المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي - الصفحة 3 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 37 - عددالزوار : 9485 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 37 - عددالزوار : 8852 )           »          أَقِطُ أم سُلَيْم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          حدث في الثامن من ربيع الأول (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          المتحابون في الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          ويؤثرون على أنفسهم... (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 26 - عددالزوار : 9548 )           »          الدين وإصلاح الإدارة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 42 )           »          الحديث عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ليس مرهونا بيوم مولده. (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          الدعاء والذكر عند قراءة القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 481 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 28-09-2025, 03:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الاول
صـــ 201 الى صـــ 210
(21)






(ولنا) قوله - عليه الصلاة والسلام: «من سبح من غير غضب ولا عجب فله من الأجر كذا» وإنما جعله مسبحا إذا لم يقصد به التعجب فثبت له أنه إذا قصد به التعجب كان متعجبا لا مسبحا، وهذا لأن الكلام مبني على غرض المتكلم، فمن رأى رجلا اسمه يحيى وبين يديه كتاب فقال: يا يحيى خذ الكتاب بقوة وأراد به خطابه لم يشكل على أحد أنه متكلم لا قارئ، وإذا قيل للمصلي: بأي موضع مررت فقال: ببئر معطلة وقصر مشيد وأراد الجواب لا يشكل أنه متكلم به، وإذا أنشد شعرا فيه ذكر اسم الله لم يشكل أنه كان منشدا لا ذاكرا حتى تفسد صلاته، فكذلك فيما نحن فيه.
قال: (وإذا قرأ في صلاته في المصحف فسدت صلاته) عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - صلاته تامة، ويكره ذلك، وقال الشافعي - رضي الله عنه - لا يكره لحديث ذكوان مولى عائشة - رضي الله تعالى عنها - أنه كان يؤمها في شهر رمضان وكان يقرأ في المصحف، ولأنه ليس فيه إلا حمل المصحف بيده والنظر فيه، ولو حمل شيئا آخر لم تفسد صلاته، فكذلك المصحف إلا أنهما كرها ذلك؛ لأنه تشبه بفعل أهل الكتاب والشافعي - رحمه الله تعالى - قال ما نهينا عن التشبه بهم في كل شيء فإنا نأكل كما يأكلون ولأبي حنيفة - رحمه الله تعالى - طريقان: أحدهما أن حمل المصحف وتقليب الأوراق والنظر فيه والتفكر فيه ليفهم عمل كثير وهو مفسد للصلاة، كالرمي بالقوس في صلاته وعلى هذا الطريق يقول: إذا كان المصحف موضوعا بين يديه أو قرأ بما هو مكتوب على المحراب لم تفسد صلاته. والأصح أن يقول: إنه يلقن من المصحف فكأنه تعلم من معلم وذلك مفسد لصلاته، ألا ترى أن من يأخذ من المصحف يسمى صحفيا، ومن لا
يحسن قراءة شيء عن ظهر قلبه يكون أميا يصلي بغير قراءة فدل أنه متعلم من المصحف، وعلى هذا الطريق لا فرق بين أن يكون موضوعا بين يديه أو في يديه، وليس المراد بحديث ذكوان أنه كان يقرأ من المصحف في الصلاة، إنما المراد بيان حاله أنه كان لا يقرأ جميع القرآن عن ظهر القلب، والمقصود بيان أن قراءة جميع القرآن في قيام رمضان ليس بفرض.
قال: (رجل صلى ومعه جلد ميتة مدبوغ فلا بأس بذلك عندنا) وقال مالك - رحمه الله تعالى - لا تجوز صلاته ولا ينتفع عنده بجلد الميتة، وإن كان مدبوغا إلا في الجامد من الأشياء، واستدل بحديث «عبد الله بن الحكم الليثي قال: أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بسبعة أيام، وفيه لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب».
(ولنا) قوله - صلى الله عليه وسلم: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» وتأويل حديث عبد الله أنه كان قبل الدباغة، قال الأصمعي: الإهاب اسم الجلد لم يدبغ، فإذا دبغ يسمى أديما، ثم المحرم بالموت ما يدخل تحت مصلحة الأكل، قال - صلى الله عليه وسلم: «إنما حرم من الميتة أكلها» وبالدباغ خرج الجلد من أن يكون صالحا للأكل، وتبين أن نجاسته بما اتصل به من الدسومات النجسة، وقد زال ذلك بالدباغ فصار طاهرا كالخمر تخلل، وأصح ما قيل في حد الدباغ عندنا ما يعصمه من النتن والفساد، حتى إذا شمسه أو تربه كان ذلك دباغا عندنا، وعند الشافعي - رضي الله تعالى عنه - لا يكون دباغا إلا بما يزيل الدسومات النجسة عنه، وذلك باستعمال الشب والقرض والعفص (ودليلنا) فيه أن المقصود إخراجه من أن يكون صالحا لمنفعة الأكل، وقد حصل ذلك وبه تبين أنه لم يبقى فيه الدسومات النجسة، فإنها لو بقيت فيه لأنتن بمضي الزمان، وكذلك جلود السباع عندنا ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه، وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - ما لا يؤكل لحمه لا يطهر جلده بالدباغ، وقاس بجلد الخنزير والآدمي.
(ولنا) عموم الحديث أيما إهاب دبغ فقد طهر وما طهر من لبس الناس كجلد الثعلب والفيل والسمور ونحوها في الصلاة وغير الصلاة من غير نكير منكر يدل على طهارته بالدباغ، فأما جلد الخنزير فقد روي عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه يطهر بالدباغ أيضا، وفي ظاهر الرواية لا يحتمل الدباغة، فإن له جلودا مترادفة بعضها فوق بعض كما للآدمي، وإنما لا يطهر لعدم احتماله المطهر وهو الدباغ، أو لأن عينه نجس وجلده من عينه، فأما في سائر الحيوانات النجس ما اتصل بالعين من الدسومات
، وعلى هذا جلد الكلب يطهر عندنا بالدباغ، وقال
الحسن بن زياد - رحمه الله تعالى - لا يطهر وهو قول الشافعي - رضي الله تعالى عنه -؛ لأن عين الكلب نجس عندهما، ولكنا نقول الانتفاع به مباح في حالة الاختيار، فلو كان عينه نجسا لما أبيح الانتفاع به، فإن كان الجلد غير مدبوغ فصلى فيه أو صلى ومعه شيء كثير من لحم الميتة فصلاته فاسدة؛ لأنه حامل للنجاسة، وإن صلى ومعه شيء من أصوافها وشعورها أو عظم من عظامها فصلاته تامة عندنا، وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - فيهما حياة، وقال مالك - رضي الله تعالى عنه - في العظم حياة دون الشعر واستدلوا بقوله تعالى: {قال من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 78] ولأنه ينمو بتمادي الروح فكان فيه حياة فيحله الموت فيتنجس به ومالك يقول: العظم يتألم ويظهر ذلك في السن بخلاف الشعر.
(ولنا) أنه مبان من الحي فلا يتألم به ويجوز الانتفاع، وقال - صلى الله عليه وسلم: «ما أبين من الحي فهو ميت» فلو كان فيه حياة لما جاز الانتفاع به، ولا نقول: إن العظم يتألم بل ما هو متصل به، فاللحم يتألم، وبين الناس كلام في السن أنه عظم أو طرف عصب يابس، فإن العظم لا يحدث في البدن بعد الولادة، وتأويل قوله تعالى {من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 78] أي النفوس، وفي العصب روايتان في إحدى الروايتين فيها حياة لما فيها من الحركة وينجس بالموت، ألا ترى أنه يتألم الحي بقطعه، بخلاف العظم فإن قطع قرن البقرة لا يؤلمها، فدل أنه ليس في العظام حياة فلا يتنجس بالموت وإليه أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين «مر بشاة ملقاة لميمونة فقال: هلا انتفعتم بإهابها، فقيل: إنها ميتة فقال: إنما حرم من الميتة أكلها» وهذا نص على أن ما لا يدخل تحت مصلحة الأكل لا يتنجس بالموت.
وعلى هذا شعر الآدمي طاهر عندنا خلافا للشافعي - رضي الله تعالى عنه -، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين حلق شعره قسم شعره أصحابه، فلو كان نجسا لما جاز لهم التبرك به، ولكن لا ينتفع به لحرمته لا لنجاسته، وكذلك عظمه لا ينتفع به لحرمته، والذي قيل إذا طحن سن الآدمي مع الحنطة لم يؤكل، وذلك لحرمة الآدمي لا لنجاسته.
فأما الخنزير فهو نجس العين عظمه وعصبه في النجاسة كلحمه، فأما شعره فقد قال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يجوز استعماله للخراز لأجل الضرورة، وفي طهارته عنه روايتان في رواية طاهر، وهكذا روي عن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - أنه طاهر لما كان الانتفاع به جائزا ولهذا جوز أبو حنيفة بيعه؛ لأن الانتفاع لا يتأدى به إلا بعد الملك وهو نجس في إحدى الروايتين؛ لأن الثابت بالضرورة لا يعدوا موضعها، وقد روي عن محمد - رحمه الله تعالى - أنه ألحق الفيل
بالخنزير، والأصح أنه كسائر الحيوانات عظمه طاهر، وقد جاء في حديث ثوبان «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى لفاطمة سوارين من عاج» وظهر استعمال الناس العاج من غير نكير فدل على طهارته.
قال: (رجل صلى وقدامه عذرة قال: لا يفسد ذلك صلاته) ؛ لأن شرط الصلاة طهارة مكان الصلاة، وقد وجد فالنجاسة فيما وراء ذلك لا تضره، والمستحب أن يبعد من موضع النجاسة عند أداء الصلاة؛ لأن لمكان الصلاة حرمة فيختار لها أقرب الأماكن إلى الحرمة، وإن كانت النجاسة في موضع قيامه فصلاته فاسدة إذا كانت كثيرة؛ لأن القيام ركن فلا يتأدى على مكان نجس، وكونه على النجاسة ككون النجاسة عليه في إفساد الصلاة، فإن كانت النجاسة في موضع سجوده فكذلك عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - وهو الظاهر من قول أبي حنيفة، وروى أبو يوسف عنه أن صلاته جائزة، ووجهه أن فرض السجود يتأدى بوضع الأرنبة على الأرض عنده وذلك دون مقدار الدرهم. ووجه ظاهر الرواية أن السجود فرض، فإذا وضع الجبهة والأنف تأدى الفرض بالكل كما إذا طول القراءة أو طول الركوع كان مؤديا للفرض، وأداء الكل بالفرض في المكان النجس لا يجوز، والجبهة والأنف أكثر من قدر الدرهم، وقد روي عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه إذا سجد على مكان نجس ثم أعاد على مكان طاهر جاز، وقال زفر - رحمه الله تعالى - لا تجوز صلاته. وجه قوله أن السجدة قد فسدت بأدائها على مكان نجس، والصلاة الواحدة لا تتجزأ، فإذا فسد بعضها فسد كلها كما لو أقام على النجاسة عند التحريم. ووجه قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أن الركن لا يتأدى على مكان نجس، فكأنه لم يؤدها أصلا حتى أداها على مكان طاهر، وهكذا نقول: إذا كان عند التحرم على مكان نجس يصير كأنه لم يتحرم للصلاة أصلا حتى لو كان متطوعا لا يلزمه القضاء، وإن كانت النجاسة في موضع الكفين أو الركبتين جازت صلاته عندنا، وقال زفر - رحمه الله تعالى - لا تجزئه؛ لأن أداء السجدة بوضع اليدين والركبتين والوجه جميعا فكانت النجاسة في موضع الركبتين كهي في موضع الوجه، فأكثر ما في الباب أن له بدا من موضع اليدين والركبتين، وهذا لا يدل على الجواز لا إذا وضع يده على المكان النجس، كما لو لبس ثوبين بأحدهما نجاسة كثيرة لا تجوز صلاته وله بد من لبس الثوب النجس كما بالاكتفاء بثوب واحد.
(ولنا) أن وضع اليدين والركبتين على مكان نجس كترك الوضع أصلا، وترك وضع اليدين والركبتين في السجود لا يمنع
الجواز كما قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - مثل الذي يصلي وهو عاقص شعره كمثل الذي يصلي وهو مكتوف، وبه فارق الوجه، فإن ترك الوضع فيه يمنع جواز السجود، بخلاف الثوبين فإن اللابس للثوب مستعمل له، فإذا كان نجسا كان حاملا للنجاسة، فلهذا تفسد صلاته كما لو كان يمسكه بيده، والمصلي ليس بحامل للمكان حتى تفسد صلاته بهذا الطريق بل الطريق ما قلناه أن ما وضعه على مكان نجس يجعل كأنه لم يضعه أصلا.
قال: (رجل صلى على مكان من الأرض قد كان فيه نجاسة فجفت وذهب أثرها جازت صلاته عندنا) وقال زفر - رحمه الله تعالى - لا تجزئه؛ لأن الشرط طهارة المكان ولم يوجد، بدليل أن التيمم لا يجوز بهذا الموضع.
(ولنا) قوله - صلى الله عليه وسلم: «أيما أرض جفت فقد زكت» أي طهرت وقال: «زكاة الأرض يبسها» ثم النجاسة تحرقها الشمس وتفرقها الريح وتحول عينها الأرض وينشفها الهواء فلا تبقى عينها بعد تأثير هذه الأشياء فيها فتعود الأرض كما كانت قبل الإصابة، وقد مر الفرق بين الصلاة والتيمم، والصحيح من الجواب أنه لا فرق بين موضع تقع عليه الشمس أو لا تقع وبين موضع فيه حشيش نابت أو ليس فيه؛ لأن الحشيش تابع للأرض، فإن أصاب الموضع ماء فابتل أو ألقي من ترابه في ماء قليل ففيه روايتان: إحداهما أنه يعود نجسا كما قبل الجفاف، والأخرى وهو الأصح أنه لا يتنجس؛ لأن بعد الحكم بطهارته لم يوجد إلا إصابة الماء والماء لا ينجس شيئا، بخلاف ما إذا أصابت النجاسة البساط فذهب أثرها؛ لأن النجاسة تتداخل في أجزاء البساط فلا يخرجها إلا الغسل بالماء، وليس من طبع البساط أن يحول شيئا إلى طبعه، ومن طبع الأرض تحويل الأشياء إلى طبعها، فإن الثياب إذا طال مكثها في التراب تصير ترابا، فإذا تحولت النجاسة إلى طبع الأرض بذهاب أثرها حكمنا بطهارة الموضع لهذا، وإن كان الأثر باقيا لم تجز الصلاة؛ لأن طهور الأثر دليل على بقاء النجاسة.
قال: (ولا بأس بأن يصلي على الثلج إذا كان ممكنا يستطيع أن يسجد عليه) معناه أن يكون موضع سجوده متلبدا؛ لأنه حينئذ يجد جبينه حجم الأرض، فأما إذا لم يكن متلبدا حتى لا يجد جبينه حجم الأرض حينئذ لا يجزيه؛ لأنه بمنزلة السجود على الهواء على هذا السجود على الحشيش أو القطن إن شغل جبينه فيه حتى وجد حجم الأرض أجزأ وإلا فلا، وكذلك إذا صلى على طنفسة محشوة جازت صلاته إذا كان متلبدا إلا على قول مالك - رحمه الله تعالى -، وقد روي عن بعض الصحابة قال: ما أبالي صليت على
عشر طنافس أو أكثر
وكذلك الصلاة على الحصير؛ لأنه عمل الناس في مساجدهم، بخلاف ما يقوله بعض من لا يعتد بقوله أنه لا يجوز الصلاة على الحصير؛ لأن «سائلا سأل عائشة - رضي الله تعالى عنها - هل صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحصير فإني سمعت قول الله تعالى - {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} [الإسراء: 8] فقالت: لا» ولكن هذا الحديث شاذ فقد اشتهر عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على الخمرة وهو اسم لقطعة حصير، ومعنى قول الله تعالى {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} [الإسراء: 8] أي محتبسا، وجاء في الحديث الصلاة على ما تنبته الأرض أفضل من الصلاة على ما لم تنبته الأرض، فلهذا اختاروا الحشيش والحصير على البساط.
قال: (ويكره أن يكون قبلة المسجد إلى حمام أو قبر أو مخرج) لأن جهة القبلة يجب تعظيمها والمساجد كذلك قال الله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} [النور: 36] ومعنى التعظيم لا يحصل إذا كانت قبلة المسجد إلى هذه المواضع التي لا تخلو عن الأقذار، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - قال: هذا في مساجد الجماعة، فأما في مسجد الرجل في بيته فلا بأس بأن يكون قبلته إلى هذه المواضع؛ لأنه ليس له حرمة المساجد حتى يجوز بيعه وللناس فيه بلوى، بخلاف مسجد الجماعة، ولو صلى في مثل هذا المسجد جازت صلاته إلا على قول بشر بن غياث المريسي.
وكذلك لو صلى في أرض مغصوبة أو صلى وعليه ثوب مغصوب عنده لا يجوز؛ لأن العبادة لا تتأدى بما هو منهي عنه، والنهي عندنا إذا لم يكن لمعنى في الصلاة لا يمنع جوازها، وأصل النهي في هذا الباب حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الصلاة في سبع مواطن المجزرة والمزبلة والمقبرة والحمام وقوارع الطريق ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله» فأما المجزرة والمزبلة فموضع النجاسات لا يجوز الصلاة فيها لانعدام شرطها وهو الطهارة من حيث المكان، وأما المقبرة فقيل إنما نهى عن ذلك لما فيه من التشبه باليهود كما قال - صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلا تتخذوا قبري بعدي مسجدا» ورأى عمر - رضي الله تعالى عنه - رجلا يصلي بالليل إلى قبر فناداه القبر القبر فظن الرجل أنه يقول: القمر، فجعل ينظر إلى السماء فما زال به حتى بينه فعلى هذا القول تجوز الصلاة وتكره، وقيل معنى النهي أن المقابر لا تخلو عن النجاسات، فالجهال يستترون بما يشرف من القبور فيبولون ويتغوطون خلفه، فعلى هذا
لا تجوز الصلاة لانعدام طهارة المكان. ومعنى النهي في الحمام أنه مصب الغسالات والنجاسات عادة.
فعلى هذا إذا صلى في موضع جلوس الحمامي لا يكره وقيل معنى النهي أن الحمام بيت الشيطان فعلى هذا الكراهة في كل موضع منه سواء غسل ذلك الموضع أو لم يغسل. ومعنى النهي في قوارع الطريق أنه يستضر به المار، فعلى هذا إذا كان الطريق واسعا لا يكره وحكى ابن سماعة أن محمدا - رحمه الله تعالى - كان يصلي على الطريق في البادية، وقيل: معنى النهي في قوارع الطرق أنها لا تخلو عن الأرواث والأبوال عادة، فعلى هذا لا فرق بين الطريق الواسع والضيق. ومعنى النهي في معاطن الإبل قيل: لأنها لا تخلو عن النجاسة عادة إلا أنه جاء في الحديث «صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل» وفيما يكون منها المعاطن والمرابض سواء، وقيل: معنى النهي أن الإبل ربما تصول على المصلي فيبتلى بما يفسد صلاته، وهذا لا يتوهم من الغنم.
وأما فوق ظهر بيت الله، النهي عندنا لأن الإنسان منهي عن الصعود على سطح الكعبة لما فيه من ترك التعظيم فلا يمنع جواز الصلاة، وعند الشافعي - رضي الله تعالى عنه - هذا النهي لإفساد صلاته، حتى إذا صلى على سطح الكعبة وليس بين يديه سترة لا تجوز صلاته عنده على ما بينه في آخر الكتاب.
قال: (ومن زحمه الناس فلم يجد موضعا للسجود فسجد على ظهر رجل أجزأه) لقول عمر - رضي الله تعالى عنه - اسجد على ظهر أخيك فإنه مسجد لك، وقال في خطبته حين طلب من الناس أن يوسع المسجد: أيها الناس إن هذا مسجد بناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرون والأنصار معه فمن لم يجد موضعا فليسجد على ظهر أخيه وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - قال: إن كان السجود على ظهر شريكه في الصلاة يجوز وإلا فلا؛ لأن الجواز للضرورة وذلك عند المشاركة في الصلاة، ومن أصحابنا من قال: المراد ظهر القدم، فأما إذا سجد على ظهره فهو راكع لا ساجد فلا يجزئه وهو قول الحسن بن زياد والأصح أنه يجوز؛ لأن الرخصة فيه ثابتة شرعا للضرورة.
ومن اقتدى بإمام ينوي صلاته ولم يدر أنها الظهر أو الجمعة أجزأه أيهما كان؛ لأنه بنى صلاته على صلاة الإمام، وذلك معلوم عند الإمام فالعلم في حق الأصل يغني عنه في حق التبع والبناء، والأصل فيه حديث «علي وأبي موسى - رضي الله تعالى عنهما -، فإنهما قدما من اليمن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال بم أهللتما فقالا بإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجوز ذلك لهما» وإن لم يكن معلوما عندهما وقت الإهلال، فإن
لم ينو صلاة الإمام ولكنه نوى الظهر والاقتداء إذا كان إمامه في الجمعة فصلاته فاسدة؛ لأنه يؤدي غير صلاة الإمام، وتغاير الفرضين يمنع الاقتداء، وفي غير رواية أبي سليمان قال: إذا نوى صلاة الإمام والجمعة، فإذا هي الظهر جازت صلاته، وهذا صحيح فقد تحقق البناء بنية صلاة الإمام ولا يعتبر بما زاد بعد ذلك، وهو كمن نوى الاقتداء بهذا الإمام وعنده أنه زيد فإذا هو عمرو، وكان الاقتداء صحيحا، بخلاف ما إذا نوى الاقتداء بزيد، فإذا هو عمرو.
قال: (وإذا صلى الرجل المكتوبة كرهت له أن يعتمد على شيء إلا من عذر) ؛ لأن في الاعتماد تنقيص القيام ولا يجوز ترك القيام في المكتوبة إلا من عذر، فكذلك يكره تنقيصه بالاعتماد إلا من عذر، وإن فعل جازت صلاته لوجود أصل القيام ولم يبين الاعتماد في التطوع فقيل لا بأس به؛ لأن ترك القيام يجوز في التطوع فتنقيصه أولى، وقيل: بل يكره؛ لأن في الاعتماد بعض التنعم والتجبر ولا ينبغي للمصلي أن يفعل شيئا من ذلك بغير عذر، وروي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في المسجد حبلا ممدودا فقال: لمن هذا، فقيل: لفلانة تصلي بالليل، فإذا أعيت اتكأت فقال لتصل فلانة بالليل ما بسطت، فإذا أعيت فلتنم».
قال: (ومن نسي تكبيرة الافتتاح حتى قرأ لم يكن داخلا في الصلاة) وكان عطاء يقول: تكبيرة الركوع تنوب عن تكبيرة الافتتاح، وهذا فاسد، فإن أركان الصلاة لا تكون إلا بعد التحريمة، والتحريم للصلاة بالتكبير يكون، فإذا لم يكبر للافتتاح لم يكن داخلا في الصلاة.
قال: (وإذا افتتح التطوع قائما ثم أراد أن يقعد من غير عذر فله ذلك عند أبي حنيفة استحسانا) وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - لا يجزئه قياسا؛ لأن الشروع ملزم كالنذر، ومن نذر أن يصلي ركعتين قائما لم يجزه أن يقعد فيهما، فكذلك إذا شرع قائما لم يجزه أن يقعد فيهما، فكذلك إذا شرع قاعدا وأبو حنيفة يقول: القعود في التطوع بلا عذر كالقعود في الفرض بعذر، ثم هناك لا فرق بين حال الابتداء أو البقاء فكذلك هنا، وهذا لأنه في الابتداء كان مخيرا بين القيام والقعود، وخياره فيما لم يؤد باق، والشروع إنما يلزمه ما باشر ولا صحة لما باشر إلا به، وللركعة الأولى صحة بدون القيام في الركعة الثانية بدليل حالة العذر فلم يلزمه القيام بالشروع، بخلاف النذر فهو التزام بالتسمية، وقد نص فيه على صفة القيام ولا رواية فيما إذا أطلق النذر فقيل يلزمه بصفة القيام اعتبارا لما يوجبه على نفسه بما يوجب الله تعالى عليه مطلقا، وقيل: لا يلزمه لأن القيام وراء ما به يتم التطوع
ولا يلزمه إلا بالتنصيص عليه كالتتابع في الصوم وقيل هو على الخلاف على قياس ما مر في الشروع، فإن افتتحها قاعدا فقضى بعضها قائما وبعضها قاعدا أجزأه لما روي عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان يفتتح التطوع قاعدا فيقرأ ورده حتى إذا بقي عشر آيات أو نحوها قام مقام قراءته ثم ركع وسجد، وهكذا كان يفعل في الركعة الثانية» فقد انتقل من القعود إلى القيام ومن القيام إلى القعود فدل أن ذلك جائز في التطوع.
قال: (وإذا افتتح التطوع على غير وضوء أو في ثوب نجس لم يكن داخلا في صلاته ولا يلزمه القضاء) ؛ لأن الشروع لم يصح ووجوب القضاء والإتمام ينبني عليه (وإن افتتحها نصف النهار أو حين تحمر الشمس أو عند طلوعها، فإن صلى كذلك فقد أساء ولا يبني عليه) ؛ لأنه أداها كما شرع فيها، وإن قطعها فعليها القضاء إلا على قول زفر - رحمه الله تعالى -، فإنه يعتبر الشروع في الصلاة في الأوقات المكروهة بالشروع في صوم يوم النحر، لعله أن يرتكب المنهي، والفرق لنا أن بالشروع هناك يصير صائما مرتكبا للمنهي، وها هنا بنفس الشروع لا يصير مصليا ما لم يقيد الركعة بالسجدة وارتكاب المنهي فيه، ولأن هناك لا يتصور الأداء بذلك الشروع إلا بصفة الكراهة، وها هنا يتصور بأن يصبر حتى يذهب الوقت فلهذا ألزمناه القضاء، والفرق بين هذا وبين ما سبق أن الشروع كالنذر، والنذر بالصلاة في هذه الأوقات يصح فكذلك الشروع، فأما النذر بالصلاة بغير وضوء لا يصح وهنا مسائل.
إذا نذر أن يصلي ركعتين بغير وضوء أو عريانا أو بغير قراءة فعلى قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - في المواضع كلها يلزمه ما سمى في الصلاة الصحيحة وما زاد في كلامه فهو لغو، وعند زفر - رحمه الله تعالى - لا يلزمه شيء في الأحوال كلها؛ لأن ما سماه في نذره ليس بقربة، وعند محمد - رحمه الله - إذا سمى ما لا يجوز أداء الصلاة معه بحال كالصلاة بغير طهارة لا يلزمه شيء، وإذا سمى ما يجوز أداء الصلاة معه في بعض الأحوال كالصلاة بغير قراءة تلزمه.
قال: (وإن افتتح صلاة التطوع وقت طلوع الشمس ثم قطعها ثم قضاها وقت تغير الشمس أجزأه) ؛ لأنه لو أتمها في ذلك الوقت أجزأه فكذلك إذا قضاها في مثل ذلك الوقت.
قال: (وإذا صلت المرأة وهي حاملة ابنتها أجزأها) لما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في بيته وأمامة بنت أبي العاص يحملها على عاتقه، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها» قال: (وهي مسيئة في ذلك) لأنها شغلت نفسها بما ليس من أعمال صلاتها، وأدنى ما فيه أن ذلك يمنعها من سنة الاعتماد (فإن قيل
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يفعل في صلاته ما هو مكروه (قلنا تأويله أنه كان في وقت كان العمل في الصلاة مباحا أو لم يكن الاعتماد سنة.
قال: (وإن صلى وفي فمه شيء يمسكه جازت صلاته) وهذا إذا كان في فمه درهم أو دينار أو لؤلؤة على وجه لا يمنعه من القراءة، فإن كان يمنعه من القراءة لا تجوز صلاته؛ لأنه أكل، وكذلك إن كان في فمه سكرة لا تجوز صلاته؛ لأنه أكل ولذلك إن كان في كفه متاع يمسكه جازت صلاته كما لو ترك الاعتماد أو وضع اليدين على الركبتين في الركوع. والمصلي قاعدا تطوعا أو فريضة بعذر يتربع ويقعد كيف شاء من غير كراهة، إن شاء محتبيا، وإن شاء متربعا؛ لأنه لما جاز له ترك أصل القيام فترك صفة القعود أولى، وقال زفر - رحمه الله تعالى - يقعد على ركبتيه كما يفعله في التشهد، وقال أبو يوسف يؤدي جميع صلاته متربعا في حال قيامه، فإذا أراد أن يركع قعد على ركبتيه ليكون أيسر عليه.
قال: (وإذا صلى فوق المسجد مقتديا بالإمام أجزأه) لحديث أبي هريرة أنه وقف على سطح المسجد واقتدى بالإمام وهو في جوفه، وهذا إذا كان وقوفه خلف الإمام أو بحذائه، فإذا كان متقدما عليه لم يجزه كما لو افتتحها في جوف المسجد
قال: (وكذلك إن كان على سطح بجنب المسجد وليس بينهما طريق) وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - لا يصح اقتداؤه لأنه ترك مكان الصلاة بالجماعة من غير ضرورة.
(ولنا) أن اقتداءه وهو على سطح بجنب المسجد بمنزلة اقتدائه به وهو في جوف المسجد معه؛ لأنه لا يشتبه عليه حال إمامه وليس بينهما مانع من الاقتداء فلهذا جوزناه.
قال: (ولا بأس بالصلاة في بيت في قبلته تماثيل مقطوعة الرأس) لأن التمثال تمثال برأسه فبقطع الرأس يخرج من أن يكون تمثالا، بيانه فيما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدي إليه ثوب عليه تمثال طائر فأصبحوا، وقد محا وجهه» وروي «أن جبريل صلوات الله عليه استأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذن له فقال كيف أدخل وفي البيت قرام فيه تمثال خيول رجال، فإما أن تقطع رءوسها أو تتخذ وسائد فتوطأ»، ولأن بعد قطع الرأس صار بمنزلة تماثيل الشجر وذلك غير مكروه إنما المكروه تمثال ذي الروح، هكذا روي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه نهى مصورا عن التصوير فقال: كيف أصنع وهو كسبي قال: إن لم يكن بد فعليك بتمثال الأشجار، وإن عليا - رضي الله تعالى عنه - قال من صور تمثال ذي الروح كلف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح وليس بنافخ وإن لم تكن مقطوعة الرأس كرهتها في القبلة؛ لأن فيه تشبيها بمن يعبد الصور، ولكن هذا إذا كان كبيرا يبدو
للناظرين من بعيد، فإن كان صغيرا فلا بأس؛ لأن من يعبد الصورة لا يعبد الصغير منها جدا، وقد كان على خاتم أبي موسى ذبابتان، ولما وجد خاتم دانيال - صلوات الله وسلامه عليه - كان على فصه أسدان بينهما رجل يلحسانه كأنه كان يحكي بهذا الابتداء، أو لأن التمثال في شريعة من قبلنا كان حلالا، قال الله تعالى: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل} [سبأ: 13]




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #22  
قديم 28-09-2025, 03:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الاول
صـــ 211 الى صـــ 220
(22)






