس يوماً في ظل شجرة أو جدار أيام العمل أو جلس تحت سارية المسجد وقال لأحد المارين: تعال اقرأ علي شيئاً من القرآن؟ هذه آية الإعراض أم لا؟
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـابن مسعود : ( يا ابن أم عبد ! اقرأ علي شيئاً من القرآن، فيعجب عبد الله فيقول: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: أحب أن أسمعه من غيري. فيقرأ عليه من سورة النساء قرابة الثلاثين آية حتى بلغ: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا )[النساء:41-42] قال: حسبك. قال: فالتفت فإذا بعيني رسول الله تذرفان ) ، عرفتم أننا تحت النظارة أم لا؟
سئل أحدهم: أين الله؟ فقال: بالمرصاد وقرأ ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ )[الفجر:14]، فلا تظن أنه راض عن أمة الإسلام وهي في هذه الفتنة، أعرضوا عن كتاب الله عن أحكامه عن شرعه، أباحوا المحرمات علناً، فهل هم آمنون؟ هل خوفوا الله؟! والله ما هو إلا الإمهال والإنظار.
(انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ )[الأنعام:46]، وتصريفها من موضوع إلى موضوع ومن حكم إلى حكم ( لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ )[الأنعام:65] أسرار هذا التشريع، ويعرفون حكم هذا التشريع، ويتذوقون ذلك بإيمانهم وإقبالهم على ربهم يذكرون ويشكرون.
تفسير قوله تعالى: (وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل)
ثم قال تعالى: ( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ )[الأنعام:66]، (وكذب به) أي: بهذا القرآن المنزل عليك يا رسولنا المفصل الآيات المبينة، كذب به قومك الذين أرسلت إليهم، ولكن كما قلت لكم: في أقل من خمس وعشرين سنة دخلوا في الإسلام. (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ )[الأنعام:66] الذي لا حق أبداً بعده، أليس هذا كلام الله؟ ثم قال له: ( قُلْ )[الأنعام:66] أي: لقومك وأنت توجه وأنت تبين وأنت تهدي، ( قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )[الأنعام:66]، ما أنا وكيل الله ولا وكيل السلطان ولا وكيل الملك فأكون ملزماً بهدايتكم، ما أملك هذا أبداً، ما علي إلا أن أبين الطريق فمن سلكها اهتدى ومن أعرض عنها شقي وهلك، ما أنا بوكيل عليكم ومتصرف فيكم ألزمكم بالإيمان وأكرهكم على الدخول في الإسلام وأجبركم على أن تصلوا أو تصوموا.
(قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )[الأنعام:66]، اعرف هذا يا رسولنا وبلغه لهم؛ لأنهم يطالبونه -كما تقدم- بالمعجزات والآيات، ما هو من شأن الرسول هذا، ما شأنه إلا البيان: ( إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ )[الشورى:48]، بلغ فقط كلامنا للبعيد القاصي والقريب الداني، هذه مهمتك، أما أن تصلح الناس وتهديهم فما هذا شأنك، ما كلفناك بهذا ( قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )[الأنعام:66].
تفسير قوله تعالى: (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون)
ثم يقول له: ( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ )[الأنعام:67]، لكل نبأ من أنباء الله وأخباره مستقر يستقر فيه لن يخطئه، فكل ما أوعد الله به أو وعد يتم كما أخبر، لا تظنوا أبداً أن شيئاً أخبر الله به لا يقع، فخبره تعالى بقوله: ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) [الأنعام:65] هل حصل أم لا؟ هل تم كما أخبر أم لا؟ (لِكُلِّ نَبَإٍ )[الأنعام:67] والنبأ: الخبر العظيم ذو الشأن ( مُسْتَقَرٌّ )[الأنعام:67] زمان ومكان يستقر فيه ولا يخطئ، طال الزمان أو قصر، في الدنيا والآخرة، ( وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )[الأنعام:67]، وقد علموا.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
أعيد تلاوة الآيات فتأملوا:
(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً )[الأنعام:63] وتقولون حالفين ( لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ )[الأنعام:63]، من هذه الأزمة التي حلت بهم ( لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ )[الأنعام:63-64] به غيره، تشركون به الأهواء والشهوات والأطماع والدنيا والباطل فضلاً عن دعاء غير الله والاستغاثة بغيره.
ثم قال لرسوله: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ )[الأنعام:65]، والآن عرفنا العذاب من فوقنا بالصواعق والصواريخ، ومن تحت الأرجل بالمتفجرات، ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ )[الأنعام:65] يخلطكم ( شِيَعًا )[الأنعام:65] كما يخلط الثوب بالبدن، ( شِيَعًا )[الأنعام:65] أي: طوائف وأحزاب وجماعات يتشيع بعضها لبعض، ( وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ )[الأنعام:65] وقد فعل، فكم من أرواح أزهقت، وكم من أجسام مسلمة كسرت بأيدي المسلمين.
وإلى الآن يوجود هذا، الآن في ديارنا الجزائرية أكثر من خمسين ألفاً، وفي ديار الأفغان إلى الآن، وقد شاهدوا آيات الله كأنهم عمي لا يبصرون، قبل أمس في لبنان ماذا حصل؟ مع مرور أكثر من عشرين سنة بلاء، وها هي دائرة في كل مكان؛ لأن الله تعالى قال: ( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ )[الأنعام:67] لا بد أن يستقر في مكانه.
وها نحن في هذه الديار الطيبة المباركة أيضاً نهدد ونخوف، وما سبب ذلك إلا إعراضنا وغفلتنا وإقبالنا على الدنيا وأباطيلها، ولو أننا رجعنا إلى الحق وقلنا: الله أكبر، لا إله إلا الله، ورضينا بالقليل من الطعام والشراب وأقبلنا على عبادة الله؛ فوالله لو كادنا أهل الأرض لما استطاعوا أن يزلزلوا أقدامنا، لكن هم ينفخون الذنوب والمعاصي بوسائل عجب، ونحن كالأبقار مددنا أعناقنا ونرحب بكل ما يأتينا حتى برانيط أولادنا، هذا مثال، وأمثلة الأغاني والمزامير والربا وغير ذلك لا تسأل عنها، كل هذا من يد الأعداء حتى يزول هذا النور وتنطفئ هذه الأنوار الإلهية، والله نسأل أن يبقيها إلى يوم القيامة، اللهم من كاد هذه الديار بكيد فعجل بهلاكه يا رب العالمين، واصرفه وكيده يا حي يا قيوم.
ثم يقول تعالى لرسوله: ( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ )[الأنعام:66]، إذاً قل لهم: ( لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )[الأنعام:66]، أنا لا أملك هدايتكم ولا أقدر على أن أنزل العذاب بكم، هذا موكول إلى الله ليس لي أنا، ما علي إلا أنني أعلم من أراد أن يتعلم وأبلغ من لم يبلغه كلام ربه عز وجل.
(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ )[الأنعام:67] والله ( تَعْلَمُونَ )[الأنعام:67] هذا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
معاشر المستمعين! هيا مع هداية هذه الآيات، هل تعرفون ما هي الهدايات؟ كل آية تحمل نوراً، ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية كل آية تؤكد معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله وأن البعث الآخر حق، ذلك أن هذه الآية أنزلها وقالها الله تعالى. هل هناك من يقول: أمي أو أبي أو جدي أو فلان أو فلان؟ والله قوي قدير رحيم عليم موجود، أخبر عن نفسه أنه لا إله إلا هو، فكل آية تقول: لا إله إلا الله، وهذا الذي نزل عليه هذا الكلام كيف يكون غير الرسول؟ فهو -إذاً- رسول الله، كل آية تقرر (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، من أجل أن يعبد الله في الأرض وينزل أولياؤه في السماء بعد موتهم، فهذه العبادة لتزكية نفوسهم وتطهيرها حتى يصبح المرء منهم أهلاً لتفتح له أبواب السماء ولينزل بدار السلام.
[ من هداية الآيات:
أولاً: لا برهان أعظم على بطلان الشرك من أن المشركين يخلصون الدعاء لله تعالى في الشدة ].
مرة ثانية: لا برهان ولا دليل ولا حجة أعظم على أن الشرك باطل من أن المشركين أنفسهم يخلصون الدعاء لله في الشدة، لو كان ينفعهم عيسى عليه السلام أو غيره فلماذا لا يفزعون إليهم في الشدة؟ عرفوا أنهم لا ينفعونهم، لو صرخوا أمام اللات ألف صرخة فوالله ما استجيب لهم.
فلماذا -إذاً- في الشدة يفزعون إلى الله؟ معنى هذا أنه ليأسهم وعلمهم أنه لا يدفع الكرب ولا ينجي من الهم والغم إلا الله، فهذا أكبر برهان على التوحيد وبطلان الشرك.
[ ثانياً: لا منجي من الشدائد ولا منقذ من الكروب إلا الله سبحانه وتعالى ]، وهذا لا يرده ذو عقل.
[ ثالثاً: التحذير من الاختلاف المفضي إلى الانقسام والتكتل ]؛ لقوله تعالى: ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ )[الأنعام:65]، فلا يصح أن يفترق المسلمون أبداً في بيت ولا في قرية ولا في مدينة ولا في إقليم، أمرهم واحد، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى الله وإلى رسوله، إلى الكتاب والسنة، ولا تبقى الفرقة أبداً.
[ ربعاً: ( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ )[الأنعام:67] أجري مجرى المثل، وكذا ( وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )[الأنعام:67] ] كالمثل.
والله تعالى نسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونتعلم ونسمع، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
26-08-2021, 05:23 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (377)
تفسير سورة الأنعام (10)



كان المشركون وخاصة كبراؤهم وصناديدهم يجتمعون حول البيت ويجلسون في ظل جدرانه ويأخذون في الطعن في آيات الله سبحانه وتعالى، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا كان هذا حالهم أن يعرض عنهم ولا يجالسهم إلا أن يخوضوا في حديث غيره، فمثل هؤلاء إنما غرتهم الحياة الدنيا، وظنوا أنهم مخلدون فيها فاتخذوا الدين لهواً ولعباً، فكان جزاؤهم أن يدخلهم الله النار وبئس القرار.
تفسير قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره...)
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) .
وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية الميمونة المباركة، تلكم السورة التي نزلت في مكة وزفها سبعون ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، هذه السورة تدور كلها على تقرير المبادئ الثلاثة: التوحيد، نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، عقيدة البعث والجزاء في الدار الآخرة.
والآن مع هذه الآيات الثلاث نسمع تلاوتها مرتلة مجودة ثم نشرع في تفسيرها إن شاء الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ )[الأنعام:68-70].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ )[الأنعام:68]، من المتكلم بهذا الكلام؟ من المخاطب به: ( وَإِذَا رَأَيْتَ )[الأنعام:68] من هو هذا؟ هذا محمد صلى الله عليه وسلم.
فهذه الآية تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أيعقل أن يوجد كلام حكيم راق سام بدون متكلم؟ مستحيل، إذاً: فالله موجود، وهذا كلامه وهو العليم الحكيم، والذي خوطب بهذا الكلام ونزل عليه أيعقل أن يكون غير نبي ورسول؟ مستحيل.
وهكذا كل آية في كتاب الله -وهي ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية- كل آية تقرر مبدأ (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
يقول جل ذكره لمصطفاه ولرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا )[الأنعام:68] إذ كان المشركون -وخاصة رؤساءهم- يجتمعون حول البيت ويجلسون في ظلال الجدران ويأخذون في الطعن في القرآن ومن أرسل به، يستهزئون ويسخرون بآيات الله.
إذاً: حصل هذا وتم ووجد، فيقول الله تعالى لرسوله ولأتباعه وأصحابه ولكافة أمته: إذا رأيت من يتكلم بالباطل في كلام الله فيجب أن تقوم من مجلسه، وحرام أن تجلس إليه: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ )[الأنعام:68]، أعطهم ظهرك ولا تلتفت إليهم ولا تجلس إليهم.
إذا اجتمع ثلاثة أو أربعة من العلمانيين من الملاحدة من البدعيين الضالين، وأخذوا يطعنون في كتاب الله وكلامه مستهزئين ساخرين؛ فلا يحل لك -يا ولي الله- أن تجلس معهم، فبمجرد أن يشرعوا في هذا الطعن والنقد قم وأعطهم ظهرك، وهذا أمر الله عز وجل لرسوله وأمته تابعة له فيه.
(وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ )[الأنعام:68]، والخوض كخوض الإنسان في الماء وتخبطه فيه، إذاً: فأعرض عنهم ولا تلتفت إليهم ولا تجلس معهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ )[الأنعام:68]، إذا تكلموا في تجارة أو في مال أو في حرب أو في نحو ذلك فلا بأس، أما أن يتكلموا طاعنين ناقدين ساخرين من أولياء الله تعالى وكتابه ورسوله؛ فلا يحل لك يا مؤمن أن تبقى جالساً معهم.
معنى قوله تعالى: (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين)
ثم قال له: ( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ )[الأنعام:68]، ومما يدل دلالة واضحة على أن الأمة -ونحن من أفرادها- معنية بهذا الخطاب ذكر النسيان؛ فالشيطان قد لا يقوى على أن ينسي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ينسينا نحن، ومع هذا يقول أهل العلم: إن النبي ينسى، كما قال: ( إني أنسى كما تنسون ) . والشيطان لا سلطان له على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو معصوم بعصمة الله، لا يوقعه في مخالفة أو معصية، ولكن من الجائز أن يصرف قلبه إلى شيء آخر يتكلم فيه أو يفكر فيه فينسى نفسه أنه بين أناس يطعنون في الإسلام أو ينتقدونه.
(وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ )[الأنعام:68] إن حصل هذا. وـ(إما) أصلها (إن) و(ما) زيدت لتقوية الكلام، إما ينسينك الشيطان ثم ذكرت فقم ولا تجلس.
فهذا التعليم وهذا التوجيه، أنه كلما خاضوا في كلام الله بالسب والنقد يجب أن تعرض وتقوم، وإن نسيت فجلست ثم ذكرت نهي الله لك فقم على الفور: ( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى )[الأنعام:68] بعد أن تذكر ( مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )[الأنعام:68].
وهذا قد يقع للمؤمنين نساءً ورجالاً، فالمؤمن قد يعلم أنه لا يحل أن يجلس مع قوم يطعنون ويتكلمون، ولكن ينسى، لكن بمجرد أن يذكر أنه لا يحل له البقاء هنا ولا الجلوس في هذا المجلس يجب أن ينهض ويقوم.
مرة ثانية: ( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ 9[الأنعام:68] ينسيه ماذا؟ النهي عن الجلوس مع المجرمين والمبطلين والطاعنين في الإسلام والفاسدين، قد يحصل هذا بنسيان، أو هو لأمته كما قدمنا، أي: لنا نحن، ( فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )[الأنعام:68] لأنهم مشركون كافرون، وكل من يطعن في كتاب الله وفي شريعة الله فهو كافر ومشرك، هذه الآية الأولى.
فهل عرفتم -معاشر المؤمنين والمؤمنات- أنه يجب علينا أن لا نجلس مجلساً يطعن فيه في الإسلام وتنتقد فيه شرائعه وينتقد فيه أولياؤه ودعاته وهداته، هذا المجلس لا يجوز أن نجلسه أبداً، وإن نسينا فما إن نذكر أن هذا لا يجوز حتى نقوم، خذ نعلك واخرج ولا تبق جالساً، هذا توجيه الله أم لا؟
تفسير قوله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ...)
الآية الثانية: يقول تعالى: ( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:69]. (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ )[الأنعام:69] من هم؟ رسول الله والمؤمنون، هؤلاء الذين يتقون ليس عليهم من حساب هؤلاء الملاحدة أو العلمانيين أو الضلال من شيء، الله الذي يتولى ذلك، ولكن حين ننهض ونقوم ونأخذ نعالنا غير راضين بمجلسهم يكون ذلك ذكرى لهم لعلهم يفيقون ويرجعون إلى الحق.
قال الشيخ مسعود تغمده الله برحمته: دعيت ليلة إلى بدعة، ولما بدأ المبتدعة يبتدعون ذكرت، فأخذت نعلي ووليت هارباً، فقالوا: يا مسعود ، يا شيخ! ما لك؟ قال: فأعرضت عنهم تطبيقاً لهذه الآية.
فحين تقوم وأنت من أهل القرية أو البلد وأنت محترم فيهم وتتركهم؛ هذا قد يجعلهم يفكرون: لماذا يقوم؟ لماذا ما رضي بحديثنا؟ لابد أن يخطر هذا ببال واحد منهم، فيقول: لعلنا نحن على باطل، لعلنا لسنا على الحق. فيحمله ذلك على أن يسأل فيهتدي، وهذا تشريع الله الحكيم لا يخلو أبداً من فائدة.
(وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ )[الأنعام:69] وهم المؤمنون الذين جلسوا مع أهل الباطل واللهو، ما عليهم من حسابهم من شيء، ( وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:69] ذكرى فقط لعلهم يتقون، لعل أولئك المعرضين المفسدين يتقون ويرجعون إلى الحق.
تفسير قوله تعالى: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا ...)
ثم قال تعالى: ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:70]، يخاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول له: ( وَذَرِ )[الأنعام:70] أي: اترك، ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا )[الأنعام:70]، أصل اللعب: أي قول أو عمل لا ينتج لك حسنة لمعادك يوم القيامة ولا درهماً لمعاشك اليوم، ومثاله لعب الأطفال، يلعبون عند الباب ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً، ثم هل يعودون بحسنة؟ لا، يعودون بريال؟ لا. فكل قول وكل تفكير وكل عمل لا ينتج لصاحبه حسنة ليوم القيامة أو درهماً لمعاشه الآن فهو لعب وباطل، ولا يفعله المؤمن، ومعنى هذا أن الله تعالى أغلق علينا باب اللعب، إي والله، نحن قوم نتهيأ لأن نخترق السماوات السبع وننزل في الفردوس، فلا ينبغي لنا أن نتجرد للهو واللعب ونصبح كغيرنا، ما هذا بشيء عظيم أبداً، نحن عقلاء وأئمة للبشر وهداة للناس، فكيف نلعب؟! كيف أقضي نصف ساعة أو ربع ساعة أو عشر دقائق ولا أجلب لنفسي حسنة ولا درهماً؟! أيجوز للعقلاء هذا؟ هذا للمجانين، هذا للكافرين؛ لأنهم أهل النار.
أما المؤمنون الذين يرجون أن ينزلوا الفراديس العلى فليس هذا من صفتهم ولا شأنهم، وها هو تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( وَذَرِ )[الأنعام:70] اترك ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا )[الأنعام:70]، كالفساق والفجار منا والعلمانيين والملاحدة الذين يجتمعون فيسخرون من الدين، وهذا الدين هو دينهم، فالإسلام دين البشرية جمعاء أبيضها وأسودها.
فالمشركون في مكة اتخذوا دينهم الإسلام لهواً ولعباً، وما هو دينهم؟ أما بعث الله رسوله لهم؟ أما أنزل الوحي عليهم من أجلهم؟ فكل من اتخذ الإسلام لهواً ولعباً يصدق عليه أنه اتخذ دينه لعباً ولهواً.

