|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() أمير المؤمنين في الحديث -1- العلامة عبد الحليم محمود (لقد مَنَّ الله على أهل الإسلام بسفيان الثوري!) [المعافى بن عمران] إنَّه سفيانُ بنُ سعيدٍ الثوري، وُلد سنة خمسٍ و تسعين، أو سبع وتسعين من الهجرة بالكوفة، كان أبوه من ثقاتِ المحدِّثين، ولقد ذَكَره المؤرِّخون في أئمة المحدِّثين الذين أخذَ عنهم سفيان، وكان من غير شك أول من لقن سفيان العلم، فنشأ سفيانُ – دون اختيارٍ منه – بين كُتب الحديث، وتفتَّحت عيناه على جو من العلم يتَّسم بعبيرِ النبوة، ويَسُودُه جَوامع الكلم، واتَّجه آلياً في دراسته وجهة أبيه، وفي ذلك يقول هو: طلبت العلمَ فلم تكن لي نِيَّة، ثم رزقني الله النيَّة. أي: أنه طلب العلم أولاً بحكم العادة البحتة، ثم وفَّقه الله سبحانه لأن يقصد به وجه الله، ولكن مما يجدر مُلاحظته أنَّ المحدثين إذ ذاك ما كانوا يأخذون على الحديث أجراً، لقد كانوا يتمثَّلون قَولَه تعالى: [قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] {الأنعام:90}. ويبدو أنَّ والد سفيان لم يكن من ذوي الثراء العَريض، وأنَّ سفيان وإن كان قد نشأ في جو علمي فيه النور والإشراق والصفاء، وفيه باستمرار ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، والصلاة عليه أكثر من مرة في كل يوم، فإنَّه نشأ مع ذلك في جو من التقشُّف، بيد أنَّ جوَّ الأسرة كان جواً كريماً، فقد كانت أمُّ سفيان من النساء الحصيفات التقيَّات: لقد كانت ذاتَ عقلٍ وذات تقوى، انظر إلى عقلها وتقواها في نصيحتها لسفيان: عن وكيع، - العالم المعروف - أنَّ والدة سفيان قالت له: (يا بني اطلب العلم، وأنا أَعُولك بمغزلي، وإذا كتبتَ عشرة أحرف، فانظر هل ترى في نفسك زيادة في الخير، فإن لم تَرَ ذلك فلا تتعبن نفسك). ويكفينا هذه الكلمة لنأخذ منها: 1- إنَّ الجو الذي كان يَعيشُ فيه سفيان كان جو تَقَشُّف. 2- وأنَّ هذا الجو كان يتَّسم بالتقوى والصلاح. ونشأ سفيانُ بين أبٍ (من ثقات المحدِّثين) وأمٌّ تريد أن تَعُوله بمغزلها ليطلب العلم من أجل زيادة النُّور في قلبه، لم تكن الأمُّ تُفَكِّر لابنها – من وراء تعليمه – في الجاهِ أو الثَّراء، وإنما كانت تُفَكِّر في أن يَزدادَ الخيرُ في نفسه. ونظرةُ الأم إلى هَدف العلم، إنَّما هي النظرة التي كانت تسودُ البيئةَ إذ ذاك لقد تربَّت عليها البيئة الإسلامية منذ: [إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] {فاطر:28}. ومنذ: [شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {آل عمران:18}. ولقد كانت البيئة حينئذ تتمثَّل قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي: (من سلكَ طَريقاً يَبتغي فيه عِلْماً سهَّل الله له طَريقاً إلى الجنَّة، وإنَّ الملائكة لتضعُ أجنحتَها لطالبِ العلم رضاً بما يَصنع، وإنَّ العالم ليستغفرُ له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضلِ القمر على سائرِ الكواكب، وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذَ بحظٍّ وافر). وبدأ سفيانُ يتعلَّم اتّباعاً لأبيه واستجابةً لرغبةِ أمِّه، ولكن سفيان بمجرد أن دخلَ في دور الشباب بدأ يفكر جدياً في أمر مَعيشته، وليس من الطبيعي أن يغتبط سفيان – وهو صاحب الفطرة الصافية – بأن تَعُوله أمُّه بمغزلها، أو أن تستمرَّ أمه في إعالته بمغزلها. يقول سفيان فيما رواه يحيى بن يمان: لما هَممتُ بطلب الحديث، ورأيت العلم يدرس قلت: أي رب إنَّه لابدَّ لي من معيشة، فاكفني أمرَ الرزق وفرِّغني لطلبه، فتشاغلتُ بالطلب، فلم أرَ إلا خيراً، بيد أنَّ سفيان تنبه بسرعة إلى أنَّ المال ضروري للإنسان على أي وضع كان الإنسان: إنَّه ضروري له، لو أراد أن يسيرَ في حياته على أن يكون مُتعبِّداً، وضروري له لو أراد أن يسيرَ في حياته على أن يكون عَالماً، والعابد لا يأخذ على عِبادته أجراً، والعالم لا يأخذ على عِلمه أجراً، لابد إذن من التكسُّب ومعه المال. يقول سفيان هذه الكلمة المدويَّة: (عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والانفاق على العيال)، ولما سئل عن الحلال ما هو؟ قال: (تجارة بَرة، أو عطاء من إمام عادل، أو صلةٌ من أخ مؤمن، أو ميراث لم يخالطه شيء). ويقول هذه الكلمة المدوية أيضاً: (لأن أخلف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها، أحب إليَّ من أن أحتاج إلى الناس). ويقول لهؤلاء الذين يريدون أن يلتزموا المساجد أو الخلوات للعبادة، يقول لكل منهم: (إذا أردتَ أن تتعبَّد فأحرز الحنطة) أي: ليكن قُوتك مَوفوراً عندك من كسبك، ويُعزِّز سفيان قوله بأخبار العبَّاد بأنه مكتوب في التوراة: إذا كان في البيت بُرٌ فتعبَّد، وإذا لم يكنْ فالتمسْ. ولقد كان سفيانُ مَعْنياً بالعُبَّاد، يريد دائماً أن يكونوا أعزَّة بالله، إنَّه يُخَاطبهم كلما صادفهم قائلاً: يا عُبَّاد، ارفعوا رؤوسكم، فقد وضح الطريق، ولا تكونوا عالةً على النَّاس. ويقول يحيى بن يمان، قلت لسفيان الثوري: يا أبا عبد الله، أين تطيب العبادة؟ قال: حيث جوالق من خبز بدرهم، حتى لا يمدَّ أحدٌ عَينَه إلى أحد) اهـ. والمال لابدَّ منه للمؤمن لمجرَّد وصف الإيمان، وذلك أنَّ الإيمان يتضمَّن أن لا يهينَ الإنسانُ نفسَه بالمسألة، وأن لا يريقَ ماءَ وَجْهه بسبب الحاجة. يقول سفيان: (كان المال فيما مضى يُكره، فأما اليوم فهو ترس المؤمن)، ومن أجل ذلك طلب سفيان المال عن طريق التجارة، وسافر مُتاجراً، ولم يعبأْ بالبعض عندما عَابوا عليه السفر للتجارة. يروي عبد الرزاق أنَّ سفيان سافرَ إلى اليمن مُتَاجراً، فلما حضر من اليمن ذهب إليه ابن عيينة، فسَلَّم عليه، وردَّ وهو مُتكئ على عصاه، فقال ابن عيينة: يا أبا عبد الله عابَ الناسُ عليك خروجَك إلى اليمن فقال: (عابوا غيرَ مَعِيب، طلب الحلال شديدٌ خرجتُ أريده). لم يعبأْ بمن عَابوا عليه السفر للتجارة، ولقد أخذ مَرَّة من رجل أربعة آلا درهم مُضَاربة فاشترى بها مَتاعاً مما يُبَاع في اليمن، فأخذه معه فربح فيه نفقته. لقد خرج إلى اليمن يَلتمس الحلال بالتجارة، ولقد فعل أكثر من ذلك، لقد كان يعطي لبعض الناس مالاً يتَّجرون فيه لحسابه: يقول ابن سعد: قال الواقدي: كان سفيان يأتي اليمن يتَّجر، ويُفرِّق ما عنده على قومٍ يتَّجرون له ويلقاهم في الموسم يُحَاسبهم ويأخذ الربح، وقال مُبارك بن سعيد: كانت له معي بضاعة ويوصي سفيان من عنده قدر من المال أن يصلحه أي يثمره: (من كان في يده من هذه شيء – كما يقول – فليصلحه، فإنَّه زمان من احتاج كان أول ما يَبذل دينه). ولقد كان سفيانُ يَمقتُ هؤلاء الذين يَقفون بباب السلطان طلباً للمال، أو الذين يَبيعون دينَهم بدنيا السلطان، أو الذين يُداهنون، ويتملَّقون الأمراء والملوك، ويقول عن هؤلاء وأولئك: إنَّ عامة من داخل هؤلاء (أي: الأمراء) إنَّما دفعهم إلى ذلك العيال والحاجة. ويقول لأحدهم: (يا شيخ ولي فلان فكتب له (أي: كنت سكرتيراً له ) ثم عزل، وولي فلان فكتبت له، وأنت يوم القيامة أسوؤهم حالاً، يدعى بالأول فيسال، فيدعى بك فتسأل معه عما جرى على يديك له، ثم يذهب، وتوقف أنت حتى يدعى بالآخر فيسأل وتسأل أنت عمَّا جرى على يدك له، ثم يذهب وتوقف أنت حتى يدعى بالآخر: فأنت يوم القيامة أسوؤهم حالاً، فقال الشيخ: فكيف أصنع يا أبا عبد الله بعيالي؟ فقال سفيان: اسمعوا هذا يقول: إذا عصى الله رزق عياله، وإذا أطاع الله ضيع عياله) اهـ. لقد كان لسفيان تجارة، وكانت له بضاعة، يقول يوسف بن أسباط: كانت له بضاعة مع بعض إخوانه، وكان يقول: ما كانت العدَّة – أي المال المعد – في زمان أصلح منها في هذا الزمان؟ وما من شك في أنَّ المال السائل الذي كان يتصرَّف فيه سفيان لم يكن كثيراً، فقد روى أحمد العجلي أن بضاعة سفيان كانت ألفي درهم، وهو مبلغٌ معقول بالنسبة لرجل لم يكن همُّه في قليل ولا كثير التجارة للغنى، وإنما ليمسك الرمق، وكان سفيان يدَّخر المال للحاجة، يقول عبد الله بن محمد الباهلي: (جاء رجلٌ إلى سفيان الثوري، فقال: يا أبا عبد الله تمسك هذه الدنانير؟ وكان في يد سفيان خمسونَ ديناراً فقال: اسكت لولا هذه الدنانير لتمندل بنا هؤلاء الملوك، أي: لجعلونا في أيديهم كالمناديل يتمسَّحون بها، ويَقْضُون بها مَآربهم، وقال أبو نعيم، قال سفيان: (لولا بضاعتنا لتلاعب بنا هؤلاء -يعني الحكَّام والأمراء- ). ومع كل ذلك فما كان سفيانُ صاحبَ ثراءٍ عَريض، بل وما كان يتمنَّى أن يكون صاحبَ ثراء عريض، كلا، لقد وهبَ نفسَه للعلم، ووهبها للعلم لوجه الله سبحانه وتعالى، وما كان هدفُه من المال إلا حفظَ ماءِ وجهِه، ولم تكن رسالتُه جمعَ المال، وإنَّما كانت رسالته إذاعة التراثِ النبوي، تراثِ محمد صلى الله عليه وسلم، والأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما وَرَّثوا علماً، فمن أخذه أخذ بحظ وافر. لقد اقتصرَ سفيانُ من المال على الحدِّ الذي لابد منه لحياة لا تتطلب ترفاً ولا مُتعة، فما كان تَرَفُه إلا في العلم والعبادة، ولما ماتَ رضي الله عنه خَلَّف – كما يقول يوسف بن أسباط – مائتي دينار كانت عند رجل يتبضَّع له بها، وهذا المبلغ هو كل ما خَلَّفه سفيان. والذي نريدُ أن نقوله بعد كلِّ ذلك: هو أنَّ سفيان كان يسيرُ على النَّسَق الإسلامي المستقيم فيما يتعلَّق بالعلماء: خلفاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا النسق هو أن لا يَسيروا في ركابِ الملوك والأمراء من أجل الرزق، وإنما يتكسَّبون رزقهم ويحفظونَ ماءَ وجههم، ويعتزون بالله، وينشرون رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث موصول إن شاء الله. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. المصدر: مجلة الأزهر، السنة الحادية والأربعون، رجب 1389 - الجزء 5
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() أمير المؤمنين في الحديث -2- العلامة عبد الحليم محمود «لقد من الله على أهل الإسلام بسفيان الثوري» المعافى بن عمران لقد أهَّلته المقادير لأن يكون مُحدِّثاً من كبار المُحدِّثين، وفقيهاً من كبار الفقهاء فاجتمع فيه ما اجتمع في الإمام مالك رضي الله عنه: الحديث والفقه، وصاحب الحديث لابدَّ له من ذاكرة قوية قوةً خارقة، ذاكرة كأنها آلة تَسجيل، وإلا لم يكن مُؤهَّلا لهذا الميدان، ولقد منحَ الله سبحانه وتعالى سفيان ذاكرةً حافظة يصفها سفيان بقوله: ما استودعتُ قلبي شيئا قط فَخَانني، ويقول ابن مهدي عنه: ما رأيتُ صاحبَ حديث أحفظَ من سفيان. ويصف الأشجعي ذاكرةَ سفيان فيقول: دخلتُ مع الثوري على هشام بن عروة، فجعل يسأل وهشام يحدثه، فلما فرغ؛ قال: أعيدها علىك؛ فأعادها علىه، وقام، ثم دخل أصحاب الحديث فطلبوا الإملاء. فقال هشام: احفظوا كما حَفِظَ صاحبُكم، قالوا: لا نَقْدِر. أمَّا يحيي بن سعيد القطان فإنَّه يقول: «ما رأيتُ أحفظَ من الثوري»؛ لقد كانت ذاكرة سفيان مُهيَّأة بالفطرة لكي تجعل من سفيان إماماً من أئمة الحديث. ومع الذاكرة لابد للمحدِّث من ذكاء يتوقَّد. ولقد كان الثوري كما يقول ابن الجوزي: «يتوقَّد ذكاء»حتى لقد أصبح نابهاً وهو في بواكير شَبابه، ويصفُ أبو المثنَّي شيئاً من نَبَاهته، ورِفْعَة شأنه في بواكير حياته فيقول: «سمعتهم، بِمَرْو، يقولون: قد جاء الثوري، قد جاء الثوري، فخرجتُ أنظر إليه، فإذا هو غلامٌ قد بقل وجهُه» وبقل وجهه: يعني خرجت لحيته. وفي ذلك يقول ابن الجوزي: صار إماماً مَنظورا إليه وهو شاب. ويحكي عن الوليد بن مسلم قال: رأيتُ الثوري بمكة يُستفتى ولما يخط وجهه بعد وأبصر أبو إسحاق البيعي، سفيان مقبلاً فَتَلا قولَه تعالى: [وَآَتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا] {مريم:12}. يُشير بذلك إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى قد مَنحَ سفيان من الحكمة وهو ما يَزال في بواكير شَبابه. عن العلم: ولكن سفيان لم يغترَّ بشُهْرَته، وإنما زادته هذه الشهرة محاسبةً لنفسه في علمه، وفي تقواه. وكان لابد أن يزداد كلَّ يومٍ علماً، ومن أن يكون من التقوى: بحيث تصبح له سلوكاً وحالاً، وانغمسَ سفيان في العلم. يقول مسكين بن بكير الحراني: سمعت سفيان الثوري يقول: «لا نزالُ نتعلَّم ما وجدنا من يُعلِّمنا». ويقول سفيان: «الرجل إلى العلم أحوج منه إلى الخبز واللحم». وليس عمل بعد الفرائض-فيما يروي الثوري-أفضل من طلب العلم. ويرسم الثوري الخطوات التي تتبع بالنسبة للعلم: يروي مُزاحم بن زفر هذه الخطوات عن الثوري: «إنما هو طَلَبُه، ثم حِفْظه، ثم العمل به، ثم نَشْرُه» ولما سمع ذلك أبو بكر بن عباس أخذ يقول لمزاحم: أعده عليَّ كيف قال؟. ويحدث المهدي أبو عبد الله فيقول: سمعت سفيان الثوري يقول: كان يُقال: أول العلم الصمت، والثاني الاستماع إليه وحفظه، والثالث العمل به، والرابع نشره وتعلىمه. أما هدفُ العلم: فإنَّ سفيان كان يَستفيض فيه كلما وجد إلى ذلك سبيلاً، ويروي فيه ما يحفظ من أحاديث. فعن سفيان عن محمد بن عمارة المدني عن عبد الرحمن بن عبد الله عن رجلٍ ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تعلَّم العلمَ ليماريَ به العلماء، أو يجاري به السفهاء، أو يتأكَّل به الناس، فالنار أولى به». ويحدث عبد الله بن داود فيقول: قال سفيان الثوري: «إنما يُطلبُ العلم ليتقي الله به فمن ثم فضل، فلولا ذلك لكان كسائر الأشياء». وعن أحمد بن يونس يقول سمعت سفيان الثوري يقول: «ليس طلب العلم فلان عن فلان، إنما طلبُ العلم الخشية لله عزَّ وجل». ويختصر سفيان أحياناً الهدف من العلم فيقول: «إنما فضل العلم على غيره ليتقي الله به». ولقد سُئل سفيان الثوري: طلب العلم أحب إليك يا أبا عبد الله أو العمل؟ فقال: «إنما يراد العلم للعمل، لا تدعْ طلبَ العلمِ للعمل، ولا تدع العمل لطلب العلم»، ويتجه سفيان إلى العلماء فيقول لهم: «الأعمال السيئة داء، والعلماء دواء، فإذا فسد العلماء؛ فمن يشفي الداء؟». ويقول لهم: «زَيِّنوا العلمَ بأنفسكم، ولا تَزيَّنوا بالعلم». وكان الثوري إذا لقي شيخاً سأله: «هل سمعتَ من العلم شيئا؟ فإن قال: لا. قال: لا جزاك الله عن الإسلام خيراً». ويتجه إلى الشباب من العرب فيقول: «اطلبوا العلم ويحكم، فإني أخافُ أن يخرجَ منكم، فيصير في غيركم، اطلبوه ويحكم، فإنَّه عِزٌّ وشَرَف في الدنيا والآخرة». وأخذت الأيام تسير بسفيان، وأخذت شهرته مع الأيام تزداد، وإذا به يبلغ حداً من النُّضْج ومن العلم يعزُّ على من رَامَه ويطول، فيذاع اسمه في ربوع الإسلام، ويقدره الناس أينما حلَّ، يقدرونه لتقواه، ويقدرونه لعلمه، ويقدرونه لخلقه الصلب في الله؛ ويقدرونه لزهده ويقدرونه لفضائل أخرى كثيرة. بل لقد أخذ الناسُ يَعُدُّون مَنَاقبه؛ ومن ذلك مثلاً ما رواه شعيب بن حرب؛ قال: ذكروا سفيان الثوري عند عاصم بن محمد؛ فذكروا مَنَاقبه حتى عدوا خمس عشرة مَنْقبة؛ فقال: فرغتم؟ إني لأعرف فيه فضيلة أفضل من هذه كلها: سلامة صدره لأصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ وهذه الصفة التي ذكرها عاصم بن محمد لها قيمتها الكبرى في كل زمن؛ وخصوصاً عند ما يحاول الضالُّون المنحرفون أن يحطُّوا من شأن بعضهم، وأن ينزلوا بقيمهم، وهم الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم». ويعدُّ ابنُ المبارك بعضَ ما تحلَّى به سفيان فيقول: تُعجبني مُجالسة سفيان الثوري؛ كنتَ إذا شئتَ رأيتَه في الورع؛ وإذا شئتَ رأيتَه مُصلياً؛ وإذا شئتَ رأيتَه غائصاً في الفقه؛ ويشبه هذا ما ذَكَره أحمد بن يونس؛ قال: ما رأيت أحداً أعلم من سفيان؛ ولا أورع من سفيان؛ ولا أفقه من سفيان؛ ولا أزهد من سفيان. وعن أيوب بن سويد قال: سمعتُ المثنى ابن الصباح؛ وذكر سفيان الثوري فقال: عالم الأمة وعابدها وهو وصفٌ دقيق لسفيان؛ في غاية الإيجاز، وعن علم سفيان يقول أيوب بن سويد: ما سألنا سفيان الثوري عن شيء إلا وجدنا عنده أثراً مَاضياً؛ أو أثراً من عالمٍ قبله. ولقد وثق الناس بالثوري في الحديث وغيره، يقول أبو أسامة: سفيان الثوري حجَّة. أما سفيانُ بنُ عيينة، وقد كان في زمن سفيان الثوري، وكان عالماً ومحدثاً وفقيهاً فإنَّه يتحدث عن أئمَّة الناس النابهين إلى عصره، فيحصرهم في ثلاثة: أحدهم سفيان، إنَّه يقول: أئمة الناس ثلاثة بعد أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ابن عباس رضي الله عنهما في زمانه، والشعبي في زمانه، وسفيان الثوري في زمانه. وينتهي بشر بن الحارث في رأيه عن سفيان بقوله: كان سفيان الثوري عندي إمام الناس. وقال الشيخ أبو نعيم رحمة الله تعالى عليه: «الإمام أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري رحمة الله تعالى عليه، في غزارة علمه، ورواياته كالبحر الذي لا ينزف، والسيل الذي لا يصرف، عدلنا عن ذكر شيوخه إلى الاقتصار على طرف من رقائق حديثه». أما شيوخُه في العلم الذين عَدَلَ أبو نعيم عن ذكرهم، فقد عدَّ منهم المؤرخون كثيراً، منهم: عمرو بن مرَّة، وسلمة بن كهيل، وحبيب بن أبي ثابت، وعمرو بن دينار، وعبد الله بن دينار، وسعيد بن مسروق والد سفيان، والأسود بن قيس، «وخلقٌ لا يُحصون» كما يقول ابن الجوزي. ويقولُ بعضُ المؤرِّخين: يقال إنَّه أخذ العلم عن ستمائة شيخ، وينتقد الذهبي ابن الجوزي، ويرميه بالمبالغة؛ لأنَّه ذكر في مَنَاقب الثوري، أَنَّه روى عن أكثر من عشرين ألفاً، ويقول: وهذا مدفوع، بل لعله روى عن نحو من ألف. أما عن تلاميذ الثوري فإنَّ ابن الجوزي وغيره يعدون الكثير منهم بأسمائهم وأحياناً بصفاتهم، وقد كان الناسُ يتسابقون إلى مجلسه في العلم، ويقفون بباب داره مُنتظرين خُروجَه، وليس من المُبَالغة إذن أن يقول ابن الجوزي عن تلاميذ الثوري: «وقد حَدَّث عنه خلقٌ لا يُحصَون». ثمَّ يقول: وآخر ثقة روى عنه هو علي بن الجعد. تقديره: قدَّر العلماءُ سفيانَ الثوري في حياته، وبعد مماته تَقْديراً جميلاً كريماً يستأهله الرجلُ الذي وَهَبَ نَفْسه للعلم، فأبو نعيم يفتتح الحديث عنه بقوله: ومنهم الإمام المرضي، والورع الدري، أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري، رضي الله تعالى عنه. ولقد رأينا فيما مَضى كثيراً من تقدير العلماء له، وسنرى أيضا فيما بعد شيئاً من ذلك. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. المصدر: مجلة الأزهر (السنة 41، شعبان 1389هـ)، الجزء السادس.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() أمير المؤمنين في الحديث -3- العلامة عبد الحليم محمود المُحدِّث الفقيه: قال شعبةُ وابن مَعِين وجماعة: سفيان أمير المؤمنين في الحديث. ويقول يحيي ابن يمان: ما رأىتُ مثلَ سفيان، ولا رأى سفيان مثله. كان سفيان في الحديث أمير المؤمنين، ومما يُفسِّر هذه الإمارة أنَّ يحيي بن يمان قال: كتبتُ عن سفيان عشرين ألفاً، وأخبرني الأشجعي أنَّه كتب عن سفيان ثلاثين ألفا وسمعت سفيانَ يقول: ما أُحَدِّث من كل عشرة بواحد، أي: أنَّ سفيان كان يحدِّث بأقل من عُشْرِ ما يحفظ. ويتحدَّث ابنُ المبارك فيما يَروي عبد الرازق عن استفاضة سفيان في العلم وعن سعة دائرته في فنونه ولاسيما الحديث فيقول: أقعد إلى سفيان فيحدث فأقول ما بقي من علمه شيء إلا وقد سمعتُه، ثم أقعد مجلساً آخر فأقول: ما سمعتُ من علمه شيئاً. ومن أجل هذه الاستفاضة التي شاهدها ابن المبارك كان يقول: لا أعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان، ويقول ابن المبارك أيضاً: كتبت عن ألف ومائة شيخ وما فيهم أفضل من سفيان. ولا يكاد ابن المبارك يملُّ الحديث عن سفيان، إنَّه يقول أيضا: ما رأىتُ مثل سفيان كأنَّه خُلِقَ لهذا الشأن، وقال أيضاً: «كنت إذا أعياني الشيء أتيت سفيان أسأله