|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#631
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب اللعان) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (474) صـــــ(1) إلى صــ(8) شرح زاد المستقنع - باب الاستبراء حرصت الشريعة على حفظ الأنساب وعدم اختلاطها، ومن هذا أنها ألزمت من اشترى أمة أو سباها أن يستبرئ رحمها حتى يتأكد من خلوها من الحمل فلا تختلط الأنساب. وجوب استبراء الإماء بسم الله الرحمن الرحيم قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الاستبراء: من ملك أمة يوطأ مثلها من صغير وذكر وضدهما حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبرائها] . (من ملك أمة يوطأ مثلها) من ملك أمة، فخرج حكم الزواج؛ لأنه هنا سيتكلم على استبراء الإماء، والإماء هن الرقيقات، وهن من السبي الذي يكون بالجهاد في سبيل الله عز وجل، فإذا حصل الجهاد الشرعي، وأخذ الأسرى من الكفار فإن الإمام من حقه أن يضرب الرق على هؤلاء الأسرى وينظر المصلحة، إن شاء ضرب رقابهم، وإن شاء فادى، وإن شاء ضرب الرق عليهم. والرق لا يختص بلون، ولا بجنس، ولا بطائفة في الإسلام، فالرق لكل من كفر بالله عز وجل، والسبب في ذلك والحكمة منه واضحة: أن المشرك ومن ضاد العقيدة وخرج عن الدين والإسلام والتوحيد نزل إلى مستوى هو أردأ من مستوى البهيمية؛ لأن الله يقول: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء:70] ، لكن إذا كفر بالله عز وجل فإنه خالف تكريم الله عز وجل فأصبح مهانا بإهانة الله كما قال تعالى: {ومن يهن الله فما له من مكرم} [الحج:18] ، وهذه الإهانة راجعة إلى قول الله سبحانه وتعالى: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل} [الفرقان:44] أي: إنهم لما كفروا وأشركوا ولم يوحدوا الله عز وجل، وصرفوا حق الله لخلقه أيا كان، ولو كان لصالح أو طالح أو عظيم أو صغير فإنهم قد أشركو مع الله غيره -تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا- ونزلوا إلى مستوى أهون وأحقر عند الله عز وجل وعند عباده المؤمنين من البهيمة، {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل} [الفرقان:44] ، فكان من حق الإمام في الإسلام أن يضرب عليه الرق؛ لأنه خرج عن تكريم الله عز وجل له حينما أعطاه العقل الذي يدله على وحدانية الله ويهديه، فكفر بذلك وأنكره، فنزل هذه المنزلة السيئة التي تليق بمثله، فالإسلام لا يميز بالألوان، ولا بالأحساب، ولا بالأنساب، ولا بالمدن ولا بالقرى، ولا بالأقطار، ولا بالأمصار، فكل من كفر الله وضاد الله عز وجل، وحاد الله ودينه وشرعه فإنه إذا حكم بكفره وقاتل المسلمين ضرب عليه الرق. وإذا أخذ الأسارى وضرب عليهم الرق قسم هذا السبي بين المجاهدين، فلو أخذ رجل امرأة سبيا في الجهاد في سبيل الله عز وجل فهذا جائز بإجماع العلماء، ونصوص الكتاب والسنة فيه واضحة ظاهرة، فإذا أخذت هذه المرأة ملكا لليمين، وأراد أن يطأها فلا يجوز له أن يطأها حتى يستبرئها، ولذلك لما أخذت المسبيات في غزوة أوطاس وقام الرجل يريد أن يدخل على مسبيته وقد ظهر بها الحمل، قال عليه الصلاة والسلام: (أيريد أن يلم بها؟ والذي نفسي بيده لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) فهذا يدل على أنه لا يجوز أن يطأ الأمة حتى يستبرئها؛ لأنه في هذه الحالة يخلط بين مائه وماء زوجها الذي كان معها قبل أن تؤخذ رقيقة؛ لأن نساء الكفار يؤخذن وهن حوامل ويؤخذن وهن مستبرئات وغير ذلك، فعلى كل حال: إن كان مثلها يوطأ فلابد من استبرائهن، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم حرمته فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه حرث غيره) لأنها إذا كانت حاملا من غيره ووطئها فإنه كمن سقى ماءه ومنيه لحرث غيره، فهذا أصل عند العلماء رحمهم الله في استبراء الإماء. (من ملك أمة يوطأ مثلها). لأن القضية هي: استبراء الرحم؛ فإذا بلغت عنده سن الوطء، فحينئذ يجوز له أن يطأها؛ لأن البراءة معلومة بالأصل. (من صغير وذكر وضدهما). يعني: إذا اشتراها وملكها صغيرا كان أو كبيرا فإنه لا يجوز له أن يطأها؛ وقد يقول قائل: مادامت العلة هي خوف اختلاط الماء، فلو اشتراها صغير؟ نقول: يمنع الصغير كما يمنع الكبير من وطئها فقوله: (من ملك) هذا عام شامل للصغير والكبير والذكر أيا كان. (حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبرائها). حرم عليه أن يطأ هذه الأمة، وحرم عليه أن يستمتع بالمقدمات حتى يستبرئها، والبراءة المراد بها: خلو الرحم من الحمل من زوجها الذي كان معها قبل، وهكذا لو اشتراها من غيره؛ لأنه ربما وطئها الأول الذي كانت عنده، فلربما حملت منه، فلابد أن يستبرئ الأمة سواء كان ذلك في السبي أو كان بملك اليمين -الشراء أو الهبة- قال له: وهبتك جاريتي، قال: قبلت، فأصبحت ملكا له، فلا يجوز له أن يطأها حتى يستبرئها. استبراء الحامل بوضعها قال رحمه الله: [واستبراء الحامل بوضعها] . شرع رحمه الله في بيان بم تكون البراءة، وتثبت براءة الرحم، فقال: (الحامل بوضعها) ؛ لأن الله تعالى يقول: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4] ، فبين أن براءة رحم المرأة في عدتها بوضع الحمل، فهذا أصل عند العلماء رحمهم الله أن الحامل عدتها وضع الحمل. استبراء من تحيض بحيضة قال رحمه الله: [ومن تحيض بحيضة] . وإذا كانت تحيض فإنها تستبرئ بحيضة، وهذا فيه قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، وفيه بعض الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى كل حال: إذا استبرأت بحيضة حل له بعد ذلك أن يطأها على الاستبراء بحيضة عند الحنابلة رحمهم الله؛ لأنهم يرون أن القرء الأصل فيه أنه متعلق بالحيضات، فتكون عندهم البراءة بالحيض كما هي في الطلاق، أي: كما أنه في الطلاق تكون البراءة بالحيضات، فكذلك في الاستبراء. استبراء الآيسة والصغيرة بشهر قال رحمه الله: [والآيسة والصغيرة بمضي شهر] . وإذا كانت الأمة التي اشتراها آيسة كبيرة سن، وبلغت سن الإياس وانقطع معها الحيض فإن عدتها واستبراءها يكون بالأشهر، فإذا كانت العدة ثلاثة أشهر لكل حيضة شهر، فكذلك إذا كانت البراءة بحيضة فإنها تكون بشهر واحد، فإذا اشترى صغيرة فإنه يستبرئها شهرا ثم بعد ذلك يطؤها، وإذا اشترى آيسة من الحيض يستبرئها شهرا كذلك. الأسئلة حكم الحداد للقواعد من النساء السؤال لو كانت المرأة من القواعد هل تنطبق عليها أحكام الحداد كاملة؟ الجواب الحكم في وجوب الحداد شامل للنساء سواء كن كبيرات أو صغيرات، فهذا أصل عام كما ذكرنا في النصوص الواردة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث لم تفرق بين كبير ولا صغير، والحكم والأصل في هذا أنه يشمل الجميع، ولا يختص بالبعض دون البعض، وليس هناك دليل يدل على تخصيص البعض دون البعض في هذه المسألة، والله أعلم. حكم التقيد بلباس السواد في الحداد السؤال ما حكم لبس النساء في مدة الإحداد لباسا واحدا مثل الأسود خاصة، هل هذا يجوز؟ الجواب التقيد بالأسود هذا محدث وبدعة، بل إن بعض العلماء يقول: إن الأسود قد يكون جميلا، يعني: هناك أنواع من الأسود تكون جميلة، ولا يكون بها الحداد لأنها زينة، فلبس السواد في الحزن من المحدثات والبدع، فالمرأة تلبس ما تيسر لها من الثياب التي لا زينة فيها، وليس هناك نص وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بتكلف السواد وشراء السواد، ويا ليت أن هذه العادة الممقوتة المذمومة تقطع بالصالحات والخيرات وتوجيه الناس ودلالتهم؛ لأن هذا ليس له أصل، والسواد -كما قلنا- بعض الأحيان يكون فيه نوع من الزينة والجمال، فهذا كله محدث وبدعة؛ والمشكلة أن المرأة لو دخل عليها في حداد وهي غير لابسة للسواد لأنكرت النساء ذلك؛ لأنهن يعتقدن أنه لا حداد إلا إذا دخلت في ثوبها هذا، وهذا لا شك أنه بدعة، وعلى كل حال فلا يجوز اعتقاد أمر لم يدل عليه دليل من الشرع، فهذا من البدع والمحدثات، وفي الحداد كثير من البدع المحدثات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وكل ما خالف نص الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح في الأمة وخالف إجماعهم فإنه يرد على صاحبه كائنا من كان، سواء كان ذلك في الملبوسات، أو في طريقة العزاء، وطريقة الحداد، كل هذا إذا خالف شرع الله عز وجل، وجاء بالضيق والحرج خلاف اليسر الذي يسر الله به على عباده فإنه يرد، وبينه الناس على أنه لا أصل له في شرع الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________________
|
#632
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الرضاع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (475) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - كتاب الرضاع [1] بين الله سبحانه وتعالى ما يصلح الناس في معادهم ومعاشهم والمعاملات في الإسلام حظيت بتفصيل دقيق ينظم للعباد شئونهم، والرضاع من الأمور التي تؤثر في العلاقات الاجتماعية، إذ به تثبت المحرمية وغيرها من الأمور التي يثبتها النسب، غير أنه لا يثبت التوارث، وهو من المسائل التي ينبغي عدم تجهاهها أو التساهل فيها. تعريف الرضاع وحكمه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الرضاع] . شرع -رحمه الله- في كتاب الرضاع، وهذا الكتاب هو أحد الكتب المتعلقة بكتاب النكاح؛ لأن كثيرا من المسائل والأحكام التي تتعلق بالرضاع مرتبطة بأحكام النكاح؛ ولذلك يعتني العلماء -رحمهم الله- بذكر هذا الكتاب في هذا الموضع. والرضاع في لغة العرب: هو مص الثدي سواء خرج منه القليل أو الكثير من اللبن. والمراد به في الشريعة: مص مخصوص من شخص مخصوص، من موضع مخصوص، على صفة مخصوصة. وهذا التعريف المراد به: أن الرضاع لا يمكن أن يحكم بكونه رضاعا شرعيا إلا إذا كان من شخص مخصوص، وهو من دون الحولين. سواء كان من الذكور أو كان من الإناث، إذا: لابد أن يكون الرضاع في الحولين، واختلف فيما زاد عن الحولين إلى الستة أشهر إذا لم يفطم الصبي، فمن أهل العلم -رحمهم الله- من قال: الستة الأشهر -أي: بعد- الحولين ليس الرضاع فيها بمؤثر. ومنهم من تسامح في الشهر والشهرين، أي: ما قارب تمام الحولين، ولكن الذي دل عليه القرآن أن الأصل في الرضاعة أن تكون في الحولين؛ لأن الله تعالى يقول: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة:233] ، وقال تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} [الأحقاف:15] . فقد يكون للحمل ستة أشهر، وأربعة وعشرون شهرا للرضاع. لكن لا يمنع هذا أن يقع الرضاع من الكبير، وذلك في مسألة مخصوصة، وهي أن يكون الشخص قد تربى ونشأ في بيت من البيوت ولا يكون بينه وبينهم قرابة أرحام، مثل: بيت الجيران، أو بيت عمه، أو بيت خاله، فزوجة العم وزوجة الخال ليست بمحرم. فينشأ بينهم كواحد من أولادهم، ثم يكبر، فإذا كبر فإنهم في الغالب لا يتحرجون منه، بل يعتبرونه كواحد من أولادهم. وحينئذ يشرع لمثل هذا -دفعا للحرج- أن ترضعه زوجة العم، أو زوجة الخال، لحديث سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكت له زوجة أبي حذيفة -وهي سهلة بنت الحارث رضي الله عنها- أن سالما كان عندها كواحد من أولادها، وأنه لما كبر وجدت في نفس زوجها شيئا. وكأنه يتحرج ويتضايق من دخوله. فقال عليه الصلاة والسلام: (أرضعيه خمسا تحرمي عليه) . فأثبت عليه الصلاة والسلام الرضاعة للكبير في مسألة مخصوصة. إذا: فنعقب على التعريف ونقول: إن الأصل في الرضاع أن يكون في الحولين فما دون، وأما بالنسبة لما زاد عن الحولين فيفتى فيه في المسائل الخاصة كما تقدم، وكذا فيما زاد عن الحولين قريبا كالشهر والشهرين إلى نصف السنة -كما ذكرنا أنه قول لبعض العلماء- فإذا حصل فطام في الحولين فلا إشكال، بمعنى: أنه صار يغتذي بغير اللبن، لكن الإشكال إذا بلغ الحولين وأتمهما، ولكنه لا يزال رضيعا لم يفطم، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف بين الحنفية والمالكية -رحمة الله عليهم- وغيرهم. وقولنا: (على صفة مخصوصة) من أهل العلم من يخص الرضاع بمص الثدي كالظاهرية، ولا يرون رضاعا بغير مص الثدي، حتى أنهم يقولون: لو أن اللبن وضع في إناء أو وضع في زجاجة -كالرضاعة الموجودة في زماننا- وشرب منه الصبي فلا يوجب ثبوت الأحكام المتعلقة بالرضاع، وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت أن الرضاعة من المجاعة. وإذا شرب من الإناء فإنه يسد به الجوع، وأثبت أن الرضاع يفتق الأمعاء، وأنه ينشز العظم وينبت اللحم، والرضاع إذا كان من الإناء ينشز العظم وينبت اللحم، كالرضاع المباشر. وبناء على ذلك: لا فرق بين أن يكون الرضاع بالمص، وبين أن يكون بالشرب من الإناء، ثم العبرة في الرضاع بالوصول إلى الجوف، فلو أنه قطر في أنف الصبي وهو كـ (السعوط) ، أو أوجر أي: صب في حلقه وهو (الوجور) ، فإنه يثبت الرضاع. ويستوي في هذا أن يكون مصا، أو يكون من الأنف كالسعود، أو يكون وجورا، أو لدودا. ثم كذلك أيضا يتبع هذا ما لو صار لبن المرأة جبنا، أو خلط لبن المرأة بغيره وشربه الصبي، فإنه يؤثر وتحدث المحرمية؛ لأنه يسد الجوع وينبت اللحم وينشز العظم، هذا بالنسبة لقولنا: على صفة مخصوصة. والعبرة في هذا الرضاع أن يكون بالعدد المؤثر، وهو خمس رضعات، كما سيأتي إن شاء الله. لقوله عليه الصلاة والسلام: (خمس رضعات معلومات يحرمن) ولقوله عليه الصلاة والسلام: (أرضعيه خمسا تحرمي عليه) . وقول عائشة رضي الله عنها: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى) . والرضاع الأصل في ثبوته وثبوت أحكامه دليل الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} [النساء:23] ، وهذا في سياق ذكر المحرمات، فأثبت التحريم للأصول والفروع والحواشي فدل على أن الرضاع مؤثر، وكذلك دل على مشروعية وجواز الرضاع قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن} [البقرة:233] ، وقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6] ، إلى غير ذلك من الآيات، وكذلك دلت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: -كما في الصحيحين من حديث ابن عباس - أنه قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وكذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الرضعات الخمس المتقدم. وحديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه -في قصته مع زوجته- وفيه: (أن امرأة جاءته وقالت: إنها أرضعته هو وزوجته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفراق زوجته فقال: يا رسول الله! كيف؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: كيف، وقد قيل؟!) فأثبت أن للرضاع تأثيرا، وأثبت أنه يحرم، وجاء ذلك صريحا في الحديث الذي ذكرناه -وهو متفق عليه-: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) . فهذا يدل على أن الرضاع مؤثر، وأنه تترتب عليه الأحكام الشرعية من ثبوت أمرين، أولهما: ثبوت الحرمة، والمراد (بالحرمة) حرمة نكاح المرأة. والثاني: ثبوت المحرمية، وهذا إذا كان على الصفة المعتبرة، فتصبح من ارتضع منها له أما، وفروعها إخوانا وأخوات للمرتضع، وهكذا بقية الأحكام المتعلقة بالرضاعة. يقول رحمه الله: (كتاب الرضاع) . أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالرضاع. يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب قال رحمه الله تعالى: [يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب] . هذه الجملة هي قطعة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق على صحته، وهي قاعدة عند العلماء وأصل عند أهل العلم، قاعدة فرعت عليها فروع كثيرة، وأصل رد العلماء إليه كثيرا من المسائل والأحكام المتعلقة بالرضاع، وهذا من بليغ كلامه -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، فقد أوتي جوامع الكلم حتى أن الجملة الواحدة يتفرع عنها ما لا يحصى من المسائل. وقوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) بين: أولا: أن الرضاع يحرم، أي: أنه يوجب التحريم في النكاح، وقد تقدم أن القرآن قد نص على هذا. ثانيا: أنه أثبت المحرمية، فكما أن النسب يثبت المحرمية، فكذلك الرضاع يوجب ثبوت المحرمية. ثالثا: في قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) يدل على المساواة والتشريك في الحكم من جهة التحريم، لا من جهة بقية الأحكام؛ فلا يحصل التوارث في الرضاع، فالأم التي أرضعت لا ترث كما ترث الأم من النسب، وإنما قال: يحرم، وهذا يدل على اختصاص الحكم بالحرمة والمحرمية دون بقية مسائل الأحكام. ومن هنا قال بعض العلماء: إن الأم من الرضاع، والقرابة من الرضاع، ليس لهم في الحق من الزيارات وصلة الرحم ما للنسب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص الرضاع بثبوت الحرمة والمحرمية، فدل على أنه لا يشابه النسب من كل وجه، ولكن هذا لا يمنع الإحسان، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذت هوازن في الأسر، وكان فيهم بنو سعد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من قسمة الغنيمة -غنيمة حنين- وكان ينبغي قسمتها بعد انتهاء الغزوة، ولكن أخر ذلك إلى أن فتح الطائف، ثم رجع بعد فتح الطائف وكل هذا -كما ذكر بعض أهل العلم رحمة الله عليهم واختاروه-؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد أن لا يبادر بأذيتهم لمكان الرضاعة التي في بني سعد، من أجل أن يأتوا إليه عليه الصلاة والسلام قبل أن تقسم الغنائم، فلما تأخر هذا التأخير ولم يكلموه عمد عليه الصلاة والسلام إلى القسم، فلما رجع إلى الجعرانة وقسمه فزعوا إليه عليه الصلاة والسلام بعد الله عز وجل فقال شاعرهم: امنن علينا رسول الله في كرم فإنك المرء نرجوه وننتظر امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك يملؤه من محضها الدرر فخشع عليه الصلاة والسلام، ولما قام خطيبهم، وقال: (يا رسول الله! والله! إن اللائي في الحظائر، ما هن إلا أمهاتك وأخواتك من الرضاعة وخالاتك من الرضاعة) ، فكاد أن يبكي عليه الصلاة والسلام وقال: (ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم) ، فأحسن عليه الصلاة والسلام ورد الإحسان بأفضل منه، وما كان عليه الصلاة والسلام إلا كذلك، فإنه يقابل الحسنة بأحسن منها. فلا يمنع هذا أن الأم من الرضاعة يكون لها حق الإحسان والتفقد، وإذا احتاجت أن يسد حاجتها وأن لا يقطعها من خير وبر؛ فذلك لا شك أنه من رد المعروف فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من صنع إليكم معروفا فكافئوه) . يقول المصنف رحمه الله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وهذا أدب مع السنة، وهكذا ينبغي للعالم والفقيه ومن يعلم الناس أن يحرص على الالتزام بالكتاب والسنة، وأنه متى أمكن التعبير بنص القرآن والسنة فذلك أتم وأعظم أجرا، وهو دليل صادق على فقه العالم؛ لأنه إذا قدم كتاب الله وسنة رسوله قدم ما حقه التقديم، دون أن يكون له فضل في ذلك، فقال المصنف: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) . ولذلك هذه المتون الفقهية تساير النصوص، وتمشي مع النصوص الشرعية، وإن كانت لا تأتي بالحديث نصا، لأنها لم تتخصص في رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما دلت على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (يحرم من الرضاع) يعني: بسبب الرضاع، فمن: سببية. كقوله: (إنما الماء من الماء) ، وقوله تعالى: {مما خطيئاتهم} [نوح:25] . أي: بسبب خطيئاتهم. وقيل: المراد بها: الجهة أي: (يحرم من جهة الرضاعة ما يحرم من جهة النسب) ، والنسب: الإضافة، يقال: نسب الشيء إلى فلان، إذا أضافه إليه. وسمي النسب نسبا؛ لأن الإنسان يضاف إلى ذويه، فيقال: محمد بن علي بن صالح مثلا، فهذه إضافة، فالنسب لا بد فيه من الإضافة، ويقال: خال فلان. وعم فلان. وكله مبني على الإضافة. والمراد بالنسب: القرابة. وتفرعت عن هذا الحديث عدة مسائل: أولا: التحريم من جهة النسب؛ فتحرم الأم من الرضاعة، والبنت من الرضاعة، والأخت من الرضاعة، وبنت الأخت من الرضاعة، وبنت الأخ من الرضاع، وكذلك العمة من الرضاع، والخالة من الرضاع، هؤلاء كلهن محرمات من جهة الرضاع، كما أنهن محرمات من جهة النسب. كذلك أيضا: فيه دليل على أن الرضاع يشابه النسب، فقد يكون الأخ من الرضاع شقيقا، وقد يكون الأخ من الرضاع لأب، وقد يكون الأخ من الرضاع لأم، وصورة ذلك: أن محمدا لو ارتضع من عائشة وهي زوجة لعلي، فجميع من تنجبه عائشة يكون أخا لمحمد، كما أنه في النسب أخ له، ولكن إذا كان الذي أنجبته عائشة من علي فهو أخ له شقيق، وإن أنجبت من زوج سابق -قبل الزواج بعلي- أولادا؛ فهم إخوة -من الرضاع- لأم. ثم إن عليا -الزوج- لو أنجب أولادا من زوجة أخرى -قبل عائشة أو بعدها-؛ فهم أخوة من الرضاع لأب؛ لأنهم شاركوه من جهة الأب، ولم يشاركوه من جهة الأم، وهذه تفريعات كالنسب سواء بسواء. وعلى هذا: أثبت العلماء التحريم بالرضاع من جهة مشابهة النسب. كذلك أيضا: أخذ منه بعض أهل العلم -وقد وقع عليه الإجماع، لكنهم يستدلون بهذا الحديث- كالحافظ ابن رجب وغيره رحمة الله عليهم، يقولون: إن الجمع بين الأختين من الرضاع محرم كالجمع بين الأختين من النسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت في الرضاع ما يثبت في النسب، فكما أنه لا يجوز الجمع بين الأختين من النسب كذلك يحرم الجمع بين المرأة وأختها إذا كانت أختا لها من الرضاع. سواء كانت أختا شقيقة أو أختا لأب أو أختا لأم، لعموم قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء:23] ، وكذلك أيضا: يحرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها من الرضاعة، كما أنه يحرم في النسب الجمع بين المرأة وعمتها من النسب، والمرأة وخالتها من النسب، لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها) ، كذلك في الرضاع يحرم أن يجمع بين المرأة وعمتها من الرضاعة أو خالتها من الرضاعة، وذلك لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) . كذلك: أخذوا منه دليلا على أنه تثبت فيه المحرمية من جهة المصاهرة، فإذا تزوج امرأة فانبتها من الرضاع ربيبة، كما أن ابنتها من النسب ربيبة، وكذلك العكس، فلو تزوج امرأة حرم عليه أن ينكح أمها من الرضاع، كما أنه إذا نكحها حرم عليه أن ينكح أمها من النسب، وهذا كله متفرع من قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) . عدد الرضعات التي ينبني عليها التحريم قال رحمه الله: [والمحرم خمس رضعات في الحولين] . إذا: يشترط العدد ويشترط فيه الزمان، والتفصيل كما يلي: أولا: أن تكون الرضعات خمسا، ومفهوم العدد أنه لو كان الرضاع دون الخمس لم يحرم. فلو ارتضع منها أربع رضعات، فإنه لا يثبت له حكم الرضاع، ويشترط في هذه الخمس رضعات أن تكون مشبعة، فلا يكفي أن يمص الثدي ثم يؤخذ عنوة منه، إنما الشرط أن تكون الرضعة مشبعة، وحقيقة الإشباع: أن يرضع الصبي الثدي باختياره، ثم يتركه باختياره، فعند الترك بالاختيار تحتسب له رضعه، فإن تركه قهرا أو بغير اختياره ثم رجع، فإنها رضعة واحدة، فلو تركها قهرا كأن تكون أمه نزعت ثديها من فمه ثم أرجعته إليه مرة ثانية، أو هو هجم على الثدي ثانية بعد أن أجبر على تركه؛ فهي رضعة واحدة. وهكذا لو دهمه عطاس فعطس ثم رجع، فهذا بغير اختيار، فحينئذ تحتسب رضعة واحدة. إذا: لا بد أن تكون خمس رضعات مشبعات وضابط الإشباع: أن يدع الثدي باختياره، فإذا ترك الثدي وتركه باختياره ثم عاد مرة ثانية فهي رجعة مستأنفة، وبناء على ذلك: قد تقع الخمس رضعات في مجالس متعددة وقد تقع في مجلس واحد، وعلى هذا لا يشترط الاختلاف في المجالس وتعددها. قوله: (خمس رضعات) هذه الخمس رضعات تأتي على ثلاث صور: الصورة الأولى: أن تثبت التحريم للأب والأم معا -أي: لصاحب اللبن (الزوج) والمرضعة (زوجته) - فيكون صاحب اللبن أبا، وتكون المرضعة واحدة وهي الأم، وتارة يثبت حكم الرضاع لصاحب اللبن دون اللائي أرضعن، وتارة العكس، أي: يثبت للتي أرضعت دون صاحب اللبن. أما تفسير ذلك: فإن كان هذا الرضيع قد رضع خمس رضعات من امرأة واحدة من لبن زوج واحد؛ فإنه حينئذ ابن لهذه المرأة وابن لذلك الرجل، مثلا: محمد زوج لعائشة، ارتضع خالد منهما، من لبن عائشة حال قيام الزوجية بينهما خمس رضعات، أو بعد تطليقه إياها وقبل دخول الزوج الثاني عند بعضهم، أو بعد دخوله وقبل الحمل منه، في هذه الصور كلها يكون ابنا للاثنين -للأب وللأم- لأنه استنفد الخمس رضعات من ماء الزوج ومن لبن المرأة؛ لأن اللبن يفور بوطء الزوج. وبناء على ذلك: يثبت الحكم كما قلنا، فيكون هذا أباه وهذه أمه. الصورة الثانية: أن يكون الرضاع متعلقا بالأم دون الأب. مثلا: عائشة أرضعته -وهي عند محمد قبل أن يطلقها- ثلاث رضعات، ثم أرضعته بعد زواجها من أبي بكر رضعتين، فإنه في هذه الحالة ينتفي تأثير اللبن من جهة الفحل؛ لأنه لم يتمحض عدد خمس رضعات لفحل واحد، وإنما جاء من أكثر من فحل فلا يثبت؛ لأنه لم يتمحض لواحد منهما خمس رضعات، فيثبت الرضاع للأم، وتكون أما له، ولا يكون له أب من الرضاع. ولذلك يقولون: هل يوجد رضيع له أم، ولا أب له من الرضاع؟ تقول: إذا ارتضع خمس رضعات من امرأة واحدة كانت عند رجل ثم طلقها فتزوجها آخر، والعكس قد يحدث؛ فلو أن محمدا تزوج عائشة، فارتضع هذا الرضيع من عائشة ثلاث رضعات، ثم انتقل إلى ضرتها -زوجة محمد الثانية- وارتضع رضعتين، أكمل خمسا من ماء الفحل الذي اللبن لبنه، ولم يكملها ويتمها من إحدى نسائه، فحينئذ له أب من الرضاعة ولا أم له من الرضاعة، يقولون: هل يوجد رضيع لا أم له من الرضاعة وله أب من الرضاعة؟ تقول: إذا لم يستنفد خمس رضعات من امرأة واحدة، وإنما من نسوة متعددات متزوجات برجل واحد، هذا بالنسبة لمسألة الخمس الرضعات. واشتراط الرضعات الخمس محل خلاف بين العلماء رحمهم الله. فأصح أقوال العلماء -رحمهم الله- أن العبرة في الرضاع أن يكون خمس رضعات، والدليل على ذلك حديثان قويان صريحان في الدلالة على اعتبار أن هذا العدد مؤثر في الرضاعة: الأول: حديث سهلة بنت الحارث رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: أرضعيه خمسا تحرمي عليه) ، وهذا الحديث رواه مسلم في الصحيح وغيره. ولفظ: (خمسا) جاء في معرض البيان، ولو كان الحكم يبنى على الأقل من الخمس لذكره لها، وإنما ذكر العدد الذي لا يمكن أن يؤثر ما دونه، فقال: (أرضعيه خمسا تحرمي عليه) ففهمنا أنه لو أرضعته أربعا لم تحرم، ولو أرضعته ثلاثا لم تحرم، ولو أرضعته ما دون ذلك لا تحرم. ثانيا: حديث أم المؤمنين عائشة في الصحيحين أنها قالت: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم (عشر رضعات معلومات يحرمن) فنسخن بخمس، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) هذا الحديث بين أنه كان في شرع الله عز وجل -بنص القرآن- أن العبرة في التحريم بالرضاع عشر رضعات، ثم خفف الحكم إلى خمس رضعات. (عشر رضعات معلومات يحرمن) فهذا يدل على أنه لابد أن تكون معلومة، وأن لا تكون مبنية على الشك، وأن تكون مشبعة، لأن الرضعة المعلومة هي المشبعة، قالت: (فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) فأثبتت أن العشر قد نسخت، وأن الخمس محكمة حكما لا تلاوة، والقرآن منه ما نسخ تلاوة وحكما، ومنه ما هو محكم تلاوة وحكما، ومنه ما هو محكم تلاوة منسوخ حكما، ومنه ما هو منسوخ تلاوة ومحكم حكما. قالت: (توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهن مما يتلى من القرآن) أي أن هناك أناسا يتلون هذه الآيات، وقد نسخت في العرضة الأخيرة التي عرضها جبريل؛ لأن جبريل عليه السلام كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم. كما في الصحيحين من حديث ابن عباس في الصحيحين: (كان يعرض عليه القرآن كل رمضان) . وفي آخر سنة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليه القرآن مرتين، وهذه تسمى بالعرضة الأخيرة التي استقر عليها المصحف في زمان أبي بكر رضي الله عنه، ومن بعده من الخلفاء الراشدين. فهذه العرضة الأخيرة نسخ ما عداها من العرضات السابقة، فهناك من الصحابة من حفظوا شيئا من العرضات السابقة، ولا زالوا يتلونه، ولم يبلغهم أنه منسوخ؛ لأن كل واحد يعمل بما علم. والشاهد من الحديث: أنه أثبت أن الخمس توفي صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن، وأن الخمس محكمة، ولم يأت نص ينسخ هذه الخمس، وقد اعترض على هذا الحديث باعتراض مشهور وهو قولهم: إن هذا الحديث إن قلتم: إنه من القرآن فالقرآن لا يثبت بالآحاد، وإن قلتم: إنه سنة فعائشة تقول: (إنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) فأثبتته قرآنا، وإن قلتم: إنه قرآن، فالقرآن لا يثبت بالآحاد؛ لأنه -بالإجماع- لا يثبت القرآن إلا بالتواتر. وبناء على ذلك: يقع الاعتراض على هذا الحديث فيسقط الاستدلال به؛ لأنك لا تستطيع أن تعتبره سنة؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها روته قرآنا، وإن أردت أن تثبته قرآنا فلا تستطيع أن تثبته قرآنا؛ لأنه جاء برواية الآحاد، ولم يأت برواية التواتر. ومن حفظ الله للقرآن لهذه الأمة أنه منقول بالكافة عن الكافة نقلا متواترا، وهذا من الحفظ الإلهي الذي حفظ به الكتاب، حتى كيفية النطق ومخارج الحروف، فسبحان من حفظ كتابه وكلامه، فهذا الأصل عند العلماء. فإذا: الحديث ليس بقرآن -لأنه آحاد- ولا هو بسنة؛ لأنها حكته قرآنا، وأجيب عن هذا الاعتراض بأقوى الأجوبة وهو الذي اختاره شيخ الإسلام الإمام عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي) رحمه الله، وكذلك اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أئمة الأصول، قالوا: إن هذا الحديث فيه جانبان: جانب التلاوة -أي: إثبات كونه قرآنا، وكونه يتلى كالقرآن- وجانب العمل بما في المروي؛ للحكم وليس للتلاوة. فأما كونه قرآنا فقد ثبت عندنا بالتواتر أنه منسوخ؛ لأنه ليس في العرضة الأخيرة إجماعا، فهذا لا نثبته قرآنا وليس لنا فيه كلام، ولكن الذي يعنينا ما بقي، وهو الشرط الثاني: إثبات الحكم، وإثبات الحكم لا يشترط فيه التواتر، ولا يشترط فيه أن يكون قرآنا فالآية قد تنسخ تلاوتها، ولكن تبقى حكما وهم يسلمون بهذا؛ وبناء على ذلك: يدفع ما ذكروه، وخاصة وأن عندنا حديثا آخر يغني عنه وهو: (أرضعيه خمسا تحرمي عليه) وهذا يدل دلالة قوية على أن العبرة بالخمس. أما الذين خالفوا فمنهم من يقول: قليل الرضاع وكثيره يحرم، كالحنفية ومن وافقهم، ومنهم من يقول: الثلاث رضعات محرمة، والرضعتان لا تحرم، ومنهم من يقول: العشر رضعات محرمة. فهذه الثلاثة الأقوال تخالف القول الذي اخترناه. أما من قال: قليله وكثيره يحرم، فاحتج بقوله تعالى: {والوالدات يرضعن} [البقرة:233] ، وقال تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} [النساء:23] ، ولم يشترط عددا معينا، وقالوا: لو أن شخصا ارتضع من امرأة رضعة واحدة فهي أمه التي أرضعته، إذ لا يوجد في القرآن (أرضعنكم خمس رضعات) قالوا: إن القرآن أطلق ولم يقيد -هذا وجه الدلالة- فنقول: هذا الإطلاق قيدته السنة، وبناء على ذلك لا تعارض بين مطلق ومقيد، فالإطلاق الذي ورد من كتاب الله: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء:23] . لم يبين الله عز وجل فيه عدد الرضعات، ثم جاءت السنة تحدد وتبين عدد الرضعات. ثانيا: كما أنكم تقولون: إن الإطلاق في قوله: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء:23] . مقيد بالحولين، لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233] . فأنتم تقيدون الرضاع بالحولين مع أن الله يقول: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء:23] عموما، فما خص الحولين ولا غيره، وبناء على ذلك: كما أنكم قيدتم بالكتاب فقيدوا -أيضا- بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الذين قالوا: إن الثلاث رضعات تحرم، فاستدلوا بحديث: (لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان) وهذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حديث عقبة بن ا صور للرضاع المحرم قال رحمه الله: [والسعوط والوجور ولبن الميتة، الموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد أو باطل أو زنا؛ محرم] . الرضاع بالسعوط (والسعوط) تقدم معنا في أكثر من مسألة، كما في الصوم، ولا يكون إلا عن طريق الأنف بالتقطير، أسعط الشيء إذا تناوله عن طريق الأنف، واللبن يكون سعوطا، إذا قطر منه قطرات في الأنف؛ لأنه في بعض الأحيان يمرض الصبي أو يأبى أخذ اللبن بفمه، أو يمرض مدخل حلقه، أو فمه، ولا يمكن إعطاؤه عن طريق الفم، فيضطر إلى تقطير اللبن عن طريق الأنف، فهذا يسمى سعوطا. الرضاع بالوجور (والوجور) يصب في حلقه صبا، يفتح فمه ثم يصب اللبن داخل حلقه، وغالبا يقهر عليه الصبي قهرا. فبين رحمه الله أنه إذا وصل اللبن عن طريق المص -الذي هو الطريق الطبيعي-، أو عن طريق الصب بالاختيار، أو بدون اختيار أنه مؤثر، كأنه يقول: العبرة بوصول اللبن إلى الجوف، وهذا صحيح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما فتق الأمعاء) ، وإذا نزل عن طريق الأنف إلى الأمعاء أثر فينشز عظما وينبت لحما، ولا إشكال في كونه عن طريق الأنف أو عن طريق الفم. أما الدليل على أن الأنف ينفذ إلى الجوف فحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما) . فالصائم يحرم عليه أن يوصل شيئا إلى جوفه، وإذا أراد الصائم الاستنشاق فقد نهاه الشرع أن يبالغ خشية أن يدخل الماء من الخياشيم إلى الحلق. فدل على أن الأنف متصل بالجوف، وهذا ثابت طبعا وشرعا. وبناء على ذلك: فلو أن اللبن وضع في أنفه فقطر ووصل إلى جوفه فإنه مؤثر وموجب للحكم بالتحريم. (والوجور) وكذلك (الوجور) إذا صب في حلقه صبا؛ والظاهرية يقولون: إنه لابد أن يمص الصبي، ويرتضع، ومراد المصنف: أن الرضاعة لا تختص بالمص فقط، فلو أنه صنع منه جبنا فأكله المرتضع، أو وضع لبن المرأة في زجاجة أو إناء ثم خلط به ماء وخفف أو خلط به غيره -مثل العقاقير التي توضع مع لبن المرأة للدواء أو نحو ذلك- فهذا مؤثر؛ لأن مادة اللبن موجودة، ويتغذى بها الجسم ويرتزق، ويفتق أمعاءه وينشز عظمه وينبت لحمه، وبناء على ذلك: سواء كان خالصا أو مشوبا، وسواء كان عن طريق الفم أو غيره مما يصل إلى الجوف، فإنه مؤثر. الرضاع من لبن المرأة الميتة قال رحمه الله: [ولبن الميتة] . (ولبن الميتة) أي: المرأة إذا ماتت وشرب صبي لبنها هل يثبت التحريم؟ نحن قلنا: خمس رضعات تحرم، فلو ارتضع أربع رضعات، ثم جاءت سكتة قلبية للمرأة وماتت، وشرب الرضعة الخامسة بعد موتها -وقد تقع هذه في بعض الحوادث والأحوال- والارتضاع من الميتة وارد، وحتى في زماننا -في مثل حوادث الزلازل التي وقعت- وجد صبي رضيع قد عاش مع أمه ما لا يقل عن أسبوعين، وسخر الله له ثديها مع أنها ميتة. فكان يعيش على لبن هذا الثدي، فالشاهد: إذا ماتت هذه المرضعة وبقي عدد من الرضعات ارتضع منها وهي ميتة فإن حكمها ثابت، خمس رضعات. ولنفرض -مثلا- أن صبيا احتاج إلى لبن -وما عندنا إلا امرأة ميتة ماتت الآن- فأراد أن يرتضع منها، وأرضعناه منها خمس رضعات، يأخذ الثدي اختيارا ويتركه اختيارا خمس مرات. فهل لبن الميتة يحرم؟! هناك وجهان للعلماء رحمهم الله، قال بعض أهل العلم -وهم الجمهور-: لبن الميتة محرم. وهو الصحيح، وذلك لقول الله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء:23] ، أي: وقع الإرضاع منهن، وهذا لا شك أنه قد ارتضع لبنها، كذلك اعترض بعض العلماء -رحمهم الله- على الذين قالوا: إن الميتة لا يحرم لبنها باعتراض -وهو من أوجه الاعتراضات وأجملها- فقالوا: أرأيتم لو أن هذه الميتة حلبت لبنها في إناء، ثم ماتت فشربه الصبي، هل يثبت التحريم؟!! قالوا: نعم. قال: إذا: لا فرق بين كونه يشربه وهو داخل الثدي، أو يشربه وهو خارج الثدي. وفي الحقيقة: أن الخوف عندهم أن يكون اللبن قد استنفد واستهلك، وهذا طبعا وبلا إشكال أنه إذا تبين أن اللبن مستنفد وفاسد فقد يضر -بل قد يقتل- الصبي. لكن نحن نتكلم عن لبن صحيح، أي: شرب لبنا صحيحا، أما كيف يعرف أنه صحيح فمعروف بالفطرة أن الصبي إذا عاف اللبن تركه؛ لأنه في بعض الأحيان يكره على رضاع اللبن الطبيعي بقوة، فضلا عن أن يكون فيه زنخ أو يكون مستنفدا مستهلكا، إذ ليس من السهولة بمكان أن يقدم الطفل على الرضاع من ثدي خال من اللبن أو متغير اللبن؛ لأن الله يقول: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه:50] ، هدى: دل، فالنحلة -وبقية الحيوانات- هداها الله عز وجل كيف تحصل أقواتها، وحتى الكلب المسعور -أعاذنا الله وإياكم- يسعر، ثم فجأة ينطلق إلى الحديقة التي فيها مئات الأنواع من الأزهار ومن الأعشاب، ويأتي إلى عشب مخصوص أو إلى وردة معينة فيشمها وينتهي ما به!! من دله وهداه؟! دله اللطيف الخبير وهداه {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه:50] . فالطفل من حيث هو فيه هداية فطرية، ولا يمكن أن يمتص لبنا فاسدا، والغالب أنه لا يرتضع إلا لبنا صالحا، فإذا رأيناه يرتضع ثم يترك الثدي، ثم يرتضع، ثم يرجع إليه خمس مرات أمامنا، علمنا ظاهرا أن اللبن صالح، وحكمنا بهذا الظاهر، وهذه من المسائل التي يحكم فيها على الظاهر؛ لأن دلالة الحال تدل على أن اللبن في ظاهره صالح، وبناء على ذلك: يثبت التحريم. الرضاع من لبن الموطوءة بشبهة قال رحمه الله: [والموطوءة بشبهة] . (والموطوءة بشبهة) لو أن امرأة بكرا كانت نائمة، فجاء رجل فظن أنها زوجته فوطئها وحصل حمل، وثاب لبن بسبب هذا الحمل، فهذا اللبن لبن مبني على وطء شبهة، كذلك لو تزوج زواجا فاسدا، وظنه صحيحا كنكاح الشغار، فحملت المرأة ودرت اللبن، ثم أرضعت هذا اللبن طفلا، فالوطء شبهة كالوطء الصحيح، واللبن للمرء الشبهة كاللبن للمرء الصحيح.
__________________
|
#633
|
||||
|
||||
![]() التحريم بلبن الموطوءة بعقد فاسد أو باطل قال رحمه الله: [أو بعقد فاسد أو باطل] وهكذا إذا كان بعقد فاسد، مثل: أن تتزوج امرأة بدون ولي، فهذا النكاح -عند الجمهور- محكوم بفساده. قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل) . والفاسد والباطل لا فرق بينهما عند الجمهور في المعاملات، فحكمنا ببطلان النكاح وفساده، فإن حصل من هذا النكاح لبن، فرضعه رضيع، فإن هذا الرضاع يثبت له ما يثبت من الوطء الصحيح في عقد نكاح صحيح. قال رحمه الله: [أو زنا] وهكذا -والعياذ بالله- لو زنا رجل بامرأة، فحملت ثم ثاب اللبن من هذا الوطء المحرم، وشربه صبي، فإنه تثبت له أحكام الرضاعة، ولكن في الأم دون الأب، قال صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) فلم يجعل للزاني شيئا في الزنا، ومن هنا قال طائفة من أهل العلم -واختاره الجمهور-: إنه لا ينسب الرضيع للأب من الزنا. كالحال في النسب، ولذلك ينسب الولد إلى أمه في الزنا، ولا ينسب إلى أبيه، كذلك في الرضاع ينسب إلى أمه ولا ينسب إلى أبيه الزاني. قال رحمه الله: (محرم) . أي: لا فرق أن يكون هذا اللبن ثاب بوطء في نكاح صحيح أو بنكاح فاسد، أو وطء شبهة، فكل ذلك الحكم فيه سواء؛ لأنه لبن فتق الأمعاء وأنشز العظم وأنبت اللحم، وأعطاه الشرع هذا الحكم لوجود هذه الخاصية. صور لرضاع غير محرم أو مختلف فيه قال رحمه الله: [وعكسه البهيمة] . فلو أن اثنين شربا لبن شاة ما نقول: هذه أمه من الرضاعة، ولو أنهم أخذوا علبة حليب وشربوا منها فلا يثبت بهذا ما يثبت للرضاع -شرعا- من آدمية، لكن لو جفف لبن امرأة وصار مثل المسحوق، وشربه صبي ثبت حكم الرضاعة، لكن بالنسبة للبهائم لا يثبت، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله. أحد المعاصرين من طلبة العلم لما سئل عن اثنين ارتضعا من شاة قال: هما أخوان من الرضاعة -أعوذ بالله من القول على الله بدون علم- ومن هذه الفتاوى. حتى أن أحدهم أراد أن يدرس الفقه فجاء إلى كتاب القصر، فقيل له: المغرب تقصر أو لا تقصر؟ قال: هناك قولان، فقيل له: كيف نصليها ركعة ونصف؟ أيسجد أو لا يسجد، أو يقدم السجود؟! - نسأل الله السلامة ونعوذ بالله من الزلل والزيغ. قال رحمه الله: [وغير حبلى] . (وغير حبلى) بعض العلماء يشترط أن يكون اللبن قد ثاب من وطء، فإذا حصل اللبن من وطء حكم به، أما إذا كان لم يثب من وطء -وهذا يقع في بعض الأحيان أن المرأة تدر اللبن قبل الزواج أي: درت هذا اللبن من غير وطء-؛ فبعض العلماء يرى أن لبن البكر لا يحرم، والصحيح: أنه يحرم؛ لأن الطفل يغتذي به، وبعضهم يبني المنع منه على أنه نادر، والحكم للغالب لا للنادر، يقول: كلبن الرجل، والرجل لا يوجد له لبن، لكن قد يقع في بعض الأحيان أن يرتضع من رجل كما يقولون، وهي مسألة أندر من النادر، يقولون: لا يثبت، وقد يقع في الخنثى المشكل إذا تبين أنه ذكر، ثم ثاب منه لبن بسبب الهرمونات والاختلال في جسمه، ففي هذه الحالة يقولون: إنه إذا كانت المرأة صغيرة وثاب لبن فيها من غير وطء، أو من غير حمل، فيحكم بأنه رضاع مؤثر وهو ابن لهذه المرأة، وهذا هو أصح القولين: أنه لا يشترط وجود الحمل، لكن المصنف بين أنه عكس الأصل. قال رحمه الله: [ولا موطوءة] . ومثال غير الموطوءة: البكر، فإذا ثاب من ثدييها اللبن من غير وطء، ومن غير حمل، وكذلك تكون ثيبا خلوا، ومن بعد ذلك ثاب منها اللبن؛ قالوا: إن هذا ليس باللبن المعتاد على الصفة المعتادة، فيحكمون بأنه لا تأثير له؛ لأنه خرج عن الأصل المعتاد. الأسئلة كيفية حساب الرضعات الخمس إن كان اللبن في إناء أو كان اللبن قد تحول جبنا السؤال كيف تثبت الخمس رضعات ويحصل تمامها، إذا كان شربا من الإناء أو أكلا إذا تحول جبنا؟ الجواب فأما بالنسبة للإناء فذكر بعض العلماء أن الإبانة عن الفم كالإبانة عن الثدي، أي: أنه إذا أخذ الإناء ثم أبانه عن فمه فهذه رضعة كاملة، وبناء على ذلك تحتسب خمس مرات أن يأخذ الإناء ويبينه؛ ثم يأخذ الإناء ويبينه؛ لأنه لا يبينه إلا بعد حصول الارتواء من أجل النفس، وبعض أهل العلم يرى أن الحكم يختلف في الشرب من الإناء عن الرضاع، ويرى أن العبرة بالمجالس، فلا بد أن يتكرر ذلك في خمسة مجالس، وأن كل مجلس يعتبر رضعة؛ لأن فيه اشتباها، والحقيقة أن المذهب الذي يقول: إن المعتبر هو الإبانة من الفم فيه قوة، فالشرب من الإناء ثم إبعاده هذا يعد رضعة، فإذا استتم كان في حكم الخمس رضعات المعلومة. عدم اشتراط الرضا في ثبوت الرضاع المحرم السؤال هل من شروط الرضاعة أن يكون الأب موافقا؟ الجواب لا يشترط في الرضاعة أن يكون الأب موافقا، ولذلك الحكم مترتب على وجود الرضاع؛ لأنه إذا شرب هذا اللبن، نبت لحمه ونشز عظمه، رضي أو لم يرض، وهذا يسمونه الحكم بالأسباب، فقد جعل الشرع الحكم هنا مرتبا على وجود سبب وهو الرضاع، سواء أذن صاحبه أو لم يأذن. ولذلك في بعض الأحيان لا الأم ترضى ولا الأب، كأن تكون نائمة وهجم عليها صبي والتقم ثديها وهي نائمة أو ظنته ولدها، في هذه الحالة لا يكون هناك رضا -لا من الأب ولا من الأم-؛ وفي بعض الأحيان قد تحمله ولا تشعر إلا وقد أخذ ثديها ورضع بدون خيارها، فلا يشترط الرضا في الرضاع والعبرة في هذا الحكم بالسبب وهو وجود الرضاع، سواء كان هناك رضا أم لم يكن، والله أعلم. معنى قوله تعالى: (إلا ما قد سلف) من قوله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) السؤال أشكل علينا قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} [النساء:22] ما معنى قوله: (إلا ما قد سلف) ؟ الجواب ( إلا) استثناء موجب للعطف المشرك للحكم، وهذا معروف في لسان العرب، ولذلك يكون قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} [النساء:22] أي: ولا ما قد سلف، لا تستديموهن ولا تبقوهن. أي: ما كان من الوطء بنكاح منكوحة أبيه، ومن بقيت معه بعد نزول الآية فعليه أن يفارقها، ويكون معنى قوله: {إلا ما قد سلف} أي: لا تستبقوهن، وقالوا في قوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} [النساء:92] ، أي: ولا خطأ، وذلك بتعاطي الأسباب الموجبة للتساهل حتى يحصل القتل. وهذه اللغة استشهد بها الإمام ابن قدامة رحمة الله في هذه المسألة وفي مسألة بيع الكلب المعلم للصيد، في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد؛ لأن العرب كانت مشهورة بالصيد، فخاطب البيئة التي نزل فيها القرآن بما ألفت، فقوله: (إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد، فإذا كان كلب الصيد -للحاجة- لا يجوز فمن باب أولى تحريمه لغير الحاجة؛ لأنه قد يظن شخص أن الإذن به للصيد يبيح ويحل بيعه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد، فدل على أنه لا يجوز بيع الكلاب وشراؤها، ولو كان مأذونا باتخاذها، فالعطف هنا للمأذون، واستشهد الإمام ابن قدامة بقول الشاعر: وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان أي: والفرقدان، فهذا عطف موجب للتشريك في الحكم، وما ذكرناه ذكره بعض أئمة التفسير في الآية الكريمة. وقيل في معناها -على وجه-: أي: عفوت فيما وقع منكم فيما قد سلف، فاستأنفوا الحكم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أسلمت على ما أسلفت من خير) وكما قال الله تعالى: {عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه} [المائدة:95] ، فيكون من باب التنبيه على أن النفوس تتحرج، حتى إن العرب في الجاهلية كانوا إذا توفي الرجل وخاف الابن على زوجة أبيه يرمي ثوبا عليها حتى لا يتزوجها غيره، ومعنى ذلك: أنه يريد أن ينكحها، فهذا من عادات الجاهلية، فيرمي ثوبه عليها، فتعلم أنه يريد نكاحها، فإذا نكحها مقتته العرب، وكانوا يمقتون هذا مع أنهم كانوا يفعلونه، إلا أنهم كانوا ينظرون إليه نظرة مستبشعة، وكما قال تعالى: {إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا} [النساء:22] ، أي: أن نكاح زوجة الأب ممقوت، حتى في أعرافهم الجاهلية. وعلى كل حال: الآية تدل على أحد أمرين: إما عطف موجب للتشريك في الحكم، كما ذكرنا، فلا إشكال، فيكون ما يستفاد منها: أنه لا تبقوا النكاح الذي كان في الجاهلية، ويجب أن تفارقوهن، فالآية الكريمة جمعت بين تحريم نكاح زوجة الأب ابتداء واستدامة؛ فابتداء لقوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} [النساء:22] ، واستدامة لقوله تعالى: {إلا ما قد سلف} [النساء:22] أي: لا تبقوهن ولا تستديموا نكاحهن. وأما الاحتمال الثاني: {إلا ما قد سلف} المراد به: استأنفوا الحكم، فما كان مما قد سلف فإن الله قد عفا عنه؛ لأن الله لم ينزل فيه شرعا؛ ولذلك أعذر فيه سبحانه وتعالى، وأسقط المؤاخذة. والله تعالى أعلم. الفرق بين العبد المدبر وأم الولد في الإجزاء في كفارة الظهار السؤال في كفارة الظهار في الرقبة، يجزئ إخراج المدبر ولا تجزئ أم الولد، فما الفرق بينهما مع أن كل منهما يعتق بموت السيد؟ الجواب أم الولد عتقها لا إشكال فيه، لكن المدبر فيه خلاف وذكرنا هذا في مسائل التدبير أنه من حق السيد المدبر أن يرجع عن عتق المدبر، وبناء على ذلك: صار المدبر أضعف حالا من أم الولد، ومن هنا يجوز التفريق، فإذا كان أحدهما أقوى من الآخر، فلا يمكن أن يسوى بينهما؛ فالمدبر يمكن أن يرجع عن تدبيره؛ لأن المدبر هو أن يعلق عتق عبده على موته، فيقولون: عتق عن دبر، ودبر الشيء: آخره، فكأنه إذا أدبر ومات عتق عليه عبده، فقيل له: المدبر؛ أي: الذي يعتق بعد وفاة سيده، وفي بعض الأحيان يقول: إذا مت فاعتقوا عبدي فلان، ثم يرجع عن هذا التدبير، قالوا: لأنه مثل الهبة، والهبة لا تملك إلا بالقبض، ولا تثبت إلا بعد ثبوت حكمها من حيث القبض، وهنا ما حصل الموت، فمن حقه أن يرجع، وعلى هذا قالوا: إنه يجوز، وحملوا عليه عتق الرجل الذي أوصى أن يعتق عبيده، وكان عليه دين فرد النبي صلى الله عليه وسلم وصيته، وهذه وصية عن دبر، أي: أوصى بعتق عبيده بعد موته، فهو كالتدبير، وهذا أصل لمن يقول بجواز الرجوع عن التدبير. وعلى كل حال: الفرق بين المدبر وأم الولد واضح، وبناء على ذلك لا يرد الاعتراض؛ لأن الحكم يكون مساويا إذا كانا في منزلة واحدة ودرجة واحدة من القوة. والله تعالى أعلم. الجمع بين حديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) ، وحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) السؤال كيف يمكن الجمع بين حديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) ، وحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) . الجواب لا تعارض بين الحديثين، والحمد لله؛ كلاهما خرج من مشكاة واحدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) ، على رواية الرفع، المراد به: أن الإنسان إذا ألم بمعصية ثم ستره الله بستره، وذهب وتكلم جهارا بما ألم به، فقد هتك ستر الله، وهذا يقع من بعض أهل الضلال، والفسوق والفجور، يفعلون المعاصي، ثم يأتي إلى صديقه ويقول: فعلت وفعلت وحدث وحصل، فيتفاخر ويتباهى. فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- سلب الله منه العافية؛ لأن من العافية أن يصرف الله عن عبده الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فإذا أذنب وألم بخطيئة وستر الله عليه؛ عوفي في علانيته. أما إذا أصبح يهتك ستر الله، ويأتي يفاخر ويباهي بذنبه ويقول: فعلت وفعلت، فهذا عافاه الله علانية فلم يرض عافية الله؛ فجمع بين بلاء السر وبلاء الظاهر والعلانية. أما بالنسبة لحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) . فدل الحديث الأول على أن من ستر فهو معافى، فكيف يجمع بينه وبين هذا الحديث فيمن فعل المعصية في الخلوة؟ الجواب: أنه في حديث ثوبان رضي الله عنه: (أعرف أقواما من أمتي يأتون بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباء منثورا، قالوا: يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا، لئلا نكون منهم ونحن لا ندري، قال: أما إنهم منكم يصلون كما تصلون، ويأخذون من الليل كما تأخذون، إلا أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) أي: أن عندهم استهتارا واستخفافا بالله عز وجل، فهناك فرق بين المعصية التي تأتي مع الانكسار، والمعصية التي تأتي بغير انكسار، بين شخص يعصي الله في ستر، وبين شخص عنده جرأة على الله عز وجل، فصارت حسناته في العلانية أشبه بالرياء وإن كانت أمثال الجبال، فإذا كان بين الصالحين أحسن أيما إحسان؛ لأنه يرجو الناس ولا يرجو الله، فيأتي بحسنات كأمثال الجبال، فظاهرها حسنات، (لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) فهم في السر لا يرجون لله وقارا، ولا يخافون من الله سبحانه وتعالى، بخلاف من يفعل المعصية في السر وقلبه منكسر، ويكره هذه المعصية، ويمقتها ويرزقه الله الندم، فالشخص الذي يفعل المعصية في السر، وعنده الندم والحرقة ويتألم، فهذا ليس ممن ينتهك محارم الله عز وجل؛ لأنه -في الأصل- معظم لشعائر الله، لكن غلبته شهوته فينكسر لها، أما الآخر فيتسم بالوقاحة والجرأة على الله؛ لأن الشرع لا يتحدث عن شخص أو شخصين، ولا يتحدث عن نص محدد، إنما يعطي الأوصاف كاملة. من الناس من إذا خلا بالمعصية خلا بها جريئا على الله، ومنهم من يخلو بالمعصية وهو تحت قهر الشهوة وسلطان الشهوة، ولو أنه أمعن النظر وتريث، ربما غلب إيمانه شهوته وحال بينه وبين المعصية، لكن الشهوة أعمته، والشهوة قد تعمي وتصم، فلا يسمع نصيحة ولا يرعوي، فيهجم على المعصية فيستزله الشيطان، قال تعالى: {إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم} [آل عمران:155] ، فإذا حصل الاستزلال من الشيطان، فزلت قدم العبد، لكن في قرارة قلبه الاعتراف بالمعصية، والله يعلم أنه لما وقع في المعصية أنه نادم، وأنه كاره لها، حتى إن بعضهم يفعل المعصية وهو في قرارة قلبه يتمنى أنه مات قبل أن يفعلها، فهذا معظم لله عز وجل، ولكنه لم يرزق من الإيمان ما يحول بينه وبين المعصية، وقد يكون سبب ابتلاء الله له أنه عير أحدا أو أنه عق والدا أو قطع رحمه، فحجب الله عنه رحمته، أو آذى عالما أو وقع في أذية ولي من أولياء الله؛ فآذنه الله بحرب، فأصبح حاله حال المخذول، مع أنه في قرارة قلبه لا يرضى بهذا الشيء، فيخذل عند التعرض للمعاصي. ومحاربة الله للعبد على صفات، منها -والعياذ بالله- أن يأكل الربا فيأذن بحرب من الله عز وجل، فيأتي إلى المعاصي فيسلب التوفيق، ويأتي إلى المظالم فتجده في بعض الأحيان يقع في ظلم أخيه فيستغرب كيف وقع هذا؟! لأن الله خذله، ويكون الخذلان لأسباب: إما أنه عير مبتلى فعاقبه الله، أو أصابه غرور بطاعته فعاقبه الله ووكل إلى حوله، وأشياء أخرى كثيرة، {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة:216] ، فهذه الأمور لا ينظر الإنسان فيها إلى شخص معين، وإنما ينظر إلى أحوال الناس، فمن الناس من يكون عنده حسنات في الظاهر كأمثال الجبال، ولذلك تجد بعضهم إذا وقف مع الناس فهو ذلك الرجل اللين اللسان، الطيب الجنان، فإذا غاب عنهم حقد عليهم وسبهم وشتمهم، وربما يجلس في مجالس الخير والذكر، وكأنه واحد من أصحابهم، فإذا غاب عنهم أخذ يغتابهم ويذمهم ويلومهم، ولا يعظم الله ولا يرعوي عن حرمات المسلمين، فعنده جرأة -والعياذ بالله- على معصية الله، ولكن إذا وقع العبد في معصية وهو في قرارة قلبه يكره أن يقع في هذا الشيء ولو أنه أعطي التوفيق من الله تعالى بتعاطي الأسباب لما ابتلي بهذا، وإذا وقع في الذنب صحبه الندم والألم، فهذا ممن رجا رحمة الله عز وجل، ومن هذا الذي رجا رحمة الله وخيبه الله؟ وكيف يكون العبد تائبا إلا من ذنب? فهناك مراتب وأحوال ينبغي مراعاتها، ومنها: أنه لا ينبغي أن نأتي ونضع منزلة المحسن للمسيء، ومنزلة المسيء -الذي هو بالغ الإساءة- للمحسن، والمسيء ظاهرا وباطنا ليس كمن يسيء ظاهرا لا باطنا، فإذا جئت تنظر إلى معصية السر، فالذي يعصي في السر على مراتب: منهم من يعصي مع وجود الاستخفاف، فبعض العصاة تجده لما يأتي إلى معصية لا يراه فيها أحد يذهب الزاجر عنه، ويمارسها بكل تهكم وبكل وقاحة، وبكل سخرية ويقول كلمات، ويفعل أفعالا، ولربما نصحه الناصح، فيرد عليه بكلمات كلها وقاحة، وإذا به يستخف بعظمة الله عز وجل ودينه وشرعه، لكنه إذا خرج إلى الظاهر صلى وصام، وإذا خلا بالمعصية لا يرجو لله وقارا -والعياذ بالله- فليس هذا مثل من يضعف أمام شهوة أو يفتن بفتنة يراها ويحس أن فيها بلاء وشقاء، ويقدم عليها، وقلبه يتمعر من داخله ويتألم من قرارة قلبه، ثم إذا أصاب المعصية ندم، ولذلك الشيطان تجده يلبس على بعض الأخيار، فتجد بعض الأخيار -وهو نادر- مبتلى بالعادة السرية، فيأتيه الشيطان ويقول له: أنت ممن يصدق عليهم: (إذا خلو بمحارم الله انتهكوها) ، فأنت منافق. أبدا، هذا ليس بصحيح، وإن كان لا ينبغي للإنسان أن يفعل هذه المعاصي في السر، وعليه أن يتقي الله عز وجل في السر، حتى يتبوأ الدرجات العلى في الأولى والآخرة، لكن {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت:46] . فالله لا يظلم العباد، ولا ينزل عبدا جريئا على حدود الله ومحارمه منزلة عبد يخاف الله ويرجو رحمته، ولذلك جاء في الأثر أن الله يوقف العالم بين يديه، أو يوقف الرجل الصالح بين يديه، فيقول: (عبدي! فعلت وفعلت حتى إذا رأى أنه هالك لا محالة قال: عبدي! قد كنت ترجو رحمتي؛ قد غفرت لك) ، أي: مع كل هذه الذنوب ومع هذه الإساءة ترجو رحمتي، وقد علمت منك أنك كنت مشفقا على نفسك وتخاف الله عز وجل، فإني لا أخيبك، وهذا شأنه وهو الكريم سبحانه وتعالى، وهو الذي يبتدئ بالإحسان ويتفضل بالنعم، ولا يستحق أحد ذلك؛ لأنه كله فضل الله وكرمه، لا منتهى لكرمه ولا منتهى لجوده، والحمد لله على حلمه، والحمد لله على كرمه وجوده وإحسانه ورحمته، وسع العباد جودا ورحمة وإحسانا وبرا، فهذا الحديث ليس على إطلاقه، وإنما المراد به من كانت عنده الجرأة -والعياذ بالله- والاستخفاف بحدود الله، ونسأل الله بعزته وجلاله كما أنعم علينا بنعمة الإسلام وتوحيده والإخلاص لوجهه، والخوف منه سبحانه، أن لا يسلبنا هذه النعمة، وأن لا ينقصنا منها، اللهم زدنا ولا تنقصنا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا بطاعتك، ولا تهنا بمعصيتك، وأنت أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم. حكم أمر الرجل لزوجته بالإفطار في صيام القضاء السؤال هل يجوز للرجل أن يأمر زوجته أن تفطر وهي صائمة قضاء ما أفطرته في رمضان؟ الجواب يجوز للرجل أن يأمر زوجته أن تؤخر قضاء رمضان؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بينت في حديثها في الصحيح، أنها كانت تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فدل على أن القضاء موسع، فإذا أرادت أن تصوم في محرم، فمن حقه أن يقول: أخري الصيام إلى شعبان، لكن إذا صامت ودخلت في الصوم، فليس من حقه أن يأمرها بالفطر؛ لأنها إذا صامت فإنها مأمورة بالإتمام وتلزم بإتمام الصوم، ولا يجوز له أن يأمرها بالفطر؛ فالقضاء يحكي الأداء ويأخذ حكمه، فلا سبيل له لمنعها، والدليل على أنها لا تفطر في الفريضة قوله عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه) فدل على أن المفترض ليس أميرا لنفسه، وبناء على ذلك: لا تفطر لأمر الزوج إذا كانت في صيام الفريضة، أو صوم قضاء إذا دخلت فيه، أما أن يؤخرها ويقال لها: أخري القضاء، فذلك له، لأن القضاء موسع، والله تعالى أعلم. حكم من أفطر قبل المغرب يظن أن الشمس قد غربت السؤال ما حكم من أفطر في رمضان قبل المغرب يظن أن الشمس غربت؟ الجواب من أفطر قبل الغروب ظنا منه أن الشمس قد غربت سقط عنه الإثم ولزمه القضاء، لأن الشرع ألزمه بصوم يومه كاملا، فإذا أفطر شيئا من اليوم، فإنه يعذر لمكان الخطأ، ويلزم بالإتمام والقضاء، وقياس الخطأ على الأكل والشرب نسيانا قياس على الخاص، لأن ما جاء على خلاف الأصل فغيره عليه لا يقاس، والشرع استثنى الناسي، والنسيان سهو وغفلة من الشخص، وأما المخطئ فلديه نوع من التقصير؛ لأنه لو بذل الأسباب وتحرى لانكشف له الأمر جليا، وعليه: يفرق بين المخطئ والناسي من هذا الوجه؛ لأن العذر في الناسي أقوى منه في المخطئ، فالمخطئ لو تحرى وبذل أسباب التحري لأمكن عدم الوقوع في الخطأ، ومثال آخر للخطأ: رجل استيقظ من الليل وظن أنه لم يؤذن للفجر بعد، ثم أكل وشرب، وتبين أنه أكل وشرب بعد الفجر، فهذا لو تحرى وبذل الأسباب لانكشف له الأمر جليا، ولكن الناسي قد ذهل وزال عن عقله ذلك الشعور وليس عنده أي سبب يمكن أن يتعاطاه تلافيا للقصور والإخلال بحق الله عز وجل، ومن هنا فرق جمهور العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة وقالوا: إنه يلزمه القضاء، وقال عروة رحمه الله كما في صحيح البخاري حينما قيل لهم: هل صليتم ذلك اليوم؟ قالوا: وهل في القضاء شك، فالأصل يقتضي أنهم يصومون اليوم كاملا، وإذا حصل الخطأ، فإنه يسقط عنهم الإثم لقوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} [الأحزاب:5] . فأسقط الله الإثم، ولكن يلزمه ضمان، وكذلك في حقوق العباد، كما لو قتل خطأ أسقطنا عنه الإثم، لكن أوجبنا عليه الضمان، وهنا نسقط عنه في حق الله الإثم ونوجب عليه ضمان الصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فدين الله أحق أن يقضى) فحق الله أحق وأولى، والله تعالى أعلم. حكم صلاة ركعتي العشاء وراء صلاة التراويح السؤال هل يجوز أن أنوي في الركعتين الأوليين من صلاة التراويح أنها سنة العشاء؟ الجواب نعم؛ يجوز ذلك، إذا نوى بها سنة العشاء فإنه يتحقق مقصود الشرع، وحينئذ تجزئه عن راتبة العشاء، وإذا أخر راتبة العشاء إلى ما بعد وتره مع الإمام فلا بأس ولا حرج، ولكن الأفضل أن يصلي الراتبة بعد صلاة العشاء، ثم يقوم ويصلي القيام كاملا تاما مع الإمام، ويوتر معه، والله تعالى أعلم. معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك) السؤال ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك) وكيف يكون ذلك؟ الجواب هذا الحديث حديث عظيم، وتفسير هذه الجملة يحتاج إلى مجالس، ولكن جماعها كله في تقوى الله عز وجل، فليس هناك حافظ حفظ حدود الله عز وجل ومحارمه مثل المتقين، أما إذا أراد الله عز وجل أن يتم النعمة على الحافظين وأن يعلي لهم الدرجة، وأن يعظم لهم الأجر والمثوبة، فإنه ينقلهم إلى درجات الإحسان، فأعظم ما يكون الحفظ أن لا يرى الله عبده حيث نهاه، وأن لا يفقده حيث يحب أن يراه؛ لأن الحفظ استخدم في الشريعة في الأوامر وفي النواهي، {والحافظون لحدود الله} [التوبة:112] ، هذا بالنسبة للنواهي، {والذين هم على صلاتهم يحافظون} [المعارج:34] ، فحفظ أوامر الله عز وجل أن تأتي بها على أتم الوجوه وأكملها، ولا ترضى لنفسك أبدا أن تكون في الدون، مثلا: الصلاة؛ فبدل أن يأتي الإنسان أثناء الصلاة، يأتي على أتم الوجوه وأكملها قبل الأذان، وبدل أن يصلي في الصف الثاني فحفظه على أتم الوجوه وأكملها إذا كان في الصف الأول، وإذا صلى الصلاة بدل أن يخشع في ثلثها أو ربعها أو نصفها، خشع فيها كاملة. وبدل أن تبكي عينه عند سماع الآيات، بكى عند تسبيح الله أيضا. فإذا أراد الله أن يزيده من فضله، بكى حتى في سجوده وهو يدعو، فإذا أراد الله أن يزيده رزقه خشوع القلب والصلاة على أتم الوجوه وأكملها، حتى إنه منذ أن يكبر إلى أن يسلم وهو في ذكر لله عز وجل، وحضور القلب على أتم ما يكون ذكره، وهذه من مراتب الإحسان العلى، فتجده يكبر التكبيرة وهو يستشعر معنى قول: (الله أكبر) ، إما لكونه مظلوما مضطهدا، أو يكون غنيا قويا، يظن أن (الله أكبر) من كل شيء، فإذا قال: (الله أكبر) وهو مظلوم تبددت جميع هموم الأرض وزالت، لأنه يعلم أن الله أكبر من كل شيء، لأن الذي يشوش في الصلاة هموم الإنسان وغمومه، إما سراء أو ضراء، فإذا قال: (الله أكبر) وهو في سراء علم كيف أن الله أغناه وهو فقير، وأعزه وهو ذليل، وأكرمه وهو مهين، ورفعه وهو وضيع، فيقول: (الله أكبر) من قرارة قلبه ومن صميم فؤاده، يعرف ما معنى هذه الكلمة، ولذا يقولها بصدق ويقين وإخلاص وحضور قلب، فإذا قال دعاء الاستفتاح، كل كلمة يستشعر معناها، فإن أراد أن يسبح ويثني على الله عز وجل، عرف كيف يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك) وكذلك أيضا: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) ، تذكر أنه مذنب وأنه فار إلى الله عز وجل، كذلك أيضا: إذا قرأ القرآن تدبر كل كلمة وكل حرف من كتاب الله عز وجل، ولا يزال في هذه النعمة حتى إن العبد يستفتح بكتاب الله عز وجل، ويتمنى أنه ما انتهى من التلاوة، وهذه المراتب يتفضل الله بها على عباده، فمستقل ومستكثر، ولذلك تجد بعض الأخيار والصالحين في قيام الليل، عندما يقوم الليل يبتدئ القيام وهو يريد أن يقرأ الجزء فإذا به يمضي إلى الجزئين والثلاثة إلى الأربعة، ووالله! ربما ختم العشرة -ثلث القرآن- ولربما وصل إلى نصف القرآن وهو لا يزال في الركعة الواحدة، ما وسعه الوقت لكتاب الله عز وجل، من لذة ما هو فيه، لكن سبحان من يتفضل على عباده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فهذا الشعور مرتبة عالية في الحفظ، حفظ حدود الله عز وجل، وإذا أراد أن يصلي وأراد أن يكون من الحافظين تخيل أنها آخر صلاة من عمره، وأحيانا ينتقل -متفكرا- إلى الآخرة فيتخيل أن الله سيحاسبه على كل كلمة وعلى كل حرف، وهو يعرف أين يقف؟ ومن يناجي؟ ومن يسأل؟ فإذا تليت عليه آيات الله وكان مأموما تدبر كل كلمة وكل حرف، لا يؤثر عليه الإمام ولا يؤثر عليه القارئ، وتراه غير محصور في القراءة والقراء، ولا بمسجد دون مسجد، أبدا؛ لأنه مع الله، حافظ لحدود الله، أينما كان، وحيثما كان، هذا بالنسبة للحقوق والواجبات في حق الله، وفي الحقوق والواجبات التي أمر الله فيما بيننا، فتجده في حق إخوانه المسلمين صالحين أو غيرهم، يحفظ حق المسلم على أتم الوجوه وأكملها، فهو يعلم أن الله عز وجل أمره أن يعطي لأخيه حقا فيعطيه على أتم الوجوه وأكملها دون منة، ويعلم أن هذا أخ له في الإسلام، فإذا لقيه لقيه بقلب صاف من الغل والحقد والشحناء والاحتقار، ولا يمكن أن يدخل في قرارة قلبه احتقارا لمسلم للونه، ولا لمنصبه ولا لجاهه أبدا؛ لأن الله أمره أن يحفظ هذا القلب، لئلا يدخل فيه شيء من عمل الشيطان أو كيده، فالجاهلية لا تجد منفذا إلى قلبه، هذا بالنسبة لما يكنه لأخيه المسلم في باطنه، وأما في ظاهره فالكلام الطيب والألفة، فتجده حينما ينعم الله عليه ويكون من الحافظين فلا تجده يعامل صغيرا أو كبيرا إلا وخرج من عنده وهو يشكره على ما يكون منه من حسن عمل، ولن تستطيع أن ترى أحدا يحفظ حدود الله في حقوق إخوانه المسلمين إلا مع الضعفاء. انظروا كيف هذا الكرم. وكان ابن عباس من أكرم الناس، وليس بغريب على هذا العبد الصالح الذي تربى على يدي النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول: (إذا جاءني الرجل في حاجة عددته صاحب الفضل) . وهكذا الخطيب إذا خطب وأنصت له الناس، عد أن الناس هم أصحاب الفضل، وكذلك العالم إذا درس وأفتى وعلم ووجه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من الحافظين لحدوده وأن يحفظنا بخيره، وأن يتم علينا نعمته، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة السعداء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
__________________
|
#634
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الرضاع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (476) صـــــ(1) إلى صــ(18) شرح زاد المستقنع - كتاب الرضاع [2] الرضاع نوع من أنواع العلاقات التي أثبتها الشرع، ورتب عليه أحكاما متعلقة بحرمة النكاح والمحرمية والنظر والخلوة إلخ. وهذه الأحكام والآثار منصوص عليها في الكتاب والسنة. ما يترتب على الرضاع بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيلهم ونهجهم إلى يوم الدين؛ أما بعد: فيقول المصنف-رحمه الله تعالى-: [فمتى أرضعت امرأة طفلا صار ولدها في النكاح، والنظر، والخلوة، والمحرمية] شرع المصنف-رحمه الله- بهذه الجملة في بيان الأحكام المترتبة على الرضاع، وهذا ما يسميه العلماء بآثار الرضاع، فبعد أن بين-رحمه الله- حقيقة الرضاع، ومتى يكون رضاعا مؤثرا، وماذا ينبغي حتى يحكم بتأثيره، شرع في بيان الآثار المترتبة على الرضاع، وهذا من ترتيب الأفكار، وتسلسلها، لأن الآثار يتكلم عليها بعد إثبات الشيء. فبين-رحمه الله- أنه متى أرضعت امرأة طفلا، أي: وقعت الرضاعة الشرعية على الصفة المعتبرة، فكانت في الحولين، وكانت خمس رضعات معلومات مشبعات، فإنه يصير ولدا لها في النكاح. تحريم النكاح وهناك أحكام تتعلق بالرضاع؛ منها ما يتعلق بالنكاح، ومنها ما يتعلق بالمحرمية، ففي النكاح لا يجوز له أن ينكحها؛ لأنها أمه من الرضاع، والله تعالى ذكر في المحرمات الأم من الرضاع فقال سبحانه: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء:23] . فإذا أرضعت امرأة طفلا صار ولدا لها، وحينئذ لا يجوز للولد أن ينكح والدته، والله تعالى جعل الرضيع فرعا عمن أرضعه فقال: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء:23] فمعنى ذلك أن الرضيع ولد للمرضعة. جواز النظر قال رحمه الله: (صار ولدها في النكاح والنظر) أي: فيجوز له أن ينظر إليها كما ينظر المحرم لمحرمه، فليست بأجنبية عنه، وهذا الفرع الثاني، فالأول يتعلق بالنكاح، والثاني يتعلق بالنظر، فيجوز له أن ينظر إليها. جواز الخلوة قوله: (والخلوة) فيجوز له أن يختلي بها لأنها من محارمه، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) . فبين عليه الصلاة والسلام أنه لا يجوز لأي رجل أن يخلو بامرأة أجنبية لا تحل له، وأنه إذا فعل ذلك كان الشيطان ثالثهما، وهذا يدل على أنها الفتنة والبلاء العظيم والشر المستطير، فإنه إذا كان الشيطان ثالثا لهما؛ سول لكل منهما، وأدخل عليهما البلاء ولكن إذا حكم بالرضاع حل له أن يختلي بها، فهي أمه من الرضاع، أو أخته من الرضاع، أو عمته من الرضاع، أو خالته من الرضاع، كما يختلي بأمه من النسب، وأخته من النسب، وعمته من النسب، وخالته من النسب. ثبوت المحرمية قوله: (والمحرمية) فيجوز له أن يلمسها، ويجوز له أن يصافحها، فإذا مد يده إليها ردت عليه وصافحته، لأنه لا يجوز له أن يصافح امرأة ليست من محارمه، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لا أصافح النساء) ، لما قالت له هند: امدد يدك نبايعك يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام: (إني لا أصافح النساء -يعني: الأجنبيات- إنما قولي لواحدة منكن كقولي لسائركن) . وقالت عائشة رضي الله عنها -كما في الحديث الصحيح-: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ما مست يده يد امرأة قط) أي: أجنبية، فما مس امرأة أجنبية صلوات الله وسلامه عليه. وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (لأن يطعن أحدكم في رأسه بمخيط خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) . كأن يصافحها، أو يلمسها ولو بدون شهوة، إلا إذا كان لضرورة؛ كالطبيب، أو إنسان يريد أن ينقذ امرأة من مهلكة، أو غريقة أو نحو ذلك، فاضطر إلى لمسها لأمور مستثناة بقدر الضرورة والحاجة، كما تقدم معنا في بعض المسائل المتعلقة بالرخص. ثبوت التحريم في الرضاع كما هو في النسب قال رحمه الله: [وولد من نسب لبنها إليه بحمل أو وطء] من نسب لبنها إليه هو زوجها، وعليه: فإنه يصبح والدا من الرضاعة، للراضع لبن امرأته الناتج عن الوطء والحمل منه، وبنوه يكونون إخوة للمرتضع. فلو فرضنا أنه ارتضع من خديجة، وخديجة زوج لعبد الله، وحملت منه، فأنجبت محمدا، ثم بعد إنجابه ثاب اللبن، فجاء طفل رضيع وشرب من هذا اللبن، فهو ابن لهذا الرجل، ولو أن الرضيع كان أنثى-بنتا- فإنها تصبح محرما لهذا الرجل، لأنه أب لها من الرضاع، وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، أن أفلح أخي أبي القعيس رضي الله عنه وأرضاه، استأذن عليها، وكانت عائشة رضي الله عنها قد رضعت من امرأة أبي القعيس، فاستأذن أخوه أفلح، فلم تأذن له عائشة، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يارسول الله! إنما أرضعتني امرأته -ما أرضعني أبو القعيس - فقال عليه الصلاة والسلام: (ائذني له تربت يداك! إنه عمك من الرضاعة) . وهذا ما يسميه العلماء بلبن الفحل، أي: أن الرجل له تأثير في الرضاع، كما أن للمرأة تأثيرا، وهذا راجع إلى أن أصل المسألة هو: أن اللبن يثوب من ماء الرجل، ومن ماء المرأة. فكما أنه في النسب يكون هناك اشتراك بين الرجل وبين المرأة، فكذلك أيضا في الرضاع، يكون هناك اشتراك بين الرجل وبين المرأة. فالرجل أب، والمرأة أم من الرضاعة. ويسري ذلك إلى الأقرباء، ولذلك قال خطيب بني هوازن للنبي صلى الله عليه وسلم: يارسول الله! إن اللاتي في الحضار ما هن إلا عماتك وخالاتك من الرضاعة، فأثبت لبن الفحل، وأسراه كسريان النسب، وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، ولأنه لو أخذ بالنسب لكان الرجل الذي وطئ أبا، والابن ابنه، والفروع التي شاركت هذا الأب في أصليه -كالأعمام والعمات- محارم، كذلك أيضا في الرضاع محارم، فجميع من ينجبه هذا الرجل الذي ارتضع الرضيع لبنه يعتبر أخا لهذا الرضيع. ثم ننظر؛ إن كان هذا الذي أنجبه أنجبه من نفس المرأة التي ارتضع منها الرضيع؛ فهو أخ شقيق، وإن كان هذا الرجل له زوجة ثانية، فأنجبت أولادا فهم أخوة من الرضاع لأب، ولو أن هذه المرأة تزوجت رجلا قبل أو بعد الرضاعة، وأنجبت قبل أو بعد الرضاعة، فهم إخوة من الرضاع لأم. فجرى في الرضاع ما يجري في النسب؛ فهناك أخ من الرضاع شقيق، وهناك أخ من الرضاع لأب، وهناك أخ من الرضاع لأم، والحكم كما هو سار في حق المرأة، فهو سار في حق الرجل، لأن تأثير اللبن مشترك بين الرجل وبين المرأة. من يستثنى من ثبوت أحكام الرضاع من الأقارب قال رحمه الله: [ومحارمه محارمها، ومحارمها محارمه، دون أبويه وأصولهما، وفروعهما] : (ومحارمه محارمها) يعني: محارم المرأة، فهذا الرضيع إذا ارتضع من المرأة، صار جميع ما تنجبه المرأة، وجميع المحارم المتعلقين بالمرأة في الأصل، يعتبرون قرابة له كالنسب. مثلا: إذا كان لها بنات فهن أخوات للمرتضع، وإذا كان لها ذكور فهم إخوة له. والعكس؛ لو كان الرضيع أنثى، فإنه في هذه الحالة يعتبر الذكور إخوة ويكونون محارم لها، وكذلك أيضا بالنسبة للإناث في حق الذكور، فالحكم جار في الرضاع كما هو جار في النسب، وبنى العلماء ذلك على قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) . (ومحارمها محارمه): أي: أن المرأة أصولها أصول لهذا الرضيع، لأن أصول الأمهات أصول للفروع، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبيناها في موانع النكاح، وبينا أن الأصول إذا تعلق بها محارم، مثلما ذكرنا وقلنا: إن الرجل تحرم عليه أصول والديه مباشرة، وعمة أبيه وعمة أمه، فعمة الأب عمة لأولاده، وعمة الأم عمة لأولادها، وخالة الأب خالة لأولاده، وخالة الأم خالة لأولادها. فلا يختص الحكم بنفس الأم، ولا يختص بنفس الأب، فالأصول يجري عليها التحريم كما يجري على الفروع، والفروع يجري عليها التحريم كما يجري على أصولها، ومثل ما ذكرنا في النسب نذكر أيضا هنا في الرضاع. لماذا؟ لأنه لما ارتضع صار فرعا لهذه المرأة، وسرت عليه أحكامها، وكذلك الأب -لو كان الذي ارتضع ذكرا- جميع محارمه يعتبرون محارم لابنه من الرضاع كما أنهم محارم لابنه من النسب، فالأب بناته محارم، وأخواته محارم، لهذا الرضيع من حيث الأصل. لكن هذه القاعدة -كما مر في الأصول- قد يستثنى منها، مثلا: الربيبة محرم للأب، لكنها ليست محرما للابن، وكذلك هي في الرضاع. وبنت أخت الشخص أو بنت أخيه محرم له، وليست محرما لابنه، وبناء على ذلك -من حيث الأصل- فإنه يحكم بأن الرضاع يأخذ حكم النسب، وقصد المصنف من هذا أن يبين أن التحريم في الرضاع يجري فيه ما يجري من التحريم في النسب. قوله: (دون أبويه) : يعني بالنسبة لهذا الرضيع، فأبواه أجنبيان عن مرضعة ولدهما، وكذا أصول المرضع وزوجها وفروعهما، ولذلك الرضاع يختص بالرضيع نفسه، فإخوانه، وأخواته، وأبوه، وأمه -أصوله-؛ هؤلاء كلهم لا يجري عليهم الحكم، أما فروعه فإنهم يأخذون حكم أصلهم نسبا ورضاعا، لأنه اغتذى بهذا اللبن، ويسري الحكم إلى فرعه كما سرى إليه هو، لكن بالنسبة لأصليه: الأب، والأم، فإنه لا يجري عليهما الحكم، فهم أجانب كما قدمنا. فلو فرضنا أن محمدا ارتضع من خديجة فهو ولد لها، لكن أباه ليس بمحرم لها، وأبوه من الرضاعة ليس بمحرم لأمه من النسب، فهذا يختص به الرضيع دون أصليه. قوله: (وأصولهما، وفروعهما) أي: أصول وفروع أبويه كالجدة، والجد، فهم أجانب بالنسبة للمرضعة وذويها. فلو أن شخصا جاء يريد أن يرتضع، فهو في الأصل أجنبي، وحينما جاء إلى الرضاع فهو أجنبي، ثم جاء وارتضع، فتعلق التحريم به، وبما يتفرع من هذا الجسم الذي اغتذى باللبن، وأصوله وحواشيه أجانب، فالأصل فيهم أنهم أجانب لا تتعلق بهم محرمية، فلذلك اختص التحريم به وفروعه هو فلا ينظر إلى أصله، ولا إلى فروع أصله وحواشي الأصل، مثل: أخواته، وإخوانه، وأعمامه، وعماته، فيجوز لأخيه من الرضاع أن ينكح أخته من النسب، لأنه ليست هناك محرمية بينه وبينها، وليس هناك أمر يوجب تحريم نكاحها عليه. قال رحمه الله: [فتباح المرضعة لأبي المرتضع] : لو أن أباه من الرضاعة توفي عن هذه الزوجة، وأراد أبوه من النسب أن يتزوجها فإنه يحل له أن يتزوجها، ولا بأس بذلك لانها أجنبية عنه، فالتحريم اختص بالذي ارتضع، أما أبوه فلم يرتضع، والمرأة المرضعة ليس بينها وبين أبي المرتضع أية علاقة محرمية، ويحل أيضا حتى لأخي المرتضع أن يتزوج أمه من الرضاعة، لأنه أجنبي عنها، وهي أجنبية عنه، ومراد المصنف: أن يبين بهذا أن التحريم يختص بالمرتضع دون أصوله وحواشيه. وتستطيع أن تفهم مسائل التحريم إذا نظرت إلى أن الأصل أن هؤلاء أجانب، وأن الرضيع أدخل على نفسه سببا موجبا للتحريم، فإذا أدخل على نفسه سببا موجبا للتحريم بقي ما عداه على الأصل، ثم تنظر إلى ما تفرع من هذا الرجل، لأن الذي تفرع منه آخذ حكم الأصل -حكمه هو- ولذلك اختص التحريم بالمرتضع -ذكرا كان أو أنثى- ولا يسري لأصله، لا للوالد، ولا للوالدة، ولا لأصول الأصول، ولا لفروع الأصول، لأنهم كلهم أجانب لا يتعلق بهم تحريم. قال رحمه الله: [وأخيه من النسب] كذلك أخوه من النسب، لوأراد أن يتزوج أخت المرتضع من الرضاعة حل له ذلك؛ لأنه ليس بينهما علاقة محرمية. مثلا: محمد ارتضع، وأخوه خالد يريد أن يتزوج أخت المرتضع من الرضاعة، قلنا: يحل له ذلك، لأنه أجنبي، وليس بينه وبينها أي موجب للتحريم. قال رحمه الله: [وأمه، وأخته من النسب لأبيه وأخيه] : أي: من الرضاع، فهذا جائز، والعكس كذلك، فأبوه من النسب يحل له أن ينكح أمه من الرضاع، والعكس جائز؛ فلأبيه من الرضاعة أن ينكح أمه من النسب؛ لأنها من حيث الأصل أجنبية، كذلك لو أراد أبوه من الرضاعة أن ينكح أخت المرتضع من النسب، فلا بأس، لأنها أجنبية، وليس هناك موجب للتحريم. حكم نكاح من أرضعتها من تحرم ابنتها قال رحمه الله: [ومن حرمت عليه بنتها، فأرضعت طفلة، حرمتها عليه، وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجة] (ومن حرمت عليه بنتها) كالزوجة، إذا تزوج الإنسان امرأة حرمت عليه ابنتها، فلو أن هذه الزوجة أرضعت طفلة، عقد عليها هذا الرجل. مثلا: محمد عقد على طفلة، وأراد أن ينكحها، وعنده زوجة، فغارت الزوجة من هذه الطفلة، فأرضعتها فصارت ابنته من الرضاع، لأنها بنت لهذه الزوجة، فإذا أرضعتها؛ نقلتها من الحل إلى الحرمة، وأصبحت حراما بالرضاع، وهي ابنته، ولا يحل له أن ينكح ابنته من الرضاع. إذن: معنى ذلك أن الزوجة أفسدت النكاح، وإذا أفسدت النكاح تتحمل الآثار والمسئولية عن هذا الإفساد، وعلى ذلك ينفسخ عقد النكاح بهذه الطفلة. وإذا انفسخ النكاح، يبقى السؤال عن المهر؛ -إذا كان قد عقد عليها وتم العقد صحيحا- فإذا حصل الفسخ استحقت الطفلة نصف المهر، وإذا حصل الفسخ -على اعتبار أن رضاع الكبير يحرم- بعد الدخول، فهذه مسألة ثانية، لكن نحن نتكلم الآن عن مسألة الإرضاع قبل الدخول، فإذا أرضعت الطفلة، في هذه الحالة استحقت الطفلة نصف المهر؛ لأنه فسخ قبل الدخول، فمن الذي يكون مسئولا عن هذا؟ المرضعة التي تسببت. متى؟ حينما تأتي وترضع الطفلة، أو تغري الطفلة، أو ترغم الطفلة بالقوة، هذه كلها أحوال. فالمؤلف ذكر الزوجة لأنها تحرم، فيكون قد ذكر موجب التحريم! لكن لو أن امرأة أخذت هذا الحليب محلوبا في كأس، وأخذته وأرضعته الصبية بالقوة، أو أن شخصا هدد هذه الزوجة، وأكرهها بالقوة حتى أرضعت الطفلة، فهذه مسألة ثانية، لكن نحن نتكلم عما إذا جاء الإخلال من الزوجة -المرضعة- نفسها، فحينئذ تتحمل نصف المهر، لأنه مستحق إذا حصل الفسخ قبل الدخول. (ومن حرمت عليه بنتها، فأرضعت طفلة، حرمتها عليه) (حرمتها عليه) إذا لم يكن عقد عليها، ولا يحل له الزواج بها، وهذا بالإجماع، لأنها ابنته من الرضاع، وبالإجماع لا يجوز أن ينكح ابنته من الرضاع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) . يفسخ عقد النكاح إذا ثبت الرضاع المحرم (وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجة) أي: إن كان قد عقد على طفلة -وهذا يجوز- مثال ذلك: لو قال شخص لآخر: زوجتك ابنتي، وهي طفلة، فقال الآخر: قبلت، وتم ذلك العقد بحضور شاهدين عدلين، كما ذكرنا في شروط صحة النكاح، صح النكاح وثبت، فتصبح زوجة له. حكم المهر في حال فسخ النكاح بإرضاع الزوجة لضرتها قال رحمه الله: [وكل امرأة أفسدت نكاح نفسها برضاع قبل الدخول فلا مهر لها وكذا إن كانت طفلة فدبت فرضعت من نائمة] وهذا طبعا يقع في صور منها: عقد رجل على طفلة، ثم إن الطفلة مشت بنفسها، فجاءت إلى ضرتها وهي نائمة، ورضعت منها خمس رضعات مشبعات، ما الحكم؟ صارت بنتا لها، وهذا التحريم وقع بفعل الرضيع، والرضيعة قاصرة دون البلوغ، أما من حيث الإثم وعدمه فنشترط البلوغ، لكن في الأحكام الوضعية التي هي: الأسباب، الشروط، الموانع، هذه لا يلتفت فيها إلى التكليف، بل يلتفت فيها إلى وجود الشيء بغض النظر عن كون الإنسان بالغا أو غير بالغ. فهذه الطفلة إذا دبت، ورضعت هذا الحليب، فقد فعلت ذلك بنفسها، وأدخلت الفساد على نفسها، لذلك لو أن هذه الطفلة حصل منها أنها جاءت- كما سيأتينا في الجنايات- وبركت على أمها وقتلتها، فهذا القتل خطأ، لكنه يعتبر قتلا، ولا نقول: إنها قاصرة، بل تأخذ حكم قتل الخطأ، لها وعليها. والشاهد: أن هذه الطفلة إذا دبت، وشربت اللبن، ولا يوجد إغراء من الضرة ولا أعانت على ذلك، وإنما كانت نائمة، أو تظنها بنتا لأختها -مثلا- فما شعرت إلا وقد التقمت ثديها، فسكتت عنها، ثم تبين أنها ضرتها الصغيرة، فما الحكم؟ يفسخ النكاح، لكن الفساد لم يأت بفعل الزوجة الكبيرة، وإنما جاء بفعل الصبية، وحينئذ لا تلزم الزوجة بدفع نصف المهر الذي يكون للصبية في حال فسخ عقدها؛ لأن الصبية هي التي تسببت في فسخ النكاح وزواله، وحينئذ لا شيء لها، لأنها أفسدت على نفسها. وهكذا لو أن امرأة قامت بإرضاع زوجته، فإنها في هذه الحالة تصبح أما للزوجة، وأم الزوجة محرمة بالعقد على بنتها. فالمرضعة أفسدت نكاح نفسها وفي هذه الحالة تتحمل مسئولية نفسها، ولا يكون لها استحقاق. قال رحمه الله: [وبعد الدخول مهرها بحاله] بالنسبة للأصل، هذه المسألة فيها خلاف، هل يسقط المهر إذا تسببت المرأة في المحرمية بالرضاع أو لا يسقط؟ بعض العلماء يقولون: إذا تسببت يسقط مهرها، إذا كان قد دخل بها، وهذا يقع في حال اعتبار رضاع الكبير، ويقع أيضا في إرضاع الصغير، لأنها إذا أرضعت الزوجة؛ صارت أما للزوجة من الرضاعة، وأم الزوجة من الرضاعة حرام كما بينا أن المصاهرة يسري فيها ما يسري في النسب، وأن الرضاع يسري التحريم به في النسب، وفي المصاهرة، أي: في المحرمات من النسب، والمحرمات من المصاهرة، فأم الزوجة من الرضاع محرمة، وبنت الزوجة من الرضاع محرمة، وزوجة الابن من الرضاع محرمة، وزوجة الأب من الرضاع محرمة، مثل ما يقع في النسب، وبينا هذا، وبينا أنه محل إجماع بين العلماء رحمهم الله. وفي هذه الحالة إذا وقع التحريم على هذا الوجه، فإنه في هذه الحالة؛ اختلف العلماء؛ إذا كان قد دخل بهذه الزوجة التي تسببت في إفساد عقدها، هل المهر يسقط بناء على أنها أفسدت العقد، وليس لها مهر؟ أم أننا نقول: إن المهر مستحق بالدخول، وقد دخل بها، واستمتع، ثم يفسخ النكاح بينهما، فهذا الإفساد وقع على النكاح، لكنه لا يوجب سقوط المهر؟ وجهان عند العلماء رحمهم الله، عند الإمام أحمد روايتان، والجماهير على أنه لا يسقط، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (ولها المهر بما استحل من فرجها) . وعنه: أنه يسقط؛ لأنها تسببت في ضياع حقها، وحينئذ لا يكون لها استحقاق المطالبة، وهو في الحقيقة من القوة بمكان، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- والإمام ابن القيم هذه الرواية عن الإمام أحمد، ويقويها سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم العلامة الإمام -رحمه الله برحمته الواسعة- ويميل إلى هذا القول ويقويه أن سقوطه أوجه من حيث القوة، ومن حيث المذهب. قال رحمه الله: [وإن أفسده غيرها، فلها على الزوج نصف المسمى قبله] مثل ما ذكرنا، لو أن الغير تسبب في إفساد نكاح هذه الطفلة، كما لو أنه هددها فأرضعتها بالقوة، فقد أفسد عليها النكاح، في هذه الحالة نقول: هذا الذي تسبب، وكانت السببية قوية التأثير، ومفضية إلى الرضاع، مثلما هو مقرر في السببية والمباشرة -ومسألة السببية والمباشرة ستأتينا إن شاء الله في الجنايات، لكن يهمنا هنا في مسألة الرضاع- كما لو أنه هدد الزوجة، وقال لها: أرضعي -بالقوة- هذه الصبية، فأرضعتها، فالمباشر للرضاع هي المرأة -الزوجة- والذي تسبب المهدد -المكره- فهل الضمان في هذه الأحوال يكون على المهدد المكره أو على المكره؟ فيقولون: هل يكون الحكم للسببية، أو يكون للمباشرة، أو يجمع الاثنان؟ في بعض الأحيان يكون الحكم مؤاخذة الطرفين؛ مثل: القتل، فلو أن شخصا وضع السلاح على شخص، وقال: إذا لم تقتل فلانا أقتلك. فقتل؛ يقتل الاثنان، يقتل الذي هدد؛ لأنها سببية قوية مفضية للقتل، ويقتل الذي باشر القتل، لأنه ليس بالمكره، فالمكره شرطه أن يهدد بشيء أعظم، ونفس أخيه كنفسه، فهل ينقذ نفسه من القتل بقتل أخيه؟! لا يكون ذلك إكراها في حقه، لكن لو هدد بالقتل على أنه يطلق، فيجوز له أن يطلق، ويسقط الطلاق؛ لأن الطلاق أخف من القتل، لكن لو خير بين أمرين: بين أن يقتل، وبين أن يقتل أخاه، ولو صبر ربما ما قتل، ولا نفذ التهديد، لكنه أفضى إلى القتل بمباشرة قوية. ولذلك في بعض الأحيان تكون سببية، لكن تكون سببية قوية في التأثير، بحيث يكون الحكم للسببية وتسقط المباشرة. مثلا: لو أنه أخذ حية وأنهشها بشخص؛ فقتلته -أي: الحية فلدغت شخصا فقتلته- من الذي قتل؟ الحية. لكن من الذي جاء برأس الحية؟ ومن الذي قربها؟ فالمباشر: الحية، والسبب: المكلف، فحينئذ تسقط المباشرة، ويكون الحكم بالسببية. وفي بعض الأحيان تقوم المباشرة، وتسقط السببية؛ كما لو حفر رجل بئرا، أو بنى جدارا، فلما بنى الجدار جاء شخص ورماه على شخص فقتله، فهذا الذي دفع الجدار باشر، والذي بنى الجدار تسبب، أي: أن الجدار لو لم يكن موجودا لما حصل القتل. ومسألة تقديم السببية على المباشرة والعكس لها أحوال ثلاثة: تارة نغلب السببية، وتارة نغلب المباشرة، وتارة نعطي الحكم لمجموع الأمرين. فهنا عندنا سببية، ومباشرة؛ وذلك إن هدد أحد امرأة وأجبرها أن ترضع ضرتها الصغيرة فأفسدت عقد زوجها بهذا الرضاع، فهل ننظر للذي باشر الرضاع -الزوجة التي هي المرضعة- أو ننظر للذي تسبب بالإفساد والذي هو المكره؟ في مسألتنا هذه ننظر للذي هدد، والذي ضغط على المرأة، لأن الإكراه يرفع التكليف، وقد بينا هذا في مسائل؛ كطلاق المكره، وغيرها من المسائل التي بينا فيها حكم الإكراه. فهنا تقوى السببية، ومن هنا بين-رحمه الله- أن من تسبب في إفساد النكاح فإنه يضمن، فيكون عليه ضمان نصف المهر قبل الدخول، وذلك بأن يطالب الزوج بدفع نصف المهر، ثم يرجع هذا الزوج على من تسبب في إفساده، وقد بينا هذا في مسائل متقدمة معنا في الضمان. قال رحمه الله: [وجميعه بعده] يعني: بعد الدخول، وهذا على القول بأن المهر لا يسقط، وقد بينا هذا. قال رحمه الله: [ويرجع الزوج به على المكره] يطالب الزوج بجميع الصداق إن كان قد دخل على هذه التي فسد نكاحها، أو يطالب بنصفه إذا لم يدخل، فيدفع هذا، ثم بعد أن يدفع، نقول له: أقم دعوى، وطالب من تسبب بهذا الإفساد، إن كان الإفساد ناشئا منه، وطالبه بالمهر كله إن كان بعد الدخول، وطالبه بنصفه إن كان قبل الدخول.
__________________
|
#635
|
||||
|
||||
![]() حكم من قال لزوجته: (أنت أختي من الرضاع) قال رحمه الله: [ومن قال لزوجته: أنت أختي من الرضاع بطل النكاح] ومن قال لزوجته: أنت أختي من الرضاع، فقد أقر واعترف أنها لا تحل له، فيؤاخذ بإقراره؛ ولذلك بينا أن أقوى الحجج وأقوى الأدلة: الإقرار. وهذا ما يسميه بعض العلماء: بسيد الأدلة. والسيد في لسان العرب: هو المقدم في كل شيء. فقالوا: إذا أقر بأنها أخته؛ فإنه في هذه الحالة يؤاخذ بإقراره، ويلزم به، ويحكم بالمحرمية ظاهرا، أي: أنها حرمت عليه، بناء على القول الذي قاله شهادة من نفسه على نفسه ببطلان النكاح، وليس هناك أصدق من شهادة الإنسان على نفسه، لكن لو كان يريد من قوله هذا أن يسقط حق المرأة، فحينئذ يتهم؛ لأن الشهادة حجة، والإقرار حجة، مالم تدخله التهمة، فإذا دخلته التهمة ضعف الاحتجاج به، كإقرار المجنون فهو متهم، وليس بمقبول، ولا بحجة؛ لأنه قد يكذب على نفسه، إذ ليس عنده عقل، وكذا إقرار السكران لا يعتد به، ولذلك لما جاء ماعز وأقر واعترف، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أشربت خمرا؟!) ؛ لأن السكران إقراره محل تهمة، فهنا التهمة عندنا في العقل والإدراك، وقد تكون التهمة في جلب النفع أو دفع الضرر. فإذا قال لها: أنت أختي من الرضاع، وكان قد استحق عليه مهرها، حينئذ يتخلص من المهر، لأنها لم تعد له بزوجة له، وحينئذ يفسخ نكاحها. قال رحمه الله: [فإن كان قبل الدخول وصدقت فلا مهر] إذا صدقت الزوجة فما عندنا إشكال في فسخ النكاح، ومسألة إسقاط المهر قبل الدخول بلا إشكال؛ لأن العقد إذا كان على أخته من الرضاعة، أو ابنته من الرضاعة، أو عمته من الرضاعة فهو عقد فاسد وباطل، لا يستحق فيه المهر لا نصفا، ولا كلا، فحينئذ في هذه الحالة يسقط، فإذا صدقته قبل الدخول؛ فلا شيء لها. قال رحمه الله: [وإن أكذبته فلها نصفه] وإن أكذبته قبل الدخول، قالت: لست بأخ لي من الرضاع، والدتي ما أرضعتك، أو أنا لم أرتضع من والدتك، وهذا الكلام الذي تقوله ليس بصحيح -فكذبته- ويقع هذا إذا كان الرجل لا يخاف الله- نسأل الله السلامة والعافية- أو رجل كثير التهم والشكوك، يصدق أقل شيء، فجاء شخص يريد الزوجة، فأوعز إلى شخص ضعيف النفس، فما تصدقه المرأة، لكن إذا كان شخصا ثقة، وقال: أنا وهمت. فكأن بعض العلماء كالإمام أبي حنيفة -رحمه الله- وغيره يقبل منه العذر، قال: أنا كنت أظنها فلانة بنت فلان، لكن تبين لي أنها غيرها، وأنا رضعت من فلانة، فحينئذ الغالب صدقه، إذا كان الرجل أسند إلى عذر مقبول، فيرى بعض العلماء كالإمام أبي حنيفة -رحمه الله- وبعض السلف أن عذره مقبول، وأنه يحكم بقوله، فهنا إذا كذبته، تستحق نصف المهر. ما هي القضية؟ القضية أن الزوج لما عقد على هذه الزوجة؛ استحقت نصف المهر لو فارقها قبل الدخول، إذا كان العقد صحيحا وشرعيا، فحينما يدعي الفسخ، كما لو أقر أنها أخته من الرضاع، فيفسخ النكاح بناء على إقراره، ويؤاخذ بهذا الإقرار، لكن بالنسبة للحقوق لا يسقط المهر إذا كذبته، ولا يسقط لها نصف المسمى، لأنها تستحق نصف المسمى، ويحكم بالظاهر بانفساخ العقد، لأنه أقر على نفسه أنها لا تحل له. قال رحمه الله: [ويجب كله بعده] ويجب عليه دفع الكل بعده، لأن إقراره موضع تهمة؛ لأنه يتهم بأنه يريد أن يسقط مهرها، إذ لو فتح هذا الباب؛ فكل رجل استمتع بالمرأة، وانتهى وطره منها، قال: هذه أختي من الرضاعة، أو بنت أختي من الرضاعة- نسأل الله السلامة والعافية- قد يفعل هذا، ويفتح هذا الباب لك شخص حتى يتخلص من حق زوجته في مهرها. قال رحمه الله: [وإن قالت هي ذلك، وأكذبها فهي زوجته حكما] وإن قالت له: أنت أخي من الرضاعة، فإنه في الظاهر يعمل بقولها، وفي باطن الأمر يجوز له أن يستمتع بها، لأنه لم يكن ثم شيء يدل على صدق هذه الدعوى، أي: من حيث الباطن هي زوجته، وتحل له، لكن وجود هذه التهمة في الظاهر حكما، تمنع الحكم ظاهرا باستحلاله لها، لأنها من حقها أن تمتنع منه، إذا أقرت، أو تبين لها أنها أخته من الرضاع، ويقع هذا-نسأل الله السلامة والعافية- في بعض الحوادث -مرت علينا- أن امرأة اكتشفت -ولم تكن تعلم بهذا- أنها مكثت مع أخيها من الرضاع عشرين سنة، وأنجبا أطفالا، وهذا يدل على أن الرضاع ينبغي أن يحتاط فيه، وأن على الأم وعلى أهل الولدين أن يتقوا الله عز وجل، وأن يحفظوا الرضاع، وأن لا يضيعوه، فالأم إذا كان ولدها ارتضع وهو صغير، فتخبره، تقول له: يا بني، أنت ارتضعت من بني فلان، وتحدد له المرأة التي ارتضع منها، وهكذا الأخت إذا علمت أن هناك رضاعة لأخيها؛ بينت له، حتى لا يقع في الحرام، لأن هذه الأمور يعظم ضررها إذا تساهل الناس فيها، وذكر بعض أهل العلم أن شخصا تبين له أن زوجته أخت له من الرضاع ففقد عقله، ما استطاع أن يتحمل الصدمة، ويقع هذا في النساء أيضا، وهذا يدل على أن ضررها عظيم جدا، ولذلك ينبغي أن يحتاط لهذا الأمر. حكم الشك في الرضاع أو كماله قال رحمه الله: [وإذا شك في الرضاع أو كماله، أو شكت المرضعة ولا بينة فلا تحريم] يقول المصنف رحمه الله: (وإذا شك في الرضاع) الشك: استواء الاحتمالين، دون وجود مرجح، فإذا استوى الاحتمالان وجودا وعدما، فإننا نبقى على الأصل، فنحن لا نحكم بالرضاع إلا إذا ثبت وجوده، أما إذا لم يثبت أن هناك رضاعا فإننا لا نحكم بالشكوك، لأن الأصل واليقين أنها أجنبية، وأنها حلال، ولا نعدل عن هذا اليقين إلا بيقين مثله. (أو كماله) مثلا: قالت المرضعة: أرضعته أربع رضعات وأنا متأكدة منها، لكن الخامسة أشك فيها. هل تم العدد أو لا؟ فحينئذ يقال: اليقين أنها أربع رضعات حتى يستيقن أنها خمس. (أو شكت المرضعة ولا بينة) يعني: شكت هل هذا محمد الذي ارتضع منها أو غيره، ولا بينة تبين حقيقة الحال، وسميت البينة بينة؛ لأنها يتبين بها جلي الأمر، ويكشف فيها وجه الحق، ويظهر بها الصواب، فإذا لم تكن هناك بينة، يعني: ما كان هناك شهود يبينون من الذي رضع، فحينئذ لا نحكم بهذه الظنون، ولا نحكم بهذه الاحتمالات، ويبقى الحكم على الأصل. (فلاتحريم) أي: أن عقده عليها صحيح وهي زوجته، حتى يثبت له موجب التحريم بيقين، ولذلك تقدم معنا في القاعدة الشرعية: (اليقين لا يزال بالشك) فإذا شك في الأعداد بنى على الأقل الذي هو اليقين، ودائما إذا شك هل هناك رضاع؟ أو ليس هناك رضاع؟ فمعناه: هل هي حرام، أو حلال؟ فالأصل أنها حلال حتى نستيقن أنها حرام، وإذا شك هل هي أربع رضعات أو خمس؟ فاليقين أنها أربع، والخامسة محل شك، فنبني على الأربع، وقس على هذا مثلها من المسائل. الأسئلة السؤال هل الرضاع مندوب إليه في الشرع، ووردت نصوص في الترغيب فيه، أم هو على الإباحة فقط؟ جريان الأحكام الشرعية الخمسة في الرضاع حسب الأحوال الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: الرضاع الأصل فيه أنه حلال، مباح، ولا بأس به، ولا حرج، لكنه يكون واجبا إذا كان إنقاذا لنفس، كما لو رأت امرأة رضيعا يكاد أن يموت ويهلك، ويحتاج إلى من يرضعه، فقامت بإرضاعه، فهو واجب؛ لأن إحياء النفس واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا توقف على الرضاع فالرضاع واجب. يكون مندوبا إليه إذا كان هذا الرضيع يجد مرضعة غير صالحة، مثلما ذكر أئمة السلف ودواوين العلم كأن تكون المرضعة -نسأل الله العافية- بغيا من بغايا الزنا -أعاذنا الله وإياكم- أو امرأة كافرة، أو مشركة من أهل الكتاب، يهودية، أو نصرانية، أو كانت وثنية، فلا يوجد إلا المسلمة، مثلما يقع الآن لبعض الجاليات في الخارج، وفي هذه الحال تكون هناك مرأة مسلمة فيها لبن، وجميع من حول هذا الرضيع كافرات، أو من المومسات البغايا، فلا شك أن ارتضاع الرضيع من غير المسلمة يضره، لذلك كان عمر رضي الله عنه يشدد في الرضاع، وينهى عن الارتضاع من الفاجرات، والكافرات، كما روى عنه ابن أبي شيبة وغيره ويشدد فيه -رضي الله عنه وأرضاه- ويقول: (إن الرضاع يعدي) ، يعني: يؤثر في الأخلاق، ولأنه إذا ارتضع من الكافرة ربما أثرت عليه في الدين، وربما أثرت عليه في العقيدة، والولد يحن إلى أمه من الرضاع في بعض الأحيان كما يحن إلى أمه من النسب، وقد يحن إلى أمه من الرضاع أكثر من أمه من النسب إذا ماتت، فإنه حنين الرضاع، لذلك تجد الولد الذي ارتضع عنده من الحنان، والعاطفة، أكثر من الولد الذي يرضع من الحليب المجفف المعلب، فإنه غالبا ليس كالذي رضاعته طبيعية فهذا تجد عنده من الحنان، والشفقة، والعاطفة ما ليس عند غيره، الآن بعض من رضع حليبا مجففا ولم يرضع من أمه تقول له: أمك مريضة، يقول: خذوها المستشفى، ما يبالي أبدا، وهذا مشاهد وهو دليل حسي واضح. على كل حال: الرضاع يؤثر. ويكون واجبا إذا كان فيه إنقاذ نفس، ويكون مندوبا شديد الندب إذا خشي على الولد أن يرتضع رضاعا يضره، خاصة إذا كان قريبا أو ذا رحم، مثلا: امرأة ترضع ابن أختها، أو ابن أخيها، جبرا لخاطر أختها، فيكون مندوبا، وفيه فضل وصلة رحم، وفيه إدخال سرور على قريب، وإدخال السرور على القريب منه من الأجر والمثوبة أكثر من غيره. ويكون الرضاع محرما: إذا قصد به تحريم الحلال، مثلما يفعل البعض -نسأل الله السلامة والعافية- ترضع المرأة بنات العم، حتى لا يتزوج أولادها من بنات أخي زوجها، فتريد أن تجذب -مثلا- بناتها أو أبناءها إلى قرابتها هي، ويفعل هذا بعض النساء، وهذا غرض سيء، وقصد سيء لتحريم ما أحل الله، ولأنه يقصد به قطع الصلة، من المحبة التي تكون بالزواج والنكاح، فإذا قصد به محرم فهو محرم للقصد، وإذا قصد به القيام بواجب كإحياء نفس فهو واجب، وإذا قصد به مندوب فهو مندوب. فعلى كل حال: يختلف الحكم باختلاف الحال، لكن الأصل العام أنه مباح، والأصل العام أن الوالدة المرضعة لها أجر ومثوبة، ولذلك يكون في مقام المندوبات؛ لأن فيه مشقة وعناء، ولذلك أحل الله للمرأة المرضعة أن تفطر؛ لأنها من الذين يطيقون الصيام ويجدون فيه المشقة والكلفة والعناء، ووجود العناء قدره الشرع في هذه المرضعة، وما كان فيه عناء، ففيه أجر، وفيه مثوبة، خاصة إذا كان فيه إصلاح للنفس، وإنقاذ لها. وذكر بعض العلماء أن المرأة إذا كانت حمقاء، أو عصبية، أو هوجاء معروفة الهوج، فلا ينصح باسترضاعها؛ لأن الرضاع يؤثر في الطباع، وهناك حكمة يقولونها: (الرضاع يؤثر في الطباع) حتى قال بعضهم: الرضاع أشد من الطباع، يعني: أن توارث الأخلاق يأتي من الرضاع أكثر مما يأتي من النسب؛ لذلك إذا خافت المرأة المرضعة أن يرتضع الطفل من امرأة عصبية، أو فيها مرض، أو فيها بلاء، وأرادت جذبه إليها، فقد أحسنت، وأجرها أعظم، فيختلف الحكم بحسب اختلاف الأحوال، والله تعالى أعلم. الفوارق بين الرضاع والنسب السؤال ما هي الفوارق أو المسائل المستثناة، التي بين الرضاع والنسب كانعدام الإرث في الرضاع مثلا؟ الجواب الفروق تحتاج إلى ضوابط، فالنسب شيء والرضاع شيء آخر، فالذي يثبته الرضاع هو من جهة المحرمية، والحرمة، وما ذكرناه من آثاره، ولا يثبت إرثا، وإنما النسب هو الذي يثبت إرثا. والرضاع لا يثبت عقلا، يعني: لو قتل الشخص خطأ فتعقل عنه عاقلته -عصبته- وهم أقاربه الذكور من النسب؛ فأخوه يعقل عنه، وعمه، وابن عمه، وأبوه، وجده، ولكن الابن من الرضاع، والأخ من الرضاع، والعم من الرضاع، لا يشارك في العقل -وهو الدية-. كذلك أيضا بالنسبة للنفقات: النسب يوجب ثبوت النفقة: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] . فإذا افتقر الابن بعد بلوغه، ورشده، ولم يستطع، ولم يجد كسبا، لزم الأب أن ينفق عليه، وأن يعوله، وأن يقوم عليه، لكن لو أن ابنا من الرضاعة افتقر، فلا يلزم أن الرضاع بما يلزم به الأب من الإنفاق عليه. ومن الفروق: أنه لا يجوز إعطاء الصدقة للابن من النسب، وهل الابن من الرضاعة يحرم أن يعطيه أو لا يحرم؟ قال بعض العلماء: لا يحرم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني) . وقالوا -بناء على ذلك-: يجوز له أن يعطيه؛ لأنه ليس بضعة منه. وقال بعض العلماء: إنه بارتضاعه اللبن يكون في حكم البضعة من الشخص، وقد بين صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أن الرضاعة تنشز العظم، وتنبت اللحم) . فلا يعطى، وهذا نص عليه غير واحد من العلماء، فحينئذ يستوي الرضاع مع النسب أو لا يستوي على الخلاف المعروف في مسألة النسب. كذلك أيضا في مسألة الإرث: النسب يوجب ثبوت الميراث، بينما الرضاع لا يوجب الإرث. مسألة الصلة: الأم من النسب، والأخ من النسب، والعم من النسب، والخال من النسب، له حق من الصلة، ولكن الرضاع لا يكون له من الصلة ما يكون للنسب، فليس من ذوي الأرحام الذين أمر بصلتهم أمرا لازما، ولذلك فرق بين ما يكون من الرضاعة وما يكون من النسب. والفوارق بين الرضاع والنسب ذكرنا أكثرها، والرضاع -في الأصل- أكثر ما يجري عليه من أحكام؛ يجري في مسألة المحرمية، وثبوت الآثار المتعلقة بالنكاح، والخلوة، والنظر، والسفر، وغير ذلك. حكم الصلاة بعد الوتر إذا كانت تطوعا أو ذات سبب السؤال أشكلت علي مسألة أنني صليت الوتر، ثم أتيت المسجد، فصليت تحية المسجد، ففقدت فضيلة الوتر؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا) . فكيف أدرك هذه الفضيلة؟ الجواب هناك فرق بين أن تقول: فقدت فضيلة الوتر، وبين أن تقول: فقدت فضيلة تأخير الوتر، ففضيلة الوتر ما تفوت، والوتر لك أجره، فالله تعالى يقول: {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} [آل عمران:195] . فأجرك ثابت، ووترك ثابت، وأبشر بخير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعدما أوتر، كما في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أنه صلى ركعتين بعدما أوتر. وبعض أهل العلم قالوا: فعل ذلك لبيان الجواز، وأنه يجوز أن تصلي الشفع بعد الوتر، وقوله: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا) هذا لمن يقوم آخر الليل، فإذا قمت في آخر الليل وأردت أن تصلي؛ فصل ما شاء الله بعد أن تنقض أول الوتر الذي أوترته، ثم تصلي ما شاء الله، ثم توتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا وتران في ليلة) . فلما قال: (لا وتران) دل على أن الوتر ينقض الوتر، وأنت إذا أوترت في أول الليل، وتريد فضيلة آخر الليل، فقد بنيت على ظن بان خطؤه، كأن كنت تظن أنك ما تستطيع آخر الليل أن تقوم، فإذا قمت نقضت الوتر الأول بركعة، ثم بعد ذلك صل شفعا ثم أوتر، وهو فعل مأثور عن علي رضي الله عنه، وعبد الله بن عمر، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر السنة يدل عليه إذا كان في آخر الليل، أما إذا أوترت من أول الليل، ثم صليت ركعتي الوضوء، أو تحية المسجد، أو أردت أن تتنفل، أو أردت أن تسأل الله من فضله، أو تستغفر من ذنب، فصليت ركعتين، أو أربعا، أو ستا، أو ثماني، فلا بأس؛ لأن الشفع بعد الوتر جائز، ولكن الأفضل والأكمل إذا قمت في آخر الليل أن تجعل آخر صلاتك بالليل وترا. فلو قمت آخر الليل، وليس عندك نية أن تصلي، ولكن تريد أن تصلي الفجر، فتترك الوتر الأول كما هو، ولك أن تصلي ركعة، ثم تصلي ما شاء الله، ولو ركعتين، ثم توتر، فكله جائز، والأمر على السعة -والحمد لله- وقد دلت السنة على جميع ذلك، دلت على أنه يجوز أن توتر من أول الليل، قالت عائشة رضي الله عنها: (من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أوله، وأوسطه، وآخره) . وفي رواية: (من أوله، وأوسطه، وانتهى وتره إلى السحر) . وهذا يدل على السعة والحمد لله، فليس هناك إلزام بشيء، لكن الأفضل والأكمل أنك إذا قمت آخر الليل أن تنقض وترك، ثم تشفع، ثم بعد ذلك تصلي وترا لكي تصيب دعوة في السحر، وتصيب الدعوة في الوقت الذي تستجاب فيه الدعوة؛ ولأن الصلاة في هذا الوقت أعظم أجرا، وأعظم مثوبة، ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الصلاة قال عليه الصلاة والسلام: (وركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل الآخر) . وقال: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) . هذا يدل على فضل أن تكون صلاتك في هذا الوقت. والسبب الثالث: أنك تمتثل السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتك بالليل وترا) . والله تعالى أعلم. حكم من أكل ولم يعلم بدخول الفجر السؤال شخص استيقظ من الليل، فشرب وأكل، يظن الفجر لم يؤذن، وعندما انتهى سمع إقامة الصلاة، فظهر له أنه أكل بعد الأذان. فماذا عليه؟ الجواب ينبغي أولا على الإنسان أن يحتاط، فإذا أمكنه أن يسأل، أو أمكنه أن يرجع إلى الساعة، أو أن يتحرى؛ لزمه، لأن حق الله عز وجل في هذا الوقت أن تمسك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فينبغي الاحتياط في حق الله، أما أن يقوم ويدعي أنه لا يعلم شيئا، ثم يذهب إلى طعامه وشرابه ويأكل، وبعد أن يأكل يبحث هل دخل الفجر أو لا، لا يجوز، فلا يرضى أحد لحقه أن يضيع بهذا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن الله لا يخادع) يعني: لا يخدع أحد ربه بهذا، ويذهب بعض الذين يترخصون ويقول: لا يلزمه أن يسأل بل يأكل ويشرب، ثم يسأل! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى) . هذا في الحج، فبين أن حق الله عز وجل لا يتساهل فيه، فهذه حرمات ينبغي حفظها، وحدود، ولذلك ذكر الله عز وجل بعد الصوم أنه من حدود الله، وأن علينا أن نتقي الله عز وجل، فذكر حدوده، وأمر بتقواه سبحانه وتعالى، وأن لا نقربها، فالواجب على المسلم أن يتحرى، وأن يصبر، ولعل الله عز وجل أن يبتليه في تلك الليلة فيقوم بعد ما أذن الفجر فلا يعلم مقدار أجره وصبره إلا الله وحده لا شريك له. الصوم وحده من الأعمال التي لا يعلم ثوابها إلا الله وحده لا شريك له: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) . قالوا: جعله مفتوحا؛ لأنه يقوم على الصبر، والله يقول عن الصبر والصابرين: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر:10] . وكان بعض العلماء يقول: إن من أجره: أن لو صام عبد وصدق في صومه، وأتم لله الصوم، فقامت عليه الحقوق كثر الله أجر الصيام، حتى تقضى عنه الحقوق والمظالم؛ لأنه قال: (فإنه لي وأنا أجزي به) . وإذا كان الصوم بعناء، ومشقة، وكدح، وابتلاء، فأجره أعظم، وثوابه عند الله أجل، وأكبر، والصوم بتقوى، وخوف، وورع، بأن يتحرى، ويلزم نفسه الموارد، ولا يضع نفسه في الأمور المشتبهة، فهذا أعظم أجرا عند الله سبحانه وتعالى، وأثقل في ميزان العبد، وأتقى لله عز وجل؛ ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضله سلبا وإيجابا، ففي الإيجاب عظيم أجره حينما قال: (إلا الصوم فإنه لي) . هذا في الثواب، وأما في دفع الأشياء، ودفع الضرر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (الصوم جنة) . والجنة: الوقاية، قالوا: إنه جنة للعبد من النار، فإذا مضى على الصراط؛ فإنه لا يحفظه شيء بعد الإيمان بالله عز وجل مثل إقامته للصوم على أتم وجهه وأكمله، فإذا كانت الجنة مخروقة، أو فيها تضييع، فحينئذ يأتيه من كلاليب النار، وخطفها، وخدشها، على قدر ما ضيع من جنته والعياذ بالله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتولانا برحمته، وأن يجبر كسرنا، وأن يرحم ضعفنا، وأن يتولانا بما تولى به عباده الصالحين، ونسأله بعزته، وجلاله، وعظمته، وكماله، أن يجعلنا وإياكم ممن صام الشهر فاستكمل الأجر، وأدرك ليلة القدر، وأفضل له ربه من الخير، والفضل، والأجر، والإحسان، والبر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________________
|
#636
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النفقات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (477) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - كتاب النفقات [1] من الحقوق المترتبة على عقد الزوجية: إنفاق الزوج على زوجته، وهذه النفقة من النفقات الواجبة التي يراعى فيها ما تحتاجه المرأة من طعام وشراب ولباس وسكن، بحسب العرف السائد دون إفراط ولا تفريط، وكل هذا يكون راجعا إلى قدرة الزوج واستطاعته. وجوب النفقة وقدرها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: الأدلة على وجوب نفقة الزوج على زوجته فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن للزوجة على زوجها أن ينفق عليها، وأن يرزقها ويكسوها بالمعروف. وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح أن هند جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك، أفآخذ من ماله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فقوله: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فيه فوائد: منها: وجوب النفقة على الزوج، ولذلك استحقت المرأة أن تأخذ من ماله قدر ما يجب عليه أن ينفق. ومنها: أنه استدل به بعض العلماء على أن العبرة في النفقة بالزوجة لا بالزوج؛ لأنه قال: (ما يكفيك وولدك) ، فجعل الأمر راجعا إلى الزوجة. وصورة المسألة: لو كانت الزوجة غنية والزوج فقيرا، فهل ينفق عليها نفقة الفقير، أو نفقة الغني؟ إذا قلنا: العبرة بالزوجة فإنه ينفق نفقة الغني، وإن قلنا: العبرة بالزوج فإنه ينفق نفقة الفقير، وستأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى، وأن الصحيح أن الزوج ينفق نفقته هو، إن كان غنيا أنفق نفقة الغنى، وإن كان فقيرا أنفق نفقة الفقر؛ لكن هذا الحديث استدل به من يقول: إذا أمرنا الزوج أن ينفق فالواجب عليه أن ينفق على حسب حال زوجته، لا على حسب حاله هو؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فجعل الأمر راجعا إلى كفايتها هي، وأن العبرة بها لا بالزوج. مسألة الظفر كذلك استدل به بعض العلماء على مسألة لطيفة وهي: مسألة الظفر، ومسألة الظفر: أن يظلم شخص شخصا في حق، كأن يعمل عنده ولا يعطيه راتبه، أو ظلمه فاغتصب منه مائة ألف أو عشرة آلاف ريال، وشاء الله عز وجل أن هذا المظلوم ظفر بمال للرجل الذي ظلمه، فهل له الحق أن يأخذه خفية دون علم الرجل؟ وهل له الحق أن يتسلط على ماله بحكم المظلمة؛ لأن هند رضي الله عنها تسلطت على مال أبي سفيان رضي الله عنه باستحقاق؟ فأخذ منه بعض العلماء أنه إذا ثبت له استحقاق، جاز له أن يأخذ من المال بقدر ما ظلم به. والصحيح أنه لا يجوز له ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) ، فلو أن عاملا ظفر براتبه من مال من يعمل عنده فقد خان الأمانة؛ لأنه مؤتمن على رعاية هذا المال. وأما حديث هند هذا فلا يدل على مسألة الظفر بالعموم، بل نقول: الأصل أن تحفظ الأمانة، وجاء حديث هند في مسألة الأزواج والزوجات؛ لأن الزوجة إذا افتقرت ربما تعرضت للحرام، ولأن الزوجة إذا أخذت لا يتهمها زوجها، وتستطيع أن تقول له: نعم، قد ظلمتني في كذا وكذا، ولكن الرجل إذا كان أجنبيا عن مال الرجل فإنه يتهم، ويترتب على ذلك من الضرر ما لا يخفى. فالذي يظهر -والله أعلم- أن حديث هند لا علاقة له بالمسألة من كل وجه، وهم جعلوه من باب القياس، فقالوا: يقاس على الزوجة، وفي الحقيقة أن تخصيص الزوجة أقوى وأولى؛ ولذلك لا يقوى القول بالعموم. الشاهد: أن هذا الحديث يدل على أنه يجب على الزوج أن ينفق على زوجته، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول) ، والذي يعول إنما هم الأقربون من زوجته وأولاده، وهم أقرب الناس إليه ممن يتولى رعايتهم، فقوله: (كفى بالمرء إثما) يدل على أن الأصل أن يقوم عليهم، وأن الأصل والواجب عليه أن يقوم برعايتهم وسد حاجتهم وخلتهم في أمورهم وشئونهم. بناء على هذا نقول: دل دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن النفقة واجبة، وفي هذا عدل من الله سبحانه وتعالى بين الأزواج والزوجات، فالرجل أعطاه الله حقوقا والمرأة أعطاها حقوقا، فكما أن المرأة مطالبة بأن تؤدي حق الرجل في فراشه وعفته والقيام على بيته وولده وإحسان التبعل له؛ كذلك الزوج مطالب بحقوق واجبة عليه، فعدل ربنا سبحانه وتعالى بين الاثنين، يقص الحق وهو خير الفاصلين، ويحكم بالعدل وهو خير الحاكمين، سبحانه وهو رب العالمين. يلزم الزوج نفقة زوجته قوتا قال رحمه الله: [يلزم الزوج نفقة زوجته قوتا] . وإذا كان يلزمه أن ينفق على زوجته وأنه واجب عليه، فيترتب على هذا أنه إذا لم ينفق طولب بالنفقة؛ لأنها واجبة، ومن قصر في الواجب فعليه أن يؤدي ما فرض الله عليه، ومن هنا يأمره القاضي ويوجب عليه ذلك، ومن حق المرأة أن تشتكي إذا لم تطق صبرا، أو خافت على نفسها وولدها، كما اشتكت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرها عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه حق من حقوقها. قوله: (قوتا) ، النفقة تشمل الطعام والشراب، والكسوة، والسكن، فهذه ثلاثة جوانب في النفقات: الطعام والشراب وما يقتات به، والكسوة، والسكن الذي يؤوى إليه. ويتبع السكن فراش السكن وما يجلس عليه من مفارش بالمعروف، وكذلك اللحاف، فهذه هي أصول النفقات، وأجمع العلماء من حيث الجملة على أنها هي الأصول الواجبة في النفقات، وأن على الزوج أن يطعم زوجته، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأن تطعمها إذا طعمت) ، وفي لفظ: (أن تطعمها مما تطعم، وأن تكسوها مما تكتسي) . كيفية الإطعام وقدره الواجب نص المصنف رحمه الله على تقديم الطعام؛ لأنه قوام الأبدان، وهو صلاحها بإذن الله عز وجل، فإذا لم تأكل المرأة وجاعت فإنها تضطر إلى أمور لا تحمد عقباها، وقد تهلك وتموت، ولعظم أمر الطعام وحاجة البدن إليه أحل الله للمضطر أن يأكل من الميتة، فهو حق عظيم، وواجب على الزوج أن يتفقد زوجته وأولاده في طعامهم، وهذا الطعام لا يكفي فيه أن ينظر إليه نظرة عابرة، وأن يجد من سكوت أولاده وزوجه ما يظن أن هذا يعذره أمام الله عز وجل، فليس كل طعام معتبرا، وليس كل طعام تبرأ به الذمة، وليس كل إطعام يعذر به العبد بين يدي الله عز وجل. فتراعى نوعية الطعام، وكون الطعام مما يرتفق به، وسلامته مما فيه ضرر أو مما يضيع الزوج أو الولد بضعفه وعدم سده للحاجة من حيث الصفة ومن حيث القدر، فهذه أمور معتبرة، أعني صفة الطعام وقدره ونوعيته وجودته ورداءته، كل هذه يسأل عنها أمام الله عز وجل، فحق واجب على الزوج أن يطعم زوجته وأولاده وأن يحسن النظر في ذلك؛ لأنها أمانة ومسئولية، كما أنه يحب لنفسه أن يطعم من الطعام الذي فيه رفق بدنه وقوام ذلك الجسد وسلامته من الآفات، فواجب أن يتفقد ولده في الإطعام وزوجه من هذا الوجه. فقد يأتي الزوج بطعام رخيص ويكون في هذا الطعام عدم الكفاية من ناحية القدر، أو عدم سد الحاجة من ناحية الجودة والرداءة، وقد يأتي بطعام جيد فيه ضرر على الزوجة والولد، جيد في الظاهر فيما يتسامعه الناس ولكنه لا يصلح للزوجة ولا للولد، لكن يصلح له هو. إذا لا بد أن ينظر إلى ما فيه صلاح هذا البدن المسئول أمام الله عز وجل عن إطعامه كما أنه مسئول عن نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم أنزل الولد منزلة الجسد نفسه فقال: (إنما فاطمة بضعة مني) . فالواجب الشرعي في الرعاية للولد أن يتفقدهم بإطعامهم على الوجه الذي يرى فيه قوام أبدانهم وصلاحها وسلامتها من الضرر، وقد توجد بعض الأطعمة يطعمها الأولاد وهي مضرة لهم، وتطعمها الزوجة وهي مضرة للزوجة. وقد يختلف الطعام من شخص إلى آخر، فلو قالت له الزوجة: إن هذا الطعام يضربها، قال لها: هذا الذي لك علي، إن شئت أن تأكلي أو لا تأكلي، فهذا الطعام إن ثبت أنه يضرها فوجوده وعدمه على حد سواء، وقد ظلمها في طعامها، فليست القضية فقط أن يأتي بالطعام ثم يرميه في البيت ثم يقول: قد أتيتها بالطعام، بل عليه أن يتفقد وأن ينظر أحسن الطعام؛ ليعذر أمام الله عز وجل، ويكون قد أدى الواجب الذي فرض الله عز وجل عليه بما تبرأ به ذمته أمام الله سبحانه وتعالى. وقد يطعم أولاده الطعام الضعيف الذي لا يقيم البدن، مثلا: هناك بعض الأرزاق والأقوات فيها غذاء نافع للبدن، ويكون الأبناء في بعض الظروف بحاجة إلى طعام يغذيهم ويعطيهم القوة والجلد على ظروف معينة، فأطعمة الشتاء ليست كأطعمة الصيف، والأطعمة في حال الإجهاد والتعب والنصب -خاصة إذا كان يطلب ذلك منهم- ليست كالأطعمة في حال الرفق والراحة. هذه كلها أمور ينبغي على الزوج أن يتفقدها؛ لأنها أمانة ومسئولية، وليس من المعروف أن يأتي ويطعمهم طعاما لا يرتفق به البدن؛ ولذلك قيد الله عز وجل هذه النفقة بالمعروف، وهذا يدل على أنه ينبغي أن ينظر إلى العرف والحالة، واختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال والظروف، فقد يكون الطعام قاتلا مميتا ويقتل بالتدريج، مثلا: بعض الأطعمة يوجد فيها بعض الأمراض لكنها أرخص ثمنا وأقل كلفة، فيذهب ويقول: أنا علي أن أطعمك، وهذا الطعام إذا أردت أن تأكلي منه فكلي وإلا فلا، فهذا لا يعذره أمام الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا الطعام إذا ترتب عليه الضرر فإنه يتحمل المسئولية أمام الله عز وجل عليه، وهذا موجود. إذا: لا يكفي أن يقوم بالإطعام حتى يتفقد وينظر ما الذي يحتاجه الولد، وينظر إلى البيئة وإلى راحة الابن دون غلو، فالمرأة قد تسرف، حتى أن بعض العلماء يقول عن هند لما أتت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها نشأت في بيت عز، وبيت جاه؛ لأنها كانت من أرفع أسر قريش رضي الله عنها وأرضاها، وكان لها مكانة، وكأنها تريد النفقة التي ألفت حال كونها عند أبيها، فيقولون: فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وقال: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فرد الأمر إلى العرف ولم يجعله مطلقا. فنحن لا نقول: إن الزوج يتكلف ما يكون فيه مبالغة وإسراف، وأيضا لا يضيع هذا الحق الواجب بأن يكتفى بمجرد إطعامهم أي طعام دون أن يسد حاجتهم ودون أن يكون به قوام الأبدان، والولد في صغره يحتاج إلى نوعية من الطعام تقوي بدنه وتساعده، وتكون هناك نوعية أردأ منها، لا تقوم البدن ولا تساعده وإن كانت تسد الخلة، وهناك الوسط بينهما، فعلى الوالد أن ينظر إلى هذا كله، وأن يرفق بولده، وأن ينظر إلى الحاجة التي يحتاجها، والزوجة نفس الشيء إن كانت حاملا فقد تحتاج إلى نوع من الطعام، لأنها في ظروف وأكثر عناء أكثر تعبا ونصبا، فهذه كلها ظروف ينبغي للزوج أن يقدرها بقدرها وأن يحسن القيام فيها بحقوقها. قدر الكسوة الواجبة للمرأة على زوجها قال رحمه الله: [وكسوة] . الكساء هو الغطاء الذي على البدن مما يلبس، سواء كان مفصلا على الجسد كالقميص ونحوه من المفصلات كالبردة، وفي زماننا الثياب والسراويل والفنايل، وإما أن يكون غير مفصل مثل الإزار والرداء، الإزار لأسفل البدن، وهو مثل الإحرام أسفل البدن؛ وأعلاه يقال له: رداء. فالكسوة تكون بما هو مفصل وغير مفصل، وهذا يرجع فيه إلى العرف، إن جرى العرف أن الأولاد يكسون بسكوة مفصلة فعليه أن يفصل لهم ثيابا، وينظر إلى ما يتناسب مع حاله هو، وكذلك أيضا إذا جرى العرف بأنهم يكسون بثياب غير مفصلة فيكفي أن تكون كسوتهم من غير المفصل. [وسكناها] . أي: سكن الزوجة. وكذلك الزوجة إذا كانت الزوجة تلبس اللباس المفصل مثل الفساتين في زماننا ونحوها فيعطيها ذلك، ويكسوها كسوة في الصيف وكسوة الشتاء هذا هو الأصل في الكسوة، أن لها كسوة الصيف وكسوة الشتاء كما سيأتينا. خطر الإسراف والتبذير في اللباس الأمور بين الإفراط والتفريط، وما أضر الضرر الذي نزل على المسلمين بهذا التهور الذي أغرق فيه النساء في الملبوسات، حتى أن الأموال لا ينتفع بها إلا أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت لهم قوة على دين الله وأولياء الله عز وجل، وكل هذا بسبب اللهث وراء الأشياء الزائفة التي ابتلي بها النساء، وأصبحت فتنة عظيمة على النساء وعلى الأمة جمعاء لوجود هذا البلاء، وهو الإغراق في الملبوسات، حتى إنه يبلغ من البطر وكفر النعمة أن المرأة تفصل ثوبها بعشرات الآلاف من الريالات ولا تلبسه إلا مرة واحدة، فإذا ذهبت به إلى مناسبة لا يمكن أن تلبسه مرة ثانية حتى ولو في بيتها، ويقول بعضهن -كما نسمع من شكاوى الرجال الكثيرة: كيف ألبسه؟ وكيف يرى علي الثوب مرتين؟! أي: كيف تحضر مناسبتين بثوب واحد؟! وهذا والله كله من كفر النعمة والإسراف والبذخ الذي بين الله تعالى في كتابه أنه يسلب صاحبه المحبة منه: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف:31] ، وغضب الله عز وجل على من ابتلي بهذا البلاء حتى أنه قرنه بأعدائه: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} [الإسراء:27] ، وانظر تعبير القرآن بـ (إن) ، وجاء بالاسم (المبذرين) ، (كانوا) التي تدل على صفة الدوام (إخوان) فقرنهم بالشياطين نسأل الله السلامة والعافية. ولذلك تجد المرأة التي تبتلى بهذا التبذير في كسوتها كأن الشيطان مستحكم على قلبها، وتجد ولية الله المؤمنة التي تخاف الله وتراقبه وتخشاه تحاسب نفسها على اللباس ولا تبالي بمن ينظر إليها، ومع ذلك تجد من الطمأنينة في القلب وانشراح الصدر، والبركة في النفس والحال ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولكن الأخرى تجدها مفتونة من مناسبة إلى مناسبة ومن بلاء إلى بلاء، وتنفق مالها حسرة عليها يوم القيامة -نسأل الله السلامة والعافية- فهو وبال عليها في الدنيا ووبال عليها في الآخرة. وعلى كل امرأة أن تعلم أنها مهما لبست من جميل الثياب، أو بالغت في مطالبة الزوج وإرهاقه وظلمه بمطالبته بالأشياء التي هي زائدة عن حاجتها وزائدة عن حقها؛ فإن الله سبحانه وتعالى لا يبارك لها فيما لبست ولو كان من مالها؛ لأنه ليست القضية أن تضر بزوجها، فقد تقول قائلة: عندي راتبي أنفق منه، إذا كان عند المرأة راتبها فلتعلم أنها تفسد بنات المسلمين، ولتعلم أنها تفسد زوجات المسلمين؛ لأنها إذا لبست لباسا معينا أغرت غيرها بهذا اللباس، ودعتهن إلى أن يشاكلنها، فتشاكلها أختها والتي قد تكون عند زوج ضعيف المال قليل المادة، وتشاكلها قريبتها أو بنت عمها أو بنت عمتها؛ لأنها في بيئة تتأثر برؤيتها، ثم قد تشاكلها المرأة الغريبة، فكل هذا مما جر على المسلمين من الضرر والبلاء ما لا يخفى. فأولا كثر إنفاق الأموال في غير طائل، ونزعت البركة من الأموال، ولو أن المرأة المؤمنة العاقلة نظرت إلى الخمسمائة ريال، فضلا عن الألف، فضلا عن العشرة آلاف، وفكرت أنها لو سدت بها ثغرة من ثغرات المسلمين سيكون لها من الرحمة والخير والبركة الشيء الكثير، فكم من صدقة حجبت صاحبتها عن النار! فلا شك أن من توفيق الله عز وجل أن يوفق العبد لاغتنام هذه الأموال في مرضاة الله عز وجل، فعلى المرأة أن تعلم علم اليقين أن حقها على الزوج كسوة الصيف وكسوة الشتاء وما زاد على ذلك فليس بواجب. وتبع هذا البلاء إنفاق الأموال، ثم تبعه الإغراق في مشاكلة أعداء المسلمين في لباسهم وهيئتهم حتى حصل بسبب ذلك البلاء من التبرج وخروج النساء ومخاطبتهن للرجال، حتى تخاطب المرأة الرجل بالساعات، وتأخذ معه وتعطي، وهي لو كانت من أتقى التقيات فلتعلم أن الرجل قد يكون به مرض وقد تكون به فتنة، وهذا كله فيه تعد لحدود الله عز وجل شعرت به المرأة أو لم تشعر، ولكن هي الدنيا بما فيها من فتنها وهواها، لا يستطيع الإنسان أن يعرف حقيقة ما فعل من معصية الله وانتهك من حدود الله إلا إذا ولج قبره: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق:22] . فإذا علمت المرأة أنها ستسأل عن كل ريال تنفقه، وعن كل ريال ترهق به زوجها وترهق به والديها، وأن الله سائلها عن ذلك كله؛ حاسبت نفسها قبل أن يحاسبها الله عز وجل، فهذا بلاء عظيم، ولا يمكن علاج هذا البلاء إلا بالصالحات القانتات، أن يكن قدوة قبل غيرهن، وأن يكن قدوة يتأثر بهن الغير؛ لأنهن إما قدوة في الخير أو الشر، فإذا وجد في المجتمع من لا يبالي بالقيل والقال ولا يبالي بالمظاهر، فعندها سيتغير كثير من الأخطاء ويصلح كثير من الفساد، وعلى كل حال، نسأل الله بعزته وجلاله أن يهدينا وأن يعصمنا وأن يزيل هذا البلاء عنا وعن المسلمين أجمعين. فالذي للمرأة على زوجها كسوة الصيف وكسوة الشتاء، وما وراء ذلك ففضل وليس بفرض، فيكسوها كسوة صيف وكسوة شتاء، ولكن لو أن المرأة ابتليت بهذا وهي صالحة ودينة، ونظر الزوج إلى أنه لو كان في كل مناسبة يلبسها فسيقع في الإسراف، وأنه لو ألبسها كسوة واحدة في الصيف أو كسوة في الشتاء أن هذا يحدث لها شيئا من الضرر والحرج، وأحب أن يتسامح فالله يأجره، لكن يتسامح في حدود معقولة، ويكون هناك نوع من الالتزام حتى لا يكون فتنة للمرأة، فإن المرأة قد تفتن عن دينها، وقد تتضرر، وقد يتسلط عليها من لا خير فيهن. وكان بعض الأخيار يقول: إنه تزوج امرأة رزقها الله عز وجل التعقل في نفقتها فكانت لا تلبس إلا ما يسترها في حدود معقولة ولا تبالغ في الزينة فسلمت من المجالس، وسلمت من الحفلات وسلمت من المناسبات؛ لأنها التزمت بالأصل، فما أنفقت ولا أسرفت، ولكن تجد الأخرى التي ابتليت بالإنفاق تحب الغير أن يرى ما عليها، وإذا أحبت المرأة أن يرى ما عليها فتنها الشيطان، ففي المرة الأولى تحب أن تراها امرأة غيرها، ثم مرة ثانية تحب أن يراها الرجل والعياذ بالله، فتفتن في دينها نسأل الله السلامة والعافية، وربما فتنت فتنة يكون لها بها شقاء لا سعادة بعده أبدا. فعلى المرأة أن تتقي الله عز جل، وهذه ويلات يجر بعضها بعضا، والله جل وعلا يقول: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} [البقرة:168] ، فمسألة الإنفاق والكسوة والإغراق فيها على المرأة أن تفكر: أين يذهب هذا المال؟ ولمن يذهب؟ وكيف يفصل هذا الثوب؟ وتفصيل الثوب على أي نمط من أنماط الكفار تمجيد للكافر شعرنا أو لم نشعر، وفيه إغراء للغير أن يفعل هذا الفعل، وكل هذا له أضرار وتبعات، وعلى المسلمة أن تفكر في هذه العواقب، وأن تعلم أن الشر لا يقتصر على هذه التي لبست وإنما يتعدى إلى غيرها، فنسأل الله العظيم أن يصلح الأحوال، وأن يعيذنا ويعيذ المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن. الخلاف في اعتبار النفقة بحال الرجل أو المرأة قال رحمه الله: [بما يصلح لمثلها] . أي: تكون النفقة من القوت والكسوة بما يصلح لمثلها، فيكون الطعام صالحا لمثلها، فلو كانت مريضة فلها طعام المريضة، ولو كانت صحيحة فلها طعام الصحيحة، لكن إذا كانت مريضة سيأتي أن الدواء لا يجب على الزوج؛ وسنبين -إن شاء الله- هذه المسألة. على كل حال: النفقة بالطعام والكسوة ينظر فيها إلى ما يصلح لمثل المرأة، واختلف العلماء رحمهم الله: هل العبرة -كما ذكرنا- بحال الرجل أو بحال المرأة أو بحالهما معا؟ ثلاثة أقوال لأهل العلم رحمة الله عليهم: من أهل العلم من قال: العبرة بحال المرأة، سواء كانت غنية أو فقيرة، فالزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته بحسبها، إن كانت زوجته فقيرة، فحينئذ ينفق عليها نفقة الفقيرة ولو كان غنيا، ولو كانت زوجته غنية فإنه ينفق عليها نفقة الغنى ولو كان فقيرا، وهذا القول هو مذهب أبي حنيفة ومالك رحمة الله على الجميع، واستدلوا بحديث هند الذي تقدم معنا: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، وكذلك بقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233] . والقول الثاني يقول: العبرة بحال الرجل غنى وفقرا؛ فإن كان فقيرا أنفق نفقة الفقراء وإن كان غنيا أنفق نفقة الأغنياء ولو كانت زوجته فقيرة، فالعبرة بحاله هو، ينفق على حسب حاله، وهذا القول هو مذهب الشافعية رحمة الله عليهم، واستدلوا بقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} [الطلاق:7] . ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر الزوج أن ينفق على قدر حاله، فقال: {لينفق ذو سعة من سعته} ، بمعنى: أنه ينفق على قدر ما وسع الله عليه إذا كان غنيا، ثم قال في ضده: {ومن قدر عليه} وهو الفقير؛ لأن التقدير في لغة العرب: التضييق، ومنه قوله تعالى: {وقدر في السرد} [سبأ:11] يعني: ضيق حلق الدروع حتى لا يؤثر السلاح، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام (فاقدرا له) فالقدر أصل التضييق، وهنا لما قال: {ومن قدر عليه رزقه} أي: كان فقيرا، {فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق:7] ، فدل على أنه إذا كان ذا سعة وثراء فإنه ينفق من السعة، وإذا كان فقيرا فإنه ينفق على حسب فقره. فهذا نص واضح في الدلالة على أن العبرة بالرجل وليس العبرة بالمرأة. أما القول الثالث فقالوا: ينفق بحال مشترك بينه وبينها، فإن كانا غنيين فلا إشكال، وإن كانا فقيرين فلا إشكال، وإن كان غنيا وهي فقيرة أو العكس، نظر إلى الوسط بينهما، فإن كان غنيا نفقة مثله ثلاثة آلاف وهي فقيرة نفقة مثلها ألف، أعطى ألفين وهي وسط بين الثلاثة وبين الألف، فيعطي النفقة الوسطى بين الغنى وبين الفقر إذا كان أحدهما غنيا والثاني فقيرا، وهو مذهب الحنابلة ودرج عليه أئمة المذهب رحمة الله عليهم؛ قالوا: نجمع بين الدليلين، نجمع بين حديث هند وبين الأدلة التي دلت على أن العبرة بحال الرجل، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أن تطعمها مما تطعم، وأن تكسوها إذا اكتسيت) ، فهذا يدل على أن العبرة بالرجل. فقالوا: نجمع بين ما دل على أن العبرة بحال الرجل وبين الدليل الذي دل على أن العبرة بحال المرأة ونقول ينفق الوسط بينهما. والذي يترجح -والعلم عند الله- القول القائل: إن العبرة بحال الرجل، فالآية نص واضح في أن العبرة بحال الرجل في الغنى والفقر، ولذا قال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} [الطلاق:7] ، فالمكلف بالنفقة هو الرجل، وبينت الآية الكريمة أنه ينفق في حال الغنى وفي حال الفقر بحسبه دون التفات إلى المرأة. أما ما استدل به من حديث هند: فأولا: حديث هند تقدم أن قوله عليه الصلاة والسلام: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فقدر هذا بالمعروف أي: بما تعورف عليه من نفقة زوجك عليك. ثانيا: أن الحديث قالت فيه هند: (إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك ولا يعطيني نفقتي) ، أي: لا يعطيني ما ينبغي أن يعطيه مثله، ولذا قالت: (شحيح مسيك) فرجعت إلى الرجل، فدل على أن المظلمة قائمة على أنه لم ينفق عليها النفقة التي ينبغي أن ينفقها مثله. ودليل القول بأن العبرة بحال المرأة محتمل والاحتمال فيه قوي، والقاعدة: أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، ويشترط في رد الدليل بالاحتمال أن يكون الاحتمال قويا، وهنا سياق الحديث يدل على أنه قصر في نفقتها؛ ولذلك ما قال: خذي على حسب حالك، بل قال: بالمعروف، فردها إلى ما تعورف إليه من حال الرجل، وهي قالت في أصل السؤال ( إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك) أي: إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك ولا يعطيني نفقتي أو لا يعطيني مما ماله: أي لا يعطيني عطية مثله، ولذلك قدمت قولها: شحيح مسيك، أي كان ينبغي أن ينظر إلى غناه فيعطيني نفقة مثله، من الأغنياء. على كل حال: الآية قوية الدلالة في كون الرجل ينفق على حسب حاله، ونص الله فيها بقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} [الطلاق:7] ، وهذا نص قوي على أنه لا يمكن أن يكلف الرجل على حسب المرأة؛ لأننا لو قلنا: إن العبرة بحال المرأة، وكان الرجل فقيرا فقد كلفناه غير ما آتاه الله، وهذا واضح جدا في أن التعارض سيكون قويا جدا ومصادما للآية تماما؛ ومصادمة الآية ليست كمصادمة الحديث؛ لأن دلالة الحديث محتملة. وكان بعض مشايخنا يقول: إن حديث هند لا يصلح للاستدلال من كل وجه؛ لأنه متردد محتمل من حيث الأصل، فهي اشتكت أن أبا سفيان شحيح مسيك، فرد النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرف، ولم يحدث للحديث تمييز واضح، فليس كالآية التي ميزت ووضحت أن الغني ينفق بغناه، وأن الفقير ينفق بفقره، فليس هناك تعارض؛ لأن القاعدة: أنه لا يحكم بتعارض النصين إلا إذا استويا في قوة الدلالة. وأما مذهب الحنابلة الذي يقول: نجمع بين الدليلين، فالقاعدة: أنه لا يحكم بالجمع ولا يصار إلى مذهب الجمع إلا إذا ثبت التعارض، ونحن عندنا دليلان، أحدهما: قوي الدلالة كالشمس في أن العبرة بحال الرجل غنى وفقرا، والآخر محتمل، فيقدم الصريح والقوي؛ لأن القاعدة: أنه إذا أمكن الترجيح يقدم على الجمع، ولا يصار إلى الجمع إلا إذا تعذر الترجيح، فإذا تعذر ترجيح أحدهما لقوة الآخر عليه دلالة فلا يحكم بالتعارض الذي يبنى عليه الجمع، وبناء على ذلك: القول الذي يقول: العبرة بحال الرجل، أقوى القولين دليلا، ثم إننا لو نظرنا إلى الأصول الشرعية لوجدنا أن تكاليف الشريعة إذا كلف بها العبد نظر إلى حاله، فهذا القول أقرب إلى الأصول، وهو أرجح إن شاء الله تعالى.
__________________
|
#637
|
||||
|
||||
![]() اعتبار النفقة الواجبة في حال التنازع قال رحمه الله: [ويعتبر الحاكم ذلك بحالهما عند التنازع] . (يعتبر الحاكم ذلك) أي: تقدير النفقات، وتقدير الكسوة (بحالهما عند التنازع) كما ذكرنا أن الحنابلة قد يجمعون، ويقولون: ينظر إلى حالهما فيخرج الوسط، فإذا تخاصم الزوجان فقالت المرأة: ما أنفق علي إلا نفقة قليلة، وقال الرجل: أنفقت عليها نفقة مثلي، فينظر القاضي الوسط بينهما ويحكم، فلو أنفق عليها ألفا، والوسط ألف وخمسمائة، قال له: أكمل الخمسمائة، ويلزمه بإتمام الخمسمائة التي هي وسط بين النفقتين. (عند التنازع) إذا قلنا: العبرة بحالهما معا -كما هو مذهب الحنابلة- يرد السؤال قد تكون المرأة تطالب بنفقة مثلها، فيقصر الزوج شهورا، ثم تشتكي بعد ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر وقد تغير الحال وتغيرت الأوضاع، فقد تكون الأرزاق في حال الشكوى غالية، وتكون في حال المظلمة كاسدة، فهل ننظر حال شكواها أو حال ظلمها، وهل تقدر النفقة بحال الشكوى أو بحال المظلمة؟ فاختار جمع من العلماء: أن التقدير يكون بحال الشكوى، ويكون هذا نوعا من الإسقاط، فتتحمل المرأة هذا الحال ربحا وخسارة، فإذا كان هناك ربح فلها، أو كانت خسارة فعليها، فالعبرة بالحال عند الشكوى. ومن أهل العلم من نظر إلى أنه ينظر إلى استحقاق النفقة من حيث هي، فلو كانت النفقة مثل أن يعطيها فيما يكلف ثلاثة آلاف ريال، فإن غلت الأشياء حال الشكوى حتى أصبحت سبعة آلاف وهو الضعف، فإننا نطالبه بالضعف؛ لأن العبرة بحال الشكوى لا بحال المال. فاعتبر المصنف رحمه الله بحال الشكوى؛ لدلالة حديث هند: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فلم يردها إلى ما مضى، بل جعل الحكم مستأنفا، قالوا: وهذا يدل على أن العبرة بالحال عند الشكوى. ما يفرض للموسرة تحت الموسر قال رحمه الله: [فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها] . هناك ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يكونا غنيين موسرين، هي من أسرة غنية وهو من أسرة غنية. الصورة الثانية: أن يكونا من أسرتين فقيرتين أو متوسطتي الحال، فحينئذ يتفق حالهما بما دون اليسر ودون الغنى. الصورة الثالثة: أن يختلفا فتكون هي غنية وهو من أسرة فقيرة أو العكس، فإذا اتفقا في الغنى ألزمناه بنفقة الغني، وإذا اتفقا في العسر والضيق والفقر ألزمناه بنفقة الفقير، وإذا اختلفا نظرنا إلى الوسط بين غناها وفقره، وفقرها وغناه، فإذا كان الغنى ثلاثة آلاف والفقر ألفا فالوسط يكون ألفين، فيفرض لها حدود نفقة الألفين. قال رحمه الله: [من أرفع خبز البلد] . إذا نظر إلى الغنى واليسر فإنه يختلف، فالغنى طبقات، فإن كانت من أغنى الغنى نظر إلى أرفعه، وأوسطه وأدناه، كل شيء له قدر: {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] ، فهم يقولون: إذا قدر بغناهما أو بفقرهما نظر إلى الحال؛ لكن المصنف قال: ينظر إلى أرفع الحال في الغنى. وفائدة المسألة: أنه إذا كان خبزها وطعامها بثلاثة آلاف في أرفع الغنى، وأوسط الغنى فلو كان الغنى يبدأ من الألف، وينتهي بثلاثة آلاف يكون أوسطه الألفان، فينظر إلى حالها في الوسط أو في دون الغنى أو أعلاه. الطعام اللازم للزوجة على زوجها قال رحمه الله: [وأدمه] . يعني: ما يؤتدم به مع الخبز، واختلف العلماء رحمهم الله في طعام المرأة: هل الزوج يجب عليه أن يعطي طعاما مقدرا محددا فنقول: عليه نصف صاع أو عليه صاع، أم أن النفقة لا تحدد، ونقول له: أنفق بما يسد جوعها بالمعروف؟ الصحيح الثاني. استدل الذين قالوا: إنه يجب أن تقدر، بأن الله تعالى وصف الإنسان بكونه مطعما بأقل ما في الكفارات وهو ربع صاع أو نصف صاع على خلاف عندهم، فإذا نظر إلى كفارة الظهار فهي ربع صاع، وإذا نظر إلى كفارة الفدية في الحج فهي نصف صاع؛ ولذلك يختلف الضابط باختلاف هذين القدرين؛ فوصفت الشريعة من يعطي هذا القدر بكونه مطعما، قالوا: فيطعمها في كل يوم هذا القدر، فإذا أطعمها كل يوم هذا القدر فقد أطعم. وجمهور العلماء على أنها لا تقدر وأن الأمر يرجع فيه للمعروف، فلا نقول: عليه ربع صاع ولا نصف صاع ولا صاع، وإنما يطعمها بما يتوافق مع عرفها وبيئتها، وهذا الثاني أقوى القولين: أنه لا يقدر بحد معين. قال رحمه الله: [ولحما] . كذلك الإدام واللحم، فمثلا: إذا نظر إلى أجود اللحم -مثلا- يكون لحم الغنم، وأجود الغنم الضأن ثم الماعز، ثم بعد ذلك نفس الضأن على مراتب، فقد يأخذ الغني من جدي الضأن، والغني الأوسط يأخذ من أوسطه وطبقة الغنى المطلقة يأخذون بأعلاه، فيلزم بحاله. أيضا لحم الدجاج، فلحم الدجاج هو من رزق الله عز وجل، لكنه معروف بكثرة الأمراض الموجودة فيه وكثرة الأضرار، وعدم ملائمته لصحة الإنسان في كثير من الأحوال، خاصة إذا كان يعلف بالفضلات أو كان مما لا يعتنى بطعامه، فلا شك أن فيه إضرارا بالولد، خاصة إذا كان في بيئة لا يحسنون إطعامه، وهكذا بقية الدواجن، إذا كان علفها يضر، فهذا لا يصرف نفقة ولا يلتفت إليه؛ لأننا قررنا أنه ينبغي على الزوج في نفقته على زوجته، والوالد في نفقته على ولده أن يتقي الله فيما يطعم. فإذا ثبت أن طعامهم من أجود اللحم أطعمهم من الضأن، وإذا كان من أوسطه كلحم الإبل أطعمهم من لحم الإبل، وإذا كان من أقله وهو لحم الدجاج والداجن كالحمام ونحوها أطعمهم من الأقل، وقد يكون بعض هذه اللحوم أفضل من بعض، فقد تكون بيئة تفضل لحم الإبل ويكون أفضل ما يكون، وقد تكون هناك بيئة تفضل لحم الطيور وتكون أعز، وقد تفضل -مثلا- نوعا من أنواع الطيور، وقد تكون بيئة تفضل الأسماك، فيطعمهم من أجود الأسماك وأوسطها على حسب حالهم، فينظر إلى طعام مثلها من هذا الشيء إن كان في الإدام أو اللحم وما يؤتدم به. فلو أنه أراد أن يطعمها فأطعمها الخبز دون أن يطعمها ما يؤتدم به فإنه قد قصر، مثلا: زوج عنده زوجة وأولاد، يطعمهم أرزا بدون ما يؤتدم به، أو وضع الرز مع إدام بدون لحم، فهذا لا شك أنه يضر بالبدن؛ لأنه يحتاج إلى لحم يكون به قوام البدن وقوة البدن، فجرى العرف عندنا أن يكون الإدام بلحم، لكن لو قال: ما أضع فيه لحما ولست مطالبا بشيء من هذا، نقول في هذه الحالة: إنه أجحف وأنقصهم عما جرى العرف أن مثله يطعم به. على كل حال: إن كان اللحم من بهيمة الأنعام أطعم من بهيمة الأنعام، فإن كان من أجوده في عرفه فالواجب الأجود، وإن كان من أوسطه فالواجب الأوسط، وإن كان من أقله فالواجب الأقل، ولا يحرم الرجل أولاده، ويقول: أنا والله أريد أن آكل من الأشياء العادية وما أريد أن أعود ولدي على الترف، هذا ليس بصحيح ولا بسليم، فمعنى أنك لا تعودهم على الترف أي: لا تبالغ في حقهم الذي لهم، أما أن تعطيهم قدر الكفاية فهذا ليس من الترف، بل هذا قيام بالواجب، وليس للإنسان فيه منة على ولده؛ لأنه واجب عليه في الأصل. فيفرق في هذه القضية، فبعضهم يقول: أنا أريد أن أربيهم على شظف العيش وعلى الخشونة، والمنبغي أن يثق كل إنسان أن التربية ليست تربية الأكل ولا الملبس، التربية تربية الروح، فيغرس في قلبه تقوى الله عز وجل، والزوج والوالد الذي يكون قدوة في قوله وفعله ويغرس في أولاده المعاني الطيبة الكريمة، يكون قد قام بحق ولده على أتم الوجوه وأكملها، أما أن يجعل ذلك عن طريق الطعام والشراب، فهذا قد يكون في بعض الظروف، وبقدر، وفي أحوال خاصة، لكن أن يكون هو الشيء المطرد فلا؛ لأن هذا يجحف كثيرا بالأولاد ويجحف بالزوجة. فالزوجة تتضرر بين أخواتها وقريناتها وأهلها وذويها ومجتمعها، فإنها تتضرر إذا منعت حقها، ويدخل الشيطان في إفساد الزوجة على زوجها، فيجب أن يطعمها الخبز والإدام واللحم بالمعروف، وفي هذه الثلاث مع خبز يؤكل وإدام يؤتدم به ذلك الخبز؛ لأنهم في القديم كانوا يأكلون الخبز والإدام، وكان البر في القديم يعصد أو يصنع على أرغفة، فإذا صنع -عصد- كالعصيدة ونحوها لا بد له من إدام، وهذا الإدام يكون قويا نافعا باللحم، فذكر المصنف هذا، ولا زالت بيئات المسلمين إلى يومنا موجودا فيها هذا الشيء، حتى في زماننا نجد الأرز أشبه بالخبز، ونجد له ما يؤتدم به، ونجد قوة في هذا الذي يؤتدم به إما أن يكون مع الرز أو يكون مع الإدام مثل اللحم، فهذه أشياء ذكرها المصنف رحمه الله وهي موجودة في أعراف المسلمين، وتكون قواما لهم في أقواتهم. قال رحمه الله: [عادة الموسرين بمحلهما] . عادة الموسرين؛ لقوله تعالى: {بالمعروف} [البقرة:236] ، والقاعدة: أن العادة محكمة، والمرجع في هذا إلى بيئتها وفي حق أمثالها من النساء. فلو كان الأغنياء في المدينة التي هو فيها يأكلون اللحم، وفي مدينة أخرى أهلها وذووها يأكلون نوعا هو أجود وأرفع من هذا النوع الموجود في بيئته، فإننا لا نطالبه بما في المدينة الأخرى، إنما نطالبه بما هو موجود في قريته أو مسكنه أو مكان عمله الذي انتقل إليه، فينظر أجود الطعام فيه، إلا إذا كان فيه ضرر أو كان مضرا بصحتها، فهذا شيء آخر. الكسوة اللازمة للزوجة على زوجها قال رحمه الله: [وما يلبس مثلها من حرير وغيره] . بعد ما بين الطعام انتقل إلى الكسوة، فينظر إلى كسوة مثلها في بيئتها والمحل الذي هي فيه، فإذا كانت المرأة الغنية تلبس -مثلا- في حدود (3000) ، والوسط في حدود (2000) ، والفقيرة في حدود (1000) ، فالأعلى (3000) والأدنى (1000) والوسط (2000) ، ففي هذه الحالة إن كان من الأغنياء أنفق كسوة الأغنياء بثلاثة آلاف، وإن كان من الفقراء أنفق كسوة الفقراء بالألف، وإذا كان فقيرا فأنفق بالألف والخمسمائة أو أنفق بالألفين دون أن يكون هناك ضرر، وقصد فيما بينه وبين الله عز وجل إدخال السرور على أهله، وجبر خاطرها، واحتساب الأجر عند الله، فهو داخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) ، فهذا من الخيرية، شريطة أن لا يكون هناك شيء يفسدها أو يضرها في دينها، أو يتسبب في الفتنة لها، مثل الألبسة والأكسية التي فيها محاكاة للكفار أو تعين الكفار على المسلمين أو نحو ذلك، فهذه تتقى، وينبغي أن لا يعينها على ذلك، وأن لا يفتح على نفسه باب الفتنة بكسوتها بهذا النوع من الألبسة. الأثاث اللازم للزوجة على زوجها قال رحمه الله: [وللنوم فراش ولحاف وإزار ومخدة] . هذا بالنسبة لأثاث الزوجة، فهناك طعامها ولباسها وأثاثها، فلها أثاث بالمعروف، وإذا تزوج امرأة فالواجب أن يؤثث بيته بما يتفق مع حاله هو، ويكون هذا الأثاث بما ترتفق به في منامها فقال رحمه الله: [وللنوم فراش] . أي: فراش يكون فراش النوم بحاله هو، غنى وفقرا وما بينهما، فإذا كان غنيا يأتي بفراش الغني، وإذا كان فقيرا يأت بفراش الفقير، ولا بد من وجود الفراش. [ولحاف] أي: لحاف الفراش لا بد منه. [وإزار] أي: وإزار تأتزر به، [ومخدة] : والعرف في ذلك محتكم إليه، وفي القديم كانت هذه الأشياء بالبركة، وكان الناس في عافية من الفتن التي صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كشف الله له عما يكون من الفتن، فأخبر عن عظيم ما يكون في الأمة، فالرجل في القديم لا يجد إلا القليل معه، ومع ذلك تجد المرأة سامعة مطيعة في بيتها تكتفي بالقليل، وهذا القليل خرجت منه من الذرية ومن الأمة من نفع وقاد الأمة علما وعملا، وصلاحا وتقوى، مما يدل على أن المظاهر ليست هي كل شيء، فهذه الأمة قادت العالم من المحيط إلى المحيط، وكانت على أقل ما يكون الحال من اليسر والرضا والقناعة، وما كانت أمورها تسير إلا بالرضا عن الله جل وعلا، وهؤلاء أئمة الإسلام يذكرون ما كان عليه بيوت المسلمين. وأما اليوم فكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: تجده شبعان ريان جالسا على أريكته قل أن يذكر الله جل جلاله، نسأل الله السلامة والعافية، ولربما تجده شبعان ريان جالسا على أريكته يستهزئ بالإسلام وبأهل الإسلام وبأهل الاستقامة، فشاه وجهه وخرس لسانه، لا يحمد النعمة ولا يعرف ما هو فيه من الخير الذي أعطاه الله عز وجل؛ لأن الله نزع البركة منه، وكل هذا بسبب عدم الشكر. وعلى كل حال: فهذه أمور ذكرها العلماء على أساس أقل ما يجزئ، وفي زماننا أثاث البيت يكون بما هو مناسب للعرف، فهناك غرف للنوم تكون للغني وتكون للفقير وتكون للمتوسط، فإن كان حاله حال غنى جعل أثاث بيته أثاث الغني، ويتقي الله عز وجل في زوجته؛ لأنها تزوجت كما زوجت أخواتها وقريباتها، وهذا يضرها إذا كان أثاث بيتها على النقص مع قدرة زوجها على أن ينفق عليها نفقة الأغنياء، وهكذا بالنسبة لما يكون به هذا الأثاث من الفراش. وأما الشيء الزائد عن الأصول مما فيه بذخ وفيه إسراف، مثل السيارات التي تشترى، والألوف التي توضع في المظاهر الشكلية التي لا قيمة لها ولا نفع لها، فهذه ساقطة أي: ليست محسوبة، وليس بملزم بعرف يعارض الشرع، وهذه الأشياء ليس فيها فائدة، فعندما يشتري عربية وفيها ثلاثة أو أربعة صحون توضع فقط عند الباب، ماذا تفيد غير المظهر والشكل؟! فتنفق أربعة آلاف أو خمسة آلاف تغني ما لا يقل عن خمسين أو