يتبع

ابوالوليد المسلم
26-08-2021, 05:23 AM
اللهو المشروع في الإسلام
وإن قلتم: ليس في الإسلام لعب، ليس فيه لهو، فقد وضع الشارع لذلك نقاطاً محددة، أنت تلاعب طفلك الصغير خمس دقائق أو ربع ساعة وأمه تطبخ الشاي أو الأزر وهو يبكي، تأخذه أنت وتجعل نفسك كأنك حمار يركب على ظهرك، كل هذا مأذون فيه: ( لاعب ابنك سبعاً )، وهذا وإن كان في الظاهر لعباً لكنك أحسنت به إلى أمه وإليه هو، فهي حسنة لك. وكذلك تلاعب فرسك، تروضه على السير والقفز؛ لأنك تعده للجهاد، هذه رياضة ظاهرها لعب، ولكنها تنتج أنك روضت فرسك، وكذلك رماحك، أو نبالك، أو رصاصك، الآن يجلسون الجيش تحت جبل ويأمرونهم بأن يضربوا، ويجعلون لهم أهدافاً معينة ليصيبوها، فهو في الظاهر لهو ولعب وفي الحقيقة مأذون فيه؛ لأجل أن يتعلموا كيف يصيبون أهداف العدو، وكذلك لهوك مع زوجتك تداعبها مأذون فيه.
فالزوجة، والولد، والفرس، والرماية -سواء كانت بالبنادق أو بالمدافع- كل ذلك أذن الشارع صلى الله عليه وسلم باللهو فيه، لاعب ابنك، داعب امرأتك لتسليها وتخرج عنها همها، روض فرسك، مرن نفسك على رمي الأهداف بالرصاص أو بالصواريخ، وفيما عدا هذا لا وجود للهو واللعب عندنا، نحن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
(وَذَرِ الَّذِينَ )[الأنعام:70]، اترك ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا )[الأنعام:70]، واللهو ما هو؟ اللهو: كل ما يلهيك ويشغلك عما يكسبك حسنة لمعادك أو درهماً لمعاشك.
معنى قوله تعالى: (وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت)
اترك هؤلاء ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:70]، كيف تغرهم الحياة الدنيا؟ افتح عينيك وتأمل في العالم الإسلامي، تجد ثلاثة أرباع المسلمين مغرورين بالحياة الدنيا، منهم من لا يصلي، منهم من لا يحضر الصلاة في المساجد، منهم من يتعاطى الربا، منهم من يعمل كذا وكذا.. كل هذا اغترار بالحياة الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون، غرتهم الحياة الدنيا.(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70] يا رسولنا! يا عبدنا! ذكر بالقرآن، ذكر بهذا الكلام الإلهي، ذكر به ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ )[الأنعام:70]، ومعنى: (تبسل): تؤخذ، ترتهن وتحبس ثم تدخل العذاب في جهنم، من قبل أن تبسل نفس، وإبسال النفس أن تؤخذ وترتهن وتحبس فترة ثم تساق إلى عذابها، تحبس في البرزخ وترتهن، ثم إذا بعثت يوم القيامة فإلى جهنم رأساً.
(وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70] يا رسولنا، ذكر بهذا القرآن، بهذه الكلام، ذكر به مخافة أو كراهة ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ )[الأنعام:70]، تبسل نفس بما كسبت أو بما كسب لها؟
بما كسبت. ما هذا الذي كسبته فأبسلت به؟ الذنوب والآثام، الشرك والمعاصي، فهل هذا كسبها أم لا؟ تقول الكلمة فينعكس رأساً دخانها أو نورها على نفسك، تمشي خطوة واحدة بحسب ما تريد فينعكس أثرها على نفسك، هذه محطة وضعها الله في الناس، ما من كلمة ولا حركة متعمدة يفعلها العاقل البالغ إلا وجد أثرها، إن كانت حسنة ينكس إشعاعها على قلبه، وإن كانت سيئة ينعكس دخانها على قلبه كذلك، وهذا معنى قوله تعالى: ( بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )[المطففين:14].
قال صلى الله عليه وسلم: ( إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء فى قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها قلبه، فإن عاد رانت حتى يغلق بها قلبه، فذاك الذى ذكر الله عز وجل فى كتابه: ( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )[المطففين:14] )، فلهذا كانت التوبة عندنا فريضة، ولا يحل تأخيرها، فبمجرد الوقوع في الزلة تقول: أستغفر الله وأتوب إليه؛ لأنه إذا تراكمت الذنوب تأتي ساعة تقول له: اتق الله فيضحك ويسخر منك.
قال تعالى: ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70]، أي: بهذا القرآن، ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ )[الأنعام:70] ذكراً أو أنثى، عربياً أو عجمياً، ( بِمَا كَسَبَتْ )[الأنعام:70]، أي: بسبب كسبها حبست وارتهنت لتدخل جهنم وتخلد فيها.
معنى قوله تعالى: (ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع )
قال تعالى: ( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ )[الأنعام:70]، وهل هناك نفس لها ولي يتولى أمرها ويدخلها الجنة وينقذها من النار دون الله؟ والله لا وجود لذلك. وهل هناك نفس مظلمة عفنة منتنة تجد من يشفع لها ويخرجها من النار أو يدخلها الجنة؟ والله ما كان، اللهم إلا المؤمنون الصادقون الربانيون، يتفضل الله عليهم فيأذن لنبيه أو لأوليائه أن يشفعوا فيهم، إكراماً للشافع والمشفوع، والذي لم يرض الله له أن يدخل الجنة لا تقبل فيه شفاعة أحد، قال تعالى: ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى )[النجم:26]، أيضاً لمن يشاء، أولاً: يأذن الله لك يا عبد الله أن تشفع فيمن؟ في أمك؛ لأنها أهل لأن تدخل الجنة. فلا يشفع شافع إلا بإذن الله، ولا يشفع شافع في إنسان إلا إذا رضي الله عز وجل أن يدخل الجنة، والآية نص وصريحة لو كنا لا نقرأ القرآن على الموتى فحسب. اسمع: ( وَكَمْ )[النجم:26]، ملايين، ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى )[النجم:26] أيضاً عمن يشاء.
وهنا يقول تعالى: ( وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ )[الأنعام:70]، أي: بسبب كسبها الشرك والكفر والذنوب والآثام والجرائم والموبقات.
معنى قوله تعالى: (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها)
(لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا )[الأنعام:70]، لو أتت بمثل الأرض كلها ذهباً فوالله لا يقبل منها، ولو أتت بملايين البشر بدلها فوالله لا يقبل منها، ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ )[الأنعام:70]، من باب الفرض، جاءك الله بجبال التبت كلها ذهباً، فقلت: خذ يا رب هذه الجبال الذهبية واسمح لي أن أدخل الجنة؛ فوالله لا يقبل منك. ولو جاء بجيل أو أجيال وقال: بهؤلاء جميعاً أفدي نفسي هل يقبل منه؟ ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا )[الأنعام:70]، لا تفكر أن هناك من يقف بين يديه تعالى ويقول: أنا أشفع لفلان، أو يقول: أدفع كذا لفلان ليدخل الجنة، ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا 9[الأنعام:70]، (أُبْسِلُوا) بمعنى: ارتهنوا، فهم محبوسون بذنوبهم، إذاً: يدخلون النار ولا يخرجون منها.
معنى قوله تعالى: (أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون)
(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]، وأي كسب؟ الأغاني، المزامير، الغيبة، النميمة، الفحش الباطل، الزنا، اللواط، الخيانة، الغش، الكذب، الكبر، العجب.. أمراض كسبوها، ما أفرغت عليهم، ما ألزموا بها وأكرهوا، كسبوها عن عقل ووعي، لو فعلوها وهم نائمون فإنهم لا يحاسبون، وإن فعلوها وهم ناسون فلا يحاسبون، وإن فعلوها وهم مكرهون بالحديد والنار فلا يحاسبون، ولكن فعلوها وهم مريدون ذلك، مختارون لأنفسهم.(أُوْلَئِكَ )[الأنعام:70] البعداء ( الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]، لا بظلم نزل بهم وحصل بهم، بسبب كسبهم الكفر والظلم والشرك والذنوب والمعاصي.
(لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ )[الأنعام:70]، هم الآن في دار البوار في النار، فهل شرابهم المسك؟ ما هناك كوكاكولا ولا عصير البرتقال ولا زمزم، ( لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ )[الأنعام:70]، لا يطاق من درجة الحرارة، حيث تتمزق أمعاؤهم.
(لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ )[الأنعام:70]، موجع غاية الإيجاع، ولا نستطيع تقديره أبداً، وقد عرفتم أجسامهم طولها وعرضها، فضرس أحدهم كجبل أحد، ما بين كتفيه مائة وخمسة وثلاثون كيلو، من مكة إلى قديد.
إذاً:فهل شرابهم الحميم، وطعامهم البقلاوة والحلاوة؟ لا، بل الزقوم، والضريع.
هكذا يقول تعالى: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا )[الأنعام:70]، ما معنى: (أُبْسِلُوا)؟
ارتهنوا وحبسوا لأجل أن يدخلوا النار، وما معنى: ( بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]؟
أي: بكسبهم، كسبوا خيراً أو شراً كسفك الدماء، الكفر، الشرك.. قل ما شئت من الذنوب والآثام، إذا اسودت نفوسهم وأظلمت أرواحهم وتعفنت؛ فلا يصلحون لدار السلام، للقاعدة التي حفظها المؤمنون والمؤمنات: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، هذا حكم الله، بلغوه يا عباد الله، يا إماء الله.
لقد صدر حكم الله على البشرية وعلى الجن أيضاً معهم بأن من زكى نفسه بالإيمان وصالح الأعمال فزكت وطابت وطهرت فقد أفلح، أي: فاز بالنجاة من النار وبدخول الجنة، ومن دساها وخبثها ولوثها وعفنها بأوضار الشرك والذنوب والمعاصي فقد خاب، أي: خسر نفسه وأهله، ومن يعقب على الله؟
(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ )[الأنعام:70]، ثم قال تعالى في الختم الأخير: ( بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ )[الأنعام:70]، أي: بسبب كفرهم، كانوا يكفرون بالله، ويكفرون بشرائع الله، ويكفرون حقوق الله، فكلمة الكفر: هي الجحود والتنكر لله، لرسوله، لشريعته، للقائه، لوعده، لوعيده.
مجمل تفسير الآيات
مرة ثانية أسمعكم الآيات: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ )[الأنعام:68]، فهل ستفعلون هذا من الآن؟(وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )[الأنعام:68]، غفلت أو نسيت فجلست وهم يطعنون في نبيك أو في أمته، ثم ذكرت؛ فخذ نعلك واخرج.
(وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:69]، ما نحن بمسئولين نحاسب على كفرهم وشركهم، ولكن حين نقوم ونتركهم نذكرهم علهم يذكرون فيتقون.
(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:70]، اتركهم في جرائم معاصيهم وباطلهم ولا تجلس إليه ولا تسمع منهم، ولا تخالطهم ولا تعاشرهم، ولا تنزل حتى في ديارهم.
(وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70]، بماذا نذكر يا ربنا؟ بهذا القرآن، نحن نذكر به الموتى، أما الأحياء فلا، لا يجتمع أهل القرية في قريتهم، أو أهل الحي، أو أهل البيت ليقرءوا القرآن ويتدبروه، فكيف يذكرون به، نقرؤه على الموتى فقط، مات الشيخ الفلاني فنقرؤه ثلاث ليال أو سبع ليال، طلبة القرآن موجودون، سمعتم بهذا أم لا؟ من إندونيسيا إلى موريتانيا والعالم الإسلامي هكذا، عدة قرون لا يجتمع اثنان على دراسة كتاب الله وفهم مراد الله منه وما فيه.
إذاً: ( وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]، كسبوا بأنفسهم أم لا؟ ( لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ )[الأنعام:70].
كيفية تحصيل ولاية الله تعالى
معاشر الأبناء والإخوان! دائماً نقرر تلك القاعدة تعليماً لغير العالمين وتذكيراً للناسين، وهذا حسبنا والله يهدي من يشاء، ونقول: ما من عاقل إلا وهو يرغب في ولاية الله تعالى؛ لأنك إذا لم تواله تعاديه، ومن يعادي الله هل يفلح؟فكلنا يريد أن يواليه الله ويصبح من أوليائه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فنقول: تريد أن توالي الله؟ وافقه تكن وليه، وافق ربك تصبح وليه، توافقه في ماذا؟ فيما يحب، وفيما يكره، أحبب ما يحب واكره ما يكره فأنت -والله- وليه، واعكس بحيث يحب وتكره، ويكره وتحب فإنك حينئذ عدوه، وهذا إيجاز عجيب للولاية.
فالموافقة تكون في المحاب والمخالفة في المكاره، فهنا يجب على كل من يريد ولاية الله أن يعرف محاب الله محبوباً بعد محبوب، وأن يعرف مكاره الله مكروهاً بعد مكروه، وأن يرحل ولو إلى الصين أو إلى اليابان حتى يعرف محاب الله ومكارهه.
أحد الصالحين قال: يا شيخ! نريد أن تكتب لنا رسالة تجمع محاب الله ومكارهه، فقلت له: لا بأس، أعمل إن شاء الله، وكتبنا الرسالة، وسنقدمها الليلة للمطبعة، هذه الرسالة اتخذنا لها بعد كل درس خمس دقائق أو عشر دقائق نقرأ منها صفحة واحدة، وقد اشتملت على خمسين محبوباً ومكروهاً، خمسة وعشرون من محاب الله، وخمسة وعشرون من مكاره الله، صفحة للمحبوب والصفحة المقابلة للمكروه، وقلنا لمن يقرأ: إذا قرأت الصفحة الأولى في المحبوب فلا تتجاوز إلى الأخرى حتى تعرف محاب الله، وتكره نفسك على أن تحب ما يحب ربك، فإذا فرغت من هذا فانتقل إلى الصفحة الثانية التي فيها المكروهات فاعرفها واكرها، وإذا ما أحبت ذلك نفسك فإنك تكره نفسك حتى تكره ما يكره ربك، وبذلك تخرج وقد أصبحت ولي الله، وهناك صك تأخذه أيضاً.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
26-08-2021, 05:25 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (378)
تفسير سورة الأنعام (11)




