التأميم (قصة) - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 19 - عددالزوار : 6084 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4594 - عددالزوار : 1302119 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4139 - عددالزوار : 828819 )           »          معركة.. نافارين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 272 )           »          "عدالة الجرافات".. ظاهرة عدوانية جديدة تستهدف المسلمين في الهند (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 73 )           »          فقد الأحبة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 250 )           »          الوصية بـ (أحب للناس ما تحب لنفسك) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 129 )           »          فضل الرباط في سبيل الله عز وجل (شرح النووي لصحيح مسلم) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 113 )           »          شرح حديث : كل امرئ في ظل صدقته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 117 )           »          تأمّلات في قول الرسول.. "ما نقصت صدقةٌ من مال" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 310 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر > من بوح قلمي
التسجيل التعليمـــات التقويم

من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-08-2022, 11:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,297
الدولة : Egypt
افتراضي التأميم (قصة)

التأميم (قصة)
محمد محمود عبار








جرَتْ عادة الحاج عزت في كل صباح أن يتناول طعام الفطور الخفيف، وبعدها يحتسي الشاي الأحمر، ومن ثم يودع أهل بيته، وينطلق بمركبته الفخمة مودعًا مدينة دمشق بأبنيتها الجميلة وشوارعها النظيفة باتجاه منطقة - حوش بلاس - جنوبًا، حيث يوجد مصنع النسيج الذي تسلم إدارته العامة منذ إنشائه.



ومِن عادته ألا يفتح الراديو (المذياع) لاستماع الأخبار الصباحية، إنما يشغَل نفسه بالتسبيح وأذكار الصباح، عندما كانت الأشجار التي زيَّنت جانبي الطريق تتوارى خلفه راح ذهنه يسبَح في أرجاء الماضي وهو في مقتبل العمر، حيث سافر إلى اليابان.. عمل هناك في التجارة، وصارت له علاقات قوية مع شركات عملاقة، وكان له أخ يصغره.. تغرب إلى أوروبا، وعمل في مانشستر ببريطانيا، وتناوبا معًا الأعمال التجارية بين هنا وهناك، وله إخوة أصغر.



تمثَّلت أمام ناظريه البحار والقفار والجبال والوديان التي قطعها في الزمن المنصرم سعيًا وراء الرزق الحلال.. وهم منحدرون من عائلة شامية محافظة متدينة.. ظل أبناء العائلة محافظين على دينهم، حريصين على نسائهم وعلاقاتهم الأسرية القوية.. واصلين لأرحامهم.. أشياء كثيرة تتراءى له الآن..



عندما جمع الإخوة مبلغًا جيدًا من المال والثروة.. وبالدرجة الأولى ثروتهم البيئة والمجتمع الذي خرجوا منه.. فلا بد من العودة إلى أرض الوطن الغالي.. وقد وقع الإجماع على إقامة عمل محترم في بلدهم كي يستقروا فيه.



بعد التفكير والدراسة والتمحيص.. توصل إلى قرار، وهو الأخ الأكبر، إلى نتيجة راقت للجميع.. إقامة مصنع نسيج أقمشة.. صناعة قديمة في الشام ورائجة، والمصنع الحديث بمعداته وتقنياته سوف يكون متقدمًا وناجحًا بإذن الله وبعد التوكل عليه.



تم اختيار الموقع في هذه المنطقة خارج العاصمة، وهي قريبة جدًّا منها، والمنطقة فيها مصانع ومعامل؛ مثل: مصنع الزجاج العريق، ومصنع ثلاجات وأدوات منزلية، وغيرهما، كذلك المنطقة محاطة بعدد من بلدات الريف الدمشقي؛ مما يسهل وجود العمال.. إنها - حوش بلاس - وهي منطقة زراعية من أراضي داريا الجنوبية.



استخلصت الأرض المناسبة والواسعة التي تتسع المشروع وزيادة، بدأ البناء على أصوله، وجاءت بعده الآلات والمعدات، وتم تجهيز المشروع في فترة وجيزة.. ثم بدأ الإنتاج، مئات العمَّال انضووا في العمل فيه؛ موظفين إداريين وعاملي إنتاج إلى آخره.. كانت البداية منذ ما يقارب خمس سنوات، ونحن حاليًّا صرنا في عام 1960 م وقد أظلت البلادَ الوَحدةُ العربية منذ عامين.



