من ذكريات شهر ذي القعدة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4949 - عددالزوار : 2053166 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4525 - عددالزوار : 1321012 )           »          المنافقون والمنافقات .. خطرهم وصفاتهم في كتاب الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          حكم تخصيص أدعية معينة لكل يوم من أيام رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          حديث موضوع مكذوب حديث يا علي لا تنم قبل أن تأتي بخمسة أشياء لا يصح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          كيف نستعد لرمضـــــان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          تدبر جزء تبارك فضيلة الشيخ/ ماجد الجاسر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          ما يهمكم من معلومات عن بقية شهر شعبان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          ميزة جديدة من واتساب ستمنعك من مشاركة رقم هاتفك المحمول (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          كيف يجنب الآباء أطفالهم من اضطراب fomo ويقللون الاعتماد على وسائل التواصل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-04-2020, 02:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي من ذكريات شهر ذي القعدة

من ذكريات شهر ذي القعدة (2/1)
الشيخ محمد نجيب بنان







الحمدُ لله الذي أعَزَّنا بالإسلام، وأَكْرَمَنا بالإيمان، ومنَّ علينا بأن جعلنا من أمة خير الأنام، سيدنا محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام.

أما بعدُ:
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، إن التاريخ الإسلامي لِيَتِيهَ دلالاً وفخرًا على تواريخ العالم، يتيه دلالاً برجال هم بحق رجالٌ، برجال مضوا ولكن سيرتهم لم تمضِ، مضوا لكن أخبار شجاعتهم وإقدامهم ورجولتهم لم تُنْسَ، كيف تُنْسَى والتاريخُ قد سجلها في سجل محفوظ؟! وضعه في قلبِه خوفًا على أولئك الأبْطال.

والتاريخُ الإسلامي حافلٌ بكثير من أولئك الأبطال، الذين رضعوا وتربَّوا في مدرسة سيد الأبطال، رضعوا منها الشجاعة، وأخذوا عنها الإقدام، فكانوا مثالاً يُحْتَذى، ووجب على مَن جاء بعدهم أن يصنفهم كرجال غَيَّرُوا وجه الزمان، وأضاؤوا صفحات التاريخ.

وما أحلى الحديثَ عنِ الرجال في زمان عزَّ فيه الرِّجال! في زمانٍ لم يبقَ إلا أنصافٌ وأرباع، أو قُل: أشباه الرجال، ولقد ذَكَّرَني شهر ذي القعدة ببطلٍ من أولئك الأبطال، الذين أرجو أن تغير سيرتهم فينا للأفضل، وأن تستنهض هممنا؛ فهم نِبْراسٌ لمن أراد الضياء، وقدوة لمن أراد الاقتداء، فهم خريجو جامعة مَن قَلَّتْ رُوحي أن تكونَ له فداء، سيد المرسلين وإمام الأنبياء، عليه أفضل التحية وأزكى الثناء.

حديثُنا اليوم عن بَطَلٍ من أولئك العِظام، عن بطل قال: لا، في زمن الصمت المخيف، قال: لا، في زمن الخوف الشديد، ولو أنه قال: نعم، لَمَا لامه أحد؛ لكن شجاعته تأبَى ذلك، ودينه يرفض الذُّل والخُنُوع.

إنه المسلم قطز، ولعل الكثيرَ منكم سمع باسمِه؛ لكنه لا يعرف تفاصيل خبره؛ لأن - وبكل أسف - أخبارَ أولئك الأَفْذاذ تهمَّش، ويُسْتعاض عنها بأخبار تافهين وتافهات؛ لكي يُصبح المجتمع برمَّتِه تافهًا.

الأمير قطز اسمه الحقيقي محمود بن ممدود، كان أبوه أحد أُمَراء الدَّولة الخوارزميَّة الإسلاميَّة التي عانتْ كثيرًا منَ التتار، وتصَدَّتْ له في مواقع عدة، وتغلَّبَتْ عليه؛ ولكنها كُسِرَتْ في نهاية الأمر، وكان أمير تلك البلاد (جلال الدين بن خوارزم) قد أَمَرَ بتسيير النِّساء والذرية إلى الهند؛ خوفًا من وقوعهم في الأسْر، وفي الطريق عدا عليهم قطاع طرق من المغول، فقتلوا الرِّجال والنساء والأطفال، وسرقوا الأموال، ولم ينجُ منهم إلا القليل.

