محمود شاكر (شيخ العربية) - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13672 - عددالزوار : 738836 )           »          فضائل وآداب يوم الجمعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          آداب يوم الجمعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          الإنسان المذهول (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          إطلاق القرية على غير المدينة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          اختزال الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          من قال ١٠ مرات بعد صلاة الصبح والمغرب:لا إله إلا الله، وحده.... (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          أعمال يسيرة وأجور عظيمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          الهدي النبوي في التعامل مع حر الصيف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4896 - عددالزوار : 1916884 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام > ملتقى أعلام وشخصيات
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14-05-2025, 12:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,816
الدولة : Egypt
افتراضي محمود شاكر (شيخ العربية)

محمود شاكر (شيخ العربية) (1)

أ. د. زكريا محمد هيبة

من هو؟
هو محمود بن محمد شاكر بن أحمد بن عبدالقادر، من أسرة أبي علياء الحسينية في جرجا بصعيد مصر، ولد في الإسكندرية في ليلة الأول من فبراير سنة 1909 م، وانتقل إلى القاهرة في العام نفسه مع والده، إذ عُيِّن والده وكيلًا للجامع الأزهر، وكان قبل ذلك شيخًا لعلماء الإسكندرية.

ومحمود شاكر هو السابع في ترتيب إخوته: أحمد، وعليٍّ، وصفية، ومحمد، وفاطمة، وحسن، ومحمود، وعزيزة.

حصل شاكر وهو في المهد على لقب الباشوية! فقد كانت الصداقة قد توطَّدت بين الشيخ مـحـمـد شـاكـر (والده) وبين الخــديوي عباس حلمي الثاني، وحـدث أن زاره الخديوي مهنئًا، وطلب رؤية المولود.. فأحضره، فسأل عن اسمه فقيل له: محمود سعد الدين شاكر، فحمله في صدره وهو يقول: بل هو محمود باشا شاكر.

دراسته وتكوينه:
كان لبيت محمود شاكر الأثر الكبير في تكوينه العلمي؛ حيث وضعت بذوره الأولى، هذا البيت الذي كان ربُّه الشيخ العلامة محمد شاكر، وصاحبه فيه أخوه الأكبر أحمد الذي كان يكبره بسبع عشرة سنة، فسمح فارق السن بأن يكون له في البيت الواحد أبوان، أحدهما صديق زامله في بعض إنتاجه العلمي.

وكان هذا الشقيق الصديق -أحمد- وهو بصدد تثقيف أخيه -محمود- يلزمه بحفظ لسان العرب لابن منظور! روى د. عبدالقدوس صالح -أحد تلاميذ شاكر- فيقول: "كنت أنظر في لسان العرب في مكتبته، فرأيت في بعض الصفحات إشارات تشبه إشارة الضرب في الحساب (x) وليس بجانبها أي تعليق كان، وقد دفعني الفضول إلى أن أسأله عن هذه الإشارات المبهمة، فقال لي: غفر الله لأخي الشيخ أحمد، فقد كان يطلب إليَّ أن أحفظ ما بين كل إشارة وتاليتها في زمن يحدده لي".

انتهى شاكر من قراءة لسان العرب والأغاني، وهو بعد صغير، وحفظ ديوان المتنبي كاملًا وهو في الرابعة الابتدائية، ودار في أروقة الشعر الجاهلي ولم يبلغ الحلم!

تلقى أولى مراحل تعليمه في مدرسة الوالدة أم عباس في القاهرة سنة 1916 ثم بعد ثورة 1919 ذهب إلى مدرسة القربية بدرب الجماميز، وهناك تأثر كثيرًا بدروس الإنجليزية لاهتمامهم بها ولكونها جديدة عليه. ولأن حصص الإنجليزية كانت في بداية اليوم المدرسي، في حين تذيلت حصص العربية اليوم الدراسي؛ فقد كانت درجاته مرتفعة في الإنجليزية ورسب في العربية حينما كان في الشهادة الابتدائية! وأعاد السنة كلها، فلا ملحق لها حينئذٍ.

وفي سنة 1921 دخل المدرسة الخديوية الثانوية ليلتحق بالقسم العلمي ويتعلق بدراسة الرياضيات. وبعد اجتياز الثانوية ورغم حبه للرياضيات، وإجادته للإنجليزية؛ فضل أن يلتحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية. ولأنه كان من القسم العلمي فقد تعذر دخوله لكلية الآداب بداية، إلا أنه بوساطة من طه حسين لدى أحمد لطفي السيد رئيس الجامعة المصرية آنذاك استطاع أن يلتحق بما يريد سنة 1926.

وتعرَّف في المرحلة الثانوية على الشيخ السيد بن علي المرصفي الذي كان له الأثر القوي في تكوين الرجل وفي حبه للشعر والأدب، بل وربما في بذر البذرة الأولى التي قام عليها منهجه في التذوق. ولم ينقل عن شاكر إعجابه بأحد ممن تتلمذ عليهم -إذا استثنينا مصطفى صادق الرافعي- مثل إعجابه بأستاذه المرصفي، قال فيه: "كانت للشيخ -رحمه الله وأثابه- عند قراءة الشعر وقفات: يقف على الكلمة، أو على البيت، أو على الأبيات، يعيدها، ويرددها، ويشير بيديه، وتبرق عيناه، وتضيء معارف وجهه، ويهتز يَمْنةً ويَسْرةً، ويرفع من قامته مادًّا ذراعيه مُلوِّحًا بهما يهم أن يطير! وترى شفتيه والكلمات تخرج من بينهما تراه كأنه يجد للكلمات في فمه من اللذة والنشوة والحلاوة ما يفوق كل تصور... كنت أنصت وأصغي وأنظر إليه لا يفارقه نظري، ويأخذني عند ذلك ما يأخذني، وأطيل النظر إليه كالمبهوت، لا تكاد عيني تطرف، وصوته يتحدر في أقصى أعماق نفسي كأنه وابل منهمر تستطير في نواحيه شقائق برق يومض إيماضًا سريعًا خفيفًا ثاقبًا.... وهو يشرح ويبين كأنه هو أيضًا يحس بأنه لم يبلغ مبلغًا يرضاه في الإبانة عن أسرار هذه الكلمات والأبيات. هكذا كان الشيخ -رحمه الله-! أي علَّامة ذوَّاقة كان!".

وإذا كان الشيخ المرصفي أستاذًا لشاكر وطه حسين، فإن ما أخذه شاكر من أستاذه لا يضارعه ما أخذه طه حسين منه، فشاكر تتلمذ على الرجل تلمذة خاصة في بيت المرصفي، وتلمذة عامة في الأزهر، وكان حال الأستاذ يختلف باختلاف المكان، ففي البيت كان على سجيته منفعلًا مع درسه وشعره أيما انفعال، بينما كان وقورًا جادًّا في دروسه بالأزهر. وقد وضح هذا الفرق في الاستفادة من الأستاذ بقوله: "فهذا موضع فرق بين الذي أخذته أنا عن الشيخ والذي أخذه عنه الدكتور طه. وما كان على كل حال بقادر على أن يأخذ عنه ما أخذت؛ فإن الذي أخذته عنه وأحدث في نفسي ما أحدث، لا يبلغ السماع بالأذن منه شيئًا؛ لأنه وليد المشاهدة والعيان لا وليد الألفاظ والكلمات".

دخل محمود شاكر جامعة الملك فؤاد (القاهرة الآن)، حيث التحق بكلية التجارة؛ لأنه جاء من الثانوية بقسمها علمي رياضيات، لكنه تحوَّل إلى كلية الآداب بتوسط طه حسين له إلى أحمد لطفي السيد، حيث أقنع الأول الأخير بجدارة الفتى، وأنه يحفظ الأغاني ولسان العرب؛ فقُبِل شاكر بكلية الآداب.

وفي الجامعة استمع شاكر لمحاضرات طه حسين عن الشعر الجاهلي وهي التي عرفت بكتاب "في الشعر الجاهلي"، وكم كانت صدمته حين ادَّعى طه حسين أن الشعر الجاهلي منتحل، وأنه كذب مُلفَّق لم يقُلْه أمثال امرئ القيس وزهير، وإنما ابتدعه الرواة في العصر الإسلامي، وضاعف من شدة هذه الصدمة أن ما سمعه من المحاضر الكبير سبق له أن اطَّلَع عليه بحذافيره في مجلة استشراقية في مقال بها للمستشرق الإنجليزي مرجليوث!

وتتابعت المحاضرات حول هذا الموضوع، وصاحبنا عاجز عن مواجهة طه حسين بما في صدره، وتمنعه الهيبة والأدب أن يقف مناقشًا أستاذه، وظل على ذلك زمنًا لا يستطيع أن يتكلم حتى إذا لم يعد في الصبر والتحمُّل بقية، وقف يرد على طه حسين في صراحة وبغير مداراة، لكