تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى - الصفحة 54 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         السَّدَاد فيما اتفقا عليه البخاري ومسلم في المتن والإسناد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 90 - عددالزوار : 16274 )           »          وقفات مع آية خسوف القمر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          الألباني.. إمام الحديث في العصر الحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 1819 )           »          الأمل عبادة والثبات موقف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          مختصر تاريخ تطور مدينة القاهرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 121 )           »          نصائح وضوابط إصلاحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 58 - عددالزوار : 27235 )           »          خطورة قول: ما رأيك في هذا الحكم الشرعي؟!! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          خطورة الظن السيء بالعلماء الراسخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          كيف تحمي الأسر العريقة أجيالها من الرفاهية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          نزيف الإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #531  
قديم 07-07-2025, 04:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ الشعراء
من صــ 121 الى صــ 130
الحلقة (531)







الآية : [123] {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ}
الآية : [124] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ}
الآية : [125] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}
الآية : [126] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية : [127] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية : [128] {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}
الآية : [129] {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}
الآية : [130] {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}
الآية : [131] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية : [132] {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ}
الآية : [133] {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}
الآية : [134] {وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}
الآية : [135] {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
الآية : [136] {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ}
الآية : [137] {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ}
الآية : [138] {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}
الآية : [139] {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية : [140] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} التأنيث بمعنى القبيلة والجماعة. وتكذيبهم المرسلين كما تقدم. {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} تقدم.
قوله تعالى : {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} الريع ما ارتفع من الأرض في قول ابن عباس وغيره ، جمع ريعة. وكم ريع أرضك أي كم ارتفاعها. وقال قتادة : الريع الطريق. وهو قول الضحاك والكلبي ومقاتل والسدي. وقال ابن عباس أيضا. ومنه قول السيب بن علس :
في الآل يخفضها ويرفعها ... ريع يلوح كأنه سحل
شبه الطريق بثوب أبيض. النحاس : ومعروف في اللغة أن يقال لما ارتفع من الأرض ريع وللطريق ريع. قال الشاعر :
طراق الخوافي مشرق فوق ريعة ... ندى ليله في ريشه يترقرق
وقال عمارة : الريع الجبل الواحد ريعة والجمع رياع. وقال مجاهد : هو الفج بين الجبلين. وعنه : الثنية الصغيرة. وعنه : المنظرة. وقال عكرمة ومقاتل : كانوا يهتدون بالنجوم إذا سافروا ، فبنوا على الطريق أمثالا طوالا ليهتدوا بها : يدل عليه قوله تعالى : {آيَةً} أي علامة. وعن مجاهد : الريع بنيان الحمام دليله {تَعْبَثُونَ} أي تلعبون ؛ أي تبنون بكل مكان مرتفع آية. علما تلعبون بها على معنى أبنية الحمام وبروجها. وقيل : تعبثون بمن يمر في الطريق. أي تبنون بكل موضع مرتفع لتشرفوا على السابلة فتسخروا منهم. وقال الكلبي : إنه عبث العشارين بأموال من يمر بهم ؛ ذكره الماوردي. وقال ابن الأعرابي : الربع الصومعة ، والريع البرج من الحمام يكون في الصحراء. والريع التل العالي. وفي الريع لغتان : كسر الراء وفتحها وجمعها أرياع ، ذكره الثعلبي.
قوله تعالى : {وتتخذون مصانع} أي منازل ؛ قاله الكلبي. وقيل : حصونا مشيدة ؛ قال ابن عباس ومجاهد. ومنه قول الشاعر :
تركنا ديارهم منهم قفارا ... وهدمنا المصانع والبروجا
وقيل : قصورا مشيدة ؛ وقاله مجاهد أيضا. وعنه : بروج الحمام ؛ وقاله السدي. قلت : وفيه بعد عن مجاهد ؛ لأنه تقدم عنه في الريع أنه بنيان الحمام فيكون تكرارا في الكلام. وقال قتادة : مآجل للماء تحت الأرض. وكذا قال الزجاج : إنها مصانع الماء ، واحدتها مصنعة ومصنع. ومنه قول لبيد :
بلينا وما تبلي النجوم الطوالع ... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
الجوهري : المصنعة كالحوض يجتمع فيها ماء المطر ، وكذلك المصنعة بضم النون. والمصانع الحصون. وقال أبو عبيدة : يقال لكل بناء مصنعة. حكاه المهدوي. وقال عبدالرزاق : المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العادية. {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي كي تخلدوا. وقيل : لعل استفهام بمعنى التوبيخ أي فهل {تَخْلُدُونَ} كقولك : لعلك تشتمني أي هل تشتمني. روي معناه عن ابن زيد. وقال الفراء : كيما تخلدون لا تتفكرون في الموت. وقال ابن عباس وقتادة : كأنكم خالدون باقون فيها. وفي بعض القراءات {كأنكم تَخْلُدُونَ} ذكره النحاس. وحكى قتادة : أنها كانت في بعض القراءات {كأنكم خْالُدُونَ} .
قوله تعالى : {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} البطش السطوة والأخذ بالعنف وقد بطش به يبطش ويبطش بطشا. وباطشه مباطشة. وقال ابن عباس ومجاهد : البطش العسف قتلا بالسيف وضربا بالسوط. ومعنى ذلك فعلتم ذلك ظلما. وقال مجاهد أيضا : هو ضرب بالسياط ؛ ورواه مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر فيما ذكر ابن العربي. وقيل : هو القتل بالسيف في غير حق. حكاه يحيى بن سلام. وقال الكلبي والحسن : هو القتل على الغصب من غير تثبت. وكله يرجع إلى قول ابن عباس. وقيل : إنه المؤاخذة على العمد والخطأ من غير عفو ولا إبقاء. قال ابن العربي : ويؤيد ما قال مالك قول الله تعالى عن موسى : {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ} [القصص : 19] وذلك أن موسى عليه السلام لم يسل عليه سيفا ولا طعنه برمح ، وإنما وكزه وكانت منيته في وكزته. والبطش يكون باليد وأقله الوكز والدفع ، ويليه السوط والعصا ، ويليه الحديد ، والكل مذموم إلا بحق. والآية نزلت خبرا عمن تقدم من الأمم ، ووعظا من الله عز وجل لنا في مجانبة ذلك الفعل الذي ذمهم به وأنكره عليهم.
قلت : وهذه الأوصاف المذمومة قد صارت في كثير من هذه الأمة ، لا سيما بالديار المصرية منذ وليتها البحرية ؛ فيبطشون بالناس بالسوط والعصا في غير حق. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم
أن ذلك يكون. كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" . وخرج أبو دواد من حديث ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" . {جَبَّارِينَ} قتالين. والجبار القتال في غير حق. وكذلك قوله تعالى : {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ} [القصص : 19] قاله الهروي. وقيل : الجبار المتسلط العاتي ؛ ومنه قوله تعالى : {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق : 45] أي بمسلط. وقال الشاعر :
سلبنا من الجبار بالسيف ملكه ... عشيا وأطراف الرماح شوارع
قوله تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} تقدم. {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} أي من الخيرات ؛ ثم فسرها بقوله : {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي سخر ذلك لكم وتفضل بها عليكم ، فهو الذي يجب أن يعبد ويشكر ولا يكفر. {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} إن كفرتم به وأصررتم على ذلك. {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} كل ذلك عندنا سواء لا نسمع منك ولا نلوي على ما تقوله. وروى العباس عن أبي عمرو وبشر عن الكسائي : "أَوَعَظْتَ" مدغمة الظاء في التاء وهو بعيد ؛ لأن الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما قرب منه جدا وكان مثله ومخرجه. {إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ} أي دينهم ؛ عن ابن عباس وغيره. وقال الفراء : عادة الأولين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} . الباقون {خُلُقُ} . قال الهروي : وقول عز وجل : {إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ} أي اختلافهم وكذبهم ، ومن قرأ : {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} فمعناه عادتهم ، والعرب تقول : حدثنا فلان بأحاديث الخلق أي بالخرافات والأحاديث المفتعلة. وقال ابن الأعرابي :
الخلق الدين والخلق الطبع والخلق المروءة. قال النحاس : {خَلُقُ الأَوَّلِينَ} عند الفراء يعني عادة الأولين. وحكى لنا محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد قال : {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} مذهبهم وما جرى عليه أمرهم ؛ قال أبو جعفر : والقولان متقاربان ، ومنه الحديث عن النبي صلى الله عليه : "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" أي أحسنهم مذهبا وعادة وما يجري عليه الأمر في طاعة الله عز وجل ، ولا يجوز أن يكون من كان حسن الخلق فاجرا فاضلا ، ولا أن يكون أكمل إيمانا من السيئ الحلق الذي ليس بفاجر. قال أبو جعفر : حكي لنا عن محمد بن يزيد أن معنى {خَلُقُ الأَوَّلِينَ} تكذيبهم وتخرصهم غير أنه كان يميل إلى القراءة الأولى ؛ لأن فيها مدح آبائهم ، وأكثر ما جاء القرآن في صفتهم مدحهم لآبائهم ، وقولهم : {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف : 23] . وعن أبي قلابة : أنه قرأ : {خُلْقُ} بضم الخاء وإسكان اللام تخفيف {خُلُقُ} . ورواها ابن جبير عن أصحاب نافع عن نافع. وقد قيل : إن معنى {خلق الأولين} دين الأولين. ومنه قوله تعالى : {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء : 119] أي دين الله. و {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} عادة الأولين : حياة ثم موت ولا بعث. وقيل : ما هذا الذي أنكرت علينا من البنيان والبطش إلا عادة من قبلنا فنحن نقتدي بهم. {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} على ما نفعل. وقيل : المعنى خلق أجسام الأولين ؛ أي ما خلقنا إلا كخلق الأولين الذين خلقوا قبلنا وماتوا ، ولم ينزل بهم شيء مما تحذرنا به من العذاب. {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} أي بريح صرصر عاتية على ما يأتي في {الْحَاقَّةُ} . {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} قال بعضهم : أسلم معه ثلاثمائة ألف ومئون وهلك باقيهم. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
الآية : [141] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ}
الآية : [142] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ}
الآية : [143] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}
الآية : [144] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية : [145] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية : [146] {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ}
الآية : [147] {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}
الآية : [148] {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}
الآية : [149] {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ}
الآية : [150] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية : [151] {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ}
الآية : [152] {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ}
الآية : [153] {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}
الآية : [154] {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
الآية : [155] {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}
الآية : [156] {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
الآية : [157] {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ}
الآية : [158] {أَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية : [159] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} ذكر قصة صالح وقومه وهم ثمود ؛ وكانوا يسكنون الحجر كما تقدم في {الحجر} وهي ذوات نخل وزروع ومياه. {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} يعني في الدنيا آمنين من الموت والعذاب. قال ابن عباس : كانوا معمرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم. ودل على هذا قوله : {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود : 61] فقرعهم صالح ووبخهم وقال : أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} . الزمخشري : فإن قلت لم قال : {وَنَخْلٍ} بعد قوله : و {جَنَّاتٍ} والجنات تتناول النخل أول شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج حتى إنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخل كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل قال زهير :
كأن عيني في غربي مقتلة ... من النواضح تسقي جنة سحقا
يعني النخل ؛ والنخلة السحوق البعيدة الطول.
قلت : فيه وجهان ؛ أحدهما : أن يخص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيها على انفراده عنها بفضله عنها. والقاني : أن يريد بالجنات غيرها من الشجر ؛ لأن اللفظ
يصلح لذلك ثم يعطف عليها النخل. والطلعة هي التي تطلع من النخلة كنصل السيف ؛ في جوفه شماريخ القنو ، والقنو اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه. و {هَضِيمٌ} قال ابن عباس : لطيف ما دام في كفراه. والهضيم اللطيف الدقيق ؛ ومنه قول امرئ القيس :
علي هضيم الكشح ريا المخلخل
الجوهري : ويقال للطلع هضيم ما لم يخرج من كفراه ؛ لدخول بعضه في بعض. والهضيم من النساء اللطيفة الكشحين. ونحوه حكى الهروي ؛ قال : هو المنضم في وعائه قبل أن يظهر ؛ ومنه رجل هضيم الجنبين أي منضمهما ؛ هذا قول أهل اللغة. وحكى الماوردي وغيره في ذلك اثني عشر قولا : أحدها : أنه الرطب اللين ؛ قال عكرمة. الثاني : هو المذنب من الرطب ؛ قاله سعيد بن جبير. قال النحاس : وروى أبو إسحاق عن يزيد - هو ابن أبي زياد كوفي ويزيد بن أبي مريم شامي - {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قال : منه ما قد أرطب ومن ه مذنب. الثالث : أنه الذي ليس فيه نوى ؛ قاله الحسن. الرابع : أنه المتهشم المتفتت إذا مس تفتت ؛ قال مجاهد. وقال أبو العالية : يتهشم في الفم. الخامس : هو الذي قد ضمر بركوب بعضه بعضا ؛ قاله الضحاك ومقاتل. السادس : أنه المتلاصق بعضه ببعض ؛ قال أبو صخر. السابع : أنه الطلع حين يتفرق ويخضر ؛ قاله الضحاك أيضا. الثامن : أنه اليانع النضيج ؛ قاله ابن عباس.
التاسع : أنه المكتنز قبل أن ينشق عنه القشر ؛ حكاه ابن شجرة ؛ قال :
كأن حمولة تجلى عليه ... هضيم ما يحس له شقوق
العاشر : أنه الرخو ؛ قال الحسن. الحادي عشر : أنه الرخص اللطيف أول ما يخرج وهو الطلع النضيد ؛ قاله الهروي. الثاني عشر : أنه البرني ؛ قاله ابن الأعرابي ؛ فعيل بمعنى فاعل أي هنيء مريء من انهضام الطعام. والطلع اسم مشتق من الطلوع وهو الظهور ؛ ومنه طلوع الشمس والقمر والنبات.
قوله تعالى : {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} النحت النجر والبري ؛ نحته ينحته "بالكسر" نحتا إذا براه والنحاتة البراية. والمنحت ما ينحت به. وفي {وَالصَّافَّاتِ} قال : {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات : 95] . وكانوا ينحتونها من الجبال لما طالت أعمارهم وتهدم بناؤهم من المدر. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع : {فَرِهِينَ} بغير ألف. الباقون : {فَارِهِينَ} بألف وهما بمعنى واحد في قول أبي عبيدة وغيره ؛ مثل : {عِظَاماً نَخِرَةً} [النازعات : 11] و {نَاخِرَةً} . وحكاه قطرب. وحكى فره يفره فهو فاره وفره يفره فهو فره وفاره إذا كان نشيطا. وهو نصب على الحال. وفرق بينهما قوم فقالوا : {فَارِهِينَ} حاذقين بنحتها ؛ قاله أبو عبيدة ؛ وروي عن ابن عباس وأبي صالح وغيرهما. وقال عبدالله بن شداد : {فَارِهِينَ} متجبرين. وروي عن ابن عباس أيضا أن معنى : {فَرِهِينَ} بغير ألف أشرين بطرين ؛ وقاله مجاهد. وروى عنه شرهين. الضحاك : كيسين. قتادة : معجبين ؛ قاله الكلبي ؛ وعنه : ناعمين. وعنه أيضا آمنين ؛ وهو قول الحسن. وقيل : متخيرين ؛ قاله الكلبي والسدي. ومنه قال الشاعر :
إلى فره يماجد كل أمر ... قصدت له لأختبر الطباعا
وقيل : متعجبين ؛ قال خصيف. وقال ابن زيد : أقوياء. وقيل : فرهين فرحين ؛ قاله الأخفش. والعرب تعاقب بين الهاء والحاء ؛ تقول : مدهته ومدحته ؛ فالفره الأشر الفرح ثم الفرح بمعنى المرح مذموم ؛ قال الله تعالى : {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً} [الإسراء : 37] وقال : {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص : 76] . {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ، وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} قيل : المراد الذين عقروا الناقة. وقيل : التسعة الرهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. قال السدي وغيره : أوحى الله تعالى إلى صالح : إن قومك سيعقرون ناقتك ؛ فقال لهم ذلك ، فقالوا : ما كنا لنفعل. فقال لهم صالح : إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها ويكون هلاككم على يديه ؛ فقالوا : لا يولد في هذا الشهر ذكر إلا قتلناه. فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم ، ثم ولد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه وكان لم يولد له قبل ذلك. وكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا ؛ وكان إذا مر بالتسعة فرأوه قالوا : لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا.
وغضب التسعة على صالح ؛ لأنه كان سبب قتلهم أبناءهم فتعصبوا وتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله. قالوا : نخرج إلى سفر فترى الناس سفرنا فنكون في غار ، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ، ثم قلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ؛ فيصدقوننا ويعلمون أنا قد خرجنا إلى سفر. وكان صالح لا ينام معهم في القرية وكان يأوي إلى مسجده ، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم ، فلما دخلوا الغار أرادوا أن يخرجوا فسقط عليهم الغار فقتلهم ، فرأى ذلك ناس ممن كان قد أطلع على ذلك ، فصاحوا في القرية : يا عباد الله! أما رضي صالح أن أمر بقتل أولادهم حتى قتلهم ؛ فأجمع أهل القرية على قتل الناقة. وقال ابن إسحاق : إنما اجتمع التسعة على سب صالح بعد عقرهم الناقة وإنذارهم بالعذاب على ما يأتي بيانه في سورة {النمل} إن شاء الله تعالى. {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} هو من السحر في قول مجاهد وقتادة على ما قال المهدوي. أي أصبت بالسحر فبطل عقلك ؛ لأنك بشر مثلنا فلم تدع الرسالة دوننا. وقيل : من المعللين بالطعام والشراب ؛ قاله ابن عباس والكلبي وقتادة ومجاهد أيضا فيما ذكر الثعلبي. وهو على هذا القول من السحر وهو الرئة أي بشر لك سحر أي رئة تأكل وتشرب مثلنا كما قال لبيد :
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
وقال امرؤ القيس :
ونسحر بالطعام وبالشراب
{فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في قولك. {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} قال ابن عباس : قالوا إن كنت صادقا فادع الله يخرج لنا من هذا الجبل ناقة حمراء عشراء فتضع ونحن ننظر ، وترد هذا الماء فتشرب وتغدو علينا بمثله لبنا. فدعا الله
وفعل الله ذلك فـ {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ} أي حظ من الماء ؛ أي لكم شرب يوم ولها شرب يوم ؛ فكانت إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله أول النهار وتسقيهم اللبن آخر النهار ، وإذا كان يوم شربهم كان لأنفسهم ومواشيهم وأرضهم ، ليس لهم في يوم ورودها أن يشربوا من شربها شيئا ، ولا لها أن تشرب في يومهم من مائهم شيئا. قال الفراء : الشرب الحظ من الماء. قال النحاس : فأما المصدر فيقال فيه شرب شربا وشربا وشربا وأكثرها المضمومة ؛ لأن المكسورة والمفتوحة يشتركان مع شيء آخر فيكون الشرب الحظ من الماء ، ويكون الشرب جمع شارب كما قال :
فقلت للشَّرب في دُرْنا وقد ثملوا
إلا أن أبا عمرو بن العلاء والكسائي يختاران الشَّرب بالفتح في الصدر ، ويحتجان برواية بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إنها أيام أكل وشَرب" . {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} لا يجوز إظهار التضعيف ها هنا ؛ لأنهما حرفان متحركان من جنس واحد. {فَيَأْخُذَكُمْ} جواب النهي ، ولا يجوز حذف الفاء منه ، والجزم كما جاء في الأمر إلا شيئا روي عن الكسائي أنه يجيزه. {فعقروها فأصبحوا نادمين} أي على عقرها لما أيقنوا بالعذاب. وذلك أنه أنظرهم ثلاثا فظهرت عليهم العلامة في كل يوم ، وندموا ولم ينفعهم الندم عند معاينة العذاب. وقيل : لم ينفعهم الندم لأنهم لم يتوبوا ، بل طلبوا صالحا عليه السلام ليقتلوه لما أيقنوا بالعذاب. وقيل : كانت ندامتهم على ترك الولد إذ لم يقتلوه معها. وهو بعيد. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} إلى آخره تقدم. ويقال : إنه ما آمن به من تلك الأمم إلا ألفان وثمانمائة رجل وامرأة. وقيل : كانوا أربعة آلاف. وقال كعب : كان قوم صالح اثني عشر ألف قبيل كل قبيل نحو اثني عشر ألفا من سوى النساء والذرية ، ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #532  
قديم 07-07-2025, 04:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ الشعراء
من صــ 131 الى صــ 140
الحلقة (532)