مائة بيت من ضعفاء المسلمين وفقرائهم، كلها تذهب في هذا الشيء الذي لا معنى فيه، نحن ما نقول بالعرف إلا بأمور: أولا: أن يكون هذا العرف غير معارض للشرع، فلو قال قائل: هذا جرى به العرف، نقول: نعم، لكن شرط الاحتكام إلى العرف في مثل قوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228] ، في الأمر بالنفقة بالمعروف، وأمره عليه الصلاة والسلام بالمعروف شرطه أن لا يتضمن مخالفة شرعية، فلما يشتري شيئا بالمائة والمائتين والثلاثمائة والأربعمائة والخمسمائة على أنه صورة وزينة في البيت لا ينفع ولا يفيد فإنه إسراف، والإسراف مخالف للشرع، فحينئذ لا يعتبر عرفا مؤثرا، ولذلك يقولون: إن العادة لا تكون محتكما إليها إلا إذا وافقت الشرع أو كانت على المباحات، أي: الأشياء المباحة التي لا تضاد الشرع، قالوا: وليس بالمفيد جري العيد لخلف أمر المبدئ المعيد (فليس بالمفيد جري العيد) يعني: جريان العادة (لخلف أمر المبدئ المعيد) يعني: بخلاف الشرع، ومن هنا قالوا: لو جرى العرف بالمخالفة للشرع من إسبال ثوب، أو جرى العرف بزينة للنساء تكون للرجال أو نحو ذلك من المحرمات، لا يكون عرفا مؤثرا، فإذا: الشرط ألا يعارض الشرع. ثانيا: أن يكون هذا العرف مطردا، فلا يكون لبعض الناس دون بعض، فإذا نلزمه بفراش وأثاث البيت على حاله من الغنى والفقر فيما يكون في حدود الشرع، دون أن يكون مرتكبا لمحظور ومنتهكا لحد أو حرمة من حرمات الله عز وجل. قال رحمه الله: [وللجلوس حصير جيد وزلي] . فراش البيت في القديم كان الحصير، والحصير كان من سعف النخل، وأيضا يكون من الجريد، وفي بعض الأحيان تكون الخيوط مع السعف، هذا ما كان في الأعراف في القديم، وكانت هذه الأشياء يصنعها المسلمون وينتفع بها المسلمون ويبيعها المسلمون ويشتريها المسلمون، فأموالهم تؤخذ منهم وتدفع إليهم، وكان أعداء الإسلام يشترون من المسلمين، وما كان المسلمون بحاجة إليهم، ولذلك لما كان المسلمون هم الذين يسدون حاجاتهم كانوا في خير ونعمة، وأموالهم كانت لهم، وقل أن تجد أحدا عاطلا عن العمل، وقل أن تجد أحدا لا يجد كفايته؛ لأن الله وضع لهم البركة، فتجد الخير والبركة، حتى أن الرجل يصنع من سعف النخل فراش بيته، ويصنع سقف بيته من جريد النخل ومن جذوع النخل، ويصنع منه سفرة طعامه، ويصنع منه الكرسي الذي يجلس عليه، ويصنع منه المروحة التي يروح بها، وهذا من البركة التي وضعها الله عز وجل للمسلمين. ولا يظن أحد أننا نتكلم عن خيالات، ونحن نتكلم بهذا لما أصبح البعض يظن أنه منقصة وهو كمال، ويظن أن هذا مذمة وهو شرف وليس بعيب أبدا، هذه الأمة التي كانت في أوج عزها وعظمتها هكذا كانت، كانت بمبادئها، لكن منذ أن لهث المسلمون وراء الأعداء أصابتهم الذلة التي لا يمكن أن ينزعها الله عنهم إلا إذا رجعوا إلى دينهم ورجعوا إلى ما كانوا عليه، فيضع الله لهم البركة في عمرهم كله. فالنفقة والكسوة والحصير والفراش يرجع فيه إلى العرف، فإذا كان العرف سائدا وجاريا بالغنى، أن يفرشها من الفراش الجيد فنقول له: يجب عليه جيد الفراش، وإذا كان هناك ما يسمى بالموكيت أو الفراش المفصل فنقول: أفرشها منه، ولكن إذا كان غنيا فمن الأجود، وإن كان فقيرا فمن الأقل، ويقاس على هذا بقية ما يكون من لوازم البيت وأثاثه. قال رحمه الله: [وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد] . كذلك مثلما تقدم، ذاك في أعلاه وهذا في أدناه، قال تعالى: {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] ، فلا يطالب بأن ينفق نفقة الغني وهو فقير، والمصنف رحمة الله عليه نظر إلى أن المرأة لها حق أن تقدر النفقة بحالها، ونحن بينا أن المرأة لا يلتفت إليها وإنما يلتفت إلى الرجل والعبرة بحال الرجل، وبناء على ذلك: إن كان غنيا أنفق نفقة الأغنياء من مثله وإن كان فقيرا فعكس ذلك. قال رحمه الله: [وأدم يلائمها] . كما تقدم. قال رحمه الله: [وما يلبس مثلها ويجلس عليه] . (ما يجلس عليه) الذي هو الأثاث الذي تقدم في الحصير. قال رحمه الله: [وللمتوسطة مع المتوسط] . ينظر إلى الاثنين، إذا كان متوسطا أو كان غنيا أو فقيرا، ولذلك ذكر الموسرة تحت الموسر، وللفقيرة مع الفقير، وللمتوسطة مع المتوسط، أما إذا كان كما ذكرنا أن العبرة بحال الرجل، فحينئذ ينظر إلى حاله غنى وفقرا ثم إذا كان وسطا فتقدر نفقته بنفقة الوسط. قال رحمه الله: [وللمتوسطة والغنية مع الفقير، وعكسها، ما بين ذلك عرفا] . هنا خالف الحنابلة رحمهم الله ما ذكرناه راجحا من مذهب الشافعية، فقالوا: إنه ينظر للغني مع الفقير، والفقيرة مع الغني إلى الوسط بين الغنى والفقر، وقلنا: الصحيح أن العبرة بحال الرجل لا بحال المرأة، فلا تأثير للمرأة في النفقة. الأسئلة كيفية إنفاق من له زوجتان إحداهما لها أولاد دون الأخرى السؤال إذا كان للزوج أكثر من زوجة، وبعضهن لديها أولاد والأخرى ليس لديها ولد، هل يجب على الزوج أن يساوي في عطيته أو ينظر إلى ذات الولد من زوجاته؟ الجواب هذا السؤال متعلق بحق القسمة بين الزوجات والعدل بين الزوجات، فإذا كانت الزوجة عندها أولاد زاد في نفقتها بنفقة أولادها، مثلا: عنده زوجتان: واحدة من الاثنتين ليس عندها أولاد والثانية عندها ولدان، فرضنا أن رأس كل واحدة في نفقتها -مثلا- في حدود خمسمائة ريال، والأولاد كل واحد منهم يكلف مائتين، فهذه عندها ولدان، معنى ذلك أنها تستحق أربعمائة ريال، لكل واحد مائتان، والأربعمائة مع الخمسمائة التي هي رأس لها تصير تسعمائة ريال، فيعطيها تسعمائة ريال، خمسمائة مستحقة لها وأربعمائة لولديها، والتي لا ولد لها يعطيها فقط خمسمائة نفقة الرأس ولا يلزمه أن يزيد؛ لأنه ليس عندها موجب للزيادة، فالأصل أن ذات الولد تعطى نفقة ولدها؛ لأن هذا ليس لها هي وإنما لولدها، وهذا لا يضر بالعدل والقسم بين الزوجات، والله تعالى أعلم. إنفاق الرجل على أهل زوجته السؤال هل للزوجة أن تطالب بنفقة أهلها وإطعامهم إذا لم يكن هناك من يعول أهلها؟ الجواب هي تطالبه تكرما وتفضلا وإحسانا منه إليهم وصلة للرحم، عل الله أن يخلف عليه ويبارك في ماله، وكم من زوج موفق كان دخوله على أهل زوجته خيرا وبركة، فتجده لا يقصر في الإحسان إلى رحمه، ولا يقصر في النفقة، ولا يقصر في الجاه، وإذا وجد منهم حاجة سدها أو خلة قام بها، ينظر هل يحتاجون إلى جاهه وشرفه، فيقوم بذلك ما يستطيع، فيكون نعم الرحم لرحمه. وهذا من توفيق الله للعبد أن يعيش مرضيا عنه بين والديه، مرضيا عنه بين قرابته، مرضيا عنه بين عشيرته، مرضيا عنه بين رحمه، تسأل أقرب الناس عنه فلا يذكرونه إلا بخير، ويقولون: نعم الرجل، حافظ للرحم وصول لهم. وما استقامت أمور الأمة إلا بهذه المكرمات والفضائل، فتجد الرجل ينظر إلى مقام المحسنين ولا ينظر إلى مقام الإجزاء فقط. نقول: إنه ليس بواجب عليك الإنفاق عليهم، وليس من حقها أن تلزمك بهذا، ولكنها فتحت عليك باب رحمة، إن أردت أن يرحمك الله وإن أردت الخير والبركة فاحتسب، وإنه والله مما يقرح القلوب أن تجد الرجل قوي الهمة ينظر إلى الفقراء يمينا وشمالا، ويلهث في سد حوائجهم ولا ينتبه لأقرب الناس منه، تجده يفيض الله عليه المال فإذا جاء ينظر إلى الغريب ولو كان عنده كفاية يقول: هذا مسكين، وإذا نظر إلى قريبه دقق في كل شيء، فلو وجد عند قريبه أقل المال ظن أن قريبه غني فيصرف عنه كل خير منه، وهذا من الحرمان، نسأل الله العافية. ومن توفيق الله للعبد وتسديده وإلهامه الرشد أن يبدأ بأقرب الناس منه؛ ولذلك يقعد الشيطان للإنسان بالمرصاد، وانظر إلى أي مسألة فيها إحسان إلى أقربائك تجد الشيطان يدخل عليك من المداخل التي لا يعلمها إلا الله، فتارة يقول لك: لا تعطهم، إنك إذا أعطيتهم أفسدتهم، وتارة يقول لك: إذا أعطيتهم تسلطوا عليك ثم غدا يأتونك وهكذا، وتارة يقول لك: إذا أعطيتهم يذهبون ويخبرون الوالد والوالدة، والوالد والوالدة يغضبون عليك، ويصير الشيطان فقيها لا يريد لك غضب الوالدين!! وهو لا يريد الخير للعبد بل يريد أن يسلبه الخير، ولكن الموفق السعيد يقول: أنا أعطي وأما العواقب فعلى الله، أنا أعطي وأرجو من الله رحمته فيجد أن تلك الوساوس تزول، وبمجرد ما يعطي يجد في قرارة قلبه عاجل البركة والخير، وهذا مجرب. فليس هناك أشياء وجدناها أكثر نفعا وأسرع وأحسن عاقبة من صلة الرحم، وهي من أسرع الأشياء بركة على الإنسان، سواء من الإخوان أو الأخوات أو أولاد الأسرة من أولاد الأخوات والأعمام والعمات، كأولاد العم وأولاد العمة وأولاد الخال وأولاد الخالة، فالمسارعة إليهم وقضاء حوائجهم، تجد دونه من الفتن والمحن ما الله به عليم، ولكن ما أن تضع قدمك على أول الطريق إلا نفحتك من رحمات الله ما لم يخطر لك على بال؛ لأنه قال: (فمن وصلها وصلته) ، فتحصل بركة العمر، وبركة الرزق، فينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، ويزاد له في عمره، ومن أراد أن يجرب ذلك فليجرب. فمن نعم الله عز وجل على العبد، أن يحرص على أهل الزوجة، فإذا جاءت الزوجة واشتكت أن أقربائها أصابهم شيء، وتأثرت، فيقول لها: أبشري وأرجو من الله أن يجملني معك، حقك وحق أهلك علي عظيم، والشيطان يقول: لا تقل هذا الكلام؛ لأنك إذا قلت هذا الكلام تحدث مشكلة، ربما تذهب وتقول للوالدين، وإذا قلت هذا الكلام سوف تخربهم عليك، وغدا سيأتونك ويفتحون لك باب عطاء وكذا. وقد كان مسطح يتكلم في عائشة يتهمها بالزنا، وهو قائم بعد الله على أبي بكر في صدقاته ونفقاته. ومنذ أن تكلم أقسم أبو بكر أن لا يعطيه، فينزل القرآن من فوق سبع سماوات في رجل افترى الفرية وقذف عائشة، وليس هناك أعظم بعد الدين من العرض، وهذا الأمر ليس بالسهل في ثاني رجل في هذه الأمة وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال تعالى: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى} [النور:22] ، نهاهم أن يحلفوا امتناعا عن الفضل والإحسان للقريب من فوق سبع سماوات، مع أنهم آذوه أذية عظيمة، وقطع الرحم الذي بينه وبين أبي بكر بقذفه لابنته وفراش النبي صلى الله عليه وسلم. فمن ناحية دينية: كونها فراشا للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ناحية الرحم والقرابة: كونها بنت ابن خالته وقريبه، ومع هذه الإساءة كلها أمر القرآن بالإحسان إليه: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} [النور:22] ، كأنه باب مغفرة، فلا تفوت على نفسك يا أبا بكر. فرجع أبو بكر عن يمينه وكفر عنها ورجع إلى الخير الذي كان، إن لم يكن قد زاده عما كان فيه من خيره، فالواجب على الإنسان أن لا يفوت مثل هذا، ومن المكرمات لأناس أن الله عز وجل فتح عليهم فجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومن الناس من جعله الله عز وجل يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله يقول: (ومن الناس) ، أي: وليس كل الناس: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد} [البقرة:207] . فيجرب الإنسان حينما تأتيه زوجته في ضائقة لأبيها أو أمها، فإذا بلغته الضائقة قامت له الدنيا وقعدت كأنه أبوه وكأنها أمه، وقال لها: أبشري بكل خير، وأرجو من الله أن يجملني معك، ثم قام وسد الخلة حتى ولو يتحمل، وكم في قصص السلف من المواقف الجليلة والحوادث الغريبة في الإحسان للرحم، وما عادت لصاحبها إلا بكل خير في دينه ودنياه وآخرته، بل منهم من تأتيه الإساءة من الرحم فيقابلها بالإحسان ويقف موقف الذليل، وهذا كله إحسان لأخته أو رحمه. أحد الأخيار كان له زوج لأخته، فضرب أخته ذات يوم وطردها من البيت، وكان هو المخطئ -وهذا يحدثني به الرجل- وكان الرجل الذي هو أخ لهذه الزوجة حافظا للقرآن من أهل الفضل في المدينة رحمة الله عليه، وكان من أصدقاء الوالد ومن الناس الذين قل وجودهم في هذا الزمان، وكان من أكرم الناس وأسمحهم نفسا فيما علمت منه، أحسبه ولا أزكيه على الله في بره للناس، حتى أنه كان يفطر في رمضان ولا يخرج من المسجد حتى يملأ سيارته من الفقراء والضعفاء، ولا يمكن أن يفطر في رمضان أو يتغدى أو يتعشى في أيام عادية إلا بضيف، وهذا مما عرف عنه واشتهر. هذا الرجل يحدثني صهره بعد موته -الذي هو الزوج- يقول: أهنتها وضربتها وأخرجتها من البيت -وكان رجلا عصبيا- يقول: ففوجئت وأنا جالس في محلي بعد صلاة الظهر في عز الظهيرة، إذا به قد هجم علي، وأنا أحترمه كثيرا، لكن طاش عقلي من شدة الغضب، قال: فدخل علي وقبل خشمي على عادته وعادة الجماعة -يقولون: هذه كبيرة عندنا- يقول: أنا المخطئ وأنا المسيء، فإذا به يقبل خشمي، ويقول لي: أسألك أن تعفو عن فلانة، يقول: والله ما تمالكت نفسي بالبكاء، شيء لا يمكن أن يتخيل! الرجل ينزل نفسه هذه المنزلة، وهذا الرجل له مكانة، ومن أعيان المدينة الذين لهم قوة ولهم مكانة كبيرة، ومع ذلك يأتي صهره هذا الذي هو بائع في دكان ضعيف الحال، لكنه كان بعيدا عنه: فإذا به يأتي في عز الظهيرة وليس بمجرد ما جاءت أخته تشتكي جاء يقول له: ماذا فعلت بها؟ أو أرسل له رجلا من أجل أن يتفاهم معه، أو اتصل به، بل جاء يغبر قدميه إكراما لأخته، وإكراما لوالديه؛ لأن الوالد إذا مات، فمن بر الوالدين أن تحفظ وترعى الأخت، وترعى فلذة كبده، ترعاها في شئونها وحالها، وتعلم أن هذا يصلح حالها ويصلح به، يقول: والله منذ تلك الحادثة لا أستطيع أن أرفع وجهي في وجهه، ويقول: إذا حضرت معه في مناسبة خجلت خجلا عظيما، قتلني بسر الحياء. قال: ما أظن أن يبدر هذا ذكاء منه أبدا، لكني أعرف أن هذا جاء من طيبته ومن سلامة صدره ومن حرصه على الرحم، فليس هو بمتكلف، فقتلني بهذا الموقف. فأصبحت تستأسد علي في بعض الأحيان حتى لو كانت مخطئة يقول: في القديم ربما كنت أضربها، وضربتها أكثر من مرة وآذيتها، يقول: لكن تلك المرة لما كانت الأمور شديدة ضربتها بقوة فاشتكت، يقول: فمن بعدها ما رفعت يدي عليها، وأصبحت في هذا الموقف، ولا شك أن الإنسان الموفق موفق، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من أهل الخير وأن ييسره لنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
|
#638
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النفقات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (478) صـــــ(1) إلى صــ(14) شرح زاد المستقنع - كتاب النفقات [2] ينبغي للزوج أن يرعى حق زوجته في النفقة فيما تحتاجه، ومن هذا أن يأتيها بما تحتاجه في نظافتها، لأنها من الأمور المهمة للنساء، وأما ما عدا ذلك من دواء لها أو أجرة لطبيب فهذا غير لازم عليه. ما يلزم الزوج وما لا يلزمه من مؤن النظافة والخدمة والدواء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: إلزام الزوج بمئونة نظافة زوجته يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وعليه مئونة نظافة زوجته دون خادمها] أشار المصنف رحمه الله في هذه المسألة إلى أن الزوج ملزم بدفع التكاليف التي تتعلق بمئونة تنظيف الزوجة، وقد نص طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أن الأمور التي تحتاجها المرأة للتنظيف من السدر والأشنان يلزم الزوج أن يهيئ ذلك لها؛ لأن هذا مما يتحقق به المقصود من النكاح. حكم إخدام الزوج لزوجته أما بالنسبة لمن يخدمها، وهي المرأة التي تقوم على خدمتها، فليس بملزم بنفقتها، وإنما يختص الحكم بالمرأة نفسها، وهذا متعلق بالمسألة التي ذكرناها من أن بعض النساء يلزم الزوج بإخدامهن، وذكرنا أن ذلك مبني على العرف، وأنها إذا كانت من بيئة يخدم مثلها فإنه يجب على الزوج أن يخدمها وأن يحضر لها خادمة، فإذا أحضر لها الخادمة فإنه لا تلزمه مئونة تنظيف الخادمة؛ لأن الاستمتاع بالزوجة وليس بالخادمة، ومن هنا تلزمه مئونة الزوجة دون مئونة الخادمة. وعندما قال: (وعليه) دل على أنه أمر لازم وواجب عليه، وفي زماننا ما يكون من الصابون وأدوات التنظيف التي تحتاج إليها المرأة للنظافة إذا اغتسلت، فتحتاج مثلا إلى الليف الذي تتنظف به في جسدها، وتحتاج إلى الصابون، وتحتاج إلى بعض المطهرات في الحدود التي يستطيعها الزوج. وأما إذا أراد الأكمل والأفضل فزادها وطلب لها الأفضل والأكمل في هذه الأشياء، فهذا أجره أعظم عند الله عز وجل؛ لأنه من كمال العشرة، ومن كمال الإحسان، بشرط ألا يصل إلى الإسراف. فإذا: من حيث الأصل: على الزوج تهيئة الأدوات التي تحتاجها المرأة للنظافة، ومن هنا إذا احتاجت ماء لتغتسل به فإن عليه أن يحضر هذا الماء، وكذلك أيضا إذا احتاجت إلى الصابون والمطهرات، وفي زماننا الأشياء المنظفة المعروفة في كل زمان بحسبه، يحضر هذه الأشياء إليها. ولذلك تتضرر المرأة ويضيق عليها الأمر إذا كانت لا تجد هذه الأشياء، فلو عاشت مع زوج لا تجد ما تتنظف به فإن هذا يؤذيها ويضر بها، ولا يحسن منها التبعل لزوجها. ومن هنا قالوا: إن هذا يحقق مقصود الشرع من حصول الألفة والمحبة، والمرأة إذا تزينت لزوجها وتجملت لبعلها في الحدود الشرعية دون إسراف ولا بذخ ولا مشاكلة لأعداء الإسلام، فإن هذا يبعده عن الفتنة، ويعينها على العفة، ويمكنها من أن تحسن لبعلها أكثر. وكان هذا محفوظا حتى في السير وأخبار الصحابيات أنهن يتزين ويتجملن، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (فتمتشط الغائبة وتدهن) وهذا يدل على أن المرأة تتجمل لبعلها وتتزين لبعلها، فيشمل هذا أدوات التنظيف -كما ذكرنا- وأدوات التسريح للشعر، وأدوات الحلاقة التي تحلق بها أو تنتف بها شعرها، مما جرى العرف به في كل عرف بحسبه. في القديم كان الصابون وكانت أمشاط العاج على اختلاف طبقات النساء، وفي زماننا توجد مساحيق طبيعية ليست مشتملة على مواد محرمة، ويمكن للمرأة أن ترتفق بها، فهذا يحبب الزوج لزوجته. حكم معالجة الزوج لزوجته قال رحمه الله: [لا دواء وأجرة طبيب] أي: ليس على الزوج أن يداوي زوجته، وليس على الزوج أن يعالجها إذا مرضت، وهذا محل إجماع واتفاق بين المذاهب الأربعة رحمة الله عليهم وغيرهم، فكلهم نصوا على أن الزوج ليس ملزما بعلاج زوجته، وذلك لأن المرض متعلق ببدنها، وهذا أمر يتعلق بذاتها وليس له صلة بالحياة الزوجية، صحيح أنه لا يمكنه أن يستمتع بها إلا إذا شفيت، هذا شيء لا يعنيه، مثل ما لو استأجر أجيرا لعمل فمرض الأجير، فليس من حق الأجير أن يطالب بعلاجه. وإن كانت في بعض القوانين والأعراف تلزم رب العمل بمداواة الأجير، ولكن هذا ليس له أصل في الشرع، فالأجير بيني وبينه عقد أن يقوم ببناء أو أن يقوم بعمل ويأخذ أجره، أما أن أكلف بعلاجه ودوائه فهذا ليس له أصل شرعي يدل عليه، وهذا هو المعروف عند العلماء. ولذلك لما ذكروا مسألة الزوجة أنه لا يجب تطبيبها قاسوها على مسألة الإجارة، كما نبه على ذلك الإمام ابن قدامة وغيره رحمة الله عليه؛ لأن طب البدن نفسه من مصلحة الزوجة لذاتها، وإن كان لا يستطيع أن يحقق مقصوده من الاستمتاع بها. إذا: إذا أحب أن يتفضل فهذا فضل منه وليس بفرض عليه، فليس بواجب عليه أن يعالج زوجته، ولكن من المعروف والإحسان أن الزوج يقوم على معالجة زوجته، ويسعى في تطبيبها ودوائها، وهذا من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل؛ لأن فيه إحسانا إلى أقرب الناس إليك بعد والديك وهي زوجك وحبك وأهلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) . والعلاج ينقسم إلى: طب دوائي وطب وقائي، فإن خرج عن الطب العلاجي والوقائي إلى أمور بعضها قد يكون معارضا للشريعة، فحينئذ لا، فإذا كانت المرأة محتاجة لعلاج ضروري لإنقاذ نفسها من أمراض كأمراض القلب وأمراض الشرايين -أعاذنا الله وإياكم منها- ونحو ذلك من الأمراض المميتة، فهذه ضرورية، أو كانت حاجية كآلام الضرس ونحوها، فهذه حاجية؛ لأن فيها حرجا، أو كانت وقائية مثل أن تستخدم بعض العقاقير لأمر يغلب على الظن أنها وقوعه، وبعض العقاقير التي يقصد منها التحصين من الأمراض ونحوها. أما إذا خرج عن الدواء والوقاء وأصبح من الفضول، أو أصبح مخالفا لمقصود الشرع مثل: وضع اللولب، فهذا ليس بعلاج ولا دواء، وليس بوقاية من حيث الأصل، وفيه استباحة الفرج مع اشتماله على المحاذير، من استباحة النظر إلى الفرج، والإيلاج في الفرج، ومس العورة وكشفها، وكذلك إرباك العادة، فإنه يربك العادة، مع أنه يخالف مقصود الشرع؛ لأنه يقطع النسل في مدة وجوده، ومقصود الشرع من الزواج التكاثر والتناسل. ولذلك لما ضعف إيمان الناس في هذا الزمان إلا من رحم الله عز وجل، وأصبحت المرأة تشتكي من الحمل؛ أصبح كل شيء ضروريا، وأصبحت تقول: ضرورة. مع أن الله عز وجل أثبت أن الحمل كره وأنه وهن على وهن، وأنه عذاب، ولماذا أعطى الله الأم من الحق ما لم يعطه للأب، وأعطاها من الفضل والخير والأجر، حتى إنها لو ماتت في نفاسها فهي شهيدة؟ هذا كله يدل على أن الشرع له مقصود في هذا. فالمقصود أنه إذا كان علاجها مشتملا على تغيير الخلقة، أو مشتملا على محذور، فهذا لا يعالجه؛ لأنه إذا عالجها على هذا الوجه أعانها على معصية الله عز وجل. فيداويها ويعالجها إذا احتاجت، أما إذا كان العلاج للحمل، فالحمل واجب عليه أن ينفق عليه وأن يقوم عليه؛ لأن الولد ولده، ولذلك قال تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} [الطلاق:6] فبين سبحانه وتعالى أن الحمل مستحق لوالده، ولذلك يلزم بالنفقة عليه، فإذا احتاجت لدواء لهذا الحمل وجب عليه أن ينفق على هذا الجنين؛ لأن حياته ونجاته بإذن الله عز وجل موقوفة على هذا الدواء أو هذا العلاج، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذلك يجب عليه أن ينفق، ونفقة حياة الجنين والمحافظة على حياة الجنين أعظم من نفقة ما يتبع ذلك. ولذلك يجب عليه أن يعالج المرأة إذا كان ذلك متعلقا بحملها، بناء على ما قرره العلماء رحمهم الله من أن المولود له، وأنه يطالب بنفقة الحمل. الأسئلة حكم نفقة الزوج على زوجته إذا أنفق عليها أولادها السؤال هل تبرأ ذمة الزوج من النفقة إذا قام بها الأولاد لأمهم؟ الجواب الأولاد ليسوا مطالبين بالنفقة مادام الزوج موجودا، فالواجب عليه أن ينفق على زوجته وأن يتقي الله عز وجل في امرأته ويعطيها حقها، لكن لو تبرع الأولاد ورضي هو فلا بأس، ولكن الأصل يقتضي أنه هو الذي ينفق، ولا شك أن الأم تتضرر بنفقة ولدها عليها؛ لأن ولدها إذا أنفق عليها اكتسب المنة عليها. فالأصل أن ينفق عليها زوجها، وأن يطالب الزوج بالقيام بحقها، وأن يتقي الله عز وجل، ولو كانت نفقته واجبة على أحد وأسند ذلك الشخص النفقة إلى من هو أصغر منه سنا لتمعر بذلك وتضرر وتألم، فلا شك أن في هذا غضاضة على المرأة وأذية لها أن تأخذ نفقتها من ولدها، ولو أن الولد يتشرف بذلك؛ لكن ليس كل الأولاد يحسن الملاطفة والإحسان لمشاعر والدته. ومن هنا الأصل يقتضي أن الوالد هو الذي ينفق ويقوم بالنفقة، فإذا رضيت الأم وتسامحوا وتشاوروا عن تراض منهم فهذا شيء لا يتكلم فيه، لكن أن يشتمل على الإهانة والضرر لمكانة الأم والإذلال لها بنفقة ولدها عليها فلا؛ لأنه حق واجب على الزوج، ولا يجوز أن تمتهن في حقها، بل واجب عليه أن يؤدي هذا الحق كما أمره الله عز وجل. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (حقها عليك أن تطعمها مما تطعم وأن تكسوها إذا اكتسيت) وهذا يدل على أنه متعلق بالزوج، وأن على الزوج أن يتقي الله عز وجل في نفقة زوجته. والله تعالى أعلم. عبر وعظات من غزوة بدر السؤال في غزوة بدر كثير من المواقف والعبر، هلا حدثتمونا فضيلة الشيخ بشيء من ذلك؟ الجواب غزوة بدر ملحمة من ملاحم الإسلام، ويوم من أيامه الجميلة العظام، أعز الله فيه جنده ونصر عبده وأعلى كلمته، وصدق وعده، سبحانه لا يخلف الميعاد، هذه الغزوة تعتبر من أعظم غزوات الإسلام، ولذلك فتح الله عز وجل بها على المؤمنين فتحا مبينا، وكلما نظر المؤمن في حوادثها وتدبير الله جل وعلا لأحداثها ازداد إيمانا بالله جل جلاله، ويقينا بالله سبحانه وتعالى، وثباتا على الحق واستمساكا بدين الله عز وجل. فهو يوم سماه الله عز وجل يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، مستضعفون مضطهدون محتقرون، في قلة من العدد والعدة، فأخرجهم الله جل وعلا أعزة أقوياء {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام:115] . ففصل الله عز وجل فيها بين الحق والباطل. غزوة بدر تلك الغزوة العظيمة التي تذكر المؤمن الصادق بأنه لابد من الصدق مع الله، وأن هذا الدين لا يمكن أن يستقيم الأمر فيه إلا بالإخلاص التام لله جل وعلا، وأن من كان لله كان الله له، ومن كان مع الله فإن الله لا يخذله، وأنه إذا صدق مع الله، فإن الله يصدقه. هذه الغزوة التي خرج فيها أولئك النفر الذين كتبت لهم السعادة في بطون أمهاتهم، أولئك النفر الذين نادى عليهم منادي الله: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، أولئك النفر الذين صدقوا وثبتوا، قالوا فبروا في قولهم، وصدقوا في مقالهم: (والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا عنك رجل واحد، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة:24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون) . {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب:23] اشتروا الموت لمرضاة الله عز وجل، وباعوا الحياة رخيصة من أجل هذا الدين، لا يريدون بها دنيا ولا رياء ولا نفاقا ولا سمعة، ولكن لله وفي الله وابتغاء ما عند الله جل جلاله. ولذلك فاز البدريون بالمناقب العظيمة، والمنازل الجليلة الكريمة. هناك في ذلك المكان الذي كان اللقاء فيه على غير ميعاد، {ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا} [الأنفال:42] فربك إذا قدر، وربك إذا أمر، وربك إذا دبر الأمر من فوق سبع سماوات كان ما أراد، فأخرج جحافل الكفر وأئمة الكفر ورءوس الشر، الذين كم قالوا وكم فعلوا، وكم عذبوا وكم آذوا وكم طغوا وبغوا، حتى جاء أمر الله جل جلاله. أخرجهم من عزتهم إلى ذلة، ومن كرامتهم إلى مهانة، ومن حياتهم إلى موت وجحيم ودركات لا يعلم عذابها إلا الله جل جلاله؛ لأن الأمر أمره والقدر قدره، والأمر كله له جل جلاله {وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون} [هود:123] الله أكبر! أناس كانوا في عزتهم وقوتهم وبطشهم، يستدرجون هذا الاستدراج! {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} [الدخان:16] ويعلم كل مؤمن أن كل طاغية وكل باغية وكل معتد حبله قصير، وأنه في متاع الغرور {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء:227] . فما خلق الله السماوات والأرض عبثا. بدر ملحمة تحرك القلوب إلى الله جل جلاله، يقف الإنسان متأملا متدبرا، حفاة حملهم ربهم، عراة كساهم ربهم، جياع أطعمهم ربهم، كان غذاؤهم وقوتهم وشوكتهم كلمة التوحيد والإخلاص: لا إله إلا الله، خرجوا من أجلها وقاتلوا من أجلها، فأعزهم الله بها العزة التي لا ذلة بعدها أبدا، وأكرمهم بها الكرامة التي لا مهانة بعدها أبدا. الله أكبر! أبو جهل رأس الكفر والعداء للإسلام، الذي كان يقول ويفعل، وإذا به يقف عليه ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، ويقف هو ذلك الموقف الذليل المهان؛ لأن كل من اعتدى إذا جاءته نقمة الله تأتيه على أسوأ الأحوال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} [هود:102] قالوا: {وكذلك أخذ ربك} [هود:102] بالتشبيه أي: مثل ذلك، وهذه تدل على أنها مثلات لله عز وجل، لا تتخلف ولا تتبدل، ليست في شخص ولا في شخصين ولا ثلاثة {وكذلك أخذ ربك} [هود:102] ما قال: أخذي بل: {أخذ ربك} [هود:102] الذي يربي خلقه بالنعم، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر بالنقم، {إذا أخذ القرى} [هود:102] ما قال: الأشخاص ولا الأفراد، {إذا أخذ القرى وهي ظالمة} [هود:102] جملة حالية، أي: في حال الظلم والبغي والعدوان. في يوم بدر مواقف عظيمة، فالعبد الصالح المؤمن الموقن يعتبر من عزة الإيمان واندحار الشيطان، فالباطل حبله قصير، يملي للعبد ثم يخذله في موقفه، ولذلك قال الشيطان لما رأى ما رأى: {إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله} [الأنفال:48] قال بعض أئمة التفسير ويروى عن بعض أئمة السلف من الصحابة: رأى جبريل يتنزل والملائكة نصرة من الله عز وجل لنبيه وأوليائه، فرجع خاسئا ذليلا، جاء بهم وهم في عدد وعدة وقوة وشوكة من أجل أن يكون فيها مصارعهم وسوء خواتمهم والعياذ بالله، فلما رأى جبريل جاءت ساعة الحق. في غزوة بدر مواقف عظيمة: في ليلة بدر أنزل الله سبحانه وتعالى المطر: {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام} [الأنفال:11] الله أكبر! إذا وقف العبد لله يزلزل بالفتن كان الله معه، وما أن تثبت قدمه حتى تأتيه الرحمات وتتنزل عليه من الله السكينة والثبات، في كل كرب وفي كل شدة، في فرد أو جماعة أو أمة، فإنها إذا ضاقت عليها الأمور وثبتت مع ربها تنزلت عليها السكينة، وجاءها الثبات من الله سبحانه وتعالى وجاءت المعونة وجاءها النصر، فرأيت بشائر الخير وبشائر الرحمة عند الله سبحانه وتعالى الذي لا يخذل أولياءه {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} [الأعراف:196] . لكن لابد من الثمن، والثمن هو الإيمان والعقيدة والتوحيد والإخلاص، ليس النفاق ولا الرياء ولا الكلام المنمق أبدا، بل العمل والتطبيق بقلوب صادقة، ولذلك في مواطن الشدة والبلاء لا ينظر الله سبحانه وتعالى لشيء أحب إليه من القلب. ولذلك {رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم} [الفتح:18] أول شيء النظر {فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} [الفتح:18] * {ومغانم كثيرة يأخذونها} [الفتح:19] وذلك لأنه لما نظر إلى قلوبهم وجد فيها التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى، فيتزلزل الناس ويرعبون ويخافون ولكن هؤلاء يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله، وتجد هذه المواقف كلها تتجدد بهذا الدين، وبهذا الإخلاص. الإيمان الذي كان مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليقين الذي ثبت به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت به المؤمن في كل زمان ومكان، ولكن لابد أن يكون مع الله حتى يكون الله معه. هناك على ذلك المكان الطيب الطاهر، إذا تذكر المؤمن كيف خرجوا رضوان الله عليهم، والله عز وجل يعدهم إحدى الطائفتين، ثم إذا بهم يقفون أمام الموت، ومن هنا يقول العلماء: دائما تأتي المنازل العلا والتشريفات والكرامات والمكرمات من الله عز وجل حينما تقف أمام شيء لا تريده، أنت تريد شيئا معينا من الهوى ومحبة الناس، ولكن هناك ابتلاء وتمحيص من الله، فيأتيك ما تكره، فتقدم لله عز وجل الرضا، وتقدم له التسليم، وتقدم له الإيمان والمحبة التامة الكاملة والرضا بقضائه وقدره، فيمدك الله عز وجل بأمن وثبات وتأييد وقوة لم تخطر لك على بال، وعندها تجد من بشائر النصر والظفر من الله سبحانه وتعالى ما لم يخطر لك على بال. {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} [آل عمران:151] وعد الله سبحانه وتعالى أن كل من كفر وعاداه، أنه سيلقي في قلبه الرعب، وهذا كله لما تخلف الأساس وهو: التوحيد والإخلاص، فالعبد الصالح حينما يتأمل مواقف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الأمة التي اصطفاها الله واجتباها لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم أجمعين، هذه الأمة التي ما كانت تتجمل بقولها ولا بفعلها، ولا كانت تنمق العبارات، ولا كانت تتفاخر بأحسابها ولا بألوانها ولا بأمجادها، كانوا يقفون بلا إله إلا الله، من أجلها ولأجلها يتقدمون ويتأخرون، ويأخذون ويعطون، رضي الله عنهم وأرضاهم. ولذلك أعطاهم الله عز وجل؛ لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، كما شهد من فوق سبع سماوات أنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه. الله أكبر! ذلك اليوم الطيب المبارك الذي يتفكر المؤمن في عظيم ما أعد الله سبحانه وتعالى لأهله، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) انظر إلى التشريف والتكريم من الله سبحانه وتعالى، ما اطلع على الأغنياء، ولا على الأثرياء بل اطلع على
__________________
|
#639
|
||||
|
||||
![]() الطواف ليلة رمضان هل يعتبر عمرة في رمضان السؤال يقول السائل: أحرمت بالعمرة نهار يوم الثلاثين من شعبان، ولكن لم أبدأ الطواف إلا ليلة رمضان، فهل تكون العمرة واقعة في رمضان، أم في شعبان؟ الجواب هذه المسألة لها نظير وهي مسألة عمرة التمتع، حيث يشترط في العمرة لكي تكون عمرة تمتع أن تقع في أشهر الحج، وأشهر الحج تبدأ بليلة العيد؛ لأن ليلة العيد هي بداية شوال، فقال العلماء: لو أن شخصا أحرم في يوم الثلاثين من رمضان، وطاف وسعى، أو سعى في ليلة العيد، هل هو متمتع أو لا؟ هذه مسألة خلافية، والصحيح ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم. من أهل العلم من قال: العبرة بالإحرام، كالظاهرية ومن وافقهم، ومنهم من قال: العبرة بدخول مكة، كـ عطاء وغيره من أئمة السلف، ومنهم من قال: العبرة بابتداء الطواف، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، ومنهم من قال: العبرة بأكثر الطواف، أربعة أشواط فأكثر، كالحنفية، ومنهم من قال: العبرة بالتحلل، كالمالكية، وهذه خمسة أقوال مشهورة عن السلف. فإذا كان هناك تخريج للفتوى في هذه المسألة على أصول العلماء، فالأشبه أنها تقاس على هذه المسألة، وبناء على ذلك إذا ابتدأ الطواف بعد غروب الشمس من آخر يوم من شعبان، أي: ابتدأ الطواف في الليلة الأولى من رمضان فإنه معتمر في رمضان؛ لأن الركن الأعظم الطواف بالبيت والسعي، ومن أجله كانت العمرة؛ لأن العمرة من أجل أن يزور البيت. ومن هنا إذا وقعت زيارته للبيت وابتدأ طوافه بعد مغيب الشمس، فإنها عمرة رمضانية، وإن وقع ابتداؤه بالطواف قبل غروب الشمس فهي شعبانية، ولا تكون آخذة حكم العمرة في رمضان، وهذا على التخريج الذي ذكرناه. والله تعالى أعلم. وصايا لاستغلال العشر الأواخر من رمضان السؤال أقبلت العشر الأواخر، فبماذا يوصى العبد في وقته، وبماذا توصى المرأة في بيتها؟ الجواب جماع الخير كله الوصية بتقوى الله عز وجل {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا * ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا} [الطلاق:4 - 5] وعلى المؤمن إذا دخلت عليه العشر أن يتحرى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، فإن الله جعل الخير كل الخير في اتباعه صلوات الله وسلامه عليه، وأسعد الناس في العشر الأواخر، وأسعد الناس في كل زمان ومكان من رزقه الله حب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بها. فيسأل المؤمن كيف كان هديه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- في هذه العشر؟ وكيف كان حاله عليه الصلاة والسلام حينما عرف حقها وقدرها؟ فقد كان أتقى الأمة وأعرفها بما لهذه العشر من فضيلة ومزية، فأحيا ليلة وشد مئزره وأيقظ أهله، صلوات الله وسلامه عليه، واعتكف في هذه العشر في مسجده صلوات الله وسلامه عليه، فإن تيسر للمؤمن أن يصيب هذه السنة فيعتكف فعليه أن يتحرى الأمور العظيمة في اعتكافه، والتي أساسها إخلاص العمل لله جل وعلا. وأن يعلم أنه ليس له من اعتكافه إلا ما أريد به وجه الله، فإذا خرج من بيته من أجل أن يعتكف هذه العشر فليتأس برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليخرج وليس في قلبه إلا الله، يتمنى أنه يعتكف ولا أحد يراه، ويتمنى أنه معتكف ولا أحد يسمعه أو يحس به من إخلاصه لله سبحانه وتعالى. ثانيا: إذا دخل في اعتكافه فعليه أن يتحرى ما يعينه على طاعة الله عز وجل ومرضاته، فيعلم أنها أيام قليلة، وأن هذه الأيام إن وفق فيها لطاعة الله فإن الله قد أحبه بتهيئة الخير له؛ لأن الله لا يهيئ الخير إلا لأحبابه، وصفوة عباده، جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه. فإذا أحس أن كل ساعة يتنافس فيها مع الصالحين، ويتسابق فيها مع الأخيار والمتقين، شمر عن ساعد الجد في مرضاة الله رب العالمين، فإذا جاء من يضيع عليه وقته في حديث ولهو نظر يمينا فرأى عباد الله الأخيار، ونظر شمالا فرأى الصفوة الأبرار، ما بين قائم وراكع وساجد وتال، هذا يسأل ربه، وهذا يذكر ربه، وهذا يبكي ذنبه، فعندها يحتقر كل شيء يلهيه عن هذا المقصود الأعظم. يتفرغ تفرغا تاما كاملا لذكر الله عز وجل والإخلاص، وأفضل الذكر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى كثرة تلاوة القرآن، فهنيئا ثم هنيئا لمن رزقه الله عز وجل لسانا تاليا لكتاب الله في اعتكافه وفي كل حين، فأسعد الناس من جعل الله القرآن ربيع قلبه ونور صدره وجلاء حزنه وذهاب همه وغمه. كذلك أيضا عليه أن يحرص على الاستفادة من هذه العشر أثناء تلاوة القرآن في صلاح قلبه، ومن أعظم ما يصلح به القلب ويتأثر به القلب كثرة الخشوع، فإن من يكثر من قيام الليل ويتخشع في قيامه، حتى ولو كان في قلبه قسوة فإنه يضغط على هذا القلب، ويلوي بعنقه إلى طاعة الله ومرضاة الله، ويكون شديدا على نفسه، فيفرحه وعد الله عز وجل، ويبكيه وعيده، ويخشع لكلام الله عز وجل، ويرتعد من تخويفه وتهديده، عندها لا شك أنه سيجد بركة القرآن وخيره، فيحاول قدر الاستطاعة أن يكون أكثر الناس انتفاعا بالقرآن، وخشوعا عند سماع القرآن، وأن لا يلتفت إلى النغمات ولا إلى الأصوات، ولا إلى العبارات إلا لمقصود أعظم وهو التفكر والتدبر والتذكر من كتاب الله جل جلاله، {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} [ص:29] . كذلك أيضا عليه أن يحرص في هذه العشر على الأعمال الصالحة التي فيها تفريج كربات للمسلمين، كإفطار الصائمين، وكسوة العارين، وتفريج الكربات عن المكروبين، يتنافس في كل خير وبر يرضي الله عز وجل عنه. ولا مانع أن يستفيد من الخير في صحبة عالم أو أحد من أهل الفضل، فيذكره قوله وعمله وسمته ودله بالله، فهذا خير عظيم. كذلك ينبغي عليه أن يبتعد عن الأمور التي تبعد عن الله عز وجل، من كثرة الكلام في فضول الدنيا، وكثرة القيل والقال والغيبة والنميمة، والضحك واللهو. الذي يدخل إلى المعتكف وهو يضحك مع هذا أو هذا، وينظر إلى المعتكف على أنه ساعات، ويرتب وقته على أنه في ساعة معينة يأتي فيجلس مع هذا ويباسط هذا، وكأن الأمر ساعات يريد أن يقضيها دون تفكر وتدبر أنه معتكف لله، وأن هذا الوقت مستحق لطاعة الله عز وجل؛ يفوته من الخير شيء كثير، فالله الله ولن يكون الإنسان معتكفا ومتحريا للسنة في بلوغ الخير في هذه العشر إلا إذا ضن وبخل بكل دقيقة وثانية، وصار أكره ما عنده أن يأتيه شخص يلهيه عن طاعة الله عز وجل وذكر الله عز وجل. فمن عرف الطاعات ولذة الذكر لله عز وجل ولذة العبادة، لا شك أنه يهون في قلبه كل شيء سوى هذا، ويتذمر إذا جاء أحد يشغله عن هذا، ولكن هذه منح من الله سبحانه وتعالى وهبات من الله عز وجل، ومن بشائر القبول ودلائل القبول للعبد الصالح، أن الله يصرف عنه كل من يشغله عن طاعة الله عز وجل ويهيئه لما هو أسمى وأسمى. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم بمنه وكرمه ذلك الرجل، وجماع الخير كما قلنا: في تقوى الله عز وجل. ومن الأمور التي يسعى إليها العبد في العشر الأواخر: أن يحرص على بر الوالدين وصلة الرحم، والإحسان إلى القرابات، وزيارة الإخوان والأخوات وقضاء حوائجهم، خاصة إذا احتاجوا أمورا في عيدهم وفرحتهم، فيدخل السرور عليهم، ويجبر خواطرهم، خاصة إذا كانوا أيتاما أو أصغر منه سنا، أو أختا تحتاج إلى مواساة، أو قريبا يحتاج إلى قضاء دين وتفريج كربة. على كل حال: أبواب الجنة عظيمة، وطوبى ثم طوبى لمن وفقه الله عز وجل أن يشمر عن ساعد الجد، فينتهل من مناهل الخير في طاعة الله ومرضاته، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا أوفر عباده حظا ونصيبا في كل خير وبر ورحمة. والله تعالى أعلم. حكم الإكثار من الصلاة في نهار رمضان الجواب أما الجواز فبالإجماع أنه يجوز أن تصلي ليلا ونهارا، ولكن الفضل في رمضان أعظم في الليل بالنسبة للقيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا) فجعل القيام لليل. السؤال هل الفضل في رمضان يقتصر على الليالي دون الأيام؟ وهل يجوز لي أن أكثر من العبادة بالصلاة في النهار؟ أما النهار ففيه تفصيل: إذا كان عندك قوة وجلد وكان الليل قصيرا والنهار طويلا، ويمكنك أن تقوم الليل، وتستفضل وقتا للنهار، فلا بأس أن تصلي بالليل والنهار؛ لأن هذا داخل تحت أصل عام وهو الاستكثار من النوافل، لكن إذا كان الليل طويلا والنهار قصيرا، وإذا نمت في النهار استعنت بنوم النهار بعد الله عز وجل على قيام الليل، فلا يشك أن اشتغالك بالنوم أفضل؛ لأنك إذا اشتغلت بصلاة النهار شغلتك عن صلاة الليل وهي أفضل. والنصوص في سنة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن صلاة الليل أفضل من صلاة النهار عموما، لذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصلاة قال (وركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل الآخر) وقال: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) . فهذا يدل دلالة واضحة على أن قيام الليل وصلاة الليل أفضل وأحب إلى الله سبحانه وتعالى. والله تعالى أعلم. حكم الدم الخارج من الحامل السؤال امرأة تقول: أنا امرأة حامل والدم يجري معي بكثرة غير أني أصلي وأصوم، فهل صيامي صحيح؟ أم يجب علي القضاء؟ الجواب هذه المسألة خلافية، وقد بيناها، وبينا أن الصحيح أن المرأة الحامل لا تحيض، وبناء على ذلك يكون الدم دم استحاضة لا يمنع صوما ولا صلاة على أصح أقوال العلماء رحمهم الله، ولذلك قال تعالى: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} [هود:71] وهذا أصل عند أهل العلم في أن الحامل لا تحيض، ولذلك جعل الله عز وجل الحيض مقرونا بالحمل، ولذلك فالأقوى والأرجح من قولي العلماء أن الحامل لا تحيض. وبناء على ذلك فما رأته من الدم فهو دم استحاضة، إلا إذا رأت الدم قبل النفاس بيوم أو يومين أو ثلاثة بالكثير كما هو مذهب الحنابلة فإنه يلحق بدم النفاس؛ لأن النفاس ربما استعجل وانفجر قبل وقته، وما قارب الشيء أخذ حكمه، فقالوا: إذا كان قبل الولادة بيوم أو يومين أو ثلاثة، على اختيار طائفة منهم الإمام ابن قدامة، وطائفة من محرري أئمة الحنابلة رحمة الله عليهم، أنه يلحق بدم النفاس ويأخذ حكمه. والله تعالى أعلم. حكم التمر الزائد عن الحاجة في تفطير الصائم السؤال تعطى لبعض المساجد تمور لتفطير الصائمين، وينتهي شهر رمضان، ويبقى منها شيء، هل يجوز التصدق به على مجاوري المسجد من الحي نظرا لكونها تزيد عن حاجة المسجد، أو تكون وقفا لذلك المسجد؟ الجواب أولا: ينبغي أن يحتاط من يتقبل الصدقات، فلا يأخذ أكثر من حاجته، خاصة في الأوقاف أو الأمور المسبلة على أماكن مخصوصة أو أغراض معينة، فإن هذه الأشياء المسبلة والتي هي أشبه بالحبس على مسجد معين أو مكان معين أو زمان معين ينبغي أن ينصح فيه، وأن ينفذ شرط صاحبها الذي تصدق بها، فإن كانت صدقة لتفطير صائم فهي صدقة لتفطير صائم، وإذا كان المسجد فيه كفاية فإنهم يقولون لمن يحضر: عندنا كفاية، فينصرف إلى مسجد آخر، ولا يجوز أن يأخذوا أكثر من كفايتهم؛ لأن هذا يعطل هذه الصدقة عما هو أولى وأحرى، وقد تكون هناك مساجد هي أحوج. ولذلك ينبغي أن يعلم أنه إذا كانت الصدقات لتفطير الصائم، فينبغي أن لا يأخذ المسجد إلا قدر كفايته، وأن ينقص ويصل الحق إلى كل مستحق خير من أن يزيد؛ لأنه إذا نقص من هذا المسجد فإن الصدقات ستمضي إلى المساجد الأخرى وتسد حاجة الناس فيها، لكن إذا أعطيت الزيادة وأصبحت فضلا فاتت، فلا صاحبها أدرك تفطير الصائم ولا عرف حتى الذي أخذها ماذا يفعل بها فالصائم لم يعد موجودا، وصرفها إلى غير تفطير الصائم هذا خلاف أصل الصدقة وأصل التحبيس من صاحبها، وقد تكون أموال أعطيت في الأصل، أشبه بالوقف على هذا الباب من الخير. فعلى كل حال: إذا كان الشخص الذي أعطى المبلغ وكل أشخاصا ليشتروا التمر والصدقة على أنها لتفطير صائم، فالمال محبس على تفطير الصائم، وبناء على ذلك: لا يصرف في غير تفطير الصائم، وإذا انتهى تفطير الصائم في رمضان يمكن أن يؤخر إلى رمضان آخر، وكان بعض مشايخنا يقول: الأشبه أنه يمكن أن يصرف إلى تفطير الصائم في الإثنين والخميس وقضاء رمضان، ويمكن أن ينزل منزلته. لكن هذا المال إذا قصد به أن يحبس وقال له: خذ عشرة آلاف ريال وأنفقها في تفطير الصائم، فقد حبست لتفطير الصائم فلا تصرف في غيره، أو جاءه مثلا بعشرين أو بثلاثين صندوقا من التمر وقال: هذه تعطى تفطيرا للصائم، إذا قال: هذه تعطى تفطيرا للصائم فقد حبست وأصبحت أشبه بالوقفية على تفطير الصائم، وتصرف في هذا الوجه من الخير، وفي بعض الأحيان تكون من أموال أموات وأوصوا بها، وفي بعض الأحيان تكون من نفس المتبرعين، فهذه أمور كلها توقف وتحبس على الوجه الذي قصده صاحبه أو نص عليه من تصدق بها. أما إذا كان الشخص نفسه اشترى هذا الشيء ونوى في قرارة قلبه أنه لتفطير الصائم، ثم لم يجد صائما يفطره به، فله أن يصرفه في أي وجه من وجوه الخير، لأنه ما تعين وقفا ولا تسبيلا ولا تحبيسا، ففي هذه الحالة هو حر بماله، فإن يسر الله له ووجد صائما يفطره فالحمد لله، وإن لم ييسر له فأنفقه في سبل الخير ووجوه الخير الأخرى فلا بأس ولا حرج. والله تعالى أعلم. حكم المسبوق بركعة في صلاة شفع إذا أوتر إمامه السؤال يقول السائل: أشكلت علي مسألة: كنت أصلي الشفع مع الإمام، وقد فاتتني ركعة من ركعتي الشفع، ولكن الإمام قام ووصل به الوتر، فهل أسلم معه وأكون قد صليت ركعتين؟ الجواب إذا سلمت معه حينئذ تكون الصلاة شفعية، والأشبه أنك تأتي بركعة حتى توتر بها، وكان بعض العلماء رحمهم الله يقول: إنه إذا دخل وراء الإمام على صورة تعينت عليه تلك الصورة؛ لأن الشرط عند المخالفة أن لا تختلف صورة الصلاتين، لأنه إذا صلى وراء الإمام وسلم شفعا والإمام قد صلى ثلاثا اختلت صورة الصلاتين، وحينئذ ألزموه بركعة حتى يستقيم الاقتداء ويصح منه ائتمامه بالإمام. إلا أن القول الذي ذكرناه من أنه يجوز له أن يسلم مع الإمام وتكون له شفعا يقولون: هو مخير بين أن يصليها وترا وبين أن يصليها شفعا، كما أن الإمام لو أراد أن يصلي ركعتين فقام إلى الثالثة، فهو مخير أن يضيف لها ركعة فتصبح شفعية، وبين أن يجلس ثم يسجد سجود السهو للزيادة، لأن صلاة الليل على السعة، والوقت فيها متسع أن يصلي العبد فيها شفعا ووترا، فالمحل قابل للشفع وقابل للوتر. فعلى كل حال: إن سلمت مع الإمام أشكل على تسليمك وجود الدعاء بين الركعتين، ولا يعرف في صلاة شفعية دعاء بين الركعتين؛ لأنك ستدعو دعاء الوتر وتكون صليت ركعتين استبحت الدعاء في وسطها. ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لا يقوم بعد تسليم الإمام وينقض الوتر مباشرة؛ لأنه لو قام في هذه الحالة أحدث دعاء بين الركعتين؛ لأن الركعة التي صلاها مع الإمام هي الأولى ودعا بعد ركوعها، ثم قام لثانية، فهو يدخل وراء الإمام بنية الشفع في شفعية لا يأذن الشرع بها، إذ ليس في الشرع أصل يدل على أنه يجوز للعبد أن يدعو بين الأولى والثانية، إنما يكون الدعاء في الثانية والأخيرة. وبناء على ذلك قالوا: يشدد في هذا؛ لأنه مخالف للأصل الشرعي، ولا تعرف ركعتان يدعى في وسطها. من هذا الوجه لو قام وجاء بركعة، خاصة على مذهب من يقول: إن المسبوق يقضي، فحينئذ يزول الإشكال نهائيا؛ لأنه سيأتي بركعة ينويها الركعة الأولى، وحينئذ تستقيم في الصلاة الثلاثية، كالمغرب إذا جاء في الاثنتين الأخيرتين أضاف لها واحدة، قالوا: وهذا أشبه بالاقتداء وله أصل؛ لأنه في المغرب إذا جاء أضاف ركعة فاستقامت صلاته وترية؛ لأن المغرب وتر الفرائض. وبناء على ذلك يقوون أن يأتي بركعة حتى لا تختل صورة الصلاتين، ولا يستبيح في الركعتين دعاء وسطا بين الأولى والثانية، حيث لا أصل في الشرع يدل على أن الركعتين يدعى في وسطها، وإنما الدعاء المسنون في شرع الله عز وجل في الصلوات إنما يكون في الركعة الواحدة، أو في آخر الركعات إن كان العدد وتريا. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |