الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله - الصفحة 14 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14463 - عددالزوار : 761053 )           »          تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 637 - عددالزوار : 67030 )           »          الجاليات المسلمة: التأثير والتأثر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 467 - عددالزوار : 144913 )           »          تفسير سورة العلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          النهي عن الوفاء بنذر المعصية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          الدرس السادس والعشرون: الزكاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          الخلاصة في تفسير آية الجلابيب وآية الزينة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          فضل التبكير إلى صلاة الجمعة والتحذير من التخلف عنها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          مختصر رسالة إلى القضاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #131  
قديم 12-06-2022, 03:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,077
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (131)
صـ511 إلى صـ 521




و قال : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ تبارك : 2 ] .

وقوله : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ محمد : 31 ] .

وقد مر أن التكاليف وضعت للابتلاء والاختبار ليظهر في الشاهد ما سبق العلم به في الغائب .

وقد سبق العلم بأن هؤلاء للجنة ، وهؤلاء للنار ، لكن بحسب ذلك الابتلاء والابتلاء إنما يكون بما له جهتان لا بما هو ذو جهة واحدة ولذلك ترى النعم المبثوثة في الأرض للعباد لا يتعلق بها من حيث هي مدح ولا ذم ولا أمر ولا نهي ، وإنما يتعلق بها من حيث تصرفات المكلفين فيها ، وتصرفات المكلفين بالنسبة إليها على سواء .

فإذا عدت نعما ومصالح من حيث تصرفات المكلف ، فهي معدودة فتنا ونقما بالنسبة إلى تصرفاتهم أيضا ، ويوضح ذلك أن الأمور المبثوثة للانتفاع ممكنة في جهتي المصلحة والمفسدة ، ومهيأة للتصرفين معا .

فإذا كانت الأمور المبثوثة في الأرض للتكليف بهذا القصد ، وعلى هذا الوجه فكيف يترجح أحد الجانبين على الآخر حتى يعد القصد الأول هو بثها نعما فقط ، وكونها نقما وفتنا إنما هو على القصد الثاني .

فالجواب أن لا معارضة في ذلك من وجهين .

أحدهما : أن هذه الظواهر التي نصت على أنها نعم مجردة من الشوائب إما أن يكون المراد بها ما هو ظاهرها ، وهو المطلوب الأول ، أو يراد بها أنها في الحقيقة على غير ذلك ، وهذا الثاني لا يصح ; إذ لا يمكن في العقل ولا يوجد [ ص: 512 ] في السمع أن يخبر الله تعالى عن أمر بخلاف ما هو عليه فإنا إن فرضنا أن هذه المبثوثات ليست بنعم خالصة كما أنها ليست بنقم خالصة فإخبار الله عنها بأنها نعم ، وأنه امتن بها ، وجعلها حجة على الخلق ، ومظنة لحصول الشكر مخالف للمعقول ، ثم إذا نظرنا في تفاصيل النعم كقوله : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [ الأنبياء : 6 - 7 ] إلى آخر الآيات .

وقوله : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر [ النحل : 10 ] إلى آخر ما ذكر فيها ، وفي غيرها ، أفيصح في واحدة منها أن يقال : إنها ليست كذلك بإطلاق ، أو يقال : إنها نعم بالنسبة إلى قوم ، ونقم بالنسبة إلى قوم آخرين ؟ هذا كله خارج عن حكم المعقول والمنقول .

والشواهد لهذا أن القرآن أنزل هدى ورحمة ، وشفاء لما في الصدور ، وأنه النور الأعظم ، وطريقه هو الطريق المستقيم ، وأنه لا يصح أن ينسب إليه خلاف ذلك مع أنه قد جاء فيه : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ البقرة : 26 ] .

وأنه هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] لا لغيرهم .

وأنه هدى ورحمة للمحسنين [ لقمان : 3 ] إلى أشباه ذلك .

ولا يصح أن يقال : أنزل القرآن ليكون هدى لقوم ، وضلالا لآخرين ، أو هو محتمل ; لأن يكون هدى أو ضلالا نعوذ بالله من هذا التوهم .

[ ص: 513 ] لا يقال : إن ذلك قد يصح بالاعتبارين المذكورين في أن الحياة الدنيا لعب ولهو ، وأنها سلم إلى السعادة ، وجد لا هزل وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين [ الأنبياء : 16 ] .

لأنا نقول : هذا حق إذا حملنا التعرف بالنعم على ظاهر ما دلت عليه النصوص كما يصح في كون القرآن هدى ، وشفاء ، ونورا كما دل عليه الإجماع ، وما سوى ذلك فمحمول على وجه لا يخل بالقصد الأول في بث النعم .

والوجه الثاني : أن كون النعم تئول بأصحابها إلى النقم إنما ذلك من جهة وضع المكلف ; لأنها لم تصر نقما في أنفسها ، بل استعمالها على غير [ ص: 514 ] الوجه المقصود فيها هو الذي صيرها كذلك ، فإن كون الأرض مهادا والجبال أوتادا وجميع ما أشبهه نعم ظاهرة لم تتغير ، فلما صارت تقابل بالكفران بأخذها على غير ما حد صارت عليهم وبالا ، وفعلهم فيها هو الوبال في الحقيقة لا هي ; لأنهم استعانوا بنعم الله على معاصيه .

وعلى هذا الترتيب جرى شأن القرآن فإنهم لما مثلت أصنامهم التي اتخذوها من دون الله ببيت العنكبوت في ضعفه تركوا التأمل والاعتبار فيما قيل لهم حتى يتحققوا أن الأمر كذلك ، وأخذوا في ظاهر التمثيل بالعنكبوت من غير التفات إلى المقصود ، وقالوا : ماذا أراد الله بهذا مثلا [ المدثر : 31 ] فأخبر الله تعالى عن الحقيقة السابقة فيمن شأنه هذا بقوله : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا [ المدثر : 32 ] .

[ ص: 515 ] ثم استدرك البيان المنتظر بقوله : وما يضل به إلا الفاسقين [ البقرة : 26 ] نفيا لتوهم من يتوهم أنه أنزل بقصد الإضلال لقوم والهداية لقوم ، أي : هو هدى كما قال أولا هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ، لكن الفاسقين يضلون بنظرهم إلى غير المقصود من إنزال القرآن ، كذلك هو هدى للمتقين الذين ينظرون إلى صوب الحقيقة فيه ، وهو الذي أنزل من أجله ، وهذا المكان يستمد من المسألة الأولى

فإذا تقرر هذا صارت النعم نعما بالقصد الأول ، وكونها بالنسبة إلى قوم آخرين بخلاف ذلك من جهة أخذهم لها على غير الصوب الموضوع فيها ، وذلك معنى القصد الثاني والله أعلم .

وأما الثاني : وهو أن المطلوب الترك بالكل هو بالقصد الأول فكذلك أيضا لأنه لما تبين أنه خادم لما يضاد المطلوب الفعل صار مطلوب الترك ; لأنه ليس فيه إلا قطع الزمان في غير فائدة وليس له قصد ينتظر حصوله منه على الخصوص ، فصار الغناء المباح مثلا ليس بخادم لأمر ضروري ولا حاجي ولا تكميلي ، بل قطع الزمان به صد عما هو خادم لذلك فصار خادما لضده .

ووجه ثان أنه من قبيل اللهو الذي سماه الشارع باطلا كقوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا [ الجمعة : 11 ] يعني الطبل ، أو المزمار ، أو الغناء .

[ ص: 516 ] أو اللعب على حسب اختلاف المفسرين ، وقوله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] وهو الغناء ، وقال في معرض الذم للدنيا : إنما الحياة الدنيا لعب ولهو الآية [ محمد : 36 ] ، وفي الحديث : كل لهو باطل إلا ثلاثة فعده مما لا فائدة فيه إلا الثلاثة فإنها لما كانت تخدم أصلا ضروريا أو لاحقا به استثناها ولم يجعلها باطلا .

ووجه ثالث : وهو أن هذا الضرب لم يقع الامتنان به ولا جاء في معرض تقرير النعم كما جاء القسم الأول فلم يقع امتنان باللهو من حيث هو لهو ولا بالطرب ولا بسببه من جهة ما يسببه ، بل من جهة ما فيه من الفائدة العائدة [ ص: 517 ] لخدمة ما هو مطلوب ، وهو على وفق ما جرى في محاسن العادات ، فإن هذا القسم خارج عنها بالجملة .

ويحقق ذلك أيضا أن وجوه التمتعات هيئت للعباد أسبابها خلقا واختراعا فحصلت المنة بها من تلك الجهة ولا تجد للهو ، أو اللعب تهيئة تختص به في أصل الخلق ، وإنما هي مبثوثة لم يحصل من جهتها تعرف بمنة ألا ترى إلى قوله : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] .

وقال : والأرض وضعها للأنام [ الرحمن : 10 ] إلى قوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ الرحمن : 22 ] وقوله : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [ النحل : 8 ] إلى أشباه ذلك ولا تجد في القرآن ولا في السنة تعرف الله إلينا بشيء خلق للهو واللعب .

فإن قيل : إن حصول اللذة وراحة النفس والنشاط للإنسان مقصود ولذلك كان مبثوثا في القسم الأول كلذة الطعام والشراب والوقاع ، [ ص: 518 ] والركوب ، وغير ذلك ، وطلب هذه اللذات بمجردها من موضوعاتها جائز ، وإن لم يطلب ما وراءها من خدمة الأمور ونحوها ، فليكن جائزا أيضا في اللهو واللعب بالتفرج في البساتين وسماع الغناء ، وأشباهها مما هو مقصود للشارع فعله .

والدليل على ذلك أمور :

منها : بثها في القسم الأول .

ومنها : أنه جاء في القرآن ما يدل على القصد إليها ، كقوله تعالى : ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون [ النحل : 6 ] .

وقال : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [ النحل : 8 ] .

وقال : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا [ النحل : 67 ] .

[ ص: 519 ] وما كان نحو ذلك ، وهذا كله في معرض الامتنان بالنعم والتجمل بالأموال والتزين بها واتخاذ السكر راجع إلى معنى اللهو واللعب فينبغي أن يدخل في القسم الأول .

ومنها أن هذه الأشياء إن كانت خادمة لضد المطلوب بالكل ، فهي خادمة للمأمور به أيضا ; لأنها مما فيه تنشيط وعون على العبادة أو الخير كما كان المطلوب بالكل كذلك ، فالقسمان متحدان ، فلا ينبغي أن يفرق بينهما .

فالجواب أن استدعاء النشاط واللذات إن كان مبثوثا في المطلوب بالكل ، فهو فيه خادم للمطلوب الفعل .

وأما إذا تجرد عن ذلك ، فلا نسلم أنه مقصود ، وهى مسألة النزاع ولكن المقصود أن تكون اللذة والنشاط فيما هو خادم لضروري ، أو نحوه .

ومما يدل على ذلك قوله في الحديث : كل لهو باطل إلا ثلاثة .

[ ص: 520 ] فاستثنى ما فيه خدمة لمطلوب مؤكد ، وأبطل البواقي .

وفي الحديث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة ، فقالوا : يا رسول الله حدثنا - يعنون بما ينشط النفوس - فأنزل الله عز وجل : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها الآية [ الزمر : 23 ] .

[ ص: 521 ] فذلك في معنى أن الرجوع إلى كتاب الله بالجد فيه غاية ما طلبتم ، وذلك ما بث فيه من الأحكام والحكم والمواعظ والتحذيرات والتبشيرات الحاملة على الاعتبار والأخذ بالاجتهاد فيما فيه النجاة والفوز بالنعيم المقيم ، وهذا خلاف ما طلبوه .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #132  
قديم 12-06-2022, 03:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,077
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (132)
صـ531 إلى صـ 532




قال الراوي : " ثم ملوا ملة فقالوا : حدثنا شيئا فوق الحديث ودون القرآن فنزلت سورة يوسف " فيها آيات ، ومواعظ ، وتذكيرات ، وغرائب تحثهم على الجد في طاعة الله ، وتروح من تعب أعباء التكاليف مع ذلك فدلوا على ما تضمن قصدهم بما هو خادم للضروريات لا ما هو خادم لضد ذلك .

وفي الحديث أيضا : إن لكل عابد شدة ولكل شدة فترة فإما إلى سنة ، وإما إلى بدعة ، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك .

[ ص: 523 ] وأما آيات الزينة والجمال والسكر فإنما ذكرت فيها لتبعيتها لأصول تلك النعم لا أنها هي المقصود الأول في تلك النعم .

وأيضا فإن الجمال والزينة مما يدخل تحت القسم الأول ; لأنه خادم له ، ويدل عليه قوله تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده [ الأعراف : 32 ] .

[ ص: 524 ] وقوله - عليه الصلاة والسلام - : إن الله جميل يحب الجمال .

إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده .

وأما السكر ، فإنه قال فيه : تتخذون منه سكرا [ النحل : 67 ] فنسب إليهم اتخاذ السكر ولم يحسنه ، وقال : ورزقا حسنا [ النحل : 67 ] فحسنه .

فالامتنان بالأصل الذي وقع فيه التصرف لا بنفس التصرف كالامتنان بالنعم الأخرى الواقع فيها التصرف ، فإنهم تصرفوا بمشروع وغير مشروع ولم يؤت بغير المشروع قط على طريق الامتنان به كسائر النعم ، بل قال تعالى : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا [ يونس : 59 ] الآية فتفهم هذا .

[ ص: 525 ] وأما الوجه الثالث فإنها إن فرض كونها خادمة للمأمور به ، فهي من القسم الأول كملاعبة الزوجة ، وتأديب الفرس ، وغيرهما ، وإلا فخدمتهما للمأمور به بالقصد الثاني ، لا بالقصد الأول إذا كان ذلك الوقت الذي لعب فيه يمكنه فيه عمل ما ينشطه مما هو مطلوب الفعل بالكل كملاعبة الزوجة ، ويكفي من ذلك أن يستريح بترك الأشياء كلها والاستراحة من الأعمال بالنوم ، وغيره ريثما يزول عنه كلال العمل لا دائما كل هذه الأشياء مباحة ; لأنها خادمة للمطلوب بالقصد الأول .

أما الاستراحة إلى اللهو واللعب من غير ما تقدم فهو أمر زائد على ذلك كله ، فإن جاء به من غير مداومة ، فقد أتى بأمر يتضمن ما هو خادم للمطلوب الفعل فصارت خدمته له بالقصد الثاني ، لا بالقصد الأول فباين القسم الأول ; إذ جيء فيه بالخادم له ابتداء ، وهذا إنما جيء فيه بما هو خادم للمطلوب الترك لكنه تضمن خدمة المطلوب الفعل إذا لم يداوم عليه ، وهذا ظاهر لمن تأمله .
فصل

فإن قيل : هذا البحث كله تدقيق من غير فائدة فقهية تترتب عليه ; لأن كلا القسمين قد تضمن ضد ما اقتضاه في وضعه الأول ، فالواجب العمل على ما [ ص: 526 ] يقتضيه الحال في الاستعمال للمباح ، أو ترك الاستعمال ، وما زاد على ذلك لا فائدة فيه فيما يظهر إلا تعليق الفكر بأمر صناعي وليس هذا من شأن أهل الحزم من العلماء .

فالجواب أنه ينبني عليه أمور فقهية ، وأصول عملية .

منها الفرق بين ما يطلب الخروج عنه من المباحات عند اعتراض العوارض المقتضية للفاسد ، وما لا يطلب الخروج عنه ، وإن اعترضت العوارض ، وذلك أن القواعد المشروعة بالأصل إذا داخلتها المناكر كالبيع والشراء والمخالطة والمساكنة إذا كثر الفساد في الأرض واشتهرت المناكر بحيث صار المكلف عند أخذه في حاجاته وتصرفه في أحواله لا يسلم في الغالب من لقاء المنكر أو ملابسته ، فالظاهر يقتضي الكف عن كل ما يؤديه إلى هذا ولكن الحق يقتضي أن لا بد له من اقتضاء حاجاته ، كانت مطلوبة بالجزء ، أو بالكل ، وهى إما مطلوب بالأصل ، وإما خادم للمطلوب بالأصل ; لأنه إن فرض الكف عن ذلك أدى إلى التضييق والحرج ، أو تكليف ما لا يطاق ، وذلك مرفوع عن هذه الأمة ، فلا بد للإنسان من ذلك ، لكن مع الكف عما [ ص: 527 ] يستطاع الكف عنه ، وما سواه فمعفو عنه ; لأنه بحكم التبعية لا بحكم الأصل .

وقد بسطه الغزالي في كتاب الحلال والحرام من الإحياء على وجه أخص من هذا . فإذا أخذ قضية عامة استمر واطرد .

وقد قال ابن العربي في مسألة دخول الحمام بعد ما ذكر جوازه : فإن قيل : فالحمام دار يغلب فيها المنكر فدخولها إلى أن يكون حراما أقرب منه إلى أن يكون مكروها ، فكيف أن يكون جائزا ؟ قلنا : الحمام موضع تداو وتطهر ، فصار بمنزلة النهر ، فإن المنكر قد غلب فيه بكشف العورات ، [ ص: 528 ] وتظاهر المنكرات . فإذا احتاج إليه المرء دخله ، ودفع المنكر عن بصره وسمعه ما أمكنه ، والمنكر اليوم في المساجد والبلدان ، فالحمام كالبلد عموما ، وكالنهر خصوصا . هذا ما قاله ، وهو ظاهر في هذا المعنى .

وهكذا النظر في الأمور المشروعة بالأصل كلها ، وهذا إذا أدى الاحتراز من العارض للحرج . وأما إذا لم يؤد إليه ، وكان في الأمر المفروض مع ورود النهي سعة كسد الذرائع ففي المسألة نظر ، ويتجاذبها طرفان فمن اعتبر العارض سد في بيوع الآجال وأشباهها من الحيل ، ومن اعتبر الأصل لم يسد ما لم يبد الممنوع صراحا .

ويدخل أيضا في المسألة النظر في تعارض الأصل والغالب ، فإن لاعتبار الأصل رسوخا حقيقيا واعتبار غيره تكميلي من باب التعاون ، وهو [ ص: 529 ] ظاهر .

أما إذا كان المباح مطلوب الترك بالكل فعلى خلاف ذلك ; إذ لا يجوز لأحد أن يستمع إلى الغناء ، وإن قلنا : إنه مباح إذا حضره منكر ، أو كان في طريقه ; لأنه غير مطلوب الفعل في نفسه ولا هو خادم لمطلوب الفعل ، فلا يمكن والحالة هذه أن يستوفي المكلف حظه منه ، فلا بد من تركه جملة ، وكذلك اللعب وغيره .

وفي كتاب الأحكام بيان لهذا المعنى في فصل الرخص ، وإليه يرجع وجه الجمع بين التحذير من فتنة الدنيا مع عدم التحذير من اجتنابها ، أو اكتسابها .

فإن قيل : فقد حذر السلف من التلبس بما يجر إلى المفاسد ، وإن كان أصله مطلوبا بالكل ، أو كان خادما للمطلوب ، فقد تركوا الجماعات واتباع الجنائز ، وأشباهها مما هو مطلوب شرعا ، وحض كثير من الناس على ترك التزوج ، وكسب العيال لما داخل هذه الأشياء واتبعها من المنكرات والمحرمات .

وقد ذكر عن مالك أنه ترك الجمعات والجماعات وتعليم العلم واتباع الجنائز ، وما أشبه ذلك مما هو مطلوب لا يحصل إلا مع مخالطة الناس ، [ ص: 530 ] وهكذا غيره ، وكانوا علماء وفقهاء ، وأولياء ، ومثابرين على تحصيل الخيرات وطلب المثوبات ، وهذا كله له دليل في الشريعة كقوله - عليه الصلاة والسلام - : يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ، وسائر ما جاء في طلب العزلة ، وهى متضمنة لترك كثير مما هو مطلوب بالكل ، أو بالجزء ندبا ، أو وجوبا خادما لمطلوب ، أو مقصودا لنفسه فكيف بالمباح ؟

فالجواب أن هذا المعنى لا يرد من وجهين :

أحدهما : أنا إنما تكلمنا في جواز المخالطة في طلب الحاجات الضرورية وغيرها ، فمن عمل على أحد الجائزين فلا حرج عليه ولا يرد علينا ما هو مطلوب بالجزء ; لأنا لم نتعرض في هذه المسألة للنظر فيه .

والثاني : أن ما وقع التحذير فيه ، وما فعل السلف من ذلك إنما هو بناء على [ ص: 531 ] معارض أقوى في اجتهادهم مما تركوه كالفرار من الفتن فإنها في الغالب قادحة في أصول الضروريات كفتن سفك الدماء بين المسلمين في الباطل ، أو ما أشبه ذلك أو للإشكال الواقع عند التعارض بين المصلحة الحاصلة بالتلبس مع المفسدة المنجرة بسببه ، أو ترك ورع المتورع يحمل على نفسه مشقة يحتملها والمشقات تختلف كما مر في كتاب الأحكام فكل هذا لا يقدح في مقصودنا على حال .
فصل

ومنها الفرق بين ما ينقلب بالنية من المباحات طاعة ، وما لا ينقلب ، وذلك أن ما كان منها خادما لمأمور به تصور فيه أن ينقلب إليه ، فإن الأكل والشرب والوقاع ، وغيرها تسبب في إقامة ما هو ضروري لا فرق في ذلك بين كون المتناول في الرتبة العليا من اللذة والطيب ، وبين ما ليس كذلك وليس بينهما تفاوت يعتد به إلا في أخذه من جهة الحظ ، أو من جهة الخطاب الشرعي .

فإذا أخذ من جهة الحظ فهو المباح بعينه ، وإذا أخذ من جهة الإذن الشرعي فهو المطلوب بالكل ; لأنه في القصد الشرعي خادم للمطلوب ، [ ص: 532 ] وطلبه بالقصد الأول ، وهذا التقسيم قد مر بيانه في كتاب الأحكام .

فإذا ثبت هذا صح في المباح الذي هو خادم المطلوب الفعل انقلابه طاعة ; إذ ليس بينهما إلا قصد الأخذ من جهة الحظ ، أو من جهة الإذن .

وأما ما كان خادما لمطلوب الترك فلما كان مطلوب الترك بالكل لم يصح انصرافه إلى جهة المطلوب الفعل ; لأنه إنما ينصرف إليه من جهة الإذن .

وقد فرض عدم الإذن فيه بالقصد الأول ، وإذا أخذ من جهة الحظ فليس بطاعة فلم يصح فيه أن ينقلب طاعة فاللعب مثلا ليس في خدمة المطلوبات كأكل الطيبات ، وشربها ، فإن هذا داخل بالمعنى في جنس الضروريات ، وما دار بها بخلاف اللعب ، فإنه داخل بالمعنى في جنس ما هو ضد لها ، وحاصل هذا المباح أنه مما لا حرج فيه خاصة لا أنه مخير فيه كالمباح حقيقة .

وقد مر بيان ذلك ، وعلى هذا الأصل تخرج مسألة السماع المباح .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #133  
قديم 12-06-2022, 03:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,077
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (133)
صـ533 إلى صـ 543



فإن من الناس من يقول : إنه ينقلب بالقصد طاعة ، وإذا عرض على هذا الأصل تبين الحق فيه إن شاء [ ص: 533 ] الله تعالى .

فإن قيل : إذا سلمنا أن الخادم لمطلوب الترك مطلوب الترك بالقصد الأول ، فقد مر أنه يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني : فاللعب والغناء ونحوهم إذا قصد باستعمالها التنشيط على وظائف الخدمة والقيام بالطاعة ، فقد صارت على هذا الوجه طاعة فكيف يقال : إن مثل هذا لا ينقلب بالنية طاعة ؟

فالجواب أن اعتبار وجه النشاط على الطاعة ليس من جهة ما هو لعب ، أو غناء ، بل من جهة ما تضمن من ذلك لا بالقصد الأول ، فإنه استوى مع النوم مثلا ، والاستلقاء على القفا واللعب مع الزوجة في مطلق الاستراحة ، وبقي اختيار كونه لعبا على الجملة ، أو غناء تحت حكم اختيار المستريح .

فإذا أخذه من اختياره فهو سعي في حظه ، فلا طلب ، وإن أخذه من جهة الطلب ، فلا طلب في هذا القسم كما تبين .

ولو اعتبر فيه ما تضمنه بالقصد الثاني : لم يضر الإكثار منه والدوام عليه ولا كان منهيا عنه بالكل ; لأنه قد تضمن خدمة المطلوب الفعل فكأن [ ص: 534 ] يكون مطلوب الفعل بالكل . وقد فرضناه على خلاف ذلك ، هذا خلف ، وإنما يصير هذا شبيها بفعل المكروه طلبا لتنشيط النفس على الطاعة فكما أن المكروه بهذا القصد لا ينقلب طاعة كذلك ما كان في معناه ، أو شبيها به .

فصل

ومنها بيان وجه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأناس بكثرة المال مع علمه بسوء عاقبتهم فيه كقوله لثعلبة بن حاطب : قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ثم دعا له بعد ذلك فيقول القائل لو كان عنده أن كثرة المال يضر به فلم دعا له ؟ وجواب هذا راجع إلى ما تقدم من أن دعاءه له إنما كان من جهة أصل الإباحة في الاكتساب ، أو أصل الطلب ، فلا إشكال في دعائه - عليه الصلاة والسلام - له .