فكأنما أغترف من بحر». وكان سفيان يفتن كل من يتصل به عن مشاهدة أو عن دراسة لتاريخه وسيرته، كان يَبْهره بعلمه وكان يَبْهره بحفظه للحديث وكان يبهره بصلاحه وتقواه، وكان يَبْهره بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وكان يبهره بعفَّة نفسه عن كل ما فيه شُبهة، يتحدَّث عنه وكيع فيقول: كان بحراً، ويتحدث عنه الإمام حمَّاد فيقول: لم يتقدمه في قلبي أحد، ويعجب الإمام أحمد بن حنبل من سفيان أنه كان إذا قيل له: إنه رؤي في المنام قال: أنا أعرف بنفسي من أصحاب المنامات. ويقول أبو أسامة فيما يروي ابن الجوزي: من أخبرك أنَّه رأى بعينيه مثل سفيان فلا تصدقه. وإذا كانت المقادير قد هيَّأت سفيان للعلم على وجه العموم فإنها هيَّأته على الخصوص ليكون مُحدِّثاً، وذلك بسبب هذه الذاكرة التي كانت من القوَّة بحيث لا يندُّ عنها شيء، يحدث يحيي بن يمان فيقول: سمعت سفيان الثوري يقول: ما استودعتُ أذني شيئاً قط إلا حفظته حتى إني أمرُّ بكذا -كلمة قالها- فأسد أذني مخافةَ أن أحفظ ما يقول. ووثق الناس بسفيان الثوري في الحديث لصفات تحلَّى بها، لقد وثقوا به في الحديث لأنَّه لم يكن يُريد به إلا وجه الله والدار الآخرة. لقد حدث محمد بن يوسف الغريابي قال: سمعتُ الثوري يقول: ما من عمل أفضل من طلب الحديث إذا صَحَّت النيَّة فيه. قال أحمد: قلت للغريابي: وأي شيء النيَّة؟ قال: تُريد به وجهَ الله والدار الآخرة، ولقد كان سفيان معنياً عناية فائقةً بمسألة النيَّة الخالصة. إنَّه يقول: لو أني أعلم أنَّ أحداً يطلب الحديث بنيَّة لأتيته في منزله حتى أحدثه. وكان بسفيان هُيَامٌ بالحديث، لقد كان محباً، لقد كان عاشقاً. يصفُ شيئاً من ذلك عبد الرحمن بن مهدي، فيقول: كنا نكون عند سفيان الثوري فكأنَّه قد أُوقِفَ للحساب فلا نجترئ أن نُكَلِّمه فنعرض بذكر الحديث فيذهب ذلك الخشوع فإنما هو: حدثنا، وحدثنا. ويقول سفيان: يَنبغي للرجل أن يُكرِه وَلده على طلبِ الحديث فإنَّه مسؤول عنه، وينصح الناس قائلاً: أكثروا من الأحاديث فإنَّها سِلاحٌ، ويتَّجه إلى الشباب الذي كان دائماً يَنتظره بالقرب من بَيته فيقولُ لهم: يَا مَعْشَر الشباب تعجَّلوا بركة هذا العلم فإنَّكم لا تدرون، لعلكم لا تبلغون ما تُؤمِّلون منه ليفد بعضكم بعضاً. ويتبيَّن الإنسان مدى حُبِّ سفيان للحديث مما حَدَّث به يحيي بن يمان قال: سمعتُ سفيان يقول: لو لم يَأتني أصحابُ الحديث لأَتَيتُهم في بيوتهم. وكما كان سفيانُ مَعْنياً بإذاعة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنَّه كان مَعْنياً بطلاب الحديث أنفسِهم، فقد كان ينصحُ طلاب الحديث دائما بأن يبدأوا بتعلُّم الأدب وأن يتعبَّدوا حتى إذا استقامَ بهم الطريق في الأدب والعبادة أملى عليهم الحديث. يحدِّث أبو عاصم كما يَروي صاحب الحِلْية أنَّه سمع سفيان الثوري يقول: «كان الرجلُ إذا أراد أن يكتبَ الحديث تأدَّب وتعبَّد قبل ذلك، ويتحدَّث الثوري عن صاحب الحديث من ناحية المعيشة فيقول: يعجبني أن يكون صاحبُ الحديث مَكْفيَّاً، فإنَّ الآفاتِ إليهم أسرع وألسنة الناس عليهم أسرع. ويتحدَّث عن أصحاب الحديث من حيث الأمانة في النقل: روى عبد الله بن عبد الرحمن قال: قال سفيان الثوري: مَن كذبَ سقطَ حَديثُه. قال وسمعتُه يقول: قال وكيع: هذه بِضَاعة لا يَرتفع فيها إلا صادق. ولما تحلَّى به سفيان من صفات تتناسب مع حامل الحديث قدَّره الناس في صورة كريمة حقاً، ويعبر عن ذلك ما قاله عبد الله بن داود الخريبي: ما رأىت محدثاً أفضل من سفيان الثوري. ويقول أبو بكر بن عباس: إني لأرى الرجل يحدِّث عن سفيان فينبل في عيني. ومن أطرف ما يروى في ذلك أنَّ يحيي بن سعيد قال: ما كتبتُ عن سفيان عن الأعمش أحب إلي ما سمعت من الأعمش. ولقد وَازَنَ كثيرٌ من الناس بينَ سفيان وغيره، ونقتصر هنا من هذه الموازنات على ما حدَّث به إسحاق بن راهويه قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي ذكر سفيان وشعبة ومالكاً وابنَ المبارك فقال: أعلمهم بالعلم سفيان. وقال إسحاق: وقال يحيي بن سعيد كان سفيان أبصر بالرجال من شعبة. ومن طريفِ الآراء في الثقة بسفيان محدِّثاً ما يقوله يحيي بن سعيد: ليس أحد أحبَّ إليَّ من شعبة، ولا يَعْدِلُه أحد عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان، وفي يومٍ من الأيام ذكر شعبةُ حديثاً عن إسحاق فقال رجل: إنَّ سفيان خالفك فيه، فقال شعبة: دعوه سفيان أحفظ مني. وشعبةُ يقول في صَراحة الرجل الصادق: إذا خَالفني سفيانُ في الحديث فالحديث حَديثُه. يقول أبو نعيم: للإمام أبي عبد الله سفيان بن سعيد عن مَسَانيد الحديث ما لا يُضبط كثرةً سبق إلى جمع بعض حديثه الماضون من أسلافنا وعلمائهم. هذا ما كان عن سفيان مُحَدِّثا. أما سفيانُ الفقيه فإنَّه اتخذ الخطَّة المثلى للفقيه وهي أن يكون محدثاً قبل أن يكون فَقِيهاً، والواقع أنَّ هذا الفَصْل الذي نلاحظه الآن بين الفقيه والمحدث فَصْلٌ مُصْطَنع وهو فصلٌ فيه انحراف، فالحديث الشريف هو من الضرورة بحيث يُعتبر أساساً لا بدَّ منه للفقيه. وكما أنَّه لا بدَّ للبيت من أساس فإنَّه لا بد للفقيه من الحديث، لقد كان سفيانُ الثوري محدِّثاً قبل أن يكون فقيهاً ومن أجل ذلك فإنَّه كان فقيهاً مُوفَّقاً: ذلك أنه يشيع في فقهه دائما عبير النبوة ممثلاً في الأحاديث التي تُكَوِّن أركانَ فقهه. وعن سفيان الفقيه يقول زائدة: كان سفيان أفقه الناس. ويحدث الغريابي فيقول: سمعتُ سفيان الثوري يقول: ما سألتُ أبا حَنيفة عن شيء قط، وربما لقيني فَسَألني. ومن آراءِ الثوري عن صِلة الفقه بالآثار قوله: «تعلَّموا هذه الآثار، فمن قَال برأيه فقلْ: رأيي مثل رأيك». ومن طريف آراء الثوري في الفقيه ما رواه ابن المبارك، سمعت سفيان الثوري يقول: ليس بفقيه من لم يعدَّ البلاءَ نعمةً، والرخاءَ مُصيبةً. ويقول عبد الرحمن بن مهدي عن الفقهاء: أئمةُ الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحمَّاد بن زيد بالبصرة. ولقد عَلَّمَ سفيانُ الناسَ سَعَة الصدر في الإفتاء، فقد كان يقول: إذا رأىتَ الرجلَ يعملُ العملَ الذي قد اختُلِفَ فيه وأنت ترى غيرَه فلا تنهه. وسفيان في ذلك حكيم كلَّ الحكمة فإنَّ الذي يحجِّرُ واسعاً لا يتمشَّى مع سماحة الإسلام. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. المصدر: مجلة الأزهر (السنة 41، رمضان1389هـ)، الجزء السابع.