وكان فيمَن نجا الطفلُ محمود، نجا منَ القتل ولكنه لم ينجُ منَ الأسْر، فقد ساقوه إلى حلب ليبيعوه في سوق النخاسة على أنه عبد اسمه قطز، وهو الكلب الشرس في اللغة المغولية، وإنما أطلق عليه هذا الاسم لما كان يُرى عليه مِن آثار الشِّدَّة والبأْس، واستقَرَّ به المقام في حلب، ثم بيع إلى دمشق، ثم ذهب إلى مصر، والتقى بعزِّ الدين أيبك، وترقى في المناصب حتى أصبح أكبر قوادِه.

ولما قُتل الأمير (عز الدِّين أيبك)، جلسَتْ بعده زوجته شجرة الدر على عرْش مصر، ولكنها لم تلبث إلا يسيرًا، حتى لحقتْ بزوجِها مقتولة أيضًا، وعندها جلس على كرسي الملك الطفلُ (المنصور نور الدين)، وكان له منَ العمر خمس عشرة سنة، وكان الوصي عليه هو قطز، وكان هو المتصرِّف الحقيقي في أُمُور الدولة، وكانتِ الدولة الإسلامية تَمُرُّ بظروف صعبة.

ورأى قطز أن وجود طفل على كرسي الملك يضعف من هيبة الدولة، ويجعل الجميع يطمع بها، فقرر عزل الطفل والجلوس مكانه، وفعلاً عَزَلَهُ، وجلس على الكرسي، وكان ذلك في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة من عام سبعة وخمسين وستمائة للهجرة؛ أي: قبل وصول هولاكو إلى حلب بأيام.

ومنذ أنْ صعد قطز إلى كرسي الحكم، وهو يُعِدُّ نفسه للقاء التتار الذين يعيثُون في الأرض فسادًا، واستطاع بهذا الهَدَف النبيل أن يقطعَ أطماع المماليك في الوُصُول إلى الحكم، بجمْعهم خلْف هدف واحد، هو وقف زحف التتار ومواجهتهم، فقام بجمْع الأمراء وكبار القادة وكبار العلماء وأصحاب الرأي في مصر، وقال لهم في وضوح: "إني ما قصدت (أي ما قصدت من السيطرة على الحكم) إلا أن نجتمعَ على قِتال التتار، ولا يتأتَّى ذلك بغير ملك، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو، فالأمرُ لكم، أقيموا في السلطة مَن شِئتم"، ورضي القومُ وهدؤوا، وبدأت الاستعدادات للقاء ذلك الجيش.

سعى قطز إلى الوَحْدة مع الشام، أو على الأقل تحييد أمراء الشام، حتى يخلُّوا بينه وبين التتار دون أن يتعاونوا مع التتار ضده؛ ولكن النتائج كانتْ مخزية، فلمْ يُوافِقوا، حتى ولو جعلهم أمراء على الجيش؛ بل إنك لتعجب عندما تعلم أن بعض الأمراء فضَّل أن يكون في صفِّ التتار ضد قطز.

وكانت الدولةُ تعاني من أزمةٍ مالية حادَّة، والخزينةُ خاوية على عروشها، فقد اعتلا عرش مصر ستة ملوك في عشر سنوات، فارتأى القائدُ الحكيم أن يفرضَ ضرائب على الناس؛ لكي يمول بها الحرب، ولكنه لم يكن ليستطيع ذلك إلا إذا حصل على غطاء شرعي، وفعلاً عرض الأمر على الشيخ العز بن عبدالسلام، وطَلَبَ منه فتوى بهذا الخصوص.

فكانتْ فتوى الشيخ تقول: "إذا طرق العدوُّ البلاد وجب على العالَم كلهم قتالهم، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم؛ بشرط ألاَّ يبقى في بيت المال شيء، وأن تبيعوا ما لكم من الممتلكات والآلات، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه، وتتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة، فلا".











