سلسلة آفات على الطريق - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         كتاب الصيام والحج من الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 19 - عددالزوار : 22 )           »          واتساب يستخدم وضع الإضاءة المنخفضة لمكالمات الفيديو.. كيف يعمل؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          هل يعانى هاتف أيفون 16 من مشكلات فى عمر البطارية؟ إليكم ما نعرفه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          استكشف مزايا أنظمة شبكة Wi-Fi مقارنة بأجهزة التوجيه التقليدية فى منزلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          كوالكوم تلغي إنتاج نظام Windows المصغر على أجهزة الكمبيوتر بهذا المعالج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          تطبيق ChatGPT متوفر الآن لنظام Windows.. اعرف التفاصيل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          ما تخافش لو اتسرق منك.. 3 مزايا جديدة من جوجل تساعدك على استعادة هاتفك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          Android 15 متاح الآن لهواتف Pixel.. كيفية التحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          علامات إدمان الأطفال للهواتف الذكية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          هل سقط الماء على اللاب توب؟ إليك كيفية إصلاحه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25-09-2025, 06:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي سلسلة آفات على الطريق

سلسلة آفات على الطريق (1):

حسان أحمد العماري
الفتور في الطاعة!




الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أمر بطاعته، ووعد عليها جنات النعيم، ونهى عن معصيته، وأوعد بالعذاب الأليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أوصيكم ونفسي أولًا بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131]، أما بعد:
أيها المؤمنون، حديثنا اليوم عن داء خفي يسرق حرارة الإيمان من القلوب، ويخطف لذة العبادة من الجوارح، داء يبدأ بنشاطٍ وهِمَّة عالية، ثم لا يلبث أن يبرد قلب صاحبه حتى يصير إلى الكسل والفتور، ذلكم هو الفتور في الطاعة، والفتور عباد الله إذا استقر في قلب العبد، أورثه ضعف العزيمة، وربما انقطاع العمل بالكلية، فيطول الطريق، ويقل نصيبه من الخيرات، وقد يُقبض على هذه الحال فيخسر خير الخواتيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سُنَّتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك)).

وقد حذر السلف الصالح من هذا الداء، فقال الحسن البصري رحمه الله: "إن المؤمن جُمِع بين إحسان وخوف، وإن المنافق جُمِع بين إساءة وأمن"، فالخوف الدائم من الفتور كان سمةً بارزةً عندهم؛ لأنهم يعلمون أن العمل القليل مع دوام خيرٌ من الكثير مع انقطاع.

أيها المسلمون، إن أسباب الفتور كثيرة، منها الغلو والتشدُّد في الدين بما لا يطيق الجسد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو))، ومنها الانغماس في المباحات، والانشغال بملذَّات الدنيا حتى تثقل الروح وتضعف الهمة، ومنها العزلة عن جماعة المؤمنين؛ فيضعف الإيمان، ويخبو أثر الصحبة الصالحة، ومنها الغفلة عن ذكر الموت والآخرة حتى يقسو القلب، ومنها التهاون بالذنوب الصغيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)). ومن أعظم الأسباب كذلك الصحبة الفاترة التي تميت الهمة وتُبرد القلب، والعشوائية في العمل دون ترتيب أو أولويات، والتساهل في الحلال والحرام.

وإن مظاهر الفتور قسوة القلب، ذلك السياج المانع للقلب من الخشوع لله تعالى، الحابس لدمع العين من خشيته، الحائل دون قشعريرة الجلد وليونته ذلًّا لله تعالى، فلا يعرف القلب بعد هذا معروفًا، ولا ينكر منكرًا، قد جفَّت ينابيع الحب فيه، وأقفرت رياض الرحمة لديه، واصفرَّت خضرة المشاعر في فؤاده، ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الزمر: 22].

وتستمر القسوة بالقلب حتى تصل إلى درجة تتضاءل أمامها صلابة الأحجار والصخور، ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 74].

وشتان بين من كان هذا حال قلوبهم، وبين من تنتفض أجسادهم كالعصافير المبللة بالمطر رهبةً من الله تعالى، حتى خلَّد الله ذكرهم ووصفهم في كتابه العزيز فقال: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23]، ومن مظاهر الفتور أن تجد تكاسلًا عن الصلاة أو تأخُّرًا عن الجماعة، وتراه ضعفًا في تلاوة القرآن، وقلة حضور مجالس الذكر، وتراه انقطاعًا عن بذل الخير، ونقصًا في الخشوع والإنابة، وكل ذلك إنذار مبكر بالخسران إن لم يتدارك العبد نفسه، قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [الحشر: 19].