حرم الله عز وجل على عباده المؤمنين الجلوس في المجالس التي يسخر فيها من دين الله وشريعته وديانته، وأن من جلس في مثل هذه المجالس فعليه الإعراض والإنكار وسرعة مفارقتها، خاصة إذا كان أهل الحق مستضعفين وأهل الباطل ظاهرين، وحسب المؤمن الصادق أن يعرض عنهم فلا يفرح بهم ولا يضحك لهم، حتى لا يكون مصيره في الآخرة كمصيرهم.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألف ألفٍ وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأنعام المكية، ومع الآيات الثلاث التي تدارسناها بالأمس ولم نوفها حقها، فنريد مرة ثانية أن يرتلها الطالب، ونعيد تفسيرها وشرحها إن شاء الله تعالى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ )[الأنعام:68-70].
معنى الآيات
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! [معنى الآيات: ما زال السياق في الحديث مع أولئك العادلين] بربهم آلهة أخرى، اصطنعوها، وكذبوا في ادعائها آلهة، أولئك العادلون ما زال الكلام معهم، [فيقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا )[الأنعام:68]] ما معنى: (يَخُوضُونَ)؟ [ يستهزئون بالآيات القرآنية، ويسخرون مما دلت عليه من التوحيد والعذاب للكافرين ].وقد بينا أن جماعات من المشركين في مكة كانوا يجتمعون ليسخروا من القرآن ويستهزئوا به وبمن نزل عليه، وفيهم نزل هذا القرآن الكريم.
[( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ )[الأنعام:68]]، من أمر الرسول بالإعراض عنهم؟ الله جل جلاله، اتركهم وأعطهم ظهرك ولا تلتفت إليهم ما داموا يخوضون في الباطل، ويتكلمون بالمنكر طعناً في القرآن ومن نزل عليه، إذاً: هؤلاء لا تجلس معهم، أعرض عنهم.
وبينا لأبنائنا وبناتنا أنه إلى اليوم لا يحل لمؤمن أن يجلس مجلساً فيأخذ أهل المجلس في الطعن في الإسلام، والنقد، ويبقى معهم، يجب أن يأخذ نعله ويخرج من عندهم، ولا يحل له البقاء؛ لأن الآيات عامة لهداية الخلق إلى يوم القيامة.
قال: [ ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ )[الأنعام:68]، أي: فصد عنهم وانصرف ( حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ )[الأنعام:68] ]، أي: غير الطعن والنقد والسب والشتم، فإن أخذوا بحديث دنياهم عن السوق والبيع والشراء وشأنهم فلا يضرك ذلك، لكن إذا اخذوا يطعنون في دين الله وفيمن أرسل وهو رسول الله، أو في أولياء الله ودعاته، في هذه الحالة ينبغي أن تعرض عنهم، فإن عدلوا عن ذلك فلا بأس.
وإن كان فرضاً أن الشيطان أنساك ما نهيت عنه من عدم الجلوس معهم، ثم ذكرت وزال النسيان فعلى الفور تقوم وتخرج من مجلسهم.
قال: [ وإن أنساك الشيطان نهينا هذا فجلست ثم ذكرت فقم ولا تقعد مع القوم الظالمين ]، معنى هذا: أنك إذا نسيت فجلست مع جماعة يتضاحكون ويسخرون ويستهزئون بالإسلام وشرائعه، من العلمانيين والملاحدة والضلال، أو من الخاسرين والتائهين، ثم ذكرت أنك منهي أن تبقى معهم فعلى الفور أطع الله وقم من مكانك: ( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ )[الأنعام:68]، أي: وإن أنساك الشيطان نهي الله هذا، ثم ذكرت أنك منهي عن الجلوس في هذا المجلس فقم على الفور، ولا تقعد مع القوم الظالمين.
وظلمهم واضح في وضعهم الأشياء في غير موضعها، بدلاً من أن يتذاكروا كتاب الله وما يهدي إليه، وأن يذكروا رسول الله وما يدعو إليه، يجعلون بدل ذلك النقد والطعن وما لا يجوز أن يقال.
[ وقوله تعالى: ( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:69]، أي: وليس على المؤمنين المتقين -جعلنا الله منهم- أنت وأصحابك يا رسولنا من تبعة ولا مسئولية، ولكن إذا خاضوا في الباطل فقوموا؛ ليكون ذلك ذكرى لهم فيكفون عن الخوض في آيات الله تعالى ]، نعم، ليس عليك من حساب المبطلين والملاحدة والمبطلين إذا قالوا الباطل، ما أنت بمسئول عن ذلك، كل ما في الأمر أنك تقوم وتتركهم، قد يكون ذلك حاملاً لهم على التفكير: لماذا خرج؟ لماذا أخذ نعله وما رضي كلامنا؟ لعلنا مبطلون، لعله محق. قد يكون ذلك سبباً لهدايتهم، بخلاف ما إذا بقيت معهم وأيدتهم على باطلهم برضاك بالجلوس معهم.
قال: [ وهذا كان بمكة قبل قوة الإسلام ]، هذا البيان كان في مكة قبل قوة الإسلام، كان أيام ضعف الإسلام، والمراد من ضعف الإسلام: ضعف أهله إذ لا قدرة لهم على الجهاد.
قال: [ ونزل بالمدينة النهي عن الجلوس مع الكافرين والمنافقين إذا خاضوا في آيات الله ]، وهذا يبقى إلى يوم القيامة، [ومن جلس معهم يكون مثلهم، وهو أمر عظيم ]، ففي المدينة لا عذر، أما في مكة فلأن المسلمين ضعفاء عاجزون وهم أقوياء، فقد لا يستطيعون أن يواجهوهم، لكن في المدينة والإسلام قوي لا يحل لمؤمن أن يجلس معهم.
قال: [ ونزل بالمدينة النهي عن الجلوس مع الكافرين والمنافقين إذا خاضوا في آيات الله، ومن جلس معهم يكون مثلهم ] أي: في الظلم والكفر والنفاق [ وهو أمر عظيم ]، من يقوى على أن يتحول من مؤمن إلى كافر، ومن مؤمن صادق إلى منافق؟
[ قال تعالى: ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ )[النساء:140] ]، فإذا خاضوا في حديث الباطل الذي يخوضون فيه وأنتم جالسون فأنتم مثلهم في نفاقهم وكفرهم، وقرئ: (نَزَّلَ)، و(نُزِّلَ)، ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا )[النساء:140]، في أي مجلس وفي أي مكان في العالم، ( فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ )[النساء:140]، فالذي يرضى بإهانة الإسلام والمسلمين، بإهانة دين الله، بإهانة شرعه وكتابه فهو مثلهم.
فلهذا لا نجلس معهم ابتداء، لكن إذا جلسنا وأخذوا يتخوضون في سب الإسلام وطعنه وجب النهوض والخروج، ولا يحل البقاء أبداً، لقد أعذر الله أولئك الضعفاء في مكة، لكن لما عز الإسلام وقوي أهله وانتصرت رايته لم يسمح لأحد أن يبقى معهم، وإلا فهو منافق أو كافر مثلهم.
وتأملوا الآية: ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ )[النساء:140]، ماذا نزل؟ ( أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ )[النساء:140]، أي: القرآنية، ( يُكْفَرُ بِهَا )[النساء:140]، أي: يكفر بها المنافقون والكافرون، ( وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا )[النساء:140]، بالكلام الذي تعرفونه من الاستهزاء، ( فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ )[النساء:140]، فإذا ما خرجتم من المجلس فقد أصبحتم مثلهم.
قال: [ هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية. أما الثالثة فإن الله تعالى يأمر رسوله أن يترك الذين اتخذوا دينهم الحق الذي جاءهم به رسول الحق لعباً ولهواً يلعبون به أو يسخرون منه ويستهزئون به، وغرتهم الحياة الدنيا، قال تعالى: ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:70]، اتركهم ] لا تجالسهم ولا تجلس معهم ولا ترض بذلك، [ اتركهم فلا يهمك أمرهم، وفي هذا تهديد لهم على ما هم عليه من الكفر والسخرية والاستهزاء ]، اترك الذين شأنهم كذا وكذا قبل أن تنزل العقوبة بهم، فالله تعالى يقول له في إنذار وتهديد لهم: اترك ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:70]، اتركهم لنا للننزل عقوبتنا بهم.
[ وقد أخبر تعالى في سورة الحجر أنه كفاه أمرهم؛ إذ قال: ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ )[الحجر:95] ]، وقد كفاه إياهم، وكلهم صرعوا في بدر -وهم سبعون ظالماً- عن آخرهم، وعده الله بأنه سيكفيه إياهم، وقد كفاه أمرهم.

يتبع

ابوالوليد المسلم
26-08-2021, 05:25 AM
[ وقوله تعالى: ( وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70]، أي: بالقرآن، ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ )[الأنعام:70]، أي: كي لا تبسل ]، ومعنى الإبسال -كما علمتم- الارتهان والحجز، ثم إلى جهم وبئس المصير، ( وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70] أي: بالقرآن قبل ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ )[الأنعام:70]، أي: لكي لا تبسل.
[ ( بِمَا كَسَبَتْ )[الأنعام:70]، أي: كي لا تسلم نفس للعذاب بما كسبت من الشرك والمعاصي، ( لَيْسَ لَهَا )[الأنعام:70] يوم تسلم للعذاب ( مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ )[الأنعام:70] يتولى خلاصها، ( وَلا شَفِيعٌ )[الأنعام:70] يشفع لها فينجيها من عذاب النار ]، ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ )[الأنعام:70] وتتقدم بكل ما تستطيع أن تقدمه للفداء، ولو قدمت جبال الأرض كلها ذهباً، ولو قدمت قبائل وعشائر لا يقبل ذلك منها أبداً. [ ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا )[الأنعام:70]، أي: وإن تقدم ما أمكنها -حتى ولو كان ملء الأرض ذهباً- فداء لها لما نفعها ذلك ولما نجت من النار].
ثم قال تعالى: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]، الباء -كما علمتم- سببية، لم ارتهنوا واحتجزوا؟ ليجازوا في عالم الشقاء؛ لأنهم كسبوا ذنوباً أخبثت أرواحهم ولوثت نفوسهم، وهي ذنوب الشر والكفر والاعتداء والظلم والطغيان، إذاً: فهؤلاء الذين لو تقدم أحدهم بملء الأرض ذهباً ليفتدي به ما فدي ولا قبل ذلك منه.
قال: [ أبسلوا: أسلموا وأخذوا إلى جهنم بما كسبوا من الذنوب والآثام، لهم في جهنم شراب من ماء حميم وعذاب موجع اليم ]، ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]، أخبرنا عنهم يا رب؟! قال: ( لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ )[الأنعام:70]، وقد عرفنا الشراب الحميم، وهو الذي تناهت فيه الحرارة في القوة، وصلت إلى مستوى لا زيادة فوقه، هذا شرابهم.
قال: [ أبسلوا: أي: أسلموا وأخذوا إلى جهنم بما كسبوا من الذنوب والآثام، لهم في جهنم شراب من ماء حميم حار وعذاب موجع أليم؛ وذلك بسبب كفرهم بالله وآياته ورسوله، حيث نتج عن ذلك خبث أرواحهم، فما أصبح يلائم وصفهم ] أي: خبث أرواحهم [ إلا عذاب النار. قال تعالى من هذه السورة: ( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )[الأنعام:139] ]، الوصف الذي يكون في الروح البشرية، إن كان نوراً وطهراً وصفاء يجزيه الله بالجنة دار النعيم، وإن كان خبثاً ونتناً وعفناً يجزيه به عذاب الجحيم، ( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ )[الأنعام:139] في عمله هذا وقضائه، حكيم فيه كذلك.
هداية الآيات
هذه الآيات كررناها، فهيا بنا نتأمل هداياتها: قال: [ من هداية الآيات:
أولاً: حرمة الجلوس في مجالس يسخر فيها من الإسلام وشرائعه وأحكامه وأهله ]، من أين أخذنا هذه الحرمة؟
من قوله تعالى: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ )[الأنعام:68]، فهل هدت الآية إلى هذا أم لا؟
ومعنى هذا: أنه لا يحل لك ولا لي ولا لأي مؤمن في الشرق أو الغرب أن يجلس مجلساً يسب فيه أو يشتم الإسلام وأهله أو شرائعه وتبقى جالساً معهم، يجب أن تقوم، فإن أبيت إلا أن تجلس فقد هلكت، فإنك -إذاً- مثلهم.
إن هناك مجالس للهو واللعب فقط، فهل تجلس أنت مع قوم يلعبون الكيرم والورق ويضحكون وقد مضى وقت الصلاة وهم يلعبون، هل تجلس هذا المجلس وترضاه لنفسك؟ أيحل لك هذا؟ والله لا يحل، يجب أن تقول: قوموا فلقد نودي للصلاة، ولا يحل لكم هذا، لسنا من أهل اللهو واللعب.
إذاً اللهو واللعب لا يحلان للمسلمين إلا في نقاط بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تلاعب طفلك الصغير، أن تداعب امرأتك، أن تمرن نفسك على الرماية وإصابة الأهداف، أو تروض دبابتك أو طيارتك أو فرسك على الجهاد، هذه الأربع فقط ، وما عدا ذلك لهو ولعب، كل من يقول: لا بأس به، هو ترويح النفس، نقول له: والله ما هو إلا زيادة ظلمها وظلمتها.
[ ثانياً: وجوب القيام ] والوقوف [ احتجاجاً من أي مجلس يعصى فيه الله ورسوله ].
وأصحاب الدشوش أو الصحون الهوائية سكرى، وسوف يفيقون عند سكرات الموت، لقد قلت غير ما مرة -والله أسأل أن أكون على علم وبصيرة-: إن الذين يرضون بهذه الصحون الهوائية، ويجلسون ليشاهدوا تلك المناظر الفظيعة العجيبة هم وأطفالهم ونساؤهم؛ فإني لا أكاد أشك أن من أصر منهم بعدما علم وأبى إلا هذا أن يموت على سوء الخاتمة، وها نحن نمر بالشوارع، ونشاهد هذه الصحون الهوائية على البيوت القصيرة والطويلة، بيوت الفقراء كالأغنياء، كأنهم لا يؤمنون بالله ولقائه.
فالذي يصر بعد ما سمع فتوى عالم الإسلام الشيخ عبد العزيز بن باز أن هذا لا يحل أبداً ولا يصح، ثم يصر ويركب رأسه ويحتج بأن فلاناً عنده كذا وكذا؛ فهذا -والله أعلم- إن استمر على هذه المناظر يومياً وليلياً فسوف يموت على سوء الخاتمة.
فقد نهينا عن أي مجلس نجلس فيه إذا كان فيه نقد أو طعن للإسلام، وإذا كان فيه إعلان عن إباحة الباطل والمنكر والشر فكيف تجلس معهم؟
[ ثالثاً: مشروعية الإعراض في حال الضعف عن المستهزئين بالإسلام الذين غرتهم الحياة الدنيا من أهل القوة والسلطان ]، وحسبك يا عبد الله [ وحسب المؤمن أن يعرض عنهم فلا يفرح بهم ولا يضحك لهم ]، ما دام عاجزاً ضعيفاً، والمجلس أهله أقوياء، فحسبه أن يعرض عنهم ولا يلتفت إليهم في حال الضعف كما كانوا في مكة، وفي حال القوة ينبغي أن ينكر المنكر وأن يعترض عليهم.
[ رابعاً: وجوب التذكير بالقرآن وخاصة المؤمنين الذين يرجى توبتهم ]، من أين أخذنا هذا؟ كيف عرفناه؟
أما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70]؟ ما هو هذا؟ إنه القرآن الكريم، ذكر به المؤمنين، الذين غلبتهم الشهوات والأهواء والأطماع والمفاسد، هؤلاء لوجود عنصر الإيمان في قلوبهم ذكرهم علهم ينتهون ويتقون، وآية أخرى: ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ )[ق:45]، ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ )[الذاريات:55] بوصفهم أحياء، بخلاف الكافرين فإنهم أموات أو كالأموات.
[وجوب التذكير بالقرآن]، كيف يذكر بالقرآن؟ بالآيات التي تنذر وتحذر أو تتوعد وتوعد بالعذاب، أو تبشر بالخير وأهله، [وجوب التذكير بالقرآن وخاصة المؤمنين الذين يرجى توبتهم]، فلهذا -وأنا كما تعرفون ظاهري كباطني- قلت: لو كوَنَّا لجنة من خمسة أفاضل، لنزور إخواننا الذين في بيوتهم الدشوش، وبأدب واحترام نسلم عليهم وننصح لهم بأن هذا لا ينبغي لكم، ولا يحل لكم، وما نرضى لكم أن تتأذوا أو تفقدوا رضا ربكم، أو تحرموا هداية مولاكم، ما حملكم على هذا؟ هل تجلبون بهذا أموالاً لأنفسكم؟ هل تكتسبون صحة في أبدانكم؟ هل ترتفع بهذا قيمتكم ويعلوا شرفكم؟ الجواب: لا. أبداً، فيا أخانا.. يا شيخنا.. يا ابننا! نرجو -إن شاء الله- أن تنهي هذا.
هل هذا واجب أم لا؟ والله إنه لواجب علينا، وإننا والله لآثمون، فأين الأخوة؟ ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )، هل هي أخوة بالكذب؟ إن لسان حال الواحد منهم: أنقذوني فأنا متورط بسبب زوجتي أو بسبب أولادي، فلهذا وضعت هذا الدش على سطح بيتي فأنقذوني أنتم بزيارتكم، حتى أتشجع، وأسأل الله عز وجل أن يعينني لأبعد هذا الفساد من دار الإيمان وبين المسلمين.
هل أهل المدينة فيهم كفار ومنافقون؟ لا والله، بل هم مؤمنون، لماذا -إذاً- لا يذكرون بالقرآن؟ وهل يكفي التذكير في المسجد وهم في المنازل؟ فلم لا نكون في كل حي ثلاثة أنفار أو أربعة، يزورون إخوانهم بالابتسامة والوجه الطلق والكلمة الطيبة، فيربتون على كتف الرجل وينصحونه حتى يترك هذه الفتنة.
[ خامساً: من مات على كفره لم ينج من النار؛ إذ لا يجد فداء ولا شفيعاً يخلصه من النار بحال ]، من أين أخذنا هذه الهداية؟
من قوله تعالى: ( لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:51]، الولي: الذي يتولى، والشفيع: الذي يشفع، فمن مات على الخبث والظلم والفسق والكفر هذا مصيره.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
26-08-2021, 05:27 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (379)
تفسير سورة الأنعام (12)