وما أفاق الرجل من شريط الذكريات الذي استغرق به إلا على باب المصنع، لم يُفتَح له الباب على التو كي يعبر بمركبته مباشرة إلى مبنى الإدارة، ثم شاهد هناك عساكر وجيشًا.



يا ستير، استر.. ما الأمر؟! عسى أن يكون خيرًا! إنها لمفاجأة، كثيرًا ما تحدث المفاجآت في الحياة.. أما هذه فيبدو أنها من نوع آخر.. لم يعتَدْه الناس، ولم يخطر على بال.



أشياءُ كثيرة أثارت قلقه.. منها عدم وجود البَوَّاب عند البوابة الرئيسية، ضرب بوق المركبة علَّ أحدًا يأتي يفتح له ويطلعه على مجريات الأمور، أتاه أحد العناصر وأطل عليه من نافذة المركبة:

ماذا تريد؟

ماذا تصنعون هنا؟ مَن أتى بكم؟!

جاءتنا أوامر من الليل بالتحرك إلى هنا.

طيب افتح لي الباب.. أنا صاحب ومدير الشركة.

لا أستطيع.. سأنادي لك الضابط.

أأمنع من دخول مصنعي؟! شيء عجيب.

العسكري يذهب قليلًا، والحاج يحدِّث نفسه.

أما إنها بلطجة.. ماذا يريدون؟ وما الذي حدث؟!



كاد يترجل وينزل ماشيًا، لكن العسكري يعود ويفتح البوابة ويقول له مشيرًا بالدخول:

ادخل.

يدخُل عدة أذرع، ثم يوقفه وبرفقته عناصر آخرون، شكلوا أمامه حاجزًا بشريًّا.

هنا قف.



يطفئ المحرك ويترجل حتى يصبح واقفًا أمام الطوق العسكري:

لِمَ تقفون هكذا في طريقي؟ ما الذي جاء بكم؟ وماذا تريدون؟!

لا أحد يجيبه بشيء، حتى يأتي الضابط يقف قبالته بالنجوم اللامعة على كتفيه:



أيوه.. ماذا تريد؟ ومن تكون؟



أنا ماذا أريد أم أنتم؟ ما الذي جاء بكم؟! هذه أرضنا.. شركتنا.. ملكنا.



لا.. يا سيادة المدير العام، الشركة لم تعُدْ لك.. صارت للدولة.



للدولة.. وكيف؟!



الليلة صدر قانون التأميم.. من سيادة الرئيس، من لهجة المتكلم أمامه عرَف أن الضابط من الإقليم الجنوبي، ثارت ثائرة الحاج عزت وعاد يقول بصوت مرتفع: الرئيس.. وهل الرئيس عبدالناصر له الحق في سلب حقوق الناس؟! هذا مالنا، ومِن عرق جبيننا، نحن رحَّبنا بالوحدة من أجل الوحدة والعروبة والقوة أمام العدو الخارجي، ليس معنى الوحدة سلب أموالنا.. وما جنيناه طيلة عمرنا.. في ساعة.. قاطعه الضابط:

لا ترفع صوتك يا هذا.. قانون صدر وتم كل شيء.. لم يعد لك شيء هنا.. أنصحك بعدم الزيادة في الكلام، ثم أنصحك بالعودة إلى بيتك سريعًا.



هذه شركتي، وأنا مديرها، وعلى العسكر أن يذهبوا من أمامي لأدخل مبنى الإدارة.



لن تستطيع الدخول.. عليك مغادرةَ المكان في الحال.. سيُعيَّن مدير جديد للشركة، وقد يكون من الجيش.. أما حضرتك فإن لم تذهب بإرادتك فبالقوة سوف تذهب.. نحن عندنا أوامر ننفذها وفقط.

يصعد إلى المركبة ويدير المحرك.



الله ينتقم منكم.

الضابط يخاطبه من جديد:

أطفئ السيارة وانزل.. لو سمحتَ.

يترجل مرة أخرى.



نعم.. نزلت.. سأدخل مكتبي؟!

لا.

عندي أغراض خاصة.. أريد أخذها.

ولا أي حاجة.

دع السيارة هنا واذهب.

السيارة.. السيارة سيارتي.