الآية : [160] {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ}
الآية : [161] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ}
الآية : [162] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}
الآية : [163] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية : [164] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية : [165] {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ}
الآية : [166] {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}
الآية : [167] {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}
الآية : [168] {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ}
الآية : [169] {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ}
الآية : [170] { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ}
الآية : [171] {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ }
الآية : [172] {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ}
الآية : [173] {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}
الآية : [174] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية : [175] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} مضى معناه وقصته في الأعراف وهود مستوفى والحمد لله.
قوله تعالى : {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} كانوا ينكحونهم في أدبارهم وكانوا يفعلون ذلك بالغرباء على ما تقدم {في الْأَعْرَافِ} . {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} يعني فروج النساء فإن الله خلقها للنكاح. قال إبراهيم بن مهاجر : قال لي مجاهد كيف يقرأ عبد الله : {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} قلت : {وَتَذَرُونَ مَا أصلح لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} قال : الفرج ؛ كما قال : {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة : 222] . {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أي متجاوزون لحدود الله. {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ} عن قولك هذا. لَتَكُونَنَّ
مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي من بلدنا وقريتنا. {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ} يعني اللواط {مِنَ الْقَالِينَ} أي المبغضين والقلى البغض ؛ قليته أقليه قلى وقلاء. قال :
فلست بمقلي الخلال ولا قالي
وقال آخر :
عليك السلام لا مللت قريبة ... ومالك عندي إن نأيت قلاء
{رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} من عذاب عملهم. دعا الله لما أيس من إيمانهم ألا يصيبه من عذابهم.
قال تعالى : {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} ولم يكن إلا ابنتاه على ما تقدم في {هود} . {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} روى سعيد عن قتادة قال : غبرت في عذاب الله عز وجل أي بقيت. وأبو عبيدة يذهب إلى أن المعنى من الباقين في الهرم أي بقيت حتى هرمت. قال النحاس : يقال للذاهب غابر والباقي غابر كما قال :
لا تكسع الشَّول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
وكما قال :
فما ونى محمد مذ أن غفر ... له الإله ما مضى وما غبر
أي ما بقي. والأغبار بقيات الألبان. {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} أي أهلكناهم بالخسف والحصب ؛ قال مقاتل : خسف الله بقوم لوط وأرسل الحجارة على من كان خارجا من القرية. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً} يعني الحجارة {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} وقيل : إن جبريل خسف بقريتهم وجعل عاليها سافلها ، ثم أتبعها الله بالحجارة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} لم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط وابنتاه.
الآية : [176] {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ}
الآية : [177] {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ}
الآية : [178] {إني لكم رسول أمين}
الآية : [179] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية : [180] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية : [181] {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ}
الآية : [182] {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}
الآية : [183] {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}
الآية : [184] {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ}
الآية : [185] {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}
الآية : [186] {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}
الآية : [187] {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
الآية : [188] {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}
الآية : [189] {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
الآية : [190] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية : [191] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى : {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} الأيك الشجر المتلف الكثير الواحدة أيكة. ومن قرأ : {أَصْحَابُ لأَيْكَةِ} فهي الغيضة. ومن قرأ : {لَيْكَةِ} فهو اسم القرية. ويقال : هما مثل بكة ومكة ؛ قاله الجوهري. وقال النحاس : وقرأ أبو جعفر ونافع : {كَذَّبَ أَصْحَابُ لَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} وكذا قرأ : في {ص} . وأجمع القراء على الخفض في التي في سورة {الحجر} والتي في سورة {ق} فيجب أن يرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه إذ كان المعنى واحدا. وأما ما حكاه أبو عبيد من أن {لَيْكَةِ} هي اسم القرية التي كانوا فيها وأن {الأَيْكَةِ} اسم البلد فشيء لا يثبت ولا يعرف من قاله فيثبت علمه ، ولو عرف من قاله لكان فيه نظر ؛ لأن أهل العلم جميعا من أهل التفسير والعلم بكلام العرب على خلافه.
وروى عبد الله بن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة قال : أرسل شعيب عليه السلام إلى أمتين : إلى قومه من أهل مدين ، وإلى أصحاب الأيكة ؛ قال : والأيكة غيضة من شجر متلف. وروى سعيد عن قتادة قال : كان أصحاب الأيكة أهل غيضة وشجر وكانت عامة شجرهم الدوم وهو شجر المقل. وروى ابن جبير عن الضحاك قال : خرج أصحاب الأيكة - يعني حين أصابهم الحر - فانضموا إلى الغيضة والشجر ، فأرسل الله عليهم سحابة فاستظلوا تحتها ، فلما تكاملوا تحتها أحرقوا. ولو لم يكن هذا إلا ما روي عن ابن عباس قال : و {الْأَيْكَةِ} الشجر. ولا نعلم بين أهل اللغة اختلافا أن الأيكة الشجر الملتف ، فأما احتجاج بعض من احتج بقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح أنه في السواد {لَيْكَةِ} فلا حجة له ؛ والقول فيه : إن أصله الأيكة ثم خففت الهمزة فألقيت حركتها على اللام فسقطت واستغنت عن ألف الوصل ؛ لأن اللام قد تحركت فلا يجوز عل هذا إلا الخفض ؛ كما تقول بالأحمر تحقق الهمزة ثم تخفضها بلحمر ؛ فإن شئت كتبته في الخط على ما كتبته أولا ، وإن شئت كتبته بالحذف ؛ ولم يجز إلا الخفض ؛ قال سيبويه : وأعلم أن ما لا ينصرف إذا دخلت عليه الألف واللام أو أضيف أنصرف ؛ ولا نعلم أحدا خالف سيبويه في هذا. وقال الخليل : {الأَيْكَةِ} غيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر. {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} ولم يقل أخوهم شعيب ؛ لأنه لم يكن أخا لأصحاب الأيكة في النسب ، فلما ذكر مدين قال : {أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف : 85] ؛ لأنه كان منهم. وقد مضى في {الأعراف} القول في نسبه. قال ابن زيد : أرسل الله شعيبا رسولا إلى قومه أهل مدين ، وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة ؛ وقال قتادة. وقد ذكرناه. {أَلا تَتَّقُونَ} تخافون الله {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} الآية. وإنما كان جواب هؤلاء الرسل واحدا على صيغة واحدة ؛ لأنهم متفقون على الأمر بالتقوى ، والطاعة والإخلاص في العبادة ، والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة. {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} الناقصين للكيل
والوزن. {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي أعطوا الحق. وقد مضى في {سُبْحَانَ} وغيرها. {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} تقدم في {سُبْحَانَ} وغيرها.
قوله تعالى : {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} قال مجاهد : الجبلة هي الخليقة. وجبل فلان على كذا أي خلق ؛ فالخُلُق جِبِلَّة وجُبُلَّة وجِبْلة وجُبْلة وجَبْلة ذكره النحاس في "معاني القرآن" . {وَالْجِبِلَّةَ} عطف على الكاف والميم. قال الهروي : الجِبِلَّة والجُبْلَة والجِبِلّ والجُبُلّ والجَبْلُ لغات ؛ وهو الجمع ذو العدد الكثير من الناس ؛ ومنه قوله تعالى : {جِبِلاً كَثِيراً} [يس : 62] . قال النحاس في كتاب "إعراب القرآن" له : ويقال جُبُلَّة والجمع فيهما جَبَّال ، وتحذف الضمة والكسرة من الباء ، وكذلك التشديد من اللام ؛ فيقال : جُبْلة وجُبَل ، ويقال : جِبْلة وجِبال ؛ وتحذف الهاء من هذا كله. وقرأ الحسن باختلاف عنه : {والجُبُلَّة الأولين} بضم الجيم والباء ؛ وروي عن شيبة والأعرج. الباقون بالكسر. قال :
والموت أعظم حادث ... فيما يمر على الجِبِلّه
{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} الذين يأكلون الطعام والشراب على ما تقدم. {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} أي ما نظنك إلا من الكاذبين في أنك رسول الله تعالى. {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} أي جانبا من السماء وقطعة منه ، فننظر إليه ؛ كما قال : {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور : 44] . وقيل : أرادوا أنزل علينا العذاب. وهو مبالغة في التكذيب. قال أبو عبيدة : الكسف جمع كسفة مثل سدر وسدرة. وقرأ السلمي وحفص : {كِسْفاً} جمع كسْفة أيضا وهي القطعة والجانب تقديره كِسْرة وكسَر. قال الجوهري : الكسفة القطعة من الشيء ، يقال أعطني كسفة من ثوبك والجمع كسَف وكسْف. ويقال : الكسف والكسفة واحد. وقال الأخفش : من قرأ : {كِسْفاً} جعله واحدا ومن قرأ : {كِسْفاً} جعله جمعا. وقد مضى هذا في سورة {سُبْحَانَ} وقال الهروي : ومن قرأ : {كسفا} على التوحيد فجمعه أكساف وكسوف ، كأنه قال أو تسقطه علينا طبقا واحدا ،
وهو من كسفت الشيء كسفا إذا غطيته. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} تهديد ؛ أي إنما علي التبليغ وليس العذاب الذي سألتم وهو يجازيكم. {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} قال ابن عباس : أصابهم حر شديد ، فأرسل الله سبحانه سحابة فهربوا إليها ليستظلوا بها ، فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا. وقيل : أقامها الله فوق رؤوسهم ، وألهبها حرا حتى ماتوا من الرمد. وكان من أعظم يوم في الدنيا عذابا. وقيل : بعث الله عليهم سموما فخرجوا إلى الأيكة يستظلون بها فأضرمها الله عليهم نارا فاحترقوا. وعن ابن عباس أيضا وغيره : إن الله تعالى فتح عليهم بابا من أبواب جهنم ، وأرسل عليهم هدة وحرا شديدا فأخذ بأنفاسهم ، فدخلوا بيوتهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء فأنضجهم الحر ، فخرجوا هربا إلى البرية ، فبعث الله عز وجل سحابة فأظلتهم فوجدوا لها بردا وروحا وريحا طيبة ، فنادى بعضهم بعضا ، فلما اجتمعوا تحت السحابة ألهبها الله تعالى عليهم نارا ، ورجفت بهم الأرض ، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى ، فصاروا رمادا ؛ فذلك قوله : {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود : 68] وقوله : {فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم } . وقيل : إن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ، وسلط عليهم الحر حتى أخذ بأنفاسهم ، ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب ، ليتبردوا فيها فيجدوها أشد حرا من الظاهر. فهربوا إلى البرية ، فأظلتهم سحابة وهي الظلة ، فوجدوا لها بردا ونسيما ، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. وقال يزيد الجريري : سلط الله عليهم الحر سبعة أيام ولياليهن ثم رفع لهم جبل من بعيد "فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون وشجر وماء بارد ، فاجتمعوا كلهم تحته ، فوقع عليهم الجبل وهو الظلة. وقال قتادة : بعث الله شعيبا إلى أمتين : أصحاب مدين وأصحاب الأيكة فأهلك الله أصحاب الأيكة بالظلة ، وأما أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا أجمعين . {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} قيل : آمن بشعيب من الفئتين تسعمائة نفر."
الآية : [192] {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية : [193] {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}
الآية : [194] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}
الآية : [195] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}
الآية : [196] {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}
قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} عاد إلى ما تقدم بيانه في أول السورة من إعراض المشركين عن القرآن. {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} مخففا قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو. الباقون : {نَزَلَ} مشددا {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} نصبا وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد لقوله : {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ} وهو مصدر نزل ، والحجة لمن قرأ بالتخفيف أن يقول ليس هذا بمقدر ، لأن المعنى وإن القرآن لتنزيل رب العالمين نزل به جبريل إليك ؛ كما قال تعالى : {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة : 97] أي يتلوه عليك فيعيه قلبك. وقيل : ليثبت قلبك. "أي يتلوه عليك فيعيه قلبك. وقيل : ليثبت قلبك. {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} أي لئلا يقولوا لسنا نفهم ما تقول. {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} أي وإن ذكر نزوله لفي كتب الأولين يعني الأنبياء. وقيل : أي إن ذكر محمد عليه السلام في كتب الأولين ؛ كما قال تعالى : {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ} [الأعراف : 157] والزبر الكتب الواحد زبور كرسول ورسل ؛ وقد تقدم."
الآية : [197] {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ}
الآية : [198] {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ}
الآية : [199] {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}
الآية : [200] {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}
الآية : [201] {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}
الآية : [202] {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}
الآية : [203] {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ}
قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} قال مجاهد : يعني عبدالله بن سلام وسلمان وغيرهما ممن أسلم. وقال ابن عباس : بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة
يسألونهم عن محمد عليه السلام ، فقالوا : إن هذا لزمانه ، وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته. فيرجع لفظ العلماء إلى كل من كان له علم بكتبهم أسلم أو لم يسلم على هذ القول. وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين ؛ لأنهم كانوا يرجعون في أشياء من أمور الدين إلى أهل الكتاب ؛ لأنهم مظنون بهم علم. وقرأ ابن عامر : {أَوَلَمْ تكُنْ لَهُمْ آيَةً} . الباقون {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً} بالنصب على الخبر واسم يكن {أَنْ يَعْلَمَهُ} والتقدير أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل الذين أسلموا آية واضحة. وعلى القراءة الأولى اسم كان {آيَةً} والخبر {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} . وقرأ عاصم الجحدري : {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} . {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ} أي على رجل ليس بعربي اللسان {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ} بغير لغة العرب لما أمنوا ولقالوا لا نفقه. نظيره : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} [فصلت : 44] الآية. وقيل : معناه ولو نزلناه على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة وكبرا. يقال : رجل أعجم وأعجمي إذا كان غير فصيح وإن كان عربيا ، ورجل عجمي وإن كان فصيحا ينسب إلى أصله ؛ إلا أن الفراء أجاز أن يقال رجل عجمي بمعنى أعجمي. وقرأ الحسن {عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِيَّينَ} مشددة بياءين جعله نسبة. ومن قرأ : {الأَعْجَمِينَ} فقيل : إنه جمع أعجم. وفيه بعد ؛ لأن ما كان من الصفات الذي مؤنثه فعلاء لا يجمع بالواو والنون ، ولا بالألف والتاء ؛ لا يقال أحمرون ولا حمراوات. وقيل : إن أصله الأعجمين كقراءة الجحدوي ثم حذفت ياء النسب ، وجعل جمعه بالياء والنون دليلا عليها. قاله أبو الفتح عثمان بن جني. وهو مذهب سيبويه.
قوله تعالى : {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} يعني القرآن أي الكفر به {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} وقيل : سلكنا التكذيب في قلوبهم ؛ فذلك الذي منعهم من الإيمان ، قاله يحيى بن سلام وقال عكرمة : القسوة. والمعنى متقارب وقد مضى في {الحجر} وأجاز الفراء الجزم في {لا يُؤْمِنُونَ} ؛ لأن فيه معنى الشرط والمجازاة. وزعم أن من شأن العرب إذا وضعت لا موضع كي لا في مثل هذا ربما جزمت ما بعدها وربما رفعت ؛ فتقول : ربطت
الفرس لا ينفلت بالرفع والجزم ، لأن معناه إن لم أربطه ينفلت ، والرفع بمعنى كيلا ينفلت. وأنشد لبعض بني عقيل :
وحتى رأينا أحسن الفعل بيننا ... مساكنه لا يقرف الشر قارف
بالرفع لما حذف كي. ومن الجزم قول الآخر :
لطالما حلأتماها لا ترد ... فخلياها والسجال تبترد
قال النحاس : وهذا كله في {يُؤْمِنُونَ} خطأ عند البصريين ، ولا يجوز الجزم بلا جازم ، ولا يكون شيء يعمل عملا فإذا حذف عمل عملا أقوي ، من عمله وهو موجود ، فهذا احتجاج بيِّن {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي العذاب. وقرأ الحسن : {فَتَأْتِيَهُمْ} بالتاء ، والمعني : فتأتيهم الساعة بغتة فأضمرت لدلالة العذاب الواقع فيها ، ولكثرة ما في القرآن من ذكرها. وقال رجل للحسن وقد قرأ : {فَتَأْتِيَهُمْ} : يا أبا سعيد إنما يأتيهم العذاب بغتة. فانتهره وقال : إنما هي الساعة تأتيهم بغتة أي فجأة. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بإتيانها. {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} أي مؤخرون وممهلون. يطلبون الرجعة هنالك فلا يجابون إليها. قال القشيري : وقوله : {فَيَأْتِيَهُمْ} ليس عطفا على قوله : {حَتَّى يَرَوُا} بل هو جواب قوله : {لا يُؤْمِنُونَ} فلما كان جوابا للنفي انتصب ، وكذلك قوله : {فَيَقُولُوا} .
الآية : [204] {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}
الآية : [205] {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}
الآية : [206] {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}
الآية : [207] {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}
الآية : [208] {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ}
الآية : [209] {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}
قوله تعالى : {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} قال مقاتل : قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد إلى متى تعدنا بالعذاب ولا تأتي به! فنزلت : {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} . أَفَرَأَيْتَ
إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ يعني في الدنيا والمراد أهل مكة في قول الضحاك وغيره. {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} من العذاب والهلاك {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} {مَا} الأولى استفهام معناه التقرير ، وهو في موضع نصب بـ {أَغْنَى} و {مَا} الثانية في موضع رفع ، ويجوز أن تكون الثانية نفيا لا موضع لها. وقيل : {مَا} الأولى حرف نفي ، و {مَا} الثانية في موضع رفع بـ {أَغْنَى} والهاء العائدة محذوفة. والتقدير : ما أغنى عنهم الزمان الذي كانوا يمتعونه. وعن الزهري : إن عمر بن عبدالعزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ : {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} ثم يبكي ويقول :
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
فلا أنت في الأيقاظ يقظان حازم ... ولا أنت في النوام ناج فسالم
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى ... كما سر باللذات في النوم حالم
وتسعى إلى ما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
قوله تعالى : {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} {مِنْ} صلة ؛ المعنى : وما أهلكنا قرية. {إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ} أي رسل. {ذِكْرَى} قال الكسائي : {ذِكْرَى} في موضع نصب على الحال. النحاس : وهذا لا يحصل ، والقول فيه قول الفراء وأبي إسحاق أنها في موضع نصب على المصدر ؛ قال الفراء : أي يذكرون ذكرى ؛ وهذا قول صحيح ؛ لأن معنى {لاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ} إلا لها مذكرون. و {ذِكْرَى} لا يتبين فيه الإعراب ؛ لأن فيها ألفا مقصورة. ويجوز {ذِكْرَى} بالتنوين ، ويجوز أن يكون {ذِكْرَى} في موضع رفع على إضمار مبتدأ. قال أبو إسحاق : أي إنذارنا ذكرى. وقال الفراء : أي ذلك ذكرى ، وتلك ذكرى. وقال ابن الأنباري قال بعض المفسرين : ليس في {الشعراء} وقف تام إلا قوله {إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ} وهذا عندنا وقف حسن ؛ ثم يبتدئ {ذِكْرَى} على معنى هي ذكرى أي يذكرهم ذكرى ، والوقف على {ذِكْرَى} أجود. {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم :




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #533  
قديم 07-07-2025, 04:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ الشعراء
من صــ 141 الى صــ 150
الحلقة (533)







الآية : [210] {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}
الآية : [211] {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}
الآية : [212] {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}
الآية : [213] {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}
قوله تعالى : {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} يعني القرآن بل ينزل به الروح الأمين. {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} أي برمي الشهب كما مضى في سورة {الحجر} بيانه. وقرأ الحسن ومحمد بن السميقع : {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِونُ} قال المهدوي : وهو غير جائز في العربية ومخالف للخط. وقال النحاس : وهذا غلط عند جميع النحويين ؛ وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول : هذا غلط عند العلماء ، إنما يكون بدخول شبهة ؛ لما رأى الحسن في آخره ياء ونونا وهو في موضع رفع اشتبه عليه بالجمع المسلم فغلط ، وفي الحديث : "احذروا زلة العالم" وقد قرأ هو مع الناس : {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة : 14] ولو كان هذا بالواو في موضع رفع لوجب حذف النون للإضافة. وقال الثعلبي : قال الفراء : غلط الشيخ - يعني الحسن - فقيل ذلك للنضر بن شميل فقال : إن جاز أن يحتج بقول رؤبة والعجاج وذويهما ، جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه. مع أنا نعلم أنهما لم يقرأ بذلك إلا وقد سمعا في ذلك شيئا ؛ وقال المؤرج : إن كان الشيطان من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه. وقال يونس بن حبيب : سمعت أعرابيا يقول دخلنا بساتين من ورائها بساتون ؛ فقلت : ما أشبه هذا بقراءة الحسن.
قوله تعالى : {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} قيل : المعنى قل لمن كفر هذا. وقيل : هو مخاطبة له عليه السلام وإن كان لا يفعل هذا ؛ لأنه معصوم مختار ولكنه خوطب بهذا والمقصود غيره. ودل على هذا قوله : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} أي لا يتكلون على نسبهم وقرابتهم فيدعون ما يجب عليهم.
الآية : [214] {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}
الآية : [215] {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية : [216] {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}
الآية : [217] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}
الآية : [218] {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}
الآية : [219] {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}
الآية : [22] {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
قوله تعالى : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فيه مسألتان :
الأولى- قوله تعالى : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} خص عشيرته الأقربين بالإنذار ؛ لتنحسم أطماع سائر عشيرته وأطماع الأجانب في مفارقته إياهم على الشرك. وعشيرته الأقربون قريش. وقيل : بنو عبد مناف. ووقع في صحيح مسلم : "وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ورهطك منهم المخلصين" . وظاهر هذا أنه كان قرآنا يتلى وأنه نسخ ؛ إذ لم يثبت نقله في المصحف ولا تواتر. ويلزم على ثبوته إشكال ؛ وهو أنه كان يلزم عليه ألا ينذر إلا من آمن من عشيرته ؛ فإن المؤمنين هم الذين يوصفون بالإخلاص في دين الإسلام وفي حب النبي صلى الله عليه وسلم لا المشركون ؛ لأنهم ليسوا على شيء من ذلك ، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا عشيرته كلهم مؤمنهم وكافرهم ، وأنذر جميعهم ومن معهم ومن يأتي بعدهم صلي الله عليه وسلم ؛ فلم يثبت ذلك نقلا ولا معنى. وروى مسلم من حديث أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال : "يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبدالمطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها" .
الثانية- في هذا الحديث والآية دليل على أن القرب في الأنساب لا ينفع مع البعد في الأسباب ، ودليل على جواز صلة المؤمن الكافر وإرشاده ونصيحته ؛ لقوله : "إن لكم رحما سأبلها ببلالها" وقوله عز وجل : {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة : 8] الآية ، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله.
قوله تعالى : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} تقدم في سورة {الحجر} و {سبحان} يقال : خفض جناحه إذا لان. {فَإِنْ عَصَوْكَ} أي خالفوا أمرك. {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} أي بريء من معصيتكم إياي ؛ لأن عصيانهم إياه عصيان لله عز وجل ، لأنه عليه السلام لا يأمر إلا بما يرضاه ، ومن تبرأ منه فقد تبرأ الله منه.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي فوض أمرك إليه فإنه العزيز الذي لا يغالب ، الرحيم الذي لا يخذل أولياءه. وقرأ العامة : {وَتَوَكَّلْ} بالواو وكذلك هو في مصاحفهم.
وقرأ نافع وابن عامر : {فَتَوَكَّلْ كل} بالفاء وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام. {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي حين تقوم إلى الصلاة في قول أكثر المفسرين : ابن عباس وغيره. وقال مجاهد : يعني حين تقوم حيثما كنت. {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} قال مجاهد وقتادة : في المصلين. وقال ابن عباس : أي في أصلاب الآباء ، آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيا. وقال عكرمة : يراك قائما وراكعا وساجدا ؛ وقاله ابن عباس أيضا. وقيل : المعني ؛ إنك ترى بقلبك في صلاتك من خلفك كما ترى بعينك من قدامك. وروي عن مجاهد ، ذكره الماوردي والثعلبي. وكان عليه السلام يرى من خلفه كما يرى من بين يديه ، وذلك ثابت في الصحيح وفي تأويل الآية بعيد {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تقدم.
الآية : [221] {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}
الآية : [222] {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}
الآية : [223] {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}
قوله تعالى : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}
إنما قال : {تَنَزَّلُ} لأنها أكثر ما تكون في الهواء ، وأنها تمر في الريح. {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} تقدم في {الحجر} .فـ {ـيُلْقُونَ السَّمْعَ} صفة الشياطين {وأكثرهم} يرجع إلى الكهنة. وقيل : إلى الشياطين.
الآية : [224] {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}
الآية : [225] {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}
الآية : [226] {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}
الآية : [227] {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}
قوله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} فيه ست مسائل :
الأولي- قوله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ} جمع شاعر مثل جاهل وجهلاء ؛ قال ابن عباس : هم الكفار {يَتَّبِعُهُمُ} ضلال الجن والإنس. وقيل {الْغَاوُونَ} الزائلون عن الحق ، ودل بهذا أن الشعراء أيضا غاوون ؛ لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك. وقد قدمنا في سورة {النور} أن من الشعر ما يجوز إنشاده ، ويكره ، ويحرم. روي مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال : ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء" قلت : نعم. قال : "هيه" فأنشدته بيتا. فقال : "هيه" ثم أنشدته بيتا. فقال : "هيه" حتى أنشدته مائة بيت. هكذا صواب هذا السند وصحيح روايته. وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم : عن عمرو بن الشريد عن الشريد أبيه ؛ وهو وهم ؛ لأن الشريد هو الذي أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم. واسم أبي الشريد سويد. وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا ، وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية ؛ لأنه
كان حكيما ؛ ألا ترى قوله عليه السلام : "وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه فذلك مندوب إليه ، كقول القائل :
الحمد لله العلي المنان ... صار الثريد في رؤوس العيدان
أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مدحه كقول العباس :
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد ألجم ... نسرا وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يفضض الله فاك" . أو الذب عنه كقول حسان :
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
وهي أبيات ذكرها مسلم في صحيحه وهي في السير أتم. أو الصلاة عليه ؛ كما روى زيد بن أسلم ؛ خرج عمر ليلة يحرس فرأى مصباحا في بيت ، وإذا عجوز تنفش صوفا وتقول :
على محمد صلاة الأبرار ... صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواما بكا بالأسحار ... يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل يجمعني وحبيبي الدار
يعني النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فجلس عمر يبكي. وكذلك ذكر أصحابه ومدحهم رضي الله عنهم ؛ ولقد أحسن محمد بن سابق حيث قال :
إني رضيت عليا للهادي علما ... كما رضيت عتيقا صاحب الغار
وقد رضيت أبا حفص وشيعته ... وما رضيت بقتل الشيخ في الدار
كل الصحابة عندي قدوة علم ... فهل علي بهذا القول من عار
إن كنت تعلم إني لا أحبهم ... إلا من أجلك فاعتقني من النار
وقال آخر فأحسن :
حب النبي رسول الله مفترض ... وحب أصحابه نور ببرهان
من كان يعلم أن الله خالقه ... لا يرمين أبا بكر ببهتان
ولا أبا حفص الفاروق صاحبه ... ولا الخليفة عثمان بن عفان
أما علي فمشهور فضائله ... والبيت لا يستوي إلا بأركان
قال ابن العربي : أما الاستعارات في التشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد ؛ فبذلك يضرب الملك الموكل بالرؤيا المثل ، وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول
فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع ، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولا ينكر في تشبيهه ريقها بالراح. وأنشد أبو بكر رضي الله عنه :
فقدنا الوحى إذ وليت عنا ... وودعنا من الله الكلام
سوى ما قد تركت لنا رهينا ... توارثه القراطيس الكرام
فقد أورثتنا ميراث صدق ... عليك به التحية والسلام
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعه وأبو بكر ينشده ، فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا. قال أبو عمر : ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النهي ، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر ، أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحا ، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى ، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعه ولا قوله ؛ وروي أبو هريرة قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول : "أصدق كلمة - أو أشعر كلمة - قالتها العرب قول لبيد :"
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
أخرجه مسلم وزاد : "وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" وروي عن ابن سيرين أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه : مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر. فقال : ويلك يا لكع! وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي ، فحسنه حسن وقبيحه قبيح! قال : وقد كانوا يتذاكرون الشعر. قال : وسمعت ابن عمر ينشد :
يحب الخمر من مال الندامى ... ويكره أن يفارقه الغلوس
وكان عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة العشرة ثم المشيخة السبعة شاعرا مجيدا مقدما فيه. وللزبير بن بكار القاضي في أشعاره كتاب ، وكانت له زوجة حسنة تسمى عثمة فعتب عليها في بعض الأمر فطلقها ، وله فيها أشعار كثيرة ؛ منها قوله :
تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها ... أطير لوان إنسانا يطير
وقال ابن شهاب : قلت له تقول الشعر في نسكك وفضلك! فقال : إن المصدور إذا نفث برأ.
الثانية- وأما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم ، فهو المتكلم بالباطل حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة ، وأشحهم على حاتم ، وإن يبهتوا البريء ويفسقوا التقي ، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء ؛ رغبة في تسلية النفس وتحسين القول ؛ كما روي عن الفرزدق أن سليمان بن عبدالملك سمع قوله :
فبتن بجانبي مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام
فقال : قد وجب عليك الحد. فقال : يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله : {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} . وروي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال :
من مبلغ الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقي في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... ورقاصة تجذو على كل منسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر أسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم
فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم عليه. وقال : إي والله إني ليسوءني ذلك. فقال : يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا مما قلت ؛ وإنما كانت فضلة من القول ، وقد قال الله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} فقال له عمر : أما عذرك فقد درأ عنك الحد ؛ ولكن لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت. وذكر الزبير بن بكار قال : حدثني مصعب بن عثمان أن عمر بن عبدالعزيز لما ولي الخلافة لم يكن له هم إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص فكتب إلى عامله على المدينة : إني قد عرفت عمر والأحوص بالشر والخبث فإذا أتاك كتابي هذا فاشدد عليهما وأحملهما إلي. فلما أتاه الكتاب حملهما إليه ، فأقبل على عمر ، فقال : هيه!
فلم أر كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى
وكم مالئ عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
أما والله لو اهتممت بحجك لم تنظر إلى شيء غيرك ؛ فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون! ثم أمر بنفيه. فقال : يا أمير المؤمنين! أو خير من ذلك ؟ فقال : ما هو ؟ قال : أعاهد الله أني لا أعود إلى مثل هذا الشعر ، ولا أذكر النساء في شعر أبدا ، وأجدد توبة ، فقال : أو تفعل ؟ قال : نعم ، فعاهد الله على توبته وخلاه ؛ ثم دعا بالأحوص ، فقال هيه!
الله بيني وبين قيمها ... يفر مني بها وأتَّبع
بل الله بين قيمها وبينك! ثم أمر بنفيه ؛ فكلمه فيه رجال من الأنصار فأبى ، وقال : والله لا أرده ما كان لي سلطان ، فإنه فاسق مجاهر. فهذا حكم الشعر المذموم وحكم صاحبه ، فلا يحل سماعه ولا إنشاده في مسجد ولا غيره ، كمنثور الكلام القبيح ونحوه. وروي إسماعيل بن عياش عن عبدالله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حسن الشعر كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام" رواه إسماعيل عن عبدالله الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره. وروى عبدالله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام" .
الثالثة- روي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا" وفي الصحيح أيضا عن أبي سعيد الخدري قال : بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشطان - لان يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا" قال علماؤنا : وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله ، فلعل هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد اتخذ الشعر طريقا للتكسب ، فيفرط في المدح إذا أعطي ، وفي الهجو والذم إذا منع ، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم. ولا خلاف في أن من كان على مثل هذه الحالة فكل ما يكتسبه بالشعر حرام. وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه ، ولا يحل الإصغاء إليه ، بل يجب الإنكار عليه ؛ فإن لم يكن ذلك لمن خاف من لسانه قطعا تعين عليه أن يداريه بما استطاع ، ويدافعه بما أمكن ، ولا يحل له أن يعطي شيئا ابتداء ، لأن ذلك عون على المعصية ؛ فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه بنية وقاية العرض ؛ فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة. قلت : قوله : "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه" القيح المدة يخالطها دم. يقال منه : قاح الجرح يقيح وتقيح وقيح. و "يريه" قال الأصمعي : هو من الوري على
مثال الرمي وهو أن يدوي جوفه ، يقال منه : رجل موري مشدد غير مهموز. وفي الصحاح : وروي القيح جوفه يريه وريا إذا أكله. وأنشد اليزيدي :
قالت له وريا إذا تنحنحا
وهذا الحديث أحسن ما قيل في تأويله : إنه الذي قد غلب عليه الشعر ، وامتلأ صدره منه دون علم سواه ولا شيء من الذكر ممن يخوض به في الباطل ، ويسلك به مسالك لا تحمد له ، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول. ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية ، لحكم العادة الأدبية. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحه لما بوب على هذا الحديث "باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر" . وقد قيل في تأويله : إن المراد بذلك الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره. وهذا ليس بشيء ؛ لأن القليل من هجو النبي صلى الله عليه وسلم وكثيره سواء في أنه كفر ومذموم ، وكذلك هجو غير النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين محرم قليله وكثيره ، وحينئذ لا يكون لتخصيص الذم بالكثير معني.
الرابعة- قال الشافعي : الشعر نوع من الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيح كقبيح الكلام ، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته وإنما يكره لمضمناته ، وقد كان عند العرب عظيم الموقع. قال الأول منهم :
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر الذي يرد به حسان على المشركين : "إنه لأسرع فيهم من رشق النبل" أخرجه مسلم. وروى الترمذي وصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبدالله بن رواحة يمشي بين يديه ويقول :
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر : يا ابن رواحة! في حرم الله وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خل عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم من نضح النبل" .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #534  
قديم 07-07-2025, 04:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ النمل
من صــ 151 الى صــ 160
الحلقة (534)