الله عز وجل هو وحده المستحق للحمد والثناء، فهو سبحانه خالق السماوات والأرض، وهو موجد الظلمات والنور، وهو خالق الإنسان من سلالة من طين، وهو الذي يعلم السر وأخفى، لا تعزب عنه مثقال حبة في السماوات أو في الأرض، وذلك يستلزم الرغبة فيما عنده من خير، والرهبة مما عنده من عذاب.
تابع تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود، على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع فاتحة سورة الأنعام، وبالأمس تدارسنا منها ثلاث آيات، وما أكملنا دراستها، فهيا بنا نعيد دراستها بعد تلاوتها المرة والمرتين والثلاث.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:1-3].
المبادئ العقدية الثلاثة التي قررتها السورة
أُعيد إلى أذهانكم أن هذه السورة المكية المباركة الميمونة، والتي زفها سبعون ألف ملك وهم يسبحون الله عز وجل في زجل عجيب، هذه السورة من أولها إلى آخرها تقرر المبادئ الثلاثة الآتية:أولاً: توحيد الله عز وجل، بأن يُعبد وحده ولا يُعبد معه سواه؛ لأن هذه العبادة هي مفتاح دار السعادة، فو الله لا نجاة ولا كمال ولا سعادة إلا بواسطتها، فمن عرف الله معرفة حقيقية أثمرت له حبه في قلبه، فأصبح يحب الله أكثر من نفسه، فضلاً عن ماله وولده والناس أجمعين، ثم تثمر له الرهبة من الله، والخوف منه، هذا الإيمان الذي يثمر الحب والخشية هو العامل الأول الذي يقوي صاحبه على أن يستقيم على منهج الله طوال حياته، فلا يميل يميناً ولا شمالاً، ولا يتأخر القهقرى، بل يواصل سيره إلى باب الجنة دار السلام، وذلك بوفاته ولفظ أنفاسه الأخيرة.
ثانياً: الإيمان بهذا القرآن كتاب الله عز وجل، ومن أنزله عليه، ألا وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: الإيمان بالبعث والجزاء، البعث من الأرض من جديد، ثم الوقوف في ساحة فصل القضاء، ثم الحساب، ثم الجزاء، إما بالنزول في دار السلام، وإما بالهبوط إلى دار البوار.
هذه السورة من أولها إلى آخرها تعمل على تقرير هذه المبادئ الثلاثة.
حقيقة حمد الله تعالى وبيان علته وسببه
فقوله: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ )[الأنعام:1]، وما الحمد إن لم يكن عبادة الله عز وجل، بإجلاله وإكباره وتعظيمه، وطاعته والإذعان لأمره ونهيه، فالوصف بالجمال والحمد والثناء من يستحقهما غير الله؟ وسر ذلك أو علته أنه خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور.عهدنا فيما بيننا: أن من صنع باب خشب وأحسن صنعه يمدح ويثنى عليه، من خاط ثوباً فقط وأحسن خياطته يمدحونه ويثنون عليه، طاهية تطهو طعاماً فيلذ ويطيب للآكلين تمدح ويثنى عليها.
والله هو الذي خلق السماوات والأرض، ونحن نقول: السماوات والأرض، فما السماوات وما الأرض؟ هذه الطباق السبع، سماء فوق سماء، وما فيها من المخلوقات، كيف يتم خلقها، من يقدر على خلقها وقد خلقت؟ هو الله جل جلاله، فهذا الذي استحق الحمد بمعنى كلمة الحمد.
ثم من أوجد الظلمات والأنوار، والظلمات جمع ظلمة، والنور واحد، وهذا التعبير القرآني، الظلمات تجمع لأنها متعددة، ظلمة كل معصية بظلام، وأما النور فواحد، النور واحد، وهو نور الحياة الذي به يشاهد بعضنا بعضا، والنور المعنوي الذي هو نور القلوب، الذي بواسطته تنظر القلوب إلى ربها وتعرفه، فهذا الذي يستحق أن يعبد بكامل العبادة، وهو الذي يستحق الحمد والثناء، والوصف بالجميل، أما من عداه ممن عُبدوا دونه وعظموا وأكبروا، وتمدح بهم، وأثني عليهم؛ فهل هم أهل لذلك؟! ولهذا استحق العبادة وحده، ولا يستحقها معه سواه.
العجب من حال الكفار في شركهم بربهم عز وجل
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، وهنا حال المتعجب مع هذا، والكفار يعدلون بربهم غيره، الكفار أصحاب ظلمة النفس، الذين كفروا بالله وجحدوا آياته، كفروا بالله وجحدوا آلاءه وإنعامه فعموا فضلوا، فهم في متاهاتهم، هؤلاء يعدلون بالخالق الجبار خالق السماوات والأرض، يعدلون به ويسوون به مخلوقاً من مخلوقات الله، لو سووا به جميع المخلوقات لكانوا قد يعذرون، يسوون به مخلوقا واحدا، لو تجتمع الخليقة كلها فلن تساوي خالقها، مستحيل، فكيف يُعدل بالله عز وجل عبد من عباده أو خلق من مخلوقاته؛ إذ منهم من عبد الظلام، المانوية عبدوا الظلام والضوء، النور والظلمة، ألَّهوهما، قالوا: لفوائدهما ومصالحهما! إن من أوجد الظلام والنور هو الذي يعبد، لا نفس الظلام والضياء، وكذلك الذين عبدوا الشمس والقمر وبعض الكواكب، من خلق هذه الكواكب؟ لم لا نسأل؟ وكذلك الذين هبطوا وعبدوا عيسى ووالدته، من خلق عيسى، من أوجده، من رفعه؟ أمه من خلقها، من صانها وحفظها، من أكرمها؟ كيف يعبدان مع الله؟ وعبدوا غير عيسى وأمه، وعبدنا نحن أيام ظلمتنا الأولياء، عبادة كما يعبد الله، بالعكوف على الأضرحة، بالتمرغ على التربة، بالإقسام والحلف، بالاستغاثة والدعاء، بالذبح والنذر وما إلى ذلك، كيف يجوز تسوية مخلوق بخالق، كالذي يريد أن يسوي النعل بصانعه، هل يعقل هذا؟ نعلك في رجلك تسويه بمن صنعه وهو ذو عقل وكرامة آدمية، كيف يمكن هذا؟! تدعو صانعه فيسمعك ويجيبك، وتدعو النعل فهل يجيبك؟! يسمع صوتك؟! يعطيك حاجتك؟! ولهذا تعجَّب الجبار عز وجل فقال: ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1] بربهم: أي بخالقهم ورازقهم، ومدبر حياتهم، وهو الذي يملك حياتهم وموتهم، وغناهم وفقرهم، يسوون به غيره، أين العقول؟! أين الفهوم؟! أين المدارك؟! أين.. أين؟! والجواب: الكفر موت، من كفر مات، والميت هل يلام إذا لم يسمع؟! يلام إذا لم يجب؟! لا يلام. فالكافرون أموات غير أحياء وما يشعرون.
فمن نفخت فيه روح الإيمان فحيي، فأصبح يسمع ويبصر، ويقول ويفهم، ويعطي ويأخذ، نعم هذا حي، أما من فقد روحه فقد مات، والإيمان بمثابة الروح، من فقده مات وهو ميت.
اختصاص الله تعالى بخلق الإنسان وإيجاده
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، (هُوَ )[الأنعام:2] لا غيره، لا سواه، ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ )[الأنعام:2]، هل هناك من يقول: لا؟! ألا تعترف بأن الله الذي خلقنا من طين؟! فقل لنا إذاً: تعترف بمن؟! تقول: ما خلقنا أحد؟! أنت مجنون. أنت مخلوق، تقول: غير الله! أشر إليه. من هو؟! فلم يبق إلا أن تطأطئ رأسك وتقول: آمنت بالله، خلقكم من طين، فلم ترفعون أنفسكم وتتكبرون؟ أصل مادتكم من الطين، وفيه أيضاً عبرة كبيرة لمن ينكرون البعث الآخر، فإذا أعلمتهم أنهم خلقوا من طين؛ إذاً تموتون وتصبحون طيناً من جديد وتخلقون، لو كنتم لا تموتون نعم تقولون: لا نبعث، ولا حياة أخرى، لكن ما دمتم تقولون: ( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ )[المؤمنون:82]، نعم هذه هي الحجة عليكم، لما تموتون تتحللون وتصبحون ترابا، ويخلقكم الذي خلقكم أولاً من تراب، هذا أقرب إلى العقل والفهم.لو كان الكافر يقول: لا نموت نعم لا يبعث، لكن ما دام يموت ويتحلل ويصبح تراباً؛ إذاً لا يملك أن لا يبعث، فالذي خلقه أولاً من طين يخلقه مرة ثانية.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا )[الأنعام:2]، أية قدرة أعظم من هذه؟ قضى آجالنا، هذا يعيش خمسين، وهذا عشرا، وهذا سنة، ولا يتخلف أبداً ولو على لحظة واحدة، ولا يستطيع إنسان تحت السماء أن يقول: أنا أملك ألا أموت، أو لا يموت ولدي أو أبي، أو أنا أستطيع أن أؤخر هذا سبعين سنة أخرى.
تقدير الله تعالى أجل الإنسان وأجل الحياة الدنيا
(ثُمَّ قَضَى أَجَلًا )[الأنعام:2] وحكم به، هل هناك من يستطيع أن يقول: لا نسلم بهذا القضاء ولا بهذا الحكم الإلهي؟ ولن نموت إلا إذا اشتهينا الموت؟ هل هناك من يتكلم بهذا؟ قضى أجلاً. وأجل آخر للبشرية كلها، مسمى عنده ومعروف يومه وساعته ولحظته، هذا الذي يستحق أن يعبد أم عيسى؟ هذا الذي يستحق أن يعبد أم الملائكة؟ هذا الذي يستحق أن يعبد أم الأولياء، فضلاً عن الأحجار والأصنام والتماثيل؟ إذ تلك ما عبدوها لذاتها، وإنما عبدوها يستشفعون بها عند الله عز وجل.
العرب أذكياء بالفعل، ومع هذا عبدوا اللات والعزى، ولكن ما قالوا: تخلق ولا ترزق، ولا تميت ولا تحيي، أبداً، قالوا: إنما نتقرب بها إلى الله.
(تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ )[الزمر:1-3] ماذا يقولون: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى )[الزمر:3].
لأنك إذا سألت عربياً في البادية، في الحضر: من خلق السماوات ؟ ما يقول: اللات، وهو إذا استطاع أن يبول عليها بال عليها، فكيف يقول: اللات؟ من خلقك أنت؟ ما يقول: العزى ولا اللات، يقول: الله. ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )[الزخرف:87]، ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السماوات وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )[لقمان:25] قل فأنى تؤفكون.
الجهل في حياة المشركين المعاصرين
والغريب أن الخلاف بين مشركينا ومشركيهم أن مشركينا أجهل كما بينا أمس، ومشركونا ما يسمون الولي إلهاً، ما يقولون: إله أبداً، يقولون: ولي، أما المشركون الكفار فيقولون: إله، إلا أن أولياءنا نعبدهم لجهلنا وذهاب نور القرآن من قلوبنا أكثر مما يعبد المشركون اللات والعزى، أنذبح لهم أم لا؟! هذا عجل السيد البدوي ، هذه شاتي لـعبد القادر ، هذه نخلة مولاي فلان! ذبائح ونذور، أما الحلف فلا تسأل، ممكن أن يحلف بالله مرة ويحلف بالولي سبعين مرة، والمشركون قل ما يحلفون بغير الله، يحلفون بالله عز وجل.
المؤامرة على المسلمين بإبعادهم عن الاستهداء بالقرآن الكريم
وهنا ما يجدينا البكاء ولا ينفعنا، ولكن نقول: الذي أوقعنا في هذه الفتنة هو العدو المكون من المجوس واليهود والنصارى، فهيا نبغضهم لله، فهيا لا نذعن لهم، ولا ننقاد لحالهم، ونحاول أن نتفصى عنهم تمام التفصي، ما استطعنا مخالفتهم في شيء إلا خالفناهم فيه لنستقل، لأنهم مكروا بنا، تعرفون ماذا فعلوا بنا؟ درسوا كيف ارتقت هذه الأمة التي كانت لاصقة بالأرض، كيف عزت وسادت وكانت مستعمرة للفرس من جهة، وللأحباش من جهة، والرومان من جهة، كيف علت؟! كيف سمت؟! كيف حكمت وسادت؟! بحثوا عن سر ذلك، فعثروا -والله- عليه، ألا وهو القرآن والنور المحمدي، الكتاب والسنة، هذا سر ارتفاعهم وعزهم وكمالهم، إي والله الذي لا إله غيره، القرآن روح، ولا حياة بدونه، السنة النبوية نور ولا هداية بدونها، فماذا يفعلون، اجتمعوا مرة القسس والرهبان، وقالوا: هل في الإمكان أن نسقط من القرآن كلمة (قل)، حرفان القاف واللام فقط، إذا استطعنا أن نسقط كلمة (قل) فيتخلى عنها المسلمون نستطيع أن نذهب القرآن بالمرة، اجتمعوا أكثر من عشرين يوماً، ما استطاعوا، قالوا: لأن القرآن يحفظه النساء والرجال، البدو والحاضرة، مكتوب في السطور، كيف نحذف كلمة قل هذه، وسر (قل) إذا أسقطوها أنهم يقولون للمسلمين: القرآن ليس بكلام الله أبداً، هذا من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، فاضت به روحه لذكائه وصفائه، لأنه في أرض حارة صحراوية، هذه تنتج له هذه المعاني والمعارف، أما مع قل: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ )[الأعراف:158]، من الذي يقول له: قل؟ إذًا: محمد مربوب والخالق يأمر، ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )[الكافرون:1]، هذا ما هو بمحمد، واحد يقول له: (قل) من هو؟ هذا هو الله، ( قُلْ هُوَ اللَّهُ )[الإخلاص:1] ، وهكذا.فاقتنعوا بأن هذا القرآن كلام الله، ما هو من عند محمد صلى الله عليه وسلم، بل يوحى إليه ويملى عليه ويؤمر بأن يقول. واستطاعوا أن يضعوا لنا قاعدة، وهي موجودة في هوامش كتب الفقه المالكي وخاصة الحطاب على خليل، يقولون: تفسير القرآن صوابه خطأ، من فسر القرآن كتفسيرنا هذا إن أصاب فهو مخطئ آثم، وأنتم أيها المستمعون آثمون، فاحذروا من الحلقة.
وخطؤه كفر، وإذا فسر وأخطأ فقد كفر، فأصبح لا يجتمع الناس على تفسير كتاب الله، في القرى والمدن والحواضر حتى في مكة، ما يجتمعون عليه، إذاً ماذا يصنعون بالقرآن؟ يقرءونه على الموتى، إذا مات السيد فلان الغني الرئيس الفقيه العالم؛ فإنهم يقرءون عليه ثلاث ليال، وبعضهم سبع ليال، وبعضهم أربعين ليلة، وقد ذكرت لكم ما بلغني أنهم جعلوا نقابة، النقيب فلان في التلفون، إذا توفي لك قريب فدق عليه التلفون: نريد طلبة قرآن الليلة عندنا ميت، يقول: من فئة المائة ريال أم المائتين، يعني: إذا كان غنيا فمن فئة مائتي ريال لليلة الواحدة، وإذا كان فقيرا فمش الحال بالمائة ريال.
هكذا فعلوا بكتاب الله من إندونيسيا إلى موريتانيا، لا يقرأ القرآن إلا على الموتى، وإلى الآن ما زالوا يتشدقون بعض التشدق، يسمونه عشاء القبر.
والشاهد عندنا في أن النور الإلهي ما استطاعوا أن يطفئوه، كلام الله ما استطاعوا أن يمحوه، فاحتالوا فصرفوا القلوب عنه؛ لتعيش الأمة في الظلام والموت لا في الحياة.
يتبع