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري -4- العلامة عبد الحليم محمود سفيان الزاهد العابد: من دعاء أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه: اللهم اجعل الدنيا في أيدينا، ولا تجعلها في قلوبنا. ومن دعائه أيضا: اللهم وسِّعْ عليَّ رزقي في دنياي، ولا تحجبني بها عن أخراي. وهذا النسق من الاتصال بالدنيا هو النسق الصادق، وعلى هذا الهدي، وهو الهدي القرآني سارَ سفيانُ الثوري في زهده. يروي بشرُ بن الحارث أنَّ سفيان الثوري سئل: أيكون الرجل زاهداً ويكون له المال؟ قال: نعم. إن كان إذا ابتلي صَبَر وإذا أُعطي شكر. وأمر الزهد في الدنيا يَلتبس على كثير من الناس؛ يظنُّ بعضهم أنَّه التجرُّد من كل شيء، والأمر ليس كذلك عند الصوفية، ولم يكن كذلك عند الصحابة فقد كان أبو بكر رضي الله عنه صاحبَ تجارة وثَرَاء، وكان عثمان رضي الله عنه صاحبَ مال وثَرَاء، وكان ثراءُ عبد الرحمن بن عوف ثراءً عريضاً، وكانوا زهاداً، أي: أنَّ المال لم يكن يَستعبدهم لقد ملكوا المال ولم يملكهم المال، وكانوا مُتحققين بقول الله تعالى: [لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] {الحديد:23}. وكان من المظاهر الجميلة في زُهدهم أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه جاءَ في يوم من الأيام بماله كله مُتبرِّعاً به في سبيل الله. ولما قالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيتَ لعيالك؟ قال: أبقيت لهم اللهَ ورسولَه. ويأتي سيدُنا عثمان بمالٍ كثير فيضعه في حجر الرسول صلى الله عليه وسلم مُتبرِّعاً به في سبيل الله فَيُسَرُّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بكثرته التي تدلُّ على سماحة سيدنا عثمان والتي ستيسر أمرَ تجهيزِ الجيش، ويضع صلوات الله وسلامه علىه يدَه في المال يجول بها فيه هنا وهناك، ويقول: (اللهم ارضَ عن عثمان فإني عنه راض) ويجول بيده في المال مرةً أُخرى ويقول: (ما على عثمان ما فعل بعد اليوم). ويتبرَّع عبد الرحمن بن عَوف بقافلة ضَخْمة من الجمال تحمل بُراً وألوانا كثيرة من الملبوس والمأكول يتبرَّع بالجمال وبما حملت الجمال صدقةً لوجه الله لا يطلب علىها من الناس جزاءً ولا شكوراً، لقد كانوا أثرياء وكانوا زهاداً. ومن طريفِ ما يُروى في ذلك ويوضِّحه ما رواه ابن عطاء الله السكندري عن عارف بالله من كبار الأثرياء ولكن الدنيا كانت في يده لا في قلبه. يقول ابن عطاء الله: وقد يكون حجاب الولي كثرة الغنى وانبساط الدنيا عليه، وقال بعض المشايخ: كان رجلٌ بالمغرب من الزاهدين في الدنيا ومن أهل الجد والاجتهاد وكان عيشه مما يَصيده من البحر وكان الذي يصيده يتصدَّق ببعضه ويتقوَّت يبعضه فأراد بعض أصحاب هذا الشيخ أن يسافر إلى بلد من بلاد المغرب فقال له هذا الشيخ: إذا دخلتَ إلى بلد كذا. . فاذهب إلى أخي فلان فأقرئه مني السلام واطلب الدعاء منه لي فإنَّه ولي من أولياء الله، فقال: فسافرت حتى قدمت تلك البلدة وسألت عن ذلك الرجل فدللت على دار لا تصلحُ إلا للملوك، فعجبت من ذلك وطلبته فقيل لي: هو عند السلطان فازداد تعجبي فبعد ساعة وإذا هو آت في أفخر ملبس ومركب، وكأنما هو ملك في موكبه قال: فازداد تعجبي أكثر من الأول. قال: فهممتُ بالرجوع وعدم الاجتماع به ثم قلت: لا يمكنني مخالفة الشيخ فاستأذنت فأذن لي، فلما دخلت هَالني ما رأىت من العبيدِ والخَدَم والشارة الحسنة فقلت له: أخوك فلان... يسلم علىك؟ قال: جئتَ من عنده؟ قلتُ: نعم. قال: إذا رجعتَ إليه قل: إلى كم اشتغالك بالدنيا وإلى كم إقبالك عليها، وإلى متى لا تنقطع رغبتُك فيها. فقلت: هذا والله أعجب من الأول. فلما رجعت إلى الشيخ قال: اجتمعت بأخي فلان؟ قلت: نعم وأعدت عليه ما قال. فبكي طويلا وقال: صدق أخي فلان...، هو غسل الله قلبه من الدنيا وجعلها في يده وعلى ظاهره، وأنا أخذها من يدي وعندي إليها بقايا التطلع!. ولقد كان سفيان يحثُّ على الكَسْبِ ويدعو إلى الزهد، ومن حثِّه على الكسب والعمل ما حدَّثَ به مبارك أبو حماد فقال: سمعت سفيان يقول لعلي ابن الحسن فيما يوصيه: يا أخي عليك بالكسب الطيِّب، وما تكسب بيدك، وإياك وأوساخ الناس أن تأكله أو تلبسه، فإنَّ الذي يأكلُ أوساخ الناس مثله مثل علىة لرجل وسفلة ليس له فهولا يزال على خوف أن يقع سفله وتتهدم علىته. فالذي يأكلُ أوساخ الناس هو يتكلم بهوى، ويتواضع للناس مخافة أن يُمسكوا عنه، ويا أخي إن تناولتَ من الناس شيئاً قطعتَ لسانك وأكرمتَ بعض الناس وأهنتَ بعضهم مع ما يَنزل بكَ يوم القيامة؛ فإنَّ الذي يُعطيك شيئاً من ماله فإنَّما هو وسخه (وسخه أي: تطهير عمله من الذنوب)، وإن أنت تناولتَ من الناس شيئا إن دعوك إلى مُنكر أجبتهم. وإنَّ الذي يأكلُ أوساخ الناس كالرجل له شُركاء في شيء ينبغي أن يقاسمهم، يا أخي جوعٌ وقليلٌ من العبادة خيرٌ من أن تشبع من أوساخ الناس وكثير من العبادة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ثُمَّ يَغْدُوَ - أَحْسِبُهُ قَالَ: إِلَى الجَبَلِ - فَيَحْتَطِبَ، فَيَبِيعَ، فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ". [أخرجه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري]. وبلغنا أنَّ عمرَ بن الخطاب قال: (من عمل منكم حمدناه ومن لم يعمل اتهمناه، وقال: يا معشر القرَّاء، ارفَعُوا رءوسَكم ولا تَزيدوا الخشوع على ما في القلب، استبقوا في الخيرات ولا تكونوا عِيالاً على الناس فقد وضح الطريق). ويقول سفيان: (ليس الزهدُ في الدنيا بلبس الخشن ولا أكل الخشن، إنما الزهد في الدنيا قِصَرُ الأمل). ويقول مرةً أخرى فيما رواه وكيع: (الزهدُ في الدنيا قِصَرُ الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا لبس العبا). ومع هذا فإنَّ سفيان يَرى تَهافتَ الناس على الدنيا وذِلَّتهم في طلبها فيحاول ما استطاع أن يَصْرِفَهم عن المهانةِ والذلَّة، وأن يُبيِّنَ لهم خِسَّةَ هَؤلاء الذين يَذِلُّون لشهواتهم ويذلون للأثرياء والأمراء والملوك. ونحن نذكر هنا بعض ما روي عنه في ذلك ولكن لا يعزب عن ذهننا أنه يرى أنَّ الزهد لا يتنافي مع الثراء. وروى عبد الواحد عن سفيان قال: إنما هو اختيار أو اختبار أو عقوبة. قال فحدثت به محموداً أو ناظرته فيه فقلت له: الاختيار ينبغي أن ترضى به والاختبار ينبغي أن تصبر عليه والعقوبة ينبغي أن تتوب منها. وعن يحيي بن يمان قال: كان الثوري يتمثَّل بهذا البيت: باعوا جديداً جميلاً باقياً أبداً بدارسٍ خَلِقٍ، يا بئسَ ما اتَّجروا والدنيا في نظرِ سفيان تمثِّلُها هذه الرؤيا التي رواها إبراهيم بن سعد فقال: سمعتُ سفيان الثوري يقول: أخبرني رجلٌ من الصالحين قال: رأىتُ في مَنَامي عجوزاً شمطاء عليها من كل حلية فقلت: من أنت؟ فقالت: أنا الدنيا فقلتُ: أعوذُ بالله من شَرِّك. فقالت إن أردتَ أن يُعيذَك الله من شري فأبغضْ الدنيا والدرهم. ومن مأثوراته: ما حدَّث به أبو مسلم المستملي قال: «إذا زهدَ العبدُ في الدنيا أنبتَ اللهُ الحكمةَ في قلبه وأطلقَ بها لسانه، وبصَّره عيوبَ الدنيا وداءها ودواءها». ومع كل ذلك وتمشياً مع المبدأ الإسلامي وهو أنَّ الزهد معناه أن لا يُسيطر حبُّ الدنيا على قلب الشخص، وأن لا تستعبدَ الدنيا الإنسان، وأنَّ الإنسان يصح أن يكون من أصحاب الثراء وهو مع ذلك زاهد؛ لأنَّه يتحقق بقوله تعالى: [لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] {الحديد:23}. نقول: إنَّ الثوري لم يكن مُتزمِّتاً في مأكلٍ ولا ملبس، قال وكيع: رؤي سفيان الثوري يأكل الطباهج، وقال: إني لم أنهكم عن الأكلِ ولكن انظر من أين تأكل، وارتحل وانظر على ما تدخل وتكلَّم وانظر كيف تتكلم، كيف أنهاكم عن الأكل، والله سبحانه وتعالى يقول: [يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ] {الأعراف:31} . وأما عبادة سفيان الثوري فيقول فيها مؤمل: ما رأىت عالماً يعمل بعلمه إلا سفيان. وقال أبو أسامة: ما رأىتُ أحداً أخوفَ لله تعالى من سفيان، وقرأ سفيان: [قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ] {الطُّور:26}، فخرجَ فاراً على وَجْهِه حتى لحقوه، واجتمعت بنو ثور على سفيان وهو شاب يُناشدونه مما كان فيه من العبادة، أي أقصر عن هذا». ومن العبادة الذكر والدعاء: روى سفيان الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي الصَّلَاةِ أَنْ أَقُولَ قَالَ: قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لِلَّهِ، فَمَا لِي أَنْ أَقُولَ؟ قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي. فَلَمَّا أَنْ وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إِنَّ هَذَا قَدْ أَصَابَ الْخَيْرَ كُلَّهُ. أَوْ: عَلِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ. وحدَّث محمد بن يزيد بن خنيس قال: كان سفيانُ الثوري يقول كثيراً: «اللهمَّ أبرم لهذه الأمَّة أمراً رشيداً يعزُّ فيه وليُّك، ويذلُّ فيه عدوك، ويعمل فيه بطاعتك ورضاك». وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. المصدر : مجلة الأزهر، (السنة 41، ذو القعدة 1389هـ) الجزء التاسع.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري -5- العلامة عبد الحليم محمود التوحيد والإيمان عند الثوري لقد حاول سفيانُ الثوري طيلة حياته أن تستقيمَ الأمَّة الإسلامية على الطريق الحق، طريق القرآن والسنة، الصراط المستقيم وكما كان يقوم من أجل ذلك بتفسير القرآن ورواية الحديث وشرحه فإنه كان يتحدَّث في التوحيد. ولقد كان سفيان كأمثاله من الإمام مالك وغيره من أئمة الهدى سلفياً. والسلف رضوان الله عليهم لا يتعرضون للمتشابه، والله سبحانه وتعالى يقول: [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ] {آل عمران:7} وإذا فسَّرنا المتشابه بهذا التفسير أو ذاك فإنَّه مما لا شك فيه أن ما يعلو على مستوى الفكر الإنساني وهو ذات الله من المتشابه، ولقد نهينا عن البحث فيها ونهينا عن البحث أيضا في القدر؛ فالقدر من المتشابه أيضا، فالبحث إذن في الذات وفي القدر لا يجري وراءه إلا من في قلوبهم زيغ. وإذا ألغينا البحث في الذات وفي ا لقَدَر زالت الفِرَق التي نشأت بسبب البحث فيهما، وهي فرق المعتزلة وغيرها من الفِرَق التي تكوَّنت حول البحث في الذات والبحث في القدر. ومن جانب آخر إذا انتهينا من أن نجعل للأشخاص شأناً في العقيدة-وهم ليس لهم شأن فيها-انتهت الفِرَق التي تكوَّنت حولهم؛ لأنَّ الأشخاص من حيث كونهم أشخاص لا شأن لهم بالعقيدة، إنهم لا يكونون جزءا منها اللهم إلا الأنبياء باعتبارهم أنبياء ورسلاً. فإذا انتزعنا من البحث والجدل المتشابه وانتزعنا الأشخاص، استقام الأمر-في جانب من جوانبه-بين المسلمين، وهذا هو المذهب السلفي. ومذهب السلف الذي كتب فيه الإمام الرازي كتابه: «أساس التقديس»، وكتب فيه الإمام الغزالي كتابه«إلجام العوام»، والذي كتبَ فيه فأجاد وأفاد الإمام السيوطي كتابه النفيس «صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام» هو مذهب كل محب حقاً للتوفيق بين المذاهب. وفكرة التقريب بين المذاهب لا تقوم للغاية المرجوة إلا إذا ألغينا الجدل في المتشابه والجدل في الأشخاص، أي: أخرجنا من الدين ما ليس منه، ولقد فَرَّق البحثُ فيهما الأمَّةَ الإسلامية دون أن يكون لذلك نتيجة سوي العداوة والبغضاء. وأسباب الفرقة في الأمة الإسلاميَّة من حيث العقيدة ترجع في كثير فيها إلى هذين السببين: المتشابه والأشخاص، فإذا أراد الشخص التقريب فعليه بإزالة الأسباب. ولقد حاول الإمامُ الأشعري التقريب بين المذهب ولن يتأتى أن نجد مذهباً يفوق المذهب الأشعري في ما وفق إليه من تقريب هو في غاية الدقة وفي غاية النفاسة. لقد كان الإمامُ الأشعري غايةً في الذكاء بارعاً في مَنطقه، عالماً علماً، ولقد درس مختلف المذاهب في دقَّة دقيقة ظهرت ظهوراً واضحاً جلياً في كتابه «مقالات الإسلاميين» ومع ما تحلى به من علم ومن إخلاص في نزعة التقريب، ومن لباقة وحكمة في عرض المذهب، فإنَّ مذهبه لم يوحِّد بين الأمة الإسلامية. وإنا ننصح مخلصين كل حريص على وحدة الأمَّة الإسلاميَّة أن يتَّجه في صراحة إلى أسباب التفرُّق فيعمل على إزالتها. وإنَّ المذهب السلفي وحدَه هو المذهب الذي صلح عليه أمر الأمة في أوائلها وعليه يصلح إن شاء الله أمر الأمة الآن. ولقد كان الإمام الثوري سلفياً بمعنى الكلمة، وسنشرح هنا بعض الزوايا -بعضها فقط-من آرائه: لقد سُئلَ: بم عرفتَ ربك؟ فقال: بفَسْخِ العَزْم ونَقْض الهمَّة. يريد الإمام الثوري أن يقول: إنَّ الإنسان لا يقوم وحدَه دون مُهيمن ومُسيطر، بل ومتحكِّم، ولو قام وحدَه لسار في طريقه دون فسخ للعزم، أو نقض للهمَّة، ولكنه يشاهد طيلة حياته أنه يعزم فيتفسخ عزمه، ويهمُّ أحيانا فتنتقض همته لا لسبب منه وإنما لسبب من مُدبِّر قهَّار، لا يعلو على سلطانه سلطان ولا يسمو على تدبيره تدبير هو الله سبحانه وتعالى. أما عن الإيمان فإنَّ سفيان كان يرى كما يرى السلف أنَّه قول وتصديق وعمل، قال أبو بكر الحنفي: سمعت سفيان الثوري يقول: «الصلاة والزكاة من الإيمان، والإيمان يزيد والناس عندنا مؤمنون مسلمون، ولكن الإيمان مُتفاضل وجبريل أفضل إيماناً منك». وعن أبي همام السكوني قال: حدثني أبي قال: سمعتُ سفيان يقول: «لا يستقيمُ قولٌ إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنيَّة! ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنَّة». ويصل الأمر بسفيان في هذا الصدد أن يسأله إبراهيمُ بن المغيرة قائلا: أأصلي خلف من يقول: الإيمان قول بلا عمل؟ فيجيبه سفيان: لا، ولا كرامة. وكان سفيان كالسلف يؤمن بالقدر خيره وشره. لقد قال يوماً: أتدرون ما تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله؟ يقول: «لا يعطي أحدٌ إلا ما أعطيت، ولا يقي أحد إلا ما وقيت». لقد كان هذا قوله، وكان هذا حاله، يقول عطاء الخفاف: ما لقيت سفيان الثوري إلا باكياً، فقلت: ما شأنك؟ قال: «أخاف أن أكونَ في أمِّ الكتاب شقيا». ويروي محمد بن كثير عن سفيان: «ما أحبَّ الله عبداً فأبغضَه، وما أبغضه فأحبَّه». وقال سفيان: «إذ أرادَ الله بعبدٍ خيرا أفرغ عليه السداد، وكنفه بالعصمة». أما موقف سفيان من المكذبين بالقدر فإنَّ أحمد بن عبد الله بن يونس قال: سمعت رجلاً يقول لسفيان: رجلٌ يكذب بالقدر أصلي وراءه؟. قال: لا تقدموه. قال: هو إمام القرية ليس لهم إمام غيره. قال: لا تقدموه، لا تقدموه وجعل يصيح». وطريف ما يروى في ذلك عن سفيان ما رواه محمود الدمشقي قال: جاء رجل إلى سفيان الثوري فشكا إليه مُصيبة أصابته. فقال له سفيان: ما كان بها أحد أهون علىك مني؟ قال وكيف ذلك؟ قال: ما وجدت أحداً تشكو إليه غيري؟. قال: إنَّما أردتُ أن تدعو لي. فقال له سفيان: أمُدبِّر أنت أم مُدَبَّر؟. قال: بل مُدبَّر. قال: فارضَ بما يُدَبَّر لك. ولقد شاعَ في عهد سفيان مذهبُ المُرْجِئَة وهو مذهب مُثَبِّط، ومن أجل ذلك حمل عليه سفيان حملات عنيفة، فقد حدثنا الغرباني قال: سمعت سفيان يقول: ليس أحدٌ أبعدَ من كتاب الله من المرجئة. وعن المؤمِّل بن إسماعيل يقول: قال سفيان الثوري: خالفتنا المرجئة في ثلاث: نحن نقول الإيمان قول وعمل، وهم يقولون الإيمان قولٌ بلا عمل. ونحن نقول يَزيد ويَنقص وهم يقولون لا يزيد ولا ينقص. ونحن نقول مؤمنون بالإقرار وهم يقولون نحن مُؤمنون عند الله. وحدثنا غياث بن واقد قال: سمعتُ سفيان يقول: أرج كل شيء مما لا تعلم إلى الله ولا تكن مُرجئاً، واعلم أنَّ ما أصابك من الله ولا تكن قَدَرياً. قال: وسمعت سفيان يقول: «لقد تركت المرجئة هذا الدين أرق من ثوب سابري» أي: ثوب شفَّاف. ولا يفوتنا هنا أن نُقدِّم نصاً مُعبِّراً رواه الذهبي في التذكرة بإسناده عن شعيب بن حرب، قال شعيب: قلت لسفيان الثوري: حدثني بحديث في السنَّة ينفعني الله به فإذا وقفت بين يديه وسألني عنه قلت: يا رب: حدثني بهذا سفيان فأنجو أنا وتؤخذ. فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. القرآن كلامُ الله غيرُ مخلوق. منه بدأ وإليه يعود. من قال غير هذا فهو كافر. والإيمان قولٌ وعملٌ ونيَّة يَزيد وينقص، وتقدمة الشَّيخين، إلى أن قال: يا شعيب، لا ينفعك ما كتبت حتى تَرى المسحَ على الخُفَّين، وحتى ترى أنَّ إخفاء «بسم الله الرحمن الرحيم» أفضل من الجهر به، وحتى تؤمن بالقدر، وحتى ترى الصلاة خلفَ كلِّ بَرٍّ وفاجر، والجهاد مَاضٍ إلى يوم القيامة. والصبر تحت لواء السلطان. فقلت: يا أبا عبد الله، الصلاة كلها؟ قال: لا، ولكن صلاة الجمعة العيدين، صلِّ خلف من أدركت، وأما سائر غير ذلك فأنت مُخَيَّرٌ، لا تصلِّ إلا خلفَ من تثق به. وتعلم أنَّه من أهل السنة. إذا وقفتَ بين يدي الله فسألك عن هذا فقل: يا رب، حدثني بهذا سفيان الثوري ثم خلِّ بيني وبين الله عز وجل. وخير مُعبِّر عن منهجه ذاك ما حدثنا به يوسف بن أسباط قال: قال سفيان يا يوسف إذا بلغك عن رجلٌ بالمشرق صاحبَ سنَّة فابعث إليه بالسلام، وإذا بلغك عن آخر بالمغرب صاحب سنة فابعث إليه بالسلام، فقد قلَّ أهلُ السنَّة والجماعة. وما رواه يحيي بن عُمر فقال: سمعت سفيان الثوري يقول: من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم أنَّه صاحب بدعة خرج من عصمة الله ووكل إلى نفسه. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. المصدر : مجلة الأزهر، (السنة 41، ذو الحجة 1389هـ )، الجزء العاشر.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري -6- العلامة عبد الحليم محمود المنهج الخلقي عند الثوري لقد حاولَ الفلاسفةُ العقليون أن يرسموا للأخلاق منهجاً، وأن يُقَعِّدوا لها قواعد وأن يضعوا لها موضوعاً يلتزم، وبدأو مُنفصلين عن الدين يتساءلون عن أهداف الإنسان من سلوكه، وأجمعوا على أنَّ هدف الإنسان من سلوكه إنَّما هو السعادة، ثم اختلفوا طرائق ومذاهب في: 1 ـ تحديد السعادة. 2ـ الطريق الموصل إليها. وكان سقراط ـ في التاريخ الواضح ـ من أوائل العقليين الذين بدأوا في تحديد السعادة وفي رسم الطريق الموصل إليها: إنَّها الرضا، والرضا يتأتَّى من تحديد الرغبات بحيث لا يَرغب الإنسان إلا فيما يستطيعه. لماذا يشقى الإنسان؟ لأنَّ له رغبة لم يحققها، فإذا حدَّد كل إنسان آماله ومطامحه ورغباته بحسب استطاعته بحيث لا تتعداها عاشَ سعيداً. وأخفقَ مذهب سقراط حتى عند أخصِّ تلاميذه ـ أفلاطون ـ فقد رسمَ مذهباً للسعادة والسلوك غير مذهب أستاذه، بل رسمَ عدَّة مذاهب حسب تطوره الفكري الذي استمرَّ طيلة حياته في صيرورة مُتتابعة لا تستقر على رأي، ولو طال به الزمن لرسم مَذاهب أخرى غير التي نعرفها عنه. وأخفقت جميعُ مذاهب أفلاطون في النظرة الفاحصة لتلميذه ـ أرسطو ـ فقد حاول أن يَرسم أيضاً مذهباً للفضيلة ومَنهجاً للسلوك من أجل الوصول إلى السعادة، وأخفق مذهبه إخفاقاً بَيِّناً. وهكذا إلى الآن كلما جاء فيلسوف عقلي بنى للفلسفة مذهباً أخلاقياً يرى أنَّه كفيل بسعادة الإنسان فرداً، والسعادة الإنسانيَّة جماعة أو جماعات. بيد أنَّ هذه المذاهب لم تصلْ بالأفراد ولا بالإنسانية إلى السعادة، ولعل الكثيرين ممن يُعالجون هذه الموضوعات يشعرون بالشقاء أكثر من غيرهم. وإذا كانت المذاهب العقلية قد أخفقتْ في رَسْمِ طريق السعادة فإنَّ أهل الإيمان الصادق الذين حقَّقوا إيمانهم سعدوا في حياتهم وعَبَّروا عن هذه السعادة بقولهم مثلاً: نحن في لذَّة لو عَلِمَها الملوك لجالدونا عليها بسيوفهم. وذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى ـ وهو أحكم الحكماء ـ قد حدَّد السعادة وحدَّد الطريق إليها، وضمن لمن اتبع الطريق وسَلَك سبيلَه واستقام على صراطه... ضمنَ له السعادة في هذه الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة، قال