لا.. هي للشركة، وتبقى في الشركة.

ما كل هذا.. والله إن أمركم لعجيب!

ليس لك غير ذلك.. إن تعنَّتَّ فسيكون لنا تصرف آخر معك، هيا اذهب من هنا.. وإن شئت فادع علينا واشتمنا أيضًا.. لكن بعيدًا عن هذا المكان... ثم يقهقه ساخرًا.

يعني أعود ماشيًا على الأقدام؟!

خذلك "تاكسي" أجرة.. فيه "تكاسي" كثير، عاود قهقهته.

لا حول ولا قوة إلا بالله.. حسبي الله عليكم.

قالها بعد أن خفتت ثورة غضبه.



ألقى نظرة وداع أخيرة على مصنعه، ثم استدار ومشى ببطء ميممًا شطر الشارع العريض، احتوته نسمات الضحى الرطبة.. لكنه أحسها تلفح كيانه كليًّا كلهيب مستعر، إنه لا يكاد يصدق ما حدث وما هو فيه.. أهو في حُلم أم حقيقة؟! إن كانت حقيقة فما أشد مرارتها! ولئن كان حُلمًا فسيفيق منه.. وتعود الحياة إلى مجاريها.

دون عناء وجد مركبة الأجرة، ألقى بجسده المرهق على المقعد الخلفي، ودل السائق أين يذهب به.. طيلة الطريق لم يرَ شيئًا أمامه، عيناه تغوصان بدموع محتبسة، وذهنه غارق في لجة صاخبة.

دلف إلى البيت.. ألقى بنفسه على الأريكة الوثيرة..

مدد جسده ليأخذ قسطًا من الراحة.. كي تهدأ أنفاسه اللاهثة، أقبلت مَن كانت له عونًا فيما مضى وستبقى سندًا في الحاضر والمستقبل:

خيرًا.. خيرًا إن شاء الله؟!



لا يجيب بشيء، تعاود بإلحاح:

لماذا عدت سريعًا؟ ما بك؟ عسى ألا يكون بك شيء! يلوح بيده دون أن يقول شيئًا، تبتعد وتغيب قليلًا، ثم تعود وبيدها كأس ماء:

تفضل.. اشرب.



مرة أخرى يلوح بيده، تضع ما بيدها على الطاولة الصغيرة أمامه، ينهض فيقعد جيدًا.. احتسى قليلًا من الماء.. ثم تفوه بكلمات مرتجة:

اف.. افتحي.. المذياع..

حاضر.. لكن ما بك؟ ما الذي حصل، أخبرني بالله عليك..

أنا ما بي شيء.. افتحي المذياع؛ كي نسمع شيئًا.. ثم تعرفين.

بلهفة عارمة هُرعت إلى الراديو تدير مفاتيحه.. لا شي سوى أغانٍ وطنية.. وأغانٍ تصدح تمجد الرئيس.

المحطات الثلاث على ذات النغمات والألحان.. القاهرة.. صوت العرب.. دمشق.

تحامل على نفسه.. نهض وخطَا خطوات.. قلَّب في الراديو حتى استقر على محطة غربية تنطق بالعربية.



دقت الساعة تسع دقات قويات:

أعلنت الساعة التاسعة صباحًا بتوقيت غرينتش.. إليكم نشرة أخبار الصباح، تأتيكم من لندن.. هيئة الإذاعة البريطانية.. رجع إلى مقعده، كذلك امرأته جلست، وأصاخا السمع إلى الأخبار.

في مصر أعلن الرئيس جمال عبدالناصر قانون التأميم، وهو يشمل الشركات والمصانع الكبرى في الجمهورية العربية المتحدة بإقليميها الشمالي والجنوبي، ويكون ساريًا من صباح هذا اليوم...

إذًا هي حقيقة واقعة، وليس حُلمًا، جذب نفسه من أفكار متطاحنة ليعيش الواقع الذي آل إليه في غمضة عين، لنكون واقعيين.. على هدى وبصيرة.. الكمد هنا لا يفيد شيئًا، وقد حصل ما حصل.. ردد قائلًا:

هذا ما حصل اليوم.. راحت الشركة.. صارت في يد الدولة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقَع الخبر على المرأة كالصاعقة، لكنها تمالكت نفسها ألَّا تنهار:

ولي عليهم..