ابوالوليد المسلم
26-08-2021, 05:27 AM
دليل نجاح اليهود والنصارى في تنحية القرآن والسنة عن الحياة العملية لدى المسلمين
ومن قال كبرياء: ما الدليل على هذا؟ نقول: هل ذلت أمة الإسلام ودانت للكفار وحكموها وساسوها وأذلوها من إندونيسيا إلى موريتانيا أم لا؟ حكموا وسادوا أم لا؟ كيف حصل مثل هذا والله يقول: ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا )[النساء:141]؟ فلو كنا -والله- مؤمنين بحق ما حكمنا النصارى ولا الغرب ولا الشرق، لكن كنا مؤمنين، أما المؤمنون بصدق وحق فهيهات هيهات أن يسودهم الكافر ويحكمهم، ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ )[النساء:141]، المؤمنون بصدق وحق، المؤمنون حق الإيمان، الذين عرفوا ربهم وآمنوا به، عرفوه أولاً بجلاله وكماله، وعظمته وسلطانه، ورحمته وعدله، فذلوا وهانوا له وعبدوه، أولئك هم المؤمنون.والسنة تقرأ للبركة، في الجوامع الكبيرة حين يدخل رمضان يجتمع أعيان البلاد والأغنياء وأهل الفراغ، ويقرءون فيه البخاري للبركة، هذا رأيناه في الديار الجزائرية ووجدناه في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وموجود في غيرهما، السنة تقرأ للبركة، كيف للبركة! نتبرك بالحديث، والحديث يقول: ( من أحدث فليتوضأ )، تعاليم، كيف نتبرك به؟ ماذا نصنع به ما دمنا لا يجوز لنا أن نعمل به، ولا نقرأه للهداية؛ لأن فيه الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، وغير ذلك، ونحن استغنينا بكتب فقهائنا نصلي ونصوم ونحج ونعتمر، فماذا نصنع إذاً بهذه السنة؟ أنهجرها؟ دعنا نجتمع عليها للبركة، فهمتم ما فعل العدو أم لا! هذا ما هو بعدو جاهل مثلنا، هؤلاء كبار المفكرين في النصارى واليهود والمجوس، كيف وصلوا إلى هذا؟ واستطاعوا أن يربطونا إلى الأرض ويلصقونا بها، وإلى الآن نحن لاصقون بالأرض.
والله لو كنا أحياء ما رضينا ليلة واحدة أن تنقسم أمتنا إلى ثلاثين أو أربعين دولة، لتبقى مهانة فقيرة ، وقد كان في أربع وعشرين ساعة إمام المسلمين فلان والأمة كلها أمة واحدة، ويطبق كتاب الله وهدي رسول صلى الله عليه وسلم.
وأوضح من هذا حفنة من اليهود أذلتنا وأهانتنا، وداست كرامتنا، وحطمت هكذا شرفنا، ونحن في حياء نتخبط ليل نهار، ماذا نصنع مع اليهود؟ أين يذهب بعقولنا؟ إننا متنا. اللهم أحينا! اللهم أحينا!
إذاً: من خلق الظلمات والنور؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه هو الذي خلقنا من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده، ما الأجل المسمى عند الله؟ قلنا: الأجل أجل يوم القيامة، والأجل الذي قضاه لنا ما هو؟ أجلنا. الذين نصلي عليهم كل صلاة انتهت آجالهم أم استعجلت؟ انتهت. محددة باللحظة والثانية، هذا هو الله خالق السماوات والأرض والظلمات والنور.
حال الكفار بعد تقرير الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى
(ثُمَّ أَنْتُمْ )[الأنعام:2] يا بني آدم ( ثُمَّ أَنْتُمْ )[الأنعام:2] يا بني الناس، يا معشر الكفار على اختلاف مذاهبكم ( تَمْتَرُونَ )[الأنعام:2]، مع هذه الآيات، خلق السماوات والأرض، والظلمات والنور، والآجال والموت والحياة، مع هذا تشكون في ربكم، وما تصرحون بأن لا إله إلا الله، ( ثُمَّ أَنْتُمْ )[الأنعام:2]يا للعجب ( تَمْتَرُونَ )[الأنعام:2]، والامتراء نوع من الشك والاضطراب وعدم اليقين، فلو كانوا ينظرون إلى هذه الأكوان نظرة حقيقية لذهبوا يبحثون عن الله، من هذا الذي رفع هذا الكوكب في السماء فأنار به الدنيا، من هذا الذي أوجد هذا الليل المظلم، من أوجد كذا وكذا، سيجدون من يقول: هذا الله، من هو الله؟ الذي خلقك، وخلق أمك وأباك، إذًا: ماذا نصنع؟ إن أمرك أطعه، واطلب محبته وطاعته حتى تذوب في ذلك، لكن لا يسأل ولا يفكر ولا يبحث، أما إذا كان الطعام أمامه يأكل ويشرب؛ فإنه ما يفكر من أين هذا النعيم، من أين حصل، كيف كان، كيف تم، كالبهيمة، ( ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ )[الأنعام:2].
استحقاق الله تعالى وحده العبادة في السموات والأرض
(وَهُوَ اللَّهُ )[الأنعام:3] كلمة (الله) عرفنا أنها علم على ذات الرب جل جلاله وعظم سلطانه، (الله) علم، كما نقول للمخلوق: خالد، فهذا علم على هذه الذات، فالذوات البشرية متساوية، فكيف نميز بعضها عن بعض؟ بالأسماء. إذاً: فـ(الله) علم، خالقنا اسمه الله، الذي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، وخلقنا، وخلق لنا الآجال والدنيا والآخرة، اسمه الله، هذا هو الاسم وهو الاسم الأعظم، هذا الاسم الذي ينادى به الجبار عز وجل، هذا الذي تتناول طعامك باسمه: باسم الله، هذا الذي تحمده وتقول: الحمد لله، هذا الذي يملأ قلبك حبه والخوف منه، هذا هو الله.
(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ )[الأنعام:3]، وهو الله في السماوات وفي الأرض إله معبود، لطيفة: ( وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ )[الأنعام:3]، والمعنى: وهو المعبود في السماوات وفي الأرض، أي نعم، هو المعبود بحق، ولا يستحق العبادة غيره من العوالم العلوية أو السفلية، كقوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ )[الزخرف:84]، أي: المعبود في السماء، والمعبود في الأرض، الخلق خلقه، والنعمة نعمته، وهو الذي يستحق أن يعبد في السماوات وفي الأرض.
اختصاص الله تعالى بعلم السر والجهر ودلالة ذلك على عظمته ووحدانيته
وأخرى: ( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ )[الأنعام:3]، اجتمعوا في الظلام في السراديب، اختفوا وتساروا بالكلام بينكم، والله ليعلمنه، ولو شاء لقال: قلتم كذا وكذا، فلهذا هذا الذي يستحق أن يعبد، هذا الذي يستحق أن يخاف منه ويرهب، هذا الذي ينبغي أن نتقرب إليه ونتزلف، هذا الذي معنا، يعلم سرنا ونجوانا، وهو بائن من خلقه، فوق سماواته، فوق عرشه، ونحن بين يديه وفي قبضته، لا يخفى عليه من أمرنا شيء، آه لم لا نأخذ بهذه؟! ندخل في الصلاة ونصلي وكأننا لسنا مع الله، نمشي ونتكلم ونجلس ونأكل ونشرب وما نذكر أننا مع الله، من صرف قلوبنا؟ العدو إبليس؛ لأن نسيان الله هو الهلاك، فلا تُرتكب كبيرة، ولا تغشى معصية ولا يسيل دم إلا بعد نسيان الله عز وجل. إياك أن تفهم أن عبداً قلبه مع الله يذكره، ويمد يده ليقتل فلانا وفلانا، القلب مع الله يذكره ويمد يده ليتناول مالاً حراماً، قلبه مع الله وينظر إليك بنظرة كذا، أو يسبك أو يشتمك وأنت ولي الله معه، العلة هي نسيان الله، وإن شئت فقل: الغفلة.
علم الله تعالى المحيط بما تكسبه جوارح عباده
(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3]، نكسب بماذا؟ بالآلات الأمريكانية، الكسب يتم بماذا؟ بالجوارح، كم جارحة عندنا؟ الجوارح عندنا ما يلي: السمع نجترح به الحسنة والسيئة، تصغي تسمع العلم والمعرفة والذكر هذه حسنة، وتصغي تسمع الباطل والمنكر والأغاني هذه سيئة.الجارحة الثانية: البصر، العينان نبصر بهما، نكسب بهما أم لا؟ انظر إلى السماوات، إلى الكواكب، إلى المخلوقات؛ يزيد إيمانك وتعظم مودتك ومحبتك لله، انظر نظرة حسد تتحطم، انظر نظرة محرمة إلى مؤمنة، إلى أمرد تتلذذ به تهلك، وتكون قد اجترحت سيئة عظيمة.
واللسان وهو أعظمها، المصريون يقولون: لسانك حصانك، إن صنته صانك وإن خنته خانك، هذا مثل مصري، يقولون: لسانك حصانك، إن صنته صانك، وإن خنته خانك، وحسبنا أن يقول الحبيب هكذا بيده: ( كف عليك هذا ) أي: لسانك، ( قال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ).
الشاهد عندنا أن هذه الجارحة أكبر مصيبة، هذه جارحة اللسان.
رابعاً: اليدان، بهما تأخذ وتعطي، الذي يتناول سيجارة بيده اليمنى ويدخلها في فمه اجترح سيئة أم لا؟ اجترح سيئة. والحلاق في صالون الحلاقة وبيده الموسى تلمع، فيحلق لحى الرجال فلا يبقى لهم شعر، ولا ما يدل على فحولتهم، هذا ماذا صنع؟ اجترح سيئة أم لا؟ أكبر سيئة تخنث رجالنا، على الأقل اترك بعض اللحية -لحية سعودية- لنعرف أنه ذكر، أما أن تحلق الشارب واللحية فأنت تخنثه أم لا؟ كيف يجوز هذا مقابل عشرين ريال، والله لو تعطى مليون ريال ما تقبل هذا، فكيف تخنث فحلاً من فحول الإسلام، إلا أنك تقول: هو الذي طلب، انصح له، بين له، لا تسمح له أبداً أن يفعل هذا، حسن له اللحية وزينها لا بأس، أما أن تحلق اللحية والشارب فلا.
واليد بها السرقة والدم والدمار، وبها العطاء والزيادة، فهي جارحة.
والرجل أيضاً تمشي بها أم لا؟ يمشي في ليال سوداء أربعين كيلو متر ليحضر عرسا، وخمس خطوات عند المسجد ما يخطوها، أربعين كيلو متر يمشيها ليحضر حفل فلان والزوجة الفلانية، والمسجد عند الباب لا يستطيع الذهاب إليه! يصلي في البيت، إذاً: الرجل جارحة أم لا؟
وأعظم الجوارح الفرج، الفرج الذي ينتج البنين والبنات.
هذه هي الجوارح أم وإلا لا؟ بها الكسب، فقول ربنا: ( وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3]، ما معنى: نكسب؟ ما نجترحه بجوارحنا من خير وشر، هذه الجوارح، وحتى الفرج أيضاً فيه حسنة، أي نعم: ( وفي بضع أحدكم صدقة ).
(وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3]، ولازم علمه ما نكسب الجزاء، وليس المراد أنه يعلم فقط، معناه أنه سوف يحاسبنا بدقة على كسبنا الخير والشر على حد سواء، فعجب هذه الآيات، نسمعكم شرحها مرة ثانية لتتأكدوا، وأنا أطلب منكم أن تحفظوا هذه الآيات، ثلاث آيات تصلون بها النافلة، لو عزمتم عليها أمس والله لحفظتموها.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات

يقول الشارح غفر الله لنا وله وإياكم والمؤمنين: [ يخبر تعالى بأنه المستحق للحمد كله] ما الحمد؟ قال: [ وهو الوصف بالجلال والجمال، والثناء بهما عليه، وضمن ذلك يأمر عباده أن يحمدوه، كأنما قال: قولوا: الحمد لله ]، ولهذا في الفاتحة: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الفاتحة:2]، كأنه قال: قولوا: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )[الفاتحة:2-4] ثم تملقوه وقولوا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة:5]، ثم اطلبوا منه حاجتكم: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة:6].فهمتم هذه أم لا؟ احمدوه وأثنوا عليه، ومجدوه وتملقوه واطلبوه، أما من أول وهلة تقول: ربنا اهدنا فما ينفع، والعوام يعرفون هذا، إذا أراد أن يطلب من شيخ أو من غني مسألة لا يقول له: أعطني، يقول: يا عم، يا سيد، عرفناك بكذا، سمعنا أنك كذا وكذا وكذا، بعد ذلك يقول: أعطنا كذا، فالله أولى بهذا أم لا؟
فكأنه تعالى يقول: قولوا: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )[الفاتحة:1-5]، تملق هذا أم لا؟! لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين إلا بك، إذاً: اهدنا الصراط المستقيم.
فلهذا قال: [كأنما قال: قولوا الحمد لله، ثم ذكر تعالى موجبات حمده دون غيره].
موجبات الحمد له ما هي؟
أولاً: [(الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )[الأنعام:1] فالذي أوجد السماوات والأرض وما فيهما، وما بينهما من سائر المخلوقات، وجعل الظلمات والنور وهما من أقوى عناصر الحياة؛ هو المستحق للحمد والثناء لا غيره، ومع هذا فالذين كفروا من الناس يعدلون به أصناماً وأوثاناً ومخلوقات، فيعبدونها معه، يا للعجب! هذا ما دلت عليه الآية الأولى.
أما الثانية: فإنه تعالى يخاطب المشركين موبخاً لهم على جهلهم، مندداً بباطلهم فيقول: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ )[الأنعام:2]، لأن آدم أباهم خلقه من طين، ثم تناسلوا منه، فباعتبار أصلهم فهم مخلوقون من طين، ثم الغذاء الذي هو عنصر حياتهم من طين، ثم قضى لكلٍ أجلاً وهو عمره المحدد له، وقضى أجل الحياة كلها الذي تنتهي فيه، وهو مسمى عنده معروف له، لا يعرفه غيره، ولا يطلع عليه سواه، ولحكم عالية أخفاه، ولم يُطلع عليه سواه، ثم أنتم أيها المشركون الجهلة تشكون في وجوب توحيده وقدرته على إحيائكم بعد موتكم لحسابكم ومجازاتكم على كسبكم خيره وشره، حسنه وسيئه.
وفي الآية الثالثة: يخبر تعالى أنه هو الله المعبود بحق في السماوات وفي الأرض، لا إله غيره ولا رب سواه، ( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3] من خير وشر، فهو تعالى فوق عرشه، بائن من خلقه، ويعلم سر عباده وجهرهم، ويعلم أعمالهم وما يكسبونه بجوارحهم، ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ )[غافر:19].
لذا وجبت الرغبة فيما عنده من خير، والرهبة مما لديه من عذاب، ويحصل ذلك لهم بالإنابة إليه وعبادته والتوكل عليه].
اللهم ارزقنا ذلك، وأعنا عليه، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم
26-08-2021, 05:28 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (380)
تفسير سورة الأنعام (13)



من أحبه الله من عباده وفقه للإيمان، ويسر له طريق الهداية والرشاد، فالواجب في حقه أن يعرض عمن يريدون له أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، والعاقل لا يستبدل سبل الشياطين بسبيل الهدى الذي أرشده إليه رب العالمين، بل يقيم على طاعة الله عز وجل، وأداء العبادات، وترك المعاصي والسيئات، ما امتدت به الحياة، حتى يحشر إلى ربه يوم القيامة راضياً مرضياً.
تفسير قوله تعالى: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
هذا ولنذكر أننا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلك السورة التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، ونحن مع الآيات الثلاث التي سنسمع -إن شاء الله- تلاوتها مجودة مرتلة من أحد الأبناء، ثم نأخذ في تدبرها وشرحها وفهم مراد الله منها، رجاء أن نعلم فنعمل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:71-73].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ )[الأنعام:71]، من الآمر؟ إنه الله. من المأمور؟ رسول الله، ( قُلْ )[الأنعام:71] يا رسولنا لهؤلاء المشركين الكافرين، الذين يحاولون أن يردوكم عن دينكم.
محاولة المشركين صرف المسلمين عن عبادة الله تعالى إلى عبادة أوثانهم
وهنا أذكركم بأن سورة الكافرون التي بين سورتي الكوثر والنصر، سورة: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )[الكافرون:1] نزلت بشأن رغبة المشركين؛ إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم والجماعة المؤمنة معه: اعبدوا معنا آلهتنا سنة ونعبد معكم إلهكم سنة! عرض رخيص، ولولا حماية الله فلربما قبل، لم؟ قد نقول: هم ما عرفوا الله، لكن إذا عبدوه معنا سوف يعرفون ويؤمنون ويستقيمون، ولكن الله عز وجل لم يرض ذلك، وأنزل على رسوله قوله: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )[الكافرون:1-6]، فكان فيصلاً، أيأسهم وقطع آمالهم والحمد لله. وهذا التأكيد الظاهر في التكرار لييأسوا، ومع هذا أخذوا أيضاً يخلون ببعض المؤمنين ويعرضون عليهم:لم الاستمرار في هذا الدين الجديد، وها أنت في كرب، وأنت في كذا، لم تعدلون عن دين آبائكم وأجدادكم؟
وأنتم تعرفون السياسة وتعرفون أصحاب الأهواء والأطماع، الآن تعرفهم في كل مكان بأساليب خاصة، فأنزل الله تعالى على رسوله قوله: ( قُلْ )[الأنعام:71] يا رسولنا ( أَنَدْعُوا )[الأنعام:71]، أنعبد، ( مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا )[الأنعام:71]، والاستفهام للإنكار، كيف يكون هذا؟ ( أَنَدْعُوا )[الأنعام:71]، بمعنى: أنعبد، لأن الدعاء هو العبادة، ما كانوا يصومون ولا يصلون للآلهة، ولكن كانوا يعبدونها بدعائها، والاستغاثة بها، والاستعاذة بها، وذبح القربان لها، والحلف بها، هذه هي مظاهر العبادة، والدعاء يشملها، فلهذا من دعا غير الله كفر، لم يبق له حظ في الإسلام، ولم ندعو غير الله؟ هل الذي ندعوه يجيب دعاءنا؟ هل يفرج كربنا؟ هل يقضي حوائجنا؟ هل سيدفع الضرر عنا؟ هل سيجلب الخير؟ لا؛ لأنه لا يملك لنفسه ولا لنا شيئاً.
على سبيل المثال: عيسى بن مريم روح الله وكلمته، لو وقفت ألف سنة تقول: يا ابن مريم، يا روح الله، يا عيسى! امرأتي بها كذا.. أنا مصاب بكذا وكذا؛ فوالله ما استجاب لك، ولا سمع دعاءك ولا عرف حاجتك، ولا يقوى على أن يعطيك شيئاً، فكيف بالأولياء والصالحين الذين ألهتهم هذه الأمة أيام جهلها وظلمة نفوسها؟!
آثار الجهل الناشئ عن انصراف المسلمين عن هدي القرآن الكريم
هذه الآية ما كانوا يقرءونها، لو اجتمعوا عليها اجتماعنا هذا وقرءوها والله ما دعوا عبد القادر ولا العيدروس ولا البدوي ولا فاطمة ، ولا الحسين أبداً، لكن القرآن يقرءونه على الموتى، لا يجتمعون عليه ليتفكروا ويتدبروا ويعرفوا مراد الله من كلامه وما أراده منهم وما طلبه لهم، فكيف يعلمون؟ هل سيوحى إليهم؟ فعلتنا أنهم صرفونا عن القرآن، لا بالحديد والنار، ولكن بالسحر والباطل والكلام، فما أصبح اثنان يجتمعان على آية يتدبرانها، ولا على سورة يفهمان مراد الله منها، فعم الجهل والظلام وأصبحنا كالمشركين، وقد ظهرت لنا مظاهر كان المشركون خيراً منا فيها، فالمشركون -عليهم لعائن الله- كانوا إذا كانوا في الشدة لا يفزعون إلا إلى الله، إذا أصابهم قحط أو مرض أو بلاء أو مصيبة لا يعرفون إلا الله عز وجل، لا يذكرون معه اللات ولا العزى ولا غيرهما، لكن إذا جاء الرخاء واللهو يعبدون غير الله، وأما المسلمون الجاهلون من القرن الرابع إلى اليوم -إلا من رحم الله- فلا فرق عندهم بين الشدائد والرخاء واليسر، في الكل: يا سيدي عبد القادر ، يا مولاي إدريس ، يا سيدي فلان يا فلان.. والسيارات مكتوب عليها: يا فاطمة ، يا حسين ، فلا إله إلا الله إلا الله! ما سبب هذا يرحمكم الله؟
إنه الجهل الذي نتج عن إبعادنا عن القرآن الكريم، وافهموا هذا وبلغوه، نظر الخصوم ذلكم الثالوث المظلم المكون من المجوسية واليهودية والصليبية، نظروا في اجتماعات خاصة، فرأوا أن هذه الأمة ما علت ولا ارتفعت، ولا طابت ولا طهرت إلا بالوحي الإلهي القرآني الكريم، فقالوا: إذاً: نقضي عليها، كيف نقضي عليها؟ هل ندخل معها في حروب؟ ما نجحنا، دخلنا وما فزنا، إذاً: السر في عزها وكمالها وعلمها القرآن، أبعدوا القرآن عنها. وهل يستطيعون أن ينتزعوه من صدور المؤمنين والمؤمنات؟ ما استطاعوا، هل يستطيعون أن يأخذوا كل مصحف في الأرض؟ لا يمكنهم. إذاً: الطريقة الوحيدة أن نبعدهم عن تدبره وتفهمه، ومن هنا نحوله إلى الموتى، إذا مات السيد أو ماتت السيدة يجتمعون عليهما ويقرءون القرآن، قرابة ألف سنة وهذا هو الوضع، فمن ثم شاع فينا الضلال والباطل وانتشر الكفر والشرك، والحمد لله على أن ردنا الله.
يتبع