وكما يكره في القبلة يكره في السقف أو عن يمين القبلة أو عن يسارها؛ لأن الأثر قد جاء أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة فيجب تنزيه مواضع الصلاة عن ذلك إلا أنه إذا كانت الصورة على الحائط الذي هو خلف المصلي فالكراهة فيه أيسر؛ لأن معنى التعظيم والتشبيه بمن يعبد الصور تنعدم هنا، وكذلك إن كانت الصورة على الأرض والأزر والستور، وأما على البساط فنقول: اتخاذ الصورة على البساط مكروه، ولكن لا بأس بالنوم والجلوس عليه؛ لأن البساط يوطأ فلا يحصل فيه معنى التعظيم، وكذلك الوسادة، ألا ترى أنه قال في حديث جبريل أو تتخذ وسائد فتوطأ، فإن كان المصلي على البساط إن كانت الصورة في موضع وجهه أو أمامه فهو مكروه؛ لأن فيه معنى التعظيم يحصل بتقرب الوجه من الصورة، وإن كانت في موضع قدميه فلا بأس به؛ لأن معنى التعظيم فيه لا يحصل فصلاته جائزة على كل؛ لأن الكراهة ليست لمعنى راجع إلى الصلاة.
قال: (رجل قارئ دخل في صلاة أمي تطوعا أو في صلاة امرأة أو جنب ثم أفسدها على نفسه فليس عليه قضاؤها) ؛ لأن شروعه في الصلاة لم يصح حين اقتدى بمن لا يصلح إماما له ولا يتمكن من أداء الصلاة خلفه، ووجوب القضاء يكون بالإفساد بعد صحة الشروع.
قال: (وإذا وقفت جارية مراهقة تعقل الصلاة بجنب رجل خلف الإمام وهما في صلاته فسدت صلاة الرجل) استحسانا، وفي القياس لا تفسد؛ لأن صلاة غير البالغة تخلق وليست بصلاة حقيقية، ووجه الاستحسان أنها تؤمر بالصلاة وتضرب على ذلك كما ورد به الحديث، فكانت كالبالغة في المشاركة في أصل الصلاة، وعليه ينبني الفساد بسبب المحاذاة؛ لأنها تشتهى فلا يصفو قلب الرجل عن الشهوة في حال المناجاة عند محاذاتها، وهذا المعنى موجود هنا قال: ألا ترى أنها لو صلت بغير وضوء أو عريانة أمرتها أن تعيد الصلاة؛ لأنها إنما تؤمر بالصلاة لتتعود فلا يشق عليها إذا بلغت، وذلك إذا أدت بصفة يجوز أداؤها بتلك الصفة بعد البلوغ بحال، فإن أدت بغير طهارة أو عريانة لا يحصل هذا المقصود فلهذا أمرت بالإعادة، ولو صلت بغير قناع، في القياس تؤمر بالإعادة كما إذا صلت
عريانة؛ لأن الرأس منها عورة ولكنه استحسن فقال: تجزئها صلاتها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» معناه صلاة بالغة فثبت أن صلاة غير البالغة تجوز بغير الخمار، ولأن من البالغات من تصلي بغير قناع وهي المملوكة وتجوز صلاتها فصلاة غير البالغة أولى، بخلاف العريانة.
قال: (وللأمة أن تصلي بغير قناع) لحديث عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه كان إذا رأى جارية متقنعة علاها بالدرة وقال: ألقي عنك الخمار يا دفار أتتشبهين بالحرائر وكذلك المكاتبة والمدبرة وأم الولد؛ لأن الرق قائم فيهن فليس لرءوسهن حكم العورة، فإن أعتقت في صلاتها أخذت قناعها ومضت في صلاتها استحسانا، وفي القياس تستقبل كالعريانة إذا وجدت ثوبا في خلال الصلاة. وجه الاستحسان أن فرض الستر لزمها في خلال الصلاة مقصورا عليها، وقد أتت به كما لزمها، بخلاف العريانة؛ لأن فرض الستر كان عليها الشروع، ولكنها كانت عريانة بعذر العجز، فإذا أزيل استقبلت كالمتيمم إذا وجد الماء في خلال الصلاة توضأ واستقبل، والمتوضئ إذا سبقه الحدث توضأ وبنى على صلاته فهذا مثله.
[باب صلاة المريض]
الأصل في صلاة المريض قوله تعالى: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} [آل عمران: 191] قال الضحاك في تفسيره: هو بيان حال المريض في أداء الصلاة على حسب الطاقة «ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عمران بن حصين يعوده في مرضه فقال: كيف أصلي فقال - عليه الصلاة والسلام: صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى الجنب تومئ إيماء، فإن لم تستطع فالله أولى بالعذر» أي بقبول العذر منك، ولأن الطاعة على حسب الطاقة قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 286] ولقوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] . فإذا عرفنا هذا فنقول: المريض إذا كان قادرا على القيام يصلي قائما، فإذا عجز عن القيام يصلي قاعدا بركوع وسجود، وإذا كان عاجزا عن القعود يصلي بالإيماء؛ لأنه وسع مثله، فإن كان قادرا على القيام في أول الصلاة وعجز عن القيام فإنه يقعد، وفرق بين هذا وبين الصوم، فإن المريض إذا كان قادرا على الصوم في بعض اليوم ثم عجز، فإنه لا يصوم أصلا وهنا يصلي.
وجه الفرق بينهما، وذلك لأن في الصوم لما أفطر في آخر اليوم لم يكن فعله في أول اليوم معتدا فلا يشتغل به، وفي الصلاة وإن
قعد في آخره، ولكن فعله في أول الصلاة وقع معتدا فيشتغل به، وأما إذا كان قادرا على القيام وعاجزا عن الركوع والسجود، فإنه يصلي قاعدا بإيماء وسقط عنه القيام؛ لأن هذا القيام ليس بركن؛ لأن القيام إنما شرع لافتتاح الركوع والسجود به، فكل قيام لا يعقبه سجود لا يكون ركنا، ولأن الإيماء إنما شرع للتشبه بمن يركع ويسجد والتشبه بالقعود أكثر، ولهذا قلنا بأن المومئ يجعل السجود أخفض من ركوعه؛ لأن ذلك أشبه بالسجود إلا أن بشرا يقول: إنما سقط عنه بالمرض ما كان عاجزا عن إتيانه، فأما فيما هو قادر عليه لا يسقط عنه، ولكن الانفصال عنه على ما بينا إن كان عاجزا عن القعود يصلي بالإيماء مضطجعا مستلقيا على قفاه ووجهه نحو القبلة عند علمائنا رحمهم الله تعالى وهو مذهب عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - يضطجع على جنبه الأيمن ووجهه نحو القبلة، واحتج بحديث عمران بن حصين قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «فعلى الجنب تومئ إيماء» فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نص على الجنب، ولأن فيما قلنا وجهه إلى القبلة، وكما إذا احتضر يضطجع على شقه الأيمن هكذا يصلي أيضا، وكذلك يوضع في القبر هكذا، إلا أن أصحابنا قالوا بأنه إذا استلقى على قفاه كان أقرب إلى استقبال القبلة فالجانبان منه إلى القبلة ووجهه إلى ما هو القبلة، وفيما قاله الشافعي - رحمه الله تعالى - وجهه إلى رجله وذا ليس بقبلة، وكذلك إذا قدر على القيام فوجهه أيضا يكون إلى القبلة بخلاف ما إذا احتضر، فإن هناك لم يكن مرضه على شرف الزوال فاقتربا من هذا الوجه. وأما الجواب عن احتجاجه بحديث عمران بن حصين - رضي الله تعالى عنه - فلما قيل بأن مرضه كان باسورا فلا يمكنه أن يستلقي على قفاه. والثاني وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فعلى الجنب تومئ إيماء» يعني ساقطا على الجنب كقوله: «فإذا وجبت جنوبها» أي سقطت فكذلك هنا.
قال: (المومئ إذا اقتدى بالمومئ يصح اقتداؤه به) لقوله - عليه الصلاة والسلام: «الإمام ضامن» معناه صلاة الإمام تتضمن صلاة المقتدي، وتضمن الشيء إنما يتحقق فيما هو مثله أو فوقه ولا يتحقق فيما هو دونه، وها هنا حال المقتدي مثل حال الإمام أو دونه فيصح اقتداؤه به، فإذا عرفنا هذا فنقول بأن الإمام إن كان قائما أو قاعدا أو موميا يصح اقتداؤه به؛ لأن مثل حال الإمام أو دونه، فإن كان الإمام قارئا والمقتدي قارئا أو أميا يصح اقتداؤه به؛ لأن مثل حال الإمام أو دونه، فأما إذا كان الإمام قاعدا والمقتدي قائما يصح عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى استحسانا، وعند محمد - رحمه الله تعالى -
لا يصح قياسا.
وجه قول محمد - رحمه الله تعالى - ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يؤمن أحد بعدي جالسا»، وهذا نص عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: لا يؤم المتيمم المتوضئين ولا المقيد المطلقين، وهذا نص والمعنى فيه، وذلك أن الإمام صاحب عذر، فمن كان حاله مثل حال الإمام يصح اقتداؤه به وما لا فلا، كإمامة صاحب الجرح السائل للأصحاء ولأصحاب الجروح. وتأثير هذا الكلام وهو أن القيام ركن والمقتدي ينفرد بهذا الركن فلو قلنا بأنه يصح اقتداؤه به يكون هذا مقتديا بالبعض دون البعض، وهذا لا يجوز، ووجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم: «أنه صلى بأصحابه وكان قاعدا وهم قيام خلفه» فإنه لما ضعف في مرضه قال «مروا أبا بكر يصلي بالناس فقالت عائشة لحفصة: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف إذا وقف في مكانك لا يملك نفسه، فلو أمرت غيره فقالت ذلك كرتين، فقال: إنكن صاحبات يوسف مروا أبا بكر يصلي بالناس، فلما شرع أبو بكر في الصلاة وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خفة في نفسه فخرج وهو يهادي بين الفضل بن عباس وبين علي، وكان رجلاه تخطان الأرض حتى دخل المسجد فسمع أبو بكر حس مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - فتأخر وتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقعد، وكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقوم يكبرون بتكبير أبي بكر، وأبو بكر يكبر بتكبير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة يكبرون بتكبير أبي بكر»، وهذا آخر فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه، فيكون ناسخا لما كان قبله على ما جاء في حديث «جابر - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: سقط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فرسه فجحش شقه الأيسر فلم يخرج أياما، فالصحابة دخلوا عليه فوجدوه في الصلاة قاعدا فاقتدوا به قياما فأشار إليهم أن اقعدوا، فلما فرغ من صلاته قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا على أئمتكم، فإن صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعين، وإن صلى قائما فصلوا قياما أجمعين ولا يؤمن أحد بعدي جالسا» ولكنا نقول: صار هذا منسوخا بفعله الآخر وهو ما روينا في حديث مرض موته - صلى الله عليه وسلم -، وأما حديث علي - رضي الله تعالى عنه - قلنا: لا يمكن العمل به؛ لأن في الحديث زيادة وهو قوله: ولا الماسح للغاسلين وبالإجماع إمامة الماسح للغاسل جائزة، فدل أنه لا يمكن العمل به.
والفقه فيه أن الإمام صاحب بدل صحيح فاقتداء صاحب الأصل به صحيح كالماسح على الخفين إذا أم الغاسلين بخلاف صاحب
الجرح السائل ونحوه؛ لأنه ليس بصاحب بدل صحيح، ولأن بين القيام والقعود تقاربا في الصلاة حتى يجوز القعود في التطوع من غير عذر، وهذا لأن القائم كلا الجانبين منه مستو، فالقاعد أحد الجانبين منه منثن فكان بينهما تقارب، فيصح اقتداؤه به كاقتداء القائم بالراكع، وإن كان الإمام يصلي بالإيماء مضطجعا والمقتدي يصلي بركوع وسجود لا يصح اقتداؤه به عندنا خلافا لزفر - رحمه الله - هو يقول: كل واحد منهما مؤد ما هو مستحق عليه بصفة الصحة فيصح اقتداؤه به، نظيره اقتداء المتوضئ بالمتيمم والغاسل بالماسح، ولكنا نقول بأن حال المقتدي فوق الإمام؛ لأن الاكتفاء بالإيماء مع القدرة على الركوع والسجود يمنع جواز الصلاة فيمنع صحة الاقتداء، ولأن الإيماء ليس ببدل عن الركوع والسجود؛ لأنه بعضه فلو قلنا بأنه يصح اقتداؤه به يكون هذا اقتداء بالبعض دون البعض، وهذا لا يجوز بخلاف التيمم والمسح، فإن التيمم بدل عن الوضوء، والمسح بدل عن الغسل فيصح اقتداؤه به بالإجماع.
فإن كان الإمام يصلي قاعدا بالإيماء والمأموم يصلي قائما بالإيماء يصح اقتداؤه به؛ لأن هذا القيام ليس بركن حتى كان الأولى تركه فيجعل كأن لم يكن، ولو كان معدوما أصلا يصح اقتداؤه به؛ لأن هذا اقتداء القاعد بالقاعد فكذلك هنا.
فإن كان الإمام يصلي بالإيماء مضطجعا والمقتدي يصلي بالإيماء قاعدا أو قائما لا يصح اقتداؤه بالإجماع؛ لأن فوق حال الإمام فيمنع صحة الاقتداء.
قال: (فإن نزع الماء من عينيه وأمر بأن يستلقي على قفاه أياما ونهي عن القيام والقعود، له أن يصلي بالإيماء مضطجعا عند علمائنا) وقال مالك - رحمه الله - ليس له ذلك واحتج بما روي عن عبد الله بن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه قال له طبيب بعدما كف بصره: لو صبرت أياما مستلقيا على قفاك لصحت عيناك فشاور في ذلك عائشة - رضي الله تعالى عنها - والصحابة فلم يرخصوا له في ذلك، وقالوا له: أرأيت لو مت في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك فلو جاز ذلك لجوزوا له إلا أن علماءنا قالوا بأن حرمة الأعضاء كحرمة النفس، ثم خاف الهلاك على نفسه من عدو أو سبع كان معه له أن يصلي مستلقيا على قفاه فكذلك هنا، وأما حديث عبد الله بن عباس قلنا: يحتمل أنه إنما لم يرخصوا له في ذلك؛ لأنه لم يظهر عندهم صدق ذلك الطبيب فيما يدعي، فلهذا لم يرخصوا له.
قال: (ولو أن المريض إذا صلى إلى غير القبلة متعمدا لا تجوز، وإن أخطأ تجوز) معناه إذا اشتبهت عليه القبلة فتحرى إلى جهة وصلى إليها ثم تبين أنه أخطأ القبلة تجوز صلاته، وإن تعمد لا تجوز لحديث علي - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: قبلة المتحري جهة قصده. فالحاصل أن المريض إنما
يفارق الصحيح فيما هو عاجز عنه، وأما فيما هو قادر عليه هو والصحيح سواء، ثم الصحيح إذا اشتبهت عليه القبلة في المغارة فتحرى إلى جهة وصلى إليها ثم تبين أنه أخطأ القبلة تجوز صلاته، ولو تعمد لا تجوز فكذلك هذا، وقال محمد بن مقاتل الرازي - رحمه الله تعالى - إذا كان وجهه إلى غير القبلة ولا يمكنه أن يحول وجهه إلى القبلة ولا يجد أحدا بأن يحول وجهه إلى القبلة له أن يصلي إلى غير القبلة، فإذا برأ أعاد الصلاة، ولكنا نقول: في ظاهر الرواية لا يجب عليه إعادة الصلاة؛ لأن التوجه إلى القبلة شرط جواز الصلاة، والقيام والقراءة والركوع والسجود أركان الصلاة، ثم ما سقط عنه من الأركان بعذر المرض لا يجب عليه إعادة الصلاة فكذلك ما سقط عنه من الشروط بعذر المرض لا يجب عليه إعادة الصلاة.
وأما إذا صلى بغير طهارة أو بغير قراءة أو عريانا لا تجوز صلاته لما بينا أنه فيما هو قادر عليه هو والصحيح سواء، ثم الصحيح إذا صلى بغير طهارة أو بغير قراءة أو عريانا لا تجوز صلاته فكذلك هنا.
قال: (قوم مرضى في بيت مظلم اشتبهت عليهم جهة القبلة صلوا بجماعة فتحرى كل واحد منهم إلى جهة وصلى إليها جازت صلاة الكل) ؛ لأنها تجوز من الأصحاء بهذه الصفة فمن المرضى أولى، قال الحاكم - رحمه الله تعالى - إنما جازت صلاة المقتدي إذا كان المقتدي لا يعلم أنه خالف إمامه، فأما إذا علم أنه خالف إمامه لا تجوز صلاته؛ لأنه اعتقد فساد صلاة الإمام، والأصل أن المقتدي إذا اعتقد فساد صلاة الإمام تفسد صلاته، وهذا بخلاف ما إذا صلى في جوف الكعبة، وإن علم أنه خالف إمامه جازت صلاته؛ لأنه ما اعتقد فساد صلاة الإمام إلا إذا كان مقدما على الإمام فحينئذ لا تجوز صلاته.
قال: (مريض متحر أو مسافر متحر تبين له في خلال الصلاة أنه أخطأ القبلة له أن يحول وجهه إلى القبلة ويبني على صلاته، ولا يجب عليه أن يستقبل) لحديث أهل قباء أخبروا في خلال الصلاة أن القبلة حولت من بيت المقدس إلى الكعبة، فاستداروا كهيئتهم وهم في ركوع فجوز لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأن المؤدى حصل بالاجتهاد، وهذا اجتهاد آخر، والاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله، كالقاضي إذا قضى في حادثة بالاجتهاد ثم ظهر أن اجتهاده كان خطأ في تلك الحادثة باجتهاد آخر لا ينقض قضاؤه فكذلك هاهنا.
قال: (المريض المومئ إذا وجب عليه سجدتا السهو يومئ إيماء لسهوه) لأن سجدتي السهو دون الصلبية وتلك تتأدى بالإيماء فهذا أولى، فلو أنه عجز عن الإيماء بالرأس سقط عنه الصلاة عند علمائنا
الثلاثة وقال زفر والحسن رحمهما الله تعالى: يومئ بعينيه، وإن عجز عن الإيماء بالعينين قال زفر - رحمه الله تعالى - وحده: يومئ بالقلب؛ لأنه وسع مثله، ولكنا نقول: بأن الإيماء عبارة عن الإشارة، والإشارة إنما تكون بالرأس، فأما العين يسمى إنحاء، ولا يسمى إيماء، وبالقلب يسمى نية وعزيمة وبمجرد النية لا تتأدى الصلاة، ونصب الأبدال بالرأي لا يجوز، ثم إذا برأ ينظر إن كان معتقا بعد هذه الحالة حتى إذا برأ يجب إعادة الصلاة، فإن كان مغمى عليه ينظر إذا كان مغمى عليه يوما وليلة أو أقل يجب عليه إعادة الصلاة، وإن كان أكثر من يوم وليلة، ولا يجب عليه إعادة الصلاة عند علمائنا، وقال بشر تجب عليه إعادة الصلاة، وإن طال الإغماء. هو يقول: الإغماء نوع مرض فلا يسقط القضاء كالنوم، وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - إذا استوعب وقت صلاة كاملة لا يجب عليه إعادة الصلاة، ويقول: وجوب القضاء ينبني على وجوب الأداء، ولا يجب عليه الأداء فلا يجب عليه القضاء.
(ولنا) ما روي عن علي - رضي الله تعالى عنه - أنه أغمي عليه في أربع صلوات فقضاهن، وعن عمار بن ياسر أنه أغمي عليه يوما وليلة فقضاهما وعبد الله بن عمر أغمي عليه ثلاثة أيام ولياليها فلم يقضها. والفقه فيه هو أن الإغماء إذا طال يجعل كالطويل عادة وهو الجنون والصغر، وإذا قصر يجعل كالقصير عادة وهو النوم، فيحتاج إلى الحد الفاصل بين القصير والطويل، فإن كان يوما وليلة أو أقل فهو قصير؛ لأن الصلاة لم تدخل في حد التكرار، وإن كان أكثر من يوم وليلة يكون طويلا؛ لأن الصلاة دخلت تحت حد التكرار، وروي عن أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: إذا أغمي عليه يوما وليلة يجب عليه القضاء، ولكن يعتبر بالساعات لا بالصلوات والأول أصح.
قال: (وإذا لم يستطع السجود لمرض أو جرح أو خوف فهو كله سواء ويومئ) ؛ لأنه وسع مثله.
قال: (فإن عجز عن القراءة تسقط عنه القراءة) لأن القراءة ركن كما أن القيام ركن، فلو عجز عن القيام سقط عنه القيام فكذلك هنا.
قال: (وإن كان على جبهته جراحة، ولا يمكنه أن يسجد على الجبهة قال يسجد على أنفه) ؛ لأن الأنف مسجد كالجبهة.
قال: (ويكره للمريض المومئ أن يرفع إليه عود أو وسادة ليسجد عليه) لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه دخل على مريض ليعوده فوجده يسجد على عوده فقال له: إن قدرت أن تسجد على الأرض فاسجد وإلا فأوم برأسك» وعبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنه - دخل على أخيه عتبة يعوده في مرضه فرأى عودا يرفع بين يديه، وكان يسجد عليه فأخذ العود من يد من كان في يديه
وقال: إن هذا شيء عرض لكم الشيطان فأوم بسجودك وعبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنه - رأى مريضا يفعل هكذا فقال: أتتخذون مع الله آلهة فدل أنه يكره له ذلك، وإن سجد هل يجوز له ذلك قال: ينظر إن خفض رأسه للركوع ثم للسجود يجوز بالإيماء لا بوضع الرأس على العود، حتى أنه لو رفع العود إلى جبهته ووضع عليه جبهته لا يجوز؛ لأنه ترك ركنا من أركان الصلاة وهو الإيماء فقلنا بأنه لا يجوز، وأما إذا سجد على الوسادة يجزئه لما روي عن «أم سلمة أنها كان بها رمد فسجدت على المرفقة فجوز لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».
قال: (ولو أن المريض إذا صلى بالإيماء مضطجعا ثم قدر على الركوع والسجود في آخر الصلاة يجب عليه أن يستقبل الصلاة) ولا يبني إلا على قول زفر - رحمه الله تعالى -، وهذا بناء على أصل وهو أن المنفرد يبني آخر صلاته على أول صلاته، كالمقتدي يبني صلاته على صلاة الإمام، ففي كل موضع يصح الاقتداء يصح البناء وإلا فلا فنقول بأن الإمام إذا صلى بالإيماء مضطجعا والمقتدي يصلي بالركوع والسجود لا يصح اقتداؤه به، فكذلك هنا لا يجوز له البناء، وأما إذا صلى قاعدا بالركوع والسجود ثم برأ وقدر على القيام في بعض الصلاة له أن يبني على صلاته، ولا يجب عليه أن يستقبل؛ لأن الإمام إذا صلى قاعدا والمقتدي قائما يصح الاقتداء به عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى فكذلك يصح البناء، وأما إذا شرع في الصلاة قائما ثم عجز عن القيام في خلال الصلاة وقعد له أن يبني على صلاته؛ لأن هذا بناء القوي على الضعيف، وذلك يصح والله سبحانه وتعالى أعلم
[باب سجود السهو]
الأصل في سجود السهو ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «سها في صلاته فسجد» وفي حديث ثوبان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لكل سهو سجدتان بعد السلام» وكان أبو الحسن الكرخي يقول: هو واجب استدلالا بما قال محمد - رحمه الله تعالى - إذا سها الإمام وجب على المؤتم أن يسجد. ووجهه أنه جبر لنقصان العبادة فكان واجبا كدماء الجبر في باب الحج، وهذا لأن أداء العبادة بصفة الكمال واجب وصفة الكمال لا تحصل إلا بجبر النقصان. وغيره من أصحابنا كان يقول: إنه سنة استدلالا بما قال محمد - رحمه الله تعالى - إن العود إلى سجود السهو لا يرفع التشهد ولو كان واجبا لكان رافعا للتشهد كسجدة التلاوة
ولأنه يجب بترك بعض السنن، والخلف لا يكون أقوى فوق الأصل
إذا عرفنا هذا فنقول: إذا سها ولم يدر أثلاثا صلى أم أربعا، وذلك أول ما سها استقبل الصلاة لحديث عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «من شك في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا فليستقبل»، ولأن الاستقبال لا يريبه والمضي يريبه بعد الشك، والاحتياط في العبادة ليؤدها بكمالها واجب. ومعنى قوله: وذلك أول ما سها أن السهو ليس بعادة له؛ لأنه لم يسه في عمره قط، وإن لقي ذلك غير مرة تحرى الصواب وأتم الصلاة على ذلك لحديث ابن مسعود - رحمه الله تعالى - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «من شك في صلاته فليتحر الصواب»، ولأنا لو أمرنا بالاستقبال يقع في الشك ثانيا وثالثا إذا صار ذلك عادة له فيتعذر عليه المضي في الصلاة فلهذا تحرى وشهادة القلب في التحري تكفي عندنا لقوله - صلى الله عليه وسلم: «المؤمن ينظر بنور الله»، وعند الشافعي - رضي الله تعالى عنه - لا يكفي ما لم ينضم إليه دليل آخر؛ لأنه مجرد الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، وإن لم يكن له تحر أخذ بالأقل لحديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «من شك في صلاته فليأخذ بالأقل وليصل حتى يشك في الزيادة كما يشك في النقصان»، ولأنه متيقن بوجوب الأداء عليه فلا يترك هذا اليقين إلا بيقين مثله، وذلك في الأقل إلا أنه في كل موضع يتوهم أنه آخر صلاته فيقعد لا محالة؛ لأن قعدة الختم ركن والاشتغال بالنافلة قبل إكمال الفرض مفسد لصلاته.
ثم يسجد للسهو بعد السلام عندنا. وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - قبل السلام لحديث عبد الله ابن بحينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «سجد سجدتي السهو قبل السلام» وما روي بعد السلام أي بعد التشهد كما قلتم في قوله: «وفي كل ركعتين فسلم» أي فتشهد، ولأن سجود السهو مؤدى في حرمة الصلاة، ولهذا لو أدرك الإمام فيه صح اقتداؤه به، والسلام محلل له فينبغي أن يتأخر عن كل ما يؤدي في حرمة الصلاة، فكان هذا قياس سجدة التلاوة.
(ولنا) حديث ابن مسعود وعائشة وأبي هريرة - رضي الله تعالى عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «سجد للسهو بعد السلام» وما روي قبل السلام أي قبل السلام الثاني، فإن عندنا يسلم بعد سجود السهو أيضا إذ بما وقع الاختلاف في فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصار إلى قوله وفي حديث ثوبان «لكل سهو سجدتان بعد السلام»، ولأن سجود السهو مؤخر عن محله، فلو كان
مؤدى قبل السلام لكان الأولى أن يؤدى في محله كسجدة التلاوة، وإنما كان مؤخرا ليتأخر أداؤه عن كل حالة يتوهم فيها السهو، وفيما قبل السلام يتوهم السهو فيؤخر عنه لهذا، ولكنه جبر لنقصان الصلاة فبالعود إليه يكون عائدا إلى حرمة الصلاة ضرورة فلهذا يسلم بعده، وقال مالك - رحمه الله تعالى - إن كان سهوه عن نقصان سجد قبل السلام؛ لأنه جبر للنقصان، ولو كان عن زيادة سجد بعد السلام؛ لأنه ترغيم للشيطان إلا أن أبا يوسف - رحمه الله تعالى - قال له بين يدي الخليفة: أرأيت لو زاد ونقص كيف يصنع فتحير مالك - رحمه الله تعالى -.
(ومن سها عن قيام أو قعود فعليه سجود السهو) لحديث المغيرة بن شعبة - رضي الله تعالى عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «قام من الثانية إلى الثالثة ولم يقعد فسبحوا له فلم يعد وسجد لسهوه»، ولأنه تارك للقعدة مقدم للقيام على وقته، وكذلك إن قعد في موضع القيام فهو زائد في صلاته قعدة ليست منها مؤخر للقيام عن وقته فيتمكن النقصان في فعله فلهذا سجد للسهو.
قال: (فإن سها عن قراءة التشهد في القعدة الأولى وتكبيرات العيد أو قنوت الوتر ففي القياس لا يسجد للسهو) ؛ لأن هذه الأذكار سنة فبتركها لا يتمكن كثير نقصان في الصلاة، كما إذا ترك الثناء والتعوذ، ولهذا كان مبنى الصلاة على الأفعال دون الأذكار، وسجود السهو عرف بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما نقل ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - إلا في الأفعال. وجه الاستحسان أن هذه السنة تضاف إلى جميع الصلاة يقال: تكبيرات العيد وقنوت الوتر وتشهد الصلاة فبتركها يتمكن النقصان والتغير للصلاة، فأما ثناء الافتتاح غير مضاف إلى جميع الصلاة، بل الافتتاح والتعوذ غير مضاف إلى الصلاة، بل هو للقراءة فبتركه لا يتمكن النقصان والتغير في الصلاة.
قال: (وإن سها عن التكبيرات سوى تكبيرة الافتتاح فعليه سجود السهو عند مالك - رحمه الله تعالى - إذا سها عن ثلاث تكبيرات فعليه سجود السهو بالقياس على تكبيرات العيد) ولكنا نقول: تكبيرة الانتقال سنة لا تضاف إلى جميع الصلاة فبتركها لا يتمكن التغير في الصلاة، وكذلك لو سها عن تسبيحات الركوع والسجود؛ لأنها سنة تضاف إلى ركن منها لا إلى جميعها، فكان كالتعوذ وثناء الافتتاح.
قال: (وإن سها عن القراءة في الأوليين فعليه سجود السهو) ؛ لأن القراءة ركن والأوليان تعينتا لأداء هذا الركن واجبا، وبترك الواجب يتمكن النقصان في الصلاة.
قال: (وإن سها عن فاتحة الكتاب في الركعة الأولى وبدأ بغيرها، فلما قرأ بعض
السورة تذكر، يعود فيقرأ بفاتحة الكتاب ثم السورة) لأن الفاتحة سميت فاتحة الكتاب لافتتاح القراءة بها في الصلاة، فإذا تذكر في محله كان عليه مراعاة الترتيب، كما لو سها عن تكبيرات العيد حتى اشتغل بالقراءة ثم تذكر عاد إلى التكبيرات ثم القراءة بعدها وعليه سجدتا السهو؛ لأن الترتيب في القراءة واجب فبتركه يتمكن النقصان.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #23  
قديم 28-09-2025, 03:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الاول
صـــ 221 الى صـــ 231
(23)






قال: (وإن قرأ في الأوليين سورة ولم يقرأ بفاتحة الكتاب لم يعد قراءة الفاتحة في الأخريين) ؛ لأن الأخريين محل الفاتحة أداء فلا يكون محلا يكون محلا لها قضاء، فإنه لو قضى الفاتحة قرأها مرتين، وذلك غير مشروع في قيام واحد.
قال: (ولو قرأ الفاتحة في الأوليين ولم يقرأ السورة قضاها في الآخرتين) لحديث عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه ترك القراءة في ركعة من صلاة المغرب فقضاها في الركعة الثالثة وجهر بها وعثمان - رضي الله تعالى عنه - ترك قراءة السورة في الأوليين من صلاة العشاء فقضاها في الأخريين وجهر، ولأن الأخريين ليستا بمحل للسورة أداء فتكونان محلا لها قضاء، ثم قال في الكتاب (وجهر) قال البلخي أي بالسورة خاصة؛ لأن القضاء بصفة الأداء، فأما الفاتحة فهو مؤد فيخافت بها في الأخريين والأصح أنه يجهر بهما؛ لأن القراءة في قيام واحد لا يكون بعضه جهرا دون البعض، وقد وجب عليه الجهر بالسورة فيجهر بالفاتحة أيضا، وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه يخافت فيهما؛ لأن افتتاحه القراءة بالفاتحة، والسنة المخافتة في الأخريين فكذلك ما ينبني عليها، وعنه في رواية أخرى أنه لا يقضي السورة في الأخريين كما لا يقضي الفاتحة؛ لأنها سنة فات موضعها، وعن الحسن بن زياد - رحمه الله تعالى - أنه يقضي الفاتحة في الأخريين كما يقضي السورة؛ لأن الفاتحة أوجب من غيرها فالقضاء فيها أولى ولكنا نقول: الفاتحة لافتتاح القراءة بها، وذلك لا يحصل إذا قضاها في الأخريين؛ لأنه لا يقرأ بعدها السورة، وهذا كله إذا تذكر بعد ما قيد الركعة بالسجدة، فإن تذكر قراءة السورة في الركوع أو بعدما رفع رأسه منها عاد إلى قراءة السورة وانتقض به ركوعه؛ لأن القراءة ركن، فإذا طولها فالكل فرض فلمراعاة الترتيب بين الفرائض ينتقض الركوع لبقاء محل القراءة ما لم يقيد الركعة بالسجدة.
قال: (وإذا قرأ في كل ركعة من صلاته بآية أجزأه) في قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - الآخر قصيرة كانت أو طويلة، وفي قوله الأول وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا تجزئ ما لم يقرأ في كل ركعة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة، وفي بعض الروايات عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - لا يجزئه أقل من ثلاث آيات
لأن الواجب عليه قراءة المعجزة وهي السورة وأقصرها الكوثر وهي ثلاث آيات، ولأنه لا بد أن يأتي بما يسمى به قارئا، ومن قال: {ثم نظر} [المدثر: 21] أو قال: {مدهامتان} [الرحمن: 64] لا يسمى به قارئا وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - استدل بقوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} [المزمل: 20] والذي تيسر عليه قراءة آية واحدة فيكون ممتثلا للأمر، ولأنه يتعلق بالقراءة حكمان جواز الصلاة وحرمة القراءة على الجنب والحائض، ثم في أحد الحكمين لا فرق بين الآية القصيرة والطويلة، فكذلك في الحكم الآخر، وهو بناء على الأصل الذي بيناه لأبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أن الركن يتأدى بأدنى ما يتناوله الاسم.
(وإن جهر الإمام فيما يخافت فيه أو خافت فيما يجهر به يسجد للسهو)؛ لأن مراعاة صفة القراءة في كل صلاة بالجهر والمخافتة واجب على الإمام، فإذا ترك فقد تمكن النقصان والتغير في صلاته فعليه السهو، وذكر في نوادر أبي سليمان - رحمه الله تعالى - إن جهر فيما يخافت فعليه السهو قل أو كثر ذلك، وإن خافت فيما يجهر، فإن كان في أكثر الفاتحة أو في ثلاث آيات من غير الفاتحة فعليه السهو وإلا فلا. ووجهه أن صفة المخافتة في صلوات النهار ألزم من صفة الجهر في صلوات الليل، ألا ترى أن المنفرد في صلاة الجهر يتخير، وفي صلاة المخافتة لا يتخير فبنفس الجهر في صلوات المخافتة يتمكن النقصان، وبنفس المخافتة في صلوات الجهر لا يتمكن النقصان ما لم يكن في مقدار ثلاث آيات أو أكثر، وروى ابن سماعة عن محمد - رحمه الله تعالى - التسوية بين الفصلين أنه إن تمكن التغير في ثلاث آيات أو أكثر فعليه سجود السهو وإلا فلا، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - في آية واحدة وهو بناء على ما سبق أن عندهما لا يتأدى فرض القراءة إلا بثلاث آيات فما لم يتمكن التغير في هذا المقدار لا يجب سجود السهو، وعند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - يتأدى الفرض بآية واحدة، فإذا تمكن التغير في هذا القدر وجب السهو
قال: (وإن كان منفردا فليس عليه سجود السهو بهذا) أما في صلاة الجهر هو مخير بين الجهر والمخافتة فلا يتمكن النقصان في صلاته جهر أو خافت، وأما في صلاة المخافتة فجهر المنفرد بقدر إسماعه نفسه وهو غير منهي عن ذلك، فلهذا لا يلزمه السهو.
قال: (وسهو الإمام يوجب عليه وعلى المؤتم سجدتي السهو) ؛ لأنه شريك الإمام تبع له وقد تقرر السبب الموجب في حق الأصل، فيجب على التبع بوجوبه على الأصل، وسهو المؤتم لا يوجب شيئا، أما على الإمام فلا إشكال؛ لأنه ليس بتبع للمؤتم، وأما على المؤتم فلأنه لو سجد كان مخالفا لإمامه، وقد قال - عليه الصلاة والسلام: «فلا تختلفوا عليه».
قال: (وإذا سلم
في الرابعة ساهيا بعد قعود مقدار التشهد ولم يقرأ التشهد أو كان عليه سجدة تلاوة أو سجدة صلاتية عاد إلى قضاء ما عليه)؛ لأن سلامه سلام سهو وقد بقي عليه واجب محل أدائه قبل السلام، وقد ذكرنا أن بسلام السهو لا يصير خارجا من الصلاة، ثم إن عاد إلى سجدة التلاوة أو قراءة التشهد انتقض به القعدة، كما لو عاد إلى سجدة صلاتية؛ لأن قراءة التشهد واجبة محله قبل الفراغ من القعدة، وكذلك سجدة التلاوة محلها قبل القعدة، فالعود إليها يرفع القعدة كالعود إلى الصلاتية، حتى لو تكلم قبل أن يقعد بعدها فسدت صلاته لترك القعدة الأخيرة، بخلاف العود إلى سجود السهو، فإنه رافع للسلام دون القعدة؛ لأن محله بعد الفراغ من القعدة والسلام إلا أن ارتفاع السلام به للضرورة حتى يكون مؤديا في حرمة الصلاة، ولا ضرورة إلى ارتفاع القعدة به حتى لو تكلم بعدما سجد قبل أن يقعد فصلاته تامة، وإن كان قد سلم عامدا فقد قطع صلاته بسلام العمد، فإن كان ما ترك سجدة صلاتية فعليه إعادة الصلاة؛ لأنها ركن، وإن كان ما ترك سجدة التلاوة أو قرأ قراءة التشهد فليس عليه إعادة؛ لأنها واجبة، وترك الواجب يوجب الكراهة والنقصان، ولا يفسد الصلاة؛ لأن حكم الجواز متعلق بأداء الأركان، وعن زفر - رحمه الله تعالى - التسوية بين سجدة التلاوة والصلاتية والفرق بينهما واضح، فإن سجدة الصلاتية من موجبات التحريمة وسجدة التلاوة ليست من موجبات التحريمة، ولكنها وجبت بعارض قراءة آية السجدة فبتركها لا تفسد الصلاة، وإنما يتمكن النقصان وليس عليه سجود السهو كاسمه يجب عند تمكن السهو، ولا سهو إذا كان عامدا.
قال: (وإذا شك في شيء من صلاته ثم استيقن به، فإن طال تفكره حين شك حتى شغله عن شيء من صلاته سجد للسهو، وإن بطل تفكره فليس عليه سهو) ، وفي القياس هما سواء، ولا سهو عليه؛ لأنه لا يتمكن النقصان في صلاته حين تذكر أنه أداها على وجهها، ومجرد التفكر لا يوجب عليه السهو كما لو شك في صلاته قبل هذا ثم تذكر أنه أداها لا سهو عليه، وإن طال تفكره. وجه الاستحسان أنه إذا طال تفكره حتى شغله عن شيء من صلاته فقد تمكن النقصان بتأخير الركن عن أوانه، بخلاف ما إذا لم يطل تفكره، ثم السهو إنما يوجب السجدة إذا كان هذا في هذه الصلاة، فإذا شك في صلاة أخرى لم يكن سهوه في هذه الصلاة، فلهذا لا سهو عليه.
قال: (وإذا نهض من الركعتين ساهيا فلم يستتم قائما فقعد فعليه سجود السهو) لتمكن السهولة في صلاته، وفي ظاهر الرواية إذا لم يستتم قائما يعود، وإذا استتم قائما
لا يعود؛ لأنه جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه قام من الثانية إلى الثالثة قبل أن يقعد فسبحوا به فعاد، وروي أنه لم يعد ولكنه سبح بهم فقاموا». ووجه التوفيق بين الحديثين أن ما روي أنه عاد كان قبل أن يستتم قائما وما روي أنه لم يعد كان بعدما استتم قائما، وهذا لأنه لما استتم قائما اشتغل بفرض القيام وليس من الحكمة ترك الفرض للعود إلى السنة، بخلاف ما قبل أن يستتم قائما، وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه قال: إن كان إلى العود أقرب يعود؛ لأنه كالقاعد، وإن كان أقرب إلى القيام لا يعود كما استتم قائما.
قال: (وإذا سها في صلاته مرات لا يجب عليه إلا سجدتان) لقوله - عليه الصلاة والسلام: «سجدتان تجزئان عن كل زيادة أو نقصان»، ولأن سجود السهو إنما يؤخر إلى آخر الصلاة لكي لا يتكرر في صلاة واحدة بتكرر السهو.
قال: (وإذا أراد أن يقرأ سورة فأخطأ وقرأ غيرها لم يكن عليه سجود السهو) ؛ لأن ما قرأ وما أراد أن يقرأ في حكم الصلاة سواء فلا يتمكن النقصان في صلاته بهذا السبب.
وإذا سجد للسهو قبل السلام أجزأه؛ لأن فعله حصل في موضع الاجتهاد، ولأنا لو أمرناه بالإعادة بعد التسليم كان ساجدا للسهو مرتين في صلاة واحدة ولم يقل بها أحد، ولأن يكون فعله على وجه قال به بعض العلماء أولى من أن يكون على وجه ولم يقل به أحد.
قال: (وإن كان شك في سجود السهو عمل بالتحري ولم يسجد للسهو) لما بينا أن تكرار سجود السهو في صلاة واحدة غير مشروع، ولأنه لو سجد بهذا السهو ربما يسهو فيه ثانيا وثالثا فيؤدي إلى ما لا نهاية له، وحكي أن محمدا - رحمه الله تعالى - قال للكسائي وكان ابن خالته: لم لا تشتغل بالفقه مع هذا الخاطر، فقال: من أحكم علما فذلك يهديه إلى سائر العلوم، فقال محمد - رحمه الله تعالى - إني ألقي عليك شيئا من مسائل الفقه فخرج جوابه من النحو.؟ فقال: هات، فقال: ما تقول فيمن سها في سجود السهو ففكر ساعة.؟ فقال: لا سهو عليه. فقال: من أي باب من النحو خرجت هذا الجواب.؟ فقال: من باب أن المصغر لا يصغر فتعجب من فطنته.
قال: (وإن سلم وهو يريد أن لا يسجد لسهوه لم يكن ذلك قطعا ويسجد) ؛ لأن أوان السجود ما بعد السلام فلم يفته بهذا السلام شيء، ونيته أن لا يسجد حديث النفس فلا يعتد حكما، كما لو نوى أنه يتكلم في حال صلاته لم تفسد صلاته.
قال: (وإن سبقه الحدث بعدما سلم وبعد ما سجد سجدة واحدة للسهو توضأ وعاد فأتم) ؛ لأن حرمة الصلاة باقية وسبق الحدث لا يمنعه من البناء بعد الوضوء، وإن كان إماما استخلف
من يتم بالقوم كما لو سبقه الحدث في خلال الصلاة.
قال: (وإذا أحدث الإمام في خلال صلاته وقد سها فاستخلف رجلا، يسجد خليفته للسهو بعد السلام) ؛ لأنه قائم مقام الأول فعليه أن يأتي بما كان يأتي به الأول، وإن سها خليفته فيما يتم أيضا كفته سجدتان كما لو كان الأول سها مرتين؛ لأن الثاني قائم مقامه.
قال: (وإن لم يكن الإمام الأول سها لزمه سجود السهو لسهو الثاني) ؛ لأنه صار مقتديا بالثاني كغيره من القوم فيلزمه السهو لسهو إمامه، ألا ترى أن الثاني لو أفسد الصلاة على نفسه فسدت على الأول فكذلك بسهوه يتمكن النقصان في حق الأول.
قال: (ولو سها الأول بعد الاستخلاف لا يوجب سهوه شيئا) ؛ لأنه صار في حكم المقتدي، ألا ترى أنه لو أفسد صلاته لم تفسد به صلاة الثاني، ولا صلاة القوم.
قال: (ويسجد المسبوق مع الإمام سجود السهو قبل أن يقوم إلى قضاء ما سبق به) ، وعن إبراهيم النخعي - رحمه الله تعالى - أنه لا يسجد معه؛ لأن أوان سجود السهو بعد السلام وهو لا يتابعه في السلام فكيف يتابعه فيما يؤدي بعد السلام، ولكنا نقول بأن سجود السهو وجب على الإمام لعارض في صلاته فيتابعه المسبوق فيها كما يتابعه في سجدة التلاوة، ولأن أوان قيامه إلى القضاء ما بعد فراغ الإمام فما دام الإمام مشغولا بواجب من واجبات الصلاة مؤديا في حرمة الصلاة لا يمكنه أن يقوم إلى القضاء فعليه متابعة الإمام فيها، وإن لم يفعل سجد في آخر صلاته استحسانا، وفي القياس لا يسجد؛ لأن وجوب هذه السجدة عليه في حالة الاقتداء وقد صار منفردا فيما يقضي، وكان هذا بمنزلة ما لو اشتغل بصلاة أخرى؛ لأن حكم صلاة المنفرد مخالف لحكم صلاة المقتدي، ووجه الاستحسان في ذلك أنه يبني ما يقضي على تلك التحريمة وهو بعد القضاء منفرد في الأفعال مقتد في التحريمة، حتى لا يصح اقتداء الغير به فلهذا يسجد لذلك السهو.
قال: (وإن سها فيما يقضي كفاه سجدتان لسهوه) ولما عليه من قبل الإمام؛ لأن التحريمة واحدة فبتكرر السهو فيها لا يتكرر السجود، وإن كان قد سجد مع الإمام لسهوه سجد في آخر صلاته؛ لأن ما أداه مع الإمام بطريق المتابعة فلا ينوب عما لزمه مقصودا بنفسه، (فإن قيل قد تكرر عليه سجود السهو في تحريمة واحدة (قلنا التحريمة واحدة صورة، فأما الأفعال مختلفة في الحكم لكونه منفردا فيما يقضي بعد إن كان مقتديا في أصل الصلاة فنزل هذا بمنزلة اختلاف الصلوات.
قال: (وإذا دخل المسبوق في صلاته بعدما سلم قبل أن يسجد سجد
معه الإمام)؛ لأن الإمام حين عاد إلى سجود السهو صح اقتداء المقتدي به فيتابعه فيما أدرك معه، وإن لم يسجد معه قضى في آخر صلاته استحسانا كما بينا.
قال: (وإذا دخل في صلاته بعدما سجد سجدة واحدة وهو في الثانية، فإنه يسجدها معه) وهو لا يقضي الأول، وكذلك إذا دخل في صلاته بعدما سجدها لم يقضها؛ لأن الوجوب عليه بحكم المتابعة، وإنما يتحقق ذلك فيما لم يفرغ الإمام منه قبل اقتدائه به، فأما فيما فرغ منه الإمام فلا متابعة، ولا يتقرر السبب في حقه.
قال: (ولا يتابع المسبوق الإمام في التكبير في أيام التشريق) بخلاف سجود السهو؛ لأن التكبير غير مؤدى في حرمة الصلاة حتى أن من اقتدى به في حالة التكبير لا يصح اقتداؤه به، وكذلك لا يسلم بعد التكبير بخلاف سجود السهو؛ لأنه مؤدى في حرمة الصلاة حتى يسلم بعده، ويصح اقتداء المقتدي به في هذه الحالة، والتكبير في هذا كالتلبية في حق المحرم بعد فراغه من الصلاة، فكما لا يتابعه المسبوق في التلبية فكذلك في التكبير، إلا أنه إن تابعه في التكبيرات لا تفسد صلاته؛ لأنه من أذكار الصلاة، وإن تابعه في التلبية تفسد صلاته لأنه من جنس الكلام، فإنه إجابة للداعي والدليل عليه كاف الخطاب فيه.
قال: (وإذا ذكر سجدتين من ركعتين بدأ بالأولى منهما) ؛ لأن القضاء معتبر بالأداء كما أن الثانية تترتب على الأولى في الأداء فكذلك في القضاء، وعند الشافعي - رضي الله تعالى عنه - من ترك سجدة وصلى بعدها ركعة أو ركعتين يأتي بتلك السجدة ويعيد ما صلى بعدها؛ لأنه حصل قبل أوانه وهو بناء على أصله أن زيادة ركعة أو ركعتين كزيادة ما دون الركعة في احتمال الإلغاء، فأما عندنا زيادة الركعة الواحدة لا تحتمل الإلغاء، والركعة تتقيد بالسجدة الواحدة فأداء الركعة الثانية إذا معتبر فليس عليه قضاء إلا قضاء المتروك، وترك السجود مخالف لترك الركوع؛ لأن كل سجود لم يسبقه ركوع لا يعتد به، فإن السجود تتقيد الركعة به، وذلك لا يتحقق قبل الركوع، وكذلك إذا كانت إحداهما لتلاوة، وقال زفر - رحمه الله - يبدأ بالصلاتية؛ لأنها أقوى، ولكنا نقول: القضاء معتبر بالأداء، فإذا كانت سجدة التلاوة من الركعة الأولى والصلاتية من الركعة الثانية بدأ بالتلاوة لتقدم وجوبها.
قال: (وإذا سلم وانصرف ثم تذكر أن عليه سجدة صلاتية أو سجدة تلاوة، فإن كان في المسجد ولم يتكلم عاد إلى صلاته استحسانا) ، وفي القياس إذا صرف وجهه عن القبلة لم يمكنه أن يعود إلى صلاته وهي رواية عن محمد - رحمه الله تعالى -، فإن صرف الوجه عن القبلة مفسد للصلاة كالكلام فيمنعه من البناء.
وجه الاستحسان هو أن المسجد مكان الصلاة فبقاؤه فيه كبقائه في مكان الصلاة، والدليل على أنه في حكم مكان واحد صحة الاقتداء بالإمام لمن هو في المسجد، وإن كان بينهما فرجة صرف الوجه عن القبلة غير مفسد للصلاة كما في حق الملتفت في الصلاة، وإن كان قد خرج من المسجد استقبل الصلاة في الصلاتية خاصة لما بينا أنها ركن والخروج من مكان الصلاة يمنعه من البناء وإن كان في الصحراء، فإن تذكر قبل أن يجاوز أصحابه عاد في الصلاة؛ لأن بحكم اتصال الصفوف صار ذلك الموضع كالمسجد بدليل صحة الاقتداء، ولم يذكر في الكتاب إذا كان يمشي أمامه، قيل: وقته بقدر الصفوف خلفه اعتبارا لأحد الجانبين بالآخر، والأصح أنه إذا جاوز موضع سجوده فذلك في حكم خروجه من المسجد يمنعه من البناء بعد ذلك.
قال: (رجل صلى الظهر خمس ركعات ولم يقعد في الرابعة، قال صلاته فاسدة) ، وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - لا تفسد لما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر خمسا» ولم ينقل أنه كان قعد في الرابعة، ولا أنه أعاد صلاته، وهو بناء على الأصل الذي بينا أن الركعة الكاملة في احتمال النقص وما دونهما سواء، فكما أنه لو تذكر قبل أن يقيد الخامسة بالسجدة تمكن من إصلاح صلاته بالعود إلى القعود فكذلك بعدما قيدها بالسجدة،.
(ولنا) أنه اشتغل بالنفل قبل إكمال الفريضة، ولأن القعدة من أركان الصلاة، والركعة الخامسة نفل لا محالة؛ لأن الظهر لا يكون أكثر من أربع ركعات، ومن ضرورة استحكام شروعه في النفل خروجه عن الفرض، والخروج من الفرض قبل إكماله مفسد للفرض، بخلاف ما قبل تقيد الركعة بالسجدة؛ لأن ما دون الركعة ليس لها حكم الصلاة، حتى أن من حلف أن لا يصلي لم يحنث بما دون الركعة فلم يستحكم شروعه في النفل بما دون الركعة، والحديث تأويله أنه كان قعد قدر التشهد في الرابعة، بدليل أنه قال: صلى الظهر، والظهر اسم لجميع أركان الصلاة ومنها القعدة وهو الظاهر، فإنما قام إلى الخامسة على تقدير أنها هي القعدة الأولى حملا لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما هو أقرب إلى الصواب قال: (وأحب إلي أن يشفع الخامسة بركعة ثم يسلم ثم يستقبل الظهر) وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، فأما عند محمد - رحمه الله تعالى - فبالفساد يصير خارجا من الصلاة؛ لأن للصلاة عنده جهة واحدة، ولأن ترك القعدة في التطوع في كل شفع عنده مفسد للصلاة، فأما عندهما تفسد الفريضة ويبقى أصل الصلاة تطوعا فيشفعها بركعة واحدة؛ لأن
ترك القعدة عقيب كل شفع عندهما غير مفسد للتطوع، وإن كان قعد في الرابعة قدر التشهد فقد تمت الظهر والخامسة تطوع؛ لأن قيامه إلى النافلة كان بعد إكمال الفرض فلا يفسد به الفرض، ويشفع الخامسة بركعة فيكون متطوعا بركعتين، وإن لم يفعل فلا شيء عليه.
وقال زفر - رحمه الله تعالى - عليه قضاء ركعتين وهو بناء على ما إذا شرع في صوم أو في صلاة على ظن أنه عليه؛ لأن شروعه ههنا في الخامسة على ظن أنها عليه، والأولى أن يشفعها بركعة؛ لأن ما دون الركعة لا يكون صلاة تامة كما قال ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - والله ما أخرت ركعة قط، وإذا شفعها بركعة فعليه أن يسجد للسهو استحسانا، وفي القياس لا سهو عليه؛ لأن تمكن السهو كان في الفرض وقد أدى بعدها صلاة أخرى، وفي الاستحسان إنما بنى النفل على التحريمة التي يمكن فيها السهو فيأتي بسجود السهو لبقاء التحريمة وهو قياس المسبوق الذي قدمناه، والأصح أن هاتين الركعتين لا تنوبان عن السنة التي بعد الظهر؛ لأن شروعه كان لا عن قصد ولهذا لم يلزمه، والسنة ما شرع فيه عن قصد الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما واظب عليه.
قال: (رجل افتتح الصلاة فقرأ وركع ولم يسجد ثم قام فقرأ وسجد ولم يركع فهذا قد صلى ركعة) ؛ لأن ركوعه الأول توقف على أن يتقيد بالسجدة والقيام، والقراءة بعده غير معتد به فحين سجد تقيد ركوعه به فكان مصليا ركعة واحدة، وكذلك إن ركع أولا ثم قرأ وركع وسجد، فإنما صلى ركعة؛ لأن ركوعه الأول حصل في أوانه، والثاني وقع مكررا فلا يعتد به فبسجوده يتقيد الركوع الأول.
وكذلك إن قرأ أولا وسجد سجدتين ولم يركع ثم قام فقرأ وركع ولم يسجد، ثم قام فقرأ وسجد ولم يركع، فإنما صلى ركعة؛ لأن سجوده الأول حصل قبل أوانه فلا يعتد به، فحين قرأ وركع توقف هذا الركوع على التقيد بسجوده بعده، فحين سجد بعد القراءة تقيد به ذلك الركوع فكان مصليا ركعة.
وكذلك إن ركع في الأولى ولم يسجد وركع في الثانية ولم يسجد وسجد في الثالثة ولم يركع، فإنما صلى ركعة واحدة؛ لأن الركوع الأول توقف على السجود فحين سجد في الثالثة تقيد بها الركوع الأول فصار مصليا ركعة وعليه سجود السهو لتمكن السهولة بما زاد، ولا تفسد صلاته إلا في رواية عن محمد - رحمه الله تعالى -، فإنه يقول: زيادة السجدة الواحدة كزيادة الركعة بناء على أصله أن السجدة الواحدة قربة بيانه في سجود الشكر، فأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى - السجدة الواحدة ليست بقربة إلا سجدة التلاوة، وزيادة ما دون الركعة لا يكون مفسدا للصلاة.
قال: (وإذا سها المصلي
فسجد في ركعة واحدة ثلاث سجدات أو ركع ركوعين لم تفسد صلاته) لما بينا أنه إنما زاد ما دون الركعة.
قال: (وإذا سها الإمام ثم أحدث فاستخلف مسبوقا فأتم المسبوق بقية صلاة الإمام تأخر من غير أن يسلم) ؛ لأن عليه القضاء لما فاته فكان عاجزا عن التسليم، وأوان سجود السهو ما بعد التسليم، فقلنا: يتأخر ويقدم مدركا يسلم بهم، ويسجد سجدتي السهو، وسجد هو معهم كما لو كان الإمام الأول هو الذي يسجد لسهوه ثم يقوم إلى قضاء ما سبق به وحده، وإن لم يسجد مع خليفته سجد للسهو في آخر صلاته استحسانا، وقد بينا هذا في حق الإمام الأول فكذلك هنا.
قال: (وكذلك المقيم خلف المسافر يتابعه في سجود السهو) ثم يقوم إلى إتمام صلاته، وإن سها فيما يقضي سجد أيضا، وهذه ثلاث فصول أحدها في المسبوق وقد بيناه والثاني في اللاحق إذا نام خلف الإمام أو أحدث فذهب وتوضأ ثم جاء، فإنه يبدأ بإتمام صلاته أولا، ولا يتابع الإمام في سجود السهو قبل إتمام صلاته؛ لأن اللاحق في حكم المقتدي فيما يتم، وسهو المقتدي متعطل ولهذا لا يقرأ فيما يتم، والمسبوق يقضي كالمنفرد، ولهذا تلزمه القراءة فيلزمه سجود السهو أيضا، ولا يقوم إلى القضاء إلا بعد إتمام خروج الإمام من صلاته، وذلك بعد سجود السهو، والثالث في المقيم خلف المسافر إذا قام إلى إتمام صلاته لم تلزمه القراءة فيما يتم رواية واحدة؛ لأن فرض القراءة في الأوليين وقراءة الإمام فيهما تكون قراءة له، فأما في حكم السهو ففي الكتاب جعله كالمسبوق، فقال: يتابع الإمام في سجود السهو، وإذا سها فيما يتم فعليه سجود السهو أيضا؛ لأنه في الإتمام غير مقتد، وكيف يكون مقتديا فيما ليس على إمامه، والإمام لو أتم صلاته أربعا كان متنفلا في الأخريين، ولو جعلناه مقتديا فيهما كان كاقتداء المفترض بالمتنفل، وذكر الكرخي - رحمه الله تعالى - في مختصره أنه كاللاحق لا يتابع الإمام في سجود السهو، وإذا سها فيما يتم لم يلزمه سجود السهو؛ لأنه مدرك لأول الصلاة فكان في حكم المقتدي فيما يؤديه بتلك التحريمة كاللاحق.
قال: (وإن سجد اللاحق مع الإمام للسهو لم يجزه) ؛ لأنه سجد قبل أوانه في حقه فعليه أن يعيد إذا فرغ من قضاء ما عليه، ولكن لا تفسد صلاته؛ لأنه ما زاد إلا سجدتين (فإن قيل أليس أن المسبوق لو تابع الإمام في سجود السهو تبين أنه لم يكن على الإمام سهو، فصلاة المسبوق فاسدة وما زاد إلا سجدتين (قلنا فساد صلاته ليس للزيادة بل لأنه اقتدى في موضع كان عليه الانفراد في ذلك الموضع ومثله غير موجود هاهنا فاللاحق مقتد في جميع ما يؤدي
فلهذا لم تفسد صلاته.
قال: (ولو كان الإمام لم يقرأ في الأوليين ثم اقتدى به إنسان في الأخريين فقرأ الإمام فيهما ثم قام المسبوق إلى قضاء ما سبق به فعليه القراءة، وإن ترك ذلك لم تجزئه صلاته) ؛ لأن الإمام قضى في الأخريين ما فاته من القراءة في الأوليين، والفائت إذا قضي التحق بمحله، فكأنه قرأ في الأوليين ما فاته من القراءة فلهذا يجب على المسبوق القراءة أيضا، بخلاف المقيم خلف المسافر، فإن القراءة من الإمام في الأوليين كانت أداء، والمقيم شريكه فيهما، وكذلك إذا كان المسبوق قرأ خلف الإمام فيما صلى معه فعليه القراءة فيما يقضي؛ لأن قراءته فيما هو مقتد فيه مكروه غير معتد بها، فلا يتأدى بها فرض القراءة في حقه.
قال: (وإذا قام المسبوق إلى قضاء ما عليه بعدما تشهد الإمام قبل أن يسلم فقضاه أجزأه) ؛ لأن قيامه حصل بعد فراغ الإمام من أركان الصلاة ولكنه مسيء في ترك الانتظار لسلام الإمام، فإن أوان قيامه للقضاء ما بعد خروج الإمام من الصلاة، فإن قام إليه وقضى قبل أن يقعد الإمام قدر التشهد لم يجزه؛ لأن قيامه كان قبل أوانه، فإن الإمام لم يفرغ من أركان الصلاة بعد؛ لأن القعدة من أركانها. ثم فسر هذه المسألة في نوادر أبي سليمان فقال: إن كان مسبوقا بركعة أو ركعتين، فإن قرأ بعد فراغ الإمام من التشهد مقدار ما يتأدى به فرض القراءة جازت صلاته وإلا فلا؛ لأن قيامه وقراءته غير معتد بهما ما لم يفرغ الإمام من التشهد، ويجعل هو في الحكم كالقاعد معه؛ لأن ذلك مستحق عليه، فإنما تعتبر قراءته بعد فراغ الإمام من التشهد، وإن كان مسبوقا بثلاث ركعات، فإن لم يركع حتى فرغ الإمام من التشهد ثم ركع وقرأ في الركعتين بعد هذه جازت صلاته، وإن كان ركع قبل فراغ الإمام من التشهد لم تجزه صلاته؛ لأن القيام فرض في كل ركعة فلا يعتد بقيامه ما لم يفرغ الإمام من التشهد ففرض القراءة هو الركعتان، فإذا فرغ الإمام من التشهد قبل أن يركع هو فقد وجد القيام في هذه الركعة والقراءة في الركعتين بعده فتجوز صلاته، وإن كان ركع قبل فراغ الإمام من التشهد فلم يوجد منه قيام معتد به في هذه الركعة فلهذا فسدت صلاته، وإن كان قام بعد ما تشهد الإمام وعليه سجود السهو فقرأ وركع فإنه يرفض ذلك ويخر فيسجد مع الإمام؛ لأنه لم يستحكم انفراده بأداء ما دون الركعة، فعليه أن يعود إلى متابعة الإمام ثم يقوم للقضاء، ولا يعتد بما كان يصنع؛ لأنه صار رافضا لها بالعود إلى المتابعة، فإن لم يعد إلى المتابعة جازت صلاته ويسجد للسهو في آخر صلاته استحسانا.
قال: (وإن كان ركع وسجد ثم عاد
الإمام إلى سجود السهو لم يعد إلى متابعته)؛ لأنه قد استحكم انفراده بأداء ركعة كاملة، وإن عاد إلى متابعته فسدت صلاته؛ لأنه اقتدى في موضع كان عليه الانفراد في ذلك الموضع، وهذه ثلاث فصول أحدها في السهو وقد بيناه والثاني في الصلاتية إذا تذكر الإمام سجدة صلاتية بعدما قام المسبوق إلى القضاء، فإن لم يكن قيد الركعة بالسجدة عاد إلى متابعة الإمام فيها وسجد، وإن لم يفعل فصلاته فاسدة، وإن كان قيد ركعته بالسجدة فصلاته فاسدة عاد إلى المتابعة أو لم يعد؛ لأن الصلاتية من أركان الصلاة، ألا ترى أن الإمام لو لم يأت بها كانت صلاته فاسدة فكذلك إذا لم يتابعه المسبوق بها، وبعد إكمال الركعة هو عاجز عن المتابعة، والثالث إذا تذكر الإمام سجدة التلاوة، فإن كان المسبوق لم يقيد ركعته بالسجدة فعليه أن يعود إلى متابعة الإمام، وإن لم يفعل فصلاته فاسدة؛ لأن عود الإمام إلى سجدة التلاوة يرفع القعدة، بدليل أنه لو لم يقعد بعدها لم تجز صلاته، والقعدة من أركانها كالصلاتية، وإن كان المسبوق قيد ركعته بالسجدة قبل أن يعود الإمام إلى سجدة التلاوة ثم عاد الإمام، فإن تابعه المسبوق فصلاته فاسدة رواية واحدة، وإن لم يتابعه ففيه روايتان قال في الأصل: صلاته فاسدة أيضا؛ لأن عود الإمام إلى سجدة التلاوة ينقض القعدة، وهو والصلاتية سواء، وفي نوادر أبي سليمان لا تفسد صلاته؛ لأنه لو ترك تلك القعدة جازت صلاته بخلاف الصلاتية. وفقه هذا أن قعوده كان معتدا به، وإنما انتقض في حقه بالعود إلى سجدة التلاوة، وذلك بعدما استحكم انفراد المسبوق عنه فلا يتعدى حكمه، ألا ترى أن إماما لو صلى بقوم ثم ارتد بطلت صلاته ولا تبطل صلاة القوم، وكذلك لو صلى الظهر بقوم يوم الجمعة ثم راح إلى الجمعة فأدركها انقلب المؤدى في حقه تطوعا وبقي فرضا في حق القوم.
قال: (وإذا اقتدى أحد المسبوقين بالآخر فيما يقضيان فسدت صلاة المؤتم) ؛ لأنه اقتدى في موضع كان عليه الانفراد، ولأنه كان مقتديا بالإمام الأول في بعض صلاته، والآخر ليس بخليفة الأول، وكان هذا أداء صلاة بإمامين، وذلك لا يجوز لما بينا، وكذلك المقيمان خلف المسافر إذا قاما إلى إتمام صلاتهما فاقتدى أحدهما بالآخر فصلاة المقتدي فاسدة لما بينا.
قال: (وإذا اقتدى مصلي التطوع بمصلي الظهر في القعدة الأخيرة فعليه قضاء أربع ركعات) ، وكذلك لو اقتدى به في أول الصلاة ثم قطعها؛ لأنه صار بالاقتداء ملتزما صلاة الإمام وصلاة الإمام أربع ركعات.
قال: (وإذا افتتح الظهر وهو ينوي أن يصليها ستا ثم بدا له فسلم على الأربع تمت صلاته)




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #24  
قديم 28-09-2025, 03:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الاول
صـــ 222 الى صـــ 242
(24)






وليس عليه شيء؛ لأنه أساء فيما نوى ثم ندم، والندم توبة ومجرد النية لا يوجب شيئا ما لم يشرع، وإنما حصل شروعه في الظهر والظهر لا يكون أكثر من أربع ركعات وقد أداها، (وكذلك لو افتتحها المسافر ينوي أن يصليها أربعا ثم بدا له فصلى ركعتين فصلاته تامة) ؛ لأن الظهر في حق المسافر ركعتان كالفجر في حق المقيم فنية الزيادة على ذلك لغو، وكذلك لو نوى أن يقطعها بكلام أو غيره فتلك النية ساقطة ما لم يعمل بها لقوله - عليه الصلاة والسلام: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسهم ما لم يتكلموا أو يعملوا»
قال: (وإذا لم يقرأ في ركعة من التطوع أو في ركعة من الفجر فسدت صلاته) ؛ لأن فرض القراءة في الركعتين، والقراءة في الركعة الواحدة وإن طالت لا تنوب عن القراءة في الركعتين، ولا يمكنه أن يصلي بعد الركعة ركعتين؛ لأن الفجر لا يكون ثلاث ركعات فلهذا تعين جهة الفساد في صلاته.
قال: (وإذا توهم مصلي الظهر أنه قد أتمها فسلم ثم علم أنه صلى ركعتين وهو على مكانه، فإنه يتمها ثم يسجد للسهو) ؛ لأن سلامه كان سهوا فلم يصر به خارجا من الصلاة، وهذا بخلاف ما إذا ظن أنه مسافر أو أنه يصلي الجمعة فسلم على رأس الركعتين فصلاته فاسدة؛ لأنه علم بالقدر الذي أدى فسلامه سلام عمد، وذلك قاطع لصلاته وظنه ليس بشيء، فأما إذا كان عنده أن هذه هي القعدة الأخيرة فسلامه سلام سهو فلم تفسد به صلاته
قال: (وإذا لم يسلم ولكنه نوى القطع لصلاته والدخول في صلاة أخرى تطوعا وهو ساه وقد كبر ثم ذكر ذلك، فإنه يمضي على التطوع ثم يعيد الظهر) ؛ لأن تكبيره بنية التطوع قطع لما كان فيه وشروع في التطوع فيتم ما شرع فيه ثم يعيد ما كان قطعه قبل إتمامه.
قال: (وإذا سها الإمام في صلاة الخوف سجد للسهو وتابعه فيهما الطائفة الثانية، فأما الطائفة الأولى، فإنما يسجدون إذا فرغوا من الإتمام) ؛ لأن الطائفة الثانية بمنزلة المسبوقين لم يدركوا مع الإمام أول الصلاة، والطائفة الأولى بمنزلة اللاحقين قد أدركوا مع الإمام أول الصلاة.
قال: (رجل افتتح الصلاة فقرأ ثم شك في تكبيرة الافتتاح وأعاد التكبير والقراءة ثم علم أنه كان كبر فعليه سجود السهو) ؛ لأنه زاد على التكبيرة والقراءة ساهيا، وكذلك إن كان ركع قبل أن يشك بنى على ذلك الركوع وليس تكبير الثاني يقطع الصلاة؛ لأنه نوى عندها إيجاد الموجود، ونية الإيجاد فيما هو موجود لغو، بقي مجرد التكبير وهو ليس يقطع الصلاة. وإن كان في الظهر فتوهم أنه في العصر وصلى في ذلك ركعة أو ركعتين فلا سهو عليه؛ لأنه ما عين شيئا من أفعال الصلاة وتعين النية كأصلها شرط
افتتاح الصلاة لا شرط البقاء، فإن تفكر في ذلك تفكرا شغله عن ركن فعليه سجود السهو وقد بينا
قال: (وإذا قعد المصلي في آخر صلاته قدر التشهد ثم شك في شيء من صلاته حتى شغله ذلك عن التسليم ثم ذكر أنه في الصلاة فسلم فعليه سجود السهو) لتأخيره السلام، ولهذا قلنا: أوان سجود السهو ما بعد السلام؛ لأن بعد الفراغ من التشهد قبل السلام أوان وجوب سجود السهو فيؤخر الأداء عنه كما قبل القعدة، وإن عرض له ذلك بعدما سلم تسليمة واحدة فلا سهو عليه؛ لأنه بالتسليمة الواحدة صار خارجا من الصلاة، والثانية لتعميم القوم بها فلم يتمكن له سهو في صلاته
قال: (وإذا أحدث في صلاته فذهب فتوضأ فعرض له هذا الشك حتى شغله عن وضوئه ساعة فعليه سجدتا السهو) ؛ لأن حرمة الصلاة باقية بعد الحدث، فإنما تمكن له هذا السهو في صلاته.
قال: (وإذا صلى ركعتين تطوعا وسها فيهما فسجد لسهوه بعد التسليم ثم أراد أن يبني عليهما ركعتين لم يكن له ذلك) ؛ لأنه لو فعل كان سجوده للسهو في وسط الصلاة، وذلك غير مشروع بخلاف المسافر إذا صلى الظهر ركعتين وسجد للسهو ثم نوى الإقامة، فإنه يقوم لإتمام صلاته؛ لأن هناك إن حصل سجود السهو في خلال الصلاة فذلك لمعنى شرعي لا يفعل مباشرة باختياره. وحقيقة الفرق أن السلام محلل ثم بالعود إلى سجود السهو تعود حرمة الصلاة للضرورة، وهذه الضرورة فيما يرجع إلى إكمال تلك الصلاة لا في صلاة أخرى، ونية الإقامة عملها في وجوب إكمال تلك الصلاة فيظهر عود الحرمة في حقها، فأما كل شفع من التطوع صلاة على حدة ولم تعد الحرمة في حق صلاة أخرى، فلهذا لا يمكنه أن يبني عليها ركعتين.
قال: (رجل صلى العشاء فسها فيها فقرأ آية التلاوة ولم يسجدها وترك سجدة من كل ركعة ساهيا ثم سلم، فإن كان ناسيا للكل لم تفسد صلاته) ؛ لأن هذا سلام السهو (وإن كان ذاكرا للصلاتية حين سلم فصلاته فاسدة) ؛ لأنه سلام عمد (وإن كان ذاكرا لسجدة التلاوة ناسيا للصلاتية فصلاته فاسدة) أيضا، وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه لا تفسد صلاته، ووجهه أن سجدة التلاوة من الواجبات دون الأركان فسلامه فيما هو ركن سلام، وذلك لا يفسد الصلاة، ووجه ظاهر الرواية أنه سلم وهو ذاكر لواجب يؤدى قبل السلام فكان سلامه قطعا لصلاته، وإنما قطعها قبل إتمام أركانها، ولأنا لو لم تفسد صلاته حتى يأتي بالصلاتية لزمنا أن نقول يأتي بسجدة التلاوة أيضا لبقاء التحريمة، ولا وجه إلى ذلك فقد سلم وهو ذاكر
للتلاوة فكان قطعا في حقه، وقراءة التشهد الأخير في هذا الحكم كسجدة التلاوة؛ لأنه واجب ليس بركن.
قال: (وإذا قرأ الرجل في الصلاة شيئا من التوراة والإنجيل والزبور وهو يحسن القرآن أو لا يحسنه لم تجزئه) ؛ لأنه كلام ليس بقرآن، ولا تسبيح، ومعنى هذا أن قد ثبت لنا أنهم قد حرفوا وبدلوا فلعل ما قرأ مما حرفوا، وهذا كلام الناس، ولأن النقل المتواتر الذي لا يثبت كلام الله إلا به غير موجود فيما هو في أيديهم الآن، والواجب عليه بالنص قراءة القرآن، وهذا ليس بقرآن فلا يقطع القول بأن ما قرأ كلام الله تعالى، فلهذا فسدت صلاته، وقيل: هذا إذا لم يكن موافقا لما في القرآن، وأما إذا كان ما قرأ موافقا لما في القرآن تجوز به الصلاة عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -؛ لأنه تجوز قراءة القرآن بالفارسية وغيرها من الألسنة، فيجعل كأنه قرأ القرآن بالسريانية والعبرانية فتجوز الصلاة عنده لهذا.
قال: (وإن نسي القنوت في الوتر ثم ذكر بعد ما رفع رأسه من الركوع لم يقنت) ؛ لأنه سنة فاتت عن موضعها، فإن أوان القنوت قبل الركوع، وما كان سنة في محله يكون بدعة في غير محله، ولأنه لو قنت لكان بعد الركوع، والفرض لا ينتقض بالسنة وبه فارق قراءة السورة؛ لأن القراءة ركن، وإذا قرأ السورة كان مفترضا فيما يقرأ فينتقض به الركوع
قال: (وإذا تذكر القنوت وهو راكع ففيه روايتان) في إحداهما يعود؛ لأن حالة الركوع كحالة القيام، ولهذا لو أدرك الإمام فيها كان مدركا للركعة، ولهذا يعود لتكبيرات العيد إذا ذكرها في الركوع فكذلك للقنوت. وفي الرواية الأخرى لا يعود للقنوت؛ لأن الركوع فرض، ولا يترك الفرض بعدما اشتغل به للعود إلى السنة كما لو قام إلى الثالثة قبل أن يقعد بخلاف تكبيرات العيد، فإنها لم تسقط فالركوع محل لها، حتى إذا أدرك الإمام في الركوع يأتي بها، فلهذا يعود لأجلها، فأما القنوت فقد سقط بالركوع؛ لأنه ليس بمحل له فالقنوت مشبه بالقراءة، وحالة الركوع ليس بحالة القراءة، فبعدما سقط لا يعود لأجله وعليه سجدة السهو على كل حال عاد أو لم يعد قنت أو لم يعد يقنت لتمكن النقصان في صلاته لسهوه.
قال: (ولو صلى ركعتين تطوعا فسها فيهما وتشهد ثم قام فصلى ركعتين فعليه أن يسجد لسهوه في الأوليين) ؛ لأن الشفع الثاني مبني على التحريمة التي تمكن فيها السهو فلا يمنعه من أداء سجود السهو، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
[باب صلاة المسافر]
قال: - رضي الله تعالى عنه - (وأقل ما يقصر فيه الصلاة في السفر إذا قصد مسيرة ثلاثة أيام) وفسره في الجامع الصغير بمشي الأقدام وسير الإبل فهو الوسط؛ لأن أعجل السير سير البريد، وأبطأ السير سير العجلة، وخير الأمور أوسطها، وهذا مذهب ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، وإحدى الروايتين عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -، وعنه في رواية أخرى التقدير بيوم وليلة، وهو قول الزهري والأوزاعي رحمهما الله تعالى، وقال مالك - رضي الله تعالى عنه - أربعة برد كل بريد اثنا عشر ميلا، واستدل بحديث مجاهد وعطاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة فيما دون مكة إلى عسفان، وذلك أربعة برد»، وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - في قول: التقدير بيوم وليلة، وفي قول: التقدير بستة وأربعين ميلا لحديث مجاهد - رضي الله تعالى عنه - قال: سألت ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - عن أدنى مدة السفر، فقال: أتعرف السويداء فقلت: قد سمعت بها، فقال: كنا إذا خرجنا إليها قصرنا، ومن السويداء إلى المدينة ستة وأربعون ميلا، وقال: نفاه القياس لا تقدير لأدنى مدة السفر لظاهر قوله تعالى {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح} [النساء: 101] الآية، فإثبات التقدير يكون زيادة ولكنا نقول: ثبت بالنص أن المراد السفر، وقد قال في آية أخرى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر} [البقرة: 184] والخارج إلى حانوت أو إلى ضيعة لا يسمى مسافرا، فلا بد من إثبات التقدير لتحقيق اسم السفر.
وإنما قدرنا بثلاثة أيام لحديثين: أحدهما قوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها» معناه ثلاثة أيام، وكلمة فوق صلة كما في قوله تعالى: {فاضربوا فوق الأعناق} [الأنفال: 12] وهي لا تمنع من الخروج لغيره بدون المحرم، وقال - صلى الله عليه وسلم: «يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» فهو تنصيص على أن مدة السفر لا تنقص عما يمكن استيفاء هذه الرخصة فيها، والمعنى فيه أن التخفيف بسبب الرخصة لما فيه من الحرج والمشقة، ومعنى الحرج والمشقة أن يحتاج إلى أن يحمل رحله من غير أهله ويحطه في غير أهله، وذلك لا يتحقق فيما دون الثلاثة؛ لأن في اليوم الأول يحمل رحله من غير أهله، وفي اليوم الثاني إذا كان مقصده يحطه في أهله، وإذا كان التقدير بثلاثة أيام ففي اليوم الثاني يحمل رحله من غير أهله، ويحطه في غير أهله، فيتحقق معنى الحرج، فلهذا قدرنا بثلاثة أيام ولياليها ولهذا قدر
بعض أصحابنا بثلاث مراحل؛ لأن المعتاد من السفر في كل يوم مرحلة واحدة خصوصا في أقصر أيام السنة، وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه قدر بيومين والأكثر من اليوم الثالث، فأقام الأكثر من اليوم الثالث مقام الكمال، وهكذا رواه الحسن عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى؛ لأنه إذا بكر واستعجل في اليوم الثالث وصل إلى المقصد قبل غروب الشمس فأقمنا الأكثر من اليوم الثالث مقام الكمال، ولا معنى للتقدير بالفراسخ، فإن ذلك يختلف باختلاف الطرق في السهول والجبال والبحر والبر، وإنما التقدير بالأيام والمراحل، وذلك معلوم عند الناس فيرجع إليهم عند الاشتباه، فإذا قصد مسيرة ثلاثة أيام قصر الصلاة حين تخلف عمران المصر؛ لأنه مادام في المصر فهو ناوي السفر لا مسافر، فإذا جاوز عمران المصر صار مسافرا لاقتران النية بعمل السفر، والأصل فيه حديث علي - رضي الله تعالى عنه - حين خرج من البصرة يريد الكوفة صلى الظهر أربعا ثم نظر إلى خص أمامه فقال: لو جاوزنا ذلك الخص صلينا ركعتين.
قال: (وأقل مدة الإقامة خمسة عشر يوما) وهو قول ابن عمر، وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - أربعة أيام وهو قول عثمان - رضي الله تعالى عنه -، فإنه كان يقول: من أقام أربعا صلى أربعا ولم يأخذ به لحديث جابر - رضي الله تعالى عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة وخرج منها إلى منى في الثامن من ذي الحجة، وكان يقصر الصلاة حتى قال بعرفات: يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر»، وإنما قدرنا بخمسة عشر يوما؛ لأن التقدير إنما يكون بالأيام أو بالشهور، والمسافر لا يجد بدا من المقام في المنازل أياما للاستراحة أو لطلب الرفقة فقدرنا أدنى مدة الإقامة بالشهور، وذلك نصف شهر، ولأن مدة الإقامة في معنى مدة الطهر؛ لأنه يعيد ما سقط من الصوم والصلاة، فكما يتقدر أدنى مدة الإقامة في معنى الطهر بخمسة عشر يوما فكذلك أدنى مدة الإقامة، ولهذا قدرنا أدنى مدة السفر بثلاثة أيام اعتبارا بأدنى مدة الحيض، واستدل الشافعي - رضي الله تعالى عنه - بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «رخص للمهاجرين بالمقام بمكة بعد قضاء المناسك ثلاثة أيام» فهو دليل على أن بالزيادة على ذلك يثبت حكم الإقامة، ولكنا نقول: إنما قدرنا بهذا؛ لأنه علم أن حوائجهم كانت ترتفع في هذه المدة لا لتقدير أدنى مدة الإقامة.
قال: (وإذا قدم الكوفي مكة وهو ينوي أن يقيم فيها وبمنى خمسة عشر يوما فهو مسافر) ؛ لأن نية الإقامة ما يكون في موضع واحد، فإن الإقامة ضد السفر، والانتقال من
أرض إلى أرض يكون ضربا في الأرض، ولو جوزنا نية الإقامة في موضعين جوزنا فيما زاد على ذلك فيؤدي إلى القول بأن السفر لا يتحقق؛ لأنك إذا جمعت إقامة المسافر المراحل ربما يزيد ذلك على خمسة عشر يوما، وهذا إذا نوى الإقامة في موضعين بمكة ومنى والكوفة والحيرة، فإن كان عزم على أن يقيم بالليالي في أحد الموضعين ويخرج بالنهار إلى الموضع الآخر، فإن دخل أولا الموضع الذي عزم على المقام فيه بالنهار لا يصير مقيما، وإن دخل الموضع الذي عزم على الإقامة فيه بالليالي يصير مقيما ثم بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافرا؛ لأن موضع إقامة الرجل حيث يثبت فيه، ألا ترى أنك إذا قلت للسوقي: أين تسكن يقول: في محلة كذا، وهو بالنهار يكون في السوق، وكان سبب تفقه عيسى بن أبان هذه المسألة، فإنه كان مشغولا بطلب الحديث قال: فدخلت مكة في أول العشر من ذي الحجة مع صاحب لي وعزمت على الإقامة شهرا فجعلت أتم الصلاة فلقيني بعض أصحاب أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - فقال: أخطأت، فإنك تخرج إلى منى وعرفات، فلما رجعت من منى بدا لصاحبي أن يخرج وعزمت أن أصاحبه فجعلت أقصر الصلاة فقال لي صاحب أبي حنيفة: أخطأت، فإنك مقيم بمكة فما لم تخرج منها لا تكون مسافرا، فقلت: أخطأت في مسألة في موضعين ولم ينفعني ما جمعت من الأخبار، فدخلت مجلس محمد - رحمه الله تعالى - واشتغلت بالفقه.
قال: (فإن لم يعزم على الإقامة مدة معلومة ولكنه مكث أياما في المصر وهو على عزم الخروج لا يصير مقيما عندنا، وإن طال مكثه) ، وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - إذا زاد على ثمان عشرة ليلة أتم الصلاة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة بعد الفتح ثمان عشرة ليلة، وكان يقصر الصلاة، والقياس أن السفر ينعدم بالمقام؛ لأنه ضده تركناه في هذه المدة للنص، فبقي ما رواه على أصل القياس.
(ولنا) ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم: «أنه أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة» وابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة وأنس أقام بنيسابور شهرا يقصر الصلاة، وعلقمة بن قيس أقام بخوارزم سنين يقصر الصلاة، ولأنه لو خرج خلف غريم له لم يصر مسافرا ما لم ينو أدنى مدة السفر، وإن طاف جميع الدنيا فكذلك لا يصير مقيما ما لم ينو المكث أدنى مدة الإقامة، وإن طال مقامه اتفاقا.
قال: (وإن خرج من مصره مسافرا بعدما دخل وقت الصلاة صلى صلاة المسافر عندنا) ، وقال ابن شجاع - رحمه الله تعالى - يصلي صلاة المقيم، وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - إذا مضى من الوقت مقدار
ما يصلي فيه أربع ركعات ثم خرج مسافرا صلى أربعا وهو بناء على أن وجوب الصلاة عندهما بأول الوقت، فإذا كان مقيما في أول الوقت وجب عليه صلاة المقيمين فلا يسقط ذلك بالسفر، وعندنا الوجوب يتعلق بآخر الوقت؛ لأنه مخير في أول الوقت بين الأداء، والتأخير والوجوب ينفي التخير، والتخير ينفي الوجوب، ولو مات في الوقت لقي الله تعالى ولا شيء عليه، فدل أن الوجوب يتعلق بآخر الوقت، فإذا كان مسافرا في آخر الوقت كان عليه صلاة السفر، وقال زفر - رحمه الله تعالى - إذا خرج مسافرا وقد بقي من الوقت مقدار ما يمكنه أن يصلي فيه يصلي صلاة السفر، وإن كان الباقي من الوقت ما دون ذلك صلى صلاة المقيم؛ لأن التأخير لا يسعه إلى وقت لا يتمكن فيه من أداء الصلاة في الوقت، ولكنا نقول: جزء من الوقت بمنزلة جميعه، ألا ترى أن إدراك جزء من الوقت وإن قل سبب لوجوب الصلاة فوجود السفر في ذلك الجزء كوجوده في جميع الوقت، والدليل عليه أن الصلاة لا تصير دينا في ذمته إلا بخروج الوقت، فإذا صار مسافرا قبل أن يصير دينا في ذمته صلى صلاة المسافرين، فإذا صارت دينا في ذمته بخروج الوقت قبل أن يصير مسافرا لا يتغير ذلك بالسفر، ويعتبر جانب السفر بجانب الإقامة، فإنه لو دخل مصره قبل فوات الوقت صلى صلاة المقيمين، وإن كان الباقي من الوقت شيئا يسيرا فكذلك في جانب السفر، ولا يحتاج إلى نية الإقامة إذا دخل مصره؛ لأن «النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج مسافرا إلى الغزوات ثم يعود إلى المدينة، ولا يجدد نية الإقامة».
قال: (وإذا قرب المسافر مصره فحضرت الصلاة صلى صلاة المسافر ما لم يدخل مصره) ؛ لأن عليا - رضي الله تعالى عنه - صلى صلاة السفر وهو ينظر إلى بيوت الكوفة حين قدمها من البصرة، وهكذا روي عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال للمسافر: صل ركعتين ما لم تدخل منزلك، ولأنه في موضع لو خرج من المصر إليه على قصد السفر مسافرا فلأن يبقى مسافرا بعد وصوله إليه أولى.
وإن كان خرج من مصره مسافرا ثم بدا له أن يرجع إلى مصره لحاجة له قبل أن يسير مسيرة ثلاثة أيام صلى صلاة المقيم في انصرافه؛ لأنه فسخ عزيمة السفر بعزمه على الرجوع إلى وطنه، وبينه وبين وطنه دون مسيرة السفر، فصار مقيما من ساعته، بخلاف الأول، فإنه ماض على سفره ما لم يدخل مصره.
قال: (رجل خرج من مصره مسافرا فحضرت الصلاة فافتتحها ثم أحدث فانفتل ليأتي مصره فتوضأ ثم علم أن إمامه ما صلى، فإنه يتوضأ ويصلي صلاة المقيم، فإن تكلم
صلى صلاة المسافر)؛ لأنه من عزم على الانصراف إلى أهله فقد صار مقيما، وبعدما صار مقيما في صلاته لا يصير مسافرا فيها، ألا ترى أن المسافر إذا نوى الإقامة في خلال الصلاة يصح، والمقيم في السفينة إذا جرت به السفينة لا يصير مسافرا في هذه الصلاة؛ لأن السفر عمل وحرمة الصلاة تمنعه عن مباشرة العمل، فأما الإقامة ترك السفر، وحرمة الصلاة لا تمنع من ذلك، فإذا تكلم فقد ارتفعت حرمة الصلاة وهو متوجه أمامه على عزم السفر فصار مسافرا، والأصل أن النية متى تجردت عن العمل لا تكون مؤثرة، فإذا نوى الإقامة في موضع الإقامة فقد اقترنت النية بعمل الإقامة فصار مقيما، وإذا نوى السفر فقد تجردت النية عن العمل ما لم يخرج فلا يصير مسافرا، وهو نظير ما لو نوى في عبد التجارة أن يكون للخدمة صار للخدمة، ولو نوى في عبد الخدمة أن يكون للتجارة لا يصير لها ما لم يتجر فيه.
قال: (مسافر صلى في سفره أربعا أربعا، فإن كان قعد في كل ركعتين قدر التشهد فصلاته تامة والأخريان تطوع له، وإن كان لم يقعد فصلاته فاسدة عندنا) ، وقال مالك - رضي الله تعالى عنه - يعيد ما دام في الوقت على كل حال، وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - صلاته تامة وكان الأربع فرضا له، وهو بناء على أن القصر عزيمة في حق المسافر عندنا، وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - رخصة واستدل بقوله: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101] فهو تنصيص على أن أصل الفرض أربع والقصر رخصة، «وعن علي بن ربيعة الوابي قال: سألت عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - ما بالنا نقصر الصلاة في السفر، ولا نخاف شيئا، وقد قال الله تعالى: {إن خفتم} [النساء: 101] فقال: أشكل علي ما أشكل عليك فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنها صدقة تصدق الله عليكم فاقبلوا صدقته» فهو تنصيص على أن القصر رخصة، وإن عائشة - رضي الله تعالى عنها - كانت تتم الصلاة في السفر وعثمان - رضي الله تعالى عنه - صلى بعرفات أربع ركعات واعتبر الصلاة بالصوم، فإن السفر مؤثر فيها، ثم الفطر رخصة ومن صام في السفر كان مؤديا للفرض فكذلك القصر في الصلاة.
(ولنا) حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: فرضت الصلاة في الأصل ركعتين إلا المغرب، فإنها وتر النهار ثم زيدت في الحضر وأقرت في السفر على ما كانت، وعن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال: صلاة المسافر ركعتان تام غير قصر على لسان نبيكم، وعن ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال: صلاة المسافر ركعتان من خالف السنة فقد كفر وابن عباس - رضي الله تعالى عنه - قال: صلاة المسافر ركعتان وصلاة الفجر
ركعتان، وسأله رجلان أحدهما كان يتم الصلاة في السفر، والثاني يقصر عن حالهما، فقال للذي قصر: أنت الذي أكملت، وقال للآخر: أنت قصرت، ولما صلى عثمان - رضي الله تعالى عنه - بعرفات أربعا قال ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المقام ركعتين ومع أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - ركعتين، ثم اختلفت بكم الطرق فليت حظي من الأربع مثل حظي من الركعتين، فلما بلغ ذلك إلى عثمان قال: إني تأهلت بمكة وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «من تأهل ببلدة فهو من أهلها»، فإنكار عبد الله بن مسعود واعتذار عثمان دليل على أن فرض المسافر ركعتان إلا أن ابن مسعود أحب أن يأمن عثمان غيره؛ لتكون إقامة الصلاة على هيئة فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعثمان - رضي الله تعالى عنه - أقام بنفسه لكثرة الأعراب بعرفات كيلا يظن ظان أن الصلاة في حق المقيم ركعتان، والمعنى فيه أن الشفع الثاني ساقط عن المسافر لا إلى بدل، وبقاء الفرضية يوجب القضاء أو الأداء فحين لم يثبت في حقه واحد منهما عرفنا أنه لم تبق الفرضية فيما زاد على الركعتين في حقه، وأن الظهر في حقه كالفجر في حق المقيم، ثم المقيم إذا صلى أربعا، فإن لم يقعد في الثانية فسدت صلاته لاشتغاله بالنفل قبل إكمال الفرض، وإن قعد في الثانية جازت صلاته والأخريان تطوع له فكذلك هنا وبه فارق الصوم، فإن الفرضية لما بقيت هناك لم ينفك عن قضاء أو أداء. وتأويل حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - ما قيل: إنها كانت تتنقل من بيت بعض أولادها إلى بيت بعض فلم تكن مسافرة، وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «فاقبلوا صدقته» ما يدل على أن القصر عزيمة؛ لأنه أمر به، والأمر يدل على الوجوب، وتأويل الآية التجوز في القراءة والأركان عند الخوف، فأما صلاة المسافر عرفناه بالسنة كما روينا من الآثار.
قال: (مسافر صلى الظهر ركعتين وسلم وعليه سهو ثم نوى الإقامة فصلاته تامة) ؛ لأن نيته لم تصادف حرمة الصلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، فلا يتغير به فرضه وليس عليه سجود السهو؛ لأنه لو سجد للسهو كان عائدا إلى حرمة الصلاة فيتغير فرضه بنية الإقامة، ويكون سجوده في خلال الصلاة وكما يسجد بترك الإتمام للصلاة فلا فائدة في الاشتغال به، وإن كان بنية الإقامة بعدما عاد إلى سجود السهو قام فأتم صلاته؛ لأن نيته حصلت في حرمة الصلاة، وعند محمد - رحمه الله تعالى - هما سواء يقوم فيتم صلاته ثم يسجد للسهو؛ لأن عنده بالسلام لا يصير خارجا من الصلاة
إذا كان عليه سهو وقد بينا هذا.
قال: (مسافر أم مسافرين ومقيمين فصلى بهم ركعة وسجدة ثم أحدث فقدم رجلا دخل معه في الصلاة ساعتئذ وهو مسافر فلا ينبغي لذلك الرجل أن يتقدم) ؛ لأن غيره أقدر على إتمام صلاة الإمام، وإن تقدم جاز؛ لأنه شريك الإمام وينبغي له أن يسجد تلك السجدة؛ لأنه خليفة الأول فيبدأ بما كان على الإمام الأول أن يبدأ به، فإن لم يفعله ولكنه صلى بهم ركعة وسجدة ثم أحدث فقدم رجلا جاء ساعتئذ فذهب وتوضأ ورجع الإمام الأول والثاني قال: يسجد الثالث السجدة الأولى؛ لأنه خليفة الإمامين ويسجدها معه الإمام الأول والقوم؛ لأنهم صلوا تلك الركعة، فإنما بقي عليهم تلك السجدة، ولا يسجدها الإمام الثاني؛ لأنه مسبوق في تلك الركعة فعليه إعادتها فلا يبدأ بالسجدة منها، وفي نوادر أبي سليمان قال: يسجدها معهم؛ لأنه كالمقتدي بالإمام الثالث فيتابعه فيما يأتي به، وإن لم يكن محسوبا من صلاته، كمن أدرك الإمام في السجود ثم سجد السجدة الأخرى وسجدها معه الإمام الثاني والقوم؛ لأنهم صلوا هذه الركعة، ولا يسجدها معه الإمام الأول إلا أن يكون صلى تلك الركعة وانتهى إلى هذه السجدة فحينئذ سجدها؛ لأنه لاحق فيبدأ بالأول فالأول، ولهذا قلنا: يصلي الإمام الأول الركعة الثانية بغير قراءة ثم يتشهد الإمام الثالث ويتأخر ويقدم رجلا قد أدرك أول الصلاة فيسلم بهم؛ لأنه عاجز عن السلام بنفسه فيستعين بمن يقدر عليه، ثم يسجد للسهو ويسجدون معه ثم يقوم الثاني فيقضي الركعة التي سبق بها بقراءة، ويكمل المقيمون صلاتهم.
[الفصل الأول صلى الأئمة الأربعة كل واحد منهم ركعة وسجدة ثم أحدث الرابع وقدم خامسا وجاء الأئمة الأربعة]
ثم ذكر بعد هذا فصلين في المقيمين:
(أحدهما) في اللاحقين إذا صلى الأئمة الأربعة كل واحد منهم ركعة وسجدة ثم أحدث الرابع وقدم خامسا وجاء الأئمة الأربعة، فإنه ينبغي للخامس أن يبدأ بالسجدة الأولى ويسجدها معه الأئمة والقوم؛ لأنهم صلوا تلك الركعة ثم يسجد السجدة الثانية ويسجدونها معه غير الإمام الأول، فإنه لم يؤد تلك الركعة بعد، إلا أن يكون عجل فصلى الركعة الثانية وأدرك الإمام في السجدة الثانية فحينئذ سجد الثالثة ويسجدها معه ثم يسجد الثالثة ويسجدونها معه من غير الإمام الأول والثاني؛ لأنهما لم يصليا الركعة الثانية ثم يسجد الرابعة ويسجدونها معه غير الإمام الأول والثاني والثالث؛ لأنهم ما صلوا هذه الركعة بعد، ثم يقوم الإمام الأول فيقضي ثلاث ركعات، والإمام الثاني ركعتين، والإمام الثالث الركعة الرابعة بغير قراءة؛ لأنهم مدركون لأول الصلاة، ثم يسلم الخامس ويسجد للسهو والقوم معه، وكل إمام فرغ من إتمام صلاته وأدركه
تابعه في سجود السهو، ومن لم يفرغ أخر سجود السهو إلى آخر صلاته.
[الفصل الثاني صلى كل واحد منهم ركعة وسجدة ثم أحدث الرابع وقدم رجلا خامسا وتوضأ الأئمة الأربعة وجاءوا]
(والفصل الثاني) في الأئمة الأربعة إذا كانوا مسبوقين وقد صلى كل واحد منهم ركعة وسجدة ثم أحدث الرابع وقدم رجلا خامسا وتوضأ الأئمة الأربعة وجاءوا، فينبغي للخامس أن يسجد السجدة الأولى ويسجدها معه القوم والإمام الأول، ولا يسجدها معه الإمام الثاني والثالث والرابع؛ لأنهم مسبوقون في تلك الركعة، وفي رواية النوادر يسجدونها معه للمتابعة، ثم يسجد السجدة الثانية ويسجدها معه القوم والإمام الثاني؛ لأنه صلى تلك الركعة بعد، ولا يسجدها معه الإمام الأول؛ لأنه ما صلى تلك الركعة بعد، ولا الثالث، ولا الرابع؛ لأنهما مسبوقان في هذه الركعة إلا على رواية النوادر، ثم يسجد الثالثة ويسجدها معه القوم والإمام الثالث؛ لأنهم صلوا هذه الركعة ولم يسجدوا هذه السجدة، ثم يسجد الرابعة ويسجدها معه القوم والإمام الرابع، ثم يتشهد ويتأخر ويقدم سادسا ليسلم بهم، ويسجد سجدتي السهو، ثم يقوم الخامس فيصلي أربع ركعات؛ لأنه مسبوق فيها فيقرأ في الأوليين، وفي الأخريين هو بالخيار، وأما الإمام الأول يقضي ثلاث ركعات بغير قراءة؛ لأنه أدرك أول الصلاة، ولا قراءة على اللاحق فيما يقضي، والإمام الثاني يقضي ركعتين بغير قراءة لأنه لاحق فيهما ثم ركعة بقراءة، والإمام الثالث يقضي الرابعة أولا بغير قراءة، ثم يقضي ركعتين بقراءة؛ لأنه مسبوق فيهما، والإمام الرابع يقضي ثلاث ركعات يقرأ في ركعتين منها، وفي الثالثة هو بالخيار؛ لأنه مسبوق فيها (فإن قيل لماذا أورد هذا المسائل مع تيقن كل عاقل بأنها لا تقع، ولا يحتاج إليها (قلنا لا يتهيأ للمرء أن يعلم ما يحتاج، إليه إلا بتعلم ما لا يحتاج إليه فيصير الكل من جملة ما يحتاج لهذا الطريق، وإنما يستعد للبلاء قبل نزوله.
قال: (مسافر أم مسافرين فصلى بهم ركعة ثم نوى الإقامة فعليه أن يكمل بهم الصلاة) ؛ لأن نيته استندت إلى أول الصلاة، وهم قد التزموا متابعته فعليهم ما عليه من إتمام الصلاة، بخلاف ما إذا كان الناوي للإقامة خليفة الإمام المسافر؛ لأن القوم ما التزموا متابعته، وإنما لزمهم ذلك لضرورة إصلاح صلاتهم، ففيما وراء ذلك ليس عليهم متابعته.
قال: (إمام أحدث فاستخلف مدركا ثم نام خلفه حتى صلى الإمام ركعة وقدمه، فإن تأخر هو وقدم غيره فهو أولى) ؛ لأن غيره أقدر على إتمام صلاة الإمام، فإنه محتاج إلى البداءة بما فرغ منه الإمام، وإن لم يفعل ولكنه أشار عليهم بأن ينتظروه ليصلي ركعة أولا ثم يصلي بهم بقية الصلاة جاز أيضا؛ لأنه شريك الإمام



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #25  
قديم 28-09-2025, 03:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الاول
صـــ 243 الى صـــ 253
(25)






فيصلح أن يكون خليفة الإمام، وإن لم يفعل ولكنه صلى بهم الثلاث ركعات بقية صلاة الإمام وتشهد ثم قدم مدركا وسلم بهم وقام وقضى ما عليه أجزأه ذلك عندنا، وقال زفر - رحمه الله تعالى - لا يجزئه؛ لأنه مأمور بالبداءة بالركعة الأولى، فإذا لم يفعل فقد ترك الترتيب المأمور به، فتفسد صلاته كالمسبوق إذا بدأ بقضاء ما فاته قبل أن يتابع الإمام فيما أدرك معه.
(ولنا) أن مراعاة الترتيب في أفعال الصلاة الواحدة واجبة وليست بركن، ألا ترى أنه لو ترك سجدة من الركعة الأولى إلى آخر صلاته لم تفسد صلاته، وإن المسبوق إذا أدرك الإمام في السجود يتابعه فيه، فدل أن مراعاة الترتيب في صلاة واحدة ليست بركن فتركها لا يفسد الصلاة، بخلاف المسبوق ففساد صلاته هناك للعمل بالمنسوخ لا لترك الترتيب، ولأن حكم ما هو مسبوق فيه مخالف لحكم ما أدركه معه؛ لأنه فيما هو مسبوق فيه كالمنفرد، فإذا انفرد في موضع يحق عليه الاقتداء تفسد صلاته وههنا حكم الكل واحد في حقه، فترك الترتيب لا يكون مفسدا صلاته.
قال: (وإن صلى بهم ركعة ثم ذكر ركعته تلك فالأفضل أن يومئ إليهم لينتظروه حتى يقضي تلك الركعة ثم يصلي بهم بقية الصلاة) كما كان في الابتداء يفعله، وإن لم يفعل وتأخر حين تذكر ذلك وقدم رجلا منهم فصلى بهم فهو أفضل أيضا كما في الابتداء، وإن لم يفعل ولكنه صلى بهم وهو ذاكر لركعته أجزأه أيضا لما بينا.
[اقتداء المسافر بالمقيم]
قال: (وليس للمسافر أن يقتدي بالمقيم بعد فوات الوقت، وللمقيم أن يقتدي بالمسافر في الوقت وبعد فوات الوقت) ، أما في الوقت فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم: «جوز اقتداء أهل مكة بعرفات حين قال: أتموا صلاتكم يا أهل مكة فإنا قوم سفر» وكذلك بعد فوات الوقت؛ لأن فرض المقيم لا يتعين بالاقتداء. وأما اقتداء المسافر بالمقيم في الوقت يجوز ويتغير فرضه، هكذا روي عن ابن عمر وابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، وبعد فوات الوقت لا يصح اقتداؤه؛ لأن فرضه لا يتغير بالاقتداء، فإن المغير للفرض إما نية الإقامة أو الاقتداء بالمقيم، ثم الفرض بعد خروج الوقت لا يتغير بنية الإقامة فكذلك الاقتداء بالمقيم، وإذا لم يتغير فرضه كان هذا عقدا لا يفيد موجبه، ولو صلى ركعتين وسلم كان قد فرغ قبل إمامه، وإن أتم أربعا كان خالطا النفل بالمكتوبة قصدا، وذلك لا يجوز، ثم القعدة الأولى نفل في حق الإمام فرض في حقه، واقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز على ما بينا هذا الفروق، كما أمليناه من شرح الجامع.
قال: (والغلام المراهق إذا كان معه رجل في الصف أجزأهما
ذلك) لحديث أنس - رضي الله تعالى عنه - «فأقامني واليتيم من ورائه».
قال: (رجل ترك صلاة واحدة ثم صلى شهرا وهو ذاكر لها فعليه أن يقضي تلك الصلاة وحدها استحسانا) ، وإن كان صلى يوما أو أقل من ذلك أعاد ما صلى بعدها في هذه عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وهذه المسألة التي يقال لها واحدة تفسد خمسا، وواحدة تصحح خمسا؛ لأنه إن صلى السادسة قبل الاشتغال بالقضاء صح الخمس عنده، وإن أدى المتروكة قبل أن يصلي السادسة فسد الخمس، وعلى قولهما عليه قضاء الفائتة وخمس صلوات بعدها وهو القياس؛ لأن الخمس فسدت بسبب ترك الترتيب حتى لو اشتغل بالقضاء في ذلك الوقت كان عليه قضاء الكل فبتأخر القضاء لا ينقلب صحيحا وأبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - يقول: الفساد كان بوجوب مراعاة الترتيب، وقد سقط ذلك عنه بالاتفاق عند تطاول الزمان، والدليل عليه أنه لو أعادها غير مرتب يجوز، فكيف يلزمه إعادتها لترك الترتيب مع أنه ليس عليه مراعاة الترتيب بالإعادة، ولا يبعد أن يتوقف حكم الصلاة المؤداة على ما تبين في الثاني، كمصلي الظهر يوم الجمعة إن أدرك الجمعة، تبين أن المؤداة كانت تطوعا وإلا كان فرضا، وصاحبة العادة إذا انقطع دمها فيها دون عادتها وصلت صلوات ثم عاودها الدم تبين أنها لم تكن صلاة صحيحة، وإن لم يعاودها كانت صحيحة قال: (وإذا زاد على أيام عادتها، فإذا انقطع لتمام العشرة تبين أن الكل حيض وليس عليها قضاء الصلوات، وإن جاوزها كان عليها قضاء الصلوات) ، وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: إذا صلى الحاج المغرب في طريق المزدلفة فعليهم إعادتها إن وصل إلى المزدلفة قبل طلوع الفجر، وإن لم يصل فليس عليهم إعادتها فهذا مثله. وحاصل كلام أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أن هذه الصلوات مؤداة في أوقاتها، والفساد بسبب ترك الترتيب فساد ضعيف، فلا يبقى حكمه بعد سقوط الترتيب، وهما يقولان: ما يحكم بفساده لمراعاة الترتيب لا يصح لسقوط الترتيب، كمن افتتح الصلاة في أول الوقت وهو ذاكر للفائتة فطولها حتى يضيق الوقت لم يحكم بجوازها، إلا أن أبا حنيفة - رحمه الله تعالى - قال: هناك لم يسقط الترتيب؛ لأن بعد السقوط لا يعود الترتيب، وهناك إذا خرج الوقت فعليه مراعاة الترتيب، وعلى قول زفر - رحمه الله تعالى - يلزمه إعادة المتروكة وصلاة شهر بعده بناء على مذهبه في حد الكثرة التي سقط بها الترتيب وقد بينا
قال: (رجل صلى الظهر على غير وضوء ثم صلى العصر على وضوء ذاكرا لذلك وهو يظن أنه يجزئه فعليه أن يعيدهما جميعا) لوجوب مراعاة الترتيب، وظنه جهل فلا
يسقط عنه ما هو مستحق عليه، وكان الحسن بن زياد - رحمه الله تعالى - يقول: إنما يجب مراعاة الترتيب على من يعلم، فأما من لا يعلم فليس عليه ذلك؛ لأنه ضعيف في نفسه فلا يثبت حكمه في حق من لا يعلم به، وكان زفر - رحمه الله تعالى - يقول: إذا كان عنده إن ذلك يجزئه فهو في معنى الناسي للفائتة فيجزئه فرض الوقت.
(ولنا) أن نقول: إذا كان الرجل مجتهدا قد ظهر عنده أن مراعاة الترتيب ليس بفرض فهو دليل شرعي، وكذلك إذا كان ناسيا فهو معذور غير مخاطب بأداء الفائتة قبل أن يتذكر، فأما إذا كان ذاكرا وهو غير مجتهد فمجرد ظنه ليس بدليل شرعي فلا يعتبر، فإن أعاد الظهر وحدها ثم صلى المغرب وهو يظن أن العصر له جائز، قال: يجزئه المغرب ويعيد العصر فقط؛ لأن ظنه هذا استند إلى خلاف معتبر بين العلماء فكان دليلا شرعيا، وحاصل الفرق أن فساد الصلاة بترك الطهارة فساد قوي مجمع عليه فيظهر أثره فيما يؤدى بعده، فأما فساد العصر بسبب تذكر الترتيب فساد ضعيف مختلف فيه فلا يتعدى حكمه إلى صلاة أخرى، فهو كمن جمع بين حر وعبد في البيع بثمن واحد بطل العقد فيهما، بخلاف ما إذا جمع بين قن ومدبر.
قال: (رجل أسلم في دار الحرب فمكث فيها شهرا ولم يصل ولم يعلم أن عليه الصلاة فليس عليه قضاؤها) ، وقال زفر - رحمه الله تعالى - عليه قضاؤها؛ لأن بقبول الإسلام صار ملتزما لما هو من أحكامه ولكن قصر عنه خطاب الأداء لجهله به، وذلك غير مسقط للقضاء بعد تقرر السبب الموجب، كالنائم إذا انتبه بعد مضي وقت الصلاة عليه. وجه قولنا أن ما يجب بخطاب الشرع لا يثبت حكمه في حق المخاطب قبل علمه به، ألا ترى أن أهل قباء افتتحوا الصلاة إلى بيت المقدس بعد فرضية التوجه إلى الكعبة وجوز لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يبلغهم. وشرب بعض الصحابة الخمر بعد نزول تحريمها قبل علمه بذلك، وفيه نزل قوله تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} [المائدة: 93] وهذا لأن الخطاب بحسب الوسع وليس في وسع المخاطب الائتمار قبل العلم، فلو ثبت حكم الخطاب في حقه كان فيه من الحرج ما لا يخفى، ولهذا قلنا: إن عزل الوكيل والحجر على المأذون لا يثبت في حقه ما لم يعلم، (وإن كان ذميا أسلم في دار الإسلام فعليه قضاؤها استحسانا) ، وفي القياس لا قضاء عليه أيضا وهو الحد لما بينا. ووجه الاستحسان هو أن الخطاب شائع في دار الإسلام فيقوم شيوع الخطاب مقام العلم؛ لأنه ليس في وسع المبلغ أن يبلغ كل أحد إنما الذي وسعه أن يجعل الخطاب شائعا، وهذا لأنه في دار الإسلام يسمع الأذان
والإقامة ويرى شهود الناس الجماعات في كل وقت، فإنما يشتبه عليه ما لا يشتبه، ولأن في دار الإسلام يجد من يسأل منه، فترك السؤال تقصير منه بخلاف دار الحرب، فإن بلغه في دار الحرب رجل واحد فعليه القضاء فيما ترك بعد ذلك عندهما وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - ما لم يخبره رجلان أو رجل وامرأتان لا يلزمه القضاء؛ لأن هذا خبر ملزم، ومن أصله اشتراط العدد في الخبر الملزم، كما قال في حق الحجر على المأذون وعزل الوكيل والإخبار بجناية العبد. وجه الرواية الأخرى وهو الأصح أن كل أحد مأمور من صاحب الشرع بالتبليغ قال - عليه الصلاة والسلام: «نضر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها» فهذا المبلغ نظير الرسول من المولى والموكل، وخبر الرسول هناك ملزم فههنا كذلك.
قال: (رجل ترك الظهر والعصر من يومين مختلفين لا يدري لعل الظهر الذي ترك أولا أو العصر، فإنه يتحرى في ذلك) ؛ لأن عليه مراعاة الترتيب، ولا يتوصل إليها إلا بالتحري فعليه أن يتحرى كما إذا اشتبهت عليه القبلة، فإن لم يكن له في ذلك رأي وأراد الأخذ بالثقة صلاهما ثم أعاد الأولى منهما عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وقالا ليس عليه سوى التحري؛ لأنا نعلم يقينا أنه ما ترك إلا صلاتين فكيف يلزمه قضاء ثلاث صلوات، وهذا نظير من اشتبهت عليه القبلة لا يؤمر بالصلاة إلى الجهات كلها احتياطيا وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول: الأخذ بالاحتياط في العبادات أصل، وفي إعادة الأولى منهما تيقن بأداء ما كان عليه من الترتيب بخلاف أمر القبلة، فإن الصلاة إلى غير جهة القبلة لا تكون قربة، فلا يحصل معنى الاحتياط بمباشرة ما ليس بقربة. فأما ههنا إعادة الأولى إما أن تكون فرضا أو نفلا وهو قربة، وهو نظير من تذكر فائتة لا يدري أيما هي من صلوات اليوم أو الليلة فعليه صلاة يوم وليلة احتياطا، وكذلك لو تذكر أنه ترك سجدة من صلاة، وكان محمد بن مقاتل الرازي - رحمه الله تعالى - يقول: يعيد الفجر والمغرب ثم يصلي أربعا بنية ما عليه، ومن أصحابنا من يقول: يصلي أربع ركعات بنية ما عليه بثلاث قعدات، وهذا كله فاسد، فإن القضاء لا يتأدى إلا بتعيين النية، وفيما قالوا تضييع النية، فكيف يتأدى به القضاء، والصحيح ما قلنا أنه يعيد صلاة يوم وليلة احتياطا فهذا مثله.
قال: (رجل أم نساء ليس معهن رجل فأحدث فذهب وتوضأ فصلاته تامة وصلاة النسوة فاسدة) ؛ لأن الإمام في حق نفسه كالمنفرد لا تتعلق صلاته بصلاة غيره ولم يبق للنسوة إمام في المسجد فتفسد
صلاتهن؛ لهذا قال: (فإن استخلف امرأة فسدت صلاته وصلاتهن) وقال زفر - رحمه الله تعالى - تجوز صلاة النسوة؛ لأن المرأة تصلح لإمامة النساء دون الرجال بدليل الابتداء، ولكنا نقول: اشتغاله باستخلاف من لا يصلح أن يكون خليفة له مفسد لصلاته، فإنما فسدت صلاته قبل تحول الإمامة منه إلى غيره فتفسد به صلاة المقتدين.
قال: (فإن تقدمت امرأة منهن من غير أن يقدمها قبل أن يخرج من المسجد فهذا والأول سواء) ، وهذا جواب مبهم فقد تقدم فصلان حكمهما مختلف ثم ذكر الفصل الثالث ولم يبين بأي فصل يعتبره، فمن أصحابنا من قال: معناه هذا واستخلاف الإمام إياها سواء حتى تفسد صلاة الإمام لما بينا في باب الحدث؛ لأنه لا فرق بين تقدم واحد من القوم وبين تقديم الإمام إياه، والأصح أن هذا نظير الفصل الأول حتى لا تفسد صلاة الإمام؛ لأنه لم يشتغل باستخلاف من لا يصلح خليفة له، وليس للنساء عليه ولاية في إفساد الصلاة، فصار في حقه كأن لم يقدم واحدة منهن فتجوز صلاته؛ لأنه في حق نفسه كالمنفرد.
قال: (مسافر صلى الظهر ركعتين بغير قراءة ثم نوى المقام فعليه أن يصلي ركعتين بقراءة) وهو والمقيم فيه سواء عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، وقال محمد - رحمه الله تعالى - صلاته فاسدة، وهذا بناء على ما سبق أن فساد الصلاة بترك القراءة يخرجه من حرمة الصلاة عند محمد - رحمه الله تعالى -، ولا يخرجه منها عندهما، وأما على سبيل الابتداء فههنا حجة محمد - رحمه الله تعالى - أن ظهر المسافر كفجر المقيم، ثم الفجر في حق المقيم يفسد بترك القراءة فيهما أو في إحداهما على وجه لا يمكنه إصلاح إلا بالاستقبال، فكذلك الظهر في حق المسافر، إذ لا تأثير لنية الإقامة في رفع الفساد، ولهما أن نية الإقامة في آخر الصلاة كهي في أولها، ولو كان مقيما في أولها لم تفسد صلاته بترك القراءة في الأوليين، فهذا مثله، وتبين بهذا أن المفسد لم يتقرر؛ لأن صلاة المسافر بعرض أن يلحقه مدد نية الإقامة والمفسد خلو الصلاة عن القراءة في ركعتين منها، ولا يتحقق ذلك بترك القراءة في الأوليين بخلاف فجر المقيم، وكذلك إن قام إلى الثالثة وركع ثم نوى الإقامة إلا أنه إن كان لم يقرأ في الأوليين يعيد القراءة، وإن كان قرأ في الأوليين يعيد القيام والركوع؛ لأن ما أدى كان نفلا؛ لأنه حين قام إلى الثالثة لم يكن نوى الإقامة فكانت هذه الركعة بقدر ما أدى إلى وقت نية الإقامة نافلة فلا تنوب عن الفرض فكان عليه الإعادة لهذا.
قال: (مسافر دخل في صلاة المقيم ثم ذهب الوقت لم تفسد صلاته) ؛ لأن الإتمام لزمه بالشروع مع الإمام في الوقت فالتحق بغيره من
المقيمين، بخلاف ما لو اقتدى به بعد خروج الوقت، فإن الإتمام لم يلزمه بهذا الاقتداء، فإن أفسدها الإمام على نفسه كان على المسافر أن يصلي صلاة السفر؛ لأن وجوب الإتمام عليه بمتابعة الإمام وقد زال ذلك بالإفساد (فإن قيل فقد كان هو مقيما في هذه الصلاة عند خروج الوقت فبأن صار في حكم المسافر بعد خروج الوقت لا يتغير ذلك الفرض. (قلنا لم يكن مقيما فيها، وإنما يلزمه الإتمام لمتابعة الإمام، ألا ترى أنه لو أفسد الاقتداء في الوقت كأن يصلي صلاة السفر، والقصر في السفر في الظهر والعصر والعشاء؛ لأن القصر عبارة عن سقوط شطر الصلاة، وفي هذه الصلاة بعد سقوط الشطر تبقى صلاته كاملة بخلاف الفجر، فإن بعد سقوط الشطر منها لا يبقى إلا ركعة وهي لا تكون صلاة تامة، وكذلك في المغرب بعد سقوط شطر منها لا تبقى صلاة تامة فلهذا لم يدخلها القصر، والسنن والتطوعات لا يدخلها القصر بسبب السفر؛ لأن القصر في الصلاة بسبب السفر توقيف لم يعرف بالرأي، ومن الناس من قال بترك السنن في السفر، ويروون عن بعض الصحابة أنه قال: لو أتيت بالسنن لأتممت الفريضة، وتأويل هذا عندنا في حالة الخوف على وجه لا يمكنه المكث في موضع لأداء السنن.
قال: (ويخفف القراءة في جميع الصلوات) لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «قرأ في الفجر في السفر: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، وأطال القراءة في صلاة الفجر» ولأن السفر لما أسقط عنه شطر الصلاة دفعا للحرج فلأن يسقط مراعاة سنة القراءة أولى، ولكن المستحب أن تكون قراءته في الفجر والظهر أطول اعتبارا بحالة الإقامة فيقرأ {والسماء والطارق} [الطارق: 1] {والشمس وضحاها} [الشمس: 1] وما أشبههما، وفي العصر والمغرب والعشاء {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] وما أشبهها.
قال: (ودخول المسافر في صلاة المقيم يلزمه الإكمال إن دخل في أولها أو في آخرها قبل السلام) ؛ لأن الاقتداء بالمقيم في تغير الفرض كنية الإقامة، ولا فرق فيه بين أول الصلاة وآخرها فهذا مثله.
قال: (وتوطين أهل العسكر أنفسهم على الإقامة وهم في دار الحرب محاصرون لأهل المدينة ساقط وهم مسافرون) لحديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - أن رجلا سأله فقال: إنا نطيل الثوي في دار الحرب، فقال: صل ركعتين حتى ترجع إلى أهلك، ولأن نية الإقامة لا تصح إلا في موضع الإقامة، ودار الحرب ليس بموضع لإقامة المحاربين من المسلمين؛ لأنه غير متمكن من الفرار بنفسه بل هو بين أن يهزم العدو فيفر وبين أن ينهزم فيفر، ولأن فناء البلدة تبع لجوفها والبلدة في يد أهل الحرب، فالموضع الذي فيه العسكر كان في أيديهم أيضا
حكما. وكذلك إذا نزلوا المدينة وحاصروا أهلها في الحصن فلا قرار لهم ما داموا محاربين، فكان نية الإقامة في غير موضع الإقامة مقاس نية السفر في غير موضعها، وكذلك إن حاربوا أهل البغي في دار الإسلام وحاصروهم، وقال زفر - رحمه الله تعالى - في الفصلين جميعا: إن كانت الشوكة والغلبة للعدو لم تصح نيتهم الإقامة، وإن كانت الشوكة لهم صحت نيتهم الإقامة؛ لأنهم يتمكنون من الفرار باعتبار الظاهر، وقال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - إن كانوا في الأخبية والفساطيط خارج البلدة لم تصح نيتهم الإقامة، وإن كانوا في البيوت والأبنية صحت نيتهم الإقامة؛ لأن الأبنية موضع الإقامة دون الصحراء، وعلى هذا اختلف المتأخرون في الذين يسكنون الأخبية في دار الإسلام كالأعراب والأتراك، فمنهم من يقول: لا يكونون مقيمين أبدا؛ لأنهم ليسوا في موضع الإقامة، والأصح أنهم مقيمون؛ لأن الإقامة للمرء أصل والسفر عارض وهم لا ينوون السفر قط إنما ينتقلون من ماء إلى ماء، ومن مرعى إلى مرعى فكانوا مقيمين باعتبار الأصل.
قال: (وإذا مر الإمام بمدينة وهو مسافر فصلى بهم الجمعة أجزأه وأجزأهم) ، وقال زفر - رحمه الله تعالى - لا يجوز؛ لأنه لا جمعة على المسافر، قال - صلى الله عليه وسلم: «أربعة لا جمعة عليهم المسافر والمريض والعبد والمرأة» فكان هذا في معنى اقتداء المفترض بالمتنفل ولكنا نقول: قد «أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة بمكة وهو كان مسافرا بها» ثم صلاة الجمعة من غيره في هذا الموضع إنما تجوز بأمره فلأن تجوز منه أولى، وإنما لا يجب الحضور على المسافر لدفع الحرج، فإذا حضر وأدى كان مفترضا كالمريض، وكذلك الأمير يطوف في بلاد عمله وهو مسافر فهو والإمام سواء في هذا.
قال: (ويصلي المسافر التطوع على دابته بإيماء حيثما توجهت به) لحديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان يصلي على دابته تطوعا حيثما توجهت به وتلا قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115] » وعن جابر - رضي الله تعالى عنه - قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة إنما يتطوع على دابته بالإيماء ووجهه إلى المشرق» إلا أن في حديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه كان ينزل للوتر والمكتوبة، وفي حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - ذكر أنه كان يوتر على دابته وينزل للمكتوبة، ولو لم يكن له في التطوع على الدابة من المنفعة إلا حفظ اللسان وحفظ النفس عن الوساوس والخواطر الفاسدة لكان ذلك كافيا.
قال: (وإن كان على سرجه قذر فكذلك تجوز صلاته) وكان محمد بن مقاتل وأبو حفص النجاري - رحمهما الله تعالى - يقولان: لا تجوز إذا كانت النجاسة في
موضع الجلوس أو في موضع الركابين أكثر من قدر الدرهم اعتبارا للصلاة على الدابة بالصلاة على الأرض، وكانا يقولان: تأويل ما ذكره من القذارة عرق الدابة، وأكثر مشايخنا - رحمهم الله تعالى - يقولون: تجوز لما قال في الكتاب: والدابة أشد من ذلك يعني أن باطنها لا يخلو عن النجاسات ويترك عليها الركوع والسجود مع التمكن من النزول والأداء، والأركان أقوى من الشرائط، فإذا سقط اعتبار الأركان هنا لحاجة فشرط طهارة المكان أولى، ثم الإيماء لا يصيب موضعه، إنما هو إشارة في الهواء، وإنما يشترط طهارة الموضع الذي يؤدي عليه ركنا وهو لا يؤدي على موضع سرجه وركابيه ركنا فلا تضره نجاستهما.
وكذلك المقيم يخرج من مصره فرسخين أو ثلاثة فله أن يتطوع على دابته؛ لأنه في معنى المسافر يحتاج إلى قطع الوساوس عن نفسه، ولا سير على الدابة هاهنا مديد كسير المسافر، ولم يذكر في الكتاب إذا كان راكبا في المصر هل يتطوع على دابته، وذكر في الهارونيات أن عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - لا يجوز التطوع على الدابة في المصر، وعند محمد - رحمه الله تعالى - يجوز ويكره، وعند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - لا بأس به وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - قال: التطوع على الدابة بالإيماء جوزناه بالنص بخلاف القياس، وإنما ورد النص به خارج المصر، والمصر في هذا ليس في معنى خارج المصر؛ لأن سيره على الدابة في المصر لا يكون مديدا عادة فرجعنا فيه إلى أصل القياس. وحكي أن أبا يوسف - رحمه الله تعالى - لما سمع هذا من أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - قال: حدثني فلان عن فلان «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب الحمار في المدينة يعود سعد بن عبادة وكان يصلي وهو راكب» فلم يرفع أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - رأسه، قيل: إنما لم يرفع رجوعا منه إلى الحديث، وقيل: بل هذا حديث شاذ فيما تعم به البلوى، والشاذ في مثله لا يكون حجة عنده، فلهذا لم يرفع رأسه وأبو يوسف - رحمه الله تعالى - أخذ بالحديث ومحمد - رحمه الله تعالى - كذلك إلا أنه كره ذلك في المصر؛ لأن اللغط يكثر فيها فلكثرة اللغط ربما يبتلى بالغلط في القراءة فلذلك كره.
قال: (ولا يصلي المسافر المكتوبة على الدابة من غير عذر) ؛ لأن المكتوبة في أوقات محصورة فلا يشق عليه النزول لأدائها فيها بخلاف التطوع، فإنه ليس بمقدر بشيء، فلو ألزمناه النزول لأدائها تعذر عليه النزول لأدائها، تعذر عليه إذا ما ينشطه فيه من التطوعات أو ينقطع سفره، وكذلك ينزل للوتر عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -؛ لأنها واجبة وعندهما له أن يوتر على الدابة لما روي «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان مع أصحابه في سفر فمطروا
فأمر مناديا ينادي حتى نادى صلوا على رواحلكم، فنزل ابن رواحة فطلب موضعا يصلي فيه، فأخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاه، فلما أقبل إليه فقال: أما إنه يأتيكم وقد لقن حجته قال: ألم تسمع ما أمرت به أما لك في أسوة، قال: يا رسول الله أنت تسعى في رقبة قد فكت، وأنا أسعى في رقبة لم يظهر فكاكها، قال: ألم أقل لكم إنه يأتيكم وقد لقن حجته، ثم قال له: إني لأرجو على هذا أن أكون أخشاكم لله تعالى» فقد جوز لهم الصلاة على الدابة عند تعذر النزول بسبب المطر فكذلك بسبب الخوف من سبع أو عدو، ولأن مواضع الضرورة مستثناة.
قال: (وإذا افتتح التطوع على الأرض ثم ركب فأتمها راكبا لم تجزه، ولو افتتحها راكبا ثم نزل فأتمها أجزأه) قيل؛ لأن النزول عمل يسير والركوب عمل كثير؛ لأنه يحتاج فيه إلى استعمال اليدين عادة، وفي النزول يجعل رجليه من جانب فينزل من غير حاجة إلى معالجة، وقيل: إذا افتتح على الأرض فلو أتمها راكبا كان دون ما شرع فيها؛ لأنه شرع فيها بركوع وسجود، والإيماء دون ذلك، والراكب إذا نزل يؤديها أتم مما شرع فيها بالإيماء ويؤديها بركوع وسجود، وعن زفر - رحمه الله تعالى - فيهما جميعا يبني؛ لأنه لما جاز له افتتاح التطوع على الدابة بالإيماء مع القدرة على النزول فالإتمام أولى وعند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - فيهما جميعا يستقبل؛ لأنه لو بنى بعد النزول كان هذا بناء القوي على الضعيف، وذلك لا يجوز كالمريض المومئ يقدر على الركوع والسجود في خلال الصلاة، وفي ظاهر الرواية فرق فقال: هناك ليس له أن يفتتح بالإيماء على الدابة مع القدرة على الركوع والسجود، فكذلك إذا قدر على ذلك في خلال الصلاة لا يبني وبينا له أن يفتتح بالإيماء على الدابة مع القدرة على الركوع والسجود فقدرته على ذلك بالنزول لا تمنعه من البناء.
قال: (ومن قال لله علي أن أصلي ركعتين فصلاهما على الدابة من غير عذر لم يجز) اعتبارا بما يوجبه على نفسه بما أوجب الله عليه، وكذلك إن سمع تلاوة على الأرض فسجدها على الدابة بالإيماء لم تجزه؛ لأنها لزمته بالسجود بالسماع على الأرض حيث سمعها قبل الركوب ولو سمعها وهو راكب فسجدها بالإيماء جاز؛ لأنه أداها كما لو التزمها ولو سجد على الأرض أجزأه؛ لأنه أداها أتم مما التزمها.
قال: (رجلان في محل اقتدى أحدهما بالآخر في التطوع أجزأهما) كما لو كانا على الأرض إذ ليس بين المقتدي والإمام ما يمنع من الاقتداء ويكره له أن يأتم إذا كان عن يسار الإمام اعتبارا بما لو كان على الأرض، وإن كان كل واحد منهما على
دابة لم تجز صلاة المؤتم؛ لأن بين الدابتين طريقا، والطريق العظيم بين المقتدي والإمام يمنع الاقتداء، وعن محمد بن الحسن - رحمه الله تعالى - قال: أستحسن أن يجوز اقتداؤه بالإمام إذا كانت دابتهم بالقرب من دابة الإمام على وجه لا يكون الفرجة بينهم وبين الإمام إلا بقدر الصف بالقياس على الصلاة على الأرض.
قال: (ونية اللاحق للإقامة - وهو في قضاء ما عليه وقد فرغ الإمام من صلاته - ساقطة لا يلزمه الإتمام) ؛ لأنه فيما يتم مقتد بالإمام فنيته في هذه الحالة كنية إمامه، ونية الإمام للإقامة لا يلزمه إتمام هذه الصلاة، ويعني بعدما فرغ منها فكذلك نيته، (فإن قيل نية المقتدي معتبرة في حقه ما لم يخرج من حرمة الصلاة، وفي حق الإمام إنما تعتبر بخروجه عن حرمة الصلاة (قلنا المقتدي تبع فيجعل كالخارج من الصلاة حكما لخروج إمامه منها، وكذلك لو دخل مصره، فإن دخول موضع الإقامة ونية الإقامة في الحكم سواء، ونية المسبوق في قضاء ما عليه للإقامة أو دخوله مصره يلزمه الإتمام؛ لأن المسبوق فيما يقضي كالمنفرد، ونية المنفرد الإقامة معبر فرضه في الوقت فكذلك نية المسبوق؛ لأنه أصل بنفسه، ونية المنفرد الإقامة بعد خروج الوقت في صلاة افتتحها في الوقت ساقطة، وكذلك دخوله المصر؛ لأن بخروج الوقت صار صلاة السفر دينا في ذمته فلا يعتبر بإقامته، فأما في الوقت لا يصير دينا في ذمته بعد، ألا ترى أن في الوقت يسقط بعذر الحيض وبعد خروج الوقت لا يسقط.
قال: (خراساني قدم الكوفة فأقام بها شهرا ثم خرج منها إلى الحيرة فوطن نفسه على إقامة خمسة عشر يوما ثم خرج منها يريد خراسان ويمر بالكوفة، فإنه يصلي ركعتين) ؛ لأن وطنه بالكوفة كان وطنا مستعارا فانتقض بمثله، فالحاصل أن الأوطان ثلاثة. وطن قرار ويسمى الوطن الأصلي وهو أنه إذا نشأ ببلدة أو تأهل بها توطن بها. ووطن مستعار وهو أن ينوي المسافر المقام في موضع خمسة عشر يوما وهو بعيد عن وطنه الأصلي ووطن سكنى وهو أن ينوي المسافر المقام في موضع أقل من خمسة عشر يوما أو خمسة عشر يوما وهو قريب من وطنه الأصلي، ثم الوطن الأصلي لا ينقضه إلا وطن أصلي مثله، والوطن المستعار ينقضه الوطن الأصلي ووطن مستعار مثله والسفر لا ينقضه وطن السكنى لأنه دونه، ووطن السكنى ينقضه كل شيء إلا الخروج منه لا على نية السفر. وقد قررنا هذا الأصل فيما أمليناه من شرح الزيادات فأكثر المسائل على هذا الأصل بخروجها ثمة، والقدر الذي ذكرنا ههنا ما بينا أنه حين توطن بالحيرة خمسة عشر يوما كان هذا وطنا مستعارا له فانتقض به
وطنه بالكوفة والتحق بمن لم يدخلها قط فلهذا يصلي بها ركعتين، وإن لم يوطن على إقامة خمسة عشر يوما بالحيرة صلى بالكوفة أربعا ما لم يخرج منها، فإن الحيرة كانت وطن السكنى له فلم ينتقض به وطنه بالكوفة فهو مقيم بها ما لم يخرج على قصد خراسان منها.
قال: (كوفي خرج إلى القادسية لحاجة ثم خرج منها إلى الحفيرة ثم خرج من الحفيرة يريد الشام وله بالقادسية نقل يريد أن يحمله منها من غير أن يمر بالكوفة، فإنه يصلي بها ركعتين) ؛ لأن القادسية كانت وطن السكنى في حقه سواء عزم على الإقامة بها خمسة عشر يوما أو لم يعزم؛ لأنه من فناء الوطن الأصلي، فإن بينها وبين الكوفة دون مسيرة السفر، فلما خرج إلى الحفيرة انتقض وطنه بالقادسية؛ لأن وطن السكنى ينقضه مثله وقد ظهر له بالحفيرة وطن السكنى، فالتحق بمن لم يدخل القادسية، فلهذا صلى بها ركعتين، وشرطه أن لا يمر بالكوفة؛ لأنه إذا كان يمر بها فقد عزم على الرجوع إلى وطنه الأصلي وبينه وبين وطنه الأصلي دون مسيرة السفر فكان مقيما من ساعته.
قال: (وإن كان لم يأت الحفيرة ولكنه خرج من القادسية لحاجة حتى إذا كان قريبا من الحفيرة بدا له أن يرجع إلى القادسية فيحمل ثقله منها ويرتحل إلى الشام، ولا يمر بالكوفة، صلى أربعا حتى يرتحل من القادسية استحسانا) ، وفي القياس يصلي ركعتين؛ لأن وطن السكنى الذي كان له بالقادسية قد انتقض بخروجه منها على قصد الحفيرة، كما ينتقض لو دخلها ولكنه استحسن، فقال: القادسية كانت لي وطن السكنى، ولم يظهر له بقصد الحفيرة وطن سكنى آخر ما لم يدخلها فبقي وطنه بالقادسية، أرأيت لو خرج منها لبول أو غائط أو تشييع جنازة أو لاستقبال قادم أكان ينتقض وطنه بهذا القدر من الخروج لا ينتقض، فكذلك بالخروج إلى الحفيرة ما لم يدخلها، فلهذا صلى بالقادسية أربعا حتى يرتحل منها.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #26  
قديم 28-09-2025, 05:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الثانى
صـــ 2 الى صـــ 12
(26)





[باب الصلاة في السفينة]
باب في الصلوات في السفينة (قال) وإن استطاع الرجل الخروج من السفينة للصلاة فالأولى له أن يخرج ويصلي قائما على الأرض ليكون أبعد عن الخلاف وإن صلى فيها قاعدا وهو يقدر على القيام أو على الخروج أجزأه عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - استحسانا ولا يجزئه عندهما وهو القياس ووجهه هو أن السفينة في حقه كالبيت حتى لا يصلي فيه بالإيماء تطوعا مع القدرة على الركوع والسجود فكما إذا ترك القيام في البيت مع قدرته عليه لا يجزئه في أداء المكتوبة فكذلك في السفينة لأن سقوط القيام في المكتوبة للعجز أو للمشقة وقد زال ذلك بقدرته على القيام أو على الخروج. وجه الاستحسان أن الغالب في حال راكب السفينة دوران رأسه إذا قام والحكم ينبني على العام الغالب دون الشاذ النادر ألا ترى أن نوم المضطجع جعل حدثا على الغالب ممن حاله أن يخرج منه لزوال الاستمساك وسكوت البكر رضا لأجل الحياء بناء على الغالب من حال البكر والشاذ يلحق بالعام الغالب فهذا مثله (وفي) حديث ابن سيرين - رضي الله تعالى عنه - قال: صلينا مع أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - في السفينة قعودا ولو شئنا لخرجنا إلى الحد وقال مجاهد - رحمه الله: صلينا مع جنادة بن أبي أمية قعودا في السفينة ولو شئنا لقمنا فدل على الجواز
(قال): ولا يجوز للمسافر أن يتطوع في السفينة بالإيماء بخلاف راكب الدابة فإن الجواز له بالإيماء هناك لورود النص به وهذا ليس في معناه لأن راكب الدابة ليس له موضع قرار على الأرض وراكب السفينة له فيها موضع قرار على الأرض فالسفينة في حقه كالبيت ألا ترى أنه لا يجريها بل هي تجري به قال الله تعالى {وهي تجري بهم في موج كالجبال} [هود: 42] وراكب الدابة يجريها حتى يملك إيقافها
متى شاء ولهذا جوزنا الصلاة على الدابة حيث كان وجهه وفي السفينة يلزمه التوجه إلى القبلة عند افتتاح الصلاة وكذلك كلما دارت السفينة يتوجه إليها لأنها في حقه كالبيت فيلزمه التوجه إلى القبلة لأداء الصلاة فيها ولا يصير مقيما بنية الإقامة وصاحب السفينة وغيره في هذا سواء لأن نية الإقامة حصلت في غير موضعها إلا أن تكون قريبة من قريته فحينئذ هو مقيم فيها في موضع إقامته فأما إذا كان مسافرا فيها فلا يصير مقيما بنية الإقامة
(قال): ولا يجوز أن يأتم رجل من أهل السفينة بإمام في سفينة أخرى لأن بينهما طائفة من النهر إلا أن يكونا مقرونين فحينئذ يصح الاقتداء لأنه ليس بينهما ما يمنع صحة الاقتداء فكأنهما في سفينة واحدة لأن السفينتين المقرونتين في معنى ألواح سفينة واحدة وكذلك إن اقتدى من على الحد بإمام في سفينة لم يجز اقتداؤه إذا كان بينهما طريق أو طائفة من النهر وقد بينا هذا فيما سبق
(قال): ومن وقف على الأطلال يقتدي بالإمام في السفينة صح اقتداؤه إلا أن يكون أمام الإمام لأن السفينة كالبيت واقتداء الواقف على السطح بمن هو في البيت صحيح إذا لم يكن أمام الإمام
(قال): ومن خاف فوت شيء من ماله وسعه أن يقطع صلاته ويستوثق من ماله وكذلك إذا انقلبت سفينته أو رأى سارقا يسرق شيئا من متاعه لأن حرمة المال كحرمة النفس فكما يسعه أن يقطع صلاته إذا خاف على نفسه من عدو أو سبع فكذلك إذا خاف على شيء من ماله ولم يفصل في الكتاب بين القليل والكثير وأكثر مشايخنا - رحمهم الله - قدروا ذلك بالدرهم فصاعدا وقالوا ما دون الدرهم حقير فلا يقطع الصلاة لأجله. قال الحسن - رحمه الله تعالى: لعن الله الدانق ومن دنق الدانق. وإنما يقطع صلاته إذا احتاج إلى عمل كثير فأما إذا لم يحتج إلى شيء وعمل كثير بنى على صلاته لحديث أبي برزة الأسلمي - رحمه الله تعالى - إنه كان يصلي في بعض المغازي فانسل قياد الفرس من يده فمشى أمامه حتى أخذ قياد فرسه ثم رجع القهقرى وأتم صلاته وتأويل هذا أنه لم يحتج إلى عمل كثير والله سبحانه وتعالى أعلم
[باب سجود التلاوة]
باب السجدة (قال - رضي الله عنه -) : ويكره للمرء ترك آية السجدة من سورة يقرؤها لأنه في صورة الفرار عن السجدة وليس ذلك من أخلاق المؤمنين ولأنه في صورة هجر آية السجدة وليس شيء
من القرآن مهجورا ولأن القارئ مأمور باتباع التأليف قال الله تعالى {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 18] أي تأليفه وبغير التأليف يكون مكروها وإذا قرأ آية السجدة من بين آي السورة فالأولى أن يقرأ معها آيات وإن اكتفى بقراءة آية السجدة لم يضره لأن قراءة آية السجدة من بين الآي كقراءة سورة من بين السور وذلك لا بأس به والمستحب أن يقرأ معها آيات ليكون أدل على المعنى والإعجاز ولأنه ربما يعتقد هو أو بعض السامعين منه زيادة فضيلة في آية السجدة ومن حيث إن قراءة الكل سواء فلهذا يستحب أن يقرأ معها آيات
(قال): ومن قرأ آية السجدة أو سمعها وجب عليه أن يسجدها عندنا وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه: يستحب له ذلك ولا يجب عليه لحديث الأعرابي حين علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشرائع وقال: هل علي غيرها؟ فقال: لا إلا أن تطوع فلو كانت سجدة التلاوة واجبة لما ترك البيان بعد السؤال وعن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه تلا آية السجدة على المنبر وسجد ثم تلاها في الجمعة الثانية فنشز الناس للسجود فقال: إنها لم تكتب علينا إلا أن نشاء.
(ولنا) حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا تلا ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي فيقول: أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار» والأصل أن الحكيم متى حكى عن غير الحكيم ولم يعقبه بالنكير فذلك دليل على أنه صواب ففيه دليل على أن ابن آدم مأمور بالسجود والأمر للوجوب وعن عثمان وعلي وابن عباس - رضي الله تعالى عنهم - أنهم قالوا: السجدة على من تلاها السجدة على من سمعها على من جلس لها اختلفت ألفاظهم بهذه وعلى كلمة إيجاب ولأن الله تعالى وبخ تارك السجود بقوله {فما لهم لا يؤمنون} [الانشقاق: 20] {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [الانشقاق: 21] والتوبيخ لا يكون إلا بترك الواجب وتأويل حديث عمر لم يكتب علينا التعجيل بها فأراد أن يبين للقوم التأخير عن حالة الوجوب وفي حديث الأعرابي بيان الواجبات ابتداء دون ما يجب بسبب من العبد ألا ترى أنه لم يذكر المنذورة
(قال) فإن قرأها أو سمعها وهو جنب أو على غير وضوء لم يجزئه التيمم إذا كان يقدر على الماء لأنه لا يفوته ولأنه باستعماله الماء يتوصل إلى أدائها بخلاف صلاة الجنازة والعيد
(قال): ومن سمعها من صبي أو كافر أو جنب أو حائض فعليه أن يسجد لأن المتلو قرآن من هؤلاء ولهذا منع الجنب والحائض من قراءته فتقرر السبب الموجب في حق السامع
(قال)
: وليس على الحائض سجدة قرأت أو سمعت لأن السجدة ركن من الصلاة والحائض لا تلزمها الصلاة مع تقرر السبب وهو شهود الوقت فلا يلزمها السجدة أيضا بخلاف الجنب فإنه تلزمه الصلاة بسبب الوقت فتلزمه السجدة بالتلاوة أو السماع
(قال) ويستوي في حق التالي إذا تلاها بالفارسية أو بالعربية وفي حق السامع كذلك عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - فهم أو لم يفهم بناء على أصله بالقراءة الفارسية وعندهما إن كان السامع يعلم أنه يقرأ القرآن فعليه سجود السجدة وإلا فلا وفي العربية عليه السجدة على كل حال ولكن يعذر بالتأخير ما لم يعلم
(قال): وإن قرأها ومعه قوم فسمعوها سجد وسجدوا معه ولم يرفعوا رءوسهم قبله لأن التالي إمام السامعين هكذا قال عمر - رضي الله تعالى عنه - للتالي كنت إمامنا لو سجدت لسجدنا معك فكانوا في حكم المقتدين من وجه فلا يرفعون رءوسهم قبله لهذا وإن فعلوا أجزأهم لأنه لا مشاركة بينه وبينهم في الحقيقة ألا ترى أنه وإن تبين فساد سجدته بسبب لم تفسد عليهم
(قال) وليس عليه في قراءة سجدة واحدة أو سماعها مرة بعد أخرى في مجلس واحد قائما أو قاعدا أو مضطجعا أكثر من سجدة واحدة لما روي أن جبريل - عليه السلام - كان ينزل بالوحي فيقرأ آية السجدة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يقرؤها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ولا يسجد إلا مرة واحدة ولأن مبنى السجدة على التداخل فإن التلاوة من الأصم والسماع من السميع موجبان لها ثم لو تلاها سميع لا يلزمه إلا سجدة واحدة وقد وجد في حقه التلاوة والسماع لأن السبب واحد وهو حرمة المتلو فالقراءة الثانية تكرار محض بسبب اتحاد المجلس فلا يتجدد به المسبب وهذا الحرف أصح من الأول فإنه لو تلاها وسجد ثم تلاها في مجلسه لم يلزمه أخرى والتداخل لا يكون بعد أداء الأول فدل أن الصحيح اتحاد السبب. ولم يذكر الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكره أو سمع ذكره في مجلس مرارا فالمتقدمون من أصحابنا يجعلون هذا قياس السجدة فيقولون: يكفيه أن يصلي عليه مرة واحدة لاتحاد السبب وبعض المتأخرين يقولون: يصلي عليه في كل مرة لأنه حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال «لا تجفوني بعد موتي قيل: وكيف تجفى يا رسول الله؟ قال أن أذكر في موضع فلا يصلى علي» وحقوق العباد لا تتداخل ولهذا قالوا من عطس وحمد الله في مجلس ينبغي للسامع أن يشمته في كل مرة لأنه حق العاطس والأصح أنه إذا زاد على الثلاث
لا يشمته وفي حديث عمر - رضي الله تعالى عنه - قال للعاطس بعد الثلاث: قم فانتثر فإنك مزكوم إلا أن يكون ذهب من ذلك المكان ثم رجع فقرأها فعليه سجدة أخرى لأنه تجدد له بالرجوع مجلس آخر ويتجدد المجلس بتجدد السبب للتلاوة حكما. وعن محمد - رحمه الله - قال: هذا إذا بعد عن ذلك المكان فأما إذا كان قريبا منه لم يلزمه سجدة أخرى فكأنه تلاها في مكانه لحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنه - إنه كان يعلم الناس بالبصرة وكان يزحف إلى هذا تارة وإلى هذه تارة فيعلمهم آية السجدة ولا يسجد إلا مرة واحدة وإن قرأ آية أخرى وهو في مجلسه فعليه سجدة أخرى لأن السبب قد تجدد فإن السجدة الثانية غير الأولى
[عدد سجود القرآن]
ثم ذكر عدد سجود القرآن وهي أربع عشرة سجدة عندنا وكان ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - يقول: عدد سجود القرآن إحدى عشرة سجدة وليس في المفصل عنده سجدة وكان يعد الأعراف والرعد والنحل وبني إسرائيل ومريم والحج الأولى منها والفرقان والنمل والم تنزيل وص وحم السجدة قال سعيد بن جبير: وسألت ابن عمر - رضي الله عنهم - فعدهن كما عدهن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - إحدى عشرة سجدة وقال: ليس في المفصل شيء منها وهكذا ذكر الكرخي - رضي الله عنه - في الجامع الصغير له وليس في المفصل عنده سجدة. والذي في سورة (ص) عنده سجدة شكر والاختلاف بين العلماء في مواضع منها في الحج عندنا سجدة التلاوة الأولى منهما وعند الشافعي - رضي الله عنه - سجدتان الأولى والثانية لحديث مسرع بن ماهان عن عقبة بن عامر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «في الحج سجدتان» أو قال «فضلت الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأهما» وهو مروي عن عمر ومذهبنا مروي عن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - قال: سجدة التلاوة هي الأولى والثانية سجدة الصلاة وهو الظاهر فقد قرنها بالركوع فقال {: اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] والسجدة المقرونة بالركوع سجدة الصلاة وتأويل الحديث فضلت الحج بسجدتين إحداهما سجدة التلاوة والأخرى سجدة الصلاة ويختلفون في التي في سورة (ص) عندنا وهي سجدة التلاوة وعند الشافعي - رضي الله عنه - سجدة الشكر وفائدة الاختلاف إذا تلاها في الصلاة عندنا يسجدها وعند الشافعي لا يسجدها واستدل بما روي «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تلا في خطبته سورة ص فنشز الناس للسجود فقال: علام نشزتم إنها توبة نبي».
(ولنا) ما روي «أن رجلا من الصحابة قال: يا رسول الله رأيت فيما يرى النائم كأني أكتب سورة ص فلما انتهيت إلى
موضع السجدة سجد الدواة والقلم فقال - عليه الصلاة والسلام: نحن أحق بها من الدواة والقلم فأمر حتى يكتب في مجلسه وسجدها مع أصحابه» (فإن قيل) في الحديث زيادة وهو أنه قال «سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرا». (فلما) هذا لا ينفي كونها سجدة تلاوة فما من عبادة يأتي بها العبد إلا وفيها معنى الشكر ومراده من هذا بيان سبب الوجوب إنه كان توبة داود - عليه السلام - وإنما لم يسجدها في خطبته ليبين لهم أنه يجوز تأخيرها وقد روي «أنه سجدها في خطبته مرة» وذلك دليل على الوجوب وعلى أنها سجدة تلاوة فقد قطع الخطبة لها. ويختلفون في التي في حم السجدة في موضعها فقال علي - رضي الله تعالى عنه: آخر الآية الأولى عند قوله {إن كنتم إياه تعبدون} [فصلت: 37] وبه أخذ الشافعي - رضي الله تعالى عنه - وقال ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه: عند آخر الآية الثانية عند قوله تعالى {وهم لا يسأمون} [فصلت: 38] وبه أخذنا لأنه أقرب إلى الاحتياط فإنها إن كانت عند الآية الثانية لم يجز تعجيلها وإن كانت عند الأولى جاز تأخيرها إلى الآية الثانية ويختلفون في المفصل فعندنا فيه ثلاث سجدات وقال مالك - رضي الله تعالى عنه: ليس في المفصل سجدة واحدة لقول ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -.
(ولنا) حديث علي - رضي الله تعالى عنه: عزائم سجود القرآن أربعة التي في {الم} [السجدة: 1] {تنزيل} [السجدة: 2] وحم السجدة وفي النجم واقرأ باسم ربك وعن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة والنجم بمكة فسجد وسجد الناس معه المسلمون والمشركون إلا شيخا وضع كفا من التراب على جبهته وقال: إن هذا يكفيني فلقيته قتل كافرا ببدر» وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1] فسجد وسجد معه أصحابه».
(قال): فإن تلا آية السجدة راكبا أجزأه أن يومئ بها وقال بشر: لا يجزئه لأنها واجبة فلا يجوز أداؤها على الدابة من غير عذر كالمنذورة فإن الراكب إذا نذر أن يصلي ركعتين لم يجز أن يؤديهما على الدابة من غير عذر.
(ولنا) أنه أداها كما التزمها فتلاوته على الدابة شروع فيما تجب به السجدة فكان نظير من شرع على الدابة في التطوع فكما تجوز هناك تجوز هاهنا بخلاف النذر فإنه ليس بشروع في أداء الواجب فكان الوجوب بالنذر مطلقا فيقاس بما وجب بإيجاب الله تعالى
(قال): وإن تلاها على الدابة فنزل ثم ركب وأداها بالإيماء جاز إلا على قول زفر - رضي الله تعالى عنه - فإنه يقول: لما نزل وجب عليه أداؤها على الأرض فكأنه تلاها على الأرض.
(ولنا) أنه لو أداها قبل
نزوله جاز فكذلك بعد ما نزل وركب لأنه يؤديها بالإيماء في الوجهين وهو نظير ما تقدم لو افتتح الصلاة في وقت مكروه
(قال) ومن تلاها ماشيا لم يجز أن يومئ لها لأن السجدة ركن الصلاة فكما لا يصلي الماشي بالإيماء فكذلك لا يسجد بخلاف الراكب
(قال) وإذا قرأها في صلاته وهو في آخر السورة إلا آيات بقين بعدها فإن شاء ركع وإن شاء سجد لها هكذا روي عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - إنه كان إذا تلا آية السجدة في الصلاة ركع ولأن المقصود الخضوع والخشوع وذلك يحصل بالركوع كما يحصل بالسجود. واختلف مشايخنا في أن الركوع ينوب عن سجدة التلاوة أم السجود بعده فمنهم من قال: الركوع أقرب إلى موضع التلاوة فهو الذي ينوب عنها والأصح أن سجدة الصلاة تنوب عن سجدة التلاوة لأن المجانسة بينهما أظهر ولأن الركوع افتتاح للسجود ولهذا لا يلزمه الركوع في الصلاة إن كان عاجزا عن السجود وإنما ينوب ما هو الأصل.
(قال) فإذا أراد أن يركع بها ختم السورة ثم ركع ونوى هكذا فسره الحسن عن أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنهما - وإن أراد أن يسجد لها سجد عند الفراغ من آية السجدة ثم يقوم فيتلو بقية السورة ثم يركع إن شاء وإن شاء وصل إليها سورة أخرى فهو أحب إلي لأن الباقي من خاتمة السورة دون ثلاث آيات فالأولى إذا قام من سجوده أن يقرأ ثلاث آيات لكي لا يكون بانيا للركوع على السجود
(قال) وإن كانت السجدة عند ختم السورة فإن ركع لها فحسن وإن سجد لها ثم قام فلا بد أن يقرأ آيات من سورة أخرى ثم يركع لكي لا يكون بانيا للركوع على السجود (قال) فإن لم يفعل ولكنه كما رفع رأسه ركع أجزأه ويكره ذلك وإن كانت السجدة في وسط السورة فينبغي أن يسجد لها ثم يقوم فيقرأ ما بقي ثم يركع وإن ركع في موضع السجدة أجزأه وإن ختم السورة ثم ركع لم يجزئه ذلك عن السجدة نواها أو لم ينوها لأنها صارت دينا عليه بفوات محل الأداء فلا ينوب الركوع عنها بخلاف ما إذا ركع عندها فإنها ما صارت دينا بعد لبقاء محلها وبخلاف ما إذا كانت قريبة من خاتمة السورة فإنها ما صارت دينا بعد حين لم يقرأ بعدها ما يتم به سنة القراءة وهو نظير من أراد دخول مكة فعليه الإحرام فإن لم يحرم ثم خرج من عامه ذلك وأحرم بحجة الإسلام ناب عما يلزمه لدخول مكة أيضا وإن تحولت السنة ثم أحرم بحجة الإسلام لم يجزئه عما لزمه لدخول مكة لأنها صارت دينا عليه بتحول السنة (قال) فإن أراد أن يركع بالسجدة بعينها فالقياس أن الركعة والسجدة في ذلك سواء وبالقياس
نأخذ وفي الاستحسان لا يجزئه إلا السجدة وتكلموا في موضع هذا القياس والاستحسان من أصحابنا من قال مراده إذا تلاها في غير الصلاة وركع ففي القياس يجزئه لأن الركوع والسجود يتقاربان قال الله تعالى {وخر راكعا وأناب} [ص: 24] أي ساجدا ويقال: ركعت النخلة أي طأطأت رأسها والمقصود منهما الخضوع والخشوع فينوب أحدهما عن الآخر كما في الصلاة وفي الاستحسان الركوع خارج الصلاة ليس بقربة فلا ينوب عما هو قربة بخلاف الركوع في الصلاة وإلا ظهر أن مراده من هذا القياس والاستحسان في الصلاة إذا ركع عند موضع السجدة في الاستحسان لا يجزئه لأن سجدة التلاوة نظير سجدة الصلاة فكما أن إحدى السجدتين في الصلاة لا تنوب عن الأخرى والركوع لا ينوب عنهما فكذلك لا ينوب عن سجدة التلاوة وفي القياس يجوز التقارب بين الركوع والسجود فيما هو المقصود وكل واحد منهما في الصلاة قربة وأخذنا بالقياس لأنه أقوى الوجهين والقياس والاستحسان في الحقيقة قياسان وإنما يؤخذ بما يترجح بظهور أثره أو قوة في جانب صحته.
(قال): وإذا سلم من صلاته وعليه سجدة التلاوة ولا يذكرها فقد ذكرنا أن هذا سلام السهو فلا يخرج من الصلاة حتى لو اقتدى به إنسان جاز اقتداؤه ويسجدها الإمام إذا ذكرها والمقتدي معه ثم يتشهد لأن عوده إلى السجدة ينقض القعدة.
(قال) فإن تكلم قبل أن يذكرها سقطت عنه لأن الكلام قاطع لحرمة الصلاة وما وجب بالتلاوة في الصلاة كان من أعمال الصلاة فلا يؤدى بعد انقطاع حرمة الصلاة ولم تفسد صلاته لأنها ليست من جملة الأركان
(قال) وإن وجبت عليه في غير الصلاة ثم ذكرها في الصلاة لم يقضها فيها لأنها ليست بصلاتية وحرمة الصلاة تمنع من أداء ما ليس من أعمالها فيها وكذلك إن سمعها في صلاته ممن ليس معه في الصلاة لم يسجدها فيها لأنها ليست بصلاتية فإن سببها تلاوة في غير الصلاة فلا يؤديها حتى يفرغ منها وإن سجدها فيها لم تجزئه لأنه أداها قبل وقتها ولا تفسد صلاته إلا في رواية محمد - رحمه الله تعالى - وقد بيناه فيما تقدم
(قال) فإن سجد للتلاوة لغير القبلة فإن كان عالما لم يجزئه وإن كان جاهلا أجزأه يعني إذا اشتبهت عليه القبلة فتحرى وسجد إلى جهة وقد بينا أن الصلاة بالتحري تجوز إلى غير القبلة فالسجدة أولى. وإن ضحك فيها أعادها كما لو تكلم ولم يعد الوضوء لأن الضحك عرف حدثا بالأثر وإنما ورد الأثر في صلاة مطلقة وهذه ليست بصلاة مطلقة وكانت قياس
صلاة الجنازة.
(قال) ولا ينبغي للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة في صلاة لا يجهر فيها بالقرآن لأنه لو فعل ذلك وسجد لها اشتبه على القوم فيظنون أنه غلط فقدم السجود على الركوع وفيه من الفتنة ما لا يخفى فإن قرأ بها سجد لها لتقرر السبب في حقه وهو التلاوة وسجد القوم معه لوجوب المتابعة عليهم وفي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - قال «سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الظهر فظننا أنه قرأ {الم} [السجدة: 1] {تنزيل} [السجدة: 2] السجدة»
(قال) ويكبر لسجدة التلاوة وإذا سجد وإذا رفع رأسه كما في سجدة الصلاة
(قال) ولا يسلم فيها لأن السلام للتحليل عن التحريمة وليس فيها تحريمة
ولم يذكر ماذا يقول في سجوده والأصح أنه يقول في سجوده من التسبيح ما يقول في سجدة الصلاة وبعض المتأخرين استحسن أن يقول فيها {سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا} [الإسراء: 108] لقوله تعالى {يخرون للأذقان سجدا} [الإسراء: 107] الآية واستحسن أيضا أن يقوم فيسجد لأن الخرور سقوط من القيام والقرآن ورد به فإن لم يفعل لم يضره
(قال) رجل قرأ آية السجدة خلف الإمام فسمعها الإمام والقوم فليس على أحد منهم أن يسجدها في الحال ولا بعد الفراغ من الصلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد - رحمه الله تعالى - يسجدون إذا فرغوا من صلاتهم أما في الصلاة لا يسجدون لأنه لو سجدها التالي وتابعه الإمام انقلب المتبوع تابعا وإن لم يتابعه الإمام كان هو مخالفا لإمامه وإن سجدها الإمام وتابعه التالي كان هذا خلاف موضوع السجدة فإن التالي المعتد به إمام السامعين وأما بعد الفراغ فمحمد - رحمه الله تعالى - يقول السبب الموجب للسجدة في حقهم قد وجب وهو التلاوة والسماع وحرمة الصلاة منعت الأداء فيها فيسجدون بعد الفراغ كما لو سمعوا من رجل ليس معهم في الصلاة وليس في هذا أكثر من أن المقتدي ممنوع من القراءة خلف الإمام وهذا لا يمنع وجوب السجدة بتلاوته كالجنب إذا تلاها ولهما حرفان. الأول أن الإمام يحمل عن المقتدي فرضا كما يحمل عنه موجب السهو ثم سهو المقتدي يتعطل فكذلك تلاوته. والثاني أن هذه السجدة صلاتية لأن سببها تلاوة من يشاركهم في الصلاة والصلاتية إذا لم تؤد في الصلاة لا تؤدى بعد الفراغ منها كما لو تلاها الإمام ولم يسجد في الصلاة بخلاف ما إذا سمعوا ممن ليس معهم في الصلاة لأنها ليست بصلاتية ألا ترى أن المقتدي إذا فتح على إمامه لم تفسد به الصلاة ومن ليس معه في الصلاة إذا فتح على المصلي فسدت صلاته وبه يتضح الفرق وليس هذا كقراءة الجنب لأنه غير ممنوع من قراءة
القرآن الموجب للسجدة وهو ما دون الآية بخلاف المقتدي ولأن الجنب ممنوع عن القراءة غير مولى عليه والمقتدي مولى عليه في التصرف لا يتعلق بتصرفه حكم
(قال) وإذا سمعها من الإمام من ليس معهم في الصلاة فعليه أن يسجدها لتقرر السبب وهو السماع فإن دخل مع الإمام في صلاته فإن كان الإمام لم يسجدها بعد سجدها والداخل معه كما لو كان في صلاته عند القراءة وإن كان الإمام قد سجدها سقطت عن الرجل لأنه لا يمكنه أن يسجدها في الصلاة إذ يكون مخالفا لإمامه ولا يمكنه أن يسجدها بعد الفراغ لأنها صلاتية في حقه كما هي في حق الإمام فإنه شريك الإمام فيها والصلاتية لا تؤدى بعد الفراغ منها. وفي الأصل بعد ذكر هذه المسألة قال: ألا ترى لو أن رجلا افتتح الصلاة مع الإمام وهو ينوي التطوع والإمام في الظهر ثم قطعها فعليه قضاؤها فإن دخل معه فيها ينوي صلاة أخرى تطوعا فصلاها معه لم يكن عليه قضاء شيء وهذه المسألة مبتدأة وهي على ثلاثة أوجه إما أن ينوي قضاء الأولى أو لم يكن له نية أو نوى صلاة أخرى ففي الوجهين الأولين عندنا سقط عنه ما لزمه بالإفساد وقال زفر - رضي الله تعالى عنه: لا يسقط لأن ما لزمه بالإفساد صار دينا كالمنذورة فلا بد أن يتأدى خلف الإمام حين يصلي صلاة أخرى ولكنا نقول: لو أتمها حين شرع فيها لم يلزمه شيء آخر فكذلك إذا أتمها بالشروع الثاني لأنه ما التزم بالشروع إلا أداء هذه الصلاة مع الإمام وقد أداها فإن كان قد نوى تطوعا آخر فقد قال ههنا ينوب عما لزمه بالإفساد وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رضي الله تعالى عنهما - وفي زيادات الزيادات قال: لا ينوب وهو قول أبي محمد - رضي الله تعالى عنه -. ووجهه أنه لما نوى صلاة أخرى فقد أعرض عما كان دينا في ذمته بالإفساد فلا ينوب هذا المؤدى عنه بخلاف الأول، وجه قولهما أنه ما التزم في المرتين إلا أداء هذه الصلاة مع الإمام وقد أداها.
(قال): فإن قرأها المصلي وسمعها أيضا من أجنبي أجزأه سجدة واحدة وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه قال: لا تجزئه لأن السماعية ليست بصلاتية والتي أداها صلاتية فلا تنوب عما ليست بصلاتية وجه ظاهر الرواية أنه أدى ما لزمه بالتلاوة وهو أقوى من السماعية لأن لها حرمتين حرمة التلاوة لها وحرمة الصلاة وللسماعية حرمة واحدة والقوي ينوب عن الضعيف ولو استويا ناب أحدهما عن الثاني فلأن ينوب القوي عن الضعيف كان أولى
(قال): وإن تلاها في الصلاة وسجد ثم أحدث فذهب وتوضأ ثم عاد
إلى مكانه وبنى على صلاته ثم قرأ ذلك الأجنبي تلك السجدة فعلى هذا المصلي أن يسجدها إذا فرغ من صلاته لأن بذهابه ورجوعه تجدد له مجلس آخر مما لا يكون من صلاته والسماعية ليست من صلاته فيجعل في حقها كأنه لم يكن في الصلاة ومن ليس في الصلاة إذا سمع وسجد ثم ذهب فتوضأ ثم عاد وسمع فعليه سجدة أخرى
(قال): وإن قرأها في غير الصلاة وسجد ثم افتتح الصلاة في مكانه فقرأها فعليه سجدة أخرى لأن التي وجبت للتلاوة في الصلاة صلاتية فلا تنوب عنها المؤداة قبل الشروع في الصلاة لأنها أضعف وإن لم يكن سجد أولا حتى شرع في الصلاة في مكانه فقرأها فسجد أجزأته عنهما في ظاهر الرواية وفي رواية ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى وهو إحدى روايتي نوادر الصلاة لا تجزئه عن الأولى ووجهه أنه لا يمكن إدخال الثانية في الأولى لأنها أقوى ولا يمكن إدخال الأولى في الثانية لأنه خلاف موضوع التداخل فلا بد من اعتبار كل واحدة منهما على حدة الصلاتية تؤدى في الصلاة وغير الصلاتية وهي الأولى تؤدى بعد الفراغ منها ووجه ظاهر الرواية أن السبب واحد فإن المتلو آية واحدة والمكان واحد والمؤداة أكمل من الأولى لأن لها حرمتين ولو كانت مثل الأولى لنابت عنها فإذا كانت أكمل من الأولى فأولى أن تنوب عنها
(قال): رجل قرأ آية السجدة فسجدها ثم قرأها ثانية بعد ما أطال القعود أجزأته السجدة الأولى لأنه لم يشتغل بين التلاوتين بعمل يقطع به المجلس وباتحاد المجلس يتحد السبب فإن أكل أو نام مضطجعا أو أخذ في بيع أو شراء أو عمل يعرف إنه قطع لما كان قبل ذلك ثم قرأ فعليه سجدة أخرى لأن المجلس يتبدل بهذه الأعمال ألا ترى أن القوم يجلسون لدرس العلوم فيكون مجلسهم مجلس الدرس ثم يشتغلون بالأكل فيصير مجلس الأكل ثم يقتتلون فيصير مجلسهم مجلس القتال وصار تبدل المجلس بهذه الأعمال كتبدله بالذهاب والرجوع.
(قال) وإن نام قاعدا أو أكل لقمة أو شرب شربة أو عمل عملا يسيرا ثم قرأها فليس عليه أخرى لأن بهذا القدر لا يتبدل المجلس والقياس فيهما سواء أنه لا يلزمه أخرى لبقائه في مكانه حقيقة ولكنا استحسنا إذا طال العمل اعتبارا بالمخيرة إذا عملت عملا كثيرا خرج الأمر من يدها وكان قطعا للمجلس بخلاف ما إذا أكلت لقمة أو شربت شربة.
(قال) وإن قرأ بعدها سورة طويلة ثم أعاد قراءة تلك السجدة لم يكن عليه أن يسجدها لأن مجلسه لم يتبدل بقراءة القرآن فإن قراءة القرآن من السجود فباتحاد المجلس يتحد السبب



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #27  
قديم 28-09-2025, 05:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الثانى
صـــ 13 الى صـــ 23
(27)






(قال)
وإن قرأها في الركعة الأولى وسجدها ثم أعادها في الثانية أو الثالثة لم يكن عليه سجود ولم يذكر ههنا اختلافا وقال في الجامع الكبير في القياس وهو قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - الآخر ليس عليه سجدة أخرى وفي الاستحسان وهو قوله الأول وقول محمد - رحمه الله تعالى - عليه سجدة أخرى. وجه ذلك أن للقراءة في كل ركعة حكما على حدة حتى يسقط به فرض القراءة فكانت الإعادة في الركعتين نظير الإعادة في الصلاتين. وجه القياس أن المكان مكان واحد وحرمة الصلاة حرمة واحدة والمتلو آية واحدة فلا يجب إلا سجدة واحدة كما لو أعادها في الركعة وقد قررنا هذا الفصل فيما أمليناه من شرح الجامع
(قال): وإذا قرأ الإمام سجدة في ركعة وسجدها ثم أخذ في الركعة الثانية فقدم رجل جاء ساعتئذ فقرأ تلك السجدة فعليه أن يسجدها لتقرر السبب في حقه وهو التلاوة ولم يوجد منه أداء قبل هذا وهو في هذه التلاوة مبتدئ وعلى القوم أن يسجدوا معه لأنهم التزموا متابعته وإذا سجدها في الصلاة ثم سلم وتكلم ثم قرأها في مكانه فعليه أن يسجدها وفي نوادر أبي سليمان قال: إذا سلم ثم قرأ فليس عليه أن يسجدها وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فموضوع المسألة هناك فيما إذا أعادها قبل أن يتكلم وبالسلام لم ينقطع فور الصلاة فكأنه أعادها في الصلاة وهنا موضوع المسألة فيما إذا تكلم وبالكلام ينقطع فور الصلاة ألا ترى أنه لو تذكر سجدة تلاوة بعد السلام يأتي بها وبعد الكلام لا يأتي بها فيكون هذا في معنى تبدل المجلس (قال) في الأصل: وإن لم يسجدها في الصلاة حتى سجدها الآن أجزأه عنهما وهو سهو وإن كان مراده أعادها بعد الكلام لأن الصلاتية قد سقطت عنه بالكلام إلا أن يكون مراده أعادها بعد السلام قبل الكلام فحينئذ يستقيم لأنه لم يخرج عن حرمة الصلاة وإنما كررها في الصلاة وسجد.
وإن قرأها راكبا ثم نزل قبل أن يسير فقرأها فعليه سجدة واحدة استحسانا وفي القياس عليه سجدتان لتبدل مكانه بالنزول وفي الاستحسان النزول عمل يسير حتى لا يمنعه من البناء على الصلاة فلا يتبدل به المجلس فإن كان سار ثم نزل فعليه سجدتان لأن سير الدابة كمشيه فيتبدل به المجلس
(قال): وإن قرأها على الأرض ثم ركب فقرأها قبل أن يسير سجدها سجدة واحدة على الأرض ولو سجدها على الدابة لا تجزئه عن الأولى لأن المؤداة أضعف من الأولى وإن سجدها على الأرض فالمؤداة أقوى والمكان مكان واحد فتنوب المؤداة عنهما.
وإن قرأها راكبا ثم
نزل ثم ركب فقرأها وهو في مكانه فعليه سجدة واحدة لما بينا أن المكان واحد والمتلو آية واحدة وإن قرأها راكبا سائرا مرتين فإن كان في غير الصلاة فعليه سجدتان لأن سير الدابة مضاف إليه فإنه يملك إيقافها متى شاء فكان نظير مشيه وهو يتبدل به المجلس بخلاف راكب السفينة فإن السفينة في حقه كالبيت وهو لا يجريها بل هي تجري به وإن كان في الصلاة لم يكن عليه إلا سجدة واحدة لأن المكان وإن تفرق فإن حرمة الصلاة واحدة والسجدة من الصلاة لا من المكان فيراعي فيها اتحاد حرمة الصلاة. ومن أصحابنا من يقول هذا إذا أعادها في ركعة واحدة فإن أعادها في ركعتين ينبغي أن يكون على الخلاف الذي بينا في المصلي على الأرض ومنهم من قال لا بل الجواب ههنا في الكل واحد والفرق لمحمد بينه وبين المصلي على الأرض أن هناك يركع ويسجد وذلك عمل كثير يتخلل بين التلاوتين والراكب يومئ وهو عمل يسير فلهذا لا يتجدد به وجوب السجدة
(قال) فإن سمعها من غيره مرتين وهو يسير على الدابة فعليه سجدتان لأن هذه ليست بصلاتية فيعتبر فيه اختلاف الأمكنة لاتحاد حرمة الصلاة فلهذا يلزمه بالسماع في كل مرة سجدة والله سبحانه وتعالى أعلم
[باب صلاة المستحاضة]
باب المستحاضة (قال) وإذا أدركها الحيض في شيء من الوقت وقد افتتحت الصلاة أو لم تفتتحها سقطت تلك الصلاة عنها أما إذا حاضت بعد دخول الوقت فليس عليها قضاء تلك الصلاة إذا طهرت عندنا وقال إبراهيم النخعي - رحمه الله تعالى: عليها قضاؤها لأن الحيض يمنع وجوب الصلاة ولا يسقط الواجب وقد وجب عليها بإدراك جزء من أول الوقت بدليل أنها لو أدت كانت مؤدية للفرض وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه: إذا مضى من الوقت مقدار ما يمكنها أن تصلي فيه ثم حاضت فعليها القضاء لأن التمكن من الأداء معتبر لتقرر الوجوب فإذا وجد تقرر وجوب الصلاة عليها فلا تسقط بعد ذلك بالحيض وقال زفر - رضي الله تعالى عنه - إذا كان الباقي من الوقت حين حاضت مقدار ما يمكنها أن تصلي فيه فليس عليها قضاء تلك الصلاة وإن كان دون ذلك فعليها القضاء لأن الوجوب في أول الوقت موسع وإنما يضيق بآخر الوقت والقضاء يجب بالتفويت فما بقي من الوقت مقدار ما يمكن فيه أداء الصلاة لم تكن هي مفوتة بالتأخير شيئا حتى لا تكون آثمة مفرطة وإن كان الباقي دون ذلك فهي آثمة
مفرطة وكانت مفوتة فيلزمها القضاء كما لو حاضت بعد خروج الوقت ولكنا نقول ما بقي شيء من الوقت فالصلاة لم تصر دينا في ذمتها بل هي في الوقت عين وإنما تعذر عليها الأداء بسبب الحيض وذلك غير موجب للقضاء فأما بخروج الوقت فتصير الصلاة دينا في ذمتها والحيض لا يمنع كون الصلاة دينا في ذمتها وقد بينا فيما سبق أن الوجوب يتعلق بآخر الوقت لكونه مخيرا في أول الوقت وما لم يتقرر الوجوب لا يجب القضاء فإذا اقترن الحيض بوقت تقرر الوجوب فلم يتقرر الوجوب وإذا حاضت بعد خروج الوقت فلم يقترن الحيض بحال تقرر الوجوب فتقرر وعلى هذا لو نفست في آخر الوقت بالولادة أو بإسقاط سقط مستبين الخلق وكذلك لو أغمي على الرجل بعد دخول الوقت وطال إغماؤه ففي وجوب قضاء تلك الصلاة اختلاف على ما بينا وكذلك لو افتتحت الصلاة في الوقت ثم حاضت وهذا بخلاف التطوع فإنه لو أدركها الحيض بعد ما افتتحت التطوع كان عليها قضاء تلك الصلاة إذا طهرت لأنها بالشروع التزمت الأداء فكأنها التزمته بالنذر وفي الفريضة بالشروع ما التزمت شيئا وإنما شرعت للإسقاط لا للالتزام فإذا أدركها الحيض التحقت بما لو لم تشرع وإنما قلنا هذا لأن التزام ما هو لازم لا يتحقق ألا ترى أن من نذر أداء فريضة لم يلزمه بالنذر شيء
(قال) وإذا طهرت من الحيض وعليها من الوقت مقدار ما تغتسل فيه فعليها قضاء تلك الصلاة وإن كان عليها من الوقت مقدار ما لا تستطيع أن تغتسل فيه فليس عليها قضاء تلك الصلاة قال: وهذا إذا كانت أيامها دون العشرة فأما إذا كانت أيامها عشرة فانقطع الدم وقد مر عليها من الوقت شيء قليل أو كثير فعليها قضاء تلك الصلاة هكذا فسره في نوادر أبي سليمان - رحمه الله تعالى - لأنه إذا كانت أيامها عشرة فبمجرد انقطاع الدم تيقنا خروجها من الحيض لأن الحيض لا يكون أكثر من ذلك فإذا أدركت جزءا من الوقت لزمها قضاء تلك الصلاة سواء تمكنت فيه من الاغتسال أو لم تتمكن بمنزلة كافر أسلم وهو جنب أو صبي بلغ بالاحتلام في آخر الوقت فعليه قضاء تلك الصلاة سواء تمكن من الاغتسال في الوقت أو لم يتمكن وأما إذا كانت أيامها دون العشرة فمدة الاغتسال من جملة حيضها على ما قال الشعبي حدثني سبعة عشر نفرا من الصحابة أن الزوج أحق برجعتها ما لم تغتسل وهذا لأن صاحبة هذه البلوى لا تكاد ترى الدم على الولاء ولكنه يسيل تارة وينقطع أخرى فبمجرد الانقطاع لا تخرج من الحيض لجواز أن يعاودها فإذا اغتسلت يحكم بطهارتها شرعا
فإذا ثبت أن مدة الاغتسال من حيضها قلنا إذا أدركت من الوقت مقدار ما يمكنها أن تغتسل فيه وتفتتح الصلاة فقد أدركت جزءا من الوقت بعد الطهارة فعليها قضاء تلك الصلاة وإلا فلا وعلى هذا حكم القربان للزوج إن كانت أيامها عشرة فمتى انقطع الدم جاز للزوج أن يقربها عندنا وعند زفر - رحمه الله تعالى - ليس له ذلك ما لم تغتسل لقوله تعالى {ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة: 222] والاطهار بالاغتسال.
(ولنا) أن بمجرد انقطاع الدم تيقنا خروجها من الحيض والمانع من الوطء الحيض لا وجوب الاغتسال عليها ألا ترى أن الطاهرة إذا كانت جنبا فللزوج أن يقربها فكذلك هنا بعد التيقن بالخروج من الحيض للزوج أن يقربها ولو كانت أيامها دون العشرة فانقطع دمها لم يكن للزوج أن يقربها ما لم تغتسل لأن مدة الاغتسال من حيضها فإن مضى عليها وقت صلاة فللزوج أن يقربها عندنا وقال زفر - رحمه الله تعالى - ليس له ذلك لبقاء فرض الاغتسال عليها كما لو كان قبل مضي الوقت ولكنا نقول بمضي الوقت صارت الصلاة دينا في ذمتها وذلك من أحكام الطهارات فثبتت صفة الطهارة به شرعا كما ثبتت بالاغتسال ومن ضرورته انتفاء صفة الحيض فكان له أن يقربها
(قال) وإذا كان حيضها خمسة أيام فزاد الدم عليها فالزيادة دم حيض معها إلى تمام العشرة لأن عادة المرأة في جميع عمرها لا تبقى على صفة واحدة بل تزداد تارة وتنقص أخرى بحسب اختلاف طبعها في كل وقت فما يمكن أن يجعل حيضا جعلناه لأن مبنى الحيض على الإمكان ألا ترى أن الصغيرة إذا بلغت فاستمر بها الدم يجعل حيضها عشرة للإمكان فهذا كذلك فإذا زاد على العشرة كان حيضها هي الخمسة والزيادة استحاضة لأن الحيض لا يكون أكثر من عشرة فتيقنا فيما زاد على العشرة أنها استحاضة وتيقنا في أيامها بالحيض بقي التردد فيما زاد عليه إلى تمام العشرة إن ألحقناه بما قبله كان حيضا وإن ألحقناه بما بعده كان استحاضة فلا تترك الصلاة فيه بالشك وإلحاقه بما بعده أولى لأنه ما ظهر إلا في الوقت الذي ظهرت فيه الاستحاضة متصلا به والأصل فيه قوله - عليه الصلاة والسلام - «المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها»
(قال) ولو كان حيضها خمسة أيام في أول كل شهر فتقدم حيضها بيوم أو بيومين أو خمسة فهي حائض اعتبارا للمتقدم بالمتأخر ولم يذكر الاختلاف في الأصل وذكر في نوادر أبي سليمان - رضي الله تعالى عنه -. والحاصل أن المتقدم إذا كان بحيث لا يمكن أن يجعل حيضا بانفراده وما رأت في أيامها بحيث يمكن أن يجعل حيضا فالمتقدم
تبع لأيامها والكل حيض بالاتفاق لأن ما لا يستقل بنفسه تبع لما يستقل بنفسه فأما إذا لم تر في أيامها شيئا ورأت قبل أيامها ما يمكن أن يجعل حيضا من خمسة أيام أو ثلاثة أو رأت في أيامها مع ذلك يوما أو يومين أو رأت قبل أيامها يوما أو يومين لم يكن شيء من ذلك حيض عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - لأنه دم مستنكر مرئي قبل وقته فهي كالصغيرة جدا إذا رأت الدم لا يكون حيضا وعندهما الكل حيض لوجود الإمكان فإنه مرئي عقيب طهر صحيح وباب الحيض مبني على الإمكان كما قررنا فأما إذا رأت قبل أيامها ما يمكن أن يجعل حيضا بانفراده وفي أيامها ما يمكن أن يجعل حيضا بانفراده فعندهما الكل حيض إذا لم يجاوز العشرة (وعن) أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - فيه روايتان. إحداهما أن الكل حيض لأن ما رأت في أيامها كان أصلا مستقلا بنفسه فيستتبع ما قبله. والرواية الأخرى إن حيضها ما رأت في أيامها دون ما رأت قبلها وهو رواية المعلى عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - لأن كل واحد منهما لما كان مستقلا بنفسه لم يكن تبعا لغيره والمتقدم مستنكر مرئي قبل وقته وهو خلاف المتأخر لأن في المتأخر قد صارت هي حائضا بما رأت في أيامها فبقيت صفة الحيض لها بالمرئي بعده تبعا وفي المتقدم الحاجة في إثبات صفة الحيض لها ابتداء وذلك لا يكون بالمستنكر المرئي قبل وقته
(قال) وإن كان حيضها مختلفا مرة تحيض خمسة ومرة سبعة فاستحيضت فإنها تدع الصلاة خمسة بيقين ثم تغتسل لتوهم خروجها من الحيض وتصلي يومين بالوضوء لوقت كل صلاة ثم تغتسل لتوهم خروجها من الحيض وليس لزوجها أن يقربها في هذين اليومين احتياطا لجواز أنها حائض فيهما ولو كان هذا آخر عدتها لم يكن للزوج أن يراجعها في هذين اليومين احتياطا.
(قال) وليس لها أن تتزوج في هذين اليومين احتياطا وهذا كله إذا لم ينقطع الدم في هذين اليومين فتأخذ بالاحتياط في كل جانب وقد بينا فيما سبق أن المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة ولها أن تصلي في الوقت ما شاءت بوضوء واحد من فرض أو نفل أو نذر أو فائتة
(قال) فإن أحدثت حدثا آخر في الوقت فعليها إعادة الوضوء لأن طهارتها تتقدر بالوقت في حق الدم السائل لأجل الضرورة ولا ضرورة في سائر الأحداث فهي فيها كغيرها من الأصحاء وكذلك إن توضأت للحدث أولا ثم سال دم الاستحاضة فعليها الوضوء لأن الوضوء الأول لما سبق دم الاستحاضة لم يكن واقعا عن دم الاستحاضة فالحكم لا
يسبق سببه فكان ذلك في حكم دم الاستحاضة كالمعدوم
(قال) ولو كان حيضها خمسة فحاضت ستة ثم حاضت حيضة أخرى سبعة ثم حاضت أخرى ستة فحيضها ستة وكلما عاودها الدم مرتين فحيضها ذلك ومراده إذا استمر بها الدم واحتاجت إلى البناء وهذا الجواب وهو قوله حيضها ستة عندهم جميعا أما عند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - فإن العادة تنتقل بالمرة الواحدة فإنما تبني على ما رأت آخر مرة لأن عادتها انتقلت إليها وعند أبي حنيفة ومحمد - رحمه الله تعالى - لا يحصل انتقال العادة بما دون المرتين ليتأكد بالتكرار فستة قد رأته مرتين فانتقلت إليها واليوم السابع إنما رأت الدم فيه مرة فلم يتأكد بالتكرار والبناء في زمان الاستمرار على ما تأكد بالتكرار هذا معنى قوله كلما عاودها الدم مرتين فحيضها ذلك.
(قال) وإن كان حيضها خمسا فحاضتها وطهرت أربعة أيام ثم عاودها اليوم العاشر كله ثم انقطع فذلك كله حيض ولا يجزئها صومها في الأربعة الأيام التي طهرت فيها عند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - لأن عنده الطهر المتخلل إذا كان دون خمسة عشر يوما لم يكن فاصلا عنده وهو روايته عن أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وكذلك على رواية محمد عن أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنهما - لأن الدم محيط بطرفي العشرة وكذلك على رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنهم - لأنها رأت في أكثر الحيض مثل أقله وزيادة وكذلك على قول محمد - رضي الله تعالى عنه - لأن الدم غالب على الطهر في العشرة فأما قول الحسن - رضي الله تعالى عنه - فحيضها خمستها لأن عنده إذا بلغ الطهر المتخلل ثلاثة أيام يصير فاصلا والاستقصاء في بيان هذه الرواية في كتاب الحيض
(قال) والحمرة والصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض حتى ترى البياض الخالص وقال أبو يوسف - رضي الله تعالى عنه: لا تكون الكدرة حيضا إلا بعد الحيض لأن الحيض الدم الخارج من الرحم دون الخارج من العرق ودم الحيض يجتمع في الطهر في الرحم ثم يخرج الصافي منه ثم الكدرة فأما دم العرق فيخرج منه الكدرة أولا ثم الصافي ومن أشكل عليه هذا فلينظر في حال المفتصد فإذا خرجت الكدرة أولا كان ذلك دليلا لنا على أنه دم عرق وأما إذا خرج الصافي منه أولا ثم الكدرة عرفنا أنه من الرحم فكان الكل حيضا ولكنا نقول ما يكون حيضا إذا رأته المرأة في آخر أيامها يكون حيضا إذا رأته في أول أيامها كالحمرة والصفرة وهذا لأن الحيض بالنص هو الأذى المرئي من موضع مخصوص والكل في صفة
الأذى سواء.
(قال) وألوان الدم ستة والبيان الشافي فيه في كتاب الحيض. وإنما قال حتى ترى البياض الخالص لحديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - أن النساء كن يبعثن بالكراسف إليها لتنظرها فكانت إذا رأت كدرة قالت: لا حتى ترين القصة البيضاء يعني البياض الخالص قيل هو بياض الخرقة وقيل هو شبه خيط دقيق أبيض تراه المرأة على الكرسف إذا طهرت
(قال) فإن حاضت المرأة في شهر مرتين فهي مستحاضة والمراد أنه لا يجتمع في شهر واحد حيضتان وطهران لأن أقل الحيض ثلاثة وأقل الطهر خمسة عشر. وقد ذكر في الأصل سؤالا فقال: لو رأت في أول الشهر خمسة ثم طهرت خمسة عشر ثم رأت الدم خمسة أليس قد حاضت في شهر مرتين ثم أجاب فقال: إذا ضممت إليها طهرا آخر كان أربعين يوما والشهر لا يشتمل على ذلك (ويحكي) أن امرأة جاءت إلى علي - رضي الله عنه - فقالت: إني حضت في شهر ثلاث مرات فقال - رضي الله تعالى عنه - لشريح: ماذا تقول في ذلك؟ فقال: إن أقامت بينة من بطانتها ممن يرضى بدينه وأمانته قبل منها قال علي - رضي الله عنه: قالون وهي بلغة الرومية أصبت ومراد شريح من هذا تحقيق نفي أنها لا تجد ذلك وإن هذا لا يكون
(قال) وما رأت النفساء من الدم زيادة على أربعين يوما فهي استحاضة تصلي فيها ويأتيها زوجها لأن أكثر النفاس يتقدر بأربعين يوما عندنا وبيانه في كتاب الحيض فكانت الأربعون للنفاس كالعشرة للحيض فكما أن الزيادة على العشرة هناك تكون استحاضة فكذلك الزيادة على الأربعين هاهنا.
(قال) وإن طهرت قبل الأربعين اغتسلت وصلت لأنه لا تقدير في أقل النفاس فإنه اسم للدم الخارج عقب الولادة مشتق من تنفس الرحم به والقليل والكثير فيه سواء فإذا طهرت كان عليها أن تغتسل وتصلي بناء على الظاهر لأن معاودة الدم إياها موهومة ولا يترك المعلوم بالموهوم
(قال): فإن كانت عادتها في النفاس ثلاثين يوما فطهرت في عشرين يوما وصلت وصامت عشرة أيام ثم عاودها الدم فاستمر بها حتى جاوز الأربعين فهي مستحاضة فيما زاد على الثلاثين لأن صاحبة العادة في النفاس كصاحبة العادة في الحيض وقد بينا هناك أنه متى زاد على عادتها وجاوز العشرة ترد إلى أيام عادتها وتجعل مستحاضة فيما زاد على ذلك فهذا مثله (قال) : ولا يجزئها صومها في العشرة التي صامتها قبل الثلاثين قال الحاكم: وهذا على مذهب أبي يوسف مستقيم وعلى مذهب محمد فيه نظر وهذا لأن أبا يوسف يرى ختم النفاس بالطهر إذا كان بعده دم
كما يرى ختم الحيض بالطهر إذا كان بعده دم فيمكن جعل الثلاثين نفاسا لها عنده وإن كان ختمها بالطهر ومحمد لا يرى ختم النفاس والحيض بالطهر فنفاسها عنده في هذا الفصل عشرون يوما فلا يلزمها قضاء ما صامت في العشرة الأيام التي بعد العشرين
(قال) ودم الحامل ليس بحيض وإن كان ممتدا عندنا وقال الشافعي - رضي الله عنه: هو حيض في حكم ترك الصوم والصلاة وحرمة القربان دون أقراء العدة قال: لأن الحامل من ذوات الأقراء فإن المرأة إما صغيرة أو آيسة أو ذات قرء والحامل ليست بصغيرة ولا آيسة ولأن ما ينافي الأقراء ينافي الحبل كالصغر واليأس وإذا ثبت أنها من ذوات الأقراء وقد رأت من الدم ما يمكن أن يجعل حيضا جعل حيضا لها والأصل فيه «قوله - عليه الصلاة والسلام - لفاطمة بنت أبي حبيش: إذا أقبل قرؤك فدعي الصلاة» إلا أنا لا نجعل حيضها معتبرا في حكم أقراء العدة لأنها لا تدل على فراغ الرحم في حقها وهي المقصود بأقراء العدة ومذهبنا مذهب عائشة - رضي الله عنها - فإنها قالت: الحامل لا تحيض ومثل هذا لا يعرف بالرأي فيحمل على أنها قالت ذلك سماعا ثم إن الله تعالى أجرى العادة أن المرأة إذا حبلت انسد فم رحمها فلا يخلص شيء إلى رحمها ولا يخرج منه شيء فالدم المرئي ليس من الرحم فلا يكون حيضا والدليل عليه أنه لما نزل قوله تعالى {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] قالت الصحابة: فإن كانت آيسة أو صغيرة فنزل قوله {واللائي يئسن} [الطلاق: 4] فقالوا: فإن كانت حاملا فنزل قوله {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4] ففي هذا بيان أن الحامل لا تحيض وإنها ليست من ذوات الأقراء وتبين بهذا أن قوله «إذا أقبل قرؤك» يتناول الحائل دون الحامل
(قال) فإن ولدت ولدا وفي بطنها آخر فالنفاس من الأول في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد وزفر رحمهما الله تعالى من الآخر لأنها بعد وضع الأول حامل بعد. والحامل لا تصير نفساء كما لا تحيض والدليل عليه حكم انقضاء العدة فإنه معتبر بالولد الآخر وهما يقولان النفاس من تنفس الرحم بالدم من خروج النفس الذي هو الولد أو من خروج النفس الذي هو عبارة عن الدم وقد وجد ذلك كله بالولد الأول وإنما لا تحيض الحامل لانسداد فم الرحم وقد انفتح بالولد الأول فكان الدم المرئي بعده من الرحم وفي حكم انقضاء العدة العبرة بفراغ الرحم ولا يحصل ذلك إلا بالولد الآخر
(قال) وإذا توضأت المستحاضة والدم سائل ولبست خفيها فلها أن تمسح عليهما ما دامت في وقت تلك الصلاة
عندنا (قال) زفر - رضي الله عنه: تمسح كمال مدة المسح وقد بينا هذا في باب المسح على الخفين.
(قال) وإذا وجب الوضوء بذهاب الوقت وهي في الصلاة استقبلت الصلاة وإذا وجب بسيلان الدم بنت على صلاتها ومعنى هذا إذا كان الدم سائلا حين توضأت أو سال بعد الوضوء قبل خروج الوقت فخرج الوقت وهي في الصلاة فعليها أن تستقبل لأن خروج الوقت ليس بحدث ولكن عند خروج الوقت تنتقض طهارتها بالدم السائل مقرونا بالطهارة أو بعدها في الوقت وقد أدت جزءا من الصلاة بعد ذلك الدم وأداء جزء من الصلاة بعد سبق الحدث يمنع البناء عليها فأما إذا توضأت والدم منقطع وخرج الوقت في خلال الصلاة قبل سيلان الدم ثم سال الدم فإنها تتوضأ وتبني لأن وجوب الوضوء بالدم السائل بعد خروج الوقت ولم يوجد بعده أداء شيء من الصلاة فكان لها أن تتوضأ وتبني
(قال): وصاحب الرعاف السائل كالمستحاضة فإنه يتوضأ لوقت كل صلاة
(قال): وإن سال الدم من أحد المنخرين فتوضأ له ثم سال من المنخر الآخر فعليه الوضوء لأن هذا حدث جديد لم يكن موجودا وقت الطهارة فلم تقع الطهارة له فهو والبول والغائط سواء. وإن كان سال منهما جميعا فتوضأ لهما ثم انقطع أحدهما فهو على وضوء ما بقي الوقت لأن وضوءه وقع لهما وما بقي بعد انقطاع أحدهما حدث كامل ألا ترى أنه لو لم يكن توضأ في الابتداء إلا لواحد كان يتقدر وضوءه بالوقت لأجله فكذلك في حكم البقاء وما انقطع صار كأن لم يكن وعلى هذا حكم صاحب القروح إذا كان البعض سائلا ثم سال من آخر أو كان الكل سائلا فانقطع السيلان عن البعض والله تعالى أعلم.
[باب صلاة الجمعة]
باب صلاة الجمعة (قال) - رضي الله عنه: اعلم أن الجمعة فريضة بالكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9] والأمر بالسعي إلى الشيء لا يكون إلا لوجوبه والأمر بترك البيع المباح لأجله دليل على وجوبه أيضا. والسنة حديث «جابر - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا وتقربوا إلى الله بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا وتحببوا إلى الله بالصدقة في السر والعلانية تجبروا وتنصروا وترزقوا واعلموا أن الله تعالى كتب عليكم الجمعة في يومي هذا في شهري هذا في مقامي
هذا فمن تركها تهاونا بها واستخفافا بحقها وله إمام جائر أو عادل فلا جمع الله شمله ألا فلا صلاة له ألا فلا صوم له إلا أن يتوب فإن تاب تاب الله عليه» وفي حديث «ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - قالا: سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أعواد منبره يقول: لينتهين أقوام عن ترك الجمعة أو ليختمن الله على قلوبهم وليكونن من الغافلين». والأمة أجمعت على فرضيتها وإنما اختلفوا في أصل الفرض في الوقت فمن العلماء من يقول: أصل الفرض الجمعة في حق من تلزمه إقامتها وكانت فريضة الجمعة بزوال الشمس في هذا اليوم كفريضة الظهر في سائر الأيام وهو قول الشافعي وأكثر العلماء على أن أصل فرض الوقت في هذا اليوم ما هو في سائر الأيام وهو الظهر ولكنه مأمور بإسقاط هذا الفرض بالجمعة إذا استجمع شرائطها لأن أصل الفرض في حق كل أحد ما يتمكن من أدائه ولا يتمكن من أداء الجمعة بنفسه وإنما يتمكن من أداء الظهر ولو جعلنا أصل الفرض الجمعة لكان الظهر خلفا عن الجمعة عند فواتها وأربع ركعات لا تكون خلفا عن ركعتين فعلمنا أن أصل الفرض الظهر ولكنه مأمور بإسقاط هذا الفرض عن نفسه بأداء الجمعة إذا استجمع شرائطها فهي تختص بشرائط منها في المصلي ومنها في غيره
(قال) أما الشرائط في المصلي لوجوب الجمعة فالإقامة والحرية والذكورة والصحة لحديث جابر - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا مسافر ومملوك وصبي وامرأة ومريض فمن استغنى عنها بلهو أو تجارة استغنى الله عنه والله غني حميد». والمعنى أن المسافر تلحقه المشقة بدخول المصر وحضور الجمعة وربما لا يجد أحدا يحفظ رحله وربما ينقطع عن أصحابه فلدفع الحرج أسقطها الشرع عنه والمملوك مشغول بخدمة المولى فيتضرر منه المولى بترك خدمته وشهود الجمعة وانتظاره الإمام فلدفع الضرر عنه أسقطها الشرع عنه كما أسقط عنه الجهاد بخلاف الظهر فإنه يتمكن من أدائه حيث هو بنفسه فلا ينقطع عن خدمة المولى أو ذلك القدر مستثنى عنه من حق المولى إذ ليس فيه ضرر كثير عليه وتحمل الضرر اليسير لا يدل على تحمل الضرر الكثير. (قال) : والمرأة كذلك مشغولة بخدمة الزوج منهية عن الخروج شرعا لما في خروجها إلى مجمع الرجال من الفتنة والمريض يلحقه الحرج في شهود الجمعة وانتظار الإمام. وعلى هذا قال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه: الأعمى لا يلزمه شهود الجمعة وإن وجد قائدا لأنه عاجز عن السعي بنفسه ويلحقه من الحرج ما يلحق
المريض وعندهما إذا وجد قائدا تلزمه لأنه قادر على السعي وإنما لا يهتدي إلى الطريق فهو كالضال إذا وجد من يهديه إلى الطريق غير أن هذه شرائط الوجوب لا شرائط الأداء حتى أن المسافر والمملوك والمرأة والمريض إذا شهدوا الجمعة فأدوها جازت لحديث الحسن - رضي الله تعالى عنه - «كن النساء يجمعن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقال لهن لا تخرجن إلا تفلات أي غير متطيبات» ولأن سقوط فرض السعي عنهم لا لمعنى في الصلاة بل للحرج والضرر فإذا تحملوا التحقوا في الأداء بغيرهم
(قال) فأما الشرائط في غير المصلى لأداء الجمعة فستة المصر والوقت والخطبة والجماعة والسلطان والإذن العام أما المصر فهو شرط عندنا وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه: ليس بشرط فكل قرية سكنها أربعون من الرجال لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفا تقام بهم لما روي أن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد المدينة جمعت بجواثى وهي قرية من قرى عبد القيس بالبحرين وكتب أبو هريرة إلى عمر - رحمه الله تعالى - يسأله عن الجمعة بجواثى فكتب إليه أن جمع بها وحيثما كنت.
(ولنا) قوله - عليه الصلاة والسلام - «لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع» وقال علي - رضي الله تعالى عنه - لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع ولأن الصحابة حين فتحوا الأمصار والقرى ما اشتغلوا بنصب المنابر وبناء الجوامع إلا في الأمصار والمدن وذلك اتفاق منهم على أن المصر من شرائط الجمعة وجؤائي مصر بالبحرين وتسمية الراوي إياها بالقرية لا ينفي ما ذكرنا من التأويل قال الله تعالى {ولتنذر أم القرى ومن حولها} [الأنعام: 92] ومعنى قول عمر - رضي الله تعالى عنه - وحيثما كنت أي مما هو مثل جؤائي من الأمصار وظاهر المذهب في بيان حد المصر الجامع أن يكون فيه سلطان أو قاض لإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام. وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى أن يتمكن كل صانع أن يعيش بصنعته فيه ولا يحتاج فيه إلى التحول إلى صنعة أخرى وقال ابن شجاع - رضي الله تعالى عنه - أحسن ما قيل فيه إن أهلها بحيث لو اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم ذلك حتى احتاجوا إلى بناء مسجد الجمعة فهذا مصر جامع تقام فيه الجمعة ثم في ظاهر الرواية لا تجب الجمعة إلا على من سكن المصر والأرياف المتصلة بالمصر. وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أن كل من سمع النداء من أهل القرى القريبة من المصر فعليه أن يشهدها وهو قول الشافعي - رضي الله تعالى عنه - لظاهر قوله تعالى {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9] الآية. وقال مالك - رضي الله تعالى عنه: من سكن من
المصر على ثلاثة أميال أو دونها فعليه أن يشهدها وقال الأوزاعي - رضي الله تعالى عنه: من كان يمكنه أن يشهدها ويرجع إلى أهله قبل الليل فعليه أن يشهدها والصحيح ما قلنا إن كل موضع يسكنه من إذا خرج من المصر مسافرا فوصل إلى ذلك الموضع كان له أن يصلي صلاة السفر فليس عليه أن يشهدها لأن مسكنه ليس من المصر. ألا ترى أن المقيم في المصر لا يكون مقيما في هذا الموضع.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #28  
قديم 28-09-2025, 05:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الثانى
صـــ 24 الى صـــ 34
(28)






[وقت صلاة الجمعة]
وأما الوقت فمن شرائط الجمعة يعني به وقت الظهر لما روي «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث مصعب بن عمير - رضي الله تعالى عنه - إلى المدينة قبل هجرته قال له: إذا مالت الشمس فصل بالناس الجمعة» «وكتب إلى سعد بن زرارة - رحمه الله تعالى: إذا زالت الشمس من اليوم الذي يتجهز فيه اليهود لسبتهم فازدلف إلى الله تعالى بركعتين» والذي روى ابن مسعود «أقام الجمعة ضحى» معناه بالقرب منه ومقصود الراوي أنه ما أخرها بعد الزوال وكان مالك - رضي الله عنه - يقول: تجوز إقامتها في وقت العصر بناء على مذهبه من تداخل الوقتين وقد بينا فساده
[شروط الجمعة]
(قال) والخطبة من شرائط الجمعة لحديث ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - إنما قصرت الجمعة لمكان الخطبة ولظاهر قوله تعالى {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9] يعني الخطبة، والأمر بالسعي دليل على وجوبها ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صلى الجمعة في عمره بغير خطبة فلو جاز لفعله تعليما للجواز. (قال) بعض مشايخنا: الخطبة تقوم مقام ركعتين ولهذا لا تجوز إلا بعد دخول الوقت والأصح أنها لا تقوم مقام شطر الصلاة فإن الخطبة لا يستقبل القبلة في أدائها ولا يقطعها الكلام ويعتد بها وإن أداها وهو محدث أو جنب فبه تبين ضعف قوله أنها بمنزلة شطر الصلاة
(قال) والجماعة من شرائطها لظاهر قوله تعالى {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9] ولأنها سميت جمعة وفي هذا الاسم ما يدل على اعتبار الجماعة فيها. ويختلفون في مقدار العدد فقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - ثلاثة نفر سوى الإمام وقال أبو يوسف - رضي الله عنه - اثنان سوى الإمام لأن المثنى في حكم الجماعة حتى يتقدم الإمام عليهما وفي الجماعة معنى الاجتماع وذلك يتحقق بالمثنى وجه قولهما الاستدلال بقوله تعالى {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9] وهذا يقتضي مناديا وذاكرا وهو المؤذن والإمام والاثنان يسعون لأن قوله فاسعوا لا يتناول إلا المثنى ثم ما دون الثلاث ليس بجمع متفق عليه فإن أهل اللغة فصلوا بين التثنية والجمع فالمثنى وإن كان فيه معنى الجمع من وجه فليس بجمع مطلق واشتراط الجماعة ثابت مطلقا ثم يشترط في الثلاثة أن
يكونوا بحيث يصلحون للإمامة في صلاة الجمعة حتى أن نصاب الجمعة لا يتم بالنساء والصبيان ويتم بالعبيد والمسافرين لأنهم يصلحون للإمامة فيها وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه: النصاب أربعون رجلا من الأحرار المقيمين وهذا فاسد. فإن مصعب بن عمير أقام الجمعة بالحديبية مع اثني عشر رجلا وأسعد بن زرارة أقامها بتسعة عشر رجلا ولما نفر الناس في اليوم الذي دخل فيه العير المدينة كما قال الله تعالى {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها} [الجمعة: 11] بقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع اثني عشر رجلا فصلى بهم الجمعة ولا معنى لاشتراط الإقامة والحرية فيهم لأن درجة الإمامة أعلى فإذا لم يشترط هذا في الصلاحية للإمامة فكيف يشترط فيمن يكون مؤتما ولا وجه لمنع هذا فقد «أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة بمكة حتى قال لأهل مكة: أتموا يا أهل مكة صلاتكم فإنا قوم سفر»
(قال) والسلطان من شرائط الجمعة عندنا خلافا للشافعي - رضي الله عنه - وقاسه بأداء سائر المكتوبات فالسلطان والرعية في ذلك سواء.
(ولنا) ما روينا من حديث جابر - رضي الله عنه - «وله إمام جائر أو عادل» فقد شرط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإمام لإلحاقه الوعيد بتارك الجمعة وفي الأثر «أربع إلى الولاة منها الجمعة» ولأن الناس يتركون الجماعات لإقامة الجمعة ولو لم يشترط فيها السلطان أدى إلى الفتنة لأنه يسبق بعض الناس إلى الجامع فيقيمونها لغرض لهم وتفوت على غيرهم وفيه من الفتنة ما لا يخفى فيجعل مفوضا إلى الإمام الذي فوض إليه أحوال الناس والعدل بينهم لأنه أقرب إلى تسكين الفتنة.
والإذن العام من شرائطها حتى أن السلطان إذا صلى بحشمه في قصره فإن فتح باب القصر وأذن للناس إذنا عاما جازت صلاته شهدها العامة أو لم يشهدوها وإن لم يفتح باب قصره ولم يأذن لهم في الدخول لا يجزئه لأن اشتراط السلطان للتحرز عن تفويتها على الناس ولا يحصل ذلك إلا بالإذن العام وكما يحتاج العامة إلى السلطان في إقامتها فالسلطان يحتاج إليهم بأن يأذن لهم إذنا عاما بهذا يعتدل النظر من الجانبين
(قال) فإن صلى الإمام بأهل المصر الظهر يوم الجمعة أجزأهم وقد أساءوا في ترك الجمعة أما الجواز فلأنهم أدوا أصل فرض الوقت ولو لم نجوزها لهم أمرناهم بإعادة الظهر بعد خروج الوقت والأمر بإعادة الظهر عند تفويتها في الوقت وما فوتوها وأما الإساءة فلتركهم أداء الجمعة بعد ما استجمعوا شرائطها وفي حديث ابن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع على قلبه»
(قال)
ويخطب الإمام يوم الجمعة قائما لما روي «أن ابن مسعود - رضي الله عنه - لما سئل عن هذا فقال: أليس تتلو قوله تعالى {وتركوك قائما} [الجمعة: 11] كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائما حين انفض عنه الناس بدخول العير المدينة» وهكذا جرى التوارث من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا والذي روي عن عثمان - رضي الله تعالى عنه - أنه كان يخطب قاعدا إنما فعل ذلك لمرض أو كبر في آخر عمره وفي حديث جابر بن سمرة - رضي الله تعالى عنه - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائما خطبة واحدة فلما أسن جعلها خطبتين يجلس بينهما جلسة» ففي هذا دليل أنه يجوز الاكتفاء بالخطبة الواحدة بخلاف ما يقوله الشافعي - رضي الله تعالى عنه - وفي هذا دليل على أن الجلسة بين الخطبتين للاستراحة وليست بشرط عندنا خلافا للشافعي - رضي الله تعالى عنه - إنها شرط
(قال) إمام خطب جنبا ثم اغتسل فصلى بهم أو خطب محدثا ثم توضأ فصلى بهم أجزأهم عندنا، وعند أبي يوسف - رضي الله تعالى عنه - لا يجزئهم وهو قول الشافعي - رضي الله تعالى عنه - لأن الخطبة بمنزلة شطر الصلاة حتى لا يجوز أداؤها إلا في وقت الصلاة وفي الأثر إنما قصرت الجمعة لمكان الخطبة فكما تشترط الطهارة في الصلاة فكذلك في الخطبة.
(ولنا) أن الخطبة ذكر والمحدث والجنب لا يمنعان من ذكر الله ما خلا قراءة القرآن في حق الجنب وليست الخطبة نظير الصلاة ولا بمنزلة شطرها بدليل أنها تؤدى غير مستقبل بها القبلة ولا يفسدها الكلام وتأويل الأثر أنها في حكم الثواب كشطر الصلاة لا في اشتراط شرائط الصلاة فيها وقد ذكرنا في باب الأذان أنه يعاد أذان الجنب ولم يذكر إعادة خطبة الجنب ولا فرق بينهما في الحقيقة غير أن الأذان لا يتعلق به حكم الجواز فذكر استحباب الإعادة والخطبة يتعلق بها حكم الجواز فذكر الجواز هنا. واستحباب الإعادة هاهنا كهو في الأذان
(قال) وينبغي للإمام أن يقرأ سورة في خطبته لقوله تعالى {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له} [الأعراف: 204] قيل: الآية في الخطبة سماها قرآنا لما فيها من قراءة القرآن وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبلغهم ما أنزل الله تعالى في خطبته وذكر السورة لأنها أدل على المعنى والإعجاز ولو اكتفى بقراءة آية طويلة جاز أيضا لأن فرض القراءة في الصلاة يتأدى بهذا فسنة القراءة في الخطبة أولى
(قال) وإذا أحدث الإمام يوم الجمعة بعد الخطبة وأمر رجلا يصلي بالناس فإن كان الرجل شهد الخطبة جاز ذلك لأنه قام مقام الأول وهو مستجمع
شرائط افتتاح الجمعة ويستوي إن كان الإمام مأذونا في الاستخلاف أو لم يكن بخلاف القاضي فإنه إذا لم يكن مأذونا في الاستخلاف لا يكون له أن يستخلف لأن القضاء غير مؤقت لا يفوت بتأخيره عند العذر والجمعة مؤقتة تفوت بتأخيرها عند العذر إذا لم يستخلف ومن ولاه لما أمره بذلك مع علمه أنه قد يعرض له عارض يمنعه من أدائها في الوقت فقد صار راضيا باستخلافه وإن لم يكن المأمور شهد الخطبة لم يجز له أن يصلي بهم الجمعة لأن الخطبة من شرائط افتتاح الجمعة وهو المفتتح لها فإذا لم يستجمع شرائطها لم يجز له افتتاحها كالأول إذا لم يخطب وهذا بخلاف ما لو افتتح الأول الصلاة ثم سبقه الحدث فاستخلف من لم يشهد الخطبة أجزأهم لأن هناك الثاني بان وليس بمفتتح والخطبة من شرائط الافتتاح وقد وجد ذلك في حق الأصيل فيتعين اعتباره في حق التبع فإن قيل لو أفسد الباني صلاته ثم افتتح بهم الجمعة جاز أيضا وهو مفتتح في هذه الحالة قلنا: نعم ولكنه لما صح شروعه في الجمعة وصار خليفة الأول التحق بمن شهد الخطبة حكما فلهذا جاز له افتتاحها بعد الإفساد.
(قال) وإن كان المأمور جنبا وقد شهد الخطبة فلما أمره الإمام بذلك أمر هو رجلا طاهرا قد شهد الخطبة فصلى بهم أجزأه لأن استخلاف الإمام إياه يثبت له ولاية إقامة الجمعة بدليل أنه لو اغتسل وصلى بهم أجزأهم فيفيده ولاية الاستخلاف أيضا بخلاف ما إذا كان المأمور الأول لم يشهد الخطبة فأمر غيره ممن شهد الخطبة لم يجز له أن يصلي بهم الجمعة لأن أمر الإمام إياه لم يفده ولاية إقامة الجمعة بنفسه فلا يفيده ولاية الاستخلاف الذي هو تبع له وكذلك إن كان المأمور الأول صبيا أو معتوها أو كافرا أو امرأة فأمر غيره بذلك لم يجز له إقامة الجمعة بأمره لأنه لم يفده ولاية إقامتها بنفسه وولاية الاستخلاف تثبت تبعا لثبوت ولاية الإقامة بنفسه
(قال): وإذا أحدث الإمام قبل افتتاح الصلاة فلم يأمر أحدا فتقدم صاحب الشرط إماما أو القاضي أو أمر رجلا قد شهد الخطبة فتقدم وصلى بهم أجزأهم لأن إقامة الجمعة من أمور العامة وقد فوض إلى القاضي وصاحب الشرط ما هو من أمور العامة فنزلا فيه منزلة الإمام في الإمامة والاستخلاف
(قال): ولا ينبغي للإمام أن يتكلم في خطبته بشيء من حديث الناس لأنه ذكر منظوم والتكلم في خلاله يذهب بهاءه فلا يشتغل به كما في خلال الأذان والذي روي أن عثمان - رضي الله عنه - كان يسأله الناس عن سعر الشعير وعن سعر الزيت فقد كان
ذلك قبل الشروع في الخطبة لا في خلالها والذي روي أن عمر - رضي الله عنه - قال لعثمان - رضي الله عنه - حين دخل وهو يخطب: أية ساعة المجيء هذه الحديث، فقد كان ذلك منه أمرا بالمعروف والخطبة كلها وعظ وأمر بمعروف والذي روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب إذ دخل أعرابي وقال: هلكت المواشي وتقطعت السبل وخشينا القحط فاستسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» قيل كان ذلك قبل نزول قوله تعالى {وإذا قرئ القرآن} [الأعراف: 204] الآية وقيل كان ملكا مقيضا هبط في الجمعتين ليذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاء الاستسقاء ودعاء الفرج من خوف الغرق والخطبة فيها الدعاء
(قال) ولا ينبغي للقوم أن يتكلموا والإمام يخطب لقوله تعالى {فاستمعوا له وأنصتوا} [الأعراف: 204] الآية ولأنه في الخطبة يخاطبهم بالوعظ فإذا اشتغلوا بالكلام لم يفد وعظه إياهم شيئا وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال لصاحبه والإمام يخطب: انصت فقد لغا ومن لغا فلا صلاة له» «وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة في خطبته. فقال أبو الدرداء لأبي بن كعب رحمهما الله تعالى: متى أنزلت هذه السورة؟ فلم يجبه فلما فرغ من صلاته قال: أما إن حظك من صلاتك ما لغوت فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكوه فقال - عليه الصلاة والسلام - صدق أبي» وسمع ابن عمر رجلا يقول لصاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب: متى تخرج القافلة؟ فقال صاحبه: غدا فلما فرغ ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - من صلاته قال للمجيب: أما إنك فقد لغوت وأما صاحبك هذا فحمار. فإن كان بحيث لا يسمع الخطبة فظاهر الجواب أنه يسكت لأن المأمور به شيئان الاستماع والإنصات فمن قرب من الإمام فقد قدر عليهما ومن بعد عنه فقد قدر على أحدهما وهو الإنصات فيأتي بما قدر عليه وكان محمد بن سلمة - رضي الله تعالى عنه - يختار السكوت ونصير بن يحيى - رضي الله تعالى عنه - يختار قراءة القرآن في نفسه والحكم بن زهير كان ينظر في الفقه وهو من كبار أصحابنا وكان مولعا بالتدريس قال الحسن بن زياد - رضي الله تعالى عنه: ما دخل العراق أحد أفقه من الحكم بن زهير قلت: فهل يردون السلام ويشمتون العاطس ويصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقرءون القرآن؟ قال: أحب إلي أن يستمعوا فقد أظرف في هذا الجواب ولم يقل لا ولكنه ذكر ما هو المأمور به وهو الاستماع والإنصات ولم يذكر أن العاطس هل يحمد الله تعالى والصحيح أنه يقوله في نفسه فذلك لا يشغله عن الاستماع وأما التشميت ورد السلام فلا يأتي بهما عندنا خلافا للشافعي - رضي الله تعالى عنه -
وهو رواية عن أبي يوسف - رضي الله تعالى عنه - لأن رد السلام فرض والاستماع سنة ولكنا نقول: رد السلام إنما يكون فريضة إذا كان السلام تحية وفي حالة الخطبة المسلم ممنوع من السلام فلا يكون جوابه فرضا كما في الصلاة ثم طلب أبو الدرداء من أبي بن كعب - رضي الله تعالى عنهما - من تاريخ المنزل فقد كان فرضا عليهم ليعرفوا آية الناسخ من المنسوخ وقد جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اللغو في حالة الخطبة فكذلك رد السلام. وأما الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد روي عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أن الخطيب إذا قال {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه} [الأحزاب: 56] ينبغي لهم أن يصلوا عليه وهو اختيار الطحاوي لأنه يبلغهم أمرا فعليهم الامتثال. وجه ظاهر الرواية أن حالة الخطبة كحالة الصلاة في المنع من الكلام فكما أن الإمام لو قرأ هذه الآية في صلاته لم يشتغل القوم بالصلاة عليه فكذلك إذا قرأها في خطبته
(قال): الإمام إذا خرج فخروجه يقطع الصلاة حتى يكره افتتاحها بعد خروج الإمام وينبغي لمن كان فيها أن يفرغ منها يعني يسلم على رأس الركعتين لحديث ابن مسعود وابن عباس - رضي الله تعالى عنهم - موقوفا عليهما ومرفوعا «إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام» وقال عقبة بن عامر - رضي الله تعالى عنهما: الصلاة في حالة الخطبة خطيئة ولأن الاستماع واجب والصلاة تشغله عنه ولا يجوز الاشتغال بالتطوع وترك الواجب وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه: يأتي بالسنة وتحية المسجد إذا دخل والإمام يخطب لحديث «سليك الغطفاني أنه دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين؟ فقال: لا فقال: قم فاركعهما» ودخل أبو الدرداء المسجد ومروان يخطب فركع ركعتين ثم قال: لا أتركهما بعد ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول فيهما ما قال. وتأويل حديث سليك أنه كان قبل وجوب الاستماع ونزول قوله {وإذا قرئ القرآن} [الأعراف: 204] وقيل لما دخل وعليه هيئة رثة ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخطبة لأجله وانتظره حتى قام وصلى ركعتين والمراد أن يرى الناس سوء حاله فيواسوه بشيء وفي زماننا الخطيب لا يترك الخطبة لأجل الداخل فلا يشتغل هو بالصلاة وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه: يكره الكلام بعد خروج الإمام قبل أن يأخذ في الخطبة وبعد الفراغ من الخطبة قبل الاشتغال بالصلاة كما تكره الصلاة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تكره الصلاة في هذين الوقتين ولا يكره الكلام لما جاء في الحديث «خروج الإمام
يقطع الصلاة» وكلامه يقطع الكلام ولأن الصلاة تمتد وربما لا يمكنه قطعها حين يأخذ الإمام في الخطبة والكلام يمكن قطعه متى شاء والنهي عنه لوجوب استماع الخطبة فيقتصر على حالة الخطبة وأبو حنيفة - رضي الله عنه - استدل بما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول الحديث إلى أن قال: فإذا خرج الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر» وإنما يطوون الصحف إذا طوى الناس الكلام وأما إذا كانوا يتكلمون فهم يكتبونه عليهم قال الله تعالى {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18] ولأن الإمام إذا صعد المنبر ليخطب فكان مستعدا لها فيجعل كالشارع فيها من وجه ألا ترى أن في كراهة الصلاة جعل الاستعداد لها كالشروع فيها فكذلك في كراهة الكلام ووجوب الإنصات غير مقصور على حال تشاغله بالخطبة حتى يكره الكلام في حالة الجلسة بين الخطبتين
(قال) وينبغي للرجل أن يستقبل الخطيب بوجهه إذا أخذ في الخطبة وهكذا نقل عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أنه كان يفعله لأن الخطيب يعظهم ولهذا استقبلهم بوجهه وترك استقبال القبلة فينبغي لهم أن يستقبلوه بوجوههم ليظهر فائدة الوعظ وتعظيم الذكر كما في غير هذا من مجالس الوعظ ولكن الرسم الآن أن القوم يستقبلون القبلة ولم يؤمروا بترك هذا لما يلحقهم من الحرج في تسوية الصفوف بعد فراغه لكثرة الزحام إذا استقبلوه بوجوههم في حالة الخطبة
(قال) وإذا خطب بتسبيحة واحدة أو بتهليل أو بتحميد أجزأه في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: لا يجزئه حتى يكون كلاما يسمى خطبة وقال الشافعي - رضي الله عنه: لا يجزئه حتى يخطب خطبتين يقرأ فيهما شيئا من القرآن ويجلس بينهما جلسة واستدل بالتوارث من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا والتوارث كالتواتر ولكنا قد روينا «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الابتداء كان يخطب خطبة واحدة فلما أسن جعلها خطبتين وجلس بينهما» فدل على أنه إنما فعل ذلك ليكون أروح عليه لا لأنه شرط وأبو يوسف ومحمد قالا: الشرط الخطبة ومن قال: الحمد لله أو قال: لا إله إلا الله فهذه الكلمة لا تسمى خطبة وقائلها لا يسمى خطيبا فما لم يأت بما يسمى خطبة لا يتم شرط الجمعة وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - استدل بما روي أن عثمان - رضي الله عنه - لما استخلف صعد المنبر فقال: الحمد لله فارتج عليه فقال: إن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانا يعدان لهذا المكان مقالا
أو قال يرتادان أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال وستأتي الخطب الله أكبر ما شاء الله فعل ونزل وصلى الجمعة ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فدل أنه يكتفي بهذا القدر. ولما أتى الحجاج العراق صعد المنبر فقال: الحمد لله فارتج عليه فقال: يا أيها الناس قد هالني كثرة رءوسكم وأحداقكم إلي بأعينكم وإني لا أجمع عليكم بين الشح والعي إن لي نعما في بني فلان فإذا قضيتم الصلاة فانتهبوها ونزل وصلى معه من بقي من الصحابة كابن عمر وأنس بن مالك - رضي الله عنهما - ولأن المنصوص عليه الذكر قال الله تعالى {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9] وقد بينا أن الذكر بها ثبت بالنص والذكر يحصل بقوله الحمد لله فما زاد عليه شرط الكمال لا شرط الجواز وهو نظير ما قال أبو حنيفة أن فرض القراءة يتأدى بآية واحدة ثم قوله الحمد لله كلمة وجيزة تحتها معان جمة تشتمل على قدر الخطبة وزيادة والمتكلم بقوله الحمد لله كالذاكر لذلك كله فيكون ذلك خطبة لكنها وجيزة وقصر الخطبة مندوب إليه جاء عن عمر - رضي الله عنه - قال: طولوا الصلاة وقصروا الخطبة وقال ابن مسعود - رضي الله عنه: طول الصلاة وقصر الخطبة من فقه الرجل إلا أن الشرط عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - أن يكون قوله الحمد لله على قصد الخطبة حتى إذا عطس وقال: الحمد لله يريد به الحمد على عطاسه لا ينوب عن الخطبة هكذا نقل عنه مفسرا في الأمالي
(قال): والأذان إذا صعد الإمام المنبر فإذا نزل أقام الصلاة بعد فراغه من الخطبة هكذا كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخليفتين من بعده إلى أن أحدث الناس الأذان على الزوراء على عهد عثمان - رضي الله عنه - وقد بينا ذلك في باب الأذان
(قال): رجل ذكر في الجمعة أن عليه الفجر فهذا على ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يخاف فوت الجمعة لو اشتغل بالفجر فعليه أن يقطع الجمعة ويبدأ بالفجر ثم بالجمعة لمراعاة الترتيب فإنه واجب عندنا. والثاني أن يخاف فوت الوقت لو اشتغل بالفجر فهذا يتم الجمعة لأن الترتيب عنه ساقط بضيق الوقت. والثالث أن يخاف فوت الجمعة دون الوقت لو اشتغل بالفجر فهذا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى نظير الفصل الأول يلزمه مراعاة الترتيب وعند محمد - رحمه الله تعالى - نظير الفصل الثاني لأن شروعه في الجمعة قد صح وهو يخاف فوتها لو اشتغل بالفجر فلا يلزمه مراعاة الترتيب كما لو تذكر العشاء في خلال الفجر وهو يخاف طلوع الشمس لو اشتغل بالعشاء بل أولى فإن هناك لا يفوته أصل الصلاة إنما يفوته الأداء في الوقت وههنا
يفوته أصل الصلاة وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا: الجمعة في هذا اليوم كالظهر في سائر الأيام فكما أنه لو تذكر الفجر في خلال الظهر وهو يخاف فوت الجماعة دون الوقت يلزمه مراعاة الترتيب فكذلك ههنا وهذا لأن أصل فرض الوقت لا يفوته وقد بينا أنها كالظهر وهو يتمكن من أدائها في الوقت مع مراعاة الترتيب بخلاف ما إذا كان يخاف فوت الوقت
(قال): رجل زحمه الناس يوم الجمعة فلم يستطع أن يسجد فوقف حتى سلم الإمام فهذا واللاحق سواء يمضي في صلاته بغير قراءة لأنه أدرك أولها فكان مقتديا في الإتمام ولا قراءة عليه كالذي نام أو سبقه الحدث فإن لم يقم في الركعة الثانية مقدار قراءة الإمام ولكنه كما استتم قائما ركع أجزأه لأن الركن أصل القيام في كل ركعة لا امتداده ألا ترى أن الإمام في سائر الصلوات لو لم يطول القيام في الشفع الثاني أجزأه لأنه لا قراءة فيهما فهذا مثله
(قال): ولا يجزئه التيمم في الجمعة وإن خاف فوتها لأنها تفوت إلى خلف وهو الظهر وقد بينا هذا في باب التيمم
(قال): مريض لا يستطيع أن يشهد الجمعة فصلى الظهر في بيته بأذان وإقامة فهو حسن لأن هذا اليوم في حقه كسائر الأيام إذ ليس عليه شهود الجمعة فيه
(قال): ومن صلى الظهر لمرض أو سفر أو بغير عذر ثم صلى الجمعة مع الإمام فالجمعة هي الفريضة عندنا وقال زفر - رحمه الله تعالى: إن كان مريضا أو مسافرا ففرضه الظهر وإن لم يكن له عذر ففرضه الجمعة ولا يجزئه الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة فالكلام في فصلين أحدهما في المعذور وجه قول زفر - رحمه الله تعالى - أن هذا اليوم في حقه كسائر الأيام وفي سائر الأيام لو صلى الظهر في بيته ثم أدرك الجماعة كان فرضه ما أدى في بيته فكذلك هنا ولكنا نقول: الجمعة أقوى من الظهر ولا يظهر الضعيف في مقابلة القوي وإنما فارق المريض الصحيح في الترخص بترك السعي إلى الجمعة فإذا شهدها فهو والصحيح سواء فيكون فرضه الجمعة والفصل الثاني في الصحيح المقيم إذا صلى الظهر في بيته ولم يشهد الجمعة أجزأه عندنا وقد أساء وقال زفر - رحمه الله تعالى: لا يجزئه الظهر إلا بعد فراغ الإمام من الجمعة وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه: لا يجزئه الظهر إلا بعد خروج الوقت لأن من أصل زفر والشافعي أن الفرض في حقه الجمعة والظهر بدل فإنه مأمور بالسعي إلى الجمعة وترك الاشتغال بالظهر ما لم يتحقق فوت الجمعة وهذا صورة الأصل والبدل فإذا أدى البدل مع قدرته على الأصل لا يجزئه وعند زفر - رحمه الله تعالى - فوات الأصل بفراغ الإمام لأنه يشترط السلطان
لإقامة الجمعة وعند الشافعي - رحمه الله تعالى - فوات الأصل بخروج الوقت لأن السلطان عنده ليس بشرط لإقامة الجمعة فأما عندنا فأصل فرض الوقت الظهر قال - عليه الصلاة والسلام - «وأول وقت الظهر حين تزول الشمس» ولم يفصل بين هذا اليوم وغيره ولأنه ينوي القضاء في الظهر إذا أداه بعد خروج الوقت فلو لم يكن أصل فرض الوقت في حقه الظهر لما احتاج إلى نية القضاء بعد فوات الوقت فإذا ثبت أن أصل الفرض هو الظهر وقد أداه في وقته فيجزئ عنه. وقد روي عن محمد - رحمه الله تعالى - قال: لا أدري ما أصل فرض الوقت في هذا اليوم ولكن يسقط الفرض عنه بأداء الظهر أو الجمعة يريد به أن أصل الفرض أحدهما لا بعينه ويتعين بفعله
(قال) ولو صلى الظهر ثم سعى إلى الجمعة فوجد الإمام قد فرغ منها فإن كان خروجه من بيته بعد فراغ الإمام منها فليس عليه إعادة الظهر وإن كان قبل فراغ الإمام منها فعليه إعادة الظهر عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - ليس عليه إعادة الظهر ما لم يفتتح الجمعة مع الإمام. وجه قولهما أنه أدى فرض الوقت بأداء الظهر فلا ينتقض إلا بما هو أقوى منه وهو الجمعة فأما مجرد السعي فليس بأقوى مما أدى ولا يجعل السعي إليها كمباشرتها في ارتفاض الظهر به كالقارن إذا وقف بعرفات قبل أن يطوف لعمرته يصير رافضا لها ولو سعى إلى عرفات لا يصير به رافضا لعمرته. وجه قوله أن السعي من خصائص الجمعة لأنه أمر به فيها دون سائر الصلوات فكان الاشتغال بما هو من خصائصها كالاشتغال بها من وجه فيصير به رافضا للظهر ولكن السعي إليها إنما يتحقق قبل فراغ الإمام منها لا بعده وفي مسألة القارن في القياس ترتفض عمرته بالسعي إلى عرفات وفي الاستحسان لا ترتفض لأن السعي هناك منهي عنه قبل طواف العمرة فضعف في نفسه وههنا مأمور به فكان قويا في نفسه
(قال): وإذا لم يفرغ الإمام من الجمعة حتى دخل وقت العصر فسدت الجمعة لأن الوقت من شرائطها فإذا فات قبل الفراغ منها كان بمنزلة فواته قبل الشروع فيها لأن شرائط العبادة مستدامة من أولها إلى آخرها كالطهارة للصلاة فإن قهقه لم يلزمه وضوء وهذا قول محمد - رضي الله عنه - وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة - رحمه الله - لأن التحريمة انحلت بفساد الجمعة فأما عند أبي يوسف وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة - رحمه الله - فلم تحل التحريمة بفساد الفريضة فإذا قهقه فعليه الوضوء لمصادفة القهقهة حرمة الصلاة
(قال) وإذا فزع الناس فذهبوا بعد ما خطب الإمام لم يصل الجمعة إلا
أن يبقى معه ثلاثة رجال سواء لأن الجماعة من شرائط افتتاح الجمعة. وقد بينا اختلافهم في مقدارها وإن بقي معه ثلاثة من العبيد أو المسافرين يصلي بهم الجمعة لأنهم يصلحون للإمامة فيها بخلاف ما إذا بقي ثلاثة من النساء أو الصبيان وإن كان صلى بالناس ركعة ثم ذهبوا أتم صلاته جمعة عندنا (وقال) زفر - رحمه الله تعالى: يستقبل الظهر إذا ذهبوا قبل أن يقعد مقدار التشهد لأن الجماعة شرط الجمعة كالوقت ولكنا نقول الجماعة شرط افتتاح الجمعة وقد وجد ذلك حتى صلى بهم ركعة فكان له أن يتمها جمعة بخلاف الوقت فإنه شرط الأداء لا شرط الافتتاح وتمام الأداء بالفراغ من الصلاة. ألا ترى أن المسبوق إذا أدرك ركعة مع الإمام قام بعد فراغه فأتم الجمعة كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فقد أدرك» ومثله لو خرج الوقت قبل فراغه من قضاء الركعة الثانية فسدت به جمعته فاتضح الفرق ولو ذهبوا بعد ما كبر الإمام وكبروا معه قبل تقييد الركعة بالسجدة فعلى قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - يستقبل الظهر وعندهما يتمها جمعة لأن الافتتاح بالتكبير يحصل وقد كان شرط الجماعة موجودا عنده وقياسا بالخطبة فإن الإمام بعد ما كبر لو سبقه الحدث فاستخلف من لم يشهد الخطبة أتم الجمعة وكان استخلافه إياه بعد التكبير كاستخلافه بعد أداء ركعة فهذا مثله. وأبو حنيفة - رحمه الله - يقول: الجماعة شرط صلاة الجمعة ولا يصير مصليا ما لم يقيد الركعة بالسجدة فكان ذهاب الجماعة قبل تقييدها كذهابهم قبل التكبير ثم الجماعة شرط الافتتاح وما لم يقيد الركعة بالسجدة فهو مفتتح لكل ركن بخلاف ما بعد تقييد الركعة بالسجدة فإنه معيد للأركان لا مفتتح وليس كالخطبة فإن الذي يستخلفه هناك بان على صلاته وشرط الخطبة موجود في حق الأصل وههنا الإمام أصل في افتتاح الأركان فلا بد من وجود شرط الجماعة عند افتتاح كل ركن
(قال): رجل صلى الجمعة بالناس بغير إذن الإمام أو خليفته أو صاحب الشرط أو القاضي لم يجزئهم لما بينا أن السلطان شرط لإقامتها وقد عدم ولم يذكر أنه لو مات من يصلي الجمعة بالناس فاجتمعوا على رجل فصلى بهم الجمعة هل يجزئهم؟ والصحيح أنه يجزئهم فقد ذكر ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى أنه لو مات عامل إفريقية فاجتمع الناس على رجل فصلى بهم الجمعة أجزأهم لأن عثمان - رحمه الله تعالى - لما حصر اجتمع الناس على علي - رضي الله عنه - فصلى بهم الجمعة ولأن الخليفة إنما يأمر بذلك نظرا منه لهم فإذا نظروا لأنفسهم
واتفقوا عليه كان ذلك بمنزلة أمر الخليفة إياه




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #29  
قديم 28-09-2025, 05:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الثانى
صـــ 35 الى صـــ 45
(29)






(قال): ومن صلى الجمعة في الطاقات أو في السدة أو في دار الصيارفة أجزأه إذا كانت الصفوف متصلة لأن اتصال الصفوف يجعل هذا الموضع في حكم المسجد في صحة الاقتداء بالإمام بدليل سائر الصلوات والاصطفاف بين الأسطوانتين غير مكروه لأنه صف في حق كل فريق وإن لم يكن طويلا وتخلل الأسطوانة بين الصف كتخلل متاع موضوع أو كفرجة بين رجلين وذلك لا يمنع صحة الاقتداء ولا يوجب الكراهة
(قال) ومن أدرك الإمام في التشهد في الجمعة أو في سجدتي السهو فاقتدى به فقد أدركها ويصليها ركعتين في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد - رحمه الله تعالى: يصلي أربعا لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فقد أدرك وإن أدركهم جلوسا صلى أربعا». وهما استدلا بقوله - صلى الله عليه وسلم - «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» وقد فاته ركعتان ثم هو بإدراك التشهد مدرك للجمعة بدليل أنه ينويها دون الظهر حتى لو نوى الظهر لم يصح اقتداؤه به ثم الفرض بالاقتداء تارة يتعين إلى الزيادة كما في حق المسافر يقتدي بالمقيم وتارة إلى النقصان كما في حق الجمعة ثم في اقتداء المسافر بالمقيم لا فرق بين الركعة وما دونها في تعين الفرض به فكذا هنا وتأويل الحديث وإذا أدركهم جلوسا قد سلموا والقياس ما قالا إلا أن محمدا - رحمه الله تعالى - احتاط وقال: يصلي أربعا احتياطا وذلك جمعته ولهذا ألزمه القراءة في كل ركعة وكذلك تلزمه القعدة الأولى على ما ذكره الطحاوي عنه كما هو لازم للإمام وفي رواية المعلى عنه لا تلزمه القعدة الأولى لأنه ظهر من وجه فلا تكون القعدة الأولى فيه واجبة وهذا الاحتياط لا معنى له فإنه إن كان ظهرا فلا يمكنه أن يبنيها على تحريمة عقدها للجمعة وإن كان جمعة فلا تكون الجمعة أربع ركعات
(قال): إمام خطب يوم الجمعة فلما فرغ منها قدم أمير آخر يصلي فإن صلى القادم بخطبة الأول صلى الظهر لأن الخطبة من شرائط افتتاح الجمعة وهو غير موجود في حقه وإن خطب خطبة أخرى صلى ركعتين لاستجماع شرائط الجمعة وإن كان صلى الأول الجمعة بالناس فإن لم يعلم بقدوم الثاني أجزأهم لأنه لا ينعزل ما لم يعلم بقدوم الثاني وإن علم به لم يجزئهم إلا أن يكون الثاني أمر بإقامتها فحينئذ يجزئهم لأنه مستجمع لشرائطها وقد قيل لا يجزئهم لأن الثاني لما لم يملك إقامتها لعدم شهود الخطبة لم يصح أمره الأول بها وقد بينا هذا فيما سبق
(قال) ويكره أن يصلي الظهر يوم الجمعة في المصر
جماعة في سجن أو في غير سجن هكذا روي عن علي - رضي الله عنه - ولأن الناس أغلقوا أبواب المساجد في وقت الظهر يوم الجمعة في الأمصار فدل أنه لا يصلي جماعة فيها ولأن المأمور به في حق من يسكن المصر في هذا الوقت شيئان: ترك الجماعة وشهود الجمعة وأصحاب السجن قدروا على أحدهما وهو ترك الجماعة فيأتون بذلك ولو جوزنا للمعذور إقامة الظهر بالجماعة في المصر ربما يقتدي بهم غير المعذور وفيه تقليل الناس في الجامع وهذا بخلاف القرى فإنه ليس على من يسكنها شهود الجمعة فكان هذا اليوم في حقهم كسائر الأيام
(قال): والخطبة يوم الجمعة قبل الصلاة هكذا فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بينا أنها من شرائط الجمعة
(قال) ويجهر بالقراءة في صلاة الجمعة به جرى التوارث وهكذا نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى حفظ عنه أصحابه ما قرأ فيها ونقلوه قال أبو هريرة - رضي الله عنه - «قرأ في الركعة الأولى سورة الجمعة وفي الثانية المنافقين» وقال النعمان بن بشير - رحمه الله تعالى: «قرأ في الأولى {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] وفي الثانية {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1] »
(قال) ومن أدرك الإمام بعد ما رفع رأسه من الركوع فأحدث الإمام وقدمه سجد بهم السجدتين ولم يحتسب بهما من صلاته لأنه خليفة الأول فيأتي بما كان يأتي الأول إلا أن شرط الاحتساب بهما لم يوجد في حقه وهو تقدم الركوع فإن قيل: فإذا لم يحتسب بهما كان تطوعا في حقه فكيف يجوز اقتداء القوم به وهم مفترضون قلنا: لا كذلك بل هما فرض في حقه حتى لو تركهما لم تجز صلاته ولكنه لا يحتسب بهما لانعدام شرط الاحتساب في حقه
(قال) وإذا أمر الإمام مسافرا أو عبدا يقيم الجمعة بالناس جاز ذلك إلا عند زفر - رحمه الله تعالى - وقد بينا هذا
(قال) وما قرأ من القرآن في الجمعة فهو حسن كما في سائر الصلوات إلا أنه لا يوقت لذلك شيئا لأنه يؤدي إلى هجر ما سوى ما وقته وليس شيء من القرآن مهجورا إلا أن يتبرك بقراءة سورة ثبت عنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها فيها فيقتدي به
(قال): وإذا قام الإمام من الركعة الثانية في الجمعة ولم يقعد فإنه يعود ويقعد لأنها قعدة الختم في هذه الصلاة فيعود إليها كما في سائر الصلوات والجمعة في حق المقيم كالظهر في حق المسافر
(قال): وللرجل أن يحتبي في يوم الجمعة في المسجد إن شاء لأن قعوده لانتظار الصلاة فيقعد كما شاء وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التطوعات في بيته كان يقعد محتبيا فإذا جاز ذلك في الصلاة ففي حالة انتظارها أولى والله تعالى أعلم
[باب صلاة العيدين]
الأصل في العيدين حديث أنس - رضي الله عنه - قال: «قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: قد أبدلكم الله سبحانه وتعالى بهما خيرا منهما الفطر والأضحى»
واشتبه المذهب في صلاة العيد أنها واجبة أم سنة فالمذكور في الجامع الصغير إنها سنة لأنه قال في العيدين: يجتمعان في يوم واحد فالأولى منهما سنة وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه تجب صلاة العيد على من تجب عليه صلاة الجمعة وقال في الأصل: لا يصلى التطوع في الجماعة ما خلا قيام رمضان وكسوف الشمس فهو دليل على أن صلاة العيد واجبة والأظهر أنها سنة ولكنها من معالم الدين أخذها هدى وتركها ضلالة وإنما يكون الخروج في العيدين على أهل الأمصار دون أهل القرى والسواد لما روينا «لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع» والمراد بالتشريق صلاة العيد على ما جاء في الحديث «لا ذبح إلا بعد التشريق»
والحاصل أنه يشترط لصلاة العيد ما يشترط لصلاة الجمعة إلا الخطبة فإنها من شرائط الجمعة وليست من شرائط العيد ولهذا كانت الخطبة في الجمعة قبل الصلاة وفي العيد بعدها لأنها خطبة تذكير وتعليم لما يحتاج إليه في الوقت فلم تكن من شرائط الصلاة كالخطبة بعرفات والخطبة يوم الجمعة بمنزلة شطر الصلاة لما ذكرنا والدليل على أن الخطبة في العيد بعد الصلاة ما روي «أن مروان - رحمه الله تعالى - لما خطب في العيد قبل الصلاة قام رجل فقال: أخرجت المنبر يا مروان ولم يخرجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخطبت قبل الصلاة ولم يخطب هو قبلها وإنما كان يخطب بعد الصلاة فقال مروان: ذاك شيء قد ترك فقال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه: أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» يعني أضعف أفعال الإيمان فقد كانت الخطبة بعد الصلاة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين حتى أحدث بنو أمية الخطبة قبل الصلاة لأنهم كانوا في خطبتهم يتكلمون بما لا يحل فكان الناس لا يجلسون بعد الصلاة لسماعها فأحدثوها قبل الصلاة ليسمعها الناس والخطبة في العيدين كهي في الجمعة يخطب خطبتين يجلس بينهما جلسة خفيفة ويقرأ فيها سورة من القرآن
ويستمع لها القوم وينصتوا له لأنه يعظهم فإنما ينفع وعظه إذا استمعوا
(قال): وليس في العيدين أذان ولا إقامة هكذا جرى التوارث من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا وهو دليل على أنها سنة
(قال): وإن خطب أولا ثم صلى أجزأهم كما لو ترك الخطبة أصلا
(قال) والتكبير في صلاة العيد تسع خمس في الركعة الأولى فيها تكبيرة الافتتاح والركوع وأربع في الثانية فيها تكبيرة الركوع ويوالي بين القراءة في الركعتين وهذه مسألة اختلف الصحابة - رضوان الله عليهم - فيها والذي بينا قول ابن مسعود - رضي الله عنه - وبه أخذ علماؤنا - رحمهم الله - وقال علي - رضي الله عنه: في الفطر يكبر إحدى عشرة تكبيرة ستا في الأولى وخمسا في الثانية فيها تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع والزوائد ثمان تكبيرات وفي الأضحى خمس تكبيرات تكبيرة الافتتاح وتكبيرتا الركوع وتكبيرتان زائدتان واحدة في الأولى والأخرى في الثانية ومن مذهبه البداءة بالقراءة في الركعتين ثم بالتكبير وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - ثلاث روايات روي عنه كقول ابن مسعود وهي شاذة والمشهور عنه روايتان: إحداهما أنه يكبر في العيدين ثلاث عشرة تكبيرة تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع وعشر زوائد خمس في الأولى وخمس في الثانية وفي الرواية الأخرى اثنتي عشرة تكبيرة تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع وتسع زوائد خمس في الأولى وأربع في الثانية. وقد روي عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه رجع إلى هذا وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - وعليه عمل الناس اليوم لأن الولاية لما انتقلت إلى بني العباس أمروا الناس بالعمل في التكبيرات بقول جدهم ومن مذهبه البداءة بالتكبير في كل ركعة وإنما أخذنا بقول ابن مسعود - رضي الله عنه - لأن ذلك شيء اتفقت عليه جماعة من الصحابة منهم أبو مسعود البدري وأبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان - رضي الله عنهم - فإن الوليد بن عقبة أتاهم فقال: هذا العيد فكيف تأمرونني أن أفعل فقالوا لابن مسعود: علمه فعلمه بهذه الصفة ووافقوه على ذلك وفي الحديث «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في صلاة العيد أربعا ثم قال: أربع كأربع الجنائز فلا يشتبه عليكم وأشار بأصابعه وحبس إبهامه» ففيه قول وعمل وإشارة واستدلال وتأكيد وإنما قلنا بالموالاة بين القراءتين لأن التكبيرات يؤتى بها عقب ذكر هو فرض ففي الركعة الأولى يؤتى بها عقيب تكبيرة الافتتاح وفي الثانية عقيب القراءة ولأنه يجمع بين التكبيرات ما أمكن ففي الركعة
الأولى يجمع بينها وبين وتكبيرة الافتتاح وفي الثانية يجمع بينها وبين تكبيرة الركوع ولم يبين مقدار الفصل بين التكبيرات في الكتاب وروي عن أبي حنيفة - رحمه الله - قال: ويسكت بين كل تكبيرتين بقدر ثلاث تسبيحات.
وقال ابن أبي ليلى: يأخذ بأي هذه التكبيرات شاء وهو رواية عن أبي يوسف لأن الظاهر أن كل واحد منهم إنما أخذ بما رآه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو سمعه منه فإن هذا شيء لا يعرف بالرأي ولكنا نقول: الآخر ناسخ للأول فلا وجه لإثبات التخيير بين القليل والكثير (قال) : ويرفع يديه في سائر هذه التكبيرات إلا في تكبيرتي الركوع وحكى أبو عصمة عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه لا يرفع يديه في شيء منها لما جاء في الحديث عن ابن مسعود - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرفع يديه في الصلاة إلا في تكبيرة الافتتاح».
(ولنا) ما روينا لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن وفيها في العيدين ولأن هذا تكبير يؤتى به في قيام مستو فترفع اليد فيه كتكبيرة القنوت وتكبيرة الافتتاح وهذا لأن المقصود إعلام من لا يسمع بخلاف تكبيرتي الركوع لأنه يؤتى بهما في حالة الانتقال فلا حاجة إلى رفع اليد للإعلام
(قال): ولا شيء على من فاتته صلاة العيد مع الإمام وقال الشافعي - رضي الله عنه: يصلي وحده كما يصلي مع الإمام وهذا غير صحيح فالصلاة بهذه الصفة ما عرفت قربة إلا بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما فعلها إلا بالجماعة ولا يجوز أداؤها إلا بتلك الصفة وإذا فاتت فليس لها خلف لأن وقتها بعد طلوع الشمس وهذا ليس بوقت لصلاة واجبة في سائر الأيام بخلاف من فاتته الجمعة فإنه يصلي الظهر لأن وقتها بعد الزوال وهو وقت لوجوب الظهر في سائر الأيام ولكنه إن أحب صلى ركعتين إن شاء وإن شاء أربعا كصلاة الضحى في سائر الأيام لحديث عمارة بن رويبة - رضي الله عنه - «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح الضحى بركعتين» ولحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواظب على أربع ركعات في صلاة الضحى» والذي يختص بهذا اليوم حديث علي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى بعد العيد أربع ركعات كتب الله تعالى له بكل نبت نبت وبكل ورقة حسنة»
(قال) وإذا خرج الإمام إلى الجبانة لصلاة العيد فإن استخلف رجلا يصلي بالناس في المسجد فحسن وإن لم يفعل فلا شيء عليه لما روينا أن عليا - رضي الله عنه - لما قدم الكوفة استخلف من يصلي بالضعفة صلاة العيد في
الجامع وخرج إلى الجبانة مع خمسين شيخا يمشي ويمشون ويكبر ويكبرون ولأن في الاستخلاف نظرا منه للضعفاء وهو حسن وإن لم يفعل فلا شيء عليه لأن من له قدرة على الخروج لا يترك الخروج إلى الجبانة ومن هو عاجز عن ذلك فليس عليه شهودها
(قال) فإن أحدث الرجل في الجبانة فخاف إن رجع إلى المصر أن تفوته الصلاة وهو لا يجد الماء يتيمم ويصلي وقد بينا هذا في باب التيمم غير أن اللفظ المذكور هنا يقوي قول من قال من أصحابنا أن هذا في جبانة الكوفة لأن الماء بعيد وأما في ديارنا فلا يجوز لأن الماء محيط بالمصلى وقد قال وهو لا يجد الماء إلا أنه قال بعده: وصلاة العيد بمنزلة الجنازة لأنها إن فاتت لم يكن عليه قضاؤها فهذا يدل على أنه متى خاف الفوت يجوز له أداؤها بالتيمم في أي موضع كان (قال) وكذلك إن كان الإمام هو الذي أحدث وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة - رضي الله عنهما - أنه ليس للإمام أن يتيمم لأنه لا يخاف الفوت فإنه لا يجوز للناس أن يصلوها دونه وجه ظاهر الرواية أنه يخاف الفوت بخروج الوقت فربما تزول الشمس قبل فراغه من الوضوء وكذلك إن أحدث بعد ما دخل في الصلاة وقد بينا الاختلاف في هذا بين أبي حنيفة وصاحبيه
(قال): وأي سورة قرأ في صلاة العيد جاز وقد بلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقرأ فيها {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] وهل أتاك حديث الغاشية فإن تبرك بالاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قراءة هاتين السورتين فحسن ولكن يكره له أن يتخذ شيئا من القرآن حتما في صلاة لا يقرأ فيها غيره فربما يظن ظان أنه لا تجوز تلك الصلاة إلا بقراءة تلك السورة فكان هو مدخلا في الدين ما ليس منه وقال - عليه الصلاة والسلام - «من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد»
(قال) وليس قبل العيدين صلاة لما روينا عن علي - رضي الله عنه - أنه كره ذلك لمن رآه يفعله
(قال): والمسبوق بركعة في العيد إذا قام يقضي ما فاته بنى على رأي نفسه في عدد التكبيرات ومحلها إذا كان رأيه مخالفا لرأي إمامه لأنه فيما يقضي كالمنفرد إن كان يرى قول ابن مسعود - رضي الله عنه - كما فعله الإمام بدأ بالقراءة ثم بالتكبير وبه أجاب في الجامع والزيادات وفي نوادر أبي سليمان في أحد الموضعين وقال في الموضع الآخر يبدأ بالتكبير وهو القياس لأنه يقضي ما فاته فيقضيه كما فاته ولكنه استحسن فقال: لو بدأ بالتكبير كان مواليا بين التكبيرات فإن في الركعة المؤداة مع الإمام كانت البداءة بالقراءة والموالاة بين التكبيرات لم يقل بها أحد من الصحابة ولو بدأ بالقراءة كان فعله
موافقا لقول علي - رضي الله عنه - ولأن يفعل كما قال بعض الصحابة أولى من عكسه ولأنه لو بدأ بالقراءة كان آتيا بالتكبيرات عقيب ذكر هو فرض جامعا بينها وبين تكبير الركوع وهو أصل ابن مسعود - رحمه الله تعالى - كما بينا
(قال): وليس على النساء خروج في العيدين وقد كان يرخص لهن في ذلك فأما اليوم فإني أكره ذلك يعني للشواب منهن فقد أمرن بالقرار في البيوت ونهين عن الخروج لما فيه من الفتنة فأما العجائز فيرخص لهن في الخروج إلى الجماعة لصلاة المغرب والعشاء والفجر والعيدين ولا يرخص لهن في الخروج لصلاة الظهر والعصر والجمع في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يرخص للعجائز في حضور الصلوات كلها وفي الكسوف والاستسقاء لأنه ليس في خروج العجائز فتنة والناس قل ما يرغبون فيهن وقد كن يخرجن إلى الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يداوين المرضى ويسقين الماء ويطبخن وأبو حنيفة - رضي الله عنه - قال في صلوات الليل تخرج العجوز مستترة وظلمة الليل تحول بينها وبين نظر الرجال إليها بخلاف صلوات النهار والجمعة تؤدى في المصر فلكثرة الزحام ربما تصرع وتصدم وفي ذلك فتنة فإن العجوز إذا كان لا يشتهيها شاب يشتهيها شيخ مثلها وربما يحمل فرط الشبق الشاب على أن يشتهيها ويقصد أن يصدمها فأما صلاة العيد فتؤدى في الجبانة فيمكنها أن تعتزل ناحية عن الرجال كي لا تصدم. ثم إذا خرجن في صلاة العيد ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى يصلين لأن المقصود بالخروج وهو الصلاة وقال - عليه الصلاة والسلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن إذا خرجن تفلات» أي غير متطيبات وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى لا يصلين العيد مع الإمام وإنما خروجهن لتكثير سواد المسلمين جاء في حديث أم عطية «أن النساء كن يخرجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العيدين حتى ذوات الخدور والحيض» ومعلوم أن الحائض لا تصلي فظهر أن خروجهن لتكثير سواد المسلمين فكذلك في زماننا
(قال): وللمولى منع عبده من حضور الجمعة والجماعة والعيدين لأن خدمته حق مولاه وفي خروجه إبطال حق المولى في خدمته وإضرار به فكان له أن يمنعه من ذلك وإنما لا يمنعه من أداء المكتوبات لأن ذلك صار مستثنى من حق المولى. واختلف مشايخنا فيما إذا حضر مع مولاه ليحفظ دابته فمنهم من قال: ليس له أن يصلي الجمعة والعيدين بغير رضاه والأصح أن له ذلك إذا كان لا يخل بحق
مولاه في إمساك دابته
(قال) ولا يخرج المنبر في العيدين لما روينا وقد صح «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب في العيدين على ناقته» والناس من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا اتفقوا على ترك إخراج المنبر ولهذا اتخذوا في المصلى منبرا على حدة من اللبن والطين واتباع ما اشتهر العمل به في الناس واجب.
(قال) وإذا كبر الإمام أكثر من تسع تكبيرات اتبعه المؤتم إلا أن يكبر ما لم يقل به أحد من الصحابة لأن الإمام مجتهد فإذا حصل فعله في موضع الاجتهاد وجب متابعته لقوله - عليه الصلاة والسلام - «فلا تختلفوا عليه» وإذا كبر ما لم يقل به أحد من الصحابة كان فعله خطأ مخالفا للإجماع ولا متابعة في الخطأ فأكثر مشايخنا على أنه يتابعه إلى ثلاث عشرة تكبيرة ثم يسكت بعد ذلك وقال بعضهم: يتابعه إلى ست عشرة تكبيرة لأن فعله إلى هذا الموضع محتمل للتأويل فلعله ذهب إلى أن مراد ابن عباس - رضي الله عنهما - ثلاث عشرة تكبيرة زوائد فإذا ضممت إليها تكبيرة الافتتاح وتكبيرتي الركوع صارت ست عشرة تكبيرة فلاحتمال هذا التأويل لا يتيقن بخطئه فيتابعه وهذا إذا كان سمع التكبير من الإمام فإن كان يكبر بتكبير المنادي فلا ينبغي له أن يدع شيئا من التكبيرات وإن كثرت لجواز أن هذا الخطأ من المنادي فلو ترك شيئا منها كان المتروك ما أتى به الإمام والمأتي به ما أخطأ به المنادي فلهذا لا يدع شيئا منها وقد قالوا: إذا كان يكبر بتكبير المنادي ينبغي أن ينوي الصلاة عند كل تكبيرة لجواز أن ما تقدم منه كان خطأ من المنادي وإنما كبر الإمام للافتتاح الآن ثم لا خلاف أنه يأتي بثناء الافتتاح عقيب تكبيرة الافتتاح قبل الزوائد إلا في قول ابن أبي ليلى فإنه يقول: يأتي بالثناء بعد تكبيرات الزوائد فأما التعوذ فيأتي به عند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - عقيب ثناء الافتتاح قبل التكبيرات الزوائد. وعند محمد - رحمه الله - بعد الزوائد حين يريد القراءة لأنها للقراءة عنده وبيان هذا فيما أمليناه من شرح الزيادات والله سبحانه وتعالى أعلم
[باب التكبير في أيام التشريق]
اتفق المشايخ من الصحابة عمر وعلي وابن مسعود - رضي الله عنهم - أنه يبدأ بالتكبير من صلاة الغداة من يوم عرفة وبه أخذ علماؤنا - رضي الله عنهم - في ظاهر الرواية لقوله تعالى واذكروا
الله في أيام معدودات [البقرة: 203] وهي أيام العشر عند المفسرين فيقتضي أن يكون التكبير فيها مشروعا إلا ما قام عليه الدليل وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «أفضل ما قلت وقالت الأنبياء قبلي يوم عرفة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد» ولأن هذه التكبيرات لإظهار فضيلة وقت الحج ومعظم أركان الحج الوقوف فينبغي أن يكون التكبير مشروعا في وقته ولهذا قال مكحول: البداءة من صلاة الظهر يوم عرفة لأن وقت الوقوف بعد الزوال ثم قال ابن مسعود - رضي الله عنه: إلى صلاة العصر من يوم النحر يكبر في العصر ثم يقطع وبه أخذ أبو حنيفة - رضي الله عنه - لأن البداءة لما كانت في يوم يؤدي فيه ركن الحج فالقطع مثله يكون في يوم النحر الذي يؤدى فيه ركن الحج من الطواف ولأن رفع الأصوات بالتكبير في أدبار الصلوات خلاف المعهود فلا يثبت إلا باليقين واليقين فيما اتفق عليه كبار الصحابة وقال علي - رضي الله تعالى عنه: إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق يكبر في العصر ثم يقطع وهو إحدى الروايتين عن عمر - رضي الله عنه - وفي الأخرى إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق وأخذ أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى بقول علي - رضي الله عنه - لقوله تعالى {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة: 203] وهي إما أيام التشريق أو أيام النحر فينبغي أن يكون التكبير فيها مشروعا ولأنا أمرنا بإكثار الذكر ولأن يكبر ما ليس عليه أولى من أن يترك ما عليه واتفق الشبان من الصحابة زيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - على أنه يبدأ بها من صلاة الظهر يوم النحر وإليه رجع أبو يوسف لقوله تعالى {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم} [البقرة: 200] والفاء للتعقيب وقضاء المناسك وقت الضحى من يوم النحر فينبغي أن يكون التكبير عقيبه والناس في هذه التكبيرات تبع للحاج ثم الحاج يقطعون التلبية عند رمي جمرة العقبة ويأخذون في التكبيرات وذلك وقت الضحوة فعلى الناس أن يكبروا عقيب أول صلاة مؤداة بعد هذا الوقت وهي صلاة الظهر ثم قال ابن عمر - رضي الله عنهما: إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق وقال ابن عباس - رضي الله عنهما: إلى صلاة الظهر وقال زيد: إلى صلاة العصر وبه أخذ الشافعي - رضي الله عنه -.
والتكبير أن يقول بعد التسليم: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد وهو قول علي وابن مسعود رحمهما الله تعالى. وكان ابن عمر يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد وبه أخذ الشافعي - رضي الله عنه - وكان ابن عباس - رضي الله عنه -
يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر لا إله إلا الله الحي القيوم يحي ويميت وهو على كل شيء قدير وإنما أخذنا بقول علي وابن مسعود - رضي الله عنهما - لأنه عمل الناس في الأمصار ولأنه يشتمل على التكبير والتهليل والتحميد فهو أجمع وهذا التكبير على الرجال المقيمين من أهل الأمصار في الصلوات المكتوبات في الجماعة عند أبي حنيفة - رحمه الله - وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى كل من يصلي مكتوبة في هذه الأيام فعليه التكبير مسافرا كان أو مقيما في المصر أو القرية رجلا أو امرأة في الجماعة أو وحده وهو قول إبراهيم - رحمه الله تعالى - لأن هذه التكبيرات في حق غير الحاج بمنزلة التلبية في حق الحاج وفي التلبية لا تراعى هذه الشروط فكذلك في التكبيرات. وأبو حنيفة - رضي الله عنه - احتج بما روينا «لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع» قال الخليل والنضر بن شميل رحمهما الله تعالى: التشريق في اللغة التكبير ولا يجوز أن يحمل على صلاة العيد فقد قال في حديث علي - رضي الله عنه: لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع فقد ثبت في الحديث أنه بمنزلة الجمعة في اشتراط المصر فيه فكذلك في اشتراط الذكورة والإقامة والجماعة ولهذا لم يشترط أبو حنيفة - رضي الله عنه - فيه الحرية كما لا تشترط في صلاة الجمعة
(قال): وإن صلى النساء مع الرجال والمسافر خلف المقيم وجب عليهم التكبير تبعا كما يتأدى بهم فرض الجمعة تبعا وفي المسافرين إذا صلوا في المصر جماعة روايتان: رواية الحسن - رحمه الله تعالى - عليهم التكبير لأن المسافر يصلح للإمامة في الجمعة والأصح أنه ليس عليهم التكبير لأن السفر مغير للفرض مسقط للتكبير ثم لا فرق في تغير الفرض بين أن يصلوا في المصر أو خارجا عنه فكذلك في التكبير
(قال): ولا تكبير على المتطوع بصلاته وقال مجاهد: عليه التكبير وقاس التكبير في آخر الصلاة بالتكبير في أولها.
(ولنا) أن الأذان أوجب من التكبير لأن ذلك في جميع السنة وهذا في أيام مخصوصة ثم الأذان غير مشروع في التطوعات فكذلك هذه التكبيرات وكذلك لا يكبر عقيب الوتر عندهما لأنه سنة وعند أبي حنيفة - رضي الله عنه - لأن الوتر لا يؤدى بالجماعة في هذه الأيام وكذلك عقيب صلاة العيد لا يكبرون لأنها سنة فأما عقيب الجمعة فيكبرون لأنها فرض مكتوبة
(قال) ويبدأ الإمام إذا فرغ من صلاته بسجود السهو ثم بالتكبير ثم بالتلبية إن كان محرما لأن سجود السهو مؤدى في حرمة الصلاة ولهذا يسلم بعده ومن
اقتدى به في سجود السهو صح اقتداؤه والتكبير يؤدى في فور الصلاة لا في حرمتها حتى لا يسلم بعده ولا يصح اقتداء المقتدي به في حال التكبير والتلبية غير مؤداة في حرمة الصلاة ولا في فورها حتى لا تختص بحالة الفراغ من الصلاة فيبدأ بما هو مؤدى في حرمتها ثم بما هو مؤدى في فورها ثم بالتلبية والمسبوق يتابع الإمام في سجود السهو لأنه مؤدى في حرمة الصلاة ولا يتابعه في التكبير والتلبية لأنها غير مؤداة في حرمة الصلاة وعلى هذا إذا نسي الإمام سجود السهو لم يسجد القوم لأنه مؤدى في حرمة الصلاة فكانوا مقتدين به لا يأتون به دونه
(قال): وإذا نسي التكبير أو التلبية أو تراكهما متأولا لم يترك القوم لأنها غير مؤداة في حرمة الصلاة
وإذا نسي الإمام التكبير حتى انصرف فإن ذكره قبل أن يخرج من المسجد عاد وكبر وإن كان قد خرج أو تكلم ناسيا أو عامدا أو أحدث عامدا سقط لأن الانصراف قبل الخروج من المسجد لا يقطع فور الصلاة حتى لا يمنع البناء عليها لو حصل في خلالها كمن ظن أنه سبقه الحدث فأما الخروج والكلام والحدث العمد فيقطع فور الصلاة حتى يمنع البناء عليها لو حصل في خلالها فإن سبقه الحدث فإن شاء ذهب فتوضأ ورجع فكبر وإن شاء كبر من غير تطهر لأن سبق الحدث لا يقطع فور الصلاة حتى لا يمنع من البناء التكبير غير مؤدى في حرمة الصلاة فلا يشترط فيه الطهارة كالأذان. قال الشيخ الإمام: والأصح عندي أنه يكبر ولا يخرج من المسجد للطهارة لأنه لما لم يكن به حاجة إلى الطهارة كان خروجه قاطعا لفور الصلاة فلا يمكنه أن يكبر بعدها فيكبر للحال والله سبحانه وتعالى أعلم.
[باب صلاة الخوف]
اعلم أن العلماء اختلفوا في صلاة الخوف في فصول أحدها أنه مشروع بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - أولا كذلك ثم رجع فقال: كانت في حياته خاصة ولم تبق مشروعة بعده هكذا ذكره في نوادر أبي سليمان - رضي الله عنه - لقوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} [النساء: 102] فقد شرط كونه فيهم لإقامة صلاة الخوف ولأن الناس كانوا يرغبون في الصلاة خلفه ما لا يرغبون في الصلاة خلف غيره فشرع بصفة الذهاب والمجيء لينال كل فريق فضيلة الصلاة خلفه
وقد ارتفع هذا المعنى بعده فكل طائفة يتمكنون من أداء الصلاة بإمام على حدة فلا يجوز لهم أداؤها بصفة الذهاب والمجيء (وحجتنا) في ذلك أن الصحابة أقاموها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح وأن سعيد بن العاص سأل عنها أبا سعيد الخدري فعلمه فأقامها وسببه وهو الخوف يتحقق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان في حياته ولم يكن ذلك لنيل فضيلة الصلاة خلفه فترك المشي واجب في الصلاة ولا يجوز ترك الواجب لإحراز الفضيلة ثم الآن يحتاجون إلى إحراز فضيلة تكثير الجماعة فإنها كلما كانت أكثر فهي أفضل وقوله {وإذا كنت فيهم} [النساء: 102] معناه أنت أو من يقوم مقامك في الإمامة كما في قوله {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103]




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #30  
قديم 28-09-2025, 05:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الثانى
صـــ 46 الى صـــ 56
(30)






وقد يكون الخطاب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يختص هو به كما في قوله تعالى {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1]
والثاني وهو أنه لا ينتقص عدد الركعات بسبب الخوف عندنا وكان ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: صلاة المقيم أربع ركعات وصلاة المسافر ركعتان وصلاة الخوف ركعة وبه أخذ بعض العلماء واستدل بما روي «أن النبي - عليه الصلاة والسلام - صلى صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع بكل طائفة ركعة فكانت له ركعتان ولكل طائفة ركعة» وتأويل هذا عندنا ولكل طائفة ركعة مؤداة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركعة أخرى صلوها وحدهم
والثالث في صفة صلاة الخوف فالمذهب عندنا أن يجعل الإمام الناس طائفتين فيصلي بالطائفة الأولى ركعة فإذا رفع رأسه منها ذهبوا فوقفوا بإزاء العدو وجاءت الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة ويسلم ثم ذهبوا فوقفوا بإزاء العدو وجاءت الطائفة الأولى فيتمون صلاتهم بلا قراءة ثم ذهبوا وجاءت الطائفة الأخرى فيصلون الركعة الأولى بقراءة وهكذا روى ابن مسعود - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الناس طائفتين فصلى بكل طائفة ركعة وقضت كل طائفة ركعة أخرى» وهكذا روى سالم عن ابن عمر - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف بالطائفتين بهذه الصفة» وكان ابن أبي ليلى يقول: إذا كان العدو في ناحية القبلة جعل الناس صفين وافتتح الصلاة بهم جميعا فإذا ركع الإمام ركعوا معه وإذا سجد الإمام سجد معه الصف الأول والصف الثاني قيام يحرسونهم وإذا رفعوا رءوسهم سجد الصف الثاني والصف الأول قعود يحرسونهم فإذا رفعوا رءوسهم سجد الإمام السجدة الثانية
وسجد معه الصف الأول والصف الثاني قعود يحرسونهم فإذا رفعوا رءوسهم سجد الصف الثاني والصف الأول قيام يحرسونهم فإذا رفعوا رءوسهم تأخر الصف الأول وتقدم الصف الثاني فصلى بهم الركعة الثانية بهذه الصفة أيضا فإذا قعد وسلم سلموا معه واستدل بحديث ابن عباس الزرقي - رضي الله تعالى عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف بعسفان بهذه الصفة» وأبو يوسف يجوز صلاة الخوف بهذه الصفة لأنه ليس فيها ذهاب ومجيء وعندنا إذا كان العدو في ناحية القبلة فإن صلوا بهذه الصفة أجزأهم وإن صلوا بصفة الذهاب والمجيء كما بينا أجزأهم لأن ظاهر الآية شاهد لذلك قال الله تعالى {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك} [النساء: 102] .
وقال مالك - رضي الله عنه: يجعل الناس طائفتين فيصلي بالطائفة الأولى ركعة وطائفة تقف بإزاء العدو ثم ينتظر الإمام حتى تصلي الطائفة الأولى الركعة الثانية ويسلمون فيذهبون إلى العدو وجاءت الطائفة الثانية فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ثم يسلم ويقومون لقضاء الركعة الأولى وهكذا روى صالح بن خوات - رحمه الله تعالى - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله بذي قرد» وذكر الطحاوي حديث صالح بن خوات في شرح الآثار «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف يوم ذات الرقاع وذكر فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت جالسا للطائفة الأخرى حتى أتموا لأنفسهم ثم سلم بهم» وبه أخذ الشافعي - رضي الله تعالى عنه - أيضا إلا أنه يقول: لا يسلم الإمام حتى تقضي الطائفة الثانية الركعة الأولى ثم يسلم ويسلمون معه وقال: كما ينتظر فراغ الطائفة الأولى من إتمام صلاتهم فكذلك يفعل بالطائفة الثانية ولم نأخذ بهذا لأن فيه فراغ المؤتم من صلاته قبل فراغ الإمام وذلك لا يجوز بحال بخلاف المشي فقد ورد به الأثر في حق من سبقه الحدث مع الإمام فجوزنا ذلك في حالة الخوف وروى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى بالطائفة الأولى ركعة انتظرهم حتى أتموا صلاتهم وذهبوا إلى العدو وجاءت الطائفة الأخرى فبدءوا بالركعة الأولى والنبي - عليه الصلاة والسلام - ينتظرهم ثم صلى بهم الركعة الثانية» ولم يأخذ بهذا أحد من العلماء لأنه حكم كان في الابتداء أن المسبوق يبدأ بقضاء ما فاته ثم بأداء ما أدرك مع الإمام وقد ثبت انتساخه وروي شاذا «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بكل طائفة ركعتين فكان له أربع ركعات ولكل طائفة ركعتان» ولم نأخذ بهذا لأن في حق الطائفة الثانية يحصل اقتداء المفترض بالمتنفل إلا أن يكون تأويله
أنه كان مقيما فصلى بكل طائفة ركعتين وقضت كل طائفة ركعتين وهو المذهب عندنا فإنه يصلي بكل طائفة شطر الصلاة وأما في صلاة المغرب فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الثانية ركعة عندنا (وقال) الثوري - رحمه الله تعالى: يصلي بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الثانية ركعتين لأن فرض القراءة في الركعتين الأوليين فينبغي أن يكون لكل طائفة في ذلك حظ.
(ولنا) أنه إنما يصلي بكل طائفة شطر الصلاة وشطر المغرب ركعة ونصف فثبت حق الطائفة الأولى في نصف ركعة والركعة الواحدة لا تجزئ فثبت حقهم في كلها ولأن الركعتين شطر المغرب ولهذا كانت القعدة بعدهما وهي مشروعة للفصل بين الشطرين ثم الطائفة الأولى تصلي الركعة الثالثة بغير قراءة لأنهم لاحقون والطائفة الثانية يصلون الركعتين الأوليين بالقراءة ويقعدون بينهما وبعدهما كما يفعله المسبوق بركعتين في المغرب
(قال): ومن قاتل منهم في صلاته فسدت صلاته عندنا وقال مالك - رضي الله عنه: لا تفسد وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - في القديم لظاهر قوله تعالى {وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم} [النساء: 102] والأمر بأخذ السلاح لا يكون إلا للقتال به ولكنا نقول: القتال عمل كثير وهو ليس من أعمال الصلاة ولا تتحقق فيه الحاجة لا محالة فكان مفسدا لها كتخليص الغريق واتباع السارق لاسترداد المال والأمر بأخذ الأسلحة لكي لا يطمع فيهم العدو إذا رآهم مستعدين أو ليقاتلوا بها إذا احتاجوا ثم يستقبلون الصلاة
(قال): ولا يصلون وهم يقاتلون وإن ذهب الوقت لأن «النبي - صلى الله عليه وسلم - شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهن بعد هدء من الليل، وقال: شغلونا عن صلاة الوسطى ملأ الله قبورهم وبطونهم نارا» فلو كان تجوز الصلاة في حالة القتال لما أخرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك من ركب منهم في صلاته عند انصرافه إلى وجه العدو فسدت صلاته لأن الركوب عمل كثير وهو مما لا يحتاج إليه بخلاف المشي فإنه لا بد منه حتى يقفوا بإزاء العدو وجواز العمل لأجل الضرورة فيختص بما يتحقق فيه الضرورة
(قال): ولا يصلون جماعة ركبانا لأن بينهم وبين الإمام طريقا فيمنع ذلك صحة الاقتداء إلا أن يكون الرجل مع الإمام على دابة فيصح اقتداؤه به لأنه ليس بينهما مانع وقد روي عن محمد - رحمه الله تعالى - أنه جوز لهم في الخوف أن يصلوا ركبانا بالجماعة وقال: أستحسن ذلك لينالوا فضيلة الصلاة بالجماعة فقد جوزنا لهم ما هو أعظم من ذلك وهو الذهاب والمجيء لينالوا فضيلة الجماعة ولكنا نقول ما أثبتناه
من الرخصة أثبتناه بالنص ولا مدخل للرأي في إثبات الرخص
(قال): وإن صلوا صلاة الخوف من غير أن يعاينوا العدو جاز للإمام ولم يجز للقوم إذا صلوا بصفة الذهاب والمجيء لأن الرخصة إنما وردت إذا كانوا بحضرة العدو فإذا لم يكونوا بحضرته لم يتحقق سبب الترخص بالذهاب والمجيء فلا تجوز صلاتهم بها وأما الإمام فلم يوجد منه الذهاب والمجيء فتجوز صلاته ولو رأوا سوادا فظنوا أنه العدو فصلوا صلاة الخوف فإن تبين أنه سواد العدو فقد ظهر أن سبب الترخص كان متقررا فتجزئهم وإن ظهر أن السواد سواد إبل أو بقر أو غنم فقد ظهر أن السبب لم يكن متقررا فلا تجزئهم والخوف من سبع يعاينونه كالخوف من العدو لأن الرخصة لدفع سبب الخوف عنهم ولا فرق في هذا بين السبع والعدو والله تعالى أعلم.
[باب الشهيد]
(قال): وإذا قتل الشهيد في معركة لم يغسل وصلي عليه عندنا وقال الحسن البصري - رضي الله تعالى عنه: يغسل ويصلى عليه وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه: لا يصلى عليه أما الحسن فقال: الغسل سنة الموتى من بني آدم جاء في الحديث «أن آدم لما مات غسلته الملائكة وصلوا عليه ثم قالوا: هذه سنة موتاكم يا بني آدم» والشهيد ميت بأجله ولأن غسل الميت تطهير له حتى تجوز الصلاة عليه بعد غسله لا قبله والشهيد يصلى عليه فيغسل أيضا تطهيرا له وإنما لم يغسل شهداء أحد لأن الجراحات فشت في الصحابة في ذلك اليوم وكان يشق عليهم حمل الماء من المدينة وغسلهم لأن عامة جراحاتهم كانت في الأيدي فعذرهم لذلك.
(ولنا) ما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في شهداء أحد: زملوهم بدمائهم ولا تغسلوهم فإنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا وهو يأتي يوم القيامة وأوداجه تشخب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك» وما قاله الحسن من التأويل باطل فإنه لم يأمر بالتيمم ولو كان ترك الغسل للتعذر لأمر أن ييمموا كما لو تعذر غسل الميت في زمان لعدم الماء ولأنه لم يعذرهم في ترك الدفن وكانت المشقة في حفر القبور للدفن أظهر منها في الغسل وكما لم يغسل شهداء أحد لم يغسل شهداء بدر كما رواه عقبة بن عامر وهذه الضرورة لم تكن يومئذ وكذلك لم يغسل شهداء الخندق وخيبر فظهر أن الشهيد لا يغسل وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه: لا يصلى
عليه لحديث جابر - رضي الله تعالى عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما صلى على أحد من شهداء أحد» ولأنهم بصفة الشهادة تطهروا من دنس الذنوب كما قال - عليه الصلاة والسلام: «السيف محاء الذنوب» والصلاة عليه شفاعة له ودعاء لتمحيص ذنوبه وقد استغنى عن ذلك كما استغنى عن الغسل ولأن الله تعالى وصف الشهداء بأنهم أحياء فقال {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء} [آل عمران: 169] والصلاة على الميت لا على الحي.
(ولنا) ما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على شهداء أحد صلاته على الجنازة» حتى روي «أنه صلى على حمزة - رضي الله تعالى عنه - سبعين صلاة» وتأويله أنه كان موضوعا بين يديه فيؤتى بواحد واحد فيصلي عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظن الراوي أنه صلى على حمزة في كل مرة فقال: صلى عليه سبعين صلاة وحديث جابر - رضي الله تعالى عنه - ليس بقوي وقيل: إنه كان يومئذ مشغولا فقد قتل أبوه وأخوه وخاله فرجع إلى المدينة ليدبر كيف يحملهم إلى المدينة فلم يك حاضرا حين صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم فلهذا روي ما روي ومن شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد روي «أنه صلى عليهم ثم سمع جابر - رضي الله عنه - منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدفن الموتى في مصارعهم فرجع فدفنهم فيها» ولأن الصلاة على الميت لإظهار كرامته ولهذا اختص به المسلمون «ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على المنافقين» والشهيد أولى بما هو من أسباب الكرامة والعبد وإن تطهر من الذنوب فلا تبلغ درجته درجة الاستغناء عن الدعاء له ألا ترى أنهم صلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا إشكال أن درجته فوق درجة الشهداء والشهيد حي في أحكام الآخرة كما قال تعالى {بل أحياء عند ربهم} [آل عمران: 169] فأما في أحكام الدنيا فهو ميت يقسم ميراثه وتتزوج امرأته بعد انقضاء العدة وفريضة الصلاة عليه من أحكام الدنيا فكان فيه ميتا يصلى عليه
(قال): ويكفن في ثيابه التي هي عليه لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «زملوهم بدمائهم وكلومهم» وروي أن زيد بن صوحان لما استشهد يوم الجمل قال: لا تغسلوا عني دما ولا تنزعوا عنى ثوبا فإنى رجل محجاج أحاج يوم القيامة من قتلني ولما استشهد عمار بن ياسر بصفين قال: لا تغسلوا عني دما ولا تنزعوا عني ثوبا فإني ألتقي ومعاوية بالجادة وهكذا نقل عن حجر بن عدي غير أنه ينزع عنه السلاح والجلد والفرو والحشو والخف والقلنسوة لأنه إنما لبس هذه الأشياء لدفع بأس العدو وقد استغنى عن ذلك ولأن هذا عادة أهل الجاهلية لأنهم كانوا يدفنون
أبطالهم بما عليهم من الأسلحة وقد نهينا عن التشبه بهم
(قال): ويزيدون في أكفانهم ما شاءوا وينقصون ما شاءوا واستدلوا بهذا اللفظ على أن عدد الثلاث في الكفن ليس بلازم ويخيطونه إن شاءوا كما يفعل ذلك بغيره من الموتى إنما لا يزال عنه أثر الشهادة فأما فيما سوى ذلك فهو كغيره من الموتى
(قال) وإن حمل من المعركة حيا ثم مات في بيته أو على أيدي الرجال غسل لأنه صار مرتثا وقد ورد الأثر بغسل المرتث ومعناه من خلق أمره في باب الشهادة يقال: ثوب رث أي خلق. والأصل فيه أن عمر - رضي الله عنه - لما طعن حمل إلى بيته فعاش يومين ثم غسل وكان شهيدا على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك علي - رضي الله عنه - حمل حيا بعد ما طعن ثم غسل وكان شهيدا فأما عثمان - رضي الله عنه - فأجهز عليه في مصرعه ولم يغسل فعرفنا بذلك أن الشهيد الذي لا يغسل من أجهز عليه في مصرعه دون من حمل حيا وهذا إذا حمل ليمرض في خيمته أو في بيته وأما إذا جر برجله من بين الصفين لكي لا تطأه الخيول فمات لم يغسل لأن هذا ما نال شيئا من راحة الدنيا بعد صفة الشهادة فتحقق بذل نفسه ابتغاء مرضات الله تعالى والأول بحسب ما مرض قد نال راحة الدنيا بعد فيغسل وإن كان له ثواب الشهداء كالغريق والحريق والمبطون والغريب يغسلون وهم شهداء على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(قال) وما قتل به في المعركة من سلاح أو غيره فهو سواء لا يغسل لأن الأصل شهداء أحد وفيهم من دمغ رأسه بالحجر وفيهم من قتل بالعصا ثم عمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأمر بترك الغسل ولأن الشهيد باذل نفسه ابتغاء مرضات الله تعالى قال الله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [التوبة: 111] وفي هذا المعنى السلاح وغيره سواء
(قال): وإن وجد في المعركة ميتا ليس به أثر غسل لأن المقتول يفارق الميت بالأثر فإذا لم يكن به أثر فالظاهر أنه لم يكن انزهاق روحه بقتل مضاف إلى العدو بل لما التقى الصفان انخلع قناع قلبه من شدة الفزع فمات والجبان مبتلى بهذا وإن كان به أثر لم يغسل لأن الظاهر أن موته كان بذلك الجرح وأنه كان من العدو فاجتماع الصفين كان لهذا والأصل أن الحكم متى ظهر عقيب سبب يحال على ذلك السبب فإن كان الدم يخرج من بعض مخارقه نظر فإن كان الدم يخرج من ذلك الموضع من غير جرح في الباطن غسل وذلك كالأنف والدبر والذكر فقد يبتلى بالرعاف وقد يبول دما لشدة الفزع وقد يخرج الدم من الدبر من غير جرح في الباطن وإن كان
يخرج الدم من أذنه أو عينه لم يغسل لأن الدم لا يخرج من هذين الموضعين عادة إلا بجرح في الباطن فالظاهر أنه ضرب على رأسه حتى خرج الدم من أذنه أو عينه وإن كان يخرج من فيه فإن كان ينزل من رأسه غسل وجرحه من جانب الفم ومن جانب الأنف سواء وإن كان يعلو من جوفه لم يغسل لأن الدم لا يعلو من الجوف إلا بجرح في الباطن وإنما يعرف ذلك بلون الدم
(قال) ومن صار مقتولا من جهة قطاع الطريق لم يغسل أيضا لأنه قتل دافعا عن ماله وقد قال - عليه الصلاة والسلام: «من قتل دون ماله فهو شهيد» فلهذا لا يغسل.
(قال): ومن قتل في المصر بسلاح ظلما لم يغسل أيضا عندنا وقال الشافعي - رضي الله عنه: يغسل وهو بناء على أن عنده القتل العمد موجب للدية كالخطأ فإذا وجب عن نفسه بدل هو مال غسل وعندنا العمد غير موجب للمال فهذا مقتول ظلما لم يجب عن نفسه بدل هو مال فكان شهيدا والقصاص الواجب ليس ببدل محض بل هو عقوبة زاجرة فلا يخل بصفة الشهادة واعتمادنا فيه على حديث عثمان - رضي الله تعالى عنه - فقد قتل في المصر وكان شهيدا ولم يغسل وإن قتل بغير سلاح غسل لأن هذا في معنى الخطأ حتى يجب عن نفسه بدل هو مال وذكر الطحاوي - رحمه الله تعالى - أنه إذا قتل بحجر أو عصا كبير فهو عندهما والقتل بالسلاح سواء وعند أبي حنيفة - رضي الله عنه - يغسل وهو بناء على اختلافهم في وجوب القصاص في القتل بهذه الآلة
(قال): ولو قتل بحق في قصاص أو رجم غسل لما روي أن «ماعزا لما رجم جاء عمه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قتل ماعز كما تقتل الكلاب فماذا تأمرني أن أصنع به فقال: لا تقل هذا فقد تاب توبة لو قسمت توبته على أهل الأرض لوسعتهم اذهب فغسله وكفنه وصل عليه» ولأن الشهيد باذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى وهذا لا يوجد في المقتول بحق فإنه باذل نفسه لإيفاء حق مستحق عليه وكذلك من مات من حد أو تعزير غسل لما بينا وكذلك من عدا على قوم ظلما فقتلوه غسل لأن الظالم غير باذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى فهو في حكم الغسل كغيره من الموتى
(قال): ومن قتله السبع أو احترق بالنار أو تردى من جبل أو مات تحت هدم أو غرق غسل كغيره من الموتى لأن هذه الأشياء غير معتبرة شرعا في أحكام الدنيا فهو والميت حتف أنفه سواء. وكذلك من وجد مقتولا في محلة لا يدرى من قتله غسل لأنه استحق عن نفسه بدلا هو مال فالقسامة والدية تجب على أهل المحلة
(قال): ويصنع بالمحرم ما يصنع بالحلال يعني يخمر رأسه ووجهه بالكفن عندنا
وقال الشافعي - رضي الله عنه: لا يخمر رأسه واستدل بما روي «أن أعرابيا محرما وقصت به ناقته في أخافيق جرزان فاندقت عنقه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: لا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا أو قال: ملبدا» ولأنه مات وهو مشغول بعبادة لها أثر فيبقى عليه ذلك الأثر كالغازي إذا استشهد.
(ولنا) حديث عطاء «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن محرم مات فقال: خمروا رأسه ووجهه ولا تشبهوه باليهود» وسئلت عائشة - رضي الله عنها - عن ذلك فقالت: اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم وإن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - لما مات ابنه واقد وهو محرم كفنه وعممه وحنكه وقال: لولا أنا محرمون لحنطناك يا واقد ولأن إحرامه قد انقطع بموته وقال - عليه الصلاة والسلام - «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» والإحرام ليس منها فينقطع بالموت ولهذا لا يبني المأمور بالحج على إحرامه والتحق بالحلال وإذا جاز أن يخمر رأسه ووجهه باللبن والتراب فكذلك بالكفن وحديث الأعرابي تأويله أن النبي - عليه الصلاة والسلام - عرف بطريق الوحي خصوصيته ببقاء إحرامه بعد موته وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخص بعض أصحابه بأشياء.
(قال) ومن قتل من أهل العدل في محاربة أهل البغي فهو شهيد لا يغسل لأن المحاربة معهم مأمور بها قال الله تعالى {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات: 9] فالمقتول في هذه المحاربة باذل نفسه لابتغاء مرضات الله كالمقتول في محاربة المشركين. ولما قاتل علي - رضي الله تعالى عنه - أهل النهروان لم يغسل من استشهد من أصحابه ولم يذكر في الكتاب أن من قتل من أهل البغي ماذا يصنع به. وروى المعلى عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه لا يغسل ولا يصلى عليه وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه: يغسل ويصلى عليه لأنه مسلم قال الله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] الآية ولكنه مقتول بحق فهو كالمقتول رجما أو في قصاص.
(ولنا) حديث علي - رضي الله عنه - أنه لم يغسل أهل النهروان ولم يصل عليهم فقيل له: أكفار هم؟ قال: لا ولكنهم إخواننا بغوا علينا أشار إلى أن ترك الغسل والصلاة عليهم عقوبة لهم ليكون زجرا لغيرهم وهو نظير المصلوب يترك على خشبته عقوبة له وزجرا لغيره
(قال): وإذا أغار أهل الحرب على قرية من قرى المسلمين فقتلوا الرجال والنساء والصبيان فلا خلاف أنه لا يغسل النساء كما لا يغسل الرجال لأنهن مخاطبات يخاصمن يوم القيامة من قتلهن فيبقى عليهن أثر الشهادة ليكون شاهدا
لهن كالرجال فأما الصبيان عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - فيغسلون وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يغسلون قال لأن حال الصبيان في الطهارة فوق حال البالغين فإذا لم يغسل البالغ إذا استشهد لأنه قد تطهر فالصبي أولى وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - قال: ليس للصبي ذنب يمحوه السيف فالقتل في حقه والموت حتف أنفه سواء فيغسل ثم الصبي غير مكلف ولا يخاصم بنفسه في حقوقه في الدنيا فإنما الخصم في حقوقه في الآخرة هو خالقه سبحانه وتعالى والله غني عن الشهود فلا حاجة إلى إبقاء الشهادة عليه
(قال): وإذا وجد عضو من أعضاء الآدمي كيد أو رجل لم يغسل ولم يصل عليه لكنه يدفن لأن المشروع الصلاة على الميت وذلك عبارة عن بدنه لا عن عضو من أعضائه ولعل صاحب العضو حي ولا يصل على الحي ولو قلنا يصلى على عضو إذا وجد لكان يصلى على عضو آخر إذا وجد أيضا فيؤدي إلى تكرار الصلاة على ميت واحد وذلك غير مشروع عندنا. وقال الشافعي - رضي الله عنه: يغسل ما وجد ويصلى عليه اعتبارا للبعض بالكل فإن لأطراف الآدمي حرمة كما لنفسه وعنده لا بأس بتكرار الصلاة على ميت واحد ثم عندنا إن وجد النصف من بدنه مشقوقا طولا لا يصلى عليه لأنه لو صلي عليه لكان يصلى على النصف الآخر إذا وجد فيؤدي إلى تكرار الصلاة على ميت واحد فأما إذا وجد أكثر البدن أو النصف ومعه الرأس يصلى عليه لأن للأكثر حكم الكل ولا يؤدي هذا إلى تكرار الصلاة على ميت واحد
(قال) وإذا وجد ميت لا يدرى أمسلم هو أم كافر فإن كان في قرية من قرى أهل الإسلام فالظاهر أنه مسلم فيغسل ويصلى عليه وإن كان في قرية من قرى أهل الشرك فالظاهر أنه منهم فلا يصلى عليه إلا أن يكون عليه سيما المسلمين فحينئذ يغسل ويصلى عليه وسيما المسلمين الختان والخضاب وليس السواد وما تعذر الوقوف على حقيقته يعتبر فيه العلامة والسيما قال الله تعالى {يعرف المجرمون بسيماهم} [الرحمن: 41] وقال {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} [التوبة: 46]
(قال): وإذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار فإن كانت الغلبة للمسلمين غسلوا وصلي عليهم إلا من عرف أنه كافر لأن الحكم للغلبة والمغلوب لا يظهر حكمه مع الغالب وإن كانت الغلبة لموتى الكفار لا يصلى عليهم إلا من عرف أنه مسلم بالسيما فإذا استويا لم يصل عليهم عندنا لأن الصلاة على الكفار منهي عنها ويجوز ترك الصلاة على بعض المسلمين وقال - عليه الصلاة والسلام: «ما اجتمع الحلال والحرام إلا وقد غلب الحرام على الحلال»
ومن العلماء من قال: يصلى عليهم ترجيحا للمسلمين على الكفار وينوي من يصلي عليهم المسلمين لأنه لو قدر على التمييز فعلا فعل فإذا عجز عنه ميز بالنية وعلى قول الشافعي - رضي الله عنه - يستعمل التحري فيصلي على من وقع في أكبر رأيه أنه مسلم وهي مسألة التحري ولم يبين في الكتاب أي موضع يدفنون بعض مشايخنا إذا لم يصل عليهم دفنوا في مقابر المشركين وقال بعضهم: يتخذ لهم مقبرة على حدة وأصل الاختلاف في نصرانية تحت مسلم حبلت ثم ماتت وفي بطنها ولد مسلم اختلف الصحابة أنها في أي موضع تدفن فرجح بعضهم جانب الولد وقال: تدفن في مقابر المسلمين وبعضهم جانبها فإن الولد في حكم جزء منها ما دام في البطن وقال: تدفن في مقابر المشركين. وقال عقبة بن عامر - رحمه الله تعالى - تتخذ لها مقبرة على حدة
(قال): ولا بأس بأن يغسل المسلم أباه الكافر إذا مات ويدفنه لما بينا أن الغسل سنة الموتى من بني آدم وهو مع كفره منهم والولد المسلم مندوب إلى بر والده وإن كان مشركا قال الله تعالى {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} [العنكبوت: 8] والمراد به الوالد المشرك بدليل قوله تعالى {وإن جاهداك على أن تشرك بي} [لقمان: 15] الآية ومن الإحسان والبر في حقه القيام بغسله ودفنه بعد موته «ولما مات أبو طالب جاء علي - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن عمك الضال قد مات فقال اذهب فغسله وكفنه وواره ولا تحدث حدثا حتى تلقاني فلما رجعت إليه دعا لي بدعوات ما أحب أن يكون لي بها حمر النعم». وقال سعيد بن جبير - رحمه الله تعالى - سأل رجل ابن عباس - رضي الله عنه - فقال: إن أمي ماتت نصرانية فقال: غسلها وكفنها وادفنها وإن الحارث بن أبي ربيعة ماتت أمه نصرانية فتبع جنازتها في نفر من الصحابة وإنما يغسل الكافر كما تغسل النجاسات بإفاضة الماء عليه ولا يوضأ وضوء الصلاة كما يفعل بالمسلم لأنه كان لا يتوضأ في حياته وكذلك كل ذي رحم محرم منه وإنما يقوم بذلك إذا لم يكن هناك من يقوم به من المشركين فإذا كان خلى المسلم بينه وبينهم ليصنعوا به ما يصنعون بموتاهم ولم يبين أن الابن المسلم إذا كان هو الميت هل يمكن أبوه الكافر من القيام بغسله وتجهيزه وينبغي أن لا يمكن من ذلك بل يفعله المسلمون لأن «اليهودي لما آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته ما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مات ثم قال لأصحابه: لوا أخاكم ولم يخل بينه وبين والده اليهودي» ويكره أن يدخل الكافر قبر ابنه من المسلمين لأن الموضع الذي فيه الكافر ينزل فيه السخط واللعنة فينزه قبر المسلم من ذلك وإنما يدخل قبره المسلمون
ليضعوه على سنة المسلمين ويقولون عند وضعه: بسم الله وعلى ملة رسول الله والله تعالى أعلم. .
[باب حمل الجنازة]
السنة في حمل الجنازة أن يحملها أربعة نفر من جوانبها الأربع عندنا وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه: السنة حملها بين العمودين وهو أن يحملها رجلان يتقدم أحدهما فيضع جانبي الجنازة على كتفيه ويتأخر الآخر فيفعل مثل ذلك واحتج بما روي «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حمل جنازة سعد بن معاذ بين عمودين» (وحجتنا) حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - «من السنة أن تحمل الجنازة من جوانبها الأربع» ولأن عمل الناس اشتهر بهذه الصفة وهو أيسر على الحاملين المتداولين بينهم وأبعد عن تشبيه حمل الجنازة بحمل الأثقال وقد أمرنا بذلك ولهذا كره حملها على الظهر أو على الدابة. وتأويل الحديث أنه لضيق الطريق أو لعوز بالحاملين ومن أراد كمال السنة في حمل الجنازة ينبغي له أن يحملها من الجوانب الأربع يبدأ بالأيمن المقدم لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يحب التيامن في كل شيء والمقدم أول الجنازة والبداءة بالشيء من أوله ثم بالأيمن المؤخر ثم بالأيسر المقدم ثم بالأيسر المؤخر لأنه لو تحول من الأيمن المقدم إلى الأيسر المقدم احتاج إلى المشي أمامها والمشي خلفها أفضل فلهذا يتحول من الأيمن المقدم إلى الأيمن المؤخر والأيمن المقدم جانب السرير الأيسر فذلك يمين الميت ويمين الحامل وينبغي أن يحمل من كل جانب عشر خطوات جاء في الحديث من حمل جنازة أربعين خطوة كفرت له أربعون كبيرة
(قال): وليس في المشي بالجنازة شيء مؤقت غير أن العجلة أحب إلي من الإبطاء بها لما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المشي بالجنازة فقال: ما دون الخبب فإن يكن خيرا عجلتموه إليه وإن يكن شرا وضعتموه عن رقابكم أو قال: فبعدا لأهل النار»
(قال) ولا بأس بالمشي قدامها والمشي خلفها أفضل عندنا وقال الشافعي - رضي الله عنه: المشي أمامها أفضل لما روي أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانا يمشيان أمام الجنازة وإن الناس شفعاء الميت والشفيع يتقدم في العادة على من يشفع له.
(ولنا) حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أنه كان يمشي خلف جنازة سعد بن معاذ» وأن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يمشي خلف الجنازة فقيل له: إن أبا بكر وعمر كانا يمشيان أمام الجنازة فقال: يرحمهما الله
قد عرفا أن المشي خلفها أفضل ولكنهما أرادا أن ييسرا الأمر على الناس معناه أن الناس يتحرزون عن المشي أمامها فلو اختار المشي خلفها لضاق الطريق على من يشيعها. وقال ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه: فضل المشي خلف الجنازة على المشي أمامها كفضل المكتوبة على النافلة ولأن المشي خلفها أوعظ فإنه ينظر إليها ويتفكر في حال نفسه فيتعظ به وربما يحتاج إلى التعاون في حملها فإذا كانوا خلفها تمكنوا من التعاون عند الحاجة فذلك أفضل والشفيع إنما يتقدم من يشفع له للتحرز عن تعجيل من تطلب منه الشفاعة بعقوبة من يشفع له حتى يمنعه من ذلك إذا عجل به وذلك لا يتحقق ههنا




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 372.89 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 367.04 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (1.57%)]