ثم علا صوتها:

الله لا يوفقهم.. الله يخرب بيتك يا عبدالناصر.

الأدهى والأمر.. أنهم أخذوا سيارتي الخاصة.

حتى السيارة أخذوها.. الله يأخذهم عن قريب.. ترفع يدها للأعلى وتشخص ببصرها:

يا رب، انتقم منهم.. يا رب، انتقم من الظالم.

أفاق لنفسه.. أخذ ينهض من كبوته رويدًا رويدًا، قام إليها ممسكًا بيدها:

كفى.. كفى.. لا تحزني.. لنا الله.. الله بالوجود.

أجلسها إلى الأريكة وهو ينظر في عينيها الدامعتين، وإلى الدموع اللامعة على الخدين الورديين.

لا إله.. إلا الله.. محمد رسول الله.

قالتها مع خليط من البكاء والشهقات.

هيا.. كفكفي دموعك واصبري.. إن الله مع الصابرين.. علينا بالصبر والانتظار.. انتظار الفرج.. الحمد لله على كل حال.

بدا متجلدًا، عاد يجتبي شيئًا من قوَّته التي عُرف بها، شد من عزيمته؛ كي يكون قويًّا في مواجهة الشدائد.

عليه ألا ينهار، أو يُظهر ضعفًا في مثل هذا الموقف أمام أهل بيته.

حيال الوضع القائم حاليًّا يجب أن يشد من أَزْرِ كل الذين من حوله.. حتى إخوته لن يجعل الحدث يفتك في نفوسهم.. إنه قوي اليوم مثلما كان قويًّا منذ بداية كفاحه في معترك الحياة.



عاد بنظراته نحو مُحيَّا رفيقة الدرب والكفاح.. فوجده يميل إلى الزرقة والكآبة، فبادرها وهو يصفِّق بيده:

هيا قومي إلى المطبخ اعملي لنا إبريقًا من الشاي.. ولا تبتئسي.. الأمر هيِّن إن شاء الله.

في الحال قامت مستجيبة لطلبه، ومضى هو إلى الهاتف.. يهاتف بعضًا من أقرانه التجار ورجال الأعمال.. يتداولون الوضع القائم في هذا اليوم القاتم.. القائظ.



♦ ♦ ♦ ♦



عبدالناصر يظهر على الشاشة البيضاء يخطب بالمناسبة، صوته يلعلع على محطات إذاعية ثلاث في ذات الوقت، الحاج عزت ينصت مثل غيره من القاطنين في ربوع الشام:

باسم الشعب.. باسم العروبة.. أيها الإخوة المواطنون في سوريا وفي مصر وفي كل الوطن العربي.. من المحيط إلى الخليج.. لقد أصدرنا قانون التأميم.. تأميم الشركات الكبرى والمصانع من أجل الشعب.. من أجل الأمة العربية..

تصفيق حادٌّ ومتواصل.

للقضاء على الإقطاع والاستغلال... يعود التصفيق.

أيها الإخوة المواطنون، يا أبناء العروبة، الإخوة في القومية العربية... يعلو التصفيق والضجيج والصفير.

هذه مكتسبات الشعب.. لقد تحققت آمال الشعوب العربية في الوَحدة والحرية والاشتراكية...

التصفيق ينقطع هنيهة ثم يعود أقوى وأشد.

هذا يوم من أيام الأمة العربية.. لقد انتصرت الشعوب.. انتصار للشعب السوري والشعب المصري.. تحققت الآمال في وَحدة الشعبين، وعادت المعامل للعمال اليوم.. مثلما عادت الأرض للفلاحين حين أصدرنا قانون الإصلاح الزراعي... يستمر التصفيق، وتتعالى الهتافات بحياة الزعيم الملهَم...

مِن أجل عدالة التوزيع للجميع.. قضينا على الإقطاع والرأسمالية...



♦ ♦ ♦ ♦



بعد سماعه مقتطفات من الخطاب الناري الذي ألقاه بالمناسبة إياها بطل القومية العربية... أمسى الحاج عزت على يقين أن ما ذهب لن يعود، فاستدعى أشقاءه في لقاء عاجل لتدارس أمرهم، ووضع خطوط أو رموز أقلام لخطة مستقبلية يعاودون بموجبها ممارسة أعمال تجارية.. لكن خارج البلد الأم الواقع تحت حكم القرارات الجائرة.



أشار هو بأن يذهب أحدهم إلى لبنان بعدما خلُصت من مشاكلها التي تدخل فيها الرئيس عبدالناصر؛ عسى أن يجدوا فيها مستقرًّا ومركزًا تجاريًّا مناسبًا، فتطوع لهذه المهمة شقيقه عبدالهادي.



كذلك استقرت الآراء على الإسراع في إخراج ما لديهم من أموال خارج البلاد.. مثل ما دأب يفعل غالبية رجال الأعمال السوريين.



حذرًا من أن يتبع التأميمَ الحجزُ على الأموال المنقولة وغير المنقولة لأصحاب رؤوس الأموال.. ويؤول كل شيء للدولة، أو النظام القائم الذي يسمى اشتراكيًّا.



غدا الرجل في شبه إجازة، وليخلد إلى الراحة البدنية والنفسية بعد معاناة ليست بالقليلة، يمضي جل أوقاته قاعدًا في البيت، نادرًا ما يخرج مع عائلته في نزهة أو ارتيادًا للأسواق.. قد فقد المركبة الخاصة مع فقدان العمل، ولئن فكر في تملك مركبة أخرى.. فتلك مجازفة.. فلا أحد يدري ما تخبئ الأيام القادمة من أسرار ومفاجآت.



في فترة النقاهة تلك غلب عليه الصمت وقلة الحديث، يشرد ذهنه بعيدًا.. قد يكون هناك إقطاعيون ومستغلون.. ولا ريب أنه يوجد مَن يستغل الناس في قوت يومهم.. وتشغيل الفلاحين بالسخرة، وخاصة في الشقيقة مصر أكثر من سوريا.. هناك مَن يمتلك العزبة والقرية وأهلها معها فيسخرهم لمصالحه الخاصة.. وقد يسحقهم سحقًا، أما نحن فلم نفعل مثل ذلك، نحن بعيدون عن الإقطاع والتشغيل بالسخرة، يوجد عائلات فقيرة نصرف عليها.. نخرج زكاة أموالنا، ونتصدق بقدر ما استطعنا.. آلاف العمال اشتغلوا لدينا.. كنا نعطيهم أجورهم وحقوقهم كاملة.



ما أظن أننا ظلمنا أحدًا، أما نحن آل الدبس فقد ظُلمنا.. ظُلمنا تحت وطأة النظام الاشتراكي الذي جاء به الزعيم.



إنه ظُلم وإجحاف.. أكل أموال الناس بالباطل، قد أتخمنا شعارات وكلمات معسولة حلوة في خطبه الرنانة... مجتمع الكفاية والعدل.. عدالة التوزيع.. المساواة.. حتى المساواة بين المرأة والرجل تكون نواة لإفساد المجتمع، وحين تفسد المجتمعات فعلى الأمة السلام.



المقصود هو تنامي واحتدام الصراع الطبقي، وتوتير العلاقة بين العمال وأرباب العمل.. ودق إسفين الكراهية والبغضاء بين الأُسَر والعائلات، وبذلك يسهل سيطرة الأنظمة السلطوية بعد أن تكون قد جندت عناصر موالية لها من باطن المجتمع وحتى من داخل الأسرة الواحدة.. تنفذ أوامرها، وتحقق أغراضها.. بتطبيق برنامج الجاسوسية العائلية.



الظلم واقع من الدولة.. هكذا تتكون دكتاتورية الدولة حين تقع جميع السلطات في يد أفراد معينين، فيصدر هؤلاء الأفراد أحكامهم دون الرجوع إلى المرجعيات القانونية والدستورية، ومِن ثَم تنتقل من الإقطاعيات الصغيرة المتعددة إلى إقطاعية واحدة كبيرة.. هي إقطاعية الدولة في ظل نظام كهذا، فتتركز الثروة في يد واحدة عندما تتحكم الدولة في رقاب الناس بالباطل، فلننتظر يا أبناء بلدنا ما سيكون في قادم الأيام، وستبدي لك الأيام ما كنت تجهله..