الخامسة- قوله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} لم يختلف القراء في رفع {وَالشُّعَرَاءُ} فيما علمت. ويجوز النصب على إضمار فعل يفسره {يَتَّبِعُهُمُ} وبه قرأ عيسى بن عمر ؛ قال أبو عبيد : كان الغالب عليه حب النصب ؛ قرأ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة : 38] و {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد : 4] و {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور : 1] . وقرأ نافع وشيبة والحسن والسلمي : {يَتَّبِعُهُمُ} مخففا. الباقون {يَتَّبِعُهُمُ} . وقال الضحاك : تهاجى رجلان أحدهما أنصاري والآخر مهاجري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل واحد غواة قومه وهم السفهاء فنزلت ؛ وقاله ابن عباس. وعنه هم الرواة للشعر. وروى عنه علي بن أبي طلحة أنهم هم الكفار يتبعهم ضلال الجن والإنس ؛ وقد ذكرناه. وروى غضيف عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من أحدث هجاء في الإسلام فاقطعوا لسانه" وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة رن إبليس رنة وجمع إليه ذريته ؛ فقال ايئسوا أن تريدوا أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا ولكن أفشوا فيهما - يعني مكة والمدينة - الشعر.
السادسة- قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} يقول : في كل لغو يخوضون ، ولا يتبعون سنن الحق ؛ لأن من اتبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما يقوله تثبت ، ولم يكن هائما يذهب على وجهه لا يبالي ما قال. نزلت في عبدالله بن الزبعرى ومسافع بن عبد مناف وأمية بن أبي الصلت. {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} يقول : أكثرهم يكذبون ؛ أي يدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه. وقيل : إنها نزلت في أبي عزة الجمحي حيث قال :
ألا أبلغا عني النبي محمدا ... بأنك حق والمليك حميد
ولكن إذا ذكرت بدرا وأهله ... تأوه مني أعظم وجلود
ثم استثنى شعر المؤمنين : حسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن مالك وكعب بن زهير ومن كان على طريقهم من القول الحق ؛ فقال : {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} في كلامهم {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} وإنما يكون الانتصار بالحق ،
وبما حده الله عز وجل ، فإن تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل. وقال أبو الحسن المبرد. لما نزلت : {والشعراء} جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقالوا : يا نبي الله! أنزل الله تعالى هذه الآية ، وهو تعالى يعلم أنا شعراء ؟ فقال : "اقرؤوا ما بعدها {إِلاِّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} - الآية - أنتم { وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } أنتم" أي بالرد على المشركين. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "انتصروا ولا تقولوا إلا حقا ولا تذكروا الآباء والأمهات" فقال حسان لأبي سفيان :
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
وإن أبي ووالدتي وعرضي ... عرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدلاء
وقال كعب يا رسول الله! إن الله قد أنزل في الشعر ما قد علمت فكيف ترى فيه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل" . وقال كعب :
جاءت سخينة كي تغالب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا" . وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} منسوخ بقوله : {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . قال المهدوي : وفي الصحيح عن ابن عباس أنه استثناء. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} في هذا تهديد لمن انتصر بظلم قال شريح سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله عز وجل ؛ فالظالم ينتظر العقاب ، والمظلوم ينتظر النصرة. وقرأ ابن عباس : {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} بالفاء والتاء ومعناهما واحد ذكره الثعلبي. ومعنى : {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} أي مصير يصيرون وأي مرجع يرجعون ؛ لأن مصيرهم إلى
النار ، وهو أقبح مصير ، ومرجعهم إلى العقاب وهو شر مرجع. والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه ، والمرجع العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها فصار كل مرجع منقلبا ، وليس كل منقلب مرجعا ؛ والله أعلم ؛ ذكره الماوردي. و {أَيُّ} منصوب بـ {يَنْقَلِبُونَ} وهو بمعنى المصدر ، ولا يجوز أن يكون منصوبا بـ {سيعلم} لأن أيا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكر النحويون ؛ قال النحاس : وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض.

تفسير سورة النمل
سورة النمل
مكية كلها في قول الجميع ، وهي ثلاث وتسعون آية وقيل أربع وتسعون آية :
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : [1] {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ}
الآية : [2] {هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}
الآية : [3] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}
الآية : [4] {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}
الآية : [5] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}
الآية : [6] {وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم}
قوله تعالى : {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} مضى الكلام في الحروف المقطعة في {البقرة} وغيرها. و {تِلْكَ} بمعنى هذه ؛ أي هذه السورة آيات القرآن وآيات كتاب مبين. وذكر القرآن بلفظ المعرفة ، وقال : {وَكِتَابٍ مُبِينٍ} بلفظ النكرة وهما في معنى المعرفة ؛ كما تقول : فلان رجل عاقل وفلان الرجل العاقل. والكتاب هو القرآن ، فجمع له بين الصفتين : بأنه قرآن وأنه كتاب ؛ لأنه ما يظهر بالكتابة ، ويظهر بالقراءة. وقد مضى
اشتقاقهما في {البقرة} . وقال في سورة الحجر : {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر : 1] فأخرج الكتاب بلفظ المعرفة والقرآن بلفظ النكرة ؛ وذلك لأن القرآن والكتاب اسمان يصلح لكل واحد منهما أن يجعل معرفة ، وأن يجعل صفة. ووصفه بالمبين لأنه بين فيه أمره ونهيه وحلاله وحرامه ووعده ووعيده ؛ وقد تقدم.
قوله تعالى : {هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} {هُدىً} في موضع نصب على الحال من الكتاب ؛ أي تلك آيات الكتاب هادية ومبشرة. ويجوز فيه الرفع على الابتداء ؛ أي هو هدى. وإن شئت على حذف حرف الصفة ؛ أي فيه هدى. ويجوز أن يكون الخبر {لِلْمُؤْمِنِينَ} ثم وصفهم فقال : {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وقد مضى بيانه.
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أي لا يصدقون بالبعث. {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} قيل : أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة. وقيل : زينا لهم أعمالهم الحسنة فلم يعملوها. وقال الزجاج : جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه. {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} أي يترددون في أعمالهم الخبيثة ، وفي ضلالتهم. عن ابن عباس. أبو العالية : يتمادون. قتادة : يلعبون. الحسن : يتحيرون ؛ قال الراجز :
ومهمه أطرافه في مهمه ... أعمى الهدى بالحائرين العمه
قوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} وهو جهنم. {وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} {فِي الآخِرَةِ} تبيين وليس بمتعلق بالأخسرين فإن من الناس من خسر الدنيا وربح الآخرة ، وهؤلاء خسروا الآخرة بكفرهم فهم أخسر كل خاسر.
قوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} أي يلقى عليك فتلقاه وتعلمه وتأخذه. {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} {لَدُنْ} بمعنى عند إلا أنها مبنية غير معربة ، لأنها لا تتمكن ، وفيها لغات ذكرت في {الكهف} . وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص ، وما في ذلك من لطائف حكمته ، ودقائق علمه.
الآية : [7] {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}
الآية : [8] {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية : [9] {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
الآية : [10] {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}
الآية : [11] {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}
الآية : [12] {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}
الآية : [13] {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}
الآية : [14] {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}
قوله تعالى : {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ} {إِذْ} منصوب بمضمر وهو أذكر ؛ كأنه قال على أثر قوله. {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} : خذ يا محمد من آثار حكمته وعلمه قصة موسى إذ قال لأهله. {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} أي أبصرتها من بعد. قال الحرث بن حلزة :
آنست نبأة وأفزعها القناص ... عصرا وقد دنا الإمساء
{سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} قرأ عاصم وحمزة والكسائي : {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} بتنوين {بِشِهَابٍ} . والباقون بغير تنوين على الإضافة ؛ أي بشعلة نار ؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وزعم الفراء في ترك التنوين أنه بمنزلة قولهم : ولدار الآخرة ، ومسجد الجامع ، وصلاة الأولى ؛ يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلفت أسماؤه. قال النحاس : إضافة الشيء إلى نفسه محال عند البصريين ، لأن معنى الإضافة في اللغة ضم شيء إلى شيء
فمحال أن يضم الشيء إلى نفسه ، وإنما يضاف الشيء إلى الشيء ليتبين به معنى الملك أو النوع ، فمحال أن يتبين أنه مالك نفسه أو من نوعها. و {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} إضافة النوع والجنس ، كما تقول : هذا ثوب خز ، وخاتم حديد وشبهه. والشهاب كل ذي نور ؛ نحو الكوكب والعود الموقد. والقبس اسم لما يقتبس من جمر وما أشبهه ؛ فالمعنى بشهاب من قبس. يقال. أقبست قبسا ؛ والاسم قبس. كما تقول : قبضت قبضا. والاسم القبض. ومن قرأ : {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} جعله بدلا منه. المهدوي : أو صفة له ؛ لأن القبس يجوز أن يكون اسما غير صفة ، ويجوز أن يكون صفة ؛ فأما كونه غير صفة فلأنهم قالوا قبسته أقبسه قبسا والقبس المقبوس ؛ وإذا كان صفة فالأحسن أن يكون نعتا. والإضافة فيه إذا كان غير صفة أحسن. وهي إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة وشبهه. ولو قرئ بنصب قبس على البيان أو الحال كان أحسن. ويجوز في غير القرآن بشهاب قبسا على أنه مصدر أو بيان أو حال. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أصل الطاء تاء فأبدل منها هنا طاء ؛ لأن الطاء مطبقة والصاد مطبقة فكان الجمع بينهما حسنا ، ومعناه يستدفئون من البرد. يقال : اصطلى يصطلي إذا استدفأ. قال الشاعر :
النار فاكهة الشتاء فمن يرد ... أكل الفواكه شاتيا فليصطل
الزجاج : كل أبيض ذي نور فهو شهاب. أبو عبيدة : الشهاب النار. قال أبو النجم :
كأنما كان شهابا واقدا ... أضاء ضوءا ثم صار خامدا
أحمد بن يحيى : أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة والآخر لا نار فيه ؛ وقول النحاس فيه حسن ، والشهاب الشعاع المضيء ومنه الكوكب الذي يمد ضوءه في السماء. وقال الشاعر :
في كفه صعدة مثقفة ... فيها سنان كشعلة القبس
قوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَهَا} أي فلما جاء موسى الذي ظن أنه نار وهي نور ؛ قال وهب بن منبه. فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها ، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق ، لا تزداد النار إلا عظما وتضرما ، ولا تزداد الشجرة
إلا خضرة وحسنا ؛ فعجب منها وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها ؛ فمالت إليه ؛ فخافها فتأخر عنها ؛ ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضح أمرها على أنها مأمورة لا يدري من أمرها ، إلى أن {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقد مضى هذا المعنى في {طه} . {نُودِيَ} أي ناداه الله ؛ كما قال : {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم : 52] . {أَنْ بُورِكَ} قال الزجاج : {أَنْ} في موضع نصب ؛ أي بأنه. قال : ويجوز أن تكون في موضع رفع جعلها اسم ما لم يسم فاعله. وحكى أبو حاتم أن في قراءة أبي وابن عباس ومجاهد {أَنْ بُورِكَت مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} . قال النحاس : ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح ، ولو صح لكان على التفسير ، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها الملائكة وموسى. وحكى الكسائي عن العرب : باركك الله ، وبارك فيك. الثعلبي : العرب تقول باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك ، أربع لغات. قال الشاعر :
فبوركت مولودا وبوركت ناشئا ... وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
الطبري : قال { أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} ولم يقل بورك في من في النار على لغة من يقول باركك الله. ويقال باركه الله ، وبارك له ، وبارك عليه ، وبارك فيه بمعنى ؛ أي بورك على من في النار وهو موسى ، أو على من في قرب النار ؛ لا أنه كان في وسطها. وقال السدي : كان في النار ملائكة فالتبريك عائد إلى موسى والملائكة ؛ أي بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين هم حولها. وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له ، كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه ؛ قال : {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود : 73] . وقول ثالث قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير : قدس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى ، عنى به نفسه تقدس وتعالى. قال ابن عباس ومحمد بن كعب : النار نور الله عز وجل ؛ نادى الله موسى وهو في النور ؛ وتأويل هذا أن موسى عليه السلام رأى نورا عظيما فظنه نارا ؛ وهذا لأن الله تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار لا أنه يتحيز في جهة {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف : 84]
لا أنه يتحيز فيهما ، ولكن يظهر في كل فعل فيعلم به وجود الفاعل. وقيل على هذا : أي بورك من في النار سلطانه وقدرته. وقيل : أي بورك ما في النار من أمر الله تعالى الذي جعله علامة.
قلت : ومما يدل على صحة قول ابن عباس ما خرجه مسلم في صحيحه ، وابن ماجة في سننه واللفظ له عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه حجابه النور لو كشفها لأحرقت سحبات وجهه كل شيء أدركه بصره" ثم قرأ أبو عبيدة : {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أخرجه البيهقي أيضا. ولفظ مسلم عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات ؛ فقال : إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور - وفي رواية أبي بكر النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أنتهى إليه بصره من خلقه "قال أبو عبيد : يقال السبحات إنها جلال وجهه ، ومنها قيل : سبحان الله إنما هو تعظيم له وتنزيه. وقوله :" لو كشفها "يعني لو رفع الحجاب عن أعينهم ولم يثبتهم لرؤيته لاحترقوا وما استطاعوا لها. قال ابن جريج : النار حجاب من الحجب وهي سبعة حجب ؛ حجاب العزة ، وحجاب الملك ، وحجاب السلطان ، وحجاب النار ، وحجاب النور ، وحجاب الغمام ، وحجاب الماء. وبالحقيقة فالمخلوق المحجوب والله لا يحجبه شيء ؛ فكانت النار نورا وإنما ذكره بلفظ النار ؛ لأن موسى حسبه نارا ، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر. وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها فأسمعه تعالى كلامه من ناحيتها ، وأظهر له ربوبيته من جهتها. وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة :" جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبال فاران ". فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها ، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها ، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلي الله عليه وسلم ، وفاران مكة. وسيأتي في {القصص} بإسماعه سبحانه كلامه من الشجرة زيادة بيان إن شاء الله تعالى."
قوله تعالى : {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تنزيها وتقديسا لله رب العالمين. وقد تقدم في غير موضع ، والمعنى : أي يقول من حولها : {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} فحذف. وقيل : إن موسى عليه السلام قاله حين فرغ من سماع النداء ؛ استعانة بالله تعالى وتنزيها له ؛ قال السدي. وقيل : هو من قول الله تعالى. ومعناه : وبورك فيمن سبح الله تعالى رب العالمين ؛ حكاه ابن شجرة.
قوله تعالى : {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الهاء عماد وليست بكناية في قول الكوفيين. والصحيح أنها كناية عن الأمر والشأن. {أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الغالب الذي ليس كمثله شيء {الْحَكِيمُ} في أمره وفعله. وقيل : قال موسى يا رب من الذي نادى ؟ فقال له : {إِنَّهُ} أي إني أنا المنادي لك {أَنَا اللَّهُ} .
قوله تعالى : {وَأَلْقِ عَصَاكَ} قال وهب بن منبه : ظن موسى أن الله أمره أن يرفضها فرفضها وقيل : إنما قال له ذلك ليعلم موسى أن المكلم له هو الله ، وأن موسى رسوله ؛ وكل نبي لابد له من آية في نفسه يعلم بها نبوته. وفي الآية حذف : أي وألق عصاك فألقاها من يده فصارت حية تهتز كأنها جان ، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم. وقال الكلبي : لا صغيرة ولا كبيرة. وقيل : إنها قلبت له أولا حية صغيرة فلما أنس منها قلبت حية كبيرة. وقيل : انقلبت مرة حية صغيرة ، ومرة حية تسعى وهي الأنثى ، ومرة ثعبانا وهو الذكر الكبير من الحيات. وقيل : المعنى انقلبت ثعبانا تهتز كأنها جان لها عظم الثعبان وخفة الجان واهتزازه وهي حية تسعى. وجمع الجان جنان ؛ ومنه الحديث : "نهي عن قتل الجنان التي في البيوت" . {وَلَّى مُدْبِراً} خائفا على عادة البشر {وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي لم يرجع ؛ قاله مجاهد. وقال قتادة : لم يلتفت. {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} أي من الحية وضررها. {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} وتم الكلام ثم استثنى استثناء منقطعا فقال : {إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} وقيل : إنه استثناء من محذوف ؛ والمعنى : إني لا يخاف لدي المرسلون وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} فإنه لا يخاف ؛ قاله الفراء.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #535  
قديم 07-07-2025, 04:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ النمل
من صــ 161 الى صــ 170
الحلقة (535)







قال النحاس : استثناء من محذوف محال ؛ لأنه استثناء من شيء لم يذكر ولو جاز هذا لجاز إني لأضرب القوم إلا زيدا بمعنى إني لا أضرب القوم وإنما أضرب غيرهم إلا زيدا ؛ وهذا ضد البيان ، والمجيء بما لا يعرف معناه. وزعم الفراء أيضا أن بعض النحويين يجعل إلا بمعنى الواو أي ولا من ظلم ؛ قال :
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال النحاس : وكون {إِلاَّ} بمعنى الواو لا وجه له ولا يجوز في شيء من الكلام ، ومعنى {إِلاَّ} خلاف الواو ؛ لأنك إذا قلت : جاءني إخوتك إلا زيدا أخرجت زيدا مما دخل فيه الإخوة فلا نسبة بينهما ولا تقارب. وفي الآية قول آخر : وهو أ يكون الاستثناء متصلا ؛ والمعنى إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد ، سوى ما روي عن يحيى بن زكريا عليه السلام ، وما ذكره الله تعالى في نبينا عليه السلام في قوله : {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح : 2] ذكره المهدوي واختاره النحاس ؛ وقال : علم الله من عصى منهم يسر الخيفة فاستثناه فقال : {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} فإنه يخاف وإن كنت قد غفرت له. الضحاك : يعني آدم وداود عليهما السلام الزمخشري. كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف ، ومن موسى عليه السلام بوكزه القبطي. فإن قال قائل : فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة ؟ قيل له : هذه سبيل العلماء بالله عز وجل أن يكونوا خائفين من معاصيهم وجلين ، وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به ، فهم يخافون من المطالبة به. وقال الحسن وابن جريج : قال الله لموسى إني أخفتك لقتلك النفس. قال الحسن : وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب. قال الثعلبي والقشيري والماوردي وغيرهم : فالاستثناء على هذا صحيح ؛ أي إلا من ظلم نفسه من النبيين والمرسلين فيما فعل من صغيرة قبل النبوة. وكان موسى خاف من قتل القبطي وتاب منه. وقد قيل : إنهم بعد النبوة معصومون من الصغائر والكبائر. وقد مضى هذا في {البقرة} .
قلت : والأول أصح لتنصلهم من ذلك في القيامة كما في حديث الشفاعة ، وإذا أحدث المقرب حدثا فهو وإن غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باق ، وما دام الأثر والتهمة قائمة فالخوف كائن لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة ، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة. وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني ، ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه ، ثم غفر له ، ثم قال بعد المغفرة : {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص : 17] ثم ابتلى من الغد بالفرعوني الآخر وأراد أن يبطش به ، فصار حدثا آخر بهذه الإرادة. وإنما ابتلي من الغد لقوله : {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} وتلك كلمة اقتدار من قوله لن أفعل ، فعوقب بالإرادة حين أراد أن يبطش ولم يفعل ، فسلط عليه الإسرائيلي حتى أفشى سره ؛ لأن الإسرائيلي لما رآه تشمر للبطش ظن أنه يريده ، فأفشى عليه فـ {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ} [القصص : 19] فهرب الفرعوني وأخبر فرعون بذلك أفشى الإسرائيلي على موسى ، وكان القتيل بالأمس مكتوما أمره لا يدري من قتله ، فلما علم فرعون بذلك ، وجه في طلب موسى ليقتله ، واشتد الطلب وأخذوا مجامع الطرق ؛ جاء رجل يسعى فـ {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص : 20] الآية. فخرج كما أخبر الله. فخوف موسى إنما كان من أجل هذا الحدث ؛ فهو وإن قربه وبه وأكرمه واصطفاه بالكلام فالتهمة الباقية ولت به ولم يعقب.
قوله تعالى : {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} تقدم في {طه} . {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} قال النحاس أحسن ما قيل فيه أن المعنى : هذه الآية داخلة في تسع آيات. المهدوي : المعنى : {أَلْقِ عَصَاكَ} {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} فهما آيتان من تسع آيات. وقال القشيري معناه : كما تقول خرجت في عشرة نفر وأنت أحدهم. أي خرجت عاشر عشرة. فـ {ـفِي} بمعنى {مِنْ} لقربها منها كما تقول خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان أي منها. وقال الأصمعي في قول امرئ القيس :
وهل ينعمن من كان آخر عهده ... ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال
في بمعنى من. وقيل : في بمعنى مع ؛ فالآيات عشرة منها اليد ، والتسع : الفلق والعصا والجراد والقمل والطوفان والدم والضفادع والسنين والطمس. وقد تقدم بيان جميعه. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} قال الفراء : في الكلام إضمار لدلالة الكلام عليه ، أي إنك مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعة الله ؛ وقد تقدم.
قوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} أي واضحة بينة. قال الأخفش : ويجوز مبصرة وهو مصدر كما يقال : الولد مجبنة. {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} جروا على عادتهم في التكذيب فلهذا قال : {بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} أي تيقنوا أنها من عند الله وأنها ليست سحرا ، ولكنهم كفروا بها وتكبروا أن يؤمنوا بموسى. وهذا يدل على أنهم كانوا معاندين. و {ظُلْماً} و {عُلُوّاً} منصوبان على نعت مصدر محذوف ، أي وجحدوا بها جحودا ظلما وعلوا. والباء زائدة أي وجحدوها ؛ قال أبو عبيدة. {فَانْظُرْ} يا محمد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي آخر أمر الكافرين الطاغين ، انظر ذلك بعين قلبك وتدبر فيه. الخطاب له والمراد غيره.
الآية : [15] {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية : [16] {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} أي فهما ؛ قاله قتادة. وقيل : علما بالدين والحكم وغيرهما كما قال : {وَ عَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء : 80] . وقيل : صنعة الكيمياء. وهو شاذ. وإنما الذي آتاهما الله النبوة والخلافة في الأرض والزبور. وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله ، وأن نعمة العلم من أجل النعم وأجزل القسم ، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله المؤمنين. {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة : 11] . وقد تقدم هذا في غير موضع.
قوله تعالى : {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} قال الكلبي : كان لداود صلى الله عليه وسلم تسعة عشر ولدا فورث سليمان من بينهم نبوته وملكه ، ولو كان وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء ؛ وقال ابن العربي ؛ قال : فلو كانت وراثة مال لانقسمت على العدد ؛ فخص الله سليمان بما كان لداود من الحكمة والنبوة ، وزاده من فضله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. قال ابن عطية : داود من بني إسرائيل وكان ملكا وورث سليمان ملكه ومنزلته من النبوة ، بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه فسمي ميراثا تجوزا ؛ وهذا نحو قوله : "العلماء ورثة الأنبياء" ويحتمل قوله عليه السلام : "إنا معشر الأنبياء لا نورث" أن يريد أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم ، وإن كان فيهم من ورث ماله كـ "زكريا" على أشهر الأقوال فيه ؛ وهذا كما تقول : إنا معشر المسلمين إنما شغلتنا العبادة ، والمراد أن ذلك فعل الأكثر. ومنه ما حكى سيبويه : إنا معشر العرب أقرى الناس للضيف.
قلت : قد تقدم هذا المعنى في {مَرْيَمَ} وأن الصحيح القول الأول لقوله عليه السلام : "إنا معشر الأنبياء لا نورث" فهو عام ولا يخرج منه شيء إلا بدليل. قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبدا من سليمان. قال غيره : ولم يبلغ أحد من الأنبياء ما بلغ ملكه ؛ فإن الله سبحانه وتعالى سخر له الإنس والجن والطير والوحش ، وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين ، وورث أباه في الملك والنبوة ، وقام بعده بشريعته ، وكل نبي جاء بعه موسى ممن بعث أو لم يبعث فإنما كان بشريعة موسى ، إلى أن بعث المسيح عليه السلام فنسخها. وبينه وبين الهجرة نحو من ألف وثمانمائة سنة. واليهود تقول ألف
وثلاثمائة واثنتان وستون سنة. وقيل : إن بين موته وبين مولد النبي صلى الله عليه سلم نحوا من ألف وسبعمائة. واليهود تنقص منها ثلاثمائة سنة ، وعاش نيفا وخمسين سنة.
قوله تعالى : {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} أي قال سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله {علمنا منطق الطير} أي تفضل الله علينا على ما ورثنا من داود من العلم والنبوة والخلافة في الأرض في أن فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها. قال مقاتل في الآية : كان سليمان جالسا ذات يوم إذ مر به طائر يطوف ، فقال لجلسائه : أتدرون ما يقول هذا الطائر ؟ إنها قالت لي : السلام عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني إسرائيل! أعطاك الله الكرامة ، وأظهرك على عدوك ، إني منطلق إلى أفراخي ثم أمر بك الثانية ؛ وإنه سيرجع إلينا الثانية ثم رجع ؛ فقال إنه يقول : السلام عليك أيها الملك المسلط ، إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت. فأخبرهم سليمان بما قال ؛ وأذن له فانطلق. وقال فرقد السبخي : مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ قالوا لا يا نبي الله. قال إنه يقول : أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء. ومر بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبي فخا فقال له سليمان : احذر يا هدهد! فقال : يا نبي الله! هذا صبي لا عقل له فأنا أسخر به. ثم رجع سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده ، فقال : هدهد ما هذا ؟ قال : ما رأيتها حتى وقعت فيها يا نبي الله. قال : ويحك! فأنت ترى الماء تحت الأرض أما ترى الفخ! قال : يا نبي الله إذا نزل القضاء عمي البصر. وقال كعب. صاح ورشان عند سليمان بن داود فقال : أتدرون ما يقول ؟
قالوا : لا. قال : إنه يقول : لدوا للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاختة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا. وصاح عنده طاوس ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول : كما تدين تدان. وصاح عنده هدهد فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا. قال : فإنه يقول : من لا يرحم لا يرحم. وصاح صرد عنده ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ؛ فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله. وقيل : إن الصرد هو الذي دل آدم على مكان البيت. وهو أول من صام ؛ ولذلك يقال للصرد الصوام ؛ روي عن أبي هريرة. وصاحت عنده طيطوى فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : كل حي ميت وكل جديد بال. وصاحت خطافة عنده ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : قدموا خيرا تجدوه ؛ فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها. وقيل : إن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى الله الوحشة ، فآنسه الله تعالى بالخطاف وألزمها البيوت ، فهي لا تفارق بني آدم أنسا لهم. قال : ومعها أربع آيات من كتاب الله عز وجل : {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ} [الحشر : 21] إلى آخرها وتمد صوتها بقوله {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة : 129] . وهدرت حمامة عند سليمان فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : سبحان ربي الأعلى عدد ما في سماواته وأرضه. وصاح قمري عند سليمان ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا. قال إنه يقول : سبحان ربي العظيم المهيمن. وقال كعب : وحدثهم سليمان ، فقال : الغراب يقول : اللهم العن العشار ؛ والحدأة تقول : {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص : 88] . والقطاة تقول : من سكت سلم. والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه. والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس. والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده. والسرطان يقول : سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان.
وقال مكحول : صاح دراج عند سليمان ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه : 5] . وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم : "الديك إذا صاح قال اذكروا الله يا غافلين" . وقال الحسن بن علي بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم : "النسر إذا صاح قال يا ابن آدم عش ما شئت فآخرك الموت وإذا صاح العقاب قال في البعد من الناس الراحة وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي آل محمد وإذا صاح الخطاف قرأ : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة : 2] إلى آخرها فيقول : {الضَّالِّينَ} [الفاتحة : 7] ويمد بها صوته كما يمد القارئ. قال قتادة والشعبي : إنما هذا الأمر في الطير خاصة ، لقوله : عُلِّمْنَا"
مَنْطِقَ الطَّيْرِ والنملة طائر إذ قد يوجد له أجنحة. قال الشعبي : وكذلك كانت هذه النملة ذات جناحين. وقالت فرقة : بل كان في جميع الحيوان ، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جند سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص بالذكر لكثرة مداخلته ؛ ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير. وقال أبو جعفر النحاس : والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام ، والله جل وعز أعلم بما أراد. قال ابن العربي : من قال إنه لا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم ، وقد آتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ويخلق له فيه القول من النبات ، فكان كل نبت يقول له : أنا شجر كذا ، أنفع من كذا وأضر من كذا ؛ فما ظنك بالحيوان.
الآية : [17] {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}
فيه مسألتان :
الأولى- قوله تعالى : {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ} {وَحُشِرَ} جمع والحشر الجمع ومنه قوله عز وجل : {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف : 47] واختلف الناس في مقدار جند سليمان عليه السلام ؛ فيقال : كان معسكره مائة فرسخ في مائة : خمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للإنس ، وخمسة وعشرون للطير ، وخمسة وعشرون للوحش ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية. ابن عطية : واختلف في معسكره ومقدار جنده اختلافا شديدا غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيما ملأ الأرض ، وانقادت له المعمورة كلها. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} معناه يرد أولهم إلى آخرهم ويكفون. قال قتادة : كان لكل صنف وزعة في رتبتهم ومواضعهم من الكرسي ومن الأرض إذا مشوا فيها. يقال : وزعته أوزعه وزعا أي كففته. والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم. روى محمد بن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لما وقف وسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى - تعني
يوم الفتح - قال أبو قحافة وقد كف بصره يومئذ لابنته : اظهري بي على أبي قبيس. قالت : فأشرفت به عليه فقال : ما ترين ؟ قالت : أرى سوادا مجتمعا. قال : تلك الخيل. قالت : وأرى رجلا من السواد مقبلا ومدبرا. قال : ذلك الوازع يمنعها أن تنتشر. وذكر تمام الخبر. ومن هذا قوله عليه السلام : "ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزيل الرحمة وتجاوز الله عنه الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر" قيل : وما رأى يا رسول الله ؟ قال : "أما أنه رأى جبريل يزع الملائكة" خرجه الموطأ. ومن هذا المعنى قول النابغة :
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع
آخر :
ولما تلاقينا جرت من جفوننا ... دموع وزعنا غربها بالأصابع
آخر :
ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى ... من الناس إلا وافر العقل كامله
وقيل : هو من التوزيع بمعنى التفريق. والقوم أوزاع أي طوائف. وفي القصة : إن الشياطين نسجت له بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم ، وكان يوضع له كرسي من ذهب وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب ، والعلماء على كراسي الفضة.
الثانية- في الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وزعة يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض ؛ إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم. وقال ابن عون : سمعت الحسن يقول وهو في مجلس قضائه لما رأى ما يصنع الناس قال : والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة. وقال الحسن أيضا : لابد للناس من وازع ؛ أي من سلطان يكفهم. وذكر ابن القاسم قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان كان يقول : ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن ؛ أي من الناس. قال ابن القاسم : قلت لمالك ما يزع ؟ قال : يكف. قال القاضي أبو بكر بن العربي : وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام ، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع
الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن وهذا جهل بالله وحكمته. قال : فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة لقوام الخلق ، لا زيادة عليها ، ولا نقصان معها ، ولا يصلح سواها ، ولكن الظلمة خاسوا بها ، وقصروا عنها ، وأتوا ما أتوا بغير نية ، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها ، فلم يرتدع الخلق بها ، ولو حكموا بالعدل ، وأخلصوا النية ، لاستقامت الأمور ، وصلح الجمهور.
الآية : [18] {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}
الآية : [19] {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}
فيه ست مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} قال قتادة : ذكر لنا أنه واد بأرض الشام. وقال كعب : هو بالطائف {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} قال الشعبي : كان للنملة جناحان فصارت من الطير ، فلذلك علم منطقها ولولا ذلك لما علمه. وقد مضى هذا ويأتي. وقرأ سليمان التيمي بمكة : {نَمْلَةٌ} و {النَّمْلِ} بفتح النون وضم الميم. وعنه أيضا ضمهما جميعا. وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قرارها. قال كعب : مر سليمان عليه السلام بوادي السدير من أودية الطائف ، فأتى على وادي النمل ، فقامت نملة تمشي وهي عرجاء تتكاوس مثل الذئب في العظم ؛ فنادت : {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} الآية. الزمخشري : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال ، وكانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس ؛ وقيل : كان اسمها طاخية. وقال السهيلي : ذكروا اسم النملة المكلمة لسليمان عليه السلام ، وقالوا اسمها حرميا ، ولا أدري كيف يتصور للنملة اسم علم والنمل لا يسمي بعضهم بعضا ، ولا الآدميون يمكنهم تسمية
واحدة منهم باسم علم ، لأنه لا يتميز للآدميين بعضهم من بعض ، ولا هم أيضا واقعون تحت ملكة بني آدم كالخيل والكلاب ونحوها ، فإن العلمية فيما كان كذلك موجودة عند العرب. فإن قلت : إن العلمية موجودة في الأجناس كثعالة وأسامة وجعار وقثام في الضبع ونحو هذا كثير ؛ فليس اسم النملة من هذا ؛ لأنهم زعموا أنه اسم علم لنملة واحدة معينة من بين سائر النمل ، وثعالة ونحوه لا يختص بواحد من الجنس ، بل كل واحد رأيته من ذلك الجنس فهو ثعالة ، وكذلك أسامة وابن آوى وابن عرس وما أشبه ذلك. فإن صح ما قالوه فله وجه ، وهو أن تكون هذه النملة الناطقة قد سميت بهذا الاسم في التوراة أو في الزبور أو في بعض الصحف سماها الله تعالى بهذا الاسم ، وعرفها به الأنبياء قبل سليمان أو بعضهم. وخصت بالتسمية لنطقها وإيمانها فهذا وجه. ومعنى قولنا بإيمانها أنها قالت للنمل : {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فقولها : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} التفاتة مؤمن. أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا. وقد قيل : إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها ؛ ولذلك أكد التبسم بقوله : {ضَاحِكاً} إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا ، ألا تراهم يقولون تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزئين. وتبسم الضحك إنما هو عن سرور ، ولا يسر نبي بأمر دنيا ؛ وإنما سر بما كان من أمر الآخرة والدين. وقولها : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} إشارة إلى الدين والعدل والرأفة. ونظير قول النملة في جند سليمان : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} قول الله تعالى في جند محمد صلى الله عليه وسلم : {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح : 25] . التفاتا إلى أنهم لا يقصدون هدر مؤمن. إلا أن المثني على جند سليمان هي النملة بإذن الله تعالى ، والمثني على جند محمد صلى الله عليه وسلم هو الله عز وجل بنفسه ؛ لما لجنود محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل على جند غيره من الأنبياء ؛ كما لمحمد صلى الله عليه وسلم فضل على جميع النبيين صلى الله عليهم وسلم أجمعين. وقرأ شهر بن حوشب : {مَسَكِنَكُمْ} بسكون السين على الإفراد. وفي مصحف أبي {مَسَكِنَكُنَّ لا يَحْطِمَنَّكُمْ} . وقرأ سليمان التيمي : {مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُنَّ} ذكره النحاس ؛ أي لا يكسرنكم بوطئهم عليكم وهم لا يعلمون بكم




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #536  
قديم 07-07-2025, 04:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ النمل
من صــ 171 الى صــ 180
الحلقة (536)





قال المهدوي : وأفهم الله تعالى النملة هذا لتكون معجزة لسليمان. وقال وهب : أمر الله تعالى الريح ألا يتكلم أحد بشيء إلا طرحته في سمع سليمان ؛ بسبب أن الشياطين أرادت كيده. وقد قيل : إن هذا الوادي كان ببلاد اليمن وأنها كانت نملة صغيرة مثل النمل المعتاد قاله الكلبي. وقال نوف الشامي وشقيق بن سلمة : كان نمل ذلك الوادي كهيئة الذئاب في العظم. وقال بريدة الأسلمي : كهيئة النعاج. قال محمد بن على الترمذي : فإن كان على هذه الخلقة فلها صوت ، وإنما افتقد صوت النمل لصغر خلقها ، وإلا فالأصوات في الطيور والبهائم كائنة ، وذلك منطقهم ، وفي تلك المناطق معاني التسبيح وغير ذلك ، وهو قوله تعالى : {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء : 44] .
قلت : وقوله : {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} يدل على صحة قول الكلبي ؛ إذ لو كانت كهيئة الذئاب والنعاج لما حطمت بالوطء ؛ والله أعلم. وقال : {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} فجاء على خطاب الآدميين لأن النمل ههنا أجري مجرى الآدميين حين نطق كما ينطق الآدميون. قال أبو إسحاق الثعلبي : ورأيت في بعض الكتب أن سليمان قال لها لم حذرت النمل ؟ أخفت ظلمي ؟ أما علمت أني نبي عدل ؟ فلم قلت : {حْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} فقالت النملة : أما سمعت قولي : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} مع أني لم أرد حطم النفوس ، وإنما أردت حطم القلوب خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت ، أو يفتتن بالدنيا ، ويشغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر. فقال لها سليمان : عظيني. فقالت النملة : أما علمت لم سمي أبوك داود ؟ قال : لا. قالت : لأنه داوى جراحة فؤاده ؛ هل علمت لم سميت سليمان ؟ قال : لا. قالت : لأنك سليم الناحية على ما أوتيته بسلامة صدرك ، وإن لك أن تلحق بأبيك. ثم قالت : أتدري لم سخر الله لك الريح ؟ قال : لا. قالت : أخبرك أن الدنيا كلها ريح. {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} متعجبا ثم مضت مسرعة إلى قومها ، فقالت : هل عندكم من شيء نهديه إلى
نبي الله ؟ قالوا : وما قدر ما نهدي له! والله ما عندنا إلا نبقة واحدة. قالت : حسنة ؛ ايتوني بها. فأتوها بها فحملتها بفيها فانطلقت تجرها ، فأمر الله الريح فحملتها ، وأقبلت تشق الإنس والجن والعلماء والأنبياء على البساط ، حتى وقعت بين يديه ، ثم وضعت تلك النبقة من فيها في كفه ، وأنشأت تقول :
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غني فهو قابله
ولو كان يهدي للجليل بقدره ... لقصر عنه البحر يوما وساحله
ولكننا نهدي إلى من نحبه ... فيرضى به عنا ويشكر فاعله
وما ذاك إلا من كريم فعاله ... وإلا فما في ملكنا ما يشاكله
فقال لها : بارك الله فيكم ؛ فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله وأكثر خلق الله. وقال ابن عباس : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب : الهدهد والصرد والنملة والنحلة ؛ خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبدالحق وروي من حديث أبي هريرة. وقد مضى في {الأعراف} . فالنملة أثنت على سليمان وأخبرت بأحسن ما تقدر عليه بأنهم لا يشعرون إن حطموكم ، ولا يفعلون ذلك عن عمد منهم ، فنفت عنهم الجور ؛ ولذلك نهى عن قتلها ، وعن قتل الهدهد ؛ لأنه كان دليل سليمان على الماء ورسوله إلى بلقيس. وقال عكرمة : إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه. والصرد يقال له الصوام. وروي عن أبي هريرة قال : أول من صام الصرد ولما خرج إبراهيم عليه السلام من الشام إلى الحرم في بناء البيت كانت السكينة معه والصرد ، فكان الصرد دليله على الموضع والسكينة مقداره ، فلما صار إلى البقعة وقعت السكينة على موضع البيت ونادت وقالت : ابن يا إبراهيم على مقدار ظلي. وقد تقدم في {الأعراف} سبب النهي عن قتل الضفدع وفي {النحل} النهي عن قتل النحل. والحمد لله.
الثانية- قرأ الحسن : {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} وعنه أيضا {لا يَحِطِّمَنَّكم} وعنه أيضا وعن أبي رجاء : {لا يُحَطِّمَنَّكم} والحطْم الكسر. حطمته حطما أي كسرته وتحطَّم ؛ والتحطيم التكسير ، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} يجوز أن يكون حالا من سليمان ، وجنوده ، والعامل في الحال {يَحْطِمَنَّكُمْ} . أو حالا من النملة والعامل {قَالَتْ} : أي قالت ذلك في حال غفلة الجنود ؛ كقولك : قمت والناس غافلون. أو حالا من النمل أيضا والعامل {قَالَتْ} على أن المعنى : والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها. وفيه بعد وسيأتي.
الثالثة- روى مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح" وفي طريق آخر : "فهلا نملة واحدة" . قال علماؤنا : يقال إن هذا النبي هو موسى عليه السلام ، وإنه قال : يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع. فكأنه أحب أن يريه ذلك من عنده ، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلها ، وعندها قرية النمل ، فغلبه النوم ، فلما وجد لذة النوم لدغته النملة فأضجرته ، فدلكهن بقدمه فأهلكهن ، وأحرق تلك الشجرة التي عندها مساكنهم ، فأراه الله العبرة في ذلك آية : لما لدغتك نملة فكيف أصبت الباقين بعقوبتها! يريد أن ينبهه أن العقوبة من الله تعالى تعم فتصير رحمة على المطيع وطهارة وبركة ، وشرا ونقمة على العاصي. وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل ؛ فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك ، ولا أحد من خلقه أعظم حرمة من المؤمن ، وقد أبيح لك دفعه عنك بقتل وضرب على المقدار ، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت لك وسلطت عليها ، فإذا آذاك أبيح لك قتله. وروي عن إبراهيم : ما آذاك من النمل فاقتله. وقوله : "إلا نملة واحدة" دليل على أن الذي يؤذي يؤذى ويقتل ، وكلما كان القتل لنفع أو دفع ضرر فلا بأس به عند العلماء. وأطلق له نملة ولم يخص تلك النملة التي لدغت من غيرها ؛ لأنه ليس المراد القصاص ؛ لأنه لو أراده لقال ألا نملتك التي لدغتك ، ولكن قال : ألا نملة مكان نملة ؛ فعم البريء
والجاني بذلك ، ليعلم أنه أراد أن ينبهه لمسألته ربه في عذاب أهل قرية وفيهم المطيع والعاصي. وقد قيل : إن هذا النبي كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة في شرعه ؛ فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير من النمل لا في أصل الإحراق. ألا ترى قوله : "فهلا نملة واحدة" أي هلا حرقت نملة واحدة. وهذا بخلاف شرعنا ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التعذيب بالنار. وقال : "لا يعذب بالنار إلا الله" . وكذلك أيضا كان قتل النمل مباحا في شريعة ذلك النبي ؛ فإن الله لم يعتبه على أصل قتل النمل. وأما شرعنا فقد جاء من حديث ابن عباس وأبي هريرة النهي عن ذلك. وقد كره مالك قتل النمل إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل. وقد قيل : إن هذا النبي إنما عاتبه الله حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد ، وكان الأولى الصبر والصفح ؛ لكن وقع للنبي أن هذا النوع مؤذ لبني آدم ، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق ، فلو انفرد له هذا النظر ولم ينضم إليه التشفي الطبعي لم يعاتب. والله أعلم. لكن لما انضاف إليه التشفي الذي دل عليه سياق الحديث عوتب عليه.
الرابعة- قوله : "أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح" مقتضى هذا أنه تسبيح بمقال ونطق ، كما أخبر الله عن النمل أن لها منطقا وفهمه سليمان عليه السلام - وهذا معجزة له - وتبسم من قولها. وهذا يدل دلالة واضحة أن للنمل نطقا وقولا ، لكن لا يسمعه كل أحد ، بل من شاء الله تعالى ممن خرق له العادة من نبي أو ولي. ولا ننكر هذا من حيث أنا لا نسمع ذلك ؛ فإنه لا يلزم من عدم الإدراك عدم المدرك في نفسه. ثم إن الإنسان يجد في نفسه قولا وكلاما ولا يسمع منه إلا إذا نطق بلسانه. وقد خرق الله العادة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأسمعه كلام النفس من قوم تحدثوا مع أنفسهم وأخبرهم بما في نفوسهم ، كما قد نقل منه الكثير من أئمتنا في كتب معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وكذلك وقع لكثير ممن أكرمه الله تعالى من الأولياء مثل ذلك في غير ما قضية. وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : "إن في أمتي محدثين وإن عمر منهم" . وقد مضى هذا المعنى
في تسبيح الجماد في {الإسراء} وإنه تسبيح لسان ومقال لا تسبيح دلالة حال. والحمد لله.
الخامسة- قوله تعالى : {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} وقرأ ابن السميقع : {ضَاحِكاً} بغير ألف ، وهو منصوب على المصدر بفعل محذوف يدل عليه تبسم ، كأنه قال ضحك ضحكا ، هذا مذهب سيبويه. وهو عند غير سيبويه منصوب بنفس {تَبَسَّمَ} لأنه في معنى ضحك ؛ ومن قرأ : {ضَاحِكاً} فهو منصوب على الحال من الضمير في {تَبَسَّمَ} . والمعنى تبسم مقدار الضحك ؛ لأن الضحك يستغرق التبسم ، والتبسم دون الضحك وهو أوله. يقال : بسم : "بالفتح" يبسم بسما فهو باسم وابتسم وتبسم ، والمبسم الثغر مثل المجلس من جلس يجلس ورجل مبسام وبسام كثير التبسم ، فالتبسم ابتداء الضحك. والضحك عبارة عن الابتداء والانتهاء ، إلا أن الضحك يقتضي مزيدا على التبسم ، فإذا زاد ولم يضبط الإنسان نفسه قيل قهقه. والتبسم ضحك الأنبياء عليهم السلام في غالب أمرهم. وفي الصحيح عن جابر بن سمرة وقيل له : أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال : نعم كثيرا ؛ كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح - أو الغداة - حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام ، وكانوا يتحدثون ويأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم. وفيه عن سعد قال : كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "ارم فداك أبي وأمي" قال فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه. فكان عليه السلام في أكثر أحواله يتبسم. وكان أيضا يضحك في أحوال أخر ضحكا أعلى من التبسم وأقل من الاستغراق الذي تبدو فيه اللهوات. وكان في النادر عند إفراط تعجبه ربما ضحك حتى بدت نواجذه. ود كره العلماء منه الكثرة ؛ كما قال لقمان لابنه : يا بني إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب. وقد روي مرفوعا من
حديث أبي ذر وغيره. وضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه حين رمى سعد الرجل فأصابه ، إنما كان سرورا بإصابته لا بانكشاف عورته ؛ فإنه المنزه عن ذلك صلى الله عليه وسلم.
السادسة- لا اختلاف عند العلماء أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول. وقد قال الشافعي : الحمام أعقل الطير. قال ابن عطية : والنمل حيوان فطن قوي شمام جدا يدخر ويتخذ القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت ، ويشق الكزبرة بأربع قطع ؛ لأنها تنبت إذا قسمت شقتين ، ويأكل في عامه نصف ما جمع ويستبقي سائره عدة. قال ابن العربي : وهذه خواص العلوم عندنا ، وقد أدركتها النمل بخلق الله ذلك لها ؛ قال الأستاذ أبو المظفر شاهنود الإسفرايني : ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث العالم وحدوث المخلوقات ؛ ووحدانية الإله ، ولكننا لا نفهم عنها ولا تفهم عنا ، أما أنا نطلبها وهي تفر منا فبحكم الجنسية.
قوله تعالى : {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} فـ {أن} مصدرية. و {أَوْزِعْنِي} أي ألهمني ذلك. وأصله من وزع فكأنه قال : كفني عما يسخط. وقال محمد بن إسحاق : يزعم أهل الكتاب أن أم سليمان هي امرأة أوريا التي امتحن الله بها داود ، أو أنه بعد موت زوجها تزوجها داود فولدت له سليمان عليه السلام. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة {ص} إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى : {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} أي مع عبادك ، عن ابن زيد. وقيل : المعنى في جملة عبادك الصالحين.
الآية : [20] {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}
الآية : [21] {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
الآية : [22] {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ}
الآية : [23] {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}
الآية : [24] {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ}
الآية : [25] {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}
الآية : [26] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}
الآية : [27] {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}
الآية : [28] {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}
فيه ثمان عشرة مسألة :
الأولى- قوله تعالى : {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} ذكر شيئا آخر مما جرى له في مسيره الذي كان فيه من النمل ما تقدم. والتفقد تطلب ما غاب عنك من شيء. والطير اسم جامع والواحد طائر ، والمراد بالطير هنا جنس الطير وجماعتها. وكانت تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها. واختلف الناس في معنى تفقده للطير ؛ فقالت فرقة : ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك ، والتهمم بكل جزء منها ؛ وهذا ظاهر الآية. وقالت فرقة : بل تفقد الطير لأن الشمس دخلت من موضع الهدهد حين غاب ؛ فكان ذلك سبب تفقد الطير ؛ ليتبين من أين دخلت الشمس. وقال عبدالله بن سلام : إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض ؛ لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء ، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها ؛ فكان يخبر سليمان بموضع الماء ، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة ؛ تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة ؛ قاله ابن عباس فيما روي عن ابن سلام. قال أبو مجلز قال ابن عباس لعبدالله بن سلام : أريد أن أسألك عن ثلاث مسائل. قال : أتسألني وأنت تقرأ القرآن ؟ قال : نعم ثلاث مرات. قال : لم تفقد سليمان الهدهد دون
سائر الطير ؟ قال : احتاج إلى الماء ولم يعرف عمقه - أو قال مسافته - وكان الهدهد يعرف ذلك دون سائر الطير فتفقده. وقال في كتاب النقاش : كان الهدهد مهندسا. وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يذكر شأن الهدهد فقال له : قف يا وقاف كيف يرى الهدهد باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه ؟ ! فقال له ابن عباس : إذا جاء القدر عمي البصر. وقال مجاهد : قيل لابن عباس كيف تفقد الهدهد من الطير ؟ فقال : نزل منزلا ولم يدر ما بعد الماء ، وكان الهدهد مهتديا إليه ، فأراد أن يسأله. قال مجاهد : فقلت كيف يهتدي والصبي يضع له الحبالة فيصيده ؟ قال : إذا جاء القدر عمي البصر. قال ابن العربي : ولا يقدر على هذا الجواب إلا عالم القرآن.
قلت : هذا الجواب قد قاله الهدهد لسليمان كما تقدم. وأنشدوا :
إذا أراد الله أمرا بامرئ ... وكان ذا عقل ورأي ونظر
وحيلة يعملها في دفع ما ... يأتي به مكروه أسباب القدر
غطى عليه سمعه وعقله ... وسله من ذهنه سل الشعر
حتى إذا أنفذ فيه حكمه ... رد عليه عقله ليعتبر
قال الكلبي : لم يكن له في مسيره إلا هدهد واحد. والله أعلم.
الثانية- في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته ؛ والمحافظة عليهم. فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله ، فكيف بعظام الملك. ويرحم الله عمر فإنه كان على سيرته ؛ قال : لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر. فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان ، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان. وفي الصحيح عن عبدالله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد : أبو عبيدة وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام. الحديث ؛ قال علماؤنا : كان هذا الخروج من عمر بعد ما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة على ما ذكره خليفة بن خياط.
كان يتفقد أحوال رعيته وأحوال أمرائه بنفسه ، فقد دل القرآن والسنة وبينا ما يجب على الإمام من تفقد أحوال رعيته ، ومباشرة ذلك بنفسه ، والسفر إلى ذلك وإن طال. ورحم الله ابن المبارك حيث يقول :
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها
الثالثة- قوله تعالى : {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} أي ما للهدهد لا أراه ؛ فهو من القلب الذي لا يعرف معناه. وهو كقولك : ما لي أراك كئيبا. أي مالك. والهدهد طير معروف وهدهدته صوته. قال ابن عطية : إنما مقصد الكلام الهدهد غاب لكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه ، فاستفهم على جهة التوقف على اللازم وهذا ضرب من الإيجاز. والاستفهام الذي في قوله : {مَا لِيَ} ناب مناب الألف التي تحتاجها أم. وقيل : إنما قال : {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} ؛ لأنه اعتبر حال نفسه ، إذ علم أنه أوتي الملك العظيم ، وسخر له الخلق ، فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العدل ، فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر ، فلأجله سلبها فجعل يتفقد نفسه ؛ فقال : {مَا لِيَ} . قال ابن العربي : وهدا يفعله شيوخ الصوفية إذا فقدوا مالهم ، تفقدوا أعمالهم ؛ هذا في الآداب ، فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض!. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم والكسائي وهشام وأيوب : {مَا لِيَ} بفتح الياء وكذلك في {يس} {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس : 22] . وأسكنها حمزة ويعقوب. وقرأ الباقون المدنيون وأبو عمرو : بفتح التي في {يس} وإسكان هذه. قال أبو عمرو : لأن هذه التي في {النمل} استفهام ، والأخرى انتفاء. واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان {فقال مالي} . وقال أبو جعفر النحاس : زعم قوم أنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان مبتدأ ، وبين ما كان معطوفا على ما قبله ، وهذا ليس بشيء ؛ وإنما هي ياء النفس ، من العرب من يفتحها ومنهم من يسكنها ، فقرؤوا باللغتين ؛ واللغة الفصيحة في ياء النفس أن تكون مفتوحة ؛ لأنها اسم وهي على حرف واحد ، وكان الاختيار ألا تسكن فيجحف الاسم. {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} بمعنى بل.
الرابعة- قوله تعالى : {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} دليل على أن الحد على قدر الذنب لا على قدر الجسد ، أما أنه يرفق بالمحدود في الزمان والصفة. روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن ينتف ريشه. قال ابن جريج : ريشه أجمع. وقال يزيد بن رومان : جناحاه. فعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظا على العاصين ، وعقابا على إخلاله بنوبته ورتبته ؛ وكأن الله أباح له ذلك ، كما أباح ذبح البهائم والطير للأكل وغيره من المنافع. والله أعلم. وفي "نوادر الأصول" قال : حدثنا سليمان بن حميد أبو الربيع الإيادي ، قال حدثنا عون بن عمارة ، عن الحسين الجعفي ، عن الزبير بن الخريت ، عن عكرمة ، قال : إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه. وسيأتي. وقيل : تعذيبه أن يجعل مع أضداده. وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه. وقيل : إيداعه القفص. وقيل : بأن يجعله للشمس بعد نتفه. وقيل : بتبعيده عن خدمتي ، والملوك يؤدبون بالهجران الجسد بتفريق إلفه. وهو مؤكد بالنون الثقيلة ، وهي لازمة هي أو الخفيفة. قال أبو حاتم : ولو قرئت "لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه" جاز. {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي بحجة بينة. وليست اللام في {لَيَأْتِيَنِّي} لام القسم لأنه لا يقسم سليمان على فعل الهدهد ؛ ولكن لما جاء في أثر قوله : {لأُعَذِّبَنَّهُ} وهو مما جاز به القسم أجراه مجراه. وقرأ ابن كثير وحده : {لَيَأْتِيَنِّي} بنونين.
الخامسة- قوله تعالى : {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي الهدهد. والجمهور من القراء على ضم الكاف ، وقرأ عاصم وحده بفتحها. ومعناه في القراءتين أقام. قال سيبويه : مكث يمكث مكوثا كما قالوا قعد يقعد قعودا. قال : ومكث مثل ظرف. قال غيره : والفتح أحسن لقوله تعالى : {مَاكِثِينَ} [الكهف : 3] إذ هو من مكث ؛ يقال : مكث يمكث فهو ماكث ؛ ومكث يمكث مثل عظم يعظم فهو مكيث ؛ مثل عظيم. ومكث يمكث فهو ماكث ؛ مثل حمض يحمض فهو حامض. والضمير في {مَكَثَ} يحتمل أن يكون لسليمان ؛ والمعنى : بقي سليمان بعد التفقد والوعيد غير طويل أي غير وقت طويل. ومحتمل أن يكون للهدهد وهو الأكثر. فجاء : {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} وهي :




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #537  
قديم 07-07-2025, 04:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ النمل
من صــ 181 الى صــ 190
الحلقة (537)





السادسة- أي علمت ما لم تعلمه من الأمر فكان في هذا رد على من قال : إن الأنبياء تعلم الغيب. وحكى الفراء "أحط" يدغم التاء في الطاء. وحكى "أحت" بقلب الطاء تاء وتدغم.
السابعة- قوله تعالى : {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} أعلم سليمان ما لم يكن يعلمه ، ودفع عن نفسه ما توعده من العذاب والذبح. وقرأ الجمهور : {سَبَأٍ} بالصرف. وابن كثير وأبو عمرو : {سَبَأ} بفتح الهمزة وترك الصرف ؛ فالأول على أنه اسم رجل نسب إليه قوم ، وعليه قول الشاعر :
الواردون وتيم في ذرى سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل ، وقال {سَبَأٍ} اسم مدينة تعرف بمأرب باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام.
قلت : وقع في عيون المعاني للغزنوي ثلاثة أميال. قتادة والسدي بعث إليه اثنا عشر نبيا. وأنشد للنابغة الجعدي :
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
قال : فمن لم يصرف قال إنه اسم مدينة ، ومن صرف وهو الأكثر فلأنه اسم البلد فيكون مذكرا سمي به مذكر. وقيل : اسم امرأة سميت بها المدينة. والصحيح أنه اسم رجل ، كذلك في كتاب الترمذي من حديث فروة بن مسيك المرادي عن النبي صلى الله عليه وسلم : وسيأتي إن شاء الله تعالى. قال ابن عطية : وخفي هذا الحديث على الزجاج فخبط عشواء. وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبأ فقال : ما أدري ما هو. قال النحاس : وتأول الفراء على أبي عمرو أنه منعه من الصرف لأنه مجهول ، وأنه إذا لم يعرف الشيء لم ينصرف. وقال النحاس : وأبو عمر وأجل من أن يقول مثل هذا ، وليس في حكاية الرؤاسي عنه دليل أنه إنما منعه من الصرف لأنه لم يعرفه ، وإنما قال لا أعرفه ، ولو سئل نحوي عن اسم فقال لا أعرفه لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف ، بل الحق على غير هذا ؛ والواجب إذا لم يعرفه أن يصرفه ؛ لأن أصل الأسماء الصرف ؛ وإنما يمنع الشيء من الصرف لعلة داخلة عليه ؛ فالأصل ثابت بيقين فلا يزول بما لا يعرف. وذكر كلاما كثيرا
عن النحاة وقال في آخره : والقول في {سَبَأ} ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل ، فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحي ، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف وحجته في ذلك قاطعة ؛ لأن هذا الاسم لما كان يقع له التذكير والتأنيث كان التذكير أولى ؛ لأنه الأصل والأخف.
الثامنة- وفي الآية دليل على أن الصغير يقول للكبير والمتعلم للعالم عندي ما ليس عندك إذا تحقق ذلك وتيقنه. هذا عمر بن الخطاب مع جلالته رضي الله عنه وعلمه لم يكن عنده علم بالاستئذان. وكان علم التيمم عند عمار وغيره ، وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا : لا يتيمم الجنب. وكان حكم الإذن في أن تنفر الحائض عند ابن عباس ولم يعلمه عمر ولا زيد بن ثابت. وكان غسل رأس المحرم معلوما عند ابن عباس وخفي عن المسور بن مخرمة. ومثله كثير فلا يطول به.
التاسعة- قوله تعالى : {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} لما قال الهدهد : {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} قال سليمان : وما ذلك الخبر ؟ قال : {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} يعني بلقيس بنت شراحيل تملك أهل سبأ. ويقال : كيف وخفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة ، وهي من مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب ؟ والجواب أن الله تعالى أخفى ذلك عنه لمصلحة ، كما أخفى على يعقوب مكان يوسف. ويروى أن أحد أبويها كان من الجن. قال ابن العربي : وهذا أمر تنكره الملحدة ، ويقولون : الجن لا يأكلون ولا يلدون ؛ كذبوا لعنهم الله أجمعين ؛ ذلك صحيح ونكاحهم جائز عقلا فإن صح نقلا فبها ونعمت.
قلت : خرج أبو داود من حديث عبدالله بن مسعود أنه قال : قدم وفد من الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو جمجمة فإن الله جاعل لنا فيها رزقا. وفي صحيح مسلم : فقال : "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن" وفي البخاري من حديث أبي هريرة قال فقلت : ما بال العظم والروثة ؟ فقال : "هما من طعام الجن وإنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما" وهذا كله نص في أنهم يطعمون. وأما نكاحهم فقد تقدمت الإشارة إليه في {سُبْحَانَ} "الإسراء" عند قوله : {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء : 64] . وروى وهيب بن جرير بن حازم عن الخليل بن أحمد عن عثمان بن حاضر قال : كانت أم بلقيس من الجن يقال لها بلعمة بنت شيصان. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
العاشرة- روى البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال : "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة ولا خلاف فيه ؛ ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ، ولم يصح ذلك عنه ، ولعله نقل عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق ؛ ولا بأن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم ، وإنما سبيل ذلك التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة ، وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير. وقد روي عن عمر أنه قدم امرأة على حسبة السوق. ولم يصح فلا تلتفتوا إليه ، فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث. وقد تناظر في هذه المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعري مع أبي الفرج بن طرار شيخ الشافعية ، فقال أبو الفرج : الدليل على أن المرأة يجوز أن تحكم أن الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها ، وسماع البينة عليها ، والفصل بين الخصوم فيها ، وذلك ممكن من المرأة كإمكانه من الرجل. فاعترض عليه القاضي أبو بكر ونقض كلامه بالإمامة الكبرى ؛ فإن الغرض منه حفظ الثغور ، وتدبير الأمور وحماية البيضة ، وقبض الخراج ورده على مستحقه ، وذلك لا يتأتى من المرأة كتأتيه من الرجل. قال ابن العربي : وليس
كلام الشيخين في هذه المسألة بشيء ؛ فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجلس ، ولا تخالط الرجال ، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير ؛ لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها ، لأن كانت بَرْزَة لم يجمعها والرجال مجلس واحد تزدحم فيه معهم ، وتكون مناظرة لهم ؛ ولن يفلح قط من تصور هذا ولا من اعتقده.
الحادية عشرة- قوله تعالى : {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} مبالغة ؛ أي مما تحتاجه المملكة. وقيل : المعنى أوتيت من كل شيء في زمانها شيئا فحذف المفعول ؛ لأن الكلام دل عليه. {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي سرير ؛ ووصفه بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان. قيل : كان من ذهب تجلس عليه. وقيل : العرش هنا الملك ؛ والأول أصح ؛ لقوله تعالى : {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل : 38] . الزمخشري : فإن قلت كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظيم ؟
قلت : بين الوصفين بون عظيم ؛ لأن وصف عرشها بالعظيم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ، ووصف عرش الله بالعظيم تعظيم له بالنسبة إلى ما خلق من السماوات والأرض. قال ابن عباس : كان طول عرشها ثمانين ذراعا ، وعرضه أربعين ذراعا ، وارتفاعه في السماء ثلاثين ذراعا ، مكلل بالدر والياقوت الأحمر ، والزبرجد الأخضر. قتادة : وقوائمه لؤلؤ وجوهر ، وكان مسترا بالديباج والحرير ، عليه سبعة مغاليق. مقاتل : كان ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا ، وارتفاعه من الأرض ثمانون ذراعا ، وهو مكلل بالجواهر. ابن إسحاق : وكان يخدمها النساء ، وكان معها لخدمتها ستمائة امرأة. قال ابن عطية : واللازم من الآية أنها امرأة ملكت على مدائن اليمن ، ذات ملك عظيم ، وسرير عظيم ، وكانت كافرة من قوم كفار.
الثانية عشرة- قوله تعالى : {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قيل : كانت هذه الأمة ممن يعبد الشمس ؛ لأنهم كانوا زنادقة فيما يروى. وقيل : كانوا مجوسا يعبدون الأنوار. وروي عن نافع أن الوقف على {عرش} . قال الهدوي :
فعظيم على هذا متعلق بما بعده ، وكان ينبغي على هذا أن يكون عظيم أن وجدتها ؛ أي وجودي إياها كافرة. وقال ابن الأنباري : {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} وقف حسن ، ولا يجوز أن يقف على {عَرْش} ويبتدئ {عظيم وجدتها} إلا على من فتح ؛ لأن عظيما نعت لعرش فلو كان متعلقا بـ {وجدتها} لقلت عظيمة وجدتها ؛ وهذا محال من كل وجه. وقد حدثني أبو بكر محمد بن الحسين بن شهريار ، قال : حدثنا أبو عبدالله الحسين بن الأسود العجلي ، عن بعض أهل العلم أنه قال : الوقف على {عرش} والابتداء {عظيم} على معنى عظيم عبادتهم الشمس والقمر. قال : وقد سمعت من يؤيد هذا المذهب ، ويحتج بأن عرشها أحقر وأدق شأنا من أن يصفه الله بالعظيم. قال ابن الأنباري : والاختيار عندي ما ذكرته أولا ؛ لأنه ليس على إضمار عبادة الشمس والقمر دليل. وغير منكر أن يصف الهدهد عرشها بالعظيم إذا رآه متناهي الطول والعرض ؛ وجريه على إعراب {عرش} دليل على أنه نعته. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي ما هم فيه من الكفر. {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أي عن طريق التوحيد. وبين يهذا أن ما ليس بسبيل التوحيد فليس بسبيل ينتفع به على التحقيق. {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ } إلى الله وتوحيده.
الثالثة عشرة- قوله تعالى : {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ} قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وحمزة : {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ} بتشديد {أَلاَّ} قال ابن الأنباري : {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} غير تام لمن شدد {أَلاَّ} لأن المعنى : وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا. قال النحاس : هي {أَنَّ} دخلت عليها {لا} و {أَنَّ} في موضع نصب ؛ قال الأخفش : بـ {َزَيَّنَ} أي وزين لهم لئلا يسجدوا لله. وقال الكسائي : بـ {فَصَدَّهُمْ} أي فصدهم ألا يسجدوا. وهو في الوجهين مفعول له.
وقال اليزيدي وعلي بن سليمان : {أَنَّ} بدل من {أَعْمَالَهُمْ} في موضع نصب. وقال أبو عمرو : و {أَنَّ} في موضع حفض على البدل من السبيل وقيل : العامل فيها {لا يَهْتَدُونَ} أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله ؛ أي لا يعلمون أن ذلك واجب عليهم. وعلى هذا القول {لا} زائدة ؛ كقوله : {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف : 12] أي ما منعك أن تسجد. وعلى هذه القراءة
فليس بموضع سجدة ؛ لأن ذلك خبر عنهم بترك السجود ، إما بالتزيين ، أو بالصد ، أو بمنع الاهتداء. وقرأ الزهري والكسائي وغيرهما : {ألا يسجدوا لله} بمعنى يا هؤلاء اسجدوا ؛ لأن {يا} ينادي بها الأسماء دون الأفعال. وأنشد سيبويه :
يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والصالحين على سمعان من جار
قال سيبويه : {يا} لغير اللعنة ، لأنه لو كان للعنة لنصبها ، لأنه كان يصير منادى مضافا ، ولكن تقديره يا هؤلاء لعنة الله والأقوام على سمعان. وحكى بعضهم سماعا عن العرب : ألا يا ارحموا ألا يا اصدقوا. يريدون ألا يا قوم ارحموا اصدقوا ، فعلى هذه القراءة {اسْجُدُوا} في موضع جزم بالأمر والوقف على {ألا يا} ثم تبتدئ فتقول : {اسْجُدُوا} . قال الكسائي : ما كنت أسمع الأشياخ يقرؤونها إلا بالتخفيف على نية الأمر. وفي قراءة عبدالله : {أَلا هَلْ تَسْجُدُون لِلَّهِ} بالتاء والنون. وفي قراءة أبي {أَلا تَسْجُدُون لِلَّهِ} فهاتان القراءتان حجة لمن خفف. الزجاج : وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون التشديد. واختار أبو حاتم وأبو عبيدة قراءة التشديد. وقال : التخفيف وجه حسن إلا أن فيه انقطاع الخبر من أمر سبأ ، ثم رجع بعد إلى ذكرهم ، والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضا لا انقطاع في وسطه. ونحوه قال النحاس. قال : قراءة التخفيف بعيدة ؛ لأن الكلام يكون معترضا ، وقراءة التشديد يكون الكلام بها متسقا ، وأيضا فإن السواد على غير هذه القراءة ، لأنه قد حذف منه ألفان ، وإنما يختصر مثل هذا بحذف ألف واحدة نحو يا عيسى بن مريم. ابن الأنباري : وسقطت ألف {اسْجُدُوا} كما تسقط مع هؤلاء إذا ظهر ، ولما سقطت ألف {يا} واتصلت بها ألف {اسْجُدُوا} سقطت ، فعد سقوطها دلالة على الاختصار وإيثارا لما يخف وتقل ألفاظه. وقال الجوهري في آخر كتابه : قال بعضهم : إن {يا} في هذا الموضع إنما هو للتنبيه كأنه قال : ألا اسجدوا لله ، فلما أدخل عليه {يا} للتنبيه سقطت الألف التي في {اسْجُدُوا} لأنها
ألف وصل ، وذهبت الألف التي في {يا} لاجتماع الساكنين ؛ لأنها والسين ساكنتان. قال ذو الرمة :
ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
وقال الجرجاني : هو كلام معترض من الهدهد أو سليمان أو من الله. أي ألا ليسجدوا ؛ كقوله تعالى : {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية : 14] قيل : إنه أمر أي ليغفروا. وتنتظم على هذا كتابة المصحف ؛ أي ليس ها هنا نداء. قال ابن عطية : قيل هو من كلام الهدهد إلى قوله {الْعَظِيمِ} وهو قول ابن زيد وابن إسحاق ؛ ويعترض بأنه غير مخاطب فكيف يتكلم في معنى شرع. ويحتمل أن يكون من قول سليمان لما أخبره الهدهد عن القوم. ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى فهو اعتراض بين الكلامين وهو الثابت مع التأمل ، وقراءة التشديد في {ألا} تعطي أن الكلام للهدهد ، وقراءة التخفيف تمنعه ، والتخفيف يقتضي الأمر بالسجود لله عز وجل للأمر على ما بيناه. وقال الزمخشري : فإن قلت أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما ؟ قلت هي واجبة فيهما جميعا ؛ لأن مواضع السجدة إما أمر بها ، أو مدح لمن أتى بها ، أو ذم لمن تركها ، وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك.
قلت : وقد أخبر الله عن الكفار بأنهم يسجدون كما في {الانشقاق} وسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها ، كما ثبت في البخاري وغيره فكذلك {النمل} . والله أعلم. الزمخشري : وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه. {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} خبء السماء قطرها ، وخبء الأرض كنوزها ونباتها. وقال قتادة : الخبء السر. النحاس : وهذا أولى. أي ما غاب في السماوات والأرض ، ويدل عليه {مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} . وقرأ عكرمة ومالك بن دينار : {الْخَبَ} بفتح الباء من غير همز. قال المهدوي : وهو التخفيف القياسي ؛ وذكر من يترك الهمز في الوقف. وقال النحاس :
وحكى أبو حاتم أن عكرمة قرأ : {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَباَ} بألف غير مهموزة ، وزعم أن هذا لا يجوز في العربية ، واعتل بأنه إن خفف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال : {الْخَبَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وأنه إن حول الهمزة قال : الخبي بإسكان الباء وبعدها ياء. قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول : كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ولم يلحق بهم إلا أنه إذا خرج من بلده لم يلق أعلم منه. وحكى سيبويه عن العرب أنها تبدل من الهمزة ألفا إذا كان قبلها ساكن وكانت مفتوحة ، وتبدل منها واوا إذا كان قبلها ساكن وكانت مضمومة ، وتبدل منها ياء إذا كان قبلها ساكن وكانت مكسورة ؛ فتقول : هذا الوثو وعجبت من الوثي ورأيت الوثا ؛ وهذا من وثئت يده ؛ وكذلك هذا الخبو وعجبت من الخبي ، ورأيت الخبا ؛ وإنما فعل هذا لأن الهمزة خفيفة فأبدل منها هذه الحروف. وحكى سيبويه عن قوم من بني تميم وبني أسد أنهم يقولون : هذا الخبؤ ؛ يضمون الساكن إذا كانت الهمزة مضمومة ، ويثبتون الهمزة ويكسرون الساكن إذا كانت الهمزة مكسورة ، ويفتحون الساكن إذا كانت الهمزة مفتوحة. وحكى سيبويه أيضا أنهم يكسرون وإن كانت الهمزة مضمومة ، إلا أن هذا عن بني تميم ؛ فيقولون : الرديء ؛ وزعم أنهم لم يضموا الدال لأنهم كرهوا ضمة قبلها كسرة ؛ لأنه ليس في الكلام فعل. وهذه كلها لغات داخلة على اللغة التي قرأ بها الجماعة ؛ وفي قراءة عبدالله {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَباَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} و {من} و {في} يتعاقبان ؛ تقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم يريد منكم ؛ قاله الفراء. {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} قراءة العامة فيهما بياء الغائب ، وهذه القراءة تعطي أن الآية من كلام الهدهد ، وأن الله تعالى خصه من المعرفة بتوحيده ووجوب السجود له ، وإنكار سجودهم للشمس ، وإضافته للشيطان ، وتزيينه لهم ، ما خص به غيره من الطيور وسائر الحيوان ؛ من المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقول الراجحة تهتدي لها. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص والكسائي : {تُخْفُونَ} و {تُعْلِنُونَ} بالتاء على الخطاب ؛ وهذه القراءة تعطي أن الآية
من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} قرأ ابن محيصن {الْعَظِيمِ} : رفعا نعتا لله. الباقون بالخفض نعتا للعرش. وخص بالذكر لأنه أعظم المخلوقات وما عداه في ضمنه وقبضته.
الرابعة عشرة- قوله تعالى : {سَنَنْظُرُ} من النظر الذي هو التأمل والتصفح. {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} في مقالتك. و {كُنْتَ} بمعنى أنت. وقال : {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} ولم يقل سننظر في أمرك ؛ لأن الهدهد لما صرح بفخر العلم في قوله : {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} صرح له سليمان بقوله : سننظر أصدقت أم كذبت ، فكان ذلك كفاء لما قاله.
الخامسة عشرة قوله : {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته ، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم ؛ لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه. وإنما صار صدق الهدهد عذرا لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد ، وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد. وفي الصحيح : "ليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل" . وقد قبل عمر عذر النعمان بن عدي ولم يعاقبه. ولكن للإمام أن يمتحن ذلك إذا تعلق به حكم من أحكام الشريعة. كما فعل سليمان ؛ فإنه لما قال الهدهد : {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} لم يستفزه الطمع ، ولا استجره حب الزيادة في الملك إلى أن يعرض له حتى قال : {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فغاظه حينئذ ما سمع ، وطلب الانتهاء إلى ما أخبر ، وتحصيل علم ما غاب عنه من ذلك ، فقال : {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ونحو منه ما رواه الصحيح عن المسور بن مخرمة ، حين استشار عمر الناس في إملاص المرأة وهي التي يضرب بطنها فتلقي جنينها ؛ فقال المغيرة ابن شعبة : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة. قال فقال عمر : ايتني بمن يشهد معك ؛ قال : فشهد له محمد بن مسلمة وفي رواية فقال : لا تبرح حتى تأتي بالمخرج
من ذلك ؛ فخرجت فوجدت محمد بن سلمة فجئت به فشهد. ونحوه حديث أبي موسى في الاستئذان وغيره.
السادسة عشرة- قوله تعالى : {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} قال الزجاج : فيها خمسة أوجه {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} بإثبات الياء في اللفظ. وبحذف الياء وإثبات الكسرة دالة عليها {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} . وبضم الهاء وإثبات الواو على الأصل {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} . وبحذف الواو وإثبات الضمة {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} . واللغة الخامسة قرأ بها حمزة بإسكان الهاء {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} . قال النحاس : وهذا عند النحويين لا يجوز إلا على حيلة بعيدة تكون : يقدر الوقف ؛ وسمعت علي بن سليمان يقول : لا تلتفت إلى هذه العلة ، ولو جاز أن يصل وهو ينوي الوقف لجاز أن يحذف الإعراب من الأسماء. وقال : {إِلَيْهِمْ} على لفظ الجمع ولم يقل إليها ؛ لأنه قال : {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} فكأنه قال : فألقه إلى الذين هذا دينهم ؛ اهتماما منه بأمر الدين ، واشتغالا به عن غيره ، وبنى الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك. وروي في قصص هذه الآية أن الهدهد وصل فألفى دون هذه الملكة حجب جدران ؛ فعمد إلى كوة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عند طلوعها لمعنى عبادتها إياها ، فدخل منها ورمى الكتاب على بلقيس وهي - فيما يروى - نائمة ؛ فلما انتبهت وجدته فراعها ، وظنت أنه قد دخل عليها أحد ، ثم قامت فوجدت حالها كما عهدت ، فنظرت إلى الكوة تهمما بأمر الشمس ، فرأت الهدهد فعلمت. وقال وهب وابن زيد : كانت لها كوة مستقبلة مطلع الشمس ، فإذا طلعت سجدت ، فسدها الهدهد بجناحه ، فارتفعت الشمس ولم تعلم ، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى الصحيفة إليها ، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت ، لأن ملك سليمان عليه السلام كان في خاتمه ؛ فقرأته فجمعت الملأ من قومها فخاطبتهم بما يأتي بعد. وقال مقاتل : حمل الهدهد الكتاب بمنقاره ، وطار حتى وقف على رأس المرأة وحولها الجنود والعساكر ، فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه ، فرفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #538  
قديم 07-07-2025, 04:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ النمل
من صــ 191 الى صــ 200
الحلقة (538)






السابعة عشرة- في هذه الآية دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة ، ودعائهم إلى الإسلام. وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وإلى كل جبار ؛ كما تقدم في {آل عمران} :
الثامنة عشرة- قوله تعالى : {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدب به مع الملوك. بمعنى : وكن قريبا حتى ترى مراجعتهم ؛ قال وهب بن منبه. وقال ابن زيد : أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه ؛ أي ألقه وارجع. {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} في معنى التقديم على قوله : {ثُمَّ تَوَلَّ} واتساق رتبة الكلام أظهر ؛ أي ألقه ثم تول ، وفي خلال ذلك فانظر أي انتظر. وقيل : فاعلم ؛ كقوله : {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ : 40] أي اعلم ماذا يرجعون أي يجيبون وماذا يردون من القول. وقيل : {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} يتراجعون بينهم من الكلام.
الآية : [29] {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}
الآية : [30] {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
الآية : [31] {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}
فيه ست مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ} في الكلام حذف ؛ والمعنى : فذهب فألقاه إليهم فسمعها وهي تقول : {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ} ثم وصفت الكتاب بالكريم إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالا لسليمان عليه السلام ؛ وهذا قول ابن زيد. وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم ، فكرامة الكتاب ختمه ؛ وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : لأنه بدأ فيه بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقد قال صلى الله عليه وسلم : "كل كلام لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم" . وقيل : لأنه بدأ
فيه بنفسه ، ولا يفعل ذلك إلا الجلة. وفي حديث ابن عمر أنه كتب إلى عبدالملك بن مروان يبايعه. من عبدالله لعبدالملك بن مروان أمير المؤمنين ؛ إني أقر لك بالسمع والطاعة ما استطعت ، وإن بني قد أقروا لك بذلك. وقيل : توهمت أنه كتاب جاء من السماء إذ كان الموصل طيرا. وقيل : {كَرِيمٌ} حسن ؛ كقول : {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء : 58] أي مجلس حسن. وقيل : وصفته بذلك ؛ لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعاء إلى عبادة الله عز وجل ، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبا ولا لعنا ، ولا ما يغير النفس ، ومن غير كلام نازل ولا مستغلق ؛ على عادة الرسل في الدعاء إلى الله عز وجل ؛ ألا ترى إلى قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل : 125] وقوله لموسى وهرون : {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه : 44] . وكلها وجوه حسان وهذا أحسنها. وقد روي أنه لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم أحد قبل سليمان. وفي قراءة عبدالله {وإِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} بزيادة واو.
الثانية- الوصف بالكريم في الكتاب غاية الوصف ؛ ألا ترى قوله تعالى : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة : 77] وأهل الزمان يصفون الكتاب بالخطير وبالأثير وبالمبرور ؛ فإن كان لملك قالوا : العزيز وأسقطوا الكريم غفلة ، وهو أفضلها خصلة. فأما الوصف بالعزيز فقد وصف به القرآن في قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت : 41 - 42] فهذه عزته وليست لأحد إلا له ، فاجتنبوها في كتبكم ، واجعلوا بدلها العالي ؛ توفية لحق الولاية ، وحياطة للديانة ؛ قال القاضي أبو بكر بن العربي.
الثالثة- كان رسم المتقدمين إذا كتبوا أن يبدؤوا بأنفسهم من فلان إلى فلان ، وبذلك جاءت الآثار. وروى الربيع عن أنس قال : ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلى الله عليه وسلم : وكان أصحابه إذا كتبوا بدؤوا بأنفسهم. وقال ابن سيرين قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن أهل فارس إذا كتبوا بدؤوا بعظمائهم فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه"
قال أبو الليث في كتاب "البستان" له : ولو بدأ بالمكتوب إليه لجاز ؛ لأن الأمة قد اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوا في ذلك ، أو نسخ ما كان من قبل ؛ فالأحسن في زماننا هذا أن يبدأ بالمكتوب إليه ، ثم ينفسه ؛ لأن البداية بنفسه تعد منه استخفافا بالمكتوب إليه وتكبرا عليه ؛ إلا أن يكتب إلى عبد من عبيده ، أو غلام من غلمانه.
الرابعة- وإذا ورد على إنسان كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب ؛ لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر. وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كما يرى رد السلام. والله أعلم.
الخامسة- اتفقوا على كتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول الكتب والرسائل ، وعلى ختمها ؛ لأنه أبعد من الريبة ، وعلى هذا جرى الرسم ، وبه جاء الأثر عن عمر بن الخطاب أنه قال : أيما كتاب لم يكن مختوما فهو أغلف. وفي الحديث : "كرم الكتاب ختمه" . وقال بعض الأدباء ؛ هو ابن المقفع : من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به ؛ لأن الختم ختم. وقال أنس : لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى العجم فقيل له : إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه ختم ؛ فاصطنع خاتما ونقش على فصه : "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وكأني أنظر إلى وبيصه وبياضه في كفه.
السادسة قوله تعالى : {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {إِنَّهُ} بالكسر فيهما أي وإن الكلام ، أو إن مبتدأ الكلام {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وأجاز الفراء {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ} بفتحهما جميعا على أن يكونا في موضع رفع بدل من الكتاب ؛ بمعنى ألقي إلي أنه من سليمان. وأجاز أن يكونا في موضع نصب على حذف الخافض ؛ أي لأنه من سليمان ولأنه ؛ كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله. وقرأ الأشهب العقيلي ومحمد بن السميقع : {أَلا تَغْلُوا} بالغين المعجمة ، وروي عن وهب بن منبه ؛ من غلا يغلو إذا تجاوز وتكبر. وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة. {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي منقادين طائعين مؤمنين.
الآية : [32] {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}
الآية : [33] {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}
الآية : [34] {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}
فيه ست مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} الملأ أشراف القوم وقد مضى في سورة {البقرة} القول فيه. قال ابن عباس : كان معها ألف قيل. وقيل : اثنا عشر ألف قيل مع كل قيل مائة ألف. والقيل الملك دون الملك الأعظم. لأخذت في حسن الأدب مع قومها ، ومشاورتهم في أمرها ، وأعلمتهم أن ذلك مطرد عندها في كل أمر يعرض ، {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} فكيف في هذه النازلة الكبرى. فراجعها الملا بما يقر عينها ، من إعلامهم إياها بالقوة والبأس ، ثم سلموا الأمر إلى نظرها ؛ وهذه محاورة حسنة من الجميع. قال قتادة : ذكر لنا أنه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا هم أهل مشورتها ، كل رجل منهم على عشرة آلاف.
الثانية- في هذه الآية دليل على صحة المشاورة. وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران : 159] في إما استعانة بالآراء ، وإما مداراة للأولياء. وقد مدح الله تعالى الفضلاء بقوله : {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى : 38] . والمشاورة من الأمر القديم وخاصة في الحرب ؛ فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس : {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم ، وحزمهم فيما يقيم أمرهم ، وإمضائهم على الطاعة لها ، بعلمها بأنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن لها طاقة بمقاومة عدوها ، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم كان ذلك عونا لعدوهم عليهم ، وإن لم تختبر ما عندهم ، وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة
من أمرهم ، وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها ، ودخيلة في تقدير أمرهم ، وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من قوة شوكتهم ، وشدة مدافعتهم ؛ ألا ترى إلى قولهم في جوابهم : {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال ابن عباس : كان من قوة أحدهم أنه يركض فرسه حتى إذا احتد ضم فخذيه فحبسه بقوته.
الثالثة- قوله تعالى : {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} سلموا الأمر إلى نظرها مع ما أظهروا لها من القوة والبأس والشدة ؛ فلما فعلوا ذلك أخبرت عند ذلك بفعل الملوك بالقرى التي يتغلبون عليها. وفي هذا الكلام خوف على قومها ، وحيطة واستعظام لأمر سليمان عليه السلام. {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} قيل : هو من قول بلقيس تأكيدا للمعنى الذي أرادته. وقال ابن عباس : هو من قول الله عز وجل معرفا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته بذلك ومخبرا به. وقال وهب : لما قرأت عليهم الكتاب لم تعرف اسم الله ، فقالت : ما هذا ؟ ! فقال بعض القوم : ما نظن هذا إلا عفريتا عظيما من الجن يقتدر به هذا الملك على ما يريده ؛ فسكتوه. وقال الآخر : أراهم ثلاثة من العفاريت ؛ فسكتوه ؛ فقال شاب قد علم : يا سيدة الملوك! إن سليمان ملك قد أعطاه ملك السماء ملكا عظيما فهو لا يتكلم بكلمة إلا بدأ فيها بتسمية إلهه ، والله اسم مليك السماء ، والرحمن الرحيم نعوته ؛ فعندها قالت : {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} فقالوا : {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} في القتال {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} قوة في الحرب واللقاء {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ} ردوا أمرهم إليها لما جربوا على رأيها من البركة {فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} فـ {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} أهانوا شرفاءها لتستقيم لهم الأمور ، فصدق الله قولها. {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} قال ابن الأنباري : {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} هذا وقف تام ؛ فقال الله عز وجل تحقيقا لقولها : {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} وشبيه به في سورة {لأعراف} {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [الأعراف : 109 - 110] تم الكلام ، فقال فرعون : {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف : 110] . وقال ابن شجرة. هو قول بلقيس ، فالوقف {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أي وكذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا.
الآية : [35] {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}
فيه ست مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} هذا من حسن نظرها وتدبيرها ؛ أي إني أجرب هذا الرجل بهدية ، وأعطيه فيها نفائس من الأموال ، وأغرب عليه بأمور المملكة : فإن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك ، وإن كان نبيا لم يرضه المال ولازمنا في أمر الدين ، فينبغي لنا أن نؤمن به ونتبعه على دينه ، فبعثت إليه بهدية عظيمة أكثر الناس في تفصيلها ، فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : أرسلت إليه بلبنة من ذهب ، فرأت الرسل الحيطان من ذهب فصغر عندهم ما جاؤوا به. وقال مجاهد : أرسلت إليه بمائتي غلام ومائتي جارية. وروي عن ابن عباس : باثنتي عشرة وصيفة مذكرين قد ألبستهم زي الغلمان ، واثني عشر غلاما مؤنثين قد ألبستهم زي النساء ، وعلى يد الوصائف أطباق مسك وعنبر ، وباثنتي عشرة نجيبة تحمل لبن الذهب ، وبخرزتين إحداهما غير مثقوبة ، والأخرى مثقوبة ثقبا معوجا ، وبقدح لا شيء فيه ، وبعصا كان يتوارثها ملوك حمير ، وأنفذت الهدية مع جماعة من قومها. وقيل : كان الرسول واحدا ولكن كان في صحبته أتباع وخدم. وقيل : أرسلت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذرين عمرو ، وضمت إليه رجالا ذوي رأي وعقل ، والهدية مائة وصيف ومائة وصيفة ، وقد خولف بينهم في اللباس ، وقالت للغلمان : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث يشبه كلام النساء ، وقالت للجواري : كلمنه بكلام فيه غلظ يشبه كلام الرجال ؛ فيقال : إن الهدهد جاء وأخبر سليمان بذلك كله. وقيل : إن الله أخبر سليمان بذلك ، فأمر سليمان عليه السلام أن يبسط من موضعه إلى تسع فراسخ بلبنات الذهب والفضة ، ثم قال : أي الدواب رأيتم أحسن في البر والبحر ؟ قالوا : يا نبي الله رأينا في بحر كذا دواب منقطة مختلفة ألوانها ، لها أجنحة وأعراف ونواصي ؛ فأمر بها فجاءت فشدت على يمين الميدان وعلى يساره ، وعلى لبنات الذهب والفضة ، وألقوا لها علوفاتها ؛ ثم قال : للجن علي بأولادكم ؛ فأقامهم - أحسن ما يكون من الشباب - عن يمين
الميدان ويساره. ثم قعد سليمان عليه السلام على كرسيه في مجلسه ، ووضع له أربعة آلاف كرسي من ذهب عن يمينه ومثلها عن يساره ، وأجلس عليها الأنبياء والعلماء ، وأمر الشياطين والجن والإنس أن يصطفوا صفوفا فراسخ ، وأمر السباع والوحوش والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله ، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ، ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم أحسن منها تروث على لبنات الذهب والفضة ، تقاصرت إليهم أنفسهم ، ورموا ما معهم من الهدايا. وفي بعض الروايات : إن سليمان لما أمرهم بفرش الهيدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر موضع بساط من الأرض غير مفروش ، فلما مروا به خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان ، فلما رأوا الشياطين رأوا منظرا هائلا فظيعا ففزعوا وخافوا ، فقالت لهم الشياطين : جوزوا لا بأس عليكم ؛ فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والإنس والبهائم والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان ، فنظر إليهم سليمان نظرا حسنا بوجه طلق ، وكانت قالت لرسولها : إن نظر إليك نظر مغضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه ، وإن رأيت الرجل بشا لطيفا فاعلم أنه نبي مرسل فتفهم قول ورد الجواب ، فأخبر الهدهد سليمان بذلك على ما تقدم.
وكانت عمدت إلى حقه من ذهب فجعلت فيها درة يتيمة غير مثقوبة ، وخرزة معوجة الثقب ، وكتبت كتابا مع رسولها تقول فيه : إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف ، وأخبر بما في الحقة ، وعرفني رأس العصا من أسفلها ، واثقب الدرة ثقبا مستويا ، وأدخل خيط الخرزة ، واملأ القدح ماء من ندى ليس من الأرض ولا من السماء ؛ فلما وصل الرسول ووقف بين يدي سليمان أعطاه كتاب الملكة فنظر فيه ، وقال : أين الحقة ؟ فأتى بها فحركها ؛ فأخبره جبريل بما فيها ، ثم أخبرهم سليمان. فقال له الرسول : صدقت ؛ فاثقب الدرة ، وأدخل الخيط في الخرزة ؛ فسأل سليمان الجن والإنس عن ثقبها فعجزوا ؛ فقال للشياطين : ما الرأي فيها ؟ فقالوا : ترسل إلى الأرضة ، فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها حتى خرجت من الجانب الآخر ؛ فقال لها سليمان : ما حاجتك ؟ قالت : تصير رزقي في الشجرة ؛
فقال لها : لك ذلك. ثم قال سليمان : من لهذه الخرزة يسلكها الخيط ؟ فقالت دودة بيضاء : أنا لها يا نبي الله ؛ فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر ؛ فقال لها سليمان : ما حاجتك ؟ قالت تجعل رزقي في الفواكه ؛ قال : ذلك لك. ثم ميز بين الغلمان والجواري. قال السدي : أمرهم بالوضوء ، فجعل الرجل يحدر الماء على اليد والرجل حدرا ، وجعل الجواري يصببن من اليد اليسرى على اليد اليمنى ، ومن اليمنى على اليسرى ، فميز بينهم بهذا. وقيل : كانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ، ثم تحمله على الأخرى ، ثم تضرب به على الوجه ؛ والغلام كان يأخذ الماء من الآنية يضرب به في الوجه ، والجارية تصب على بطن ساعدها ، والغلام على ظهر الساعد ، والجارية تصب الماء صبا ، والغلام يحدر على يديه ؛ فميز بينهم بهذا. وروى يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير قال : أرسلت بلقيس بمائتي وصيفة ووصيف ، وقالت : إن كان نبيا فسيعلم الذكور من الإناث ، فأمرهم فتوضؤوا ؛ فمن توضأ منهم فبدأ بمرفقه قبل كفه قال هو من الإناث ، ومن بدأ بكفه قبل مرفقه قال هو من الذكور ؛ ثم أرسل العصا إلى الهواء فقال : أي الرأسين سبق إلى الأرض فهو أصلها ، وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها ، ثم رد سليمان الهدية ؛ فروي أنه لما صرف الهدية إليها وأخبرها رسولها بما شاهد ؛ قالت لقومها : هذا أمر من السماء.
الثانية كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثبت عليها ولا يقبل الصدقة ، وكذلك كان سليمان عليه السلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردها علامة على ما في نفسها ؛ على ما ذكرناه من كون سليمان ملكا أو نبيا ؛ لأنه قال لها في كتابه : {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل : 31] وهذا لا تقبل فيه فدية ، ولا يؤخذ عنه هدية ، وليس هذا من الباب الذي تقرر في الشريعة عن قبول الهدية بسبيل ، وإنما هي رشوة وبيع الحق بالباطل ، وهي الرشوة التي لا تحل. وأما الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة من كل أحد وعلى كل حال ، وهذا ما لم يكن من مشرك.
الثالثة- فإن كانت من مشرك ففي الحديث : "نهيت عن زبد المشركين" يعني رفدهم وعطاياهم. وروي عنه عليه السلام أنه قبلها كما في حديث مالك عن ثور بن زيد الدبلي وغيره ، فقال جماعة من العلماء بالنسخ فيهما ، وقال آخرون : ليس فيها ناسخ ولا منسوخ ، والمعنى فيها : أنه كان لا يقبل هدية من يطمع بالظهور عليه وأخذ بلده ودخوله في الإسلام ، وبهذه الصفة كانت حالة سليمان عليه السلام ، فعن مثل هذا نهى أن تقبل هديته حملا على الكف عنه ؛ وهذا أحسن تأويل للعلماء في هذا ؛ فإنه جمع بين الأحاديث. وقيل غير هذا.
الرابعة- الهدية مندوب إليها ، وهي مما تورث المودة وتذهب العداوة ؛ روى مالك عن عطاء بن عبدالله الخراساني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء" . وروى معاوية بن الحكم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "تهادوا فإنه يضعف الود ويذهب بغوائل الصدر" . وقال الدارقطني : تفرد به ابن بجير عن أبيه عن مالك ، ولم يكن بالرضي ، ولا يصح عن مالك ولا عن الزهري. وعن ابن شهاب قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "تهادوا بينكم فإن الهدية تذهب السخيمة" قال ابن وهب : سألت يونس عن السخيمة ما هي فقال : الغل. وهذا الحديث وصله الوقاصي عثمان عن الزهري وهو ضعيف. وعلى الجملة : فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ، وفيه الأسوة الحسنة. ومن فضل الهدية مع اتباع السنة أنها تزيل حزازات النفوس ، وتكسب المهدي والمهدى إليه رنة في اللقاء والجلوس. ولقد أحسن من قال :
هدايا الناس بعضهم لبعض ... تولد في قلوبهم الوصالا
وتزرع في الضمير هوى وودا ... وتكسبهم إذا حضروا جمالا
آخر :
إن الهدايا لها حظ إذا وردت ... أحظى من الابن عند الوالد الحدب
الخامسة- روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "جلساؤكم شركاؤكم في الهدية" واختلف في معناه ؛ فقيل : هو محمول على ظاهره. وقيل : يشاركهم على وجه
الكرم والمروءة ، فإن لم يفعل فلا يجبر عليه. وقال أبو يوسف : ذلك في الفواكه ونحوها. وقال بعضهم : هم شركاؤه في السرور لا في الهدية. والخبر محمول في أمثال أصحاب الصفة والخوانق والرباطات ؛ أما إذا كان فقيها من الفقهاء اختص بها فلا شركة فيها لأصحابه ، فإن أشركهم فذلك كرم وجود منه.
السادسة- قوله تعالى : {فَنَاظِرَةٌ} أي منتظرة {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} قال قتادة : يرحمها الله أن كانت لعاقلة في إسلامها وشركها ؛ قد علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس. وسقطت الألف في {بِمَ} للفرق بين {ما} الخبرية. وقد يجوز إثباتها ؛ قال :
على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد
الآية : [36 ] {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}
الآية : [37 ] {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}
الآية : [38] {قالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}
الآية : [39] {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}
الآية : [40] { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}
قوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنيِ بِمَالٍ} أي جاء الرسول سليمان بالهدية قال : {أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ} . قرأ حمزة ويعقوب والأعمش : بنون واحدة مشددة وياء ثابتة بعدها.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #539  
قديم 07-07-2025, 04:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ النمل
من صــ 201 الى صــ 210
الحلقة (539)





الباقون بنونين وهو اختيار أبي عبيد ؛ لأنها في كل المصاحف بنونين. وقد روى إسحاق عن نافع أنه كان يقرأ : {أَتُمِدُّونِ} بنون واحدة مخففة بعدها ياء في اللفظ. قال ابن الأنباري : فهذه القراءة يجب فيها إثبات الياء عند الوقف ، ليصح لها موافقة هجاء المصحف. والأصل في النون التشديد ، فخفف التشديد من ذا الموضع كما خفف من : أشهد أنك عالم ؛ وأصله : أنك عالم. وعلى هذا المعنى بنى الذي قرأ : {تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل : 27] ، {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} [الأنعام : 80] . وقد قالت العرب : الرجال يضربون ويقصدون ، وأصله يضربوني ويقصدوني : لأنه إدغام يضربونني ويقصدونني قال الشاعر :
ترهبين والجيد منك لليلى ... والحشا والبغام والعينان
والأصل ترهبيني فخفف. ومعنى {أَتُمِدُّونَنِي} أتزيدونني مالا إلى ما تشاهدونه من أموالي.
قوله تعالى : {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} أي فما أعطاني من الإسلام والملك والنبوة خير مما أعطاكم ، فلا أفرح بالمال. و {آتانِ} وقعت في كل المصاحف بغير ياء. وقرأ أبو عمرو ونافع وحفص : {آتَانِيَ اللَّهُ} بياء مفتوحة ؛ فإذا وقفوا حذفوا. وأما يعقوب فإنه يثبتها في الوقف ويحذف في الوصل لالتقاء الساكنين. الباقون بغير ياء في الحالين. {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} لأنكم أهل مفاخرة ومكاثرة في الدنيا.
قوله تعالى : {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} أي قال سليمان للمنذر بن عمرو أمير الوفد ؛ ارجع إليهم بهديتهم. {إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} لام قسم والنون لها لازمة. قال النحاس : وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول : هي لام توكيد وكذا كان عنده أن اللامات كلها ثلاث لا غير ؛ لام توكيد ؛ ولام أمر ، ولام خفض ؛ وهذا قول الحذاق من النحويين ؛ لأنهم يردون الشيء إلى أصله : وهذا لا يتهيأ إلا لمن درب في العربية. ومعنى {لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي لا طاقة لهم عليها. {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا} أي من أرضهم وقيل : {مِنْهَا} أي من قرية سبأ. وقد سبق ذكر القرية في قوله : إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا
"صفحة رقم 202"
قرية أفسدوها أذلة قد سلبوا ملكهم وعزهم وهم صاغرون أي مهانون أذلاء من الصغر وهو الذل إن لم يسلموا فرجع إليها رسولها فأخبرها فقالت : قد عرفت أنه ليس بملك ولا طاقة لنا بقتال نبي من أنبياء الله ثم أمرت بعرشها فجعل في سبعة أبيات بعضها في جوف بعض في آخر قصر من سبعة قصور وغلقت الأبواب وجعلت الحرس عليه وتوجهت إليه في اثنى عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت كل قيل مائة ألف قال بن عباس : وكان سليمان مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه فنظر ذات يوم رهجا قريبا منه فقال : ما هذا فقالوا : بلقيس يا نبي الله فقال سليمان لجنوده وقال وهب وغيره : للجن ) أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ( وقال عبد الله بن شداد : كانت بلقيس على فرسخ من سليمان لما قال : أيكم يأتيني بعرشها وكانت خلفت عرشها بسبأ ووكلت به حفظة وقيل : إنها لما بعثت بالهدية بعثت رسلها في جندها لتغافص سليمان عليه السلام بالقتل قبل أن يتأهب سليمان لها إن كان طالب ملك فلما علم ذلك قال : أيكم يأتيني بعرشها قال بن عباس : كان أمره بالاتيان بالعرش قبل أن يكتب الكتاب إليها ولم يكتب إليها حتى جاءه العرش وقال بن عطية : وظاهر الآيات أن هذه المقالة من سليمان عليه السلام بعد مجيء هديتها ورده إياها وبعثه الهدهد بالكتاب وعلى هذا جمهور المتأولين واختلفوا في فائدة استدعاء عرشها فقال قتادة : ذكر له بعظم وجوده فأراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام ويحمي أموالهم والإسلام على هذا الدين وهو قول بن جريج وقال بن زيد : استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله ويجعله دليلا على نبوته لأخذه من بيوتها دون جيش ولا حرب ومسلمين على هذا التأويل بمعنى مستسلمين وهو قول بن عباس وقال بن زيد أيضا : أراد أن يختبر عقلها ولهذا قال : ) نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي ( وقيل : خافت الجن أن يتزوج بها سليمان عليه السلام فيولد له منها ولد فلا يزالون في السخرة والخدمة لنسل سليمان فقالت لسليمان
في عقلها خلل ؛ فأراد أن يمتحنها بعرشها. وقيل : أراد أن يختبر صدق الهدهد في قوله : {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} قاله الطبري. وعن قتادة : أحب أن يراه لما وصفه الهدهد. والقول الأول عليه أكثر العلماء ؛ لقوله تعالى : {قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} . ولأنها لو أسلمت لحظر عليه مالها فلا يؤتي به إلا بإذنها. روي أنه كان من فضة وذهب مرصعا بالياقوت الأحمر والجوهر ، وأنه كان في جوف سبعة أبيات عليه سبعة أغلاق.
قوله تعالى : {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} كذا قرأ الجمهور وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي : {عِفْرِيَةٌ} ورويت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وفي الحديث : "إن الله يبغض العفرية النفرية" . النفرية إتباع لعفرية. قال قتادة : هي الداهية قال النحاس : يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء عفر وعفرية وعفريت وعفارية. وقيل : {عفريت} أي رئيس. وقرأت فرقة : {قال عِفْرٌ} بكسر العين ؛ حكاه ابن عطية ؛ قال النحاس : من قال عفرية جمعه على عفار ، ومن قال : عفريت كان له في الجمع ثلاثة أوجه ؛ إن شاء قال عفاريت ، وإن شاء قال عَفار ؛ لأن التاء زائدة ؛ كما يقال : طواغ في جمع طاغوت ، وإن شاء عوض من التاء ياء فقال عفاري. والعفريت من الشياطين القوي المارد. والتاء زائدة. وقد قالوا : تعفرت الرجل إذا تخلق بخلق الإذاية. وقال وهب بن منبه : اسم هذا العفريت كودن ؛ ذكره النحاس. وقيل : ذكوان ؛ ذكره السهيلي. وقال شعيب الجبائي : اسمه دعوان. وروي عن ابن عباس أنه صخر الجني. ومن هذا الاسم قول ذي الرمة :
كأنه كوكب في إثر عفرية ... مصوب في سواد الليل منقضب
وأنشد الكسائي :
إذ قال شيطانهم العفريت ... ليس لكم ملك ولا تثبيت
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن عفريتا من الجن جعل يفتك علي البارحة ليقطع علي الصلاة وإن الله أمكنني منه فدعته..." وذكر الحديث. وفي البخاري : "تفلت على البار حة" مكان : "جعل يفتك" . وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه قال : أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار ، كلما التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه ؛ فقال جبريل : أفلا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بلى" فقال : "أعوذ بالله الكريم وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء وشر ما يعرج فيها وشر ما ذرأ في الأرض ، وشر ما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن" .
قوله تعالى : {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} يعني في مجلسه الذي يحكم فيه. {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} أي قوي على حمله. {أَمِينٌ} على ما فيه. ابن عباس : أمين على فرج المرأة ؛ ذكره المهدوي. فقال سليمان أريد أسرع من ذلك ؛ فـ {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} أكثر المفسرين على أن الذي عنده علم من الكتاب آصف بن برخيا وهو من بني إسرائيل ، وكان صديقا يحفظ اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب. وقالت عائشة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن اسم الله الأعظم الذي دعا به آصف بن برخيا يا حي يا قيوم" قيل : وهو بلسانهم ، أهيا شراهيا ؛ وقال الزهري : دعاء الذي عنده اسم الله الأعظم ؛ يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ايتني بعرشها ؛ فمثل بين يديه. وقال مجاهد : دعا فقال : يا إلهنا وإله كل شيء يا ذا الجلال والإكرام. قال السهيلي : الذي عنده علم من الكتاب هو آصف بن برخيا ابن خالة سليمان ، وكان عنده اسم الله الأعظم من أسماء الله تعالى.
وقيل : هو سليمان نفسه ؛ ولا يصح في سياق الكلام مثل هذا التأويل. قال ابن عطية وقالت فرقة هو سليمان عليه السلام ، والمخاطبة في هذا التأويل للعفريت لما قال : {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} كأن سليمان استبطأ ذلك فقال له على جهة تحقيره : {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} واستدل قائلو هذه المقالة بقول سليمان : {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} .
قلت : ما ذكره ابن عطية قال النحاس في معاني القرآن له ، وهو قول حسن إن شاء الله تعالى. قال بحر : هو ملك بيده كتاب المقادير ، أرسله الله عند قول العفريت. قال السهيلي : وذكر محمد بن الحسن المقرئ أنه ضبة بن أد ؛ وهذا لا يصح البتة لأن ضبة هو ابن أد بن طابخة ، واسمه عمرو بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد : ومعد كان في مدة بختنصر ، وذلك بعد عهد سليمان بدهر طويل ؛ فإذا لم يكن معد في عهد سليمان ، فكيف ضبة بن أد وهو بعده بخمسة آباء ؟ ! وهذا بين لمن تأمله. ابن لهيعة : هو الخضر عليه السلام. وقال ابن زيد : الذي عنده علم من الكتاب رجل صالح كان في جزيرة من جزائز البحر ، خرج ذلك اليوم ينظر من ساكن الأرض ؛ وهل يعبد الله أم لا ؟ فوجد سليمان ، فدعا باسم من أسماء الله تعالى فجيء بالعرش. وقول سابع : إنه رجل من بني إسرائيل اسمه يمليخا كان يعلم اسم الله الأعظم ؛ ذكره القشيري. وقال ابن أبي بزة : الرجل الذي كان عنده علم من الكتاب اسمه أسطوم وكان عابدا في بني إسرائيل ؛ ذكره الغزنوي. وقال محمد بن المنكدر : إنما هو سليمان عليه السلام ؛ أما إن الناس يرون أنه كان معه اسم وليس ذلك كذلك ؛ إنما كان رجل من بني إسرائيل عالم آتاه الله علما وفقها قال : {أنا أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قال : هات. قال : أنت نبي الله ابن نبي الله فإن دعوت الله جاءك به ، فدعا الله سليمان فجاءه الله بالعرش. وقول ثامن : إنه جبريل عليه السلام ؛ قاله النخعي ، وروي عن ابن عباس. وعلم الكتاب على هذا علمه بكتب الله المنزلة ، أو بما في اللوح المحفوظ. وقيل : علم كتاب سليمان إلى بلقيس. قال ابن عطية : والذي
عليه الجمهور من الناس أنه رجل صالح من بني إسرائيل اسمه آصف بن برخيا ؛ روي أنه صلى ركعتين ، ثم قال لسليمان : يا نبي الله آمدد بصرك فمد بصره نحو اليمن فإذا بالعرش ، فما رد سليمان بصره إلا وهو عنده. قال مجاهد : هو إدامة النظر حتى يرتد طرفه خاسئا حسيرا. وقيل : أراد مقدار ما يفتح عينه ثم يطرف ، وهو كما تقول : افعل كذا في لحظة عين ؛ وهذا أشبه ؛ لأنه إن كان الفعل من سليمان فهو معجزة ، وإن كان من آصف أو من غيره من أولياء الله فهي كرامة ، وكرامة الولي معجزة النبي. قال القشيري : وقد أنكر كرامات الأولياء من قال إن الذي عنده علم من الكتاب هو سليمان ، قال للعفريت : {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} . وعند هؤلاء ما فعل العفريت فليس من المعجزات ولا من الكرامات ، فإن الجن يقدرون على مثل هذا. ولا يقطع جوهر في حال واحدة مكانين ، بل يتصور ذلك بأن يعدم الله الجوهر في أقصى الشرق ثم يعيده في الحالة الثانية ، وهي الحالة التي بعد العدم في أقصى الغرب. أو يعدم الأماكن المتوسطة ثم يعيدها. قال القشيري : ورواه وهب عن مالك. وقد قيل : بل جيء به في الهواء ؛ قاله مجاهد. وكان بين سليمان والعرش كما بين الكوفة والحيرة. وقال مالك : كانت باليمن وسليمان عليه السلام بالشام. وفي التفاسير انخرق بعرش بلقيس مكانه الذي هو فيه ثم نبع بين يدي سليمان ؛ قال عبدالله بن شداد : وظهر العرش من نفق تحت الأرض ؛ فالله أعلم أي ذلك كان.
قوله تعالى : {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ} أي ثابتا عنده. {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} أي هذا النصر والتمكين من فضل ربي. {لِيَبْلُوَنِي} قال الأخفش : المعنى لينظر {أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} وقال غيره : معنى {لِيَبْلُوَنِي} ليتعبدني ؛ وهو مجاز. والأصل في الابتلاء الاختبار أي ليختبرني أأشكر نعمته أم أكفرها {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي لا يرجع نفع ذلك إلا إلى نفسه ، حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها والمزيد منها. والشكر قيد النعمة الموجودة ، وبه تنال النعمة المفقودة. {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} أي عن الشكر {كَرِيمٌ} في التفضل.
الآية : [41] {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ}
الآية : [42] {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}
الآية : [43] {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}
قوله تعالى : { قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} أي غيروه. قيل : جعل أعلاه أسفله ، وأسفله أعلاه. وقيل : غيّر بزيادة أو نقصان. قال الفراء وغيره : إنما أمر بتنكيره لأن الشياطين قالوا له : إن في عقلها شيئا فأراد أن يمتحنها. وقيل : خافت الجن أن يتزوج بها سليمان فيولد له منها ولد فيبقون مسخرين لآل سليمان أبدا ، فقالوا لسليمان : إنها ضعيفة العقل ، ورجلها كرجل الحمار ؛ فقال : {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} لنعرف عقلها. وكان لسليمان ناصح من الجن ، فقال كيف لي أن أرى قدميها من غير أن أسألها كشفها ؟ فقال : أنا أجعل في هذا القصر ماء ، وأجعل فوق الماء زجاجا ، تظن أنه ماء فترفع ثوبها فترى قدميها ؛ فهذا هو الصرح الذي أخبر الله تعالى عنه.
قوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَتْ} يريد بلقيس ، {قِيلَ} لها {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } شبهته به لأنها خلفته تحت الأغلاق ، فلم تقر بذلك ولم تنكر ، فعلم سليمان كمال عقلها. قال عكرمة : كانت حكيمة فقالت : {كَأَنَّهُ هُوَ } . وقال مقاتل : عرفته ولكن شبهت عليهم كما شبهوا عليها ؛ ولو قيل لها : أهذا عرشك لقالت نعم هو ؛ وقاله الحسن بن الفضل أيضا. وقيل : أراد سليمان أن يظهر لها أن الجن مسخرون له ، وكذلك الشياطين لتعرف أنها نبوة وتؤمن به. وقد قيل هذا في مقابلة تعميتها الأمر في باب الغلمان والجواري. {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا} قيل : هو من قول بلقيس ؛ أي أوتينا العلم بصحة نبوة سليمان من قبل هذه الآية في العرش {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} منقادين لأمره. وقيل : هو من قول سليمان أي أوتينا العلم
بقدرة الله على ما يشاء من قبل هذه المرة. وقيل : {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها. وقيل : هو من كلام قوم سليمان. والله أعلم.
قوله تعالى : {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الوقف على {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حسن ؛ والمعنى : منعها من أن تعبد الله ما كانت تعبد من الشمس والقمر فـ {مَا} في موضع رفع. النحاس : المعنى ؛ أي صدها عبادتها من دون الله وعبادتها إياها عن أن تعلم ما علمناه عن أن تسلم. ويجوز أن يكون {مَا} في موضع نصب ، ويكون التقدير : وصدها سليمان عما كانت تعبد من دون الله ؛ أي حال بينها وبينه. ويجوز أن يكون المعنى : وصدها الله ؛ أي منعها الله عن عبادتها غيره فحذفت {عن} وتعدى الفعل. نظيره : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف : 155] أي من قومه. وأنشد سيبويه :
ونبئت عبدالله بالجو أصبحت ... كراما مواليها لئيما صميمها
وزعم أن المعنى عنده نبئت عن عبدالله. {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} قرأ سعيد بن جبير : {إِنَّهَا} بفتح الهمزة ، وهي في موضع نصب بمعنى ، لأنها. ويجوز أن يكون بدلا من {مَا} فيكون في موضع رفع إن كانت {مَا} فاعلة الصد. والكسر على الاستئناف.
الآية : [44] {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّه}
قوله تعالى : {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} التقدير عند سيبويه : ادخلي إلى الصرح فحذف إلى وعدي الفعل. وأبو العباس يغلطه في هذا ؛ قال : لأن دخل يدل على مدخول. وكان الصرح صحنا من زجاج تحته ماء وفيه الحيتان ، عمله ليريها ملكا أعظم من ملكها ؛ قاله مجاهد.
وقال قتادة : كان من قوارير خلفه ماء {حَسِبَتْهُ لُجَّةً} أي ماء. وقيل : الصرح القصر ؛ عن أبي عبيدة. كما قال :
تحسب أعلامهن الصروحا
وقيل : الصرح الصحن ؛ كما يقال : هذه صرحة الدار وقاعتها ؛ بمعنى. وحكى أبو عبيدة في الغريب المصنف أن الصرح كل بناء عال مرتفع من الأرض ، وأن الممرد الطويل. النحاس : أصل هذا أنه يقال لكل بناء عمل عملا واحدا صرح ؛ من قولهم : لبن صريح إذا لم يشبه ماء ؛ ومن قولهم : صرح بالأمر ، ومنه : عربي صريح. وقيل : عمله ليختبر قول الجن فيها إن أمها من الجن ، ورجلها رجل حمار ؛ قاله وهب بن منبه. فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق : وتعجبت من كون كرسيه على الماء ، ورأت ما هالها ، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر. {وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} فإذا هي أحسن الناس ساقا ؛ سليمة مما قالت الجن ، غير أنها كانت كثيرة الشعر ، فلما بلغت هذا الحد ، قال لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها : {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ } والممرد المحكوك المملس ، ومنه الأمرد. وتمرد الرجل إذ أبطأ خروج لحيته بعد إدراكه ؛ قاله الفراء. ومنه الشجرة المرداء التي لا ورق عليها. ورملة مرداء إذا كانت لا تنبت. والممرد أيضا المطول ، ومنه قيل للحصن مارد. أبو صالح : طويل على هيئة النخلة. ابن شجرة : واسع في طوله وعرضه. قال :
غدوت صباحا باكرا فوجدتهم ... قبيل الضحا في السابري الممرد
أي الدروع الواسعة. وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم ؛ على ما يأتي. ولما رأى سليمان عليه السلام قدميها قال لناصحه من الشياطين : كيف لي أن أقلع هذا الشعر من غير مضرة بالجسد ؟ فدله على عمل النورة ، فكانت النورة والحمامات من يومئذ. فيروى أن سليمان تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام ؛ قاله الضحاك.
وقال سعيد بن عبدالعزيز في كتاب النقاش : تزوجها وردها إلى ملكها : باليمن ، وكان يأتيها على الريح كل شهر مرة ؛ فولدت له غلاما سماه داود مات في زمانه. وفي بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "كانت بلقيس من أحسن نساء العالمين ساقين وهي من أزواج سليمان عليه السلام في الجنة" فقالت عائشة : هي أحسن ساقين مني ؟ فقال عليه السلام : "أنت أحسن ساقين منها في الجنة" ذكره القشيري. وذكر الثعلبي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أول من اتخذ الحمامات سليمان بن داود فلما ألصق ظهره إلى الجدار فمسه حرها قال أواه من عذاب الله" . ثم أحبها حبا شديدا وأقرها على ملكها باليمن ، وأمر الجن فبنوا لها ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا : سلحون وبينون وعمدان ، ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة ، ويقيم عندها ثلاثة أيام. وحكى الشعبي أن ناسا من حمير حفروا مقبرة الملوك ، فوجدوا فيها قبرا معقودا فيه امرأة حلل منسوجة بالذهب ، وعند رأسها لوح رخام فيه مكتوب :
يا أيها الأقوام عوجوا معا ... وأربعوا في مقبري العيسا
لتعلموا أني تلك التي ... قد كنت أدعى الدهر بلقيسا
شيدت قصر الملك في حمير ... قومي وقدما كان مأنوسا
وكنت في ملكي وتدبيره ... أرغم في الله المعاطيسا
بعلي سليمان النبي الذي ... قد كان للتوراة دريسا
وسخر الريح له مركبا ... تهب أحيانا رواميسا
مع ابن داود النبي الذي ... قدسه الرحمن تقديسا
وقال محمد بن إسحاق ووهب بن منبه : لم يتزوجها سليمان ، وإنما قال لها : اختاري زوجا ؛ فقالت : مثلي لا ينكح وقد كان لي من الملك ما كان. فقال : لا بد في الإسلام من ذلك. فاختارت ذا تبع ملك همدان ، فزوجه إياها وردها إلى اليمن ، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه ، فبنى له المصانع ، ولم يزل أميرا حتى مات سليمان. وقال قوم : لم يرد فيه خبر صحيح




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #540  
قديم 07-07-2025, 04:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ النمل
من صــ 211 الى صــ 220
الحلقة (540)





لا في أنه تزوجها ولا في أنه زوجها. وهي بلقيس بنت السرح بن الهداهد بن شراحيل بن أدد بن حدر بن السرح بن الحرس بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وكان جدها الهداهد ملكا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ولدا كلهم ملوك ، وكان ملك أرض اليمن كلها ، وكان أبوها السرح يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤا لي ، وأبى أن يتزوج منهم ، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن ، فولدت له بلقمة وهي بلقيس ، ولم يكن له ولد غيرها. وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم : "كان أحد أبوي بلقيس جنيا" فمات أبوها ، واختلف عليها قومها فرقتين ، وملكوا أمرهم رجلا فساءت سيرته ، حتى فجر بنساء رعيته ، فأدركت بلقيس الغيرة ، فعرضت عليه نفسها فتزوجها ، فسقته الخمر حتى حزت رأسه ، ونصبته على باب دارها فملكوها. وقال أبو بكرة : ذكرت بلقيس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" .
ويقال : إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيرا لملك عات يغتصب نساء الرعية ، وكان الوزير غيورا فلم يتزوج ، فصحب مرة في الطريق رجلا لا يعرفه ، فقال هل لك من زوجة ؟ فقال : لا أتزوج أبدا ، فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن ، فقال لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبدا. قال : بل يغتصبها. قال : إنا قوم من الجن لا يقدر علينا ؛ فتزوج ابنته فولدت له بلقيس ؛ ثم ماتت الأم وابتنت بلقيس قصرا في الصحراء ، فتحدث أبوها بحديثها غلطا ، فنمى للملك خبرها فقال له : يا فلان تكون عندك هذه البنت الجميلة وأنت لا تأتيني بها ، وأنت تعلم حبي للنساء ثم أمر بحبسه ، فأرسلت بلقيس إليه إني بين يديك ؛ فتجهز للمسير إلى قصرها ، فلما هم بالدخول بمن معه أخرجت إليه الجواري من بنات الجن مثل صورة الشمس ، وقلن له ألا تستحي ؟ تقول لك سيدتنا أتدخل بهؤلاء الرجال معك على أهلك فأذن لهم بالانصراف ودخل وحده ، وأغلقت عليه الباب وقتلته بالنعال ، وقطعت رأسه ورمت به إلى عسكره ، فأمروها عليهم ، فلم تزل كذلك إلى أن
بلغ الهدهد خبرها سليمان عليه السلام. وذلك أن سليمان لما نزل في بعض منازله قال الهدهد : إن سليمان قد اشتغل بالنزول ، فارتفع نحو السماء فأبصر طول الدنيا وعرضها ، فأبصر الدنيا يمينا وشمالا ، فرأى بستانا لبلقيس فيه هدهد ، وكان اسم ذلك الهدهد عفير ، فقال عفير اليمن ليعفور سليمان : من أين أقبلت ؟ وأين تريد ؟ قال : أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود. قال : ومن سليمان ؟ قال : ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحش والريح وكل ما بين السماء والأرض. فمن أين أنت ؟ قال : من هذه البلاد ؛ ملكها امرأة يقال لها بلقيس ، تحت يدها اثنا عشر ألف قيل ، تحت يد كل قيل مائة ألف مقاتل من سوى النساء والذراري ؛ فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها ، ورجع إلى سليمان وقت العصر ، وكان سليمان قد فقده وقت الصلاة فلم يجده ، وكانوا على غير ماء.
قال ابن عباس في رواية : وقعت عليه نفحة من الشمس. فقال لوزير الطير : هذا موضع من ؟ قال : يا نبي الله هذا موضع الهدهد قال : وأين ذهب ؟ قال : لا أدوي أصلح الله الملك. فغضب سليمان وقال : {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} [النمل : 21] الآية. ثم دعا بالعقاب سيد الطير وأصرمها وأشدها بأسا فقال : ما تريد يا نبي الله ؟ فقال : علي بالهدهد الساعة. فرفع العقاب نفسه دون ، السماء حتى لزق بالهواء ، فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ، فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحن اليمن ، فانقض نحوه وأنشب فيه مخلبه. فقال له الهدهد : أسألك بالله الذي أقدرك وقواك علي إلا رحمتني. فقال له : الويل لك ؛ وثكلتك أمك! إن نبي الله سليمان حلف أن يعذبك أو يذبحك. ثم أتى به فاستقبلته النسور وسائر عساكر الطير. وقالوا الويل لك ؛ لقد توعدك نبي الله. فقال : وما قدري وما أنا! أما استثنى ؟ قالوا : بلى إنه قال : {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل : 21] ثم دخل على سليمان فرفع رأسه ، وأرخى ذنبه وجناحيه تواضعا لسليمان عليه السلام. فقال له سليمان : أين كنت عن خدمتك ومكانك ؟ لأعذبنك عذابا شديدا أو لأذبحنك. فقال له الهدهد : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله بمنزلة وقوفي بين يديك. فاقشعر جلد سليمان وارتعد وعفا عنه. وقال عكرمة : إنما صرف الله سليمان عن ذبح الهدهد أنه
كان بارا بوالديه ؛ ينقل الطعام إليهما فيزقهما. ثم قال له سليمان : ما الذي أبطأ بك ؟ فقال الهدهد ما أخبر الله عن بلقيس وعرشها وقومها حسبما تقدم بيانه. قال الماوردي : والقول بأن أم بلقيس جنية مستنكر من العقول لتباين الجنسين ، واختلاف الطبعين ، وتفارق الحسين ؛ لأن الآدمي جسماني والجن روحاني ، وخلق الله الآدمي من صلصال كالفخار ، وخلق الجان من مارج من نار ، ويمنع الامتزاج مع هذا التباين ، ويستحيل التناسل مع هذا الاختلاف.
قلت : قد مضى القول في هذا ، والعقل لا يحيله مع ما جاء من الخبر في ذلك ، وإذا نظر في أصل الخلق فأصله الماء على ما تقدم بيانه ، ولا بعد في ذلك ؛ والله أعلم. وفي التنزيل {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء : 64] وقد تقدم. وقال تعالى : {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن : 56] . على ما يأتي في {الرَّحْمَنِ} .
قوله تعالى : {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} أي بالشرك الذي كانت عليه ؛ قاله ابن شجرة. وقال سفيان : أي بالظن الذي توهمته في سليمان ؛ لأنها لما أمرت بدخول الصرح حسبته لجة ، وأن سليمان يريد تغريقها فيه. فلما بان لها أنه صرح ممرد من قوارير علمت أنها ظلمت نفسها بذلك الظن. وكسرت {إِنَّ} لأنها مبتدأة بعد القول. ومن العرب من يفتحها فيعمل فيها القول. {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إذا سكنت {مع} فهي حرف جاء لمعنى بلا اختلاف بين النحويين. وإذا فتحتها ففيها قولان : أحدهما : أنه بمعنى الظرف اسم. والآخر : أنه حرف خافض مبني على الفتح ؛ قال النحاس :
الآية : [45] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ}
الآية : [46] {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
الآية : [47] {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا} تقدم معناه. {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} قال مجاهد : أي مؤمن وكافر ؛ قال : والخصومة ما قصه الله تعالى في قوله : {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأعراف : 75] إلى قوله : {كَافِرُونَ} . وقيل : تخاصمهم أن كل فرقة قالت : نحن على الحق دونكم.
قوله تعالى : {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} قال مجاهد : بالعذاب قبل الرحمة ؛ المعنى : لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب ، وتقدمون الكفر الذي يوجب العقاب ؛ فكان الكفار يقولون لفرط الإنكار : ايتنا بالعذاب. وقيل : أي لم تفعلون ما تستحقون به العقاب ؛ لا أنهم التمسوا تعجيل العذاب. {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} أي هلا تتوبون إلى الله من الشرك. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لكي ترحموا ؛ وقد تقدم.
قوله تعالى : {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} أي تشاءمنا. والشؤم النحس. ولا شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة. ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء ، أو يدفع مقدورا فقد جهل. وقال الشاعر :
طيرة الدهر لا ترد قضاء ... فاعذر الدهر لا تشبه بلوم
أي يوم يخصه بسعود ... والمنايا ينزلن في كل يوم
ليس يوم إلا وفيه سعود ... ونحوس تجري لقوم فقوم
وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة ، وكانت إذا أرادت سفرا نفرت طائرا ، فإذا طار يمنة سارت وتيمنت ، وإن طار شمالا رجعت وتشاءمت ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال : "أقِروا الطير على وكناتها" على ما تقدم بيانه في {المائدة} . {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} أي مصائبكم. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} أي تمتحنون. وقيل : تعذبون بذنوبكم.
الآية : [48] {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ}
الآية : [49] {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}
قوله تعالى : {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ} أي في مدينة صالح وهي الحجر {تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} أي تسعة رجال من أبناء أشرافهم. قال الضحاك. كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة ، وكانوا يفسدون في الأرض ويأمرون بالفساد ، فجلسوا عند صخرة عظيمة فقلبها الله عليهم. وقال عطاء بن أبي رباح : بلغني أنهم كانوا يقرضون الدنانير والدراهم ، وذلك من الفساد في الأرض ؛ وقاله سعيد بن المسيب. وقيل : فسادهم أنهم يتبعون عورات الناس ولا يسترون عليهم. وقيل : غير هذا. واللازم من الآية ما قاله الضحاك وغيره أنهم كانوا من أوجه القوم وأقناهم وأغناهم ، وكانوا أهل كفر ومعاص جمة ؛ وجملة أمرهم أنهم يفسدون ولا يصلحون. والرهط اسم للجماعة ؛ فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كل واحد منهم رهط. والجمع أرهط وأراهط. قال :
يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا
وهؤلاء المذكورون كانوا أصحاب قُدَار عاقر الناقة ؛ ذكره ابن عطية.
قلت : واختلف في أسمائهم ؛ فقال الغزنوي : وأسماؤهم قدار بن سالف ومصدع وأسلم ودسما وذهيم وذعما وذعيم وقتال وصداق. ابن إسحاق : رأسهم قدار بن سالف ومصدع بن مهرع ، فاتبعهم سبعة ؛ هم بلع بن ميلع ودعير بن غنم وذؤاب بن مهرج وأربعة لم تعرف أسماؤهم. وذكر الزمخشري أسماءهم عن وهب بن منبه : الهذيل بن عبد رب ، غنم بن غنم ، رياب بن مهرج ، مصدع بن مهرج ، عمير بن كردبة ، عاصم بن مخرمة ، سبيط بن صدقة ، سمعان بن صفي ، قدار بن سالف ؛ وهم الذين سعوا في عقر الناقة ، وكانوا عتاة قوم صالح ، وكانوا من أبناء أشرافهم. السهيلي : ذكر النقاش التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، وسماهم بأسمائهم ، وذلك لا ينضبط برواية ؛ غير أني أذكره على وجه الاجتهاد
والتخمين ، ولكن نذكره على ما وجدناه في كتاب محمد بن حبيب ، وهم : مصدع بن دهر. ويقال دهم ، وقدار بن سالف ، وهريم وصواب ورياب وداب ودعما وهرما ودعين بن عمير.
قلت : وقد ذكر الماوردي أسماءهم عن ابن عباس فقال : هم دعما ودعيم وهرما وهريم وداب وصواب ورياب ومسطح وقدار ، وكانوا بأرض الحجر وهي أرض الشام.
قوله تعالى : {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} يجوز أن يكون {تَقَاسَمُوا} فعلا مستقبلا وهو أمر ؛ أي قال بعضهم لبعض احلفوا. ويجوز أن يكون ماضيا في معنى الحال كأنه قال : قالوا متقاسمين بالله ؛ ودليل هذا التأويل قراءة عبدالله : {يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ. تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} وليس فيها {قَالُوا} . قراءة العامة بالنون فيهما واختاره أبو حاتم. وقرأ حمزة والكسائي : بالتاء فيهما ، وضم التاء واللام على الخطاب أي أنهم تخاطبوا بذلك ؛ واختاره أبو عبيد. وقرأ مجاهد وحميد بالياء فيهما ، وضم الياء واللام على الخبر. والبيات مباغتة العدو ليلا. ومعنى {لِوَلِيِّهِ} أي لرهط صالح الذي له ولاية الدم. {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي ما حضرنا ، ولا ندري من قتله وقتل أهله . {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} في إنكارنا لقتله والمهلك بمعنى الإهلاك ؛ ويجوز أن يكون الموضع. وقرأ عاصم والسلمي : "بفتح الميم واللام" أي الهلاك ؛ يقال : ضرب يضرب مضربا أي ضربا. وقرأ المفضل وأبو بكر : "بفتح الميم وجر اللام" فيكون اسم المكان كالمجلس لموضع الجلوس ؛ ويجوز أن يكون مصدرا ؛ كقوله تعالى : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} [يونس : 4] أي رجوعكم.
الآية : [50] {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}
الآية : [51] {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}
الآية : [52] {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
الآية : [53] {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}
قوله تعالى : {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} مكرهم ما روي أن هؤلاء التسعة لما كان في صدر الثلاثة الأيام بعد عقر الناقة ، وقد أخبرهم صالح بمجيء العذاب ، اتفقوا وتحالفوا على أن يأتوا دار صالح ليلا ويقتلوه وأهله المختصين به ؛ قالوا : فإذا كان كاذبا في وعيده أوقعنا به ما يستحق ، وإن كان صادقا كنا عجلناه قبلنا ، وشفينا نفوسنا ؛ قال مجاهد وغيره. قال ابن عباس : أرسل الله تعالى الملائكة تلك الليلة ، فامتلأت بهم دار صالح ، فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم ، فقتلهم الملائكة رضخا بالحجارة فيرون الحجارة ولا يرون من يرميها. وقال قتادة : خرجوا مسرعين إلى صالح ، فسلط عليهم ملك بيده صخرة فقتلهم. وقال السدي : نزلوا على جرف من الأرض ، فانهار بهم فأهلكهم الله تحته. وقيل : اختفوا في غار قريب من دار صالح ، فانحدرت عليهم صخرة شدختهم جميعا ، فهذا ما كان من مكرهم. ومكر الله مجازاتهم على ذلك. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} أي بالصيحة التي أهلكتهم. وقد قيل : إن هلاك الكل كان بصيحة جبريل. والأظهر أن التسعة هلكوا بعذاب مفرد ؛ ثم هلك الباقون بالصيحة والدمدمة. وكان الأعمش والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم وحمزة والكسائي يقرؤون : {أَنَّا} بالفتح ؛ وقال ابن الأنباري : فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على {عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} لأن {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} خبر كان. ويجوز أن تجعلها في موضع رفع على الإتباع للعاقبة. ويجوز أن تجعلها في موضع نصب من قول الفراء ، وخفض من قول الكسائي على معنى : بأنا دمرناهم ولأنا دمرناهم. ويجوز أن تجعلها في موضع نصب على الإتباع لموضع {كَيْفَ} فمن هذه المذاهب لا يحسن الوقف على {مَكْرِهِمْ} وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : {إِنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} بكسر الألف على الاستئناف ؛ فعلى هذا المذهب يحسن الوقف على {مَكْرِهِمْ} . قال النحاس : ويجوز أن تنصب {عَاقِبَةُ} على خبر {كَانَ} ويكون {إِنَّا} في موضع رفع على أنها اسم {كان} . ويجوز أن تكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ تبيينا للعاقبة ؛ والتقدير : هي إنا دمرناهم ؛ قال أبو حاتم : وفي حرف أُبَي {إِنَّ دَمَّرْنَاهُمْ} تصديقا لفتحها.
قوله تعالى : {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} قراءة العامة بالنصب على الحال عند الفراء والنحاس ؛ أي خالية عن أهلها خرابا ليس بها ساكن. وقال الكسائي وأبو عبيدة : {خَاوِيَةً} نصب على القطع ؛ مجازه : فتلك بيوتهم الخاوية ، فلما قطع منها الألف واللام نصب على الحال ؛ كقوله : {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً} [النحل : 52] . وقرأ عيسى بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري : بالرفع على أنها خبر عن {تِلْكَ} و {بُيُوتُهُمْ} بدل من {تِلْكَ} . ويجوز أن تكون {بُيُوتُهُمْ} عطف بيان و {خَاوِيَةً} خبر عن {تِلْكَ} . ويجوز أن يكون رفع {خَاوِيَةً} على أنها خبر ابتداء محذوف ؛ أي هي خاوية ، أو بدل من {بُيُوتُهُمْ} لأن النكرة تبدل من المعرفة. {ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} بصالح {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} الله ويخافون عذابه. قيل : آمن بصالح قدر أربعة آلاف رجل. والباقون خرج بأبدانهم - في قول مقاتل وغيره - خراج مثل الحمص ؛ وكان في اليوم الأول أحمر ، ثم صار من الغد أصفر ، ثم صار في الثالث أسود. وكان عقر الناقة يوم الأربعاء ، وهلاكهم يوم الأحد. قال مقاتل : فقعت تلك الخراجات ، وصاح جبريل بهم خلال ذلك صيحة فخمدوا ، وكان ذلك ضحوة. وخرج صالح بمن آمن معه إلى حضرموت ؛ فلما دخلها مات صالح ؛ فسميت حضرموت. قال الضحاك : ثم بنى الأربعة الآلاف مدينة يقال لها حاضورا ؛ على ما تقدم بيانه في قصة أصحاب الرس.
الآية : [54] {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}
الآية : [55] {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}
الآية : [56] {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}
الآية : [57] {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ}
الآية : [58] {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}
قوله تعالى : {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} أي وأرسلنا لوطا ، أو اذكر لوطا {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} وهم أهل سدوم. وقال لقومه : {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} الفعلة القبيحة الشنيعة. {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أنها فاحشة ، وذلك أعظم لذنوبكم. وقيل : يأتي بعضكم بعضا وأنتم تنظرون إليه. وكانوا لا يستترون عتوا منهم وتمردا. {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} أعاد ذكرها لفرط قبحها وشنعتها. {لْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} إما أمر التحريم أو العقوبة. واختيار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة الثانية من {َإِنَّكُمْ} فأما الخط فالسبيل فيه أن يكتب بألفين على الوجوه كلها ؛ لأنها همزة مبتدأة دخلت عليها ألف الاستفهام.
قوله تعالى : {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي عن أدبار الرجال. يقولون ذلك استهزاء منهم ؛ قاله مجاهد. وقال قتادة : عابوهم والله بغير عيب بأنهم يتطهرون من أعمال السوء. {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} وقرأ عاصم : {قَدَّرْنَا} مخففا والمعنى واحد. يقال قد قدرت الشيء قدرا وقدرا وقدرته. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} أي من أنذر فلم يقبل الإنذار. وقد مضى بيانه.
الآية : [59] {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}
الآية : [60] {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}
الآية : [61] {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال الفراء : قال أهل المعاني : قيل للوط {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على هلاكهم. وخالف جماعة من العلماء الفراء في هذا وقالوا : هو مخاطبة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ أي قل الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية. قال النحاس : وهذا أولى ، لأن القرآن منزل على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكل ما فيه فهو مخاطب به عليه السلام إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره. وقيل : المعنى ؛ أي {قُلِ} يا محمد {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} يعني أمته عليه السلام. قال الكلبي : اصطفاهم الله بمعرفته وطاعته. وقال ابن عباس وسفيان : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته ، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن ، وتوقيف على أدب جميل ، وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما ، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين ، وإصغائهم إليه ، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المستمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب ، فحمدوا الله وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد ، وقبل كل عظة وفي مفتتح كل خطبة ، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني ، وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن.
قوله تعالى : {الَّذِينَ اصْطَفَى} اختار ؛ أي لرسالته وهم الأنبياء عليهم السلام ؛ دليله قوله تعالى : {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات : 181] . {آللَّهِ خَيْرٌ} وأجاز أبو حاتم {أأللَّهِ خَيْرٌ} بهمزتين. النحاس : ولا نعلم أحدا تابعه على ذلك ؛ لأن هذه المدة إنما جيء بها فرقا بين الاستفهام والخبر ، وهذه ألف التوقيف ، و {خَيْرٌ} ههنا ليس بمعنى أفضل منك ، وإنما هو مثل قول الشاعر :
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
فالمعنى فالذي فيه الشر منكما للذي فيه الخير الفداء. ولا يجوز أن يكون بمعنى من لأنك إذا قلت : فلان شر من فلان ففي كل واحد منهما شر. وقيل : المعنى ؛ الخير في هذا





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 394.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 388.90 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (1.48%)]