ومثله التحذير من فتنة المال مع أصل مشروعية الاكتساب له كقوله : إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض قيل : وما بركات الأرض ؟ قال : زهرة الدنيا فقيل : هل يأتي الخير بالشر ؟ فقال : لا يأتي الخير إلا بالخير ، وإن هذا المال حلوة خضرة الحديث .

وقال حكيم بن حزام : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني [ ص: 535 ] ثم سألته فأعطاني ، ثم قال : إن هذا المال حلوة خضرة الحديث ، وقال : المكثرون هم الأقلون يوم القيامة الحديث .

وما أشبه ذلك مما أشار به إلى التحذير من الفتنة ولم ينه عن أصل الاكتساب المؤدي إلى ذلك ولا عن الزائد على ما فوق الكفاية بناء على أن الأصل المقصود في المال شرعا مطلوب ، وإنما الاكتساب خادم لذلك المطلوب فلذلك كان الاكتساب من أصله حلالا إذا روعيت فيه شروطه كان صاحبه مليا ، أو غير ملي فلم يخرجه النهي عن الإسراف فيه عن كونه مطلوبا في الأصل ; لأن الطلب أصلي والنهي تبعي فلم يتعارضا ولأجل هذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يعملون في جميع ما يحتاجون إليه في دنياهم ليستعينوا به ، وهو ظاهر من هذه القاعدة .

والفوائد المبنية عليها كثيرة .
[ ص: 536 ] المسألة السادسة عشرة .

قد تقدم أن الأوامر والنواهي في التأكيد ليست على رتبة واحدة في الطلب الفعلي ، أو التركي ، وإنما ذلك بحسب تفاوت المصالح الناشئة عن امتثال الأوامر واجتناب النواهي والمفاسد الناشئة عن مخالفة ذلك .

وعلى ذلك التقدير يتصور انقسام الاقتضاء إلى أربعة أقسام ، وهي الوجوب والندب والكراهة والتحريم .

وثم اعتبار آخر لا ينقسم فيه ذلك الانقسام ، بل يبقى الحكم تابعا لمجرد الاقتضاء وليس للاقتضاء إلا وجهان .

أحدهما : اقتضاء الفعل .

والآخر : اقتضاء الترك .

فلا فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب ولا بين مكروه ومحرم ، وهذا الاعتبار جرى عليه أرباب الأحوال من الصوفية ، ومن حذا حذوهم ممن اطرح مطالب الدنيا جملة ، وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق الآخرة ; إذ لم يفرقوا بين واجب ومندوب في العمل بهما ولا بين مكروه ومحرم في ترك العمل بهما ، بل ربما أطلق بعضهم على المندوب أنه واجب على السالك ، وعلى المكروه أنه محرم ، وهؤلاء هم الذين عدوا المباحات من قبيل الرخص كما مر في أحكام الرخص ، وإنما أخذوا هذا المأخذ من طريقين .

[ ص: 537 ] أحدهما : من جهة الآمر ، وهو رأي من لم يعتبر في الأوامر والنواهي إلا مجرد الاقتضاء ، وهو شامل للأقسام كلها والمخالفة فيها كلها مخالفة للآمر والناهي ، وذلك قبيح شرعا دع القبيح عادة وليس النظر هنا فيما يترتب على المخالفة من ذم ، أو عقاب ، بل النظر إلى مواجهة الآمر بالمخالفة ، ومن هؤلاء من بالغ في الحكم بهذا الاعتبار حتى لم يفرق بين الكبائر والصغائر من المخالفات ، وعد كل مخالفة كبيرة ، وهذا رأي أبي المعالي في الإرشاد ، فإنه لم ير الانقسام إلى الصغائر والكبائر بالنسبة إلى مخالفة الآمر والناهي ، وإنما صح عنده الانقسام بالنسبة إلى المخالفات في أنفسها مع قطع النظر عن الآمر والناهي ، وما رآه يصح في الاعتبار .

والثاني : من جهة معنى الأمر والنهي وله اعتبارات .

[ ص: 538 ] أحدها : النظر إلى قصد التقرب بمقتضاها ، فإن امتثال الأوامر واجتناب النواهي من حيث هي تقتضي التقرب من المتوجه إليه كما أن المخالفة تقتضي ضد ذلك فطالب القرب لا فرق عنده بين ما هو واجب ، وبين ما هو مندوب ; لأن الجميع يقتضيه حسبما دلت عليه الشريعة كما أنه لا فرق بين المكروه والمحرم عنده ; لأن الجميع يقتضي نقيض القرب ، وهو إما البعد ، وإما الوقوف عن زيادة القرب والتمادي في القرب هو المطلوب فحصل من تلك أن الجميع على وزان واحد في قصد التقرب والهرب عن البعد .

والثاني : النظر إلى ما تضمنته الأوامر والنواهي من جلب المصالح ، ودرء المفاسد عند الامتثال ، وضد ذلك عند المخالفة ، فإنه قد مر أن الشريعة وضعت لجلب المصالح ، ودرء المفاسد فالباني على مقتضى ذلك لا يفترق عنده طلب من طلب كالأول في القصد إلى التقرب .

وأيضا فإذا كان التفاوت في مراتب الأوامر والنواهي راجعا إلى مكمل خادم ، ومكمل مخدوم ، وما هو كالصفة والموصوف فمتى حصلت [ ص: 539 ] المندوبات كملت الواجبات ، وبالضد فالأمر راجع إلى كون الضروريات آتية على أكمل وجوهها فكان الافتقار إلى المندوبات كالمضطر إليه في أداء الواجبات فزاحمت المندوبات الواجبات في هذا الوجه من الافتقار فحكم عليها بحكم واحد .

وعلى هذا الترتيب ينظر في المكروهات مع المحرمات من حيث كانت رائدا لها ، وأنسا بها ، فإن الأنس بمخالفة ما يوجب بمقتضى العادة الأنس بما فوقها حتى قيل : المعاصي بريد الكفر .

[ ص: 540 ] ودل على ذلك قوله تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ المطففين : 14 ] .

وتفسيره في الحديث .

وحديث الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات إلخ .

[ ص: 541 ] فقوله : كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه .

وفي قسم الامتثال قوله : وما تقرب عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه الحديث .

والثالث : النظر إلى مقابلة النعمة بالشكران أو بالكفران من حيث كان امتثال الأوامر والنواهي شكرانا على الإطلاق ، فإذا كانت النعمة على العبد ممدودة من العرش إلى الفرش بحسب الارتباط الحكمي ، وما دل عليه قوله تعالى : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ الجاثية : 13 ] .

وقوله : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم إلى قوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [ إبراهيم : 32 - 34 ] وأشباه ذلك .

فتصريف النعمة في مقتضى الأمر شكران لكل نعمة وصلت إليك ، أو [ ص: 542 ] كانت سببا في وصولها إليك والأسباب الموصلة ذلك إليك لا تختص بسبب دون سبب ولا خادم دون خادم فحصل شكر النعم التي في السماوات والأرض ، وما بينهما ، وتصريفها في مخالفة الأمر كفران لكل نعمة وصلت إليك ، أو كانت سببا فيها كذلك أيضا .

وهذا النظر ذكره الغزالي في الإحياء ، وهو يقتضي أن لا فرق بين أمر وأمر ولا بين نهي ونهي ، فامتثال كل أمر شكران على الإطلاق ، ومخالفة كل أمر كفران على الإطلاق ، وثم أوجه أخر يكفي منها ما ذكر ، وهذا النظر راجع إلى مجرد اصطلاح لا إلى معنى يختلف فيه ; إذ لا ينكر أصحاب هذا النظر انقسام الأوامر والنواهي كما يقول الجمهور بحسب التصور النظري ، وإنما أخذوا في نمط آخر ، وهو أنه لا يليق بمن يقال له : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ الذاريات : 56 ] أن يقوم بغير التعبد وبذل المجهود في التوجه إلى الواحد المعبود ، وإنما النظر في مراتب الأوامر والنواهي يشبه الميل إلى مشاحة العبد لسيده في طلب حقوقه ، وهذا غير لائق بمن لا يملك لنفسه شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة ; إذ ليس للعبد حق على السيد من حيث هو عبد ، بل عليه بذل المجهود والرب يفعل ما يريد .
فصل

ويقتضي هذا النظر التوبة عن كل مخالفة تحصل بترك المأمور به ، أو فعل المنهي عنه ، فإنه إذا ثبت أن مخالفة الشارع قبيحة شرعا ثبت أن المخالف [ ص: 543 ] مطلوب بالتوبة عن تلك المخالفة من حيث هي مخالفة الأمر ، أو النهي ، أو من حيث ناقضت التقرب ، أو من حيث ناقضت وضع المصالح ، أو من حيث كانت كفرانا للنعمة .

ويندرج هنا المباح على طريقة هؤلاء من حيث جرى عندهم مجرى الرخص ، ومذهبهم الأخذ بالعزائم .

وقد تقدم أن الأولى ترك الرخص فيما استطاع المكلف فيحصل من ذلك أن العمل بالمباح مرجوح على ذلك الوجه ، وإذا كان مرجوحا فالراجح الأخذ بما يضاده من المأمورات ، وترك شيء من المأمورات مع الاستطاعة مخالفة فالنزول إلى المباح على هذا الوجه مخالفة في الجملة ، وإن لم تكن مخالفة في الحقيقة .

وبهذا التقرير يتبين معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم سبعين مرة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #134  
قديم 12-06-2022, 03:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,077
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (134)
صـ544 إلى صـ 554






[ ص: 544 ] وقوله : إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله الحديث ، ويشمله عموم قوله تعالى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون [ النور : 31 ] .

ولأجله أيضا جعل الصوفية بعض مراتب الكمال إذا اقتصر السالك عليها دون ما فوقها نقصا وحرمانا ، فإن ما تقتضيه المرتبة العليا فوق ما تقتضيه المرتبة التي دونها والعاقل لا يرضى بالدون ولذلك أمر بالاستباق إلى الخيرات مطلقا ، وقسم المكلفون إلى أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال والسابقين ، وإن كان السابقون من أصحاب اليمين ، وقال تعالى : فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين [ ص: 545 ] الآية [ الواقعة : 88 - 89 ] ، فكان من شأنهم أن يتجاروا في ميدان الفضائل حتى يعدوا من لم يكن في ازدياد ناقصا ، ومن لم يعمر أنفاسه بطالا .

وهذا مجال لا مقال فيه ، وعليه أيضا نبه حديث الندامة يوم القيامة [ ص: 546 ] حيث تعم الخلائق كلهم فيندم المسيء أن لا يكون قد أحسن والمحسن أن لا يكون قد ازداد إحسانا .

فإن قيل : هذا إثبات للنقص في مراتب الكمال .

وقد تقدم أن مراتب الكمال لا نقص فيها .

فالجواب أنه ليس بإثبات نقص على الإطلاق ، وإنما هو إثبات راجح ، وأرجح ، وهذا موجود .

وقد ثبت أن الجنة مائة درجة ولا شك في تفاوتها في الأكملية والأرجحية ، وقال الله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ البقرة : 253 ] .

وقال : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [ الإسراء : 55 ] .

ومعلوم أن لا نقص في مراتب النبوة إلا أن المسارعة في الخيرات تقتضي المطالبة بأقصى المراتب بحسب الإمكان عادة ، فلا يليق بصاحبها الاقتصار على مرتبة دون ما فوقها فلذلك قد تستنقص النفوس الإقامة ببعض [ ص: 547 ] المراتب مع إمكان الرقي ، وتتحسر إذا رأت شفوف ما فوقها عليها كما يتحسر أصحاب النقص حقيقة إذا رأوا مراتب الكمال ، كالكفار وأصحاب الكبائر من المسلمين ، وما أشبه ذلك .

ولما فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين دور الأنصار ، وقال : في كل دور الأنصار خير قال سعد بن عبادة : يا رسول الله خير دور الأنصار فجعلنا آخرا ، فقال : أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار ؟ .

وفي حديث آخر : قد فضلكم على كثير .

فهذا يشير إلى أن رتب الكمال تجتمع في مطلق الكمال ، وإن كان لها مراتب أيضا ، فلا تعارض بينهما والله أعلم .

[ ص: 548 ] وقد يقال : إن قول من قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين راجع إلى هذا المعنى ، وهو ظاهر فيه والله أعلم .
[ ص: 549 ] المسألة السابعة عشرة

تقدم أن من الحقوق المطلوبة ما هو حق لله ، وما هو حق للعباد ، وأن ما هو حق للعباد ففيه حق لله كما أن ما هو حق لله فهو راجع إلى العباد ، وعلى ذلك يقع التفريع هنا بحول الله فنقول الأوامر والنواهي يمكن أخذها امتثالا من جهة ما هي حق لله تعالى مجردا عن النظر في غير ذلك ، ويمكن أخذها من جهة ما تعلقت بها حقوق العباد ، ومعنى ذلك أن المكلف إذا سمع مثلا قول الله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ آل عمران : 97 ] فلامتثاله هذا الأمر مأخذان :

أحدهما : وهو المشهور المتداول أن ينظر في نفسه بالنسبة إلى قدرته على قطع الطريق ، وإلى زاد يبلغه ، وإلى مركوب يستعين به ، وإلى الطريق إن كان مخوفا ، أو مأمونا ، وإلى استعانته بالرفقة والصحبة لمشقة الوحدة وغررها ، وإلى غير ذلك من الأمور التي تعود عليه في قصده بالمصلحة الدنيوية ، أو بالمفسدة .