بين الفينة والفينة لا يلبث تعاوده الخواطر:

حين كنا في أرض الاغتراب كان لنا مكانة في تلك البلاد، وهي ليست بلادنا ولا وطننا.. وصار لنا شراكة في شركات هناك.. ولو أنَّا بقينا فيها لما عدا علينا أحد.. أو سلبنا مالَنا الذي جنيناه بعرق جبيننا ولم نرِثْه.. أو نسرقه.

آثرنا العودة إلى مسقط رأسنا.. محيا الطفولة ومرتع الصبا، نقيم فيه مشروعًا صناعيًّا.. فيه تنمية لاقتصاد بلدنا.. نُفيد ونستفيد، ونشغِّل الأيدي العاملة، صناعاتنا، خاصة النسيجية والملبوسات، ذاع صيتها في الوطن العربي وسواه بالجودة والتقنية.

فهل تستمر الجودة على ما كانت عليه؟ وهل يظل الإنتاج بنفس الطاقة على ذات المستوى أم يا ترى يتدنى حين وقع في أيدي موظفين وإداريين لا معرفة لهم ولا خبرة؟!

هذا حديثه الباطني، لا يفتأ يحدث به نفسه، ولا يستطيع البوح به والإعلان عنه إلا لخاصة الخاصة، مرة أو مرتين نفَّس عن كربته على مدى شهر من الزمن الغامض.. حيث مرت تلك الأيام الثقيلة على قرار التأميم الذي أحدث مرارة في قلوب عدد لا يستهان به من رواد الصناعة والتجارة.. أيضًا تواترت الريبة والشكوك عند الكثيرين في المستقبل القريب؛ إذ لا أحد يعرف أسراره، أو يتمكن من تفسير وتحليل ما قد يقع من تطورات أكثر إجحافًا، قد تشمل العديد من الصناعات والأعمال المتوسطة والصغيرة.



♦ ♦ ♦ ♦

بعد تلك الأيام المنقضية على هذا الحال، ذات نهار وقبل أن تحل ساعات الظهيرة طرق بابهم في وقت غير معتاد، قام لفتحه.. فاجأه وقوف شخصين بالباب، أحدهما عسكري تشير أشرطة توشح بها - قميصه - إلى أنه رقيب، والآخر مدني، وكأنه سائق مركبة عتيق.

بادره العسكري بقوله:

عندي لك رسالة من مدير الشركة.



أجابه مستهجنًا:

أي مدير؟ وأية شركة؟!

الشركة المؤممة.. أرسلني إليك حضرة المدير بهذه الفاتورة كي تدفعها...



قاطعه قائلًا:

فاتورة ماذا أدفعها وقد أخذتم كل شيء؟!

السيارة التي كانت معك.. قد تعطلت وأرسلوها للتصليح، وهذا الذي معي سائق، وهو شاهد على ذلك...

حسبي الله عليكم...

عليك دفع الفاتورة.. إليك بها.. يمد يده بالورقة.



يرد عليه ورقته وينهره قائلًا:

ارجع بها إلى سيدك، وقل له: كفاكم ظلمًا وظلامًا...

أنصحك بالاستجابة ودفع القيمة.. ليست كبيرة كلها 1200 ليرة؛ لأنه إن لم تدفعها فلن تكون العواقب سليمة.



يتقهقر نحو بهو البيت:

يا إلهي.. اللهم أجُرْنا من شرهم، ثم يعلو صوته صارخًا:

تعالَوْا يا ناس.. واشهدوا هذه المهزلة.. مهزلة.. يا ناس.. يا عالم... تأتي زوجه مهرولة إليه فتمسك به حين أشرف على الانهيار:

وحِّدِ الله.. ما لك يا حاج؟! طول بالك، ماذا تريدون أنتم؟ اذهبوا من هنا.. وإلا دمرتكم حالًا. الرجلان يبتعدان.



الله أكبر.. ما الذي حدث؟!

الحاج عزت يتهاوى ويسقط على الأريكة، بينما راحت المرأة تحرك رجليه وتشد ساعديه.. فلا تجد فيها حراكًا، فتأكدت أنه أصيب بالشلل، أو ما يسمونه بـ: (الفالج)، راحت تصرخ وتولول.. وتدعو على مَن كان السبب، مختلطًا صوتها مع البكاء والنشيج، بينما تجمع بعض الجيران لإسعافه.

ولله الأمر من قبلُ ومن بعد.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 70.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 69.26 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.36%)]