إِنَّ المُلُوكَ لَيَحْكُمُونَ عَلَى الوَرَى وَعَلَى المُلُوكِ لَتَحْكُمُ العُلَمَاءُ






وفعلاً امْتَثَلَ قطز الأمر، وَبَدَأَ يبيع ما عنده، وتبعه الأمراءُ والوزراءُ والقوَّاد، وفي هذه الأثناء قدم رسل هولاكو برسالة تهديد ووعيد، يأمره فيها بتسليم البلاد، وجمع القواد ليستشيرهم في الأمْر، فكان مما أشير عليه: أن سلِّم البلاد لتقي العباد والبلاد شرًّا محققًّا، وهوَّنوا عليه الأمر، فقالوا: إن تسليم البلاد في مثل هذه الظروف لا يُعَدُّ عيبًا ولا عارًا، فمن يجرؤ على لقاء ذلك الجيش الغاشم؟!

لكنه قال: لا، - أَلَمْ أقل لكم: إنه رجل قال: لا، في زمنٍ لو قال فيه: نعم، لما لامه أحد؟! - قال: لا، أنا ألقى التتار بنفسي.

ثم راح يخاطبهم، ويقول: لكم زمان تأكلون من بيت مال المسلمين، وأنتم للغزو كارهون! مَن أراد أن يصحبني فليصحبني، ومَن أراد الجلوس فليجلس، وليعلم أنَّ الله مُطّلع على سريرته، وأنَّ خطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين عن القتال.

وكأنه بهذا الكلام الحماسي الصادق أثار حميتهم وغيرتهم، فقالوا: نحن معك - وكيف لا يكونون معه، وهم يرون أنه سيكون في مُقدمتهم، ولا أصدق من أن يجود الإنسان بنفسه؟! - ثم قال لهم وهو يبكي: يا أمراء المسلمين، إذا لم نكن نحن للإسلام، فمَن يكون؟!

وأمر بقطع رؤوس الرسل الأربعة، وتعليقها على أبواب القاهرة - وإيذاء الرُّسل في العلاقات الدولية أمر خطير - وكان ذلك بمثابة صافرة البداية.

وفعلاً أعدَّ نفسه، وهَيَّأَ جُنده للخروج للقاء أعظم جيشٍ على وجه الأرض في ذلك الزمان، لَمْ ينتظرْ دخولهم بل خرج إليهم؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]، وبلاد الإسلام جميعها هي مما يلي هذا البطل، فهبَّ لنجدتها ملبِّيًا نداء الله.

أتَدْرُون إلى أين خرج؟ ولملاقاة مَن قد بَرَز؟

إنه قد خرج للقاء التتار، ذلك الجيش الذي كان يعيث في الأرض فسادًا، للقاء جيش كان إذا دَخَل مدينةً فإنه لا يُبْقِي ولا يذر، ذَهَبَ لِمُلاقاة جيش كان اسمه كافيًا لإدخال الرُّعب في قُلُوب الناس، فيسلِّمون البلاد بِغَيْر حرب، فيُذبحون ذبح النعاج، وكان جيش التَّتار في قمَّة انتصاراته، وفي أحسن حالاتِه النفسيَّة.

وقبل أن نتابعَ الحديث، ربما تجدر الإشارة للحديث عن التتار؛ لكي نكونَ على تصوُّر واضحٍ، ومعرفة صحيحة بقوة هذا الجيش: كان المغولُ قدِ اكْتسحوا البلاد الإسلامية واحدة بعد الأخرى، وهدموا متاريسها وجدرانها، وسووا الطريق أمام جحافلهم المتقدمة غربًا، ما مِن قيادةٍ إسلاميَّةٍ من أواسط آسيا، وحتى أطراف سيناء، إلاَّ وأذعنتْ لهم طوعًا أو كرهًا.

والذي حَدَثَ في بغداد معروف للجميع، ومعروف أيضًا المصير المفجع الذي آلتْ إليه أكبر قُوَّتينِ إسلاميتين في المشرق؛ الخوارزميون في بلاد فارس وما وراء النهر، والعباسيون في العراق، سنوات عديدة والمطاردات الرهيبة لا تفتر بين المغول وبين السلطان الخوارزمي الأخير جلال الدين، حتى كُسِر في آخرها.