ابوالوليد المسلم
26-08-2021, 05:29 AM
التصوير القرآني للردة بعد الهداية في معرض الإنكار على المشركين
(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ )[الأنعام:71]، بعد ما مشينا في طريق السعادة والكمال والطهر والصفاء نرجع إلى الوراء؟ كيف يتم هذا؟ كيف نقبل هذا؟ كيف نطالب به؟ فلهذا من عرف الله فوالله الذي لا إله غيره لو مُلِّك ما على الأرض كلها على أن يكفر ما كفر، والله لو عرضت عليه خزائن بريطانيا المالية على أن يكفر ما قبل، والذين ما عرفوا وانتسبوا إلى الإسلام بالنسبة فإنه بوظيفة فقط يتخلى أحدهم عن الإسلام، وظيفة فقط، بل رخيصة أيضاً، ولا لوم؛ فما عرف الله حتى يحبه ويخشاه. أسمعتم هذا الإنكار؟ قل يا رسولنا لهؤلاء الذين يعرضون الردة عليك وعلى إخوانك: أنرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، فنصبح كالذي استهوته الشياطين حيران، يصبح حالنا حال من تاه في الصحراء، زينت له شياطين الإنس والجن أطماعاً وأغراضاً وتاه في صحراء لا يعرف الطريق ولا إلى أين يذهب ولا كيف يعود، هذا مثل من خرج من دين الله الحق الإسلام وتدين بدين الباطل، سواء كان مسيحية أو يهودية أو مجوسية أو غيرها.
(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ )[الأنعام:71]، استمالته، ( الشَّيَاطِينُ )[الأنعام:71]، بالوساوس والتزيين والتحسين في صحراء فتاه، و( لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا )[الأنعام:71]، يا فلان! هذه الطريق، فما يسمع ولا يقوى على أن يجيبهم ولا يعرف كيف يجيبهم حتى هلك كذلك، أتريدون أن نصبح نحن هكذا؟ قال: لا، أنرد على أعقابنا إلى الكفر بعد الإيمان، إلى الشرك بعد التوحيد، إلى الطهر بعد الخبث، فتصبح حالنا كحال الذي استهوته الشيطان، (اسْتَهْوَتْهُ): استمالته بهواها وهواه، وغررت به ورمت به في صحراء، وله أصحاب يدعونه أن: تعال، الطريق هنا، أنت أخطأت، فما يسمع. معنى قوله تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى)
ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ )[الأنعام:71]، يا رسولنا: ( إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى )[الأنعام:71]، هدى اللَّه أما تعرفونه؟ والله إنه للإسلام، لا الصليبية ولا المجوسية ولا أية ملة، الهدى الموصل إلى رضوان الله، ثم النزول بدار السلام، والمحقق للسعادة والكمال في الدنيا قبل الآخرة، إنه دين الله الذي هو الإسلام، أما قال تعالى: ( قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ )[آل عمران:73]؟ وقال: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ )[آل عمران:19]، وقال تعالى: ( وَمَنْ يَبْتَغِ )[آل عمران:85] يطلب ( غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[آل عمران:85].(قُلْ )[الأنعام:71]، يا رسولنا والمبلغ عنا: ( إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى )[الأنعام:71]، لا غيره، أما ما تزينه الشياطين من الشرك والباطل والخلاعة والدعارة والفسق والفجور فلن يكون هذا ديناً لله أبداً، ولن يسعد صاحبه بحال من الأحوال.
معنى قوله تعالى: (وأمرنا لنسلم لرب العالمين)
وقال له: قل أيضاً: وأمرنا أن نسلم لرب العالمين، ( وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ )[الأنعام:71] قلوبنا ووجوهنا ( لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:71]، فهذا الذي يستحق أن تسلم له القلوب والوجوه؛ لأنه خالق العالمين ومدبر حياتهم ووجودهم، رب العالمين، مالك العالمين، المدبر أمرهم والمتصرف فيهم، هذا الذي أسلم له قلبي ووجهي، فإذا أعطيته قلبي فأصبح قلبي لا يتقلب إلا في طلب رضاه، وأسلمت وجهي فلا أقبل على أحد إلا عليه؛ فهذا الذي ينفعني إذا أسلمت له قلبي ووجهي، أما الذي لا يملك شيئاً فلن ينفعني بشيء، حتى عيسى عليه السلام، قال تعالى في عيسى ووالدته البتول مريم عليهما السلام لما ألهوهما وعبدوهما وجادلوا رسول الله فيهما، قال تعالى: ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ )[المائدة:75]، من الصديقات، ( كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ )[المائدة:75]، والذي يأكل الطعام يرمي العفن أم لا؟ هذا الذي يحمل العذرة والبول والأوساخ في جسمه يستحق أن يعبد؟ كيف ذلك يا عقلاء؟! عجب هذا القرآن، ولقد صدقت الجن حين قالت: ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا )[الجن:1]. فالقرآن أسكتهم، يقول: تعبدون مريم وولدها عيسى وهما يأكلان الطعام؟ ولازم ذلك أنهما يفرزان القذى والوسخ، ولهذا قالوا: عجباً للإنسان كيف يتكبر وأصله نطفة قذرة، وفي بطنه العذرة، وغداً يصبح جيفة منتنة، كيف يتكبر هذا؟! أما يستحي؟! أنت أصلك من ذهب أم من نحاس أم من حديد؟ ألست نطفة منتنة قذرة؟ وماذا تحمل في بطنك؟ الخرء والبول، أعوذ بالله، ونهايتك كيف هي؟ جيفة منتنة ما تشم رائحتها ولا يجلس إليها، أمثل هذا يتكبر ولا يعبد الله عز وجل؟
قال تعالى: ( وَأُمِرْنَا )[الأنعام:71]، من الذي أمرنا؟ إنه الله جل جلاله ربنا؛ ( وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:71]، نسلم له قلوبنا ووجوهنا، فقلوبنا طول الحياة لا تفكر إلا في رضا الله عز وجل، وكيف تحققه، لا نلتفت يميناً ولا شمالاً بوجوهنا، وإنما كل أملنا وكل ما نطلبه من ربنا عز وجل، لا نطلب عيسى ولا مريم ولا صنماً ولا حجراً ولا ولياً ولا قطباً من الأقطاب الباطلة.
تفسير قوله تعالى: (وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون)
ثالثاً: قال تعالى: ( وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ )[الأنعام:72]، أي: وأمرنا أيضاً أن نقيم الصلاة؛ إذ لم يكن يومها من عبادة في مكة إلا الصلاة فقط، ما فرض صيام ولا حج ولا زكاة، إلا الصلاة. يقول: أمرنا أن نقيم الصلاة ونتقيه عز وجل، فكيف نتقي الله، هل ندخل في الكهوف والسراديب، ما قيمتها؟ هل نبني الحصون العالية؟ هل بالجيوش الجرارة؟ هل بقوة الدفاع؟ والله ما يتقى الله بشيء من هذا؛ لأنك بين يديه، والله إنك بين يديه يراك ظاهراً وباطناً، إن شاء أخذ منك وإن شاء أعطى، فأين تغيب عنه والملكوت كله في قبضته؟
إذاً: لا يتقى الله إلا بالإيمان به وطاعته وطاعة رسوله، كيف يتقى غضب الله وجبروته وسلطانه وقدرته على الإشقاء والتعذيب، يتقى بماذا؟
آمن واستقم تكن وليه، لا يغضب عليك ولا يسخط أبداً، وأنت من أحب أحبائه إليه، فقط بتقواه، بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن طاعة الله وطاعة رسوله عبارة عن أدوات تزكية للنفس، الركعتان تصليهما ينتج عنهما نور يملأ قلبك، تركك معصية له بترك واجب أو فعل محرم يحفظ ذلك النور في نفسك، فلا تزال تعبده، وتزكي نفسك وتبعد معصيته عنك، فتحتفظ بتلك الزكاة حتى تصبح روحك كأرواح الملائكة في طهرها وصفائها، ومن ثم يحبك الله عز وجل، عرفتم سر هذه الطاعة؟ ودعنا مما تنتجه من الإخاء والمودة والعزة والطهارة والصفاء في هذه الحياة، هذا شيء إضافي، والمقصود: أن الطاعة تنتج طهارة الروح البشرية، فإذا طهرت النفس وزكت وأصبحت كأرواح أهل الملكوت الأعلى رضي الله عنها وقبلها وأنزلها بجواره في الملكوت الأعلى، وهل تذكرون قسم الله الذي أقسمه أم لا؟
قال تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، هذا حكم الله أم لا؟ هل هذا يحتاج إلى شرح وبيان؟ أفلح من زكى نفسه، وخاب وخسر من دسى نفسه، والسؤال: بم نزكي نفوسنا؟ ما هي أدوات التزكية، هل توجد في الصيدليات؟ هل هي مواد التنظيف؟ إن النفس البشرية تزكو بما شرع خالقها لها من هذه العبادات، من كلمة (لا إله إلا الله) إلى إماطة الأذى من طريق المؤمنين، هذه العبادات كلها مشروعة أساساً لتزكية النفس على شرطين: أن تخلصها لله ولا تلتفت إلى غيره، وأن تفعلها كما بين رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: ( وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[الأنعام:72]، إلى من نحشر ونجمع ونساق؟
والله ما هو إلا إلى الله، هو الذي إليه لا إلى غيره تحشرون، لم تحشرنا الملائكة بعد أن نقوم من قبورنا؟ تحشرنا للحساب والعقاب، للحساب والجزاء، فلو كنا نحشر إلى غير الله فلن نعبده، ولن نكون منه خائفين؛ لأنه لا سلطان له علينا، لكن ما دام أن حشرنا وجمعنا إليه لا إلى غيره، ثم يصدر حكمه علينا إما بالسعادة وإما بالشقاء؛ فحينئذ يجب أن نعبده.
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون...)
ثم قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ )[الأنعام:73]، هل معه آخر؟ هل معه لينين ؟ أو ستالين ؟ أو سحرة اليهود؟ وهل هناك من يرفع يده في العالم ويقول: جدي هو الذي أوجد هذا الكوكب مع الله؟ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ )[الأنعام:73]، لا باللهو واللعب والباطل، لم خلق السماوات والأرض يا أهل العلم؟ من أجل أن يعبد فيهما، خلق السماوات والأرض، وخلق المواد اللازمة من الضوء والحرارة والماء والطعام والشراب، وخلق هذا الآدمي وأهبطه من أجل أن يسمع ذكره، ويرى شكره، فمن ذكر وشكر رفعه إلى الملكوت الأعلى، ومن نسي وكفر وأعرض أهبطه إلى أسفل سافلين في الكون، واقرءوا: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )[الذاريات:56]، سر خلق السماوات والأرض أن يذكر الله ويشكر؛ إذ العبادة ما هي إلا ذكر الله وشكره.
إذاً: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ )[الأنعام:73]، هذا أولاً، ( وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ )[الأنعام:73]، إذا قال للشيء: كن فوالله لا يتخلف لحظة، لا بد أن يكون، هذا ذو العظمة، هذا الجبار، هذا الله رب السماوات والأرض، ( وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ )[الأنعام:73] في ذلك الوقت.
معنى قوله تعالى: (قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور)
(قَوْلُهُ الْحَقُّ )[الأنعام:73]، لا يأمر ولا ينهى إلا بما هو حق، ولا يوجد ولا يعدم إلا بما هو حق.وقوله: ( وَلَهُ الْمُلْكُ )[الأنعام:73]، متى؟ ( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ )[الأنعام:73]، الآن تملكون القصور والمباني والبساتين، لكن إذا نفخ في الصور هل يبقى ملك لأحد؟
النفخة الأولى يكون بعدها الفناء الكامل، والثانية يكون بعدها البعث والوقوف حفاة عراة بين يدي الله، ( قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ )[الأنعام:73]، ما الصور هذا؟ الصور في لسان العرب: هو البوق، وكان في الزمن الأول عبارة عن قرن غزال أو وعل كبير، يحفر أو يفتح، ويتكلمون فيه يرفعون به أصواتهم، ما عندهم آلات تكبر الصوت، وإلى عهد قريب كانوا يجلعونه حديدة يصيحون فيها، أليس كذلك؟ هذا هو الصور.
من ينفخ في الصور؟ إسرافيل، له ثلاث نفخات: النفخة الأولى للفناء، فيتحلل كل شيء ويتبخر، وتعود العوالم كلها إلى سديم، السماوات والأرضون، والنفخة الثانية للقيام من القبور، والثالثة: نفخة الصعق، وهي حين تقف البشرية على سطح الأرض الذي وجدت للوقوف عليها وهم كذلك فينفخ إسرافيل فيصعق من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ النفخة الرابعة فإذا هم قيام ينظرون، ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا )[الفجر:22]، ( وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ )[الزمر:69-71].. ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ )[الزمر:73]، آخر سورة الزمر.
معنى قوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير)
قال تعالى: ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ )[الأنعام:73]، أولياء الله هل يعلمون الغيب والشهادة؟ قد يعلمون ما يرونه ولا يعلمون ما غاب عنهم، يعرفون الجهر بالكلام والسر لا يسمعونه ولا يعلمونه، ولكن الله عز وجل عالم الغيب، وهو ما غاب، وعالم الشهادة وما حضر وشوهد، وهذه الصفة لن تكون إلا لله عز وجل، لا للات ولا للعزى وعبد القادر ولا لأي كائن، لا عيسى ولا أمه ولا هارون ولا موسى، هذا الذي يستحق أن يعبد؛ لأنه يعلم ما شاهدناه وما لم نشاهده، يعلم ما حضر وما غاب، هذا الذي يجب أن يعبد بحبه والخوف منه، والتملق له والتزلف إليه حتى بتعفير الرأس في التراب، هذا هو الله رب العالمين.(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:73]، صفتان عظيمتان أخريان:
(الْحَكِيمُ): الذي يضع كل شيء في موضعه، مستحيل أن يقع شيء في غير موضعه، من كل الكائنات ومن كل الأحكام، ومن كل القضايا والنوازل، هذا الحكيم، هذا الذي يستحق أن يؤله ويعبد، هذا الذي يتقرب إليه ويتزلف. (الْخَبِيرُ) بخفايا الأمور وبواطنها وظواهرها على ما هي عليه وعلى ما تكون وعلى ما كانت قبل أن تكون، هذا هو الله عز وجل، فكيف نعبد غيره إذاً؟
اسمعوا الآيات مرة ثانية: قال تعالى: ( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:71-73].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
08-09-2021, 05:40 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (381)
تفسير سورة المائدة (14)

كان بعض المشركين يعرضون على المؤمنين الصادقين أن يعبدوا معهم آلهتهم اللات والعزى ومناة، وغيرها من الأصنام والأحجار المنصوبة، التي كانوا يعبدونها بدعائها، والذبح لها، والنذر لها، وما إلى ذلك، فأمر الله رسوله وعباده المؤمنين أن يردوا على عرضهم الرخيص هذا، بأن من فعل هذا من المؤمنين فإنه مرتد عن دين الله، ناكص على عقبيه، وخارج من التوحيد إلى الشرك، ومن الهداية إلى الضلالة.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة العظيمة التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح.
وها نحن مع الآيات الثلاث، التي تدارسناها بالأمس، وما وفيناها حقها، ولا وقفنا على أنواع هداياتها، ولهذا نعيد دراستها بعد تلاوتها إن شاء الله ربنا، فرتل يا بني.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:71-73]. سبحانه لا إله إلا هو.
معنى الآيات
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [يدل السياق على أن عرضاً من المشركين كان لبعض المؤمنين]، وقد علمنا بالأمس أنهم أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرضوا عليه أن يعبد معهم آلهتهم سنة ويعبدوا معه إلهه سنة، ولكن الله لم يرض بهذا، ونزلت سورة الكافرون حداً فاصلاً كإعلان رسمي تكرر ليفقه كل من في مكة وخارجها: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )[الكافرون:1-6]، فكانت حداً فاصلاً.وهنا عرضوا هذا على بعض المؤمنين كـبلال وعمار الضعفاء قائلين: لو أنك عدت إلى دين آبائك وأجدادك لتسلم من هذا الذل والهموم والتعب وما إلى ذلك. فأنزل الله تعالى هذه الآيات المباركات.
قال: [يدل السياق ] سياق الآيات التي سمعناها [ على أن عرضاً من المشركين كان لبعض المؤمنين ليعبدوا معهم آلهتهم ، اللات، والعزى، ومناة، وهبل، وما إلى ذلك من الأصنام والأحجار المنصوبة التي يعبدونها بدعائها، والذبح لها، والنذر لها، وما إلى ذلك.
قال: [ فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم عرضهم الرخيص، منكراً عليهم ذلك أشد الإنكار ]، إذ قال تعالى: [( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ )[الأنعام:71]، الاستفهام للإنكار ]، كيف ندعو من دون الله؟ من الذي ندعوه من دون الله؟ [ ( مَا لا يَنفَعُنَا )[الأنعام:71] إن عبدناه ( وَلا يَضُرُّنَا )[الأنعام:71] إن تركنا عبادته ]، فكيف نعبد من لا ينفع ولا يضر، نحن نعبد من ينفعنا ونعبد من يدفع الضر عنا، أما الذي لا يملك نفعاً ولا ضراً فكيف نعبده؟!
قال: [ وبذلك نصبح وقد رددنا على أعقابنا من التوحيد إلى الشرك، ( بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ )[الأنعام:71] إلى الإيمان به، وبمعرفته، ومعرفة دينه، فيكون حالنا -إذاً- كحال من أضلته الشياطين في الصحراء فتاه فيها، فلا يدري أين يذهب ولا أين يجيء].
إذا نحن عدنا إليكم وعبدنا آلهتكم وتركنا عبادة الله بعد أن آمنا به وعرفناه؛ تصبح حالنا كحال من تاه في صحراء، فلا يدري أين يذهب، ولا إلى أين يأتي.
[و( لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا )[الأنعام:71]، وهو لا يقدر على إجابتهم، ولا الإتيان إليهم، وذلك لشدة ما فعل استهواء الشياطين في عقله].
وهل تعرفون لهذا مثلاً؟ كم من إنسان كان يعبد الله مستقيماً في قرية أو مدينة، ثم تستهويه الشياطين فيفسق ويضجر ويتيه في متاهات الضلال، لا يعرف حلالاً ولا حراماً.
[ثم أمره أن يقول أيضاً] أي: أمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم: [( قُلْ إِنَّ الْهُدَى )[الأنعام:71] أي: الحق الذي لا ضلال ولا خسران فيه ( هُدَى اللَّهِ )[الأنعام:71] الذي هدانا إليه، ألا إنه الإسلام.
وقد أمرنا ربنا أن نسلم له قلوبنا ووجوهنا لأنه رب العالمين، فأسلمنا كما أمرنا، كما أمرنا أن نقيم الصلاة فأقمناها، وأن نتقيه فاتقيناه، وأعلمنا أنَّا سنحشر إليه يوم القيامة فصدقناه في ذلك، ثم هدانا فلن نرجع بعدُ إلى الضلالة. هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية، أما الثالثة فقد تضمنت تمجيد الرب بذكر مظاهر قدرته وعلمه وعدله، فقال تعالى: ( وَهُوَ )[الأنعام:73]، أي: الله رب العالمين الذي أمرنا أن نسلم له قلوبنا فأسلمنا ( الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ )[الأنعام:73]، فلم يخلقهما عبثاً وباطلاً، بل خلقهما ليذكر فيهما ويشكر.
(ووَيَوْمَ يَقُولُ )[الأنعام:73] لما أراد إيجاده أو إعدامه أو تبديله: ( كُنْ )[الأنعام:73]، فهو يكون كما أراد في قوله الحق دائماً وأبداً.
(وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ )[الأنعام:73]، نفخة الفناء، فلا يبقى شيء إلا هو الواحد القهار، فيقول جل ذكره: ( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ )[غافر:16]، فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه بنفسه قائلاً: ( للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ )[غافر:16]، ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ )[الأنعام:73] أي: يعلم ما غاب في خزائن الغيب عن كل أحد، ويعلم الشهادة والحضور، لا يخفى عليه أحد، ( وَهُوَ الْحَكِيمُ )[الأنعام:73] في تصرفاته وسائر أفعاله وتدابيره لمخلوقاته، ( الْخَبِيرُ )[الأنعام:73] ببواطن الأمور وظواهرها، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، بهذا كان المعبود الحق الذي لا يجوز أن يعبد سواه بأي عبادة من العبادات التي شرعها سبحانه وتعالى ليعبد بها].