فإذا حصلت له أسباب السفر وشروطه العاديات انتهض للامتثال ، [ ص: 550 ] وإن تعذر عليه ذلك علم أن الخطاب لم ينحتم عليه .

والثاني : أن ينظر في نفس ورود الخطاب عليه من الله تعالى غافلا ، ومعرضا عما سوى ذلك فينتهض إلى الامتثال كيف أمكنه لا يثنيه عنه إلا العجز الحالي أو الموت آخذا للاستطاعة أنها باقية ما بقي من رمقه بقية ، وأن الطوارق العارضة والأسباب المخوفة لا توازي عظمة أمر الله فتسقطه ، أو ليست بطوارق ولا عوارض في محصول العقد الإيماني حسبما تقدم في فصل الأسباب والمسببات من كتاب الأحكام .

وهكذا سائر الأوامر والنواهي .

فأما المأخذ الأول فجار على اعتبار حقوق العباد ; لأن ما يذكره الفقهاء في الاستطاعة المشروطة راجع إليها .

[ ص: 551 ] وأما الثاني : فجار على إسقاط اعتبارها .

وقد تقدم ما يدل على صحة ذلك الإسقاط ، ومن الدليل أيضا على صحة هذا المأخذ أشياء .

أحدها : ما جاء في القرآن من الآيات الدالة على أن المطلوب من العبد التعبد بإطلاق ، وأن على الله ضمان الرزق كان ذلك مع تعاطي الأسباب أولا كقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ الذاريات : 56 - 57 ] .

وقوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [ طه : 132 ] .

فهذا واضح في أنه إذا تعارض حق الله ، وحق العباد فالمقدم حق الله ، فإن حقوق العباد مضمونة على الله تعالى والرزق من أعظم حقوق العباد ، فاقتضى الكلام أن من اشتغل بعبادة الله كفاه الله مؤنة الرزق ، وإذا ثبت هذا [ ص: 552 ] في الرزق ، ثبت في غيره من سائر المصالح المجتلبة والمفاسد المتوقاة ، وذلك لأن الله قادر على الجميع .

وقال تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله [ يونس : 107 ] وفي الآية الأخرى : وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [ الأنعام : 17 ] .

وقال : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 3 ] بعد قوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ الطلاق : 2 - 3 ] .

فمن اشتغل بتقوى الله تعالى فالله كافيه والآيات في هذا المعنى كثيرة .

[ ص: 553 ] والثاني : ما جاء في السنة من ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما هو كائن فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه ، وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك لم يقدروا عليه الحديث فهو كله نص في ترك الاعتماد على الأسباب ، وفي الاعتماد على الله والأمر بطاعة الله .

[ ص: 554 ] وأحاديث الرزق والأجل كقوله : اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد .

وقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب في ابن صياد : إن يكنه ، فلا تطيقه .

وقال : جف القلم بما أنت لاق .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #135  
قديم 12-06-2022, 03:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,077
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (135)
صـ555 إلى صـ 567






وقال : لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح ، فإن لها [ ص: 555 ] ما قدر لها .

وقال في العزل : ولا عليكم أن لا تفعلوا ، فإنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة .

وفي الحديث : المعصوم من عصم الله .

وقال : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة .

[ ص: 556 ] إلى سائر ما في هذا المعنى مما هو صريح في أن أصل الأسباب التسبب ، وأنها لا تملك شيئا ولا ترد شيئا ، وأن الله هو المعطي والمانع ، وأن طاعة الله هي العزيمة الأولى .

والثالث : ما ثبت من هذا العمل عن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، فقدموا طاعة الله على حقوق أنفسهم ، فقد قام - عليه الصلاة والسلام - حتى تفطرت قدماه .

[ ص: 557 ] [ ص: 558 ] وقال : أفلا أكون عبدا شكورا .

وبلغ رسالة ربه على ما كان عليه من الخوف من قومه حين تمالئوا على إهلاكه ولكن الله عصمه ، وقال الله له : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا الآية [ التوبة : 51 ] .

وقال له : ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله [ الأحزاب : 48 ] .

فأمره باطراح ما يتوقاه ، فإن الله حسبه .

وقال : الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله [ الأحزاب : 39 ] .

[ ص: 559 ] وقال قبل ذلك : وكان أمر الله قدرا مقدورا [ الأحزاب : 38 ] .

وقال هود عليه السلام لقومه ، وهو يبلغهم الرسالة : فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله الآية [ هود : 55 - 56 ] .

وقال موسى وهارون عليهما السلام : ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى [ طه : 45 ] .

فقال الله لهما : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [ طه : 46 ] .

وكان عبد الله ابن أم مكتوم قد نزل عذره في قوله تعالى : غير أولي الضرر [ النساء : 95 ] ولكنه كان بعد ذلك يقول : إني أعمى لا أستطيع أن أفر فادفعوا إلي اللواء ، وأقعدوني بين الصفين فيترك ما منح من الرخصة ، ويقدم حق الله على حق نفسه .

وروي عن جندع بن ضمرة أنه كان شيخا كبيرا فلما أمروا بالهجرة ، وشدد عليهم فيها مع علمهم بأن الدين لا حرج فيه ولا تكليف بما لا يطاق قال لبنيه : إني أجد حيلة ، فلا أعذر احملوني على سرير فحملوه فمات بالتنعيم ، وهو يصفق يمينه على شماله ، ويقول : هذا لك ، وهذا لرسولك . الحديث .

[ ص: 560 ] وعن بعض الصحابة أنه قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخ لي أحدا فرجعنا جريحين فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي ، أو قال لي : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أيسر جرحا منه فكان إذا غلب حملته عقبة ، ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون ، وفي النقل من هذا النحو كثير .

وقد مر منه في فصل الرخص والعزائم من كتاب الأحكام ما فيه كفاية .

فإن قيل : إن هذه الأدلة إذا وقف معها حسبما تقرر اقتضت اطراح الأسباب جملة أعني ما كان منها عائدا إلى مصالح العباد ، وهذا غير صحيح ; لأن الشارع وضعها ، وأمر بها واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه والتابعون [ ص: 561 ] بعده ، وهى عمدة ما حافظت عليه الشريعة .

وأيضا فإن حقوق الله تعالى ليست على وزان واحد في الطلب فمنها ما هو مطلوب حتما كالقواعد الخمس ، وسائر الضروريات المراعاة في كل ملة .

ومنها ما ليس بحتم كالمندوبات فكيف يقال : إن المندوبات مقدمة على غيرها من حقوق العباد ، وإن كانت واجبة ؟ هذا مما لا يستقيم في النظر .

وأيضا فالأدلة المعارضة لما تقدم أكثر كقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ البقرة : 195 ] .

وقوله : وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [ البقرة : 197 ] .

وقوله : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل الآية [ الأنفال : 60 ] .

وقد كان - عليه الصلاة والسلام - يستعد الأسباب لمعاشه ، وسائر أعماله من جهاد وغيره ، ويعمل بمثل ذلك أصحابه والسنة الجارية في الخلق الجريان على العادات ، وما تقدم لا يقتضيه ، فلا بد من صحة أحدهما ، وإن صح بطل الآخر وليس ما دللتم عليه بأولى مما دللنا عليه والترجيح من غير دليل تحكم .

[ ص: 562 ] فالجواب أن ما تقدم لا يدل على اطراح الأسباب ، بل يدل على تقديم بعض الأسباب خاصة ، وهى الأسباب التي يقتضيها حق الله تعالى على الأسباب التي تقتضيها حقوق العباد على وجه اجتهادي شرعي قامت الأدلة عليه فليس بين ذلك ، وبين أمره - عليه الصلاة والسلام - بالأسباب واستعماله لها تعارض ، ودليل ذلك إقراره - عليه الصلاة والسلام - فعل من اطرحها عند التعارض ، وعمله - عليه الصلاة والسلام - على اطراحها كذلك في مواطن كثيرة ، وندبه إلى ذلك كما تبين في الأحاديث المتقدمة .

وقد مر في فصل الأسباب من كتاب الأحكام وجه الفقه في هذا المكان عند ذكر كيفية الدخول في الأسباب ، هذا جواب الأول .

وأما الثاني فإن حقوق الله تعالى على أي وجه فرضت أعظم من حقوق العباد كيف كانت ، وإنما فسح للمكلف في أخذ حقه وطلبه من باب الرخصة والتوسعة لا من باب عزائم المطالب ، وبيان ذلك في فصل الرخص والعزائم ، وإذا كان كذلك فالعزائم أولى بالتقديم ما لم يعارض معارض .

وأيضا فإن حقوق الله إن كانت ندبا إنما هي من باب التحسينات ، وقد مر أن أصل التحسينيات خادم للضروريات ، وإنها ربما أدى الإخلال بها إلى الإخلال بالضروريات ، وإن المندوبات بالجزء واجبات بالكل فلأجل هذا كله قد يسبق إلى النظر تقديمها على واجبات حقوق العباد ، وهو نظر فقهي صحيح مستقيم في النظر .

[ ص: 563 ] وأما الثالث ، فلا معارضة فيه ، فإن أدلته لا تدل على تقديم حقوق العباد على حقوق الله أصلا ، وإذا لم تدل عليها لم يكن فيها معارضة أصلا ، وإلى هذا كله ، فإن تقديم حقوق العباد إنما يكون حيث يعارض في تقديم حق الله معارض يلزم منه تضييع حق الله تعالى ، فإنه إذا شق عليه الصوم مثلا لمرضه ولكنه صام فشغله ألم المشقة بالصوم عن استيفاء الصلاة على كمالها ، وإدامة الحضور فيها ، أو ما أشبه ذلك عادت عليه المحافظة على تقديم حق الله إلى الإخلال بحقه فلم يكن له ذلك .

فأما إن لم يكن كذلك فليس تقديم حق الله على حق العبد بنكير ألبتة ، بل هو الأحق على الإطلاق ، وهذا فقه في المسألة حسن جدا ، وبالله التوفيق .
فصل

واعلم أن ما تقدم من تأخير حقوق العباد إنما هو فيما يرجع إلى نفس المكلف لا إلى غيره .

أما ما كان من حق غيره من العباد فهو بالنسبة إليه من حقوق الله تعالى ، وقد تبين هذا في موضعه .
[ ص: 564 ] المسألة الثامنة عشرة .

الأمر والنهي يتواردان على الفعل وأحدهما راجع إلى جهة الأصل والآخر راجع إلى جهة التعاون هل يعتبر الأصل ، أو جهة التعاون ؟

أما اعتبارهما معا من جهة واحدة ، فلا يصح ولا بد من التفصيل فالأمر إما أن يرجع إلى جهة الأصل ، أو التعاون .

فإن كان الأول فحاصله راجع إلى قاعدة سد الذرائع ، فإنه منع الجائز لئلا يتوسل به إلى الممنوع .

وقد مر ما فيه ، وحاصل الخلاف فيه أنه يحتمل ثلاثة أوجه .

أحدها : اعتبار الأصل ; إذ هو الطريق المنضبط والقانون المطرد .

والثاني : اعتبار جهة التعاون ، فإن اعتبار الأصل مؤد إلى المآل [ ص: 565 ] [ ص: 566 ] الممنوع والأشياء إنما تحل وتحرم بمآلاتها ولأنه فتح باب الحيل .

والثالث : التفصيل ، فلا يخلو أن تكون جهة التعاون غالبة ، أو لا ، فإن كانت غالبة فاعتبار الأصل واجب ; إذ لو اعتبر الغالب هنا لأدى إلى انخرام الأصل جملة ، وهو باطل ، وإن لم تكن غالبة فالاجتهاد .

وإن كان الثاني : فظاهره شنيع ; لأنه إلغاء لجهة النهي ليتوصل إلى [ ص: 567 ] المأمور به تعاونا ، وطريق التعاون متأخر في الاعتبار عن طريق إقامة الضروري والحاجي ; لأنه تكميلي ، وما هو إلا بمثابة الغاصب والسارق ليتصدق بذلك على المساكين ، أو يبني قنطرة ولكنه صحيح إذا نزل منزلته ، وهو أن يكون من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة كالمنع من تلقي الركبان ، فإن منعه في الأصل ممنوع ; إذ هو من باب منع الارتفاق ، وأصله ضروري ، أو حاجي لأجل أهل السوق ، ومنعبيع الحاضر للبادي ; لأنه في الأصل منع من النصيحة إلا أنه إرفاق لأهل الحضر ، وتضمين الصناع قد يكون من هذا القبيل وله نظائر كثيرة ، فإن جهة التعاون هنا أقوى .

وقد أشار الصحابة على الصديق ; إذ قدموه خليفة بترك التجارة والقيام بالتحرف على العيال لأجل ما هو أعم في التعاون ، وهو القيام بمصالح المسلمين ، وعوضه من ذلك في بيت المال ، وهذا النوع صحيح كما تفسر ، والله أعلم .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #136  
قديم 12-06-2022, 03:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,077
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (136)
صـ7 إلى صـ 18






الْفَصْلُ الرَّابِعُ

فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ

وَلَابُدَّ مِنْ مُقَدِّمَةٍ تُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ هَاهُنَا ، وَالْمُرَادُ الْعُمُومُ الْمَعْنَوِيُّ ، كَانَ لَهُ صِيغَةٌ مَخْصُوصَةٌ أَوْ لَا ، فَإِذَا قُلْنَا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَفِي تَحْرِيمِ الظُّلْمِ أَوْ غَيْرِهِ إِنَّهُ عَامٌّ فَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ ، بِدَلِيلٍ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ أَوْ لَا ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ هُنَا إِنَّمَا هِيَ الِاسْتِقْرَائِيَّةُ ، الْمُحَصِّلَةُ بِمَجْمُوعِهَا الْقَطْعَ بِالْحُكْمِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ ، وَالْخُصُوصُ بِخِلَافِ الْعُمُومِ ، فَإِذَا ثَبَتَ مَنَاطُ النَّظَرِ وَتَحَقَّقَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَسَائِلُ :
[ ص: 8 ] المسألة الأولى

إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة ; فلا تؤثر فيها معارضة : قضايا الأعيان ، ولا حكايات الأحوال ، والدليل على ذلك أمور : أحدها أن القاعدة مقطوع بها بالفرض ; لأنا إنما نتكلم في الأصول الكلية القطعية ، وقضايا الأعيان مظنونة أو متوهمة ، والمظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه .

والثاني : أن القاعدة غير محتملة لاستنادها إلى الأدلة القطعية ، وقضايا الأعيان محتملة ; لإمكان أن تكون على غير ظاهرها ، أو على ظاهرها وهي مقتطعة ومستثناة من ذلك الأصل ; فلا يمكن والحالة هذه إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه .

والثالث : أن قضايا الأعيان جزئية ، والقواعد المطردة كليات ، ولا تنهض [ ص: 9 ] الجزئيات أن تنقض الكليات ، ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية في الجزئيات وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص ; كما في المسألة السفرية بالنسبة إلى الملك المترف ، وكما في الغنى بالنسبة إلى مالك النصاب والنصاب لا يغنيه على الخصوص ، وبالضد في مالك غير النصاب وهو به غني .

والرابع : أنها لو عارضتها ; فإما أن يعملا معا ، أو يهملا أو يعمل بأحدهما دون الآخر ، أعني في محل المعارضة ; فإعمالهما معا باطل ، وكذلك إهمالهما ; لأنه إعمال للمعارضة فيما بين الظني والقطعي ، وإعمال الجزئي دون الكلي ترجيح له على الكلي ، وهو خلاف القاعدة ; فلم يبق إلا الوجه الرابع ، وهو إعمال الكلي دون الجزئي ، وهو المطلوب .

فإن قيل : هذا مشكل على بابي التخصيص والتقييد ; فإن تخصيص العموم وتقييد المطلق صحيح عند الأصوليين بأخبار الآحاد وغيرها من الأمور المظنونة وما ذكرت جار فيها ; فيلزم إما بطلان ما قالوه ، وإما بطلان هذه القاعدة ، لكن ما قالوه صحيح ; فلزم إبطال هذه القاعدة .

فالجواب من وجهين : أحدهما أن ما فرض في السؤال ليس من مسألتنا بحال ; فإن ما نحن [ ص: 10 ] فيه من قبيل ما يتوهم فيه الجزئي معارضا وفي الحقيقة ليس بمعارض ; فإن القاعدة إذا كانت كلية ، ثم ورد في شيء مخصوص وقضية عينية ما يقتضي بظاهره المعارضة في تلك القضية المخصوصة وحدها ، مع إمكان أن يكون معناها موافقا لا مخالفا ; فلا إشكال في أن لا معارضة هنا ، وهو هنا محل التأويل لمن تأول ، أو محل عموم الاعتبار إن لاقى بالموضع الاطراح والإهمال كما إذا ثبت لنا أصل التنزيه كليا عاما ثم ورد موضع ظاهره التشبيه في أمر [ ص: 11 ] خاص يمكن أن يراد به خلاف ظاهره ، على ما أعطته قاعدة التنزيه ; فمثل هذا لا يؤثر في صحة الكلية الثابتة ، وكما إذا ثبت لنا أصل عصمة الأنبياء من الذنوب ، ثم جاء قوله : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ونحو ذلك ، فهذا لا يؤثر لاحتمال حمله على وجه لا يخرم ذلك الأصل ، وأما تخصيص العموم ; فشيء آخر لأنه إنما يعمل بناء على أن المراد بالمخصص ظاهره من غير تأويل ولا احتمال ; فحينئذ يعلم ويعتبر كما قاله الأصوليون ، وليس ذلك ما نحن فيه
[ ص: 12 ] فصل

وهذا الموضع كثير الفائدة ، عظيم النفع بالنسبة إلى المتمسك بالكليات إذا عارضتها الجزئيات وقضايا الأعيان ; فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي في حمله على وجوه كثيرة ; فإن تمسك بالجزئي لم يمكنه مع التمسك الخيرة في الكلي ; فثبت في حقه المعارضة ، ورمت به أيدي الإشكالات في مهاو بعيدة ، وهذا هو أصل الزيغ والضلال في الدين ; لأنه اتباع للمتشابهات ، وتشكك في القواطع المحكمات ، ولا توفيق إلا بالله .

ومن فوائد سهولة المتناول في انقطاع الخصام والتشغيب الواقع من المخالفين .

ومثال هذا ما وقع في بعض المجالس ، وقد ورد على غرناطة بعض طلبة العدوة الأفريقية ; فأورد على مسألة العصمة الإشكال المورد في قتل موسى للقبطي ، وأن ظاهر القرآن يقضي بوقوع المعصية منه عليه السلام بقوله : هذا من عمل الشيطان [ القصص : 15 ] وقوله : رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي [ القصص : 16 ] [ ص: 13 ] فأخذ معه في تفصيل ألفاظ الآية بمجردها ، وما ذكر فيها من التأويلات بإخراج الآيات عن ظواهرها ، وهذا المأخذ لا يتخلص ، وربما وقع الانفصال على غير وفاق ; فكان مما ذاكرت به بعض الأصحاب في ذلك : أن المسألة سهلة في النظر إذا روجع بها الأصل ، وهي مسألة عصمة الأنبياء عليهم السلام ; فيقال له : الأنبياء معصومون من الكبائر باتفاق أهل السنة وعن الصغائر باختلاف ، وقد قام البرهان على ذلك في علم الكلام ; فمحال أن يكون هذا الفعل من موسى كبيرة ، وإن قيل : إنهم معصومون أيضا من الصغائر ، وهو صحيح ; فمحال أن يكون ذلك الفعل منه ذنبا ، فلم يبق إلا أن يقال : إنه ليس بذنب ، ولك في التأويل السعة بكل ما يليق بأهل النبوة ولا ينبو عنه ظاهر الآيات فاستحسن ذلك ، ورأى ذلك مأخذا علميا في المناظرات ، وكثيرا ما يبني عليه النظار ، وهو حسن ، والله أعلم .
[ ص: 14 ] المسألة الثانية

ولما كان قصد الشارع ضبط الخلق إلى القواعد العامة ، وكانت العوائد قد جرت بها سنة الله أكثرية لا عامة ، وكانت الشريعة موضوعة على مقتضى ذلك الوضع ; كان من الأمر الملتفت إليه إجراء القواعد على العموم العادي ، لا العموم الكلي التام الذي لا يختلف عنه جزئي ما .

أما كون الشريعة على ذلك الوضع ; فظاهر ، ألا ترى أن وضع التكاليف عام ؟ وجعل على ذلك علامة البلوغ ، وهو مظنة لوجود العقل الذي هو مناط التكليف لأن العقل يكون عنده في الغالب لا على العموم ; إذ لا يطرد ولا ينعكس كليا على التمام ; لوجود من يتم عقله قبل البلوغ ، ومن ينقص وإن كان بالغا ، إلا أن الغالب الاقتران .

وكذلك ناط الشارع الفطر والقصر بالسفر لعلة المشقة ، وإن كانت المشقة قد توجد بدونها وقد تفقد معها ، ومع ذلك ; فلم يعتبر الشارع تلك النوادر ، بل أجرى القاعدة مجراها ، ومثله حد الغنى بالنصاب ، وتوجيه الأحكام [ ص: 15 ] بالبينات ، وإعمال أخبار الآحاد والقياسات الظنية إلى غير ذلك من الأمور التي قد تتخلف مقتضياتها في نفس الأمر ، ولكنه قليل بالنسبة إلى عدم التخلف ; فاعتبرت هذه القواعد كلية عادية لا حقيقية .

وعلى هذا الترتيب تجد سائر الفوائد التكليفية .

وإذا ثبت ذلك ظهر أن لابد من إجراء العمومات الشرعية على مقتضى الأحكام العادية ، من حيث هي منضبطة بالمظنات ، إلا إذا ظهر معارض ; فيعمل على ما يقتضيه الحكم فيه ، كما إذا عللنا القصر بالمشقة ; فلا ينتقض بالملك المترف ولا بالصناعة الشاقة ، وكما لو علل الربا في الطعام بالكيل ; [ ص: 16 ] فلا ينتقض بما لا يتأتى كيله لقلة أو غيرها كالتافه من البر وكذلك إذا عللناه في النقدين بالثمنية لا ينتقض بما لا يكون ثمنا لقلته ، أو عللناه في الطعام بالاقتيات ، فلا ينتقض بما ليس فيه اقتيات ، كالحبة الواحدة ، وكذلك إذا اعترضت علة القوت بما يقتات في النادر ; كاللوز ، والجوز ، والقثاء ، والبقول ، وشبهها ، بل الاقتيات إنما اعتبر الشارع منه ما كان معتادا مقيما للصلب على الدوام وعلى العموم ، ولا يلزم اعتباره في جميع الأقطار .

[ ص: 17 ] وكذلك نقول : إن الحد علق في الخمر على نفس التناول حفظا على العقل ، ثم إنه أجري الحد في القليل الذي لا يذهب العقل مجرى الكثير اعتبارا بالعادة في تناول الكثير ، وعلق حد الزنى على الإيلاج وإن كان المقصود حفظ الأنساب ; فيحد من لم ينزل لأن العادة الغالبة مع الإيلاج الإنزال ، وكثير من هذا .

فليكن على بال من النظر في المسائل الشرعية أن القواعد العامة إنما تنزل على العموم العادي .
[ ص: 18 ] المسألة الثالثة

لا كلام في أن للعموم صيغا وضعية ، والنظر في هذا مخصوص بأهل العربية ، وإنما ينظر هنا في أمر آخر وإن كان من مطالب أهل العربية أيضا ، ولكنه أكيد التقرير هاهنا ، وذلك أن للعموم الذي تدل عليه الصيغ بحسب الوضع نظرين : أحدهما : باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق ، وإلى هذا النظر قصد الأصوليين ; فلذلك يقع التخصيص عندهم بالعقل والحس وسائر المخصصات المنفصلة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #137  
قديم 12-06-2022, 03:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,077
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (137)
صـ19 إلى صـ 29





والثاني : بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها ، وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك .

وهذا الاعتبار استعمالي ، والأول قياسي .

والقاعدة في الأصول العربية أن الأصل الاستعمالي إذا عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي .

وبيان ذلك هنا أن العرب قد تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه مما يدل عليه معنى الكلام خاصة ، دون ما تدل عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي ; كما أنها أيضا تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع ، وكل ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال ; فإن المتكلم قد يأتي بلفظ عموم مما يشمل بحسب الوضع نفسه وغيره ، وهو لا يريد نفسه ولا يريد أنه داخل في مقتضى العموم ، وكذلك قد يقصد بالعموم صنفا مما يصلح اللفظ له في أصل الوضع ، دون غيره من الأصناف ، كما أنه قد يقصد [ ص: 20 ] ذكر البعض في لفظ العموم ، ومراده من ذكر البعض الجميع ; كما تقول : فلان يملك المشرق والمغرب ، والمراد جميع الأرض ، وضرب زيد الظهر والبطن ، ومنه رب المشرقين ورب المغربين [ الرحمن : 17 ] وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [ الزخرف : 84 ] فكذلك إذا قال : من دخل داري أكرمته ; فليس المتكلم بمراد ، وإذا قال : أكرمت الناس ، أو قاتلت الكفار ; فإنما المقصود من لقي منهم ; فاللفظ عام فيهم خاصة ، وهم المقصودون باللفظ العام دون من لم يخطر بالبال .

