|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() المسلم بين النضوج والإهمال د. عبدالرزاق السيد الحمد لله الذي شرَّفنا بالنضوج أكملَ التشريف، وأعزنا بالدين الحنيف، وحمَّلنا أمانة التكليف، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، آمنا بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى الملك الحق الرؤوف، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبدُه ورسوله، ما تبعه إلا الفطِن الثقيف، والناضج الحصيف، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد: أهمية الحديث عن النضوج عند المسلم: أيها المسلمون: النضوج هو مفهوم يتجاوز حدود الوجود الفردي، إنه يتردد صداه في كل جانب من جوانب الحياة كلها، والنضج ثمنه التجارب ووقوده الأيام، ولا يُمنح بل يُكتسب، فهو ذلك المزيج العجيب بين الانكسارات والانتصارات، بين الخيبات التي علمتك، والأفراح التي طمأنتك، بين الأشخاص الذين مروا وتركوا أثرًا، وبين الذين غادروا وتركوا درسًا، النضج ليس سهلًا، فهو يتطلب منك أن تواجه الحياة بوعيٍ، وأن تحتمل الألم دون أن يُفقدك إنسانيتك، وأن تظل مرنًا رغم قسوة الظروف، إنه فن التوازن بين القلب والعقل، بين أن تشعر بكل شيء، لكن لا تنجرف مع أي شيء، أن تدرك متى تصمت ومتى تتكلم، ومتى تمضي دون أن تلتفت، النضج رحلة مستمرة، وليس محطة تصل إليها. وفي خضم هذه التحديات والاختلافات يجدر بالمسلم أن تكون لديه رؤية ناضجة في مواجهة هذه التحديات؛ فإن فيها الحقَّ والباطل، والصواب والخطأ، ومن المهم أن يكون لدينا طرق واضحة للتعامل مع هذه التحديات والاختلافات، فمواجهتنا لهذه التحديات تتطلب منا قوة عقدية، وركائز ثابتة لا إهمال فيها ولا تقصير، تحملنا إلى بَر الأمان، وشاطئ النجاة. القرآن والسنة تحدثاننا عن نضوج المسلم: أيها المسلمون: إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لَتتحدثان عن النضج في حياة المسلم الحق؛ فقد أثنى الله تعالى على المهديين الناضجين العقلاء المبشرين من عباده؛ فقال: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 17، 18]، وبيَّن القرآن أن ثواب العبد في الدنيا والآخرة على عمله، ونضجه في سيره إلى الله تعالى؛ قال الله تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105]، ولقد مدح الله الجن بالنضوج حينما سمعوا القرآن؛ فأقرت قائلة حينما قالوا: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ﴾ [الجن: 1، 2]، وأعلنوا لقومهم كما حكى القرآن الكريم: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأحقاف: 29 - 32]، وحذَّر القرآن من إهمال العلاقات والتنازع؛ فقال سبحانه: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]، وحذرنا القرآن من إهمال المحاسبة لأنفسنا؛ فقال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18]، وفي السنة النبوية يحذر النبي من الإهمال؛ فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلُّ الناس يغدو، فبائعٌ نفسه، فمعتقُها أو مُوبقُها))؛ [مسلم]. المسلم الناضج وتأثيره: أيها المسلمون: إن المسلم إذا بلغ درجة من النضج والرسوخ، فلا يُخشى عليه من أي تأثير يفسده، أو فكرة تقعده، أو عمل يحبطه، لأن من علامات نضج الشخصية وتوازنها أن يكون الشعور بالمسؤولية عاليًا، والشعور ثمرة تصور الإنسان عن دوره في الحياة، والتعامل مع سنن الله في النفس والمجتمع، والتوازن بين المطالبة بالحقوق والقيام بالواجبات. والمسلم الناضج الموفَّق هو ذلكم الشخص الذي آمن بربه جل وعلا، وصدَّق برسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل الإسلام قائده ودليله إلى فعل الحسن واجتناب القبيح، وجعل من هذا الشعور المتكامل معيارًا يميز به الخبيث من الطيب، لديه من الحكمة والأناة والتأمل ما يتقي بها السوء قبل وقوعه، أو أن يرفعه بعد وقوعه، فهو في كلتا الحالين لا يقبل تمام هذا الوقوع. والنضوج في حياة المسلم سلاحٌ منيع، يحميك - بعد الله سبحانه - من أن تقع ضحية غشٍّ أو خداع أو غفلة، أو أن تُجَرَّ إلى مغبة لا تحمدها لنفسك؛ بسبب غفلتك أو عدم نضوجك، أو أن تتعثر في الأمر الواحد أكثر من مرة؛ بسبب غياب النضوج عند شخصك، والمسلم الناضج في فكره وتصرفه محميٌّ بإذن الله عن مثل تلك العثرات؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين))؛ [رواه البخاري]. ولقد بلغ المسلمون في سابق عهدهم مبلغًا عظيمًا من النضوج في أفكارهم ومعتقداتهم، وسياستهم وحياتهم الاجتماعية، ولا يستطيع أحد إنكاره، فحدثت نهضة وتقدم وازدهار لم يشهده العالم من قبل، وذلك في كل مجالات الحياة؛ ففي الحياة الدينية نراهم قد تحولوا عن عبادة الأصنام، وأصبحوا يؤمنون أن الله وحده هو رب السماوات العلا، وأنه ليس معه آلهة أخرى؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 163]، وقال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18]، وبعد أن كان مباحًا لهم كل شيء، أصبح هناك شرع وقوانينُ يسيرون عليها، وتشريعات يأخذون بأحكامها؛ وحققوا قول الله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163]، وأما الحياة الاجتماعية فأصبحت في غاية الدقة والسعادة، وفهم الإسلام ومقاصده، وشعور كل واحد من المسلمين بواجبه، سواء كان رجلًا أو امرأة، وأن المرأة شريكة الرجل في أصول الواجبات، وجزاء الأعمال: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وقال الله تعالى: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ [آل عمران: 195]، وبالناحية الأخلاقية فالمسلم الناضج في فكره يؤثر غيره عليه؛ كما قال الله عنهم: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]. والمسلم الناضج في هذه البلاد - أعني (أمريكا) - الذي يتمتع بحقوق المواطنة، عليه أن يتفاعل مع أحداث بلده الجديد، ويسعى جاهدًا في المطالبة بحقوقه، ولا تأتي هذه الحقوق إلا بالمشاركة الواسعة في الانتخابات التمهيدية أولًا، ثم في الانتخابات الرسمية، التي ستُقام بعد أيام؛ لِما تعود به مشاركة المسلم في الانتخابات من المصالح الراجحة؛ من الدفاع عن قضايا المسلمين في هذه البلاد، وتحصيل مكتسبات الأقليات الدينية والدنيوية، وتعزيز دورهم في مواقع التأثير، والتعاون مع أهل الاعتدال والإنصاف لتحقيق التعاون القائم على الحق والعدل، ودرء المفاسد والأضرار عن المسلمين وتعزيز وجودهم، وإيصال مطالبهم إلى أصحاب القرار، والحفاظ على مصالحهم الدينية والدنيوية، كل بقدر استطاعته؛ مرشحًا كان أو ناخبًا. الإهمال سبب التأخير: أيها المسلمون: إن من الأمراض الاجتماعية التي أصابت حياتنا مرضَ الإهمال والتسيُّب واللامبالاة، وهو يعني التقصير في الأعمال، والتهاون في أدائها وعدم إتقانها، والله عز وجل قد حذرنا من الإهمال؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ﴾ [النساء: 71]، وقال عز وجل: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: 102]، إن الإهمال يدمر حياة الشعوب والمجتمعات والأفراد، وهو عدو التقدم والتطور والبناء، كم من كارثة، وكم من جريمة كان سببها الإهمال! به تتعطل المصالح، وتُهدر الأموال، ويقل الإنتاج، ويضعف الاقتصاد، وتتعرض النفوس للأخطار. الإهمال سلوك سلبيٌّ، لا يسلم منه مجتمع ولا يكاد، فمن مقِلٍّ منهم ومن مكثر، ومن المحال عادةً أن تنشد الأمة تمامًا لا إهمال معه، كما أنه من الغبن والدنيَّة أن تقع الأمة في إهمال لا جدَّ معه، وإنما في التسديد والمقاربة، بحيث لا يتجاوز المرء الطبيعة البشرية المطبوعة بالنقص، ولا ينساق أيضًا مع الخمول فلا يُعرف عنه الجد والوعي، فإن الإنسان من طبعه الظلم والجهل؛ ﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، وفي الإهمال يتحقق الوصفان: ظلمه لنفسه بتمكن صفة الإهمال منه، والتراخي معها، وكذلك وصف الجهل، وهو الجهل بعواقب الإهمال بالكلية، أو الجهل بحجمها، وكلاهما سالب مذموم. لقد اجتمع في ذم الإهمال النصوصُ الشرعية، والأدلة العقلية، وأقوال الحكماء والشعراء، ولم يُمدح قط إلا في قواميس الكسالى، ومعاجم القعَدة الخوالف، فمنهم من أهمل دينه وجدَّ في دنياه، ومنهم من أهمل دنياه وجدَّ في دينه، ومنهم من أهمل الأمرين معًا؛ فخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. قال ابن القيم رحمه الله: "أضر ما على المكلف: الإهمال، وترك محاسبة النفس، والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها، فهذا يؤول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور"؛ ا.هـ كلامه رحمه الله. إنه ما من مصيبة أو فشل يحِلان بالأمة أو بأحد من أفرادها، إلا والإهمال ضارب بأوتاده فيهما، إما إهمال غفلة أو إهمال قصد؛ إذ لا تحيط بهم مثل هذه النوائب إلا بإهمالهم، في إيجاد أسبابِ دفعها قبل وقوعها، أو على أقل تقدير في إيجاد أسباب رفعها بعد الوقوع. ترجو نوال الأمر دون عزيمة ![]() ولديك أطياف من الآمالِ ![]() أقصِر ففيك من الخمول كفاية ![]() ما ضر شيء فيك كالإهمالِ ![]() والله تعالى يحث الأمة على السعي والاجتهاد، وعدم الكسل والإهمال، فبعد العبادة وأدائها السعيُ والكسب والانتشار في الأرض؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 9، 10]. كيف يكون المسلم ناضجًا؟ أيها المسلمون: إن المسلم الناضج الحق ليس ذَنَبًا أو إمَّعة، يسير وراء الناس حيث ساروا، ويأخذ منهم ما خبث وما طاب، ولكنه يتطلع ويتُوق ويرنو دائمًا إلى الأحسن من كل شيء، وقد أثنى الله تعالى على المهديين العقلاء المبشرين من عباده؛ فقال: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 17، 18]. والمسلم الناضج تعرفه في منهج تعامله، تعرفه في أخلاقه، تعرفه في سلوكه، تعرفه في مبادئه، تعرفه في قِيَمِهِ، تعرفه في أفعاله، في أقواله، في أحواله مع إخوانه المسلمين؛ ففي حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده))؛ [البخاري ومسلم]. والنضوج عند المسلم ليس إعمالًا لسوء الظن، ولا تكلفًا لما وراء الحقيقة، وليس هو رجمًا بالغيب، ولكنه كياسة وفطنة ناشئتان عن سَبر الأمور، ومعرفة أحوال الناس، واطلاع وافر على الأحداث، بالنظر الدقيق الذي لا يغالطه بهرجة ولا إغراء، وهو في حقيقته سلاح قد تحتاجه للهجوم، وقد تحتاجه للدفاع. وأكثر ما يوقِع المرء فريسةً للمكر والخداع قلةُ نضوجه أو عدمه بالكلية، ورحم الله الفاروق رضي الله عنه؛ حيث قال: "لست بخِبٍّ والخِبُّ لا يخدعني"، والخِب في اللغة هو المراوغ أو الماكر المخادع. إن الأمة بمجموعها لا تكون ناضجة إلا بنضوج أفرادها؛ فهم فكرها النابض، وبصيرتها الراقية بها إلى معالي الأمور؛ فإن الأمة إذا نضجت فقد أدركت ما لها وما عليها بين الأمم الأخرى، فتستثمر مكتسباتها الدينية والسياسية والاقتصادية لتثبيت هُويتها والاعتزاز بها، والاستعداد الدائم لسد الثغرات داخلها وخارجها؛ لئلا تؤتى من قِبلها. فبقدر نضوجنا يمكننا إجادة التعامل مع الأحداث والأزمات بعين المدرك؛ لتحديد الأولويات، وحسن التعامل معها بإدراك حقائقها، متجاوزة المؤثرات النفسية والاجتماعية والسياسية، منطلقةً من مبدأ الإنصاف والعدل، وإنزال الأمور منازلها؛ كيلا تمتهن ولا تُزدرى من قِبل خصومها وأعدائها؛ فتسقط من علوٍّ. فالأمة بقدر نضوج أفرادها لا تُخدع ولا ينبغي لها أن تُخدع، ما دامت قائمةً بأهم مقومات وعيها؛ وهي: دينها، وعدلها، وأخلاقها، وعلمها، فما جعل الله أمة الإسلام وسطًا بين الأمم إلا بمثل ذلكم: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |