الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله - الصفحة 19 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4473 - عددالزوار : 954027 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4008 - عددالزوار : 476409 )           »          الفساد الفكري.. وانتحار الأمم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          الغرب والعرب والصناعات العسكرية الصهيونية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 7839 )           »          8 معاول لهدم الحياة الزوجية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 89 )           »          صفــات المعـلم المـؤثر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          همسات تربوية مع عام دراسي جديد..! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 72 )           »          الاعتدال فضيلة أخلاقية واقتصادية! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 229 - عددالزوار : 26379 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #181  
قديم 17-10-2022, 04:48 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,268
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (181)
صـ71 إلى صـ 80





وإذا كان كذلك لم يدل على وضع الاختلاف شرعا ، بل وضعها للابتلاء فيعمل الراسخون على وفق ما أخبر الله عنهم ، ويقع الزائغون في اتباع أهوائهم ، ومعلوم أن الراسخين هم المصيبون ، وإنما أخبر عنهم أنهم على مذهب واحد في الإيمان بالمتشابهات علموها أو لم يعلموها ، وأن الزائغين هم المخطئون; فليس في المسألة إلا أمر واحد لا أمران ، ولا ثلاثة ، فإذا لم يكن إنزال المتشابه علما للاختلاف ، ولا أصلا فيه .

وأيضا لو كان كذلك لم ينقسم المختلفون فيه إلى مصيب ومخطئ ، بل كان يكون الجميع مصيبين; لأنهم لم يخرجوا عن قصد الواضع للشريعة; لأنه قد تقدم أن الإصابة إنما هي بموافقة قصد الشارع ، وأن الخطأ بمخالفته ، فلما كانوا منقسمين إلى مصيب ومخطئ دل على أن الموضع ليس بموضع اختلاف شرعا .

وأما مواضع الاجتهاد فهي راجعة إلى نمط التشابه; لأنها دائرة بين [ ص: 72 ] طرفي نفي وإثبات شرعيين; فقد يخفى هنالك وجه الصواب من وجه الخطأ .

وعلى كل تقدير إن قيل بأن المصيب واحد; فقد شهد أرباب هذا القول بأن الموضع ليس مجال الاختلاف ، ولا هو حجة من حجج الاختلاف ، بل هو مجال استفراغ الوسع ، وإبلاغ الجهد في طلب مقصد الشارع المتحد; فهذه الطائفة على وفق الأدلة المقررة أولا ، وإن قيل : إن الكل مصيبون; فليس على الإطلاق ، بل بالنسبة إلى كل مجتهد أو من قلده لاتفاقهم على أن كل مجتهد لا يجوز له الرجوع عما أداه إليه اجتهاده ، ولا الفتوى إلا به; لأن الإصابة [ ص: 73 ] عندهم إضافية لا حقيقية ، فلو كان الاختلاف سائغا على الإطلاق; لكان فيه حجة ، وليس كذلك .

فالحاصل أنه لا يسوغ على هذا الرأي إلا قول واحد ، غير أنه إضافي; فلم يثبت به اختلاف مقرر على حال ، وإنما الجميع محومون على قول واحد هو قصد الشارع عند المجتهد ، لا قولان مقرران; فلم يظهر إذا من قصد الشارع وضع أصل للاختلاف ، بل وضع موضع للاجتهاد في التحويم على إصابة قصد الشارع الذي هو واحد ومن هناك لا تجد مجتهدا يثبت لنفسه قولين معا أصلا ، وإنما يثبت قولا واحدا وينفي ما عداه .

وقد مر جواب مسألة التصويب والتخطئة .

وأما تجويز أن يأتي دليلان متعارضان; فإن أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في الظاهر ، وفي أنظار المجتهدين لا في نفس الأمر فالأمر على ما قالوه جائز ولكن لا يقضي ذلك بجواز التعارض في أدلة الشريعة ، وإن أرادوا تجويز [ ص: 74 ] ذلك في نفس الأمر; فهذا لا ينتحله من يفهم الشريعة لورود ما تقدم من الأدلة عليه ، ولا أظن أن أحدا منهم يقوله .

وأما مسألة قول الصحابي ، فلا دليل فيه لأمرين :

أحدهما : أن ذلك من قبيل الظنيات إن سلم صحة الحديث ، على أنه مطعون في سنده ، ومسألتنا قطعية ، ولا يعارض الظن القطع .

والثاني على تسليم ذلك فالمراد أنه حجة على انفراد كل واحد منهم أي أن من استند إلى قول أحدهم; فمصيب من حيث قلد أحد المجتهدين ، لا أن كل واحد منهم حجة في نفس الأمر بالنسبة إلى كل واحد; [ ص: 75 ] فإن هذا مناقض لما تقدم .

وأما قول من قال : إن اختلافهم رحمة وسعة; فقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال : ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة ، وإنما الحق في واحد ، قيل له : فمن يقول إن كل مجتهد مصيب ؟ فقال : هذا لا يكون ( هكذا لا يكون ) قولان مختلفين صوابين .

ولو سلم; فيحتمل أن يكون من جهة فتح باب الاجتهاد ، وأن مسائل الاجتهاد قد جعل الله فيها سعة بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك ، قال القاضي إسماعيل : إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي ، فأما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا ، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا ، قال ابن عبد البر : كلام إسماعيل هذا حسن جدا .

وأيضا; فإن قول من قال : إن اختلافهم رحمة ، يوافق ما تقدم ، وذلك [ ص: 76 ] لأنه قد ثبت أن الشريعة لا اختلاف فيها ، وإنما جاءت حاكمة بين المختلفين ، وقد ذمت المختلفين فيها ، وفي غيرها من متعلقات الدين; فكان ذلك عندهم عاما في الأصول والفروع ، حسبما اقتضته الظواهر المتضافرة والأدلة القاطعة ، فلما جاءتهم مواضع الاشتباه وكلوا ما لم يتعلق به عمل إلى عالمه على مقتضى قوله : والراسخون في العلم يقولون آمنا به [ آل عمران : 7 ] ولم يكن لهم بد من النظر في متعلقات الأعمال; لأن الشريعة قد كملت ، فلا يمكن خلو الوقائع عن أحكام الشريعة فتحروا أقرب الوجوه عندهم إلى أنه المقصود الشرعي ، والفطر والأنظار تختلف; فوقع الاختلاف من هنا لا من جهة أنه من مقصود الشارع ، فلو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية ولم يتكلموا فيها - وهم القدوة في فهم الشريعة والجري على مقاصدها - لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب للأدلة الدالة على ذم الاختلاف ، وأن الشريعة لا اختلاف فيها ، ومواضع الاشتباه مظان الاختلاف في إصابة الحق فيها; فكان المجال يضيق على من بعد الصحابة; فلما اجتهدوا ونشأ من اجتهادهم في تحري الصواب الاختلاف سهل على من بعدهم سلوك الطريق; فلذلك والله أعلم قال عمر بن عبد العزيز : وما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم . وقال : ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا .

وأما اختلاف العلماء بالنسبة إلى المقلدين فكذلك أيضا لا فرق بين مصادفة المجتهد الدليل ، ومصادفة العامي المفتي; فتعارض الفتويين عليه كتعارض الدليلين على المجتهد ، فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معا ، ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ، ولا ترجيح ، كذلك لا يجوز [ ص: 77 ] للعامي اتباع المفتيين معا ، ولا أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح .

وقول من قال : إذا تعارضا عليه تخير ، غير صحيح من وجهين :

أحدهما : أن هذا قول بجواز تعارض الدليل في نفس الأمر ، وقد مر ما فيه آنفا .

والثاني : ما تقدم من الأصل الشرعي ، وهو أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه ، وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل ، وهو غير جائز; فإن الشريعة قد ثبت أنها تشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة وعلى مصلحة كلية في الجملة ، أما الجزئية فما يعرب عنها دليل كل حكم وحكمته [ ص: 78 ] وأما الكلية فهي أن يكون المكلف داخلا تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته; اعتقادا ، وقولا ، وعملا; فلا يكون متبعا لهواه كالبهيمة المسيبة حتى يرتاض بلجام الشرع ، ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار ، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة ، فلا يصح القول بالتخيير على حال ، وانظر في الكتاب " المستظهري " للغزالي; فثبت أنه لا اختلاف في أصل الشريعة ، ولا هي موضوعة على كون وجود الخلاف فيها أصلا يرجع إليه مقصودا من الشارع ، بل ذلك الخلاف راجع إلى أنظار المكلفين ، وإلى ما يتعلق بهم من الابتلاء ، وصح أن نفي الاختلاف في الشريعة ، وذمه على الإطلاق والعموم في أصولها وفروعها; إذ لو صح فيها وضع فرع واحد على قصد الاختلاف; لصح فيها وجود الاختلاف على الإطلاق; لأنه إذا صح اختلاف ما صح كل الاختلاف ، وذلك معلوم البطلان; فما أدى إليه مثله .

[ ص: 79 ] فصل

وعلى هذا الأصل ينبني قواعد ، منها أنه ليس للمقلد أن يتخير في [ ص: 80 ]

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #182  
قديم 17-10-2022, 04:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,268
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (182)
صـ81 إلى صـ 90





[ ص: 81 ] الخلاف كما إذا اختلف المجتهدون على قولين; فوردت كذلك على المقلد; فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيرا فيهما كما يخير في خصال الكفارة; فيتبع هواه ، وما يوافق غرضه دون ما يخالفه ، وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين ، وقواه بما روي من قوله عليه الصلاة والسلام : " أصحابي كالنجوم " وقد مر الجواب عنه ، وإن صح; فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوا فاستفتى صحابيا أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه ، وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين; فالحق أن يقال : ليس بداخل تحت ظاهر الحديث; لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه; فهما صاحبا دليلين متضادين ، فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى ، وقد مر ما فيه; فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها .

وأيضا; فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد ، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد ، ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا; لجاز للحاكم ، وهو باطل بالإجماع .

وأيضا; فإن في مسائل الخلاف ضابطا قرآنيا ينفي اتباع الهوى جملة ، [ ص: 82 ] وهو قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] ، وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان; فوجب ردها إلى الله والرسول ، وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية ، وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة; فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول ، وهذه الآية نزلت على سبب فيمن اتبع هواه بالرجوع إلى حكم الطاغوت ، ولذلك أعقبها بقوله : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك الآية [ النساء : 60 ] .

وبهذا يظهر أن مثل هذه القضية لا تدخل تحت قوله : " أصحابي كالنجوم " .

وأيضا; فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي ، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل .

[ ص: 83 ] وأيضا; فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها; لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء ، وهو عين إسقاط التكليف ، بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل; فلا يكون متبعا للهوى ، ولا مسقطا للتكليف .

لا يقال : إذا اختلفا فقلد أحدهما قبل لقاء الآخر جاز; فكذلك بعد لقائه ، والاجتماع طردي; لأنا نقول : كلا ، بل للاجتماع أثر ; لأن كل واحد منهما في الافتراق طريق موصل كما لو وجد دليلا ولم يطلع على معارضه بعد البحث عليه جاز له العمل ، أما إذا اجتمعا واختلفا عليه; فهما كدليلين متعارضين اطلع عليهما المجتهد ، ولقد أشكل القول بالتخيير المنسوب إلى القاضي ابن الطيب ، واعتذر عنه بأنه مقيد لا مطلق ، فلا يخير إلا بشرط أن يكون في تخييره في العمل بأحد الدليلين قاصدا لمقتضى الدليل في العمل المذكور ، لا قاصدا لاتباع هواه فيه ، ولا لمقتضى التخيير على الجملة; فإن التخيير الذي هو معنى الإباحة مفقود هاهنا ، واتباع الهوى ممنوع; فلا بد من هذا القصد .

وفي هذا الاعتذار ما فيه ، وهو تناقض; لأن اتباع أحد الدليلين من غير ترجيح محال ، إذ لا دليل له مع فرض التعارض من غير ترجيح ، فلا يكون هنالك متبعا إلا هواه .
[ ص: 84 ] فصل

وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال; اتباعا لغرضه وشهوته ، أو لغرض ذلك القريب ، وذلك الصديق .

ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا ، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعا للغرض والشهوة ، وذلك فيما لا يتعلق به فصل قضية ، وفيما يتعلق به ذلك .

فأما ما لا يتعلق به فصل قضية ، بل هو فيما بين الإنسان وبين نفسه في عبادته أو عادته; ففيه من المعايب ما تقدم ، وحكى عياض في " المدارك " : قال موسى بن معاوية : كنت عند البهلول بن راشد إذ أتاه ابن فلان ; فقال له بهلول : ما أقدمك ؟ قال : نازلة ، رجل ظلمه السلطان فأخفيته وحلفت بالطلاق [ ص: 85 ] ثلاثا ما أخفيته ، قال له البهلول : مالك يقول : إنه يحنث في زوجته ، فقال السائل : وأنا قد سمعته يقول ، وإنما أردت غير هذا ، فقال : ما عندي غير ما تسمع ، قال : فتردد إليه ثلاثا ، كل ذلك يقول له البهلول قوله الأول ، فلما كان في الثالثة أو الرابعة; قال : يا ابن فلان ! ما أنصفتم الناس ، إذا أتوكم في نوازلهم قلتم : قال مالك ، قال مالك; فإن نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص ، الحسن يقول : لا حنث عليه في يمينه ، فقال السائل : الله أكبر ، قلدها الحسن ، أو كما قال .

وأما ما يتعلق به فصل قضية بين خصمين; فالأمر أشد ، وفي " الموازية " كتب عمر بن الخطاب : لا تقض بقضاءين في أمر واحد فيختلف عليك أمرك ، قال ابن المواز : لا ينبغي للقاضي أن يجتهد في اختلاف الأقاويل ، وقد كره مالك ذلك ولم يجوزه لأحد ، وذلك عندي أن يقضي بقضاء بعض من [ ص: 86 ] مضى ، ثم يقضي في ذلك الوجه بعينه على آخر بخلافه ، وهو أيضا من قول من مضى ، وهو في أمر واحد ، ولو جاز ذلك لأحد لم يشأ أن يقضي على هذا بفتيا قوم ، ويقضي في مثله بعينه على قوم بخلافه بفتيا قوم آخرين إلا فعل; فهذا ما قد عابه من مضى وكرهه مالك ولم يره صوابا .

وما قاله صواب; فإن القصد من نصب الحكام رفع التشاجر والخصام على وجه لا يلحق فيه أحد الخصمين ضرر ، مع عدم تطرق التهمة للحاكم ، وهذا النوع من التخيير في الأقوال مضاد لهذا كله .

وحكى أحمد بن عبد البر أن قاضيا من قضاة قرطبة كان كثير الاتباع ليحيى بن يحيى ، لا يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء ، فوقعت قضية تفرد فيها يحيى وخالف جميع أهل الشورى; فأرجأ القاضي القضاء فيها حياء من جماعتهم ، وردفته قضية أخرى كتب بها إلى يحيى; فصرف يحيى رسوله وقال له : لا أشير عليه بشيء; إذ توقف على القضاء لفلان بما أشرت عليه; فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه ، وركب من فوره إلى يحيى ، وقال له : لم أظن أن الأمر وقع منك هذا الموقع ، وسوف أقضي له غدا إن شاء الله ، فقال له يحيى : وتفعل ذلك صدقا ؟ قال : نعم ، قال له : فالآن هيجت غيظي; فإني ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيرا لله ، متخيرا في الأقوال; فأما إذ صرت تتبع الهوى وتقضي برضى مخلوق ضعيف; فلا خير فيما تجيء به ، ولا في إن رضيته منك; فاستعف من ذلك فإنه أستر لك ، وإلا رفعت في عزلك; فرفع يستعفي فعزل .

وقصة محمد بن يحيى بن لبابة أخ الشيخ ابن لبابة مشهورة ذكرها [ ص: 87 ] عياض ، وكانت مما غض من منصبه ، وذلك أنه عزل عن قضاء البيرة لرفع أهلها عليه ، ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه ، وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زياد وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته وألا يفتي أحدا فأقام على ذلك وقتا ، ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر; فشكا إلى القاضي ابن بقي أمره وضرورته إليه لمقابلته متنزهه ، وتأذيه برؤيتهم أوان تطلعه من علاليه ، فقال له ابن بقي : لا حيلة عندي فيه ، وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس ، فقال له : فتكلم مع الفقهاء فيه ، وعرفهم رغبتي ، وما أجزله من أضعاف القيمة فيه; فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة; فتكلم ابن بقي معهم; فلم يجعلوا إليه سبيلا; فغضب الناصر عليهم ، وأمر الوزراء بالتوجه فيهم إلى القصر وتوبيخهم; فجرت بينهم وبين الوزراء مكالمة ولم يصلالناصر معهم إلى مقصوده ، وبلغ ابن لبابة هذا الخبر; فرفع إلى الناصر يغض من أصحابه الفقهاء ، ويقول : إنهم حجروا عليه واسعا ، ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعاوضة وتقلدها وناظر أصحابه فيها; فوقع الأمر بنفس الناصر ، وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ، ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة; فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم ، وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لأجلها وغبطة المعاوضة فيها ، [ ص: 88 ] فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه ، وابن لبابة ساكت; فقال القاضي له : ما تقول أنت يا أبا عبد الله ؟ قال : أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء; وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا ، وهم علماء أعلام يهتدي بهم أكثر الأمة ، وإذ بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به فما ينبغي أن يرد عنه ، وله في السنة فسحة ، وأنا أقول فيه بقول أهل العراق ، وأتقلد ذلك رأيا ، فقال له الفقهاء : سبحان الله ! تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنه بوجه ، وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه ؟ فقال له محمد بن يحيى : ناشدتكم الله العظيم; ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم وأرخصتم لأنفسكم ؟ قالوا : بلى ، قال : فأمير المؤمنين أولى بذلك; فخذوا به مآخذكم وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء; فكلهم قدوة فسكتوا ، فقال للقاضي : أنه إلى أمير [ ص: 89 ] المؤمنين فتياي; فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس ، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يأخذ له بفتيا محمد بن يحيى بن لبابة وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاكه بمنية عجب ، وكانت عظيمة القدر جدا تزيد أضعافا على المجشر‌‌ ، ثم جيء من عند أمير المؤمنين بكتاب منه إلى ابن لبابة هذا بولايته خطة الوثائق ليكون هو المتولي لعقد هذه المعاوضة; فهنئ بالولاية ، وأمضى القاضي الحكم بفتواه ، وأشهد عليه وانصرفوا; فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة .

قال القاضي عياض : ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر; فقال : ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذي حل سجل السخطة إلى سجل السخطة; فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه ، أو كما قال .

وذكر الباجي في كتاب " التبيين لسنن المهتدين " حكاية أخرى في أثناء كلامه في معنى هذه المسألة; قال : وربما زعم بعضهم أن النظر والاستدلال [ ص: 90 ] الأخذ من أقاويل مالك وأصحابه بأيها شاء ، دون أن يخرج عنها ، ولا يميل إلى ما مال منها لوجه يوجب له ذلك; فيقضي في قضية بقول مالك ، وإذا تكررت تلك القضية كان له أن يقضي فيها بقول ابن القاسم مخالفا للقول الأول ، لا لرأي تجدد له ، وإنما ذلك بحسب اختياره .

قال : ولقد حدثني من أثقه أنه اكترى جزءا من أرض على الإشاعة ، ثم إن رجلا آخر اكترى باقي الأرض; فأراد المكتري الأول أن يأخذ بالشفعة وغاب عن البلد; فأفتى المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك ألا شفعة في الإجارات ، قال لي : فوردت من سفري; فسألت أولئك الفقهاء - وهم أهل حفظ في المسائل وصلاح في الدين - عن مسألتي; فقالوا : ما علمنا أنها لك; إذ كانت لك المسألة أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها; فأفتاني جميعهم بالشفعة; فقضي لي بها .

قال : وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا الصنف مشهور بالحفظ والتقدم أنه كان يقول معلنا غير مستتر : إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه .

قال الباجي : ولو اعتقد هذا القائل أن مثل هذا لا يحل له ما استجازه ، ولو استجازه لم يعلن به ، ولا أخبر به عن نفسه .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #183  
قديم 17-10-2022, 04:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,268
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (183)
صـ81 إلى صـ 100




قال : وكثيرا ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها لعل فيها رواية ، أو لعل فيها رخصة ، وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة ، ولو [ ص: 91 ] كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ، ولا من سواي ، وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ، ولا يسوغ ، ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق ، رضي بذلك من رضيه ، وسخطه من سخطه ، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه; فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه ، والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم الآية [ المائدة : 49 ] فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي ، أو يفتي زيدا بما لا يفتي به عمرا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض ؟ وإنما يجب للمفتي أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق فيجتهد في طلبه ، ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه ، وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته ؟ ! .

هذا ما ذكره ، وفيه بيان ما تقدم من أن الفقيه لا يحل له أن يتخير بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير اجتهاد ، ولا أن يفتي به أحدا [ ص: 92 ] والمقلد في اختلاف الأقوال عليه مثل هذا المفتي الذي ذكر ; فإنه إنما أنكر ذلك على غير مجتهد أن ينقل عن مجتهد بالهوى ، وأما المجتهد; فهو أحرى بهذا الأمر .
فصل

وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية; حتى صار الخلاف في المسائل [ ص: 93 ] معدودا في حجج الإباحة ، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم ، لا بمعنى مراعاة الخلاف; فإن له نظرا آخر ، بل في غير ذلك ، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع; فيقال لم تمنع والمسألة مختلف فيها; فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها ، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز ، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع ، وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدا ، وما ليس بحجة حجة .

حكى الخطابي في مسألة البتع المذكور في الحديث عن بعض الناس أنه قال : إن الناس لما اختلفوا في الأشربة ، وأجمعوا على تحريم خمر العنب ، واختلفوا فيما سواه; حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه ، قال : وهذا خطأ فاحش ، وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول ، قال : ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة; لأن الأمة قد اختلفت فيها ، قال : وليس الاختلاف حجة ، وبيان السنة حجة على المختلفين من [ ص: 94 ] الأولين والآخرين ، هذا مختصر ما قال .

والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه ، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه; فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه ، لا وسيلة إلى تقواه ، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع ، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه .

ومن هذا أيضا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال ، وعدم التحجير على رأي واحد ، ويحتج في ذلك بما روي عن القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما مما تقدم ذكره ، ويقول إن الاختلاف رحمة ، وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر ، أو الذي عليه أكثر المسلمين ، ويقول له : لقد حجرت واسعا ، وملت بالناس إلى الحرج ، وما في الدين من حرج ، وما أشبه ذلك ، وهذا القول خطأ كله ، وجهل بما وضعت له الشريعة ، والتوفيق بيد الله .

وقد مر من الدليل على خلاف ما قالوه ما فيه كفاية والحمد لله ، ولكن نقرر منه هاهنا بعضا على وجه لم يتقدم مثله ، وذلك أن المتخير بالقولين مثلا بمجرد موافقة الغرض; إما أن يكون حاكما به ، أو مفتيا أو مقلدا عاملا بما أفتاه به المفتي .

[ ص: 95 ] أما الأول; فلا يصح على الإطلاق; لأنه إن كان متخيرا بلا دليل لم يكن أحد الخصمين بالحكم له أولى من الآخر ، إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي ، فلا يمكن إنفاذ حكم على أحدهما إلا مع الحيف على الآخر ، ثم إن وقعت له تلك النازلة بالنسبة إلى خصمين آخرين; فكذلك ( أو بالنسبة إلى الأول فكذلك ) أو يحكم لهذا مرة ولهذا مرة ، وكل ذلك باطل ومؤد إلى مفاسد لا تنضبط بحصر ، ومن هاهنا شرطوا في الحاكم بلوغ درجة الاجتهاد ، وحين فقد لم يكن بد من الانضباط إلى أمر واحد كما فعل ولاة قرطبة حين شرطوا على الحاكم ألا يحكم إلا بمذهب فلان ما وجده ثم بمذهب فلان ; فانضبطت الأحكام بذلك ، وارتفعت المفاسد المتوقعة من غير ذلك الارتباط ، وهذا معنى أوضح من إطناب فيه .

وأما الثاني; فإنه إذا أفتى بالقولين معا على التخيير فقد أفتى في النازلة بالإباحة وإطلاق العنان ، وهو قول ثالث خارج عن القولين ، وهذا لا يجوز له [ ص: 96 ] إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق ، وإن بلغها لم يصح له القولان في وقت واحد ونازلة واحدة أيضا حسبما بسطه أهل الأصول .

وأيضا; فإن المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه ، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه به ، فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا .

وأما إن كان عاميا; فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه ، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع ، ولأن العامي إنما حكم العالم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه ، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب; فإن العبد في تقلباته دائر بين لمتين : لمة ملك ، ولمة شيطان; فهو مخير بحكم الابتلاء في الميل مع أحد الجانبين ، وقد قال تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [ الشمس : 7 - 8 ] [ ص: 97 ] إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا [ الإنسان : 3 ] وهديناه النجدين [ البلد : 10 ] .

وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات ، والهوى لا يعدوهما ، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي; فهو قائل له : أخرجني عن هواي ، ودلني على اتباع الحق ، فلا يمكن والحال هذه أن يقول له : في مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت ؟ فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع ، ولا ينجيه من هذا أن يقول : ما فعلت إلا بقول عالم; لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس وقاية عن القال والقيل ، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية ، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية ، وجهل بالشريعة ، وغش في النصيحة ، وهذا المعنى جار في الحاكم وغيره ، والتوفيق بيد الله تعالى .
فصل

واعترض بعض المتأخرين على من منع من تتبع رخص المذاهب ، وأنه إنما يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله; فقال : إن أراد المانع ما هو على خلاف [ ص: 98 ] الأمور الأربعة التي ينقض فيها قضاء القاضي; فمسلم ، وإن أراد ما فيه توسعة على المكلف; فممنوع إن لم يكن على خلاف ذلك ، بل قوله عليه الصلاة [ ص: 99 ] والسلام : بعثت بالحنيفية السمحة يقتضي جواز ذلك; لأنه نوع من اللطف بالعبد ، والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد ، بل بتحصيل المصالح ، وأنت تعلم بما تقدم ما في هذا الكلام; لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدا بما هو جار على أصولها ، وليس تتبع الرخص ، ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها; فما قاله عين الدعوى .

ثم نقول : تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس ، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى; فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه ، ومضاد أيضا لقوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] وموضع الخلاف موضع تنازع ، فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس ، وإنما يرد إلى الشريعة ، وهي تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه لا الموافق للغرض .
فصل

وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدعي فيها الضرورة ، وإلجاء الحاجة ، بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها ، ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج عن المذهب أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح في المذهب; فهذا أيضا من ذلك الطراز المتقدم; فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر ، ومحال الضرورات معلومة من الشريعة; فإن كانت هذه المسألة [ ص: 100 ] منها فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذا عن صاحب الشرع; فلا حاجة إلى الانتقال عنها ، وإن لم تكن منها فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش ، ودعوى غير مقبولة .

وقد وقع في " نوازل ابن رشد " من هذا مسألة نكاح المتعة .

ويذكر عن الإمام المازري أنه سئل : ما تقول فيما اضطر الناس إليه في هذا الزمان - والضرورات تبيح المحظورات - من معاملة فقراء أهل البدو في سني الجدب; إذ يحتاجون إلى الطعام فيشترونه بالدين إلى الحصاد أو الجذاذ ، فإذا حل الأجل قالوا لغرمائهم : ما عندنا إلا الطعام; فربما صدقوا في ذلك; فيضطر أرباب الديون إلى أخذه منهم خوفا أن يذهب حقهم في أيديهم بأكل أو غيره لفقرهم ولاضطرار من كان من أرباب الديون حضريا إلى الرجوع إلى حاضرته ، ولا حكام بالبادية أيضا ، مع ما في المذهب في ذلك من الرخصة إن لم يكن هنالك شرط ولا عادة ، وإباحة كثير من فقهاء الأمصار لذلك وغيره من بيوع الآجال خلافا للقول بالذرائع .

[ ص: 101 ] فأجاب : إن أردت بما أشرت إليه إباحة أخذ طعام عن ثمن طعام هو جنس مخالف لما اقتضى; فهذا ممنوع في المذهب ، ولا رخصة فيه عند أهل المذهب كما توهمت .

قال : ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه; لأن الورع قل ، بل كاد يعدم ، والتحفظ على الديانات كذلك ، وكثرت الشهوات ، وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه ، فلو فتح لهم باب في مخالفة المذهب; لاتسع الخرق على الراقع ، وهتكوا حجاب هيبة المذهب ، وهذا من المفسدات التي لا خفاء بها ، ولكن إذا لم يقدر على أخذ الثمن إلا أن يأخذ طعاما; فليأخذه منهم من يبيعه على ملك منفذه إلى الحاضرة ، ويقبض البائع الثمن ، ويفعل ذلك بإشهاد من غير تحيل على إظهار ما يجوز .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #184  
قديم 17-10-2022, 04:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,268
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (184)
صـ101 إلى صـ 110




فانظر كيف لم يستجز - وهو المتفق على إمامته - الفتوى بغير مشهور المذهب ، ولا بغير ما يعرف منه بناء على قاعدة مصلحية ضرورية; إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى كما تقدم تمثيله ، فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب ، بل جميع المذاهب; لأن ما وجب [ ص: 102 ] للشيء وجب لمثله ، وظهر أن تلك الضرورة التي ادعيت في السؤال ليست بضرورة .
فصل

وقد أذكر هذا المعنى جملة مما في اتباع رخص المذاهب من المفاسد سوى ما تقدم ذكره في تضاعيف المسألة; كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف ، وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالا لا ينضبط ، وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم; لأن المذاهب [ ص: 103 ] الخارجة عن مذهب مالك في هذه الأمصار مجهولة ، وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف ، وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم ، وغير ذلك من المفاسد التي يكثر تعدادها ، ولولا خوف الإطالة والخروج عن الغرض لبسطت من ذلك ، ولكن فيما تقدم منه كاف ، والحمد لله .
[ ص: 104 ] فصل

وقد بنوا أيضا على هذا المعنى مسألة أخرى ، وهي : هل يجب الأخذ بأخف القولين ، أم بأثقلهما ؟ واستدل لمن قال بالأخف بقوله تعالى : يريد الله بكم اليسر الآية [ البقرة : 185 ] وقوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] وقوله عليه الصلاة والسلام : لا ضرر ، ولا ضرار وقوله : بعثت بالحنيفية السمحة وكل ذلك ينافي شرع الشاق الثقيل ، ومن جهة القياس أن الله غني [ ص: 105 ] كريم ، والعبد محتاج فقير ، وإذا وقع التعارض بين الجانبين كان الحمل على جانب الغني أولى .

والجواب عن هذا ما تقدم ، وهو أيضا مؤد إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة; فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة ، ولذلك سميت تكليفا من الكلفة وهي المشقة ، فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل; لزم ذلك في الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك ، ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف ، وهذا محال فما أدى إليه مثله; فإن رفع الشريعة مع فرض وضعها محال ، ثم قال المنتصر لهذا الرأي : إنه يرجع حاصله إلى أن الأصل في الملاذ الإذن ، وفي المضار الحرمة ، وهو أصل قرره في موضع آخر ، وقد تقدم التنبيه على ما فيه في كتاب المقاصد .
وإذا حكمنا ذلك الأصل هنا لزم منه أن الأصل رفع التكليف بعد وضعه على المكلف ، وهذا كله إنما جره عدم الالتفات إلى ما تقدم .
[ ص: 106 ] فصل

فإن قيل : فما معنى مراعاة الخلاف المذكورة في المذهب المالكي ؟ فإن الظاهر فيها أنها اعتبار للخلاف; فلذلك نجد المسائل المتفق عليها لا يراعى فيها غير دليلها; فإن كانت مختلفا فيها روعي فيها قول المخالف ، وإن كان على خلاف الدليل الراجح عند المالكي فلم يعامل المسائل المختلف فيها معاملة المتفق عليها ، ألا تراهم يقولون : كل نكاح فاسد اختلف فيه فإنه يثبت به الميراث ، ويفتقر في فسخه إلى الطلاق ، وإذا دخل مع الإمام في الركوع وكبر للركوع ناسيا تكبيرة الإحرام; فإنه يتمادى مع الإمام مراعاة لقول [ ص: 107 ] من قال : إن تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام ، وكذلك من قام إلى ثالثة في النافلة وعقدها يضيف إليها رابعة مراعاة لقول من يجيز التنفل بأربع بخلاف المسائل المتفق عليها; فإنه لا يراعي فيها غير دلائلها ، ومثله جار في عقود البيع وغيرها ، فلا يعاملون الفاسد المختلف في فساده معاملة المتفق على فساده ، ويعللون التفرقة بالخلاف; فأنت تراهم يعتبرون الخلاف ، وهو مضاد لما تقرر في المسألة .

فاعلم أن المسألة قد أشكلت على طائفة ، منهم ابن عبد البر فإنه قال : الخلاف لا يكون حجة في الشريعة ، وما قاله ظاهر; فإن دليلي القولين لا بد أن يكونا متعارضين ، كل واحد منهما يقتضي ضد ما يقتضيه الآخر ، وإعطاء كل واحد منهما ما يقتضيه الآخر أو بعض ما يقتضيه هو معنى مراعاة الخلاف ، وهو جمع بين متنافيين كما تقدم .

وقد سألت عنها جماعة من الشيوخ الذين أدركتهم; فمنهم من تأول [ ص: 108 ] العبارة ولم يحملها على ظاهرها ، بل أنكر مقتضاها بناء على أنها لا أصل لها ، وذلك بأن يكون دليل المسألة يقتضي المنع ابتداء ، ويكون هو الراجح ، ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحا لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف; فيكون القول بأحدهما في غير الوجه الذي يقول فيه بالقول الآخر; فالأول فيما بعد الوقوع; والآخر فيما قبله ، وهما مسألتان مختلفتان; فليس جمعا بين متنافيين ، ولا قولا بهما معا ، هذا حاصل ما أجاب به من سألته عن المسألة من أهل فاس وتونس ، وحكى لي بعضهم أنه قول بعض من لقي من الأشياخ ، وأنه قد أشار إليه أبو عمران الفاسي ، وبه يندفع سؤال اعتبار الخلاف ، وسيأتي للمسألة تقرير آخر بعد إن شاء الله .

[ ص: 109 ] على أن الباجي حكى خلافا في اعتبار الخلاف في الأحكام ، وذكر اعتباره عن الشيرازي ، واستدل على ذلك بأن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ، ولو قال الشارع : إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحريمه واختلفوا في جواز أكله; فإن جلده يطهر بالدباغ ، لكان ذلك صحيحا ، فكذلك إذا علق هذا الحكم عليه بالاستنباط .

وما قاله غير ظاهر لأمرين :

أحدهما : أن هذا الدليل مشترك الإلزام ، ومنقلب على المستدل به; إذ لقائل أن يسلم أن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ، ثم يقول : لو قال الشارع : إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحليله واختلفوا في جواز أكله; فإن جلده لا يطهر بالدباغ; لكان ذلك صحيحا ، فكذلك إذا علق [ ص: 110 ] الحكم عليه بالاستنباط ، ويكون هذا القلب أرجح; لأنه مائل إلى جانب الاحتياط ، وهكذا كل مسألة تفرض على هذا الوجه .

والثاني : أنه ليس كل جائز واقعا ، بل الوقوع محتاج إلى دليل ، ألا ترى أنا نقول : يجوز أن ينص الشارع على أن مس الحائط ينقض الوضوء ، وأن شرب الماء السخن يفسد الحج ، وأن المشي من غير نعل يفرق بين الزوجين ، وما أشبه ذلك ، ولا يكون هذا التجويز سببا في وضع الأشياء المذكورة عللا شرعية بالاستنباط; فلما لم يصح ذلك دل على أن نفس التجويز ليس بمسوغ لما قال .

فإن قال : إنما أعني ما يصح أن يكون علة لمعنى فيه من مناسبة أو شبه ، والأمثلة المذكورة لا معنى فيها يستند إليه في التعليل .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #185  
قديم 17-10-2022, 04:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,268
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (185)
صـ111 إلى صـ 120



قيل : لم تفصل أنت هذا التفصيل ، وأيضا فمن طرق الاستنباط ما لا يلزم فيه ظهور معنى يستند إليه ، كالاطراد والانعكاس ونحوه ويمكن أن يكون [ ص: 111 ] الباجي أشار في الجواز إلى ما في الخلاف من المعنى المتقدم ، ولا يكون بين القولين خلاف في المعنى .

واحتج المانعون بأن الخلاف متأخر عن تقرير الحكم ، والحكم لا يجوز أن يتقدم على علته ، قال الباجي : ذلك غير ممتنع كالإجماع; فإن الحكم يثبت به وإن حدث في عصرنا .

[ ص: 112 ] وأيضا فمعنى قولنا : إنه مختلف فيه ، أنه يسوغ فيه الاجتهاد ، وهذا كان حاله في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتقدم على علته .

والجواب عن كلام الباجي أن الإجماع ليس بعلة للحكم ، بل هو أصل الحكم ، وقوله : إن معنى قولنا مختلف فيه كذا ، هي عين الدعوى .
فصل

ومن القواعد المبنية على هذه المسألة أن يقال : هل للمجتهد أن يجمع بين الدليلين بوجه من وجوه الجمع ، حتى يعمل بمقتضى كل واحد منهما فعلا أو تركا كما يفعله المتورعون في التروك ، أم لا ؟ أما في ترك العمل بهما [ ص: 113 ] معا مجتمعين أو متفرقين; فهو التوقف عن القول بمقتضى أحدهما ، وهو الواجب إذا لم يقع ترجيح ، وأما في العمل; فإن أمكن الجمع بدليله; فلا تعارض ، وإن فرض التعارض; فالجمع بينهما في العمل جمع بين متنافيين ، ورجوع إلى إثبات الاختلاف في الشريعة ، وقد مر إبطاله ، وهكذا يجري الحكم في المقلد بالنسبة إلى تعارض المجتهدين عليه ، ولهذا الفصل تقرير في كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله .
[ ص: 114 ] المسألة الرابعة

محال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر; فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ، ولا إلى طرف الإثبات .

وبيانه أن نقول : لا تخلو أفعال المكلف أو تروكه إما أن يأتي فيها خطاب من الشارع أو لا; فإن لم يأت فيها خطاب; فإما أن يكون على البراءة الأصلية أو يكون فرضا غير موجود ، والبراءة الأصلية في الحقيقة راجعة [ ص: 115 ] إلى خطاب الشارع بالعفو أو غيره ، وإن أتى فيها خطاب; فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو في الإثبات أو لا ; فإن لم يظهر له قصد البتة ، فهو قسم المتشابهات ، وإن ظهر فتارة يكون قطعيا ، وتارة يكون غير قطعي; فأما القطعي ، فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو في الإثبات ، وليس محلا للاجتهاد ، وهو قسم الواضحات; لأنه واضح الحكم حقيقة ، والخارج عنه مخطئ قطعا وأما غير القطعي ، فلا يكون كذلك إلا مع دخول احتمال فيه أن يقصد الشارع معارضه أو لا; فليس من الواضحات بإطلاق ، بل بالإضافة إلى ما هو أخفى منه ، كما أنه يعد غير واضح بالنسبة إلى ما هو أوضح منه; لأن مراتب الظنون في النفي والإثبات تختلف بالأشد والأضعف حتى تنتهي إما إلى العلم وإما إلى الشك ، إلا أن هذا الاحتمال تارة يقوى في إحدى الجهتين ، وتارة لا يقوى; فإن لم يقو رجع إلى قسم المتشابهات ، والمقدم [ ص: 116 ] عليه حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، وإن قوي في إحدى الجهتين; فهو قسم المجتهدات ، وهو الواضح الإضافي بالنسبة إليه في نفسه ، وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين; فإن كان المقدم عليه من أهل الاجتهاد فواضح في حقه في النفي أو في الإثبات إن قلنا : إن كل مجتهد مصيب ، وأما على قول المخطئة; فالمقدم عليه إن كان مصيبا في نفس الأمر فواضح ، وإلا فمعذور .

وقد تقرر من هذا الأصل أن قسم المتشابهات مركب من تعارض النفي والإثبات; إذ لو لم يتعارضا لكان من قسم الواضحات ، وأن الواضح بإطلاق لم يتعارض فيه نفي مع إثبات ، بل هو إما منفي قطعا وإما مثبت قطعا ، وأن الإضافي إنما صار إضافيا; لأنه مذبذب بين الطرفين الواضحين; فيقرب عند بعض من أحد الطرفين ، وعند بعض من الطرف الآخر ، وربما جعله بعض الناس من قسم المتشابهات ، فهو غير مستقر في نفسه; فلذلك صار إضافيا لتفاوت مراتب الظنون في القوة والضعف ، ويجري مجرى النفي في أحد الطرفين إثبات ضد الآخر فيه; فثبوت العلم مع نفيه نقيضان; كوقوع التكليف وعدمه ، [ ص: 117 ] وكالوجوب وعدمه ، وما أشبه ذلك ، وثبوت العلم مع ثبوت الظن أو الشك ضدان ، كالوجوب مع الندب ، أو الإباحة ، أو التحريم ، وما أشبه ذلك .

وهذا الأصل واضح في نفسه ، غير محتاج إلى إثباته بدليل ، ولكن لا بد من التأنيس فيه بأمثلة يستعان بها على فهمه وتنزيله والتمرن فيه إن شاء الله .

فمن ذلك أنه نهى عن بيع الغرر ، ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة والطير في الهواء ، والسمك في الماء ، وعلى جواز بيع الجبة التي حشوها مغيب عن الأبصار ، ولو بيع حشوها بانفراده لامتنع ، وعلى جواز كراء الدار مشاهرة مع احتمال أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين ، وعلى دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث ، وعلى شرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات في مقدار الري; فهذان طرفان في اعتبار الغرر وعدم اعتباره; لكثرته في الأول وقلته مع عدم الانفكاك عنه في [ ص: 118 ] الثاني; فكل مسألة وقع الخلاف فيها في باب الغرر فهي متوسطة بين الطرفين ، آخذة بشبه من كل واحد منهما; فمن أجاز مال إلى جانب اليسارة ، ومن منع مال إلى الجانب الآخر .

ومن ذلك مسألة زكاة الحلي ، وذلك أنهم أجمعوا على عدم الزكاة في العروض وعلى الزكاة في النقدين ، فصار الحلي المباح الاستعمال دائرا بين الطرفين; فلذلك وقع الخلاف فيها .

واتفقوا على قبول رواية العدل وشهادته ، وعلى عدم قبول ذلك من الفاسق ، وصار المجهول الحال دائرا بينهما; فوقع الخلاف فيه .

واتفقوا على أن الحر يملك وأن البهيمة لا تملك ، ولما أخذ العبد بطرف من كل جانب اختلفوا فيه : هل يملك ، أم لا ؟ بناء على تغليب حكم أحد الطرفين .

[ ص: 119 ] واتفقوا على أن الواجد للماء قبل الشروع في الصلاة يتوضأ ولا يصلي بتيممه ، وبعد إتمامها وخروج الوقت لا يلزمه الوضوء وإعادة الصلاة ، وما بين ذلك دائر بين الطرفين; فاختلفوا فيه .

واتفقوا على أن ثمرة الشجرة إذا لم تظهر تابعة للأصل في البيع ، وعلى أنها غير تابعة لها إذا جذت ، واختلفوا فيها إذا كانت ظاهرة ، وإذا أفتى واحد وعرفه أهل الإجماع ، وأقروا بالقبول فإجماع باتفاق ، أو أنكروا ذلك فغير إجماع باتفاق; فإن سكتوا من غير ظهور إنكار; فدائر بين الطرفين فلذلك اختلفوا فيه ، والمبتدع بما يتضمن كفرا من غير إقرار بالكفر دائر بين طرفين; فإن المبتدع بما لا يتضمن كفرا من الأمة ، وبما اقتضى كفرا مصرحا به ليس [ ص: 120 ] من الأمة; فالوسط مختلف فيه : هل هو من الأمة ، أم لا ؟

وأرباب النحل والملل اتفقوا على أن الباري تعالى موصوف بأوصاف الكمال بإطلاق ، وعلى أنه منزه عن النقائص بإطلاق ، واختلفوا في إضافة أمور إليه بناء على أنها كمال ، وعدم إضافتها إليه بناء على أنها نقائص ، وفي عدم إضافة أمور إليه بناء على أن عدم الإضافة كمال ، أو إضافتها بناء على أن الإضافة إليه هي الكمال ، وكذلك ما أشبهها .

فكل هذه المسائل إنما وقع الخلاف فيها; لأنها دائرة بين طرفين واضحين; فحصل الإشكال والتردد ، ولعلك لا تجد خلافا واقعا بين العقلاء معتدا به في العقليات أو في النقليات ، لا مبنيا على الظن ، ولا على القطع; إلا دائرا بين طرفين ولا يختلف فيهما أصحاب الاختلاف في الواسطة المترددة بينهما فاعتبره تجد كذلك - إن شاء الله - .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #186  
قديم 17-10-2022, 05:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,268
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (186)
صـ121 إلى صـ 130







[ ص: 121 ] فصل

وبإحكام النظر في هذا المعنى يترشح للناظر أن يبلغ درجة الاجتهاد; لأنه يصير بصيرا بمواضع الاختلاف ، جديرا بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له ، ولأجل ذلك جاء في حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال : يا عبد الله بن مسعود ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : أتدري أي الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل ، وإن كان يزحف على إسته فهذا تنبيه على [ ص: 122 ] المعرفة بمواقع الخلاف .

ولذلك جعل الناس العلم معرفة الاختلاف .

فعن قتادة : من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه .

وعن هشام بن عبيد الله الرازي : من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه .

وعن عطاء : لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس; فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه .

[ ص: 123 ] وعن أيوب السختياني وابن عيينة : أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما باختلاف العلماء ، زاد أيوب : وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء .

وعن مالك : لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه ، قيل له : اختلاف أهل الرأي ؟ قال : لا ، اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم .

وقال يحيى بن سلام : لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي ، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلي .

وعن سعيد بن أبي عروبة : من لم يسمع الاختلاف; فلا تعده عالما .
وعن قبيصة بن عقبة : لا يفلح من لا يعرف اختلاف الناس .
وكلام الناس هنا كثير ، وحاصله معرفة مواقع الخلاف ، لا حفظ مجرد الخلاف ، ومعرفة ذلك إنما تحصل بما تقدم من النظر; فلا بد منه لكل مجتهد ، وكثيرا ما تجد هذا للمحققين في النظر كالمازري وغيره .
[ ص: 124 ] المسألة الخامسة

الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص; فلا بد من اشتراط العلم بالعربية ، وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص ، فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية ، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلا خاصة .

والدليل على عدم الاشتراط في علم العربية أن علم العربية إنما يفيد مقتضيات الألفاظ بحسب ما يفهم من الألفاظ الشرعية ، وألفاظ الشارع المؤدية لمقتضياتها عربية ، فلا يمكن من ليس بعربي أن يفهم لسان العرب كما لا [ ص: 125 ] يمكن التفاهم فيما بين العربي والبربري أو الرومي أو العبراني حتى يعرف كل واحد مقتضى لسان صاحبه .

وأما المعاني مجردة; فالعقلاء مشتركون في فهمها ، فلا يختص بذلك لسان دون غيره ، فإذا من فهم مقاصد الشرع من وضع الأحكام ، وبلغ فيها رتبة العلم بها ، ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسان الأعجمي; فلا فرق بينه وبين من فهمها من طريق اللسان العربي ، ولذلك يوقع المجتهدون الأحكام الشرعية على الوقائع القولية التي ليست بعربية ويعتبرون المعاني ولا يعتبرون الألفاظ في كثير من النوازل .

وأيضا; فإن الاجتهاد القياسي غير محتاج فيه إلى مقتضيات الألفاظ إلا [ ص: 126 ] فيما يتعلق بالمقيس عليه ، وهو الأصل وقد يؤخذ مسلما أو بالعلة المنصوص عليها أو التي أومئ إليها ويؤخذ ذلك مسلما ، وما سواه فراجع إلى النظر العقلي .

وإلى هذا النوع يرجع الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين; كابن القاسم وأشهب في مذهب مالك ، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنيفة والمزني والبويطي في مذهب الشافعي فإنهم على ما حكي عنهم يأخذون أصول إمامهم ، وما بني عليه في فهم ألفاظ الشريعة ، ويفرعون المسائل ، ويصدرون الفتاوى على مقتضى ذلك .

وقد قبل الناس أنظارهم وفتاويهم ، وعملوا على مقتضاها ، خالفت مذهب إمامهم أو وافقته ، وإنما كان كذلك لأنهم فهموا مقاصد الشرع في وضع [ ص: 127 ] الأحكام ولولا ذلك; لم يحل لهم الإقدام على الاجتهاد والفتوى ، ولا حل لمن في زمانهم أو من بعدهم من العلماء أن يقرهم على ذلك ، ولا يسكت عن الإنكار عليهم على الخصوص ، فلما لم يكن شيء من ذلك; دل على أن ما أقدموا عليه من ذلك كانوا خلقاء بالإقدام فيه ، فالاجتهاد منهم وممن كان مثلهم وبلغ في فهم مقاصد الشريعة مبالغهم صحيح لا إشكال فيه ، هذا على فرض أنهم لم يبلغوا في كلام العرب مبلغ المجتهدين ، فأما إذا بلغوا تلك الرتبة فلا إشكال أيضا في صحة اجتهادهم على الإطلاق ، والله أعلم .
[ ص: 128 ] المسألة السادسة

قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط ، فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع ، كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية; لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه ، وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به ، من حيث قصدت المعرفة به; فلا بد أن يكون المجتهد عارفا ومجتهدا من تلك الجهة التي ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى ، كالمحدث العارف بأحوال الأسانيد وطرقها ، وصحيحها من سقيمها ، وما يحتج به من متونها مما لا يحتج به; فهذا يعتبر اجتهاده فيما هو عارف به ، كان عالما بالعربية أم لا ، وعارفا بمقاصد الشارع أم لا ، وكذلك القارئ في تأدية وجوه القراءات ، والصانع في معرفة عيوب [ ص: 129 ] الصناعات ، والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب ، وعرفاء الأسواق في معرفة قيم السلع ومداخل العيوب فيها ، والعاد في صحة القسمة ، والماسح في تقدير الأرضين ونحوها ، كل هذا ، وما أشبهه مما يعرف به مناط الحكم الشرعي غير مضطر إلى العلم بالعربية ، ولا العلم بمقاصد الشريعة ، وإن كان اجتماع ذلك كمالا في المجتهد .

والدليل على ذلك ما تقدم من أنه لو كان لازما لم يوجد مجتهد إلا في الندرة ، بل هو محال عادة ، وإن وجد ذلك فعلى جهة خرق العادة ، كآدم عليه السلام حين علمه الله الأسماء كلها ، ولا كلام فيه .

وأيضا إن لزم في هذا الاجتهاد العلم بمقاصد الشارع لزم في كل [ ص: 130 ] علم وصناعة ألا تعرف إلا بعد المعرفة بذلك; إذ فرض من لزوم العلم بها العلم بمقاصد الشارع ، وذلك باطل; فما أدى إليه مثله; فقد حصلت العلوم ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية ، ومن الكفار المنكرين للشريعة .

ووجه ثالث أن العلماء لم يزالوا يقلدون في هذه الأمور من ليس من الفقهاء ، وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصة ، وهو التقليد في تحقيق المناط .

فالحاصل أنه إنما يلزم في هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتهد فيه ، كما أنه في الأولين كذلك; فالاجتهاد في الاستنباط من الألفاظ الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد العربية ، والاجتهاد في المعاني الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد الشريعة ، والاجتهاد في مناط الأحكام يلزم فيه المعرفة بمقاصد ذلك المناط من الوجه الذي يتعلق به الحكم لا من وجه غيره ، وهو ظاهر .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #187  
قديم 17-10-2022, 05:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,268
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (187)
صـ131 إلى صـ 140



[ ص: 131 ] المسألة السابعة

الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان :

أحدهما : الاجتهاد المعتبر شرعا ، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد ، وهذا هو الذي تقدم الكلام فيه .

والثاني : غير المعتبر ، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه ; لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض ، وخبط في عماية ، واتباع للهوى فكل رأي صدر على هذا الوجه ، فلا مرية في عدم اعتباره; لأنه ضد الحق الذي أنزل الله كما قال تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم [ المائدة : 49 ] وقال تعالى : يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية [ ص : 26 ] .

وهذا على الجملة لا إشكال فيه ، ولكن قد ينشأ في كل واحد من القسمين قسم آخر; فأما القسم الأول وهي :
[ ص: 132 ] المسألة الثامنة

فيعرض فيه الخطأ في الاجتهاد; إما بخفاء بعض الأدلة حتى يتوهم فيه ما لم يقصد منه ، وإما بعدم الاطلاع عليه جملة .

وحكم هذا القسم معلوم من كلام الأصوليين إن كان في أمر جزئي ، وأما إن كان الخطأ في أمر كلي; فهو أشد ، وفي هذا الموطن حذر من زلة العالم ، فإنه جاء في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير منها; فروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليهم من زلة العالم ، ومن حكم جائر ، ومن هوى متبع .

[ ص: 133 ] وعن عمر : " ثلاث يهدمن الدين : زلة العالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون " .

وعن أبي الدرداء : " إن مما أخشى عليكم زلة العالم ، أو جدال المنافق بالقرآن ، والقرآن حق ، وعلى القرآن منار كمنار الطريق " .

وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كثيرا : وإياكم وزيغة الحكيم; فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة ، وقد يقول المنافق الحق; فتلقوا الحق عمن جاء به; فإن على الحق نورا ، قالوا : وكيف زيغة الحكيم ؟ قال : هي كلمة تروعكم وتنكرونها ، وتقولون ما هذه ؟ فاحذروا زيغته ، ولا تصدنكم عنه; فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق .

[ ص: 134 ] وقال سلمان الفارسي : كيف أنتم عند ثلاث : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، ودنيا تقطع أعناقكم ، فأما زلة العالم; فإن اهتدى ، فلا تقلدوه دينكم ، تقولون : نصنع مثل ما يصنع فلان ، وننتهي عما ينتهي عنه فلان ، وإن أخطأ; فلا تقطعوا إياسكم منه ، فتعينوا عليه الشيطان ، الحديث .

وعن ابن عباس : " ويل للأتباع من عثرات العالم ، قيل : كيف ذلك ؟ قال : يقول العالم شيئا برأيه ، ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه; فيترك قوله ثم يمضي الأتباع .

وعن ابن المبارك : " أخبرني المعتمر بن سليمان ، قال : رآني أبي وأنا أنشد الشعر ، فقال لي : يا بني لا تنشد الشعر ، فقلت له : يا أبت كان الحسن ينشد ، وكان ابن سيرين ينشد ، فقال لي : أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله " .

وقال مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك : " ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم " .

[ ص: 135 ] وقال سليمان التيمي : إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله .

قال ابن عبد البر : هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا .

وهذا كله وما أشبهه دليل على طلب الحذر من زلة العالم ، وأكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه ، [ ص: 136 ] والوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها ، وهو وإن كان على غير قصد ، ولا تعمد وصاحبه معذور ومأجور ، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم ، وقد قال الغزالي : " إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرة وهي في نفسها صغيرة " وذكر منها أمثلة ، ثم قال : فهذه ذنوب يتبع العالم عليها; فيموت العالم ويبقى شره مستطيرا في العالم آمادا متطاولة; فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه ، وهكذا الحكم مستمر في زلته في الفتيا من باب أولى; فإنه ربما خفي على العالم بعض السنة أو بعض المقاصد العامة في خصوص مسألته; فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعا يتقلد ، وقولا يعتبر في مسائل الخلاف ، فربما رجع عنه وتبين له الحق; فيفوته تدارك ما سار في البلاد عنه ، ويضل عنه تلافيه; فمن هنا قالوا : زلة العالم مضروب بها الطبل .
فصل

إذا ثبت هذا; فلا بد من النظر في أمور تنبني على هذا الأصل :

- منها أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ، ولا الأخذ بها تقليدا له ، وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ، ولذلك عدت زلة ، وإلا فلو كانت معتدا بها; لم يجعل لها هذه الرتبة ، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها ، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير ، ولا أن يشنع عليه بها ، ولا ينتقص [ ص: 137 ] من أجلها أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتا; فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين ، وقد تقدم من كلام معاذ بن جبل وغيره ما يرشد إلى هذا المعنى .

وقد روي عن ابن المبارك أنه قال : كنا في الكوفة فناظروني في ذلك - يعني في النبيذ المختلف فيه - فقلت لهم : تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة; فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه فاحتجوا فما جاءوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة ، فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود ، وليس احتجاجهم عنه في رخصة النبيذ بشيء يصح عنه ، قال ابن المبارك : فقلت للمحتج عنه في الرخصة : يا أحمق عد أن ابن مسعود لو كان هاهنا جالسا ، فقال هو لك [ ص: 138 ] حلال ، وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة ، كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشى ، فقال قائلهم : يا أبا عبد الرحمن فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام ؟ فقلت لهم : دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال; فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا ، وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها ؟ فإن أبيتم; فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة ؟ قالوا : كانوا خيارا ، قال : فقلت : فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد ؟ فقالوا : حرام ، فقال ابن المبارك : إن هؤلاء رأوه حلالا فماتوا وهم يأكلون الحرام ، فبقوا وانقطعت حجتهم . هذا ما حكي .

والحق ما قال ابن المبارك; فإن الله تعالى يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ النساء : 59 ] .

فإذا كان بينا ظاهرا أن قول القائل مخالف للقرآن أو للسنة; لم يصح الاعتداد به ، ولا البناء عليه ، ولأجل هذا ينقض قضاء القاضي إذا خالف النص أو الإجماع ، مع أن حكمه مبني على الظواهر مع إمكان خلاف الظاهر ، ولا ينقض مع الخطأ في الاجتهاد وإن تبين; لأن مصلحة نصب الحاكم تناقض نقض حكمه ، ولكن ينقض مع مخالفة الأدلة; لأنه حكم بغير ما أنزل الله .
فصل

- ومنها : أنه لا يصح اعتمادها خلافا في المسائل الشرعية ; لأنها لم [ ص: 139 ] تصدر في الحقيقة عن اجتهاده ، ولا هي من مسائل الاجتهاد ، وإن حصل من صاحبها اجتهاد; فهو لم يصادف فيها محلا ، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد ، وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة ، كانت مما يقوى أو يضعف ، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا; فلذلك قيل : إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف ، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل والمتعة ، ومحاشي النساء ، وأشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها .

فإن قيل : فبماذا يعرف من الأقوال ما هو كذلك مما ليس كذلك ؟

فالجواب : أنه من وظائف المجتهدين; فهم العارفون بما وافق أو خالف ، وأما غيرهم فلا تتميز لهم في هذا المقام ، ويعضد هذا أن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب; فمن الأقوال ما يكون خلافا لدليل قطعي من نص متواتر أو إجماع قطعي في حكم كلي ومنها ما يكون خلافا لدليل ظني ، والأدلة الظنية متفاوتة كأخبار الآحاد والقياس الجزئية ، فأما المخالف للقطعي ، فلا إشكال في اطراحه ، ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه وعلى ما فيه ، لا للاعتداد [ ص: 140 ] به ، وأما المخالف للظني; ففيه الاجتهاد بناء على التوازن بينه وبين ما اعتمده صاحبه من القياس أو غيره .

فإن قيل : فهل لغير المجتهد من المتفقهين في ذلك ضابط يعتمده أم لا ؟ فالجواب : إن له ضابطا تقريبيا ، وهو أن ما كان معدودا في الأقوال غلطا وزللا قليل جدا في الشريعة ، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها ، قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر ، فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة; فليكن اعتقادك أن الحق في المسألة مع السواد الأعظم من المجتهدين لا من المقلدين .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #188  
قديم 17-10-2022, 05:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,268
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (188)
صـ141 إلى صـ 150




فصل

وقد عد ابن السيد هذا المكان من أسباب الخلاف ، حين عد جهة [ ص: 141 ] الرواية وأن لها ثماني علل : فساد الإسناد ، ونقل الحديث على المعنى ، أو من المصحف ، والجهل بالإعراب ، والتصحيف ، وإسقاط جزء الحديث ، أو سببه ، وسماع بعض الحديث وفوت بعضه ، وهذه الأشياء ترجع إلى معنى ما تقدم إذا صح أنها في المواضع المختلف فيها علل حقيقة; فإنه قد يقع الخلاف بسبب الاجتهاد في كونها موجودة في محل الخلاف ، وإذا كان على هذا الوجه; فالخلاف معتد به بخلاف الوجه الأول .

وأما القسم الثاني ، وهي :
[ ص: 142 ] المسألة التاسعة

فيعرض فيه أن يعتقد في صاحبه أو يعتقد هو في نفسه أنه من أهل الاجتهاد وأن قوله معتد به ، وتكون مخالفته تارة في جزئي ، وهو أخف ، وتارة في كلي من كليات الشريعة وأصولها العامة ، كانت من أصول الاعتقادات أو الأعمال; فتراه آخذا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها ، ولا راجع رجوع الافتقار إليها ، ولا [ ص: 143 ] مسلم لما روي عنهم في فهمها ، ولا راجع إلى الله ورسوله في أمرها كما قال : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ النساء : 59 ] .

ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس ، الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح ، واطراح النصفة ، والاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر ، ويعين على هذا الجهل بمقاصد الشريعة وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعجال نتيجة الطلب; فإن العاقل قلما يخاطر بنفسه في اقتحام المهالك مع العلم بأنه مخاطر .

وأصل هذا القسم مذكور في قوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات الآية [ آل عمران : 7 ] .

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ، ثم قال : فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه; فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم .

والتشابه في القرآن لا يختص بما نص عليه العلماء من الأمور الإلهية [ ص: 144 ] الموهمة للتشبيه ، ولا العبارات المجملة ، ولا ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ ، ولا غير ذلك مما يذكرون ، بل هو من جملة ما يدخل تحت مقتضى الآية إذ لا دليل على الحصر ، وإنما يذكرون من ذلك ما يذكرون على عادتهم في القصد إلى مجرد التمثيل ببعض الأمثلة الداخلة تحت النصوص الشرعية; فإن الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد في أكثرها مقرر واضح في معظمها ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطرد; فذلك من المعدود في المتشابهات التي يتقى اتباعها; لأن اتباعها مفض إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة ، فإذا اعتمد على الأصول وأرجئ أمر النوادر ووكلت إلى عالمها أو ردت إلى أصولها ، فلا ضرر على المكلف المجتهد ، ولا تعارض في حقه .

[ ص: 145 ] ودل على ذلك قوله تعالى : منه آيات محكمات هن أم الكتاب [ آل عمران : 7 ] فجعل المحكم - وهو الواضح المعنى الذي لا إشكال فيه ، ولا اشتباه - هو الأم والأصل المرجوع إليه ، ثم قال : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] يريد : وليست بأم ، ولا معظم; فهي إذا قلائل ، ثم أخبر أن اتباع المتشابه منها شأن أهل الزيغ والضلال عن الحق والميل عن الجادة ، وأما الراسخون في العلم فليسوا كذلك ، وما ذاك إلا باتباعهم أم الكتاب وتركهم الاتباع للمتشابه .

وأم الكتاب يعم ما هو من الأصول الاعتقادية أو العملية إذ لم يخص الكتاب ذلك ، ولا السنة ، بل ثبت في الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : افترقت اليهود على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة [ ص: 146 ] وفي الترمذي تفسير هذا بإسناد غريب عن غير أبي هريرة; فقال في حديثه : وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : " ما أنا عليه وأصحابي " .

والذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ظاهر في الأصول الاعتقادية والعملية على الجملة ، لم يخص من ذلك شيء دون شيء .

وفي أبي داود : وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ، ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة وهي بمعنى الرواية [ ص: 147 ] التي قبلها .

وقد روي ما يبين هذا المعنى ، ذكره ابن عبد البر بسند لم يرضه ، وإن كان غيره قد هون الأمر فيه ، أنه قال : ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال فهذا نص على دخول الأصول العملية تحت قوله : " ما أنا عليه وأصحابي " وهو [ ص: 148 ] ظاهر; فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية .
فصل

وقد وجدنا في الشريعة ما يدلنا على بعض الفرق التي يظن أن الحديث شامل لها ، وأنها مقصودة الدخول تحته; فإنه جاء في القرآن أشياء تشير إلى أوصاف يتعرف منها أن من اتصف بها; فهو آخذ في بدعة ، خارج عن مقتضى الشريعة ، وكذلك في الأحاديث الصحيحة ، فمن تتبع مواضعها ربما اهتدى إلى جملة منها ، وربما ورد التعيين في بعضها ، كما قال عليه الصلاة والسلام في الخوارج : إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية .

وفي رواية : دعه - يعني ذا الخويصرة - ; فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، [ ص: 149 ] يمرقون من الإسلام . . . الحديث إلى أن قال : " آيتهم رجل أسود ، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر . . . إلخ " .

فقد عرف عليه الصلاة والسلام بهؤلاء ، وذكر لهم علامة في صاحبهم ، وبين من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين كليين :

أحدهما : اتباع ظواهر القرآن على غير تدبر ، ولا نظر في مقاصده ، ومعاقده ، والقطع بالحكم به ببادئ الرأي والنظر الأول ، وهو الذي نبه عليه قوله في الحديث ، " يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم " ومعلوم أن هذا الرأي يصد عن اتباع الحق المحض ، ويضاد المشي على الصراط المستقيم ، ومن هنا ذم بعض العلماء رأي داود الظاهري ، وقال : إنها بدعة ظهرت بعد المائتين ، ألا ترى أن من جرى على مجرد الظاهر تناقضت عليه السور والآيات ، وتعارضت في [ ص: 150 ] يديه الأدلة على الإطلاق والعموم .

وتأمل ما ذكره القتبي في صدر كتابه في " مشكل القرآن " وكتابه في " مشكل الحديث " يبين لك صحة هذا الإلزام; فإن ما ذكره هنالك آخذ ببادئ الرأي في مجرد الظواهر .

والثاني : قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان على ضد ما دلت عليه جملة الشريعة وتفصيلها; فإن القرآن والسنة إنما جاءت للحكم بأن أهل الإسلام في الدنيا والآخرة ناجون ، وأن أهل الأوثان هالكون ، ولتعصم هؤلاء وتريق دم هؤلاء على الإطلاق فيهما والعموم ، فإذا كان النظر في الشريعة مؤديا إلى مضادة هذا القصد; صار صاحبه هادما لقواعدها ، وصادا عن سبيلها ، ومن تأمل كلامهم في مسألة التحكيم مع علي بن أبي طالب وابن عباس وفي غيرها ظهر له خروجهم عن القصد ، وعدولهم عن الصواب ، وهدمهم للقواعد ، وكذلك مناظرتهم عمر بن عبد العزيز وأشباه ذلك .

فهذان وجهان ذكرا في الحديث من مخالفتهم لقواعد الشريعة الكلية اتباعا للمتشابهات .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #189  
قديم 17-10-2022, 05:09 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,268
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (189)
صـ151 إلى صـ 160



وقد ذكر الناس من آرائهم غير ذلك من جنسه; كتكفيرهم لأكثر الصحابة ولغيرهم ومنه سرى قتلهم لأهل الإسلام وأن الفاعل للفعل إذا لم يعلم أنه حلال أو حرام فليس بمؤمن ، وألا حرام إلا ما في قوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية [ الأنعام : 145 ] [ ص: 151 ] وما سوى ذلك فحلال ، وأن الإمام إذا كفر كفرت رعيته كلهم شاهدهم وغائبهم ، وأن التقية لا تجوز في قول ، ولا فعل على الإطلاق والعموم ، وأن الزاني لا يرجم بإطلاق ، والقاذف للرجال لا يحد ، وإنما يحد قاذف النساء خاصة ، وأن الجاهل معذور في أحكام الفروع بإطلاق ، وأن الله سيبعث نبيا من العجم بكتاب ينزله الله عليه جملة واحدة ويترك شريعة محمد ، وأن المكلف قد يكون مطيعا بفعل الطاعة غير قاصد بها وجه الله ، وإنكارهم سورة يوسف من القرآن ، وأشباه ذلك ، وكلها مخالفة لكليات شرعية أصلية أو عملية .

ولكن الغالب في هذه الفرق أن يشار إلى أوصافهم ليحذر منها ، ويبقى الأمر في تعيينهم مرجى كما فهمنا من الشريعة ، ولعل عدم تعيينهم هو الأولى الذي ينبغي أن يلتزم ليكون سترا على الأمة ، كما سترت عليهم قبائحهم; فلم يفضحوا في الدنيا بها في الحكم الغالب العام ، وأمرنا بالستر على المذنبين ما لم يبد لنا صفحة الخلاف ، ليس كما ذكر عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب [ ص: 152 ] أحدهم ليلا أصبح وعلى بابه معصيته مكتوبة ، وكذلك في شأن قرابينهم فإنهم كانوا إذا قربوها أكلت النار المقبول منها وتركت غير المقبول ، وفي ذلك افتضاح المذنب ، إلى ما أشبه ذلك; فكثير من هذه الأشياء خصت بها هذه الأمة ، وقد قالت طائفة : إن من الحكمة في تأخير هذه الأمة عن سائر الأمم أن تكون ذنوبهم مستورة عن غيرهم ، فلا يطلع عليها كما اطلعوا هم على ذنوب غيرهم ممن سلف .

وللستر حكمة أيضا وهي أنها لو أظهرت - مع أن أصحابها من الأمة - لكان في ذلك داع إلى الفرقة والوحشة ، وعدم الألفة التي أمر الله بها ورسوله حيث قال تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا [ آل عمران : 103 ] وقال : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم [ الأنفال : 1 ] وقال : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات [ آل عمران : 105 ] وقال : ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا [ الروم : 31 - 32 ] وفي الحديث : لا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخوانا [ ص: 153 ] وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين ، وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة ، وأنها تحلق الدين .

[ ص: 154 ] والشريعة طافحة بهذا المعنى ، ويكفي فيه ما ذكره المحدثون في كتاب " البر والصلة " وقد جاء في قوله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء الآية [ الأنعام : 159 ] أنه روي عن عائشة وأبي هريرة - وهذا حديث عائشة - قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا من هم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : هم أصحاب الأهواء ، وأصحاب البدع ، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ، يا عائشة إن لكل ذنب توبة ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة ، وأنا منهم بريء ، وهم مني برآء .

[ ص: 155 ] فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة والفرقة وترك الموالفة; لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه; إلا أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الخوارج ، فلا إشكال في جواز إبدائها وتعيين أهلها ، كما عين رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج وذكرهم بعلامتهم; حتى يعرفون ويحذر منهم . ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد ، وما سوى ذلك فالسكوت عن تعيينه أولى .

[ ص: 156 ] وخرج أبو داود عن عمرو بن أبي قرة ; قال : كان حذيفة بالمدائن ، فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب ، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة; فيقول سلمان : حذيفة أعلم بما يقول; فيرجعون إلى حذيفة; فيقولون له : قد ذكرنا قولك لسلمان; فما صدقك ولا كذبك ، فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة ، فقال : يا سلمان ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب فيقول في الغضب لناس من أصحابه ، ويرضى فيقول في الرضى لناس من أصحابه ، أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ، ورجالا بغض رجال ، وحتى توقع اختلافا وفرقة ؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ، فقال : أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي; فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون ، وإنما بعثني رحمة للعالمين فأجعلها عليهم صلاة يوم القيامة فوالله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر .

[ ص: 157 ] فهذا من سلمان حسن من النظر; فهو جار في مسألتنا .

فإن قيل : فالبدع مأمور باجتنابها ، واجتناب أهلها والتحذير منهم والتشريد بهم ، وتقبيح ما هم عليه; فكيف يكون ذكر ذلك والتنبيه عليه غير جائز ؟

فالجواب : أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه في الجملة عليهم إلا القليل منهم كالخوارج ، ونبه على البدع من غير تفصيل ، وأن الأمة ستفترق على تلك العدة المذكورة ، وأشار إلى خواص عامة فيهم وخاصة ، ولم يصرح بالتعيين غالبا تصريحا لقطع العذر ، ولا ذكر فيهم علامة قاطعة لا تلتبس; فنحن أولى بذلك معشر الأمة .

وما ذكره المتقدمون من ذلك فبحسب فحش تلك البدع ، وأنها لاحقة في جواز ذكرها بالخوارج ونحوهم ، مع أن التعيين إذا كان بحسب الاجتهاد; فهو [ ص: 158 ] ممكن أن يكون هو المراد في نفس الأمر أو بعضه ، فمن بلغ رتبة الاجتهاد اجتهد ، والأصل ما تقدم من الستر; حتى يظهر أمر فيكون له حكمه ، ويبقى النظر : هل هذا الظاهر من جملة ما يدخل تحت الحديث ، أم لا ؟ فهو موضع اجتهاد .

وأيضا; فإن البدع المحدثة تختلف; فليست كلها في مرتبة واحدة في الضلال ، ألا ترى أن بدعة الخوارج مباينة غاية المباينة لبدعة التثويب بالصلاة ، التي قال فيها مالك : التثويب ضلال .

وقد قسم المتقدمون البدع إلى ما هو مكروه ، وإلى ما هو محرم ، ولو كانت عندهم على سواء; لكانت قسما واحدا ، وإذا كان كذلك; فالبدع التي [ ص: 159 ] تفترق بها الأمة مختلفة الرتب في القبح ، وبسبب ذلك يظهر أنها كثيرة جدا ، وما في الحديث محصور; فيمكن أن يكون بعضها غير داخل في الحديث ، أو يكون بعضها جزءا من بدعة فوقها أعظم منها ، أو لا تكون داخلة من حيث هي عند العلماء من قبيل المكروه; فصار القطع على خصوصياتها فيه نظر واشتباه ، فلا يقدم على ‌‌ذلك إلا ببرهان قاطع ، وهذا كالمعدوم فيها; فمن هذه الجهات صار الأولى ترك التعيين فيها .

فإن قيل : فالعلماء يقولون خلاف هذا ، وإن الواجب هو التشريد بهم والزجر لهم ، والقتل ومناصبة القتال إن امتنعوا وإلا أدى ذلك إلى فساد الدين .

فالجواب : أن ذلك حكم فيهم كما هو في سائر من تظاهر بمعصية صغيرة أو كبيرة أو دعا إليها أن يؤدب أو يزجر أو يقتل إن امتنع من فعل واجب أو ترك محرم كما يقتل تارك الصلاة ، وإن كان مقرا إلى ما دون ذلك ، وإنما الكلام في تعيين أصحاب البدع من حيث هي بدع يشملها الحديث; فتوجه الأحكام شيء والتعيين للدخول تحت الحديث شيء آخر .
فصل

ولهؤلاء الفرق خواص وعلامات في الجملة ، وعلامات أيضا في التفصيل .

[ ص: 160 ] فأما علامات الجملة; فثلاث :

إحداها : الفرقة التي نبه عليها قوله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [ الأنعام : 159 ] وقوله : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا [ آل عمران : 105 ] وغير ذلك من الأدلة .

قال بعض المفسرين : صاروا فرقا لاتباع أهوائهم ، وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا ، وهو قوله : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا [ الأنعام : 159 ] ثم برأه الله منهم بقوله : لست منهم في شيء [ الأنعام : 159 ] وهم أصحاب البدع وأصحاب الضلالات والكلام فيما لم يأذن الله فيه ، ولا رسوله .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #190  
قديم 17-10-2022, 05:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,268
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (190)
صـ161 إلى صـ 170





قال : ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ، ولم يفترقوا ، ولم يصيروا شيعا; لأنهم لم يفارقوا الدين ، وإنما اختلفوا فيما أذن لهم من اجتهاد الرأي ، والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصا ، واختلفت في ذلك أقوالهم; فصاروا محمودين لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به; كاختلاف أبي بكر وعمر وعلي وزيد في الجد مع الأم ، وقول عمر [ ص: 161 ] [ ص: 162 ] وعلي في أمهات الأولاد ، وخلافهم في الفريضة المشتركة ، وخلافهم في [ ص: 163 ] الطلاق قبل النكاح ، وفي البيوع . . وغير ذلك مما اختلفوا فيه ، وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح ، وأخوة الإسلام فيما بينهم قائمة ، فلما حدثت الأهواء المردية التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهرت العداوات ، وتحزب أهلها فصاروا شيعا; دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التي ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه .

قال : فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ، ولا بغضاء ، ولا فرقة; علمنا أنها من مسائل الإسلام ، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست [ ص: 164 ] من أمر الدين في شيء ، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية ، وهي قوله : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا [ الأنعام : 159 ] وقد تقدمت; فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها ، ودليل ذلك قوله تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [ آل عمران : 103 ] فإذا اختلفوا وتقاطعوا; كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى .

هذا ما قاله ، وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف; فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين .

وهذه الخاصية موجودة في كل فرقة من تلك الفرق ، ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي عليه الصلاة والسلام في قوله : يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان وأي فرقة توازي هذا إلا الفرقة التي بين أهل الإسلام وأهل الكفر ؟ وهكذا تجد الأمر في سائر من عرف من [ ص: 165 ] الفرق أو من ادعى ذلك فيهم .

والخاصية الثانية : هي التي نبه عليها قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة الآية [ آل عمران : 7 ] ; فجعل أهل الزيغ والميل عن الحق ممن شأنهم اتباع المتشابهات وقد تبين معناه .

وقال عليه الصلاة والسلام : فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه; فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم .

والخاصية الثالثة : اتباع الهوى ، وهي التي نبه عليها قوله : فأما الذين في قلوبهم زيغ [ آل عمران : 7 ] وهو الميل عن الحق اتباعا للهوى .

وقوله : فأما الذين في قلوبهم زيغ [ القصص : 50 ] وقوله : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم الآية [ الجاثية : 23 ] إلا أن هذه الخاصية راجعة إلى كل أحد في خاصة نفسه; لأنها أمر باطن ، فلا يعرفها غير صاحبها; إلا أن يكون عليها دليل في الظاهر ، والتي قبلها راجعة إلى العلماء الراسخين في العلم; لأن بيان المحكم والمتشابه راجع إليهم ، فهم يعرفونها ويعرفون أهلها بمعرفتهم لها ، والتي قبلها تعم جميع العقلاء من أهل الإسلام; لأن التواصل أو التقاطع معروف للناس كلهم ، وبمعرفته يعرف أهله .

[ ص: 166 ] وأما العلامات التفصيلية في كل فرقة; فقد نبه عليها وأشير إليها كما في قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول . . . إلى قوله : ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [ النساء : 59 ، 60 ] وقوله تعالى : إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله [ الأنعام : 116 ، 117 ] .

وقوله : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى [ النساء : 115 ] إلى آخرها وقوله : إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما الآية [ التوبة : 37 ] .

وقوله : وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه الآية [ يس : 47 ] .

وقوله : ومن الناس من يعبد الله على حرف [ الحج : 11 ] إلى آخر الآيتين .

وقوله يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء . . . إلى قوله : لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ المائدة : 101 - 105 ]

وقوله قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها الآية [ الأنعام : 140 ] .

[ ص: 167 ] وقوله ثمانية أزواج من الضأن اثنين إلى قوله : إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ الأنعام : 143 - 144 ] .

إلى غير ذلك مما نبه عليه القرآن الحكيم .

وكذلك في الحديث كقوله : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلماء ، حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم; فضلوا وأضلوا .

وكذلك ما تقدم ذكره في قسم زلة العالم وغيره مما في الأحاديث المختصة بهذا المعنى ، وإنما نبه عليها لتنبيه الشرع عليها ، ولم يصرح بها على الإطلاق لما تقدم ذكره ، فمن تهدى إليها فذاك ، وإلا فلا عليه ألا يعلمها ، والله الموفق للصواب .
فصل

ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره ، وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علما بالأحكام ، بل ذلك ينقسم; فمنه ما هو مطلوب النشر ، وهو غالب علم الشريعة ، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق ، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص .

ومن ذلك تعيين هذه الفرق; فإنه وإن كان حقا فقد يثير فتنة كما تبين تقريره; فيكون من تلك الجهة ممنوعا بثه .

ومن ذلك علم المتشابهات والكلام فيها; فإن الله ذم من اتبعها ، فإذا [ ص: 168 ] ذكرت وعرضت للكلام فيها; فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه ، وقد جاء في الحديث عن علي : حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله .

وفي الصحيح عن معاذ أنه عليه الصلاة والسلام قال : يا معاذ تدري ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله . . الحديث إلى أن قال : قلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس ، قال : لا تبشرهم فيتكلوا .

وفي حديث آخر عن معاذ في مثله قال : يا رسول الله أفلا أخبر بها فيستبشروا ؟ فقال : إذا يتكلوا ، قال أنس : فأخبر بها معاذ عند موته تأثما .

[ ص: 169 ] ونحو من هذا عن عمر بن الخطاب مع أبي هريرة ، انظره في كتاب مسلم والبخاري; فإنه قال فيه عمر : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد ألا إله إلا الله مستيقنا به قلبه بشره بالجنة ؟ قال : نعم ، قال : فلا تفعل; فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فخلهم .

وحديث ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل ، فقال : إن فلانا يقول : لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانا ، فقال عمر : لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم ، [ ص: 170 ] قلت : لا تفعل; فإن الموسم يجمع رعاع الناس ويغلبون على مجلسك; فأخاف ألا ينزلوها على وجهها; فيطيروا بها كل مطير ، وأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة ، فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ويحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها ، فقال : والله لأقومن به في أول مقام أقومه بالمدينة . الحديث .
ومنه حديث سلمان مع حذيفة وقد تقدم .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 220.86 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 215.01 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (2.65%)]