يتبع

ابوالوليد المسلم
08-09-2021, 05:41 AM
هداية الآيات
قال: [من هداية الآيات: أولاً: قبح الردة وسوء عاقبتها]، ما الردة؟ الارتداد هو الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان، ارتد إذا رجع، وهل للردة سوء عاقبة؟ نعم؛ إذا ارتد عن الإسلام هلك، وتمزق وخسر الدنيا والآخرة، ومن أين عرفنا قبح الردة؟ من قوله تعالى عن المؤمنين حين عرضوا عليهم الردة: ( وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ )[الأنعام:71]، كيف يكون هذا؟!
[ثانياً: حرمة إجابة أهل الباطل لما يدعون إليه من الباطل]، من أين أخذنا هذه الهداية؟ أما قال تعالى: ( وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ )[الأنعام:71]؟
حرمة إجابة أهل الباطل، فإذا دعاك اليوم أهل الباطل إلى باطلهم فإنه يجب أن لا تجيبهم، حرام أن تجيبهم، جماعة في مجلس باطل ومنكر يقولون لك: تعال تجلس معنا، فهل تجيبهم؟! لا تجبهم. جماعة افتتحوا مخمرة أو مزناة أو باطلاً ودعوك، فهل تحضر معهم؟! أهل بدعة اجتمعوا عليها يعبدون الله بغير ما شرع لأنهم ضالون، هل تجيبهم فتجلس معهم؟!
فإن قالوا: لم لا تجلس معنا فبم تجيب؟! تجيب بقوله تعالى: ( وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ )[الأنعام:71] فنصبح ( كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى )[الأنعام:71]، كيف ننتقل من الهدى إلى الضلال؟
[ثالثاً: لا هدى إلا هدى الله تعالى، أي لا دين إلا الإسلام]، احلف بالله أنه لا دين حق في الأرض إلا الإسلام، ولا تشك ولا تتردد، أما قال تعالى: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ )[آل عمران:19]؟
وهنا من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ) [الأنعام:71]، لا هدى بعده، أيما شخص يأتي بهدى يريد أن يدعوا الناس إليه فهو هدى باطل، وهدى ضلال، ولا يمكن أن يسعد أصحابه لا في الدنيا ولا في الآخرة، لا هدى إلا هدى الله تعالى، أي: لا دين حق إلا الإسلام.
[رابعاً: وجوب الإسلام لله تعالى]، نسلم لله ماذا؟ أسلم الشيء: أعطاه، نسلم له شيئين: قلوبنا، فلا تتقلب إلا في طلب مرضاته طول الحياة، ونسلم له وجوهنا فلا نقبل على مخلوق سواه في قضاء حوائجنا، وفي طلبنا ما نحتاج إليه.
فمن أسلم قلبه ووجهه لله فقد أسلم وسلم.
أخذنا هذا من قوله تعالى: ( وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:71]، لنسلم له ماذا؟ القلوب والوجوه، لا البيوت ولا البساتين، أمرنا أن نسلم له ماذا؟! هل المال والرجال؟! لا. بل القلوب والوجوه.
[وجوب الإسلام لله تعالى، وإقام الصلاة، واتقاء الله عز وجل]، هذا موجود في الآية: ( وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ )[الأنعام:72]، نتقي من؟ نتقي الله. بماذا نتقيه؟
أولاً: نحن نتقي الله، أي: نتقي غضبه وعذابه، هذا هو المقصود، اتق الله: أي: اتق غضبه حتى لا يغضب عليك فيعذبك، واتق عذابه، فإذا ما أطعته فإنه يعذبك، إذاً: يتقى الله عز وجل في غضبه وعذابه.
وبم نتقيه؟ لا شيء سوى طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتقى بأي شيء، لا بالرجال ولا بالمال ولا بالسلاح ولا بالحصون، ما يتقى الله إلا بأن نطيعه طاعة كاملة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك نجعل بيننا ويبن غضبه وعذابه وقاية وستراً مانعاً.
ولهذا قال: [وجوب الإسلام لله تعالى، وإقامة الصلاة، واتقاء الله تعالى بفعل المأمور وترك المنهي.
خامساً: تقرير المعاد والحساب والجزاء]، هل دلت الآيات على هذا؟ قررت المعاد والحياة الثانية، والحساب بعد ذلك، ثم الجزاء، ماذا قال تعالى؟ ( وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ )[الأنعام:73]، الملك لمن؟ ( لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ )[غافر:16]، يوم ينفخ في الصور وتبعث الخليقة يجيء الحساب بعد ذلك، وبعد الحساب يتم الجزاء إما بالنعيم المقيم وإما بالعذاب الأليم، إما في عالم السعادة وإما في عالم الشقاء، إما في الجنة وإما في النار، هل هناك واسطة؟ لا واسطة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

ابوالوليد المسلم
08-09-2021, 05:43 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (382)
تفسير سورة الأنعام (15)


قص الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم قصة إبراهيم مع أبيه وقومه، وإنكاره عليهم عبادة الأصنام والأحجار التي يضعونها بأيديهم، ومشاهدته لملكوت السماوات والأرض الناطقة بعظمة الله ووحدانيته وتفرده بالخلق، واستحقاقه وحده للإفراد بالعبادة، واستدراجه لقومه بمثل هذه المظاهر من الكواكب والقمر والشمس، ليقف بهم على مظاهر ربوبية الله وعلمه وقدرته وحكمته، علهم يؤمنون به سبحانه فيدركون الفلاح.
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله ربه بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة التي زفت بسبعين ألف ملك لهم زجل وتسبيح، والآن نستمع إلى تلاوة الآيات من مرتلها، ثم نأخذ إن شاء الله في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )[الأنعام:74-79].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ )[الأنعام:74]، يقول تعالى لرسوله ومصطفاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أُذكر لقومك العادلين عن الله، العابدين غير الله من الأصنام -يعني المشركين في مكة- أُذكر لهم الحادثة الآتية ليتعظوا ويعتبروا، ما هي؟
قال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ )[الأنعام:74]، إبراهيم -كما علمتم سابقاً- معناه بالعربية: الأب الرحيم، وبالعبرية: إبراهيم، ووالده يسمى آزر ، وقيل: له اسم ثان ولا بأس؛ فيعقوب اسمه يعقوب وإسرائيل، فـآزر وشالخ كلاهما اسم لوالد إبراهيم.
الرد على منكري أبوة آزر لإبراهيم عليه السلام
والذي ينبغي ألا ننساه - معشر المستمعين والمستمعات - أن هناك ضلالاً من المسلمين يقولون: إن آزر هذا أو شالخ عم إبراهيم وليس بوالده، وكتب التفسير موجود فيها هذا، ومعنى هذا أنهم كذبوا الله عز وجل، أو قالوا: إن الله خاننا، حيث أطلق على عمه اسم الأب والمفروض أن يقول: العم، فهل هذا الموقف يقفه مسلم فيكذب الله؟! الله يقول: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ )[الأنعام:74]، وأنت تقول: لعمه! أسألكم بالله: هل يصح لمؤمن أن يرد على الله فينسب إلى الله أنه أخفى هذا الاسم؟! فلهذا من قال لك: إن آزر عم إبراهيم أو شالخ فقل له: صدق الله وكذبت. وحجتنا أن الله تعالى قال: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ )[الأنعام:74]. وهذه الكذبة العظيمة لها سبب، سببها في نظرهم أن يبرئوا والد الرسول صلى الله عليه وسلم من دخول النار، والد نبينا اسمه عبد الله بن عبد المطلب ، قالوا: لن يدخل النار، فقيل لهم: ها هو والد إبراهيم يدخل النار! قالوا: ليس هذا أباه، بل هذا عمه.
وهذا التزمت وهذا التخبط لأي شيء؟ كل هذا في حب الرسول وآل بيته بزعمهم، تدجيل وكذب، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( أبي وأبوك في النار ).
ونحن أصبحنا -والحمد لله- من ذوي البصائر، عرفنا أنه لا قيمة للنسب أبداً، كل ما في الأمر هل نفسك زكية طاهرة، أم خبيثة منتنة؟ كن ابن من شئت أو أباً لمن شئت، إذا ما زكت النفس ولا طابت ولا طهرت فأنت من أهل العذاب.
لعلمنا بحكم الله في الخليقة: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا )[الشمس:9]، لا من كان أبوه نبياً أو ولياً؟ فهل تصورتم هذه الصورة أم لا؟!
بل ذهبوا إلى أن عم الرسول في الجنة أيضاً، وهذا مذهب الروافض الذين يحومون حول هذه الترهات والأباطيل، نحن علمنا من طريق مصطفانا صلى الله عليه وسلم أن آزر لما يبعث الله الخليقة يقوم إبراهيم ويقول: يا رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون -وهذا في سورة الشعراء: ( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ )[الشعراء:87]- والآن هذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا الخزي، فيقول له الرب تعالى: انظر تحت قدميك، فإذا آزر في صورة ضبع ملطخ بالدماء والقيح، ما إن يراه حتى يقشعر جلده ويقول: سحقاً سحقاً سحقاً! فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في عذاب النار.
فهل بعد هذا تقول: أبوه في الجنة؟! هذا شأن أمة تعرض عن كتاب الله وهدي رسولها، وتتلقى العلم من (قال فلان وقال فلان).
رحمة إبراهيم عليه السلام وتمحيص الله وابتلاؤه له
هل عرفتم أن إبراهيم الأب الرحيم أم لا؟ وتتجلى رحمة إبراهيم في موقف لا تنسوه، هذا الموقف في آخر سورة إبراهيم عليه السلام، عندما قال: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ )[إبراهيم:37-38]، إلى أن قال: ( وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[إبراهيم:36]، معنى هذا: لا تعذبه.ذكر هذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم في ضمن ثلاثة مواقف: له صلى الله عليه وسلم موقف ولعيسى موقف ولإبراهيم موقف، فعيسى قال: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[المائدة:118]، وإبراهيم قال: ( وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[إبراهيم:36]، معناه: اغفر له وارحمه، ورسولنا صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أمتي أمتي.
والشاهد عندنا في تجلي هذه الرحمة، ومن ثم ابتلاه الله بأربعة ابتلاءات لم يبتل بها غيره:
الأول: الهجرة، وكانت أول هجرة في التاريخ البشري، لما حكم عليه بالإعدام وأنجاه الله هاجر مع زوجه وابن عمه إلى أرض الغرب، لا يدري أين يذهب، فأول هجرة كانت هجرة إبراهيم عليه السلام.
ثم ابتلاه بذبح إسماعيل، كيف يبتلى الرجل بذبح ابنه؟! كيف يقوى على ذلك؟
ثم ابتلاه بأن يذهب بجاريته وابنه إلى صحراء قاحلة ليس فيها أحد، ذهب بإسماعيل وهاجر.
ثم أمر بأن يذبح إسماعيل، كما قال تعالى عنه: ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى )[الصافات:102]، وبالفعل طيبته أمه وطهرته، وأخذه إلى منى، وطأطأه على الأرض والمدية في يده، ولما هم بذبحه نودي أن: اترك إسماعيل وخذ هذا الفداء العظيم: ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )[الصافات:107].
إعلان ضلال المنصرف عن عبادة ربه إلى عبادة سواه
قال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ )[الأنعام:74]، قال له منكراًعليه: ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً )[الأنعام:74]، تعبدها؟ هذا الاستفهام للإنكار وعدم الرضى بصنيع والده، كيف تتخذ أصناماً آلهة تعبدها؟ ( إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ )[الأنعام:74] يا آزر ( فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) [الأنعام:74]، فسجل له ولقومه أنهم في ضلال واضح بيِّن.وأي ضلال أعظم من أن يترك الإنسان خالقه لا يعبده ويعبد مصنوعاً صنعه بيده؟! هل هناك ضلال أعظم من هذا؟! ينحت حجراً ويعكف عليه يعبده ويترك عبادة من خلقه وسواه ورزقه وحفظه.
(إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأنعام:74]، بين واضح، هذا الضلال هو البعد عن الهداية الإلهية؛ إذ الإنسان مخلوق ليعبد الله، هذه علة خلقه، هذا سر خلقه: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )[الذاريات:56]، فقط لا لشيء آخر.
ثم إن هذه العبادة هي التي تؤهله للسعادة والكمال، لا أن الله ينتفع بهذه العبادة، وإنما العبادة ينتفع بها العابدون، تزكو أنفسهم وتطيب وتطهر، فيحتلون الفراديس وينزلون الجنة.
كما أن هذه العبادة -وهي أوامر ونواه- تحفظ أعراضهم وأموالهم وأبدانهم، تجنبهم المكاره والمهالك والمعاصي؛ لحكمة الله عز وجل.
الشاهد عندنا أن إبراهيم عليه السلام واجه والده فقال له: ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأنعام:74].
تفسير قوله تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين)
وبعدها قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )[الأنعام:75]، وهكذا نري إبراهيم، من الذي يريه؟ إنه الله. ( نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[الأنعام:75]، الملكوت بمعنى الملك العظيم، كالجبروت، والرغبوت بمعنى الرغبة الواسعة، ،الطاغوت: الطاغية الكبير، والرهبوت، كل هذه بمعنى العظمة، كذلك الملكوت أي: الملك العظيم، ( وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )[الأنعام:75]، نريه ذلك ليصبح من أهل الإيمان، بل من أهل اليقين.وهنا روي أن إبراهيم كشف الله تعالى له الحجاب، فرأى ما تحت العرش إلى الأرض، ورأى ما تحت الأرض إلى أسفلها، ولا غرابة ولا عجب أن يريه الملكوت بدون حجاب، يرى السماوات وما فوقها من الجنة والعرش وهو في مكانه، ثم يرى ما تحت الأرض السفلى، أو الملكوت الأسفل، أخذوا هذا من قوله: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[الأنعام:75]، وإن قلنا: هل صح أم لم يصح؟ نقول: الآية ستأتي.
تفسير قوله تعالى: (فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي...)
قال تعالى في بيان كيف أراه الله ملكوت السموات والأرض ليكون من الموقنين، قال تعالى: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ )[الأنعام:76]، أي: أظلم، جن الليل: دخل الظلام وذهب الضوء، ( رَأَى كَوْكَبًا )[الأنعام:76] لاح وطلع، قد يكون الزهرة، رآه يلوح في الأفق، وهو هنا يتدرج مع قومه وأهله وأبيه وعشيرته ليعرفوا الحق من طريق التعليم والهداية والتبصير. ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي )[الأنعام:76]، لك أن تقول: حرف الاستفهام محذوف، والتقدير: (أهذا ربي؟)، وهو كذلك، يجوز حذف الاستفهام في كثير من المواطن، لا سيما هنا: (أهذا ربي؟)، حيث رفع رءوسهم إلى الزهرة الكوكب العظيم هذا قائلاً: أهذا أحق بالربوبية والألوهية؟ أهذا ربي؟
قال تعالى: ( فَلَمَّا أَفَلَ )[الأنعام:76]، أفل النجم: ذهب ضوءه، ( قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ )[الأنعام:76].
ولا ننسى أن الكلدانيين قوم إبراهيم -وهم في ديار بابل والعراق- كانوا صابئة يعبدون الكواكب، ثم صنعوا لتلك الكواكب أصناماً وتماثيل، فيتمسحون بها ويتقربون وهم يعبدون في الواقع الكواكب، ولهذا فهم ليسوا ملاحدة لا يؤمنون بالله، بل يؤمنون بالله، ويتوسلون إليه بهذه الكواكب والأصنام.
وهذه الحقيقة قررناها مئات المرات، فكلمة (لا إله والحياة مادة) هذه كذبة يهودية، نسج اليهود خيوطها، وقدموها لروسيا، ونهض بها لينين وستالين وأتباعهم، ونفوا وجود الله، قبل هذه لم تكن البشرية تنكر وجود الله أبداً، وإنما كانوا يعرفونه ويتوسلون إليه بهذه الأصنام والكواكب وما إلى ذلك.
إذاً: فلنستمع: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي )[الأنعام:76]، لا يعني أنه ربه، ولكن على حذف الاستفهام: (أهذا ربي)؟
(فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ )[الأنعام:76]، ما دام أنه ذهب وتركني فكيف أعبده؟ لن يكون ربي هذا.