أما الإمارات المحلية، فلم يكن مصيرها بأحسن من مصير دول الإسلام الكبرى، بعضها هادَنَ ونافَقَ ودعا إلى السلم، وهو في موقع الضَّعْف والهوان، فلم ينجه ذلك من سيوف المغول، وبعضها الآخر وَقَفَ الوقفة التي تَقْتَضِيها كرامة المسلم، فلقي من صُنُوف الأذى ما يشير إلى بشاعَة الطرائق التي اعتمدها المغول لإلقاء الرُّعْب في قُلُوب الخصوم.

قُتِلَ الكاملُ الأيوبي أميرُ ميافارقين في ديار بكر شرَّ قِتْلة؛ إذ كان المغول يقطعون لحمه قطعًا، ويدفعون بها إلى فمه حتى مات، ثم قطعوا رأسه، وحملوه على رمح، وطافوا به في بلاد الشام.

ووضع الملك الصالح أمير الموصل في دهن ولباد، وأُلْقِي في الشمس حتى تحوَّلَ الدهن إلى ديدان، فشرعتِ الديدان تأكُل جسده، حتى مات على تلك الصورة البشعة، أما ابنه الذي كان طِفْلاً في الثالثة من عمره، فلمْ يسْلم من أذاهم؛ بل أُخِذَ إلى شاطئ دجلة وعلى مرأى الناس جميعاً شقوه إلى نصفين.

ابن الأثير المتوفَّى عام 630 هـ، وهو يستعرض وقائع عام 617 هـ، ويسطر بدايات خُرُوج المغول على بلاد الإسلام، يتحَدَّث عن الهَوْل الذي أَلَمَّ بمعالِم الإسلام، وقد كان في مطالعه، يقول ابن الأثير: لقد بقيت عدة سنين مُعْرِضًا عن ذِكْر هذه الحادثة؛ استعظامًا لها، كارهًا لِذِكْرِها، فأنا أقدِّم إليه رِجْلاً وأؤخر أخرى، فمَنِ الذي يسهل عليه أن يكتبَ نعي الإسلام والمسلمين؟! ومَن الذي يهون عليه ذِكْر ذلك؟! فيا ليتَ أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل حدوثها، وكنتُ نسيًا منسيًّا.

ثم يقول: إنهم لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

كان الهجوم المغولي السريع الكاسح قد منح هؤلاء المغيرين سلاحًا نفسيًّا خطيرًا، هو الرُّعْب الذي كان ينقضُّ على خُصُومهم منَ الداخل، فيهزمهم قبل أن تلمعَ السيوف أمام عيونهم.

يقول ابن الأثير: لقد حكي لي حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله - سبحانه وتعالى - في قلوب الناس منهم، حتى قيل: إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب، وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحدًا بعد واحدٍ، لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس، ولقد بلغني أن إنسانًا منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفًا وقتله به.

ما ذكرته غيض من فيض، من ظلم وجور المغول، ومع كل هذا خرج بطلنا بنفسه ليقاتله، وليكسر شوكته، واثقًا من نصر الله {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7]، صدق الله فصدقه الله.

أما ما حدث في ساحة الوغى فبطولات تشرف سامعها، فضلاً عن فاعلها، ولها لقاء آخر إن كتب الله لنا البقاء:





أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ إِذَا جَمَّعَتْنَا يَا جَرِيرُ المَجَامِعُ






وَكَأَنِّي بالحاضر يجيب:
هَيْهَات أَنْ يَأتِي الزَّمَانُ بِمِثْلِهِمْ.

أقول هذا القول وأستغفر الله.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 12-04-2020, 02:35 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من ذكريات شهر ذي القعدة

من ذكريات شهر ذي القعدة (2/2)
الشيخ محمد نجيب بنان




الحمد لله الذي أعزَّنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ومنَّ علينا بأن جعلنا مِن أمَّة خير الأنام، سيدنا محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام.

أما بعد:
فـ{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7].

إن تنصروا الله على شهواتكم، ينصركم على أعدائكم، بهذا الاعتقاد سار البطل، وبهذه الروح سلَّح جندَه، ولإعلاء كلمة الله تحرَّك، تحرك بطلُنا المغوار؛ ليردَّ شرَّ وكيد التتار، عن المسلمين الأخيار، وهو يعلم أنه إن لم يفعل، فمصيره إلى النار، سار والأملُ بالنصر يحدوه، والشوقُ للقاء ربه يسيِّره.

انطلقَتِ القوات الإسلامية من أرض الكنانة، من معسكر الصالحية في القاهرة، بقيادة سيف الدين قطز، وهم بشوق لذلك اللقاء، لقد أقسموا أن يرى اللهُ منهم خيرًا، وها هم ماضون ليبرُّوا بقَسَمهم، اجتازوا سيناء باتجاه غزة، سالكين الطريق المحاذي للبحر، ودخلوا غزة، آه على غزة! لك الله يا غزة؛ {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

يا أهل غزة، إن نصر الله قريب، فأنتم قد صبرتم، وحاشا أن يتخلى الله عنكم، أما المتخاذلون، فالويل ثم الويل لهم.

وصل الجيش غزة، ولم يكن فيها إلا فرقة صغيرة من جيش التتار بقيادة بيدر، الذي ما أن سمع بجيش المسلمين، حتى أرسل يطلب العون والمدد من قائد الجيش كتبغا، الذي رد على الرسالة بأنه سيرسل المدد لهم، وكان من المقرر أن يذهب كتبغا بنفسه لمساندة بيدر؛ لكن أحداث شغب حصلت في دمشق حالتْ بينه وبين ذهابه.

وفي هذه الأثناء، كان قطز يواصل السير على الساحل الفلسطيني، ثم انعطف إلى الداخل، ومضى شمالاً؛ لتهديد مواصلات كتبغا إذا حدث وتقدَّم إلى فلسطين.

والتقى الجيشان في غزة، وكانت معركة خاطفة، سقط فيها التتار سراعًا، وكان هذا أول انكسار لهم، وأراد قطز أن يبدأ بهذا العدد القليل من الجيش؛ ليرفع من معنويات جيشه، وليثبط من معنويات جيش التتار، الذي هُزم على يد الخوارزميين في غير موقعة - كما أشرنا في الحلقة الأولى - كما هزمهم صاحب ميافارقين أيضًا؛ ولكنهم قد صاروا أسطورة.

ووصل القائد قطز في اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان، إلى منطقة عين جالوت، فاختارها مكانًا للنزال، وساحة للوغى.

وفي اليوم الخامس والعشرين وصل جيش التتار الجرار، يتقدمه كتبغا قائد الجيوش الأعظم، ولم يكن يعلم أن جيش المماليك أضحى قريبًا منه.

وكخطة حربية، أخفى قطز القسم الأكبر من جنده خلف التلال القريبة، ودفع بقطعة من الجيش - وهي المقدمة - بقيادة بيبرس، ووصل بيبرس وحصلت مناوشات بينهما، استطاع بيبرس من خلالها استدراجَ التتار إلى كمين، فما أن بدأ القتال بينهما، حتى أظهر بيبرس انكساره، وبدأ ينسحب، والتتار تتبعهم، وانطلت الفكرةُ عليهم، حتى وصلوا إلى الكمين، فوقعوا فيه، ثم بدأت المعركة شديدةً طاحنة.

ولم تمضِ سوى ساعات حتى بدا تقدم المسلمين، لكن الحرب كرٌّ وفرٌّ، استعاد التتار مواقعهم، وأعادوا ترتيب أوراقهم، وبدأتْ ميمنتهم تضغط - وبشدة - على ميسرة المسلمين، ولو أنهم واصلوا تقدمهم فاخترقوا الميمنة، لاستطاعوا الالتفاف حول المسلمين والقضاء عليهم؛ لكن قطز الواقف على مكان مرتفع يراقب سير المعركة، ويصدر أوامره في كل صغيرة وكبيرة، رأى تقدُّم ميسرة التتار، وانكسار ميمنة المسلمين، فألقى بالقوات الاحتياطية لدعم الميمنة؛ لكن الدعم لم يفلح، والشهداء بالعشرات يتساقطون، فما كان من القائد الشهم البطل إلا أن نزل بنفسه إلى ساحة القتال؛ ليرفع تلك الغمة عن الميمنة، وما أن وصل أرض المعركة، حتى صرخ بأعلى صوته: واإسلاماه!

دوَّى الصوت عاليًا، ووصل إلى كل المعسكر، فارتفعتْ به روحُهم، واطمأنتْ به نفوسُهم، ثم أخذ خوذته وألقى بها على الأرض؛ إشارة لشوقه للشهادة، وأنه لا يخاف الموت، وبدأ يضرب يمينًا وشمالاً، والرؤوس تتطاير أمامه، وحمامات الدم غاصت بها الخيول إلى الركب، وفي هذه الأثناء لمح تتريٌّ الأميرَ قطز، فاستغلَّ نزوله إلى الساحة؛ لكي يقتله، وهو يعلم أن قتل القائد يعني هزيمة جنده (هذا في عرفهم فقط)، فما كان من التتري إلا أن صوَّب سهمه باتجاه قطز ورمى؛ ولكن لحكمة شاءها الله، فإن قطز لم يُصَبْ بأذًى، وإنما أصاب السهم عنق فرسه، فوقع من ساعته، وصار قطز يقاتل راجلاً دون فرس.

رآه أحد الأمراء، جاء إليه وأعطاه فرسه؛ لكنه لم يَقبَله، وقال له: ما كنت لأحرم المسلمين من نفعك، وأُتي له بفرس من الخيول الاحتياطية فرَكِبَه، وتابع قِتاله، فما هي إلا ساعة من نهار، حتى بدا واضحًا التقدمُ الإسلامي، والتراجعُ التتري، وما لبثوا أن وقع ابن قائدهم كتبغا في الأسر، وجيء به إلى قطز، فأمر بقطع رأسه، ووُجد أبوه في القتلى، ففرَّ الجيش وانهزم.

لما انتهت المعركة كلَّموه، فقالوا له: لِمَ لَمْ تأخذِ الفرس؟ لقد كدتَ تُهلك نفسَك والجيشَ! فقال - بكل إيمان -: أما أنا، فأروح إلى الجنة، وأما هذا الدِّين، فإن له ربًّا يدافع عنه ويحميه، ولقد استشهد فلان وفلان، وعمر وعثمان، فقيَّض الله لهذا الدِّين مَن يقوم بأمره، وما ضاع الدين.

ومرَّ العسكر قرب بيسان، فرجع التتر وعاودوا القتال وبشراسة أكبر؛ انتقامًا لقائدهم الذي قُتل، وزلزل المسلمون زلزالاً شديدًا، وأبلوا بلاءً حسنًا، وما هي إلا غمضة عين وانتباهتها إلا والتتار يتراكضون أمام المسلمين تراكض النعاج أمام راعيها، والمسلمون يَقتلون ويأسرون ويجمعون الغنائم، ورأى قطز ذلك المشهد، ففاضتْ عَبرتُه، وسالتْ على الخد دمعتُه، ونزل على الأرض يقبِّلها ويمرغ بها وجهه، وصلى لله ركعتي شكر ومضى.

وكتب السلطان قطز إلى أهالي دمشق يبشِّرهم بالنصر وبفتح الله، وهو أول كتاب ورد منه إلى أهالي دمشق، فاستقبلوا الكتاب فرحين مستبشرين بقرب نصر الله.

وبعد أيام قلائل، توجَّه السلطان إلى دمشق؛ ليتابع ما جاء من أجله، وهو تطهير بلاد الشام من أذى التتار، ووصل دمشق صبيحة يوم عيد الفطر، وهو أحلى عيد مرَّ على أهالي دمشق، استقبلوا فيه المحرِّرَ بالورود والزغاريد، كان يوم سرور، سبقتْه سبعةُ أشهر من القهر والظلم، ذاقها الدمشقيون على يد التتار.