الله تعالى: [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {النحل:97}. وقال أيضا: [أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {يونس:64}. وقال أيضا: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ] {فصِّلت:30} . واستجابَ قوم للدعوة إلى ما يحييهم حياةً طيبة فحقَّقوا الرضا والسكينة والطمأنينة. والرضا، والسكينة، والطمأنينة، والحياة الطيبة، وعدم الخوف، وعدم الفزع، وعدم الحزن، والأمن... كل هذه معاني ضَمِنَها الله لمن حَقَّق له العبودية الصادقة. وأراد سفيان الثوري أن تَسير الأمَّة إلى الهدى، وأن تسلك سبيل الله فيتحقَّق لكل إنسان قسطٌ من السعادة بقدر ما يُحقق من خطوات في الطريق. واستمرَّ سفيانُ طيلة حياته يبشِّر بالفضيلة وبالتقوى ويدعو إلى الخير مُلتزماً في كل ذلك السَّنَنَ الديني المستقيم. لقد كان يُبَشِّر بذلك في كلماته وفي مواعظه وفي نصائحه وفي خِطاباته، وكان يُبشِّر بذلك بسلوكه المهتدي تطبيقاً صادقاً. وأجمعُ وصاياه تعبيراً عن منهجه ما أوصى به علياً بن الحسن السلمي فقال: (عليك بالصدق في المواطن كلها، وإياك والكذب والخيانة ومجالسة أصحابها فإنها وزر كله، وإياك يا أخي والرياء في القول والعمل فإنَّه شرك بعينه، وإياك والعُجْبَ فإنَّ العملَ الصالح لا يُرفع وفيه عُجْبٌ، ولا تأخذنَّ دينَك إلا ممن هو مشفقٌ على دينه فإن مثل الذي هو غير مُشفق على دينه كمثل طبيب به داء لا يستطيع أن يُعالج داءَ نفسه، ويا أخي إنما دينك لحمك و دمك، ابكِ على نفسك، وارحمها فإن أنت لم ترحمها لم تُرحم. وليكن جليسُك من يُزهِّدك في الدنيا ويُرَغِّبك في الآخرة، وإياك ومجالسةَ أهل الدنيا الذي يخوضون في حديث الدنيا فإنَّهم يفسدون عليك دينَك وقلبك. وأكثرْ ذِكَرَ الموت، وأكثر الاستغفار مما قد سَلَفَ من ذنوبك، وَسَل الله السلامةَ لما بَقي من عُمُرك. ثم عليك يا أخي بأدب حَسَن، وخُلُق حسن، ولا تخالفن الجماعة فإنَّ الخير فيها إلا من هو مُكبٌّ على الدنيا كالذي يَعْمُر بَيتاً ويخرِّبُ آخر، وانصح لكل مؤمن إذا سألك في أمر دينه، ولا تكتمن أحداً من النصيحة شيئاً إذا شاورك فيما كان لله فيه رضاً. وإياك أن تخونَ مؤمناً، فمن خان مُؤمناً فقد خانَ الله ورسوله، وإذا أحببت أخاك في الله فابذل له نفسك ومالك، وإياك والخصومات والجدال والمراء فإنك تصير ظَلوماً خوَّاناً أثيماً. وعليك بالصبر في المواطن كلها، فإنَّ الصبر يجرُّ إلى البرِّ، والبر يجرُّ إلى الجنَّة، وإياك والحدَّة والغضب فإنَّهما يجرَّان إلى الفُجور والفجور يجرُّ إلى النَّار، ولا تمارين عالماً، وإنَّ الاختلاف إلى العلماء رحمة، والانقطاع عنهم سخط الرحمن. وعليك بالورع يخفِّف الله حسابَك، ودعْ كَثيراً مما يَرِيبك إلى ما لا يَرِيبك تسكن، وإنَّ لله عليك حقوقاً وشروطاً كثيرة يَنبغي أن تؤدِّيَها ولا تكونن غافلاً عنها فإنَّه ليس يغفل عنك وأنت مُحاسب بها يوم القيامة. وإذا أردتَ أمراً من أُمور الدنيا فعليكَ بالتُّؤَدة، فإن رأيتَه مُوافقاً لأمر آخرتك فخذه وإلا فقفْ عنه واسأل اللهَ العافية. وإذا هممتَ بأمرٍ من أمور الآخرة فشمِّر إليها وأسرع من قبل أن يحول بينها وبينك الشيطان، ولا تكونن أكولاً لا يعمل بقدر ما يأكل فإنَّه يُكره لك، ولا تأكل بغير نيَّة ولا بغير شهوة، ولا تحشون بطنَك فتقع جِيفة لا تذكر الله، وإياك والطمع فيما في أيدي الناس؛ فإنَّ الطمع هلاكُ الدِّين، وإياك والحرص على الدنيا؛ فإنَّ الحرص مما يَفضح الناس يوم القيامة. وكن طاهرَ القلب نقي الجَسَد من الذنوب والخطايا، نَقِيَّ اليد من المظالم، سليمَ القلب من الغشِّ والمكرِ والخيانة، خالي البطن من الحَرَام، فإنَّه لا يدخل الجنَّة لحمٌ نبتَ من سُحْتٍ. كفَّ بصرَك عن الناس، ولا تمشين بغير حاجة، ولا تَكَلَمَنَّ بغير حكم، ولا تبطش بيدك إلى ما ليس لك، وكن خائفاً حَزيناً لما بقي من عُمُرِك لا تدري ما يحدث فيه من أمر دينك. أَقِلْ العَثْرة، واقبلْ المعذرةَ، واغفرْ الذنب، وكن ممن يُرجَى خَيرُه ويؤمنُ شرُّه، لا تبغض أحداً ممن يُطيع الله، وكن رحيماً للعامَّة والخاصَّة، ولا تقطع رحمك، وصلْ من قَطَعك، وصلْ رَحِمَك وإن قطعك، وتجاوز عمن ظلمك تكن رفيق الأنبياء والشهداء. وعليك باللباس الخشن تجدْ حَلاوة الإيمان، وعليكَ بقلَّة الأكل تملك سهر الليل، وعليك بالصوم فإنَّه يسد عنك بابَ الفجور ويفتح عليك باب العبادة، وعليك بقلَّة الكلام يَلِنْ قَلبُك، وعليك بطول الصمت تملك الورع، ولا تكونن حريصاً على الدنيا، ولا تكن حاسداً تكن سريع الفهم، ولا تكن طعَّاناً تنجُ من ألسنة الناس. وكنْ رحيماً تكن محبباً إلى الناس، وارضَ بما قَسَمَ الله لك من الرزق تكن غنياً، وتوكَّلْ على الله تكن قوياً، ولا تنازعْ أهلَ الدنيا في دنياهم يحبُّك الله ويحبك أهلُ الأرض، وكن مُتواضعاً تستكملْ أعمال البر، اعملْ بالعافية تأتك العافية من فوقك. كن عفواً تظفرْ بحاجتك، كن رحيماً يترحَّم عليكَ كلُّ شيء. يا أخي: لا تَدَعْ أيَّامَك ولياليك وساعاتك تمرُّ عليكَ بَاطلاً، وقدِّم من نفسك لنفسك ليوم العَطَش، يا أخي فإنَّك لا تَرْوَى يومَ القيامة إلا بالرضا من الرحمن، ولا تدركْ رضوانه إلا بطاعته، وأكثرْ من النَّوافل تُقرِّبْك إلى الله، واجتنب المحارِمَ كلَّها تجدْ حلاوةَ الإيمان. جالسْ أهلَ الورع وأهلَ التقى يَصلح أمرُ دينك، وشاورْ في أمر دينك الذين يخشون الله وسارعْ في الخيرات يَحُل الله بينك وبين المعصية، وعليك بكثرة ذكر الله يُزهِّدك اللهُ في الدنيا، وعليك بذكرِ الموت يُهَوِّن الله عليك أمرَ الدنيا، واشتقْ إلى الجنَّة يوفِّق الله لك الطاعة، وأشفقْ من النار يُهَوِّن الله عليك المصائب. أَحِبَّ أهلَ الجنة، تكن معهم يومَ القيامة وأبغضْ أهلَ المعاصي يحبك الله، والمؤمنون شهودُ الله في الأرضِ، ولا تسبنَّ أحداً من المؤمنين ولا تحقرنَّ شيئاً من المعروف. وانظر يا أخي: أن يكونَ أولُ أمرك تقوى الله في السرِّ والعلانية، واخشَ الله خشيةَ من قد عَلِمَ أنَّه مَيِّتٌ ومبعوث، ثم الحشر ثم الوقوف بين يدي الجبار عزَّ وجل، وتحاسب بعملك، ثمَّ المصير إلى إحدى الدارين إما جنَّة ناعمة خالدة وإما نار فيها ألوان العذاب مع خلود لا موتَ فيه. وارجُ رجاءَ من علم أنَّه يعفو ويعاقب، وبالله التوفيق لا ربَّ غيرُه. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. المصدر :مجلة الأزهر (السنة 42 ، محرم 1390هـ )، الجزء الأول.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |