أخلاق الكبار - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         التنمية الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 4 )           »          دراسة مقارنة بين التفسير القرآني المدعوم بالذكاء الاصطناعي والتفسير البشري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          ما آفاق الاجتهاد في الدراسات الإسلامية الغربية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          تجديد الرؤية للعالم يمر عبر اللغة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          مكانة العلم والعلماء في الوعي الذي يؤسسه القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          هل إجازة نهاية الأسبوع من الدين ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          القراءة مشروع المدرسة الحقيقي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          “والله الغني وأنتم الفقراء”: دروس في العطاء من سورة محمد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          قراءة قرآنية لمأساة التقليد الأعمى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          القرآن والنقلة في الوعي الإنساني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-01-2020, 07:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,386
الدولة : Egypt
افتراضي أخلاق الكبار

أخلاق الكبار (2)


الشيخ: خالد السبت



ما زال الحديث موصولاً عن أخلاق الكبار، أصحاب النفوس الكبيرة، الذين يحلقون عاليا، ويترفعون عن الدنايا وسفاسف الأمور، وذكرنا في المقال السابق أهمية هذا الموضوع، وشدة الحاجة إلى مذاكرته لكثرة الغفلة عنه، ولاشك أننا لو تحلينا بهذه الأخلاق لاستطعنا أن نكسب كثيرًا من القلوب، ونحن قد نتعامل مع بعض الذين نختلف معهم من المسلمين تعاملا فظًا غليظًا؛ فنكون بهذا أشداء على أهل الإيمان، والله وصف أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بأنهم: {رحماء بينهم}، والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه}.
فهذا عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين، قال في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين في غزوة المريسيع: «ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول سمن كلبك يأكلك»، ويقول ظنا أن خزائن السموات والأرض بيده : «لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا»، يقول: «أنتم الذين آويتموهم وأطعمتموهم، فلا تنفقوا عليهم من أجل أن يتفرقوا عن بلادكم ويبحثوا عن بلد آخر تؤويهم»، فهذا من أصحاب النفوس الصغيرة ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب نفس كبيرة؛ لما مات هذا المنافق ذهب إلى قبره، وأعطى ابنه قميصه ليكفنه فيه، وقام على قبره يستغفر له حتى نهي عن ذلك، وهذا لا يفعله إلا أصحاب القلوب الرحيمة الواسعة الكبيرة.
الفرق بين الولاء والبراء حظ النفس
وليس معنى ذلك تمييع قضية الولاء والبراء، بل هي أصل ثابت، ولكن يجب أن نفرق بين الولاء، والبراء، وبين حظ النفس، فالولاء والبراء ثابت في القلب، وأما النفس فدعها خلف ظهرك، لا تنتصر لها، ولا تقف عندها، والكبار لا يليق بهم أن يدوروا حول أنفسهم، حقدا على هذا، ومشكلة نفسية مع هذا، وقضية شخصية مع ثالث؛ فهذه النفسية لا تصلح أن تكون نفسية داعية، وهذا يفسد أكثر مما يصلح.
إني قد أحللتك
لما مرض شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله- مرض الوفاة في السجن، وقد منع عنه كل شيء، حتى الأقلام والأوراق؛، لكي لا يؤلف بتحريض من هؤلاء المبتدعة، من شيوخ الضلالة، ومن الحسدة، كأن بعضهم قد تحرك ضميره، فجاء إلى شيخ الإسلام في السجن يعتذر إليه، ويلتمس منه أن يحلله، لكنَّ شيخ الإسلام لم يقل: الآن! هيهات أن أعفو عنك، أبدا ما قال شيئا من ذلك، بل قال: «إني قد أحللتك وجميع من عاداني، وهو لا يعلم أني على حق»، وقال: «إني قد أحللت السلطان الملك الناصر من حبسه إياي، كونه على ذلك مقلدا غيره، فَمثْله يتقطع قلبه من الغل لا ينام الليل، وليقتص منهم، ولم يتشف من هؤلاء الأعداء، يموت في السجن وهم يشمتون فيه.
الآن يتم الانتقام
بل أكثر من هذا وقع للملك الناصر انقلاب؛ فذهب عليه ملك، وكان الذي قام بهذا الانقلاب ملك يقال له: المظفر ركن الدين بيبرس، وكان هؤلاء العلماء، والفقهاء، والقضاة، والحسدة الذين لم يألوا جهدًا لشيخ الإسلام ابن تيمية، كانوا قد التفوا حول هذا الملك الجديد، وصاروا حاشية له، وأداروا ظهورهم للأول؛ فتركوه وتوجهوا من جديد إلى الملك الجديد، ثم استطاع الملك الناصر أن يسترد ملكه من جديد؛ فجاء وجلس على سرير ملكه، وأحضر هؤلاء القضاة، والعلماء، والفقهاء، وأجلسهم بين يديه، وقد طأطؤوا رؤوسهم، لا يدرون ماذا سيصنع بهم، وبينما هم كذلك؛ إذ طلع عليهم رجل من بعيد لم يميزوه في بادئ الأمر فلما اقترب؛ فإذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي كان في السجن قد أمر الملك بإخراجه من جديد ودعاه إلى مجلسه؛ فأسقط في أيديهم، وقالوا: الآن يتم الانتقام.
فتاوى تحريضية
فقام الملك يمشي إلى شيخ الإسلام توقيرا له، ولم يكن من عادته ذلك، هو يجرجره من سجن إلى آخر، ثم عانقه وأخذه إلى شرفة وناحية في القصر، وجلس يتحدث معه سرا، قال له: ما تقول في هؤلاء؟ يقول شيخ الإسلام: فعلمت أنه قد حنق عليهم، وأنه أراد أن ينتقم لنفسه، يقول: فشرعت في مدحهم، والثناء عليهم، وشكرهم، وأنهم لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، ولا قيام لملكك، إلا بهم فهم قضاة البلد وفقهاؤهم يقول: فأخرج لي أوراقا وقراطيس من جيبه، فيها فتاوى بخطوطهم يقول: انظر ماذا قالوا فيك، كفروك، وأفتوا بقتلك، لو كان الإنسان صاحب نفس صغيرة لانتقم لنفسه؛ فماذا قال شيخ الاسلام: أما أنا فهم في حل من جهتي، قد عفوت عنهم، ثم بدأ شيخ الإسلام بعد ذلك يبث علمه في المساجد، وكثر أتباعه وناصروه ومؤيدوه.
لا أحب أن يؤذى أحد من المسلمين
وبدأ أولئك الذين يتحركون في الكيد له، ويطمعون بالنيل منه، بدؤوا يتلطفون له ويعتذرون إليه من سابقتهم؛ فماذا كان يقول؟ قد جعلت الكل في حل مما جرى، وكان يقول: «ليُطوَ هذا البساط»، وكتب رسائل إلى أصحابه وإخوانه في دمشق، يذكرهم بهذا المعنى يقول: أول ما أبدأ بما يتعلق بي؛ فتعلمون أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين، فضلا عن عموم أصحابنا بشيء، لا باطنا، ولا ظاهرا، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم, بل لهم عندي من الكرامة، والإجلال، والمحبة، والتعظيم، أضعاف أضعاف ما كان كل بحسبه، ولا يخلو الرجل، إما أن يكون مجتهدا مصيبا، أو مخطئا مذنبا؛ فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد؛ فمعفو عنه مغفور له.
ما رأينا مثل ابن تيمية
يقول: وقد أظهر الله الحق وبينه، فلا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كذبه عليَّ أو ظلمه وعدوانه؛ فإني قد أحللت كل مسلم، وإني أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمنٍ من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا أو ظلموا فهم في حلٍ من جهتي، وأما في حق الله؛ فالله يتولى الجميع إن شاء غفر لهم، وإن شاء عاقبهم، يقول ولو كان أحد يشكر على سوء صنيعه، لشكرت هؤلاء على سوء صنيعهم معي؛ فمن منا يفعل هذا؟ من منا يتعامل مع الخصوم بهذه الطريقة؟؛ ولذلك كان ابن مخلوف يقول وهو عدوه المالكي الذي ذكرته آنفا -كان يقول-: «ما رأينا مثل ابن تيمية، ما تركنا شيئا في السعي فيه، ولمَّا قدر علينا عفا عنا». بهذا نستطيع أن نكسب قلوب الناس، بهذا نستطيع أن نكسب قلوب الأعداء، فضلا عن الأصحاب والأصدقاء.
سرعان ما ينفرط العقد
حينما يكون حول العالم، أو الداعية، مجموعة من طلابه وتلامذته؛ فيتعامل معهم بطريقةٍ يتعلق فيها بحظوظه النفسية الخاصة؛ فإن هؤلاء لا يمكن أن يصبروا على الاستمرار والمداومة معه، ولا يمكن أن يُنتجوا عملا تنتفع به الأمة؛ لأن هؤلاء سرعان ما ينفرط العقد، ويتفرقون ويتحولون إلى أعداء، بل إن شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله- انفرد به بعض أهل البدع في ناحيةٍ من نواحي القاهرة؛ وضربوه، وشتموه؛ فتسامع الناس بذلك؛ فخرج كثير من الأمراء، والقادة، والجنود، والعامة، والوجهاء، يبحثون عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-؛ فوجدوه في مسجد على البحر، وتتابع آخرون يتلاحقون ويتسامعون؛ فاجتمعوا عنده، وقالوا له: يا سيدي قد جاء خلقٌ من الحسينية لو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا!
ليس الأمر كما تزعمون
فماذا قال لهم؟ هل قال لهم؟ نعم أنتم الذين تعرفون قدر علمائكم، ولا خير في أمة لا تعرف قدر علمائها، هؤلاء أهل بدع وضلالات أحرقوهم وأريحوا الناس منهم، ما قال هذا الكلام، القضية تتعلق بشخصه هو؛ فماذا قال؟ قال لهم لأي شيء؟ قالوا لأجلك، قال لهم: هذا لا يحق، قالوا نحن نذهب الى بيوت هؤلاء الذين آذوك؛ فنقتلهم ونخرب دورهم؛ فإنهم شوشوا على الناس؛ فرفض ثم أعادوا الكرة بثوب آخر أنهم أثاروا فتنه وشوشوا على الناس؛ فقال هذا لا يحل؛ فقالوا: فهذا الذي فعلوه بك هل يحل؟ ولابد أن نذهب إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا؛ فكان ينهاهم ويزجرهم عن ذلك؛ فلما أكثروا عليه، قال: إنما يكون الحق لي، أو لكم أو لله؛ فإن كان الحق لي فهم في حل؛ فإن لم تسمعوا مني ولم تستفتوني؛ فافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله؛ فالله يأخذ حقه كيف شاء؛ فقالوا له: هذا الذي فعلوه بك هل هو حلال؟ قال هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه، قالوا: فتكون أنت على الباطل وهم على الحق؟ فقال ليس الأمر كما تزعمون؛ فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين؛ ففعلوا ذلك باجتهادهم والمجتهد المخطئ له أجر! ناس يضربونه ويشتمونه، ويؤذونه ببدنه، ومن أهل الضلالات والأهواء والبدع، ويقول: إنهم قد يؤجرون! أين نحن من مثل هؤلاء؟
أنا لا أنتصر لنفسي
بل خرج عليه رجل من المبتدعة؛ فانفرد بشيخ الإسلام في محلةٍ وناحية، ولم يكن هناك أحد فأساء الأدب إليه وأسمعه ما يكره وشتمه؛ فعلم الناس بذلك، وبدؤوا يأتون NgD شيخ الإسلام، يريدون الانتصار له؛ فسمع ذلك الرجل؛ فبدأ يتلطف ويرسل الوسائط، يظن أن شيخ الإسلام سينتصر لنفسه؛ فكان شيخ الإسلام يرد بعبارةٍ مختصرة، يقول: أنا لا أنتصر لنفسي، يعني دعوا هذا الرجل يطمئن، ويرتاح، وينام قرير العين، أنا لا أنتصر لنفسي.
