عناية القرآن الكريم والسنة النبوية باليتيم
ظهَرت عناية القرآن الكريم بشأن اليتيم منذ أن نزَل، إلى أن أكمَل الله دينه، وأتمَّ على المؤمنين تشريعه، فقد أشار القرآن بعناية الله تعالى بنبيه - صلى الله عليه وسلم - له قبل النبوَّة، وهو أحوج ما يكون إلى عطف الأبوة التي فقَدها ولم يرَها فقال -سبحانه-: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} (الضحى: 6)، ثم يطلب منه الشكر على تلك النعمة، وأن يكون شكرها - من جنْسها - عطفًا على اليتيم ورحمة به؛ {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} (الضحى: 9)، كما اعتنى القرآن الكريم باليتامى في جميع نواحي حياتهم، وربَّاهم ليجعل منهم عناصر قوة للمجتمع وأعطاهم -بتشريعاته الشاملة- ما يعجِز عنه أيُّ تشريع سواه.
مَن اليتيم؟
اليتيم في كتب اللغة هو: الفرد من كل شيء، وكلُّ شيءٍ يَعِزُّ نَظيرُه، يقال: بيت يتيم، وبلد يتيم، ودُرة يتيمة، واليتيم من الناس: مَن فقَدَ أباه، ومن البهائم: مَن فقَد أمَّه؛ وذلك لأن الكفالة في الإنسان منوطة بالأب، فكان فاقد الأب يتيمًا دون مَن فقد أمه، وعلى العكس في البهائم، فإن الكفالة منوطة بالأم؛ لذلك كان من فقد أمه يتيمًا.
هو مَن فقد أباه ما لم يبلغ الحُلُم، فإذا بلغ الحُلُم زال عنه اليُتم؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلامٍ»، وقد يُطلق على اليتيم بعد بلوغه لفظ يتيم، وهو إطلاق مجازي، وليس بإطلاق حقيقي، وذلك باعتبار ما كان، كما كانوا يسمون النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو كبير: يتيم أبي طالب؛ لأنه ربَّاه بعد موت أبيه، وكما في قوله -تعالى-: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 2)، وهم لا يُؤْتَوْن أموالهم إلا بعد البلوغ والرشد؛ أي: بعد زوال صفة اليُتم عنهم.
تعرَّضت الآيات في القرآن الكريم له في اثنتين وعشرين آية، ذُكِرت فيها كلمة (يتيم) بالإفراد ثماني مرات، وبالتثنية مرة واحدة، وبالجمع (يتامى) أربع عشرة مرة، ومَن تدبَّر هذه الآيات، وجدها مقسمة إلى أقسام ثلاثة:
- القسم الأول منها: تعرَّض إلى بيان الإحسان إليه، والوصية به.
- والقسم الثاني: تعرض إلى بيان حقوقه الاجتماعية.
- والقسم الثالث: اعتنى ببيان حقوقه المالية.
أولًا: الإحسان إلى اليتيم والوصية به
اليتيم وإن فقد أباه الذي يكفله، وفقد حنان الأب وعواطفه؛ لكنه لم يفقد الرحمة الإلهية، حيث إحاطته بالتشريعات التي تعتني به؛ قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} (النساء: 36)، وقال -تعالى-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8)، وقال: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} (البلد: 14، 15)، وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} (البقرة: 220).
ورعاية اليتيم والمحافظة عليه لا تقتصر على الشريعة الخاتمة؛ بل كانت في الشرائع السابقة لشرعنا، فمن جملة مواد الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل: الإحسانُ إلى اليتامى؛ قال -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} (البقرة: 83).
ثانيًا: اهتمام القرآن باليتيم
شرع له في هذا المجال ما يحقق رعايته كفرد فَقَدَ كفيلَه، فأوصى له بمن يبادله العطف والحنان، والتربية الصالحة؛ ليكون فردًا صالحًا، لا تؤثر على نفسيته حياةُ اليتم، ولا تترك الوحدة في سلوكه انحرافًا يسقطه عن المستوى الذي يتحلَّى به بقية الأفراد، ممن يتنعم بحنان الأبوة وعطفها.
نشأة النبي - صلى الله عليه وسلم
ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نشأ يتيمًا، بيَّن الله -تعالى- له بأنه قد أنعم عليه، وكفله، وأغناه؛ فقال -تعالى-: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} (الضحى: 6 - 8)، وهذه الآيات الكريمة يُستنبط منها ما يحتاجه اليتيم في الحياة الاجتماعية، فهي بمجموعها تشكل بيان المراحل التي لابد للأولياء والمجتمع من اجتيازها؛ للوصول بهذا اليتيم إلى الهدف المنشود، فيستفاد من الآيات أن اليتيم يحتاج إلى:
- المسكن الذي يأوي إليه.
- والتربية الصالحة، بما تشتمل عليه من تأديب وتعليم؛ حتى لا يقع فريسة للضلال.
- والمال الذي يُنفق عليه منه.
فعلى المجتمع الذي يريد أن ينشأ اليتيمُ فيه نشأةً سليمة؛ ليصبح إنسانًا صالحًا سويًّا، تستفيد منه أمَّتُه، أن يوفر له المسكن الآمن، والمال الذي يحتاجه، مع التربية الصالحة، ويمكن ذلك بإنشاء مؤسسات وملاجئ - دور لليتامى - تُعنى بكل ذلك.
الناحية النفسية والاجتماعية
وقد جاءت آيات القرآن الكريم لتراعي اليتيم من الناحية النفسية والاجتماعية؛ لينشأ نشأة سويَّة، فأمرتْ بإكرامه والرفق به، ونهتْ عن قهره وزجره وإهانته؛ قال -تعالى-: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} (الضحى: 9)، وهذه الآية الكريمة خطاب للأمة في شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو القائد؛ لتقتدي به؛ إذ الخطاب للقائد خطاب للرعية، وحاشاه أن يقهر يتيمًا، أو يعبس في وجهه، وهو الذي قال فيه ربُّه - عز وجل -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4).
وقد ذم الله -تعالى- أولئك الذين يهينون اليتيم ولا يكرمونه؛ بل يزجرونه ويدفعونه عن حقِّه، وجعل ذلك من صفات غير المؤمنين المكذِّبين بيوم الدين؛ حتى لا يتشبَّه بهم المؤمنون؛ قال -تعالى-: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الماعون: 1 - 3)، وقال -تعالى-: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} (الفجر: 17).
ثالثًا: اهتمام القرآن باليتيم
من الناحية المالية
عُنيت الآيات في القرآن الكريم عناية عظيمة بالحقوق المالية لليتامى؛ حتى لا يكونوا عرضة للضياع ولسلب أموالهم، وشرعت لهم موارد كثيرة يأخذون منها المال، منها ما في قول الله -تعالى-: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} (البقرة: 177)، وقوله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 215).
فرض لهم نصيبًا من الخُمُس
وفرَضَ لهم الله -تعالى- في قرآنه نصيبًا من الخُمُس، مما يحصل عليه المسلمون من الغنائم التي غنموها من قتال الكفار؛ قال -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأنفال: 41).
فرَضَ لهم نصيبًا من الفَيْء
وفرَضَ لهم نصيبًا من الفَيْء - وهو كل مالٍ أُخِذ من الكفار من غير قتال - قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر: 7).
وجعل لهم أيضًا نصيبًا غير محدد - جبرًا لخاطرهم - إذا حضروا قسمة الميراث، ولم يكن لهم نصيب من هذا الميراث؛ قال - تعالى-: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (النساء: 8)، سواء كان هذا النصيب على سبيل الوصية لهم من الميت فيما لا يزيد على ثلث التركة، أو كان من الورثة؛ إحسانًا منهم لهؤلاء اليتامى وغيرهم ممن ذُكِر في الآية.
جعل لهم نصيبًا من الزكوات والصدقات
وهذا كله بالإضافة إلى ما يستحقه اليتامى من الزكوات إن كانوا فقراء أو مساكين؛ إذ يدخلون في قول الله -تعالى-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 60).
هذا؛ ومشكلة اليتامى الأثرياء ليستْ بأقل من مشكلة اليتامى الفقراء؛ إذ مِن الأيتام مَن لهم من الأموال ما ليس للكبار، مما قد يعرض هذه الأموالَ لجشع الكبار؛ لذا شرع لهم الله -تعالى- في قرآنه ما يحمي هذه الأموال، ويحافظ عليها من جشع الجشعين، وتسلط الأقوياء، كما أولتهم العناية بتوجيه النفوس إليهم في بقية المراحل الحيوية والتربوية، وقد بدا ذلك واضحًا من الآيات العديدة التي راعتْ هذه الجهة، فأكَّدت على احترام مال اليتيم، وعدم التصرف فيه إلا بما فيه مصلحة تعود إليه.
لابد من إكرام اليتيم، وهذا الإكرام يشمل كلَّ صور حفظ اليتيم من ناحية حقوقه الاجتماعية، سواء فيها الإيواء، والإنفاق، والتربية، فمن إكرامه: عدم تركه بلا تربية وتعليم، ومن إكرامه تهذيبه كما يهذِّب الشخص أولاده، فليس المراد بإكرامه إذًا هو الإنفاق عليه فقط؛ بل المقصود كل ما يحقق إكرامه، وبمراعاة تعاليم القرآن هذه، يجد اليتيم اليد الرقيقة التي تحنو عليه، وتمسح على رأسه؛ لتزيل عنه غبار اليتم، وتضفي عليه هالة من العطف والحنان.