أيها الإخوة، إن علاج الفتور لا يكون إلا بتطهير القلب من الذنوب صغيرها وكبيرها، فإن الذنب يحجب عن الطاعة كما تحجب الغيوم نور الشمس، ويكون كذلك بالمداومة على أعمال اليوم والليلة ولو كانت قليلة، فإن أحب العمل إلى الله أدْوَمه وإنْ قَلَّ، ويكون أيضًا بالتوازن بين العبادة وراحة الجسد، فلا إفراط ولا تفريط، وبالصحبة الصالحة التي تعين على الطاعة وتُذكِّر بالله، وبملازمة أصحاب الهمم العالية، وبالتذكُّر الدائم للموت والدار الآخرة، فإن ذكر الموت يقصر الأمل، ويبعث على الجد، قال صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذكر هادم اللذات)). ويكون كذلك بالحرص على الحلال الطيب في المطعم والمشرب، فإن الجسد إذا نبت من حرام كان أولى بالفتور والخذلان.

فاثبتوا عباد الله على الطاعة، وجددوا نياتكم، واسألوا الله الثبات، فإن العبرة بالخواتيم، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالخواتيم)).

اللهم اجعل خير أيامنا يوم لُقْياك وخير أعمالنا خواتيمها...

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل الاستقامة سببًا للجنة، والفتور سببًا للحرمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الثبات على الطاعة من أعظم نعم الله على العبد، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]، فالمؤمن الحق من جاهد نفسه على الطاعة، واستعان بالله على الثبات، وداوم على الأوراد والقربات. وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا مقلب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينك)).

أيها الأحِبَّة، احذروا من صحبة الفاترين، فإن المرء على دين خليله، واصحبوا أصحاب الهمم العالية، ولا تحقروا من العمل شيئًا، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وداوموا على العمل الصغير؛ فإنه عند الله عظيم إذا صدقت النية. واعلموا أن الدنيا مَمَرٌّ والآخرة مَقَرٌّ، وأن أعماركم رأس مالكم، فلا تضيعوها في الغفلة والكسل، ولا تدعوا الفتور يسرق منكم أعماركم حتى تلقوا الله مفلسين، قال بعض السلف: "أشدُّ الغبن أن تلقى الله بصحائف خالية وقد أُمددت بالعمر الطويل".

وصلوا وسلموا على خير خلق الله، فقد أمركم ربكم بذلك، فقال جل في علاه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم طهِّر قلوبنا من الفتور، وجوارحنا من التقصير، وأعمالنا من الرياء، واجعلنا من عبادك الصالحين المخلصين. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، وانصر عبادك المجاهدين في سبيلك في كل مكان، واجعل بلدنا هذا وسائر بلاد المسلمين آمنةً مطمئنةً وسائر بلاد المسلمين.

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 25-09-2025, 06:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة آفات على الطريق

سلسلة آفات على الطريق (2):

حسان أحمد العماري

الإسراف في حياتنا!


الخطبة الأولى
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من أمة الاعتدال والوسطية، أحمده سبحانه وأشكره على ما أنعم وأولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أوصيكم ونفسي المقصِّرة أولًا بتقوى الله تعالى، فهي وصية الله للأوَّلين والآخرين، قال عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131].

عباد الله، حديثنا اليوم عن داءٍ خطيرٍ وبلاءٍ كبيرٍ، يهدد الأفراد والمجتمعات، وهو الإسراف، قال الله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]. والإسراف ليس مجرد زيادة في الإنفاق؛ بل هو مرض يسرق من قلبك الرحمة، ومن عقلك الحكمة، ومن تصرُّفك الكياسة، قبل أن يسرق من جيبك المال. يبدأ أحيانًا من تربية مترفة، أو من انفتاح مفاجئ بعد ضيق، أو من صحبة لا تعرف الاعتدال، حتى يصبح الترفُ عادةً والقناعةُ غريبةً.

أيها الأحبة، نِعَمُ الله أمانةٌ، ومن يضيِّع الأمانة يُسلبها، بل ربما يقف يوم القيامة يُسأل عن كل لقمة وكل درهم أنفقه في غير حق، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه))؛ [رواه الترمذي]. والإسراف لا يقتل المال فقط، بل يقتل الإحساس بالآخرين، فالمسرف لا يعرف طعم الجوع، ولا يشعر بدموع المحتاجين، ولا يتذكَّر أن مَن حوله قد لا يجدون قوت يومهم، وهكذا يضعف التضامن، وتتفَتَّت القلوب، وتكبر الفجوة بين الناس.

ومن مظاهر الإسراف التي غزت حياتنا الإسراف في الطعام والشراب حتى امتلأت حاويات القمامة بأصناف النِّعَم، بينما الملايين في العالم يبيتون جوعى. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسه))؛ [رواه الترمذي].

ومن مظاهره أيضًا الإسراف في المال وإنفاقه في الكماليات والترف واللهو، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾ [الإسراء: 26، 27].