قال ابن خروف : " ولو حلف رجل بالطلاق والعتق ليضربن جميع من في الدار وهو معهم فيها ، فضربهم ولم يضرب نفسه ; لبر ولم يلزمه شيء ، ولو قال : اتهم الأمير كل من في المدينة فضربهم ; فلا يدخل الأمير في التهمة والضرب قال : " فكذلك لا يدخل شيء من صفات الباري تعالى تحت الإخبار في نحو قوله تعالى : خالق كل شيء [ الزمر : 62 ] لأن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه ، ومثله : والله بكل شيء عليم [ البقرة : 282 ] وإن كان عالما بنفسه وصفاته ، ولكن الإخبار إنما وقع عن جميع المحدثات ، وعلمه بنفسه وصفاته شيء آخر " قال : فكل ما وقع الإخبار به من نحو هذا ، فلا تعرض فيه لدخوله تحت [ ص: 21 ] المخبر عنه ; فلا تدخل صفاته تعالى تحت الخطاب ، وهذا معلوم من وضع اللسان فالحاصل أن العموم إنما يعتبر بالاستعمال ، ووجوه الاستعمال كثيرة ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان فإن قوله : تدمر كل شيء بأمر ربها [ الأحقاف : 25 ] لم يقصد به أنها تدمر السماوات والأرض والجبال ، ولا المياه ولا غيرها مما هو في معناها ، وإنما المقصود تدمر كل شيء مرت عليه مما شأنها أن تؤثر فيه على الجملة ، ولذلك قال : فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم [ الأحقاف : 25 ] وقال في الآية الأخرى : ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ الذاريات : 25 ] ومن الدليل على هذا أنه لا يصح استثناء هذه الأشياء بحسب اللسان ; فلا يقال من دخل داري أكرمته إلا نفسي أو أكرمت الناس إلا نفسي ، ولا قاتلت الكفار إلا من لم ألق منهم ، ولا ما كان نحو ذلك ، وإنما يصح الاستثناء من غير المتكلم ممن دخل الدار ، أو ممن لقيت من الكفار ، وهو الذي يتوهم دخوله لو لم يستثن ، هذا كلام العرب في التعميم ; فهو إذا الجاري في عمومات الشرع .

[ ص: 22 ] وأيضا ; فطائفة من أهل الأصول نبهوا على هذا المعنى ، وأن ما لا يخطر ببال المتكلم عند قصده التعميم إلا بالإخطار لا يحمل لفظه عليه ; إلا مع الجمود على مجرد اللفظ ، وأما المعنى ; فيبعد أن يكون مقصودا للمتكلم ; كقوله صلى الله عليه وسلم أيما إهاب دبغ فقد طهر قال الغزالي : " خروج الكلب عن ذهن المتكلم والمستمع عند التعرض للدباغ ليس ببعيد ، بل هو الغالب الواقع ، ونقيضه هو الغريب المستبعد " وكذا قال غيره أيضا ، وهو موافق لقاعدة العرب ، وعليه يحمل كلام الشارع بل لابد [ ص: 23 ] فإن قيل : إذا ثبت أن اللفظ العام ينطلق على جميع ما وضع له في الأصل حالة الإفراد ، فإذا حصل التركيب والاستعمال ; فإما أن تبقى دلالته على ما كانت عليه حالة الانفراد ، أو لا ، فإن كان الأول ; فهو مقتضى وضع اللفظ ، فلا إشكال ، وإن كان الثاني ; فهو تخصيص للفظ العام ، وكل تخصيص لابد له من مخصص عقلي أو نقلي أو غيرهما ، وهو مراد الأصوليين .

ووجه آخر وهو أن العرب حملت اللفظ على عمومه في كثير من أدلة الشريعة ، مع أن معنى الكلام يقتضي على ما تقرر خلاف ما فهموا ، وإذا كان فهمهم في سياق الاستعمال معتبرا في التعميم حتى يأتي دليل التخصيص دل على أن الاستعمال لم يؤثر في دلالة اللفظ حالة الإفراد عندهم ، بحيث صار كوضع ثان ، بل هو باق على أصل وضعه ، ثم التخصيص آت من وراء ذلك بدليل متصل أو منفصل .

[ ص: 24 ] ومثال ذلك أنه لما نزل قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ الأنعام : 82 ] الآية شق ذلك عليهم وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال عليه الصلاة والسلام " إنه ليس بذاك ألا تسمع إلى قول لقمان إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] وفي رواية فنزلت إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] ومثل ذلك أنه لما نزلت : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم [ الأنبياء : 98 ] قال بعض الكفار : فقد عبدت الملائكة وعبد المسيح فنزل : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية [ الأنبياء : 101 ] إلى أشياء كثيرة سياقها يقتضي بحسب المقصد الشرعي عموما أخص من عموم اللفظ ، وقد فهموا فيها مقتضى اللفظ وبادرت أفهامهم فيه ، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ، ولولا أن الاعتبار عندهم ما وضع له اللفظ في الأصل ; لم يقع منهم فهمه .

فالجواب عن الأول أنا إذا اعتبرنا الاستعمال العربي ; فقد تبقى دلالته الأولى وقد لا تبقى ، فإن بقيت ; فلا تخصيص ، وإن لم تبق دلالته ; فقد صار للاستعمال اعتبار آخر ليس للأصل ، وكأنه وضع ثان حقيقي لا مجازي ، وربما [ ص: 25 ] أطلق بعض الناس على مثل هذا لفظ " الحقيقة اللغوية " إذا أرادوا أصل الوضع ، ولفظ الحقيقة العرفية إذا أرادوا الوضع الاستعمالي ، والدليل على صحته ما ثبت في أصول العربية من أن للفظ العربي أصالتين : أصالة قياسية ، وأصالة استعمالية ; فللاستعمال هنا أصالة أخرى غير ما للفظ في أصل الوضع وهي التي وقع الكلام فيها ، وقام الدليل عليها في مسألتنا ; فالعام إذا في الاستعمال لم يدخله تخصيص بحال .

وعن الثاني أن الفهم في عموم الاستعمال متوقف على فهم المقاصد فيه ، وللشريعة بهذا النظر مقصدان : أحدهما : المقصد في الاستعمال العربي الذي أنزل القرآن بحسبه ، وقد تقدم القول فيه .

والثاني : المقصد في الاستعمال الشرعي الذي تقرر في سور القرآن [ ص: 26 ] بحسب تقرير قواعد الشريعة ، وذلك أن نسبة الوضع الشرعي إلى مطلق الوضع الاستعمالي العربي كنسبة الوضع في الصناعات الخاصة إلى الوضع الجمهوري ; كما نقول في الصلاة : إن أصلها الدعاء لغة ، ثم خصت في الشرع بدعاء مخصوص على وجه مخصوص ، وهي فيه حقيقة لا مجاز ; فكذلك نقول في ألفاظ العموم بحسب الاستعمال الشرعي : إنها إنما تعم الذكر بحسب مقصد الشارع فيها ، والدليل على ذلك مثل الدليل على الوضع الاستعمالي المتقدم الذكر ، واستقراء مقاصد الشارع يبين ذلك ، مع ما ينضاف إليه في مسألة إثبات الحقيقة الشرعية .

فأما الأول ; فالعرب فيه شرع سواء ; لأن القرآن نزل بلسانهم .

وأما الثاني : فالتفاوت في إدراكه حاصل ; إذ ليس الطارئ الإسلام من العرب في فهمه كالقديم العهد ، ولا المشتغل بتفهمه وتحصيله كمن ليس في تلك الدرجة ، ولا المبتدئ فيه كالمنتهي يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [ المجادلة : 11 ] فلا مانع من توقف بعض الصحابة في بعض ما يشكل أمره ، ويغمض وجه القصد الشرعي فيه ; حتى إذا تبحر في إدراك معاني الشريعة نظره ، واتسع في ميدانها باعه ; زال عنه ما وقف من الإشكال واتضح له القصد الشرعي على الكمال ، فإذا تقرر وجه الاستعمال ; فما ذكر مما توقف فيه بعضهم راجع إلى هذا القبيل ، ويعضده ما فرضه الأصوليون من وضع [ ص: 27 ] الحقيقة الشرعية ; فإن الموضع يستمد منها ، وهذا الوضع وإن كان قد جيء به مضمنا في الكلام العربي ; فله مقاصد تختص به يدل عليها المساق الحكمي أيضا ، وهذا المساق يختص بمعرفته العارفون بمقاصد الشارع ، كما أن الأول يختص بمعرفته العارفون بمقاصد العرب ; فكل ما سألوا عنه فمن [ هذا ] القبيل إذا تدبرته .
فصل

ويتبين لك صحة ما تقرر في النظر في الأمثلة المعترض بها في السؤال الأول .

فأما قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية [ الأنعام : 82 ] فإن سياق الكلام يدل على أن المراد بالظلم أنواع الشرك على الخصوص ، فإن السورة من أولها إلى آخرها مقررة لقواعد التوحيد ، وهادمة لقواعد الشرك وما يليه ، والذي تقدم قبل الآية قصةإبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه بالأدلة التي أظهرها لهم في الكوكب والقمر والشمس ، وكان قد تقدم قبل ذلك قوله : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته [ الأنعام : 21 ] فبين أنه لا أحد أظلم ممن ارتكب هاتين الخلتين وظهر أنهما المعني بهما في سورة الأنعام إبطالا بالحجة ، وتقريرا لمنزلتهما في المخالفة ، [ ص: 28 ] وإيضاحا للحق الذي هو مضاد لهما ; فكأن السؤال إنما ورد قبل تقرير هذا المعنى .

وأيضا ; فإن ذلك لما كان تقريرا لحكم شرعي بلفظ عام ; كان مظنة لأن يفهم منه العموم في كل ظلم ، دق أو جل ; فلأجل هذا سألوا وكان ذلك عند نزول السورة ، وهي مكية نزلت في أول الإسلام قبل تقرير جميع كليات الأحكام .

وسبب احتمال النظر ابتداء أن قوله : ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ الأنعام : 82 ] نفي على نكرة لا قرينة فيها تدل على استغراق أنواع الظلم ، بل هو كقوله : لم يأتني رجل ; فيحتمل المعاني التي ذكرها سيبويه ، وهي كلها نفي لموجب مذكور أو مقدر ، ولا نص في مثل هذا على الاستغراق في جميع الأنواع المحتملة ; إلا مع الإتيان بمن وما يعطي معناها ، وذلك مفقود هنا ، بل في السورة ما يدل على أن ذلك النفي وارد على ظلم معروف ، وهو ظلم [ ص: 29 ] الافتراء على الله والتكذيب بآياته ;

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #138  
قديم 12-06-2022, 03:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,077
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (138)
صـ30 إلى صـ 40





فصارت الآية من جهة إفرادها بالنظر في هذا المساق مع كونها أيضا في مساق تقرير الأحكام مجملة في عمومها فوقع الإشكال فيها ، ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن عمومها إنما القصد به نوع أو نوعان من أنواع الظلم ، وذلك ما دلت عليه السورة ، وليس فيه تخصيص على هذا بوجه [ ص: 30 ] وأما قوله : إنكم وما تعبدون الآية [ الأنبياء : 98 ] فقد أجاب الناس عن اعتراض ابن الزبعرى فيها بجهله بموقعها ، وما روي في الموضع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " ما أجهلك بلغة قومك يا غلام " لأنه جاء في الآية إنكم وما تعبدون [ ص: 31 ] [ الأنبياء : 98 ] في الأصنام التي كانوا يعبدون " وما " لما لا يعقل ; فكيف تشمل الملائكة والمسيح ؟ ! .

والذي يجري على أصل مسألتنا أن الخطاب ظاهره أنه لكفار قريش ولم يكونوا يعبدون الملائكة ولا المسيح ، وإنما كانوا يعبدون الأصنام ; فقوله : وما تعبدون [ الأنبياء : 98 ] عام في الأصنام التي كانوا يعبدون ، فلم يدخل في العموم الاستعمالي غير ذلك ; فكان اعتراض المعترض جهلا منه بالمساق ، وغفلة عما قصد في الآيات .

وما روي من قوله : " ما أجهلك بلغة قومك يا غلام " دليل على عدم تمكنه في فهم المقاصد العربية وإن كان من العرب ; لحداثته وغلبة الهوى عليه في الاعتراض أن يتأمل مساق الكلام حتى يهتدي للمعنى المراد ، ونزل قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى [ الأنبياء : 101 ] بيانا [ ص: 32 ] لجهله ومثله ما في الصحيح أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس ، فقل له : لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ; لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس : مالكم ولهذه الآية ؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء ، فكتموه إياه وأخبروه بغيره ; فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم . ثم قرأ ابن عباس وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب [ آل عمران : 187 ] كذلك حتى قوله : يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا [ آل عمران : 188 ] ; فهذا من ذلك المعنى أيضا [ ص: 33 ] وبالجملة فجوابهم بيان لعمومات تلك النصوص كيف وقعت في الشريعة ، وإن ثم قصدا آخر سوى القصد العربي لابد من تحصيله ، وبه يحصل فهمها ، وعلى طريقه يجري سائر العمومات ، وإذ ذاك لا يكون ثم تخصيص بمنفصل ألبتة ، واطردت العمومات قواعد صادقة العموم ، ولنورد هنا فصلا هو مظنة لورود الإشكال على ما تقرر ، وبالجواب عنه يتضح المطلوب اتضاحا أكمل .

[ ص: 34 ] فلقائل أن يقول : إن السلف الصالح مع معرفتهم بمقاصد الشريعة وكونهم عربا قد أخذوا بعموم اللفظ وإن كان سياق الاستعمال يدل على خلاف ذلك وهو دليل على أن المعتبر عندهم في اللفظ عمومه بحسب اللفظ الإفرادي وإن عارضه السياق ، وإذا كان كذلك عندهم صار ما يبين لهم خصوصه كالأمثلة المتقدمة مما خص بالمنفصل ، لا مما وضع في الاستعمال على العموم المدعى .

ولهذا الموضع من كلامهم أمثلة ، منها أن عمر بن الخطاب كان يتخذ الخشن من الطعام ، كما كان يلبس المرقع في خلافته ; فقيل له : لو اتخذت طعاما ألين من هذا ؟ . فقال : أخشى أن تعجل طيباتي ، يقول الله تعالى : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا [ الأحقاف : 20 ] الحديث .

وجاء أنه قال لأصحابه وقد رأى بعضهم قد توسع في الإنفاق شيئا : أين تذهب بكم هذه الآية : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الآية [ ص: 35 ] [ الأحقاف : 20 ] وسياق الآية يقتضي أنها إنما نزلت في الكفار الذين رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة ، ولذلك قال : ويوم يعرض الذين كفروا على النار ثم قال : فاليوم تجزون عذاب الهون [ الأحقاف : 20 ] فالآية غير لائقة بحالة المؤمنين ، ومع ذلك ; فقد أخذها عمر مستندا في ترك الإسراف مطلقا ، وله أصل في الصحيح في حديث المرأتين المتظاهرتين على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يوسع على أمتك ; فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدونه . فاستوى جالسا ; فقال : " أوفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ ! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " فهذا يشير إلى مأخذ عمر في الآية وإن دل السياق على خلافه وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة أن [ ص: 36 ] معاوية قال : صدق الله ورسوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها [ هود : 15 ] إلى آخر الآيتين فجعل مقتضى الحديث وهو في أهل الإسلام داخلا تحت عموم الآية ، وهي في الكفار ; لقوله : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار [ هود : 16 ] إلخ ; فدل على الأخذ بعموم من في غير الكفار أيضا . وفي البخاري عن محمد بن عبد الرحمن ; قال : قطع على أهل المدينة بعث ; فاكتتبت ، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس ، فأخبرته ; فنهاني عن ذلك أشد النهي ، ثم قال : أخبرني ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين ، يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل ; فأنزل الله عز وجل : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الآية [ النساء : 97 ] فهذا أيضا من ذلك ; لأن الآية عامة فيمن كثر سواد المشركين ، ثم إن عكرمة أخذها على وجه أعم من ذلك وفي الترمذي والنسائي عن ابن عباس لما نزلت : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم [ ص: 37 ] الآية [ الأنبياء : 284 ] دخل قلوبهم منه شيء لم يدخل من شيء ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " قولوا سمعنا وأطعنا " فألقى الله الإيمان في قلوبهم ; فأنزل الله تعالى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون الآية ، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] قال : قد فعلت ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] قال : قد فعلت الحديث إلخ ، فهموا من الآية العموم ، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم ونزل بعدها لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] على وجه النسخ أو غيره مع قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] وهي [ ص: 38 ] قاعدة مكية كلية ; ففي هذا ما يدل على صحة الأخذ بالعموم اللفظي وإن دل الاستعمال اللغوي أو الشرعي على خلافه .

وكذلك قوله تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى [ النساء : 115 ] الآية ; فإنها نزلت فيمن ارتد عن الإسلام بدليل قوله بعد : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ النساء : 48 ] ثم إن عامة العلماء استدلوا بها على كون الإجماع حجة ، وأن مخالفه عاص ، وعلى أن الابتداع في الدين مذموم .

وقوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه [ هود : 5 ] ظاهر مساق الآية أنها في الكفار والمنافقين أو غيرهم بدليل قوله : ليستخفوا منه [ هود : 5 ] أي : من الله تعالى أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس : إنها في أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء ، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء ; فنزل ذلك فيهم فقد عم هؤلاء في حكم الآية مع [ ص: 39 ] أن المساق لا يقتضيه ومثل هذا كثير ، وهو كله مبني على القول باعتبار عموم اللفظ لا خصوص السبب ومثله قوله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] مع أنها نزلت في اليهود والسياق يدل على ذلك ، ثم إن العلماء عموا بها غير الكفار ، وقالوا : كفر دون كفر [ ص: 40 ] فإذا رجع هذا البحث إلى القول بأن لا اعتبار بعموم اللفظ ، وإنما الاعتبار بخصوص السبب ، وفيه من الخلاف ما علم ; فقد رجعنا إلى أن أحد القولين هو الأصح ، ولا فائدة زائدة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #139  
قديم 12-06-2022, 03:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,077
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (139)
صـ41 إلى صـ 50





والجواب : إن السلف الصالح إنما جاءوا بذلك الفقه الحسن بناء على أمر آخر غير راجع إلى الصيغ العمومية ; لأنهم فهموا من كلام الله تعالى مقصودا يفهمه الراسخون في العلم ، وهو أن الله تعالى ذكر الكفار بسيئ أعمالهم ، والمؤمنين بأحسن أعمالهم ; ليقوم العبد بين هذين المقامين على قدمي الخوف والرجاء ، فيرى أوصاف أهل الإيمان وما أعد لهم ; فيجتهد رجاء أن يدركهم ، ويخاف أن لا يلحقهم فيفر من ذنوبه ، ويرى أوصاف أهل الكفر وما أعد لهم ; فيخاف من الوقوع فيما وقعوا فيه ، وفيما يشبهه ، ويرجو بإيمانه أن لا يلحق بهم ; فهو بين الخوف والرجاء من حيث يشترك مع الفريقين في وصف ما وإن كان مسكوتا عنه ; لأنه إذا ذكر الطرفان كان الحائل بينهما مأخوذ الجانبين كمحال [ ص: 41 ] الاجتهاد لا فرق ، لا من جهة أنهم حملوا ذلك محمل الداخل تحت العموم اللفظي ، وهو ظاهر في آية الأحقاف وهود والنساء في آية : إن الذين توفاهم الملائكة الآية [ النساء : 97 ] ويظهر أيضا في قوله : ويتبع غير سبيل المؤمنين [ النساء : 115 ] وما سوى ذلك ; فإما من تلك القاعدة ، وإما أنها بيان فقه الجزئيات من الكليات العامة ، لا أن المقصود التخصيص ، بل بيان جهة العموم ، وإليك النظر في التفاصيل ، والله المستعان .
[ ص: 42 ] [ ص: 43 ] فصل

إذا تقرر ما تقدم ; فالتخصيص إما بالمنفصل أو بالمتصل . فإن كان بالمتصل ; كالاستثناء ، والصفة ، والغاية ، وبدل البعض ، وأشباه ذلك ; فليس في الحقيقة بإخراج لشيء ، بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد ، وهو ينظر إلى قول سيبويه : " زيد الأحمر " عند من لا يعرفه كزيد وحده عند من يعرفه ، وبيان ذلك أن زيدا الأحمر هو الاسم المعرف به مدلول زيد بالنسبة إلى قصد المتكلم ، كما كان الموصول مع صلته هو الاسم لا أحدهما ، وهكذا إذا قلت : " الرجل الخياط " فعرفه السامع ; فهو مرادف " لزيد " فإذا المجموع هو الدال ، ويظهر ذلك في الاستثناء إذا قلت : عشرة إلا ثلاثة فإنه مرادف لقولك : سبعة فكأنه وضع آخر عرض حالة التركيب [ ص: 44 ] وإذا كان كذلك ; فلا تخصيص في محصول الحكم لا لفظا ولا قصدا ، ولا يصح أن يقال : إنه مجاز أيضا لحصول الفرق عند أهل العربية بين قولك : ما رأيت أسدا يفترس الأبطال وقولك : ما رأيت رجلا شجاعا وأن الأول مجاز ، والثاني حقيقة ، والرجوع في هذا إليهم ، لا إلى ما يصوره العقل في مناحي الكلام .

وأما التخصيص بالمنفصل ; فإنه كذلك أيضا راجع إلى بيان المقصود في عموم الصيغ ، حسبما تقدم في رأس المسألة ، لا أنه على حقيقة التخصيص الذي يذكره الأصوليون .

فإن قيل : وهكذا يقول الأصوليون : إن التخصيص بيان المقصود بالصيغ المذكورة ; فإنه رفع لتوهم دخول المخصوص تحت عموم الصيغة في فهم السامع ، وليس بمراد الدخول تحتها ، وإلا كان التخصيص نسخا ، فإذا لا فرق بين التخصيص بالمنفصل والتخصيص بالمتصل على ما فسرت ; فكيف تفرق بين ما ذكرت وبين ما يذكره الأصوليون ؟ .

فالجواب : إن الفرق بينهما ظاهر ، وذلك أن ما ذكر هنا راجع إلى بيان وضع الصيغ العمومية في أصل الاستعمال العربي أو الشرعي ، وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص ; فنحن بينا أنه بيان لوضع اللفظ ، وهم قالوا : إنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه ، [ ص: 45 ] وبينهما فرق ; فالتفسير الواقع هنا نظير البيان الذي سيق عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه ، والذي للأصوليين نظير البيان الذي سيق عقيب الحقيقة ليبين أن المراد المجاز ; كقولك : رأيت أسدا يفترس الأبطال .

فإن قيل : أفيكون تأصيل أهل الأصول كله باطلا ، أم لا ؟ فإن كان باطلا ; لزم أن يكون ما أجمعوا عليه من ذلك خطأ ، والأمة لا تجتمع على الخطأ ، وإن كان صوابا وهو الذي يقتضيه إجماعهم ; فكل ما يعارضه خطأ ، فإذا كل ما تقدم بيانه خطأ ، فالجواب : أن إجماعهم أولا غير ثابت على شرطه ، ولو سلم أنه ثابت ;لم يلزم منه إبطال ما تقدم لأنهم إنما اعتبروا صيغ العموم بحسب ما تدل عليه في الوضع الإفرادي ، ولم يعتبروا حالة الوضع الاستعمالي ، حتى إذا أخذوا في الاستدلال على الأحكام ; رجعوا إلى اعتباره : كل على اعتبار رآه ، أو تأويل ارتضاه ; فالذي تقدم بيانه مستنبط من اعتبارهم الصيغ في الاستعمال ، بلا [ ص: 46 ] خلاف بيننا وبينهم ; إلا ما يفهم عنهم من لا يحيط علما بمقاصدهم ، ولا يجود محصول كلامهم ، وبالله التوفيق .
فصل

فإن قيل : حاصل ما مر أنه بحث في عبارة ، والمعنى متفق عليه ، ومثله لا ينبني عليه حكم .

فالجواب أن لا ، بل هو بحث فيما ينبني عليه أحكام : منها : أنهم اختلفوا في العام إذا خص ; هل يبقى حجة أم لا ؟ وهي من المسائل الخطيرة في الدين ; فإن الخلاف فيها في ظاهر الأمر شنيع لأن غالب الأدلة الشرعية وعمدتها هي العمومات ، فإذا عدت من المسائل المختلف فيها بناء على ما قالوه أيضا من أن جميع العمومات أو غالبها مخصص ; صار معظم الشريعة مختلفا فيها : هل هو حجة أم لا ؟ ومثل ذلك يلقى في المطلقات فانظر فيه ، فإذا عرضت المسألة على هذا الأصل المذكور ; لم يبق الإشكال المحظور ، وصارت العمومات حجة على كل قول [ ص: 47 ] ولقد أدى إشكال هذا الموضع إلى شناعة أخرى ، وهي أن عمومات [ ص: 48 ] القرآن ليس فيها ما هو معتد به في حقيقته من العموم ، وإن قيل بأنه حجة بعد التخصيص ، وفيه ما يقتضي إبطال الكليات القرآنية ، وإسقاط الاستدلال به جملة ; إلا بجهة من التساهل وتحسين الظن ، لا على تحقيق النظر والقطع بالحكم ، وفي هذا إذا تؤمل توهين الأدلة الشرعية ، وتضعيف الاستناد إليها ، وربما نقلوا في الحجة لهذا الموضع عن ابن عباس ; أنه قال : ليس في القرآن عام إلا مخصص ، إلا قوله تعالى : والله بكل شيء عليم [ البقرة : 282 ] وجميع ذلك مخالف لكلام العرب ، ومخالف لما كان عليه السلف الصالح من القطع بعموماته التي فهموها تحقيقا ، بحسب قصد العرب في اللسان ، وبحسب قصد الشارع في موارد الأحكام .

وأيضا ; فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم ، واختصر له الكلام اختصارا على وجه هو أبلغ ما يكون ، وأقرب ما يمكن في التحصيل ، ورأس هذه الجوامع في التعبير العمومات فإذا فرض أنها ليست بموجودة في [ ص: 49 ] القرآن جوامع ، بل على وجه تفتقر فيه إلى مخصصات ومقيدات وأمور أخر ; فقد خرجت تلك العمومات عن أن تكون جوامع مختصرة ، وما نقل عن ابن عباس إن ثبت من طريق صحيح ; فيحتمل التأويل .

فالحق في صيغ العموم إذا وردت أنها على عمومها في الأصل الاستعمالي ، بحيث يفهم محل عمومها العربي الفهم المطلع على مقاصد الشرع ; فثبت أن هذا البحث ينبني عليه فقه كثير وعلم جميل ، وبالله التوفيق
[ ص: 50 ] المسألة الرابعة

عمومات العزائم وإن ظهر ببادئ الرأي أن الرخص تخصصها ; فليست بمخصصة لها في الحقيقة ، بل العزائم باقية على عمومها ، وإن أطلق عليها أن الرخص خصصتها ; فإطلاق مجازي لا حقيقي .

والدليل على ذلك أن حقيقة الرخصة ; إما أن تقع بالنسبة إلى ما لا يطاق ، أو لا فإن كان الأول فليست برخصة في الحقيقة ; إذ لم يخاطب بالعزيمة من لا يطيقها ، وإنما يقال هنا : إن الخطاب بالعزيمة مرفوع من الأصل بالدليل الدال على رفع تكليف ما لا يطاق ; فانتقلت العزيمة إلى هيئة أخرى ، وكيفية مخالفة للأولى كالمصلي لا يطيق القيام ; فليس بمخاطب بالقيام ، بل صار فرضه الجلوس أو على جنب أو ظهر ، وهو العزيمة عليه ، وإن كان الثاني ; فمعنى الرخصة في حقه أنه إن انتقل إلى الأخف ; فلا جناح عليه ، لا أنه سقط عنه فرض القيام .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #140  
قديم 12-06-2022, 03:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,077
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (140)
صـ51 إلى صـ 60





والدليل على ذلك أنه إن تكلف فصلى قائما ; فإما أن يقال : إنه أدى الفرض على كمال العزيمة ، أو لا ; فلا يصح أن يقال : إنه لم يؤده على كماله ; إذ قد ساوى فيه الصحيح القادر من غير فرق ; فالتفرقة بينهما تحكم من غير دليل ; فلابد أنه أداه على كماله ، وهو معنى كونه داخلا تحت عموم الخطاب بالقيام [ ص: 51 ] فإن قيل : إذا قلت : إن العزيمة مع الرخصة من باب خصال الكفارة بالنسبة إليه ; فأي الخصلتين فعل فعلى حكم الوجوب ، وإذا كان ذلك كذلك ; فعمله بالعزيمة عمل على كمال ، وقد ارتفع عنه حكم الانحتام ، وذلك معنى تخصيص عموم العزيمة بالرخصة ; فقد تخصصت عمومات العزائم بالرخص على هذا التقرير ; فلا يستقيم القول ببقاء العمومات إذ ذاك .

وأيضا ، فإن الجمع بين بقاء حكم العزيمة ومشروعية الرخصة جمع بين متنافيين ; لأن معنى بقاء العزيمة أن القيام في الصلاة واجب عليه حتما ، ومعنى جواز الترخص أن القيام ليس بواجب حتما ، وهما قضيتان متناقضتان ، لا تجتمعان على موضوع واحد ; فلا يصح القول ببقاء العموم بالنسبة إلى من يشق عليه القيام في الصلاة .

وأمر ثالث ، وهو أن الرخصة قد ثبت التخيير بينها وبين العزيمة ، فلو كانت العزيمة هنا باقية على أصلها من الوجوب المنحتم ; لزم من ذلك التخيير بين الواجب وغير الواجب ، والقاعدة أن ذلك محال لا يمكن ; فما أدى إليه مثله .

فالجواب : أن العزيمة مع الرخصة ليستا من باب خصال الكفارة إذ لم يأت دليل ثابت يدل على حقيقة التخيير ، بل الذي أتى في حقيقة الرخصة أن من ارتكبها ; فلا جناح عليه خاصة ، لا أن المكلف مخير بين العزيمة والرخصة ، وقد تقدم الفرق بينهما في كتاب الأحكام في فصل العزائم والرخص ، وإذا ثبت [ ص: 52 ] ذلك ; فالعزيمة على كمالها وأصالتها في الخطاب بها ، وللمخالفة حكم آخر .

وأيضا ; فإن الخطاب بالعزيمة من جهة حق الله تعالى ، والخطاب بالرخصة من جهة حق العبد ; فليسا بواردين على المخاطب من جهة واحدة ، بل من جهتين مختلفتين ، وإذا اختلفت الجهات أمكن الجمع وزال التناقض المتوهم في الاجتماع ، ونظير تخلف العزيمة للمشقة تخلفها للخطأ ، والنسيان ، والإكراه ، وغيرها من الأعذار التي يتوجه الخطاب مع وجودها مع أن التخلف غير مؤثم ولا موقع في محظور ، وعلى هذا ينبني معنى آخر يعم هذه المسألة وغيرها وهو أن العمومات التي هي عزائم إذا رفع الإثم عن المخالف فيها لعذر من الأعذار ; فأحكام تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص ، وإن أطلق عليها أن الأعذار خصصتها ; فعلى المجاز لا على الحقيقة ، ولنعدها مسألة على حدتها ، وهي :

[ ص: 53 ] المسألة الخامسة

والأدلة على صحتها ما تقدم ، والمسألة وإن كانت مختلفا فيها على وجه آخر ; فالصواب جريانها على ما جرت عليه العزائم مع الرخص ، ولنفرض المسألة في موضعين : أحدهما : فيما إذا وقع الخطأ من المكلف فتناول ما هو محرم ; ظهرت علة تحريمه بنص أو إجماع أو غيرهما ; كشارب المسكر يظنه حلالا ، وآكل مال [ ص: 54 ] اليتيم أو غيره يظنه متاع نفسه ، أو قاتل المسلم يظنه كافرا ، أو واطئ الأجنبية يظنها زوجته أو أمته ، وما أشبه ذلك ; فإن المفاسد التي حرمت هذه الأشياء لأجلها واقعة أو متوقعة ، فإن شارب المسكر قد زال عقله وصده عن ذكر الله وعن الصلاة ، وآكل مال اليتيم قد أخذ ماله الذي حصل له به الضرر والفقر وقاتل المسلم قد أزهق دم نفس ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا [ المائدة : 32 ] وواطئ الأجنبية قد تسبب في اختلاط نسب المخلوق من مائه ; فهل يسوغ في هذه الأشياء أن يقال : إن الله أذن فيها وأمر بها ؟ كلا ، بل عذر الخاطئ ورفع الحرج والتأثيم بها ، وشرع مع ذلك فيها التلافي حتى تزول المفسدة فيما يمكن فيه الإزالة ; كالغرامة ، والضمان في المال ، وأداء الدية مع تحرير الرقبة في النفس ، وبذل المهر مع إلحاق الولد بالواطئ ، وما أشبه ذلك إن الله لا يأمر بالفحشاء [ الأعراف : 28 ] إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي [ النحل : 90 ] غير أن عذر الخطأ رفع حكم التأثيم المرتب على التحريم [ ص: 55 ] والموضع الثاني : إذا أخطأ الحاكم في الحكم ; فسلم المال إلى غير أهله ، أو الزوجة إلى غير زوجها ، أو أدب من لم يستحق تأديبا وترك من كان مستحقا له ، أو قتل نفسا بريئة إما لخطأ في دليل أو في الشهود ، أو نحو ذلك ; فقد قال تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله الآية [ المائدة : 49 ] وقال : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] فإذا أخطأ فحكم بغير ما أنزل الله ; فكيف يقال إنه مأمور بذلك ؟ أو أشهد ذوي زور ; فهل يصح أن يقال : إنه مأمور بقبولهم وبإشهادهم ؟ هذا لا يسوغ [ ص: 56 ] بناء على مراعاة المصالح في الأحكام ، تفضلا كما اخترناه ، أو لزوما كما يقوله المعتزلة ، غير أنه معذور في عدم إصابته كما مر ، والأمثلة في ذلك كثيرة .

ولو كان هذا الفاعل وهذا الحاكم مأمورا بما أخطأ فيه ، أو مأذونا له فيه ; لكان الأمر بتلافيه إذا اطلع عليه على خلاف مقتضى الأدلة ; إذ لا فرق بين أمر وأمر ، وإذن وإذن ; إذ الجميع ابتدائي ; فالتلافي بعد أحدهما دون الآخر شيء لا يعقل له معنى ، وذلك خلاف ما دل عليه اعتبار المصالح .

فإن التزم أحد هذا الرأي وجرى على التعبد المحض ، ورشحه بأن الحرج موضوع في التكاليف وإصابة ما في نفس الأمر حرج أو تكليف بما لا يستطاع ، وإنما يكلف بما يظنه صوابا ، وقد ظنه كذلك ; فليكن مأمورا به أو مأذونا فيه ، والتلافي بعد ذلك أمر ثان بخطاب جديد ; فهذا الرأي جار على الظاهر لا على التفقه في الشريعة ، وقد مر له تقرير في فصل الأوامر والنواهي ، ولولا أنها مسألة عرضت لكان الأولى ترك الكلام فيها لأنها لا تكاد ينبني عليها فقه معتبر .
[ ص: 57 ] المسألة السادسة

العموم إذا ثبت ; فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط ، بل له طريقان : أحدهما : الصيغ إذا وردت وهو المشهور في كلام أهل الأصول .

والثاني استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام ; فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ ، والدليل على صحة هذا الثاني وجوه : أحدها : أن الاستقراء هكذا شأنه ; فإنه تصفح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عام ; إما قطعي ، وإما ظني ، وهو أمر مسلم عند أهل العلوم العقلية والنقلية ; فإذا تم الاستقراء حكم به مطلقا في كل فرد يقدر ، وهو معنى العموم المراد في هذا الموضع .

والثاني : أن التواتر المعنوي هذا معناه ; فإن جود حاتم مثلا إنما ثبت على الإطلاق من غير تقييد ، وعلى العموم من غير تخصيص ، بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر ، مختلفة في الوقوع ، متفقة في معنى الجود ، حتى حصلت للسامع معنى كليا حكم به على حاتم وهو الجود ، ولم يكن خصوص [ ص: 58 ] الوقائع قادحا في هذه الإفادة ، فكذلك إذا فرضنا أن رفع الحرج في الدين مثلا مفقود فيه صيغة عموم ; فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة ، مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج ، كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء ، والصلاة قاعدا عند مشقة القيام ، والقصر والفطر في السفر ، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر ، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل والتأليم ، وإباحة الميتة وغيرها عند خوف التلف الذي هو أعظم المشقات ، والصلاة إلى أي جهة كانت لعسر استخراج القبلة ، والمسح على الجبائر والخفين لمشقة النزع ولرفع الضرر ، والعفو في الصيام عما يعسر الاحتراز منه من المفطرات كغبار الطريق ونحوه ، إلى جزئيات كثيرة جدا يحصل من مجموعها قصد الشارع لرفع الحرج ; فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها ، عملا بالاستقراء ; فكأنه عموم لفظي ، فإذا ثبت اعتبار التواتر المعنوي [ ص: 59 ] ثبت في ضمنه ما نحن فيه ، والثالث : أن قاعدة سد الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها ، وكإتمام عثمان الصلاة [ ص: 60 ] في حجه بالناس ، وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة ، إلى غير ذلك من أفرادها التي عملوا بها ، مع أن المنصوص فيها إنما هي أمور خاصة ; كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] وفي الحديث : من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه وأشباه ذلك ، وهي أمور خاصة لا تتلاقى مع ما حكموا به إلا في معنى سد الذريعة ، وهو دليل على ما ذكر من غير إشكال .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 200.79 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 194.94 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (2.91%)]