وأرسل قطز بيبرس لمتابعة وملاحقة فلول التتار، فاتَّجه شمالاً حتى وصل حلب، وهي المعقل الشمالي للتتار.

هولاكو في هذه الأثناء، وبعد بلوغه خبر انكسار جيشه، أرسل تعزيزاته وتهديداته لاسترداد حلب؛ لكنه لم يستطع ذلك، وجلُّ ما استطاع هذا الجيش الغاشم فِعلَه هي مجازر قاموا بها قبل انسحابهم من حلب.

وليس من المبالغة أن نقول: إن معركة عين جالوت كانت حاسمة على كل المستويات.

هناك في عين جالوت، وعلى أرض فلسطين الحبيبة، سطَّر إخوانكم ملاحم التضحية والفداء، فرفعوا اسم الإسلام عاليًا، كان ذلك بعد مضي أقل من قرن على معركة حطين.

فلسطين أرض البطولات قديمًا وحديثًا، فلسطين بمخلِصيها لم تركع يومًا، ولن تركع اليوم ولو تخاذل الجميع عنها؛ فهي تعلم أن الله معها، وكفى بمعية الله شرفًا ونصرًا.

وإن الله الذي نصر أولئك الأبطال قادر أن يمنَّ بالنصر على أولئك الشجعان، الذين يسطرون كل يوم للدنيا وللتاريخ وللعالم سطورًا في الشجاعة، لم يعهدها التاريخ من غيرهم، لم ولن يركعوا لغير الله، ومن صان جبهته عن السجود لغير الله، أعزَّه الله.

أنهى القائد أموره وإصلاحاته في دمشق، وعاد أدراجه قافلاً إلى القاهرة، ليلقى منيته هناك؛ {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38]، وآن أوان كتاب ذلك البطل، الذي طالما شمَّ رائحة الجنة وهو في المعركة، وطلبها، لكنه لم ينلها، وحانت ساعة الصفر، فقُتل ذلك البطل بخديعة ومكيدة دبِّرت له؛ ليطوي برحيله صفحةً من صفحات الزمان المشرقة، وحاله تنشد وتقول: غدًا ألقى الأحبة، محمدًا وحزبه.

قتل غدرًا، فخسر روحه؛ لكنه ربح الدنيا والآخرة، وكانت وفاته في منتصف ذي القعدة، فكانت مدة جلوسه سنة إلا قليلاً.

إخوتي في الله:
ما ذكرته هو غيض من فيض من سيرة أولئك الشجعان.

إخوتي:
ارجعوا إلى التاريخ فاقرؤوه؛ لتستفيدوا منه، التاريخ يكرر نفسه، إنها سنن الله في أرضه، سنن ثابتة لا تتغير.

اقرؤوا وسترون العجب، هل تعلمون أنه - ولأول مرة في تاريخ الحروب - يدخل المنتصر في دين المهزوم؟ نعم هذا ما حصل، فبعد معركة عين جالوت، دخل عدد كبير من التتار في دين الإسلام، وكان أول ملوك التتار دخولاً في الإسلام هو بركة خان، وكان معاصرًا لبيبرس، وكان ملكًا على بلاد الروس وبعض أواسط آسيا، وانتشر الإسلام بين قادته وجنده، ودخل أحد أبناء هولاكو في الإسلام، وذلك عندما خالطوا المسلمين، فرأوا منهم كل خير.
معركة عين جالوت مضت وانتهت، لكن فوائدها ودروسها لم تنتهِ.

اللهم أكرمنا بعين جالوت أخرى في القريب العاجل.

لاَهُمَّ قَدْ أَصْبَحَتْ أَهْوَاؤُنَا شِيَعًا فَامْنُنْ عَلَيْنَا بِرَاعٍ أَنْتَ تَرْضَاهُ
رَاعٍ يُعِيدُ إِلَى الإِسْلاَمِ سِيرَتَهُ يَرْعَى بَنِيهِ وَعَيْنُ اللَّهِ تَرْعَاهُ


أقول هذا، وأستغفر الله.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 68.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 66.73 كيلو بايت... تم توفير 2.13 كيلو بايت...بمعدل (3.10%)]