ولا يقتصر الإسراف على المال والطعام؛ بل يتعدى إلى الأوقات، فيضيع الناس ساعات طويلة أمام الشاشات بلا فائدة، بينما الوقت هو رأس مال الإنسان، وقد قال الحسن البصري: "يا بن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومُك ذهب بعضُك". وكذلك الإسراف في الملابس، فيشغل الإنسان نفسه بمتابعة الموضات، وتبديل الثياب دون حاجة، حتى صار التباهي بالمظاهر يطغى على القيم. وهناك أيضًا الإسراف في الكلام والجدال والغيبة والنقد المستمر، حتى يُرهق الإنسان نفسه ويجرح الآخرين؛ بل يتجاوز الأمر إلى الإسراف في محاسبة الأهل والأبناء على الصغيرة والكبيرة بما يفسد الود في البيوت، بينما الرحمة والرفق هما السبيل إلى صلاح الأسرة.

أيها الأحبة، ومن صور الإسراف كذلك ما يكون في المشاعر، فإسراف في الحب حتى يذل المرء نفسه، وإسراف في الكره حتى يقطع ما أمر الله به أن يوصل، وإسراف في النقد حتى ينفر الناس، وكل ذلك يخرج بالإنسان عن حدِّ الاعتدال الذي أمر الله به؛ بل حتى الماء، وهو أعظم نعمة بعد الإيمان، نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسرف فيه، فقال لسعد حين رآه يكثر في الوضوء: ((ما هذا السرف؟))، قال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: ((نعم، وإن كنت على نهرٍ جارٍ))؛ [رواه ابن ماجه]، فكيف بمن يستهلك المياه في غير حاجة حتى تذهب هدرًا؟!

عباد الله، لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حياةً بسيطةً، لم يشبعوا من خبز الشعير ثلاثة أيام متتابعة، ومع ذلك فتح الله لهم الدنيا، وكانوا أكرم الناس وأغناهم قلوبًا. فالعبرة ليست بما تملك، بل بما تملك نفسك عن شهوة الترف، كما قال عمر رضي الله عنه: "كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كل ما اشتهى".

عباد الله، إن الإسراف داء خطير يهدد دين الإنسان ودنياه، وقد حذَّر الله تعالى منه فقال: ﴿ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، وفي زماننا هذا زاد الأمر خطورة مع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي تسوِّق لنا ثقافة الإسراف، وتُزيِّن الكماليات، وتغريهم بتتابُع الإعلانات، وتُزيِّن لهم المنتجات، وتُيسِّر أمور البيع والشراء، وتجعل الإنسان يقيس قيمته بما يشتري لا بما يقدِّم، فيلهث الناس وراء الجديد، ويثقلون أنفسهم وأهليهم بالديون وهم لا يشعرون.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الإسراف والتبذير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله، إن علاج هذا البلاء لا يكون إلا بالاعتدال والتوسط في الأمور كلها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير الأمور أوسطها)). فالاقتصاد في المعيشة ليس بخلًا ولا حرمانًا؛ بل هو وعي بالنعمة، وصيانة لها، ووضعها في موضعها الصحيح. فالمؤمن يوازن بين طعامه وشرابه، وبين عمله وراحته، وبين حبه وبغضه، فيعيش في طمأنينة وتوازن. قال صلى الله عليه وسلم: ((إن لربك عليك حقًّا، وإن لبدنك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، فأعْطِ كل ذي حقٍّ حقَّه))؛ [رواه البخاري]. ومن تمام العلاج أن نُربّي أنفسنا وأهلنا على القناعة، فنميز بين الضروريات والكماليات، ونُذكِّر أنفسنا أن البركة ليست في كثرة الممتلكات؛ بل في حُسْن استثمارها، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كل ما اشتهى)). والقناعة ليست حرمانًا كما يظن البعض، وإنما هي حرية وراحة قلب ونجاة في الدنيا وفوز في الآخرة.

أيها المسلمون، لنتذكر دومًا أننا مسؤولون عن هذه النعم يوم القيامة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه))؛ [رواه الترمذي]، فهذا السؤال الأخروي يجعلنا نحاسب أنفسنا قبل أن نُحاسَب، ونُدرك أن أعمارنا وأموالنا وطاقاتنا أمانات بين أيدينا، فإما أن نحسن استثمارها فنُفلح، أو نُسرف فيها فنخسر.

فاتقوا الله عباد الله، وكونوا أمةً وسطًا كما أراد الله لكم، تضبط شهواتها، وتقتصد في نفقاتها، وتُحسن استثمار وقتها، ولا تُسرف في حب ولا كره ولا كلام ولا نقد، ولا تستهلك مياهها ومواردها بغير وعي، ولا تجري وراء الكماليات والإعلانات فتتعب بلا جدوى. واذكروا أن من اقتصد أغناه الله، ومن أسرف أفقره الله، وأن الله سائلكم يوم القيامة عن هذه النعم ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 8].

هذا وصلوا وسلموا على من أُمِرتم بالصلاة والسلام عليه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم اجعلنا من عبادك المقتصدين، ونجِّنا من داء الإسراف والتبذير، اللهم بارك لنا في أعمارنا وأوقاتنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 64.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 62.85 كيلو بايت... تم توفير 2.13 كيلو بايت...بمعدل (3.28%)]