يتبع

ابوالوليد المسلم
08-09-2021, 05:43 AM
تفسير قوله تعالى: (فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي ...)
قال تعالى: ( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا )[الأنعام:77] طلع القمر، لاح وصعد، ( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي )[الأنعام:77]، لأن الكوكب اضمحل وتلاشى وذهب وظهر القمر ةلاح وبزغ، ( قَالَ هَذَا رَبِّي )[الأنعام:77]، أي: (أهذا ربي)؟ ( فَلَمَّا أَفَلَ )[الأنعام:77]القمر أيضاً، ذهب وزال ( قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ )[الأنعام:77]. إن الذين يسمعون كلامه معهم يتعجبون، كأنه طالب الهداية يبحث، وهو واجب كل إنسان أن يبحث عن ربه عسى أن يعرفه، وهذا أسلوب حكيم.
فلما أفل القمر قال: ( لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي )[الأنعام:77] إليه ( لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ )[الأنعام:77]، بدليل أن القمر أفل وغاب وغرب.
تفسير قوله تعالى: (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر ...)
قال تعالى: ( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً )[الأنعام:78] والشمس بزوغها عظيم، ( قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ )[الأنعام:78]، أي: من القمر ومن الكوكب، يستدرجهم حتى يقفوا على الحقيقية، ( فَلَمَّا أَفَلَتْ )[الأنعام:78] غابت، غربت الشمس وغابت، ( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:78]، والبراءة: البعد الكامل، ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )[الأنعام:79]. لقد قال: ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:78] من هذه الآلهة، سواء كانت الكواكب في السماء، سواء كان القمر أو الشمس، وفي اليمن كانت تعبد الشعرى، وجاء في القرآن: ( رَبُّ الشِّعْرَى )[النجم:49]، كوكب معروف؛ لأن الإنسان إذا فقد البيان والهادي الذي يهديه يتخبط، والشياطين تزين له، منهم من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من يعبد الكوكب الفلاني، وعبدوا ما دون ذلك من المخلوقات، أما صنع التماثيل فلتمثل فقط ما يعبدونه في السماء، ولهذا يسمى تمثالاً، لا أنه الإله المعبود.
تفسير قوله تعالى: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين)
قال تعالى: ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ )[الأنعام:79] أي: قلبي ووجهي، ( لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ )[الأنعام:79]، خالق السموات والأرض، هذا الذي أعطيه قلبي ووجهي، هذا الذي أعبده وأرغب فيما عنده، وأرهب مما عنده، هذا ربي لا رب لي سواه؛ لأنه خالق السموات والأرض، ( حَنِيفًا )[الأنعام:79] أي: مائلاً عن كل هذه الأصنام والتماثيل والعبادات الباطلة إلى عبادة الله وحده، ( حَنِيفًا )[الأنعام:79] مائلاً، من الحنف وهو الميل، أي: مائلاً عن كل هذه الآلهة الباطلة إلى ربه عز جل.( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )[الأنعام:79] تبرأ براءة كاملة، لا صلة لي بالمشركين، لا أعرفهم، ولا أمشي وراءهم، ولا أحبهم، ولا أتعامل معهم؛ لأنهم أشركوا هذه الأصنام في عبادة ربهم فعبدوها معه.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات قال الشارح غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ما زال السياق ] سياق الآيات [ في بيان الهدى للعادلين بربهم أصناماً يعبدونها لعلهم يهتدون]، ما زال سياق الآيات التي يتبع بعضها بعضاً في بيان الهدى والطريق المستقيم للعادلين بربهم، عدلوا بربهم أصناماً وآلهة، سووها مثل الله وعبدوها. [ فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ )[الأنعام:74] أي: واذكر لهم يا نبينا قول إبراهيم لأبيه آزر : ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً )[الأنعام:74]، أي: أتجعل تماثيل من حجارة آلهة أرباباً تعبدها أنت وقومك، ( إِنِّي أَرَاكَ )[الأنعام:74] يا أبت ( وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأنعام:74] عن طريق الحق الذي ينجو ويفلح سالكه، هذا ما دلت عليه الآية الأولى.
أما الثانية فإن الله تعالى يقول: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[الأنعام:75]، أي: كما أريناه الحق في بطلان عبادة أبيه للأصنام نريه أيضاً مظاهر قدرتنا وعلمنا وحكمنا الموجبة لألوهيتنا في ملك السموات والأرض]؛ لأن الله عليم حكيم، وحكمته لا يخلو منها شيء، ما من ذرة إلا وخلقها وإيجادها لحكمة، إذاً: نريه أيضاً مظاهر قدرتنا وعلمنا وحكمتنا الموجبة لألوهيتنا في ملك السموات والأرض، أي: نريه الآيات في ملك السموات والأرض [ليكون بذلك من جملة الموقنين، واليقين من أعلى مراتب الإيمان]، فالإيمان إيمان، واليقين يقين، واليقين أعلى من الإيمان، ( لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ )[التكاثر:7]، مؤمن وموقن، وأما المؤمن غير الموقن فهو مريض قد يهلك في الطريق.
قال:[هذا ما دلت عليه الآية الثانية، وفي الثالثة فصّل الله تعالى ما أجمله في قوله: ( نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[الأنعام:75]]، الآن يفصل هذا الملكوت، كيف أن آيات الله تعالى تدل على وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته، [فقال تعالى: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ )[الأنعام:76]، أي: أظلم، ( رَأَى كَوْكَبًا )[الأنعام:76]، قد يكون الزهرة، ( قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ )[الأنعام:76]، أي: غاب الكوكب، ( قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ )[الأنعام:76]، ( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا )[الأنعام:77]، أي: طالعاً، ( قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ )[الأنعام:76]، أي: غاب، ( قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ )[الأنعام:77]، أي: في معرفة ربهم الحق. ( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً )[الأنعام:78]، أي: طالعة، ( قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ )[الأنعام:78]، يعني: من الكوكب والقمر، ( فَلَمَّا أَفَلَتْ )[الأنعام:78]، أي: غابت بدخول الليل، ( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:78].
هكذا واجه إبراهيم قومه عبدة الكواكب التي تمثلها أصنام منحوتة، واجههم بالحقيقة التي أراد أن يصل إليها معهم، وهي إبطال عبادة غير الله تعالى فقال: ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا )[الأنعام:79]، لا كما توجهون أنتم وجوهكم لأصنام نحتموها بأيديكم، وعبدتموها بأهوائكم لا بأمر ربكم، وأعلن براءته في وضوح وصراحة، فقال: ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )[الأنعام:79]].
هذا الموقف وقفه إبراهيم ليستدرج قومه، ليقف بهم على مظاهر ربوبية الله وعلمه وقدرته وحكمته، ليؤمنوا بالله ويعبدوه وحده.
هداية الآيات لهذه الآيات هداية، فدعونا ننظر كيف استنبطناها:قال: [ من هداية الآيات:
أولاً: إنكار الشرك على أهله] هل يجب أم لا؟ إذا رأيت من يقول: يا رسول الله! مدد. يا إبراهيم! يا زكريا! يا فاطمة! هل تسكت أم تنكر؟ يجب أن تنكر، أما أنكر إبراهيم؟ أما قال لوالده: ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً )[الأنعام:74] بأبشع الإنكار، إنكار الشرك على أهله؟
إذا وجدت من يقول: والنبي، والكعبة، ورأس فلان، فهل تسكت؟ ألست على منهج إبراهيم؟ كلنا على منهج محمد صلى الله عليه وسلم، أما قال له رجل: ( ما شاء الله وشئت يا رسول الله، فقال: قل: ما شاء الله وحده )؟
إذاً: هذه الآية فيها هدايات، منها: [إنكار الشرك على أهله، وعدم إقرارهم ولو كانوا أقرب إلى المرء]، فإبراهيم هل أنكر على والده أم لا؟ لا تقل: هذا أبي فأنا لا أزعجه، أو هذه أمي لا نغضبها، إذا رأيت من يشرك بربك غيره يجب أن تنكر عليه، وتصبر لذلك، لكن ليس بالهراوة والسب والشتم، فهل إبراهيم رفع العصا على والده؟ هل قال: يا مجنون يا أحمق يا كذا؟ ما قال ذلك أبداً، ولكن بالمنطق السليم: ( إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأنعام:74].
[ثانياً: فضل الله تعالى وتفضله على من يشاء بالهداية الموصلة إلى أعلى درجاتها]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )[الأنعام:75]، فمن وصل به إلى هذه المستوى؟ إنه الله عز وجل، فإذا أراد الله لك ذلك أخذ بيدك، وإذا بك تتنقل في الكون وتشاهد آيات الله، وتصبح أكثر الناس إيماناً وأكثرهم يقيناً.
[ثالثاً: مطلب اليقين وأنه من أشرف المطالب وأعزها]، فاليقين أعظم من الإيمان، لن يكون يقين إلا بعد أن يوجد إيمان، فإذا قوي الإيمان انتقل إلى اليقين، تصبح كأنك ترى الله عز وجل، [مطلب اليقين وأنه من أشرف المطالب وأعزها، ويتم بالتفكر والنظر في الآيات].
فلهذا قال العلماء: عندنا كتابان: أولهما: كتاب الله، فإذا قرأت وتدبرت منه الآيات لا تلبث حتى تصبح موقناً أعظم يقين؛ لأنه كلام الله تعالى، وكلامه حكم وعلوم ومعارف، وهكذا تتدرج في الآيات آية بعد آية وإيمانك يرتفع، حتى تصل إلى اليقين، فتقول: بالله الذي لا إله غيره إن هذا لكلام الله، وإنه لا إله إلا الله، وهكذا تبلغ درجة اليقين.
ثانياً: كتاب الكون، تخرج فقط من بيتك فتنظر إلى السماء: من رفعها؟ هذه الكواكب من نثرها فيها، من أضاءها، هذا الكوكب النهاري الشمس من سخره؟ هذا الكوكب الليلي من أوجده؟ وتنظر إلى الأرض: هذه الجبال من أرساها؟ من جمع غبراتها وذراتها؟ وتنظر إلى نفسك أنت: ما أنت؟ كيف تسمع؟ كيف تبصر؟ وحينها تقول: يا إلهي آمنت بالله، فيصبح إيمانك يقيناً.
قال: [ثالثاً: مطلب اليقين]، ينبغي أن نطلب اليقين ليل نهار، [وأنه من أشرف المطالب وأعزها]، ليس كطلب المال والدنيا، [ويتم] ويحصل عليه العبد [بالتفكر والنظر في الآيات].
ومن الآيات العجيبة أني كل يوم مندهش حين نخرج من المسجد فنجد هذا الخليط من الناس، شرقي وغربي وعربي وعجمي، وألوان، ما تجد اثنين بلون واحد، قف الآن في الحلقة وانظر فلن تجد اثنين شكلهما واحد لا يميز بينهما؟ بل البشرية كلها في صعيد واحد لن تجد فيها اثنين لا يفرق بينهما، أي علم أعظم من هذا؟ أية قدرة أجل من هذ؟ أية حكمة أعظم من هذه الحكمة؟ كيف يعبد مع الله غيره، قولوا: آمنا بالله، لكن العميان ما ينظرون حتى إلى أنفسهم، يأكل ويشرب ولا يسأل.
قال: [رابعاً: الاستدلال بالحدوث على وجود الصانع الحكيم وهو الله عز وجل]، من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا )[الأنعام:76] ( رَأَى الْقَمَرَ )[الأنعام:77] ( رَأَى الشَّمْسَ )[الأنعام:78]، استدل بالحدوث على وجود المحدث، واستدل بالوجود على وجود الذي أوجد، ألا وهو الصانع الحكيم الله عز وجل.
[خامساً: سنة التدرج في التربية والتعليم]، وهذه السنة فرطنا فيها، لا بد من التدرج درجة درجة حتى تصل إلى القمة، ليس في يوم واحد تعلم العلوم كلها.
[سادساً: وجوب البراءة من الشرك وأهله]، من أين أخذنا هذه؟ من قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:78]، تبرأ منهم أم لا؟ وهذا يجب علينا، ولو كان المشركون آباءنا وأمهاتنا، فكيف نقر الكفار والمشركين على الشرك ونرضى به ونسكت؟
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم
08-09-2021, 05:45 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (383)
تفسير سورة الأنعام (16)


لما أقام إبراهيم عليه السلام الدليل على بطلان ما يفعله قومه من عبادة غير الله، وتبرأ منهم ومن شركهم، قام قومه يحاجونه في ذلك، فأخبرهم أنه بعد أن هداه الله لن يضره ما يطرحون أمامه من الشبهات، ولا ما يخوفونه به من غضب آلهتهم وتسلطها عليه؛ لأنها أصنام جامدة، وهي أعجز وأحقر من أن تملك لنفسها ضراً أو نفعاً، فضلاً عن أن تملكه لأحد من الناس، وبين لهم أهل الحق والإيمان أولى بالأمن والاطمئنان من أهل الزيغ والبهتان.
تفسير قوله تعالى: (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله ربه بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، والآيات التي سنتدارسها -إن شاء الله- نسمع تلاوتها مرتلة مجودة من أحد الأبناء فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )[الأنعام:80-83].
معاشر المستمعين والمستمعات، من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ )[الأنعام:80]، من هو هذا الذي يخبر تعالى أن قومه حاجوه؟ إنه إبراهيم، الأب الرحيم، تذكرون بالأمس كيف كان يستدرجهم إلى التوحيد، ينتقل بهم من حالة إلى أخرى، حتى يستقر الأمر أنه لا إله إلا الله، وذلك مما علمه الله: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ )[الأنعام:83].
يقول تعالى: ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ )[الأنعام:80]، حاجوه: بمعنى: جادلوه وخاصموه بالحجج، من أجل أن يحقوا الباطل ويبطلوا الحق، وهم في ذلك مخطئون وهالكون، قال: ( أَتُحَاجُّونِي )[الأنعام:80]، وفي قراءة: (أتحاجوني)، ويصح إدغام النون في النون، وهي قراءة سبعية، ( أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ )[الأنعام:80] أي: أتجادلونني وتخاصمونني بالحجج الواهية الباطلة في ربي، كيف يمكن هذا؟ ( وَقَدْ هَدَانِ )[الأنعام:80]، وعرفت الطريق إليه، وعرفت ما عنده وما لديه، وعرفته بأسمائه وصفاته، وعرفت أنه لا إله إلا هو ولا رب سواه، فما ذا تريدون مني؟ لو جادلتموني في شيء غير هذا فإنه ممكن، أما أن تجادلوني في ربي وقد هدان فهذا الجدال باطل، ولا خير فيه، وأنتم مبطلون ولا خير فيكم.
معنى قوله تعالى: (ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً)
ثم قال: ( وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ )[الأنعام:80]، لا شك أنهم خوفوه، وقالوا: إن لم تقبل ما ندعوك إليه، أو إن لم تعرض عن النقد والطعن فآلهتنا سوف تصيبك بالخبال، وتصبح مجنوناً بين الناس، فقال لهم: ( وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ )[الأنعام:80]، أي: بالله ربي الذي هداني وعرفته، وهداني إلى صراطه المستقيم، اللهم ( إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا )[الأنعام:80]، هذه لطيفة من لطائف الكلام، لما قال: ( وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ )[الأنعام:80] وكان من الممكن أن يعثر في حجر ويسيل دمه، فيقولوا: انظروا فالآلهة غضبت، ومن الممكن أن يصاب بمرض عارض فيقولوا: انظر إلى الآلهة ماذا فعلت به. فمن هنا قال: ( إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا )[الأنعام:80]، إذا شاء ربي أن أصاب بمرض أو بأذى فله ذلك، أما كون آلهتكم تضرني وتؤذيني فهذا لن يكون؛ لأنها أحجار وتماثيل تمثل كواكب في السماء، وليست بآلهة، فهي لا تنفع ولا تضر، ولا أخافها، لكن إذا شاء الله ربي فقد ( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا )[الأنعام:80].ومن اللطائف من هذه المواقف -لأن البشرية هي هي- أنه مرض أحد الإخوان في المدينة بعد أن جاء من الديار المغربية، فقال أحدهم -وهو طالب علم-: ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يقول بالمولد ولا بغيره!
فلما خوفوه بآلهتهم قال لهم: كيف أخاف ما أشركتم به -وهو آلهتكم- وأنتم لا تخافون من الله الذي أشركتم به، اللهم إلا أن يشاء ربي شيئاً فإنه يقع، ( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا )[الأنعام:80].
معنى قوله تعالى: (أفلا تتذكرون)
ثم قال لهم: ( أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ )[الأنعام:80]، لو تذكرتم لذكرتم، لو تأملتم في آلهتكم: هل خلقت! رزقت! أماتت! أحيت! أنتم الذين صنعتموها، ونصبتموها هنا وهناك، وقدستموها وطهرتموها، وقلتم ما قلتم، كيف تكون هذه آلهة؟ والذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق كل المخلوقات من الشمس والقمر والكواكب وكل البشر، هذا لا تعبدونه، ولا تعرفونه، فلو تذكرتم لذكرتم.لكنهم لا يريدون أن يتفكروا حتى يهتدوا ويعرفوا، فلامهم وقبح مسلكهم بهذا الاستفهام: ( أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ )[الأنعام:80].
تفسير قوله تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً...)
ثم قال لهم: ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا )[الأنعام:81]، أي الموقفين أسلم: موقفي أو موقفكم؟ ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ )[الأنعام:81] من هذه الأصنام والتماثيل، ( وَلا تَخَافُونَ )[الأنعام:81] أنتم ( أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ )[الأنعام:81] جل جلاله وعظم سلطانه ما لم ينزل به عليكم حجة ولا برهاناً ولا أدنى خبر عن الله عز وجل يأذن لكم بعبادة هذه الأصنام؟لو أن الله أنزل عليكم كلامه وأوحى إلى أحدكم وقال: اعبدوا هذه؛ لكان لكم حجة، أما أنا فقد خلقني لعبادته، وأوحى إلي ونبأني وأرسلني إليكم رسولاً، وأنا أعرفه أنه ربي لا رب لي غيره، وإلهي لا إله سواه، فكيف -إذاً- لا أعبده؟ وتريدون مني أن أترك عبادته وأعبد هذه الأحجار والتماثيل!
يقول: ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )[الأنعام:81]، إذا كان لكم علم ومعرفة وبصيرة فهل أنا أو أنتم أحق بالأمن والسلامة والنجاة من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة؟ هل الذي يعبد الله وحده، أم الذي يعبد أصناماً وأحجاراً وتماثيل؟
والجواب معلوم بالضرورة: الذي يعبد الله وحده أحق وأجدر بأن يؤمنه الله ويحفظه، وأما الذي يعبد غير الله فكيف ينجيه ذاك المعبود من أي مكروه وهو صنم وحجر، أو كوكب معلق في السماء؟! ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )[الأنعام:81]، لو كانوا يعلمون لقالوا: أنت، إذاً: آمنوا معنا، لماذا أنتم منحازون هناك، لكنهم لا يعلمون، الشياطين أفسدت قلوبهم، وزينت لهم الباطل فعموا وصموا. ‏

يتبع