العقيدة والمنهج
هؤلاء قومٌ يختلف معهم شيخ الاسلام في مسائل تتعلق بالعقيدة والمنهج، أما الخلاف في المسائل الفرعية؛ فهذا يكون الحكم فيه كما سبق سعة الصدر، وهو أحرى بذلك وأولى؛ لأن الخلاف في المسائل العلمية الاجتهادية الفرعية، أمر سائغ ولا يلحق المخالف فيه تضليلٌ ولا تبديع، ولا ينسب إلى هوى إذا كان يقصد الحق، والناس لطالما اختلفوا في مسائل الاجتهاد ولكن أصحاب النفوس الصغيرة، لربما احتدم النقاش معه؛ فصار يلقاك بوجه آخر وابتسامةٍ مائلة من شقٍ واحد، يُضمر لك ضغينةً، ويحمل عليك في نفسه؛ لأنه قد اختلف معك في مسألة من مسائل الفروع.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 10-01-2020, 07:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,386
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أخلاق الكبار

أخلاق الكبار (3)



الشيخ: خالد السبت



ما زال الحديث موصولا عن أخلاق الكبار -أصحاب النفوس الكبيرة- الذين يحلقون عاليا ويترفعون عن الدنايا وسفساف الأمور، وذكرنا في المقال السابق نماذج من أصحاب هذه النفوس الكبيرة، واليوم نستكمل الحديث عن هذه النماذج.

الشافعي -رحمه الله- يقول عنه يونس الصدفي: ناظرته يوما -وهو يصفه بقوله: ما رأيت أعقل من الشافعي- في مسألة ثم افترقنا، ولقيني ثم أخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟
مثال عجيب
وخذ هذا المثال الآخر العجيب العالم الوزير ابن هبيرة -رحمه الله- نال العلم والفقه والوزارة معا، وكان له مجلس حافل بالعلماء من أرباب المذاهب الأربعة، وبينما هو في مجلسه؛ إذ ذكر مسألةً من مفردات الإمام أحمد «يعني أن الامام أحمد تفرّد في هذه المسألة عن الأئمة الثلاثة الشافعي ومالك وابي حنيفة»؛ فقام فقيهٌ من فقهاء المالكية يقال له محمد الأشيري فقال: بل قال بهذا الإمام مالك، فقال أبو هبيرة -رحمه الله- هذه الكتب وأحضرها وإذا هي تنص على أن هذه المسألة من مفردات الإمام أحمد، فقال أبو محمد الأشيري، بل قال بذلك الإمام مالك، فتكلم العلماء الذين حضروا هذا المجلس وقالوا بل هي من مفردات الإمام أحمد، فقال: بل قال بذلك الإمام مالك، فغضب ابن هبيرة وقال أبهيمةٌ أنت؟ أما تسمع هؤلاء العلماء يصرّحون بأنها من مفردات الإمام أحمد والكتب شاهدة بذلك ثم أنت تصر على قولك.! فتفرق المجلس، فهب أنك في هذا المجلس أحد الطرفين في مكان ابن هبيرة أو في مكان الأشيري، وقال لك أبهيمةٌ أنت؟ هل ستلقاه بعدها؟ هل ستأتي مجلسه؟، هل ستحضر معه؟، هل تنام تلك الليلة؟ هل تفكر بالرجوع اليه؟
فليقل لي كما قلت له
فلما انعقد المجلس في اليوم الثاني، جاء الفقيه المالكي وحضر كأن شيئا لم يكن، وجاء ابن هبيرة وجاء العلماء فأراد القارئ على عادته أن يقرأ ثم يعلق الوزير ابن هبيرة، فقال له قف فإن الفقيه الأشيري قد بدر منه ما بدر بالأمس، وإنه حملني ذلك على أن قلت له ما قلت فليقل لي كما قلت له فلست بخيرٍ منكم، ولا أنا إلا كأحدكم.! فكيف كان أثر هذه الكلمات؟! فضج المجلس بالبكاء، تأثروا جدا بهذه الأخلاق العالية والرفيعة، وارتفعت الأصوات بالدعاء والثناء، وجعل هذا الخصم الأشيري يعتذر ويقول: أنا المذنب، أنا الأولى بالاعتذار، والوزير ابن هبيرة يقول القصاص القصاص، فتوسط أحد العلماء وقال يا مولانا إذا أبى القصاص فالفداء فقال الوزير حكمه يحكم بما شاء، احكم بما تريد، فقال هذا الفقيه نِعمُك علي كثيرة فأي حكمٍ بقي لي؟ فقال قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الافتئات عليك، فقال عليَّ بقية دين منذ كنت بالشام، فقال الوزير ابن هبيرة يعطى مائة دينار لإبراء ذمته وذمتي، فأحضر له المال، وقال له ابن هبيرة عفا الله عنك وعني وغفر الله لك ولي!
هل نحن كذلك؟
هل نحن كذلك؟ إذا كنا في مجلس وحصلت قضية مثل هذه كيف ستكون نتائجها؟ عداوة إلى يوم الدين، والقلب يتقطع والنفس حرقة على هذا الإنسان نسأل الله العفو والعافية. كلمات لم يخسر فيها شيء، بل ازداد بها رفعة، بل نحن نتحدث عنها بعد قرون وبعد مئات السنين، لو أنه بقي مع نفسه فكيف يكون حال هذه الصلة والعلاقة؟
ترفعوا أيها الإخوان
ترفعوا أيها الإخوان ارتفعوا، وحلقوا، فالنفس يجذبها الطين فتجردوا من الأهواء والحظوظ النفسانية، هذا في مسائل العلم، أما في أمور المعاش والعلاقات الاجتماعية والتجارية وغير ذلك مما يعافسه الإنسان صباح مساء ولابد أن يجد فيه ما يجد من هضمٍ في حقه ومظلمةٍ وإساءةٍ وكلمةٍ ربما لا يتحملها كثيرٌ من الناس، فكيف يصنع؟ اسأل نفسك أنت لا تبحث في ذهنك وتذهب إلى إنسان آخر، اسأل نفسك ما موقفك حين يبلغك أن فلانا يتكلم في حقك ويقع في عرضك كيف تصنع؟ هل تعزم على عداوته ومقاطعته؟
وصية عظيمة
الشافعي -رحمه الله- يوصينا بوصية في هذا المقام يقول: إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره العداوة «لا تحكم مباشرة فتتخذ إجراء وتقطع الولاية فتكون ممن أزال يقينه بشك، فالثقة حاصلة متيقنة وهذا شكٌ عارض فلا يذهب اليقين بالشك»، ولكن قابله وقل له بلغني عنك، واحذر أن تسمي له المبلغ؛ فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر، ولا تحصره في زاوية ضيقة كما يفعل بعض الناس، لا تفعل، وإنما قل له أنت أصدق وأبر عندي، ولا تحقر وتجاوز ذلك.
ثم يقول: وإن اعترف بذلك ورأيت له وجها لعذر، فاقبل منه، وإن لم تر له عذرا، فقل له ماذا أردت بما قد بلغني عنك؟ فإن ذكر ما له وجه من عذر، فاقبل منه، وان لم تر له وجها من العذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة وزلة، ثم أنت بعد ذلك بالخيار إن شئت كافأته بمثلها من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه والعفو أقرب للتقوى، وأبلغ في الكرم؛ لقول الله -تعالى-: {وجزاء سيئة سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله}؛ فإن نازعتك نفسك بالمكافئة ففكر فيما سبق منه لديك من الإحسان فعده، ثم ابدر له إحسانا بهذه السيئة ولا تبخسن باقي إحسانه السالف بهذه السيئة؛ فإن ذلك الظلم بعينه يا يونس (ويوصي بذلك يونس الصدفي).
اتخاذ الصديق صعب
إذا كان لديك صديق فشد بيديه؛ فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهلة، وقد صدق رجاء ابن حيوة -رحمه الله- حين قال: «من لم يؤاخِ إلا من لا عيب فيه قلَّ صديقه، ومن لم يرض من صديقه إلا الإخلاص له دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه»، والإنسان ظلوم لنفسه جهول، لابد أن تصدر منه أخطاء؛ فإذا كان ينقر معك على كل قضية وكل مثل، فهذا لا شك أنه أمر صعب، سل نفسك ما موقفك ممن وشي بك وشاية سيئة وأراد الإيقاع بك والإساءة اليك؟
جارية صفية
هذه صفية أم المؤمنين -رضي الله عنها- لها جارية ذهبت إلى عمر متبرعة بوشاية وكانت صفية بنت حيي من اليهود وأسلمت، وتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي من أمهات المؤمنين، في خلافة عمر، ذهبت جارية لها إلى عمر تقول: إن صفية تحب السبت وتصل اليهود ، هذه تهمة تعني أنها ما زالت تحتفظ بلوثة يهودية، والسبت هو عيد اليهود ومعنى ذلك أنها تعظمه، فلم يعجل عليها عمر، ولم يقبل هذه الوشاية على أنها حقيقة ثابتة، ولكنة استدعى صفية وسألها عن ذلك؛ فقالت: أما السبت فلم أحبه منذ أن أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحما فأنا أصلها، ثم قالت للجارية ما حملك على ذلك, قالت: الشيطان, قالت: اذهبي فأنت حرة، ما أرادت أن تنتقم لنفسها!
ابن مسعود - رضي الله عنه
أما ابن مسعود ومن كان على شاكلته من أصحاب النفوس الكبيرة، خرج من بيته ووضع النقود في طية من طيات عمامته، وجلس عند بائع فاشترى منه طعاما، ثم أراد أن يخرج النقود فوجد أنها قد سرقت، فقال ابن مسعود لقد جلست وإنها لمعي! فتجمع مجموعة من الناس لمناصرته وإبداء المشاعر والأحاسيس، ويواسونه بهذا المصاب الذي وقع عليه، فجعلوا يدعون على هذا السارق: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، وجلس كل واحد منهم يدعو. أما ابن مسعود فقال: «اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه». لم يدعُ عليه بأي شيء، وإنما دعا له؛ فأصحاب النفوس الكبيرة يتذكرون في هذه المواقف قول الله تعالى-: {ادفع بالتي هي أحسن}؛ فهذا شعارهم.
عمر بن عبد العزيز -رحمه الله
عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خامس الخلفاء الراشدين مرض مرض الوفاة فسأل مجاهدا: ما يقول الله في مرضي؟ فقالوا: يقولون مسحور، ثم دعا غلاما فقال: ويحك ما حملك على أن سقيتني السم؟ فقال: ألف دينار أعطيتها وأن أعتق؛ فقال: هاتها فأخذها ووضعها في بيت المال ثم قال له: اذهب فأنت حر، لا يراك أحد، وهذا هو الخليفة ويعرف أنه هو الذي فعل هذا واعترف، فماذا فعل به؟ قال له اذهب فأنت حر.
الإمام مالك -رحمه الله
والإمام مالك -رحمه الله- ضرب وجلد حتى تخلعت يداه، وكان يصلي مسدل اليدين؛ مما يجد من الألم، فلما جاء المنصور الخليفة العباسي إلى المدينة أراد أن يتجّمل عند الإمام مالك، فطلب إليه أن يقتص ممن حبسه وضربه وهو جعفر بن سليمان فماذا قال الإمام مالك؟ قال: «معاذ الله، ما قال هذا من الظلمة، نقتص منه ونؤدبه، الكبير لا ينتقم لنفسه، ولهذا ما انتقم النبي - صلى الله عليه وسلم - لنفسه قط».


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 67.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 65.08 كيلو بايت... تم توفير 2.13 كيلو بايت...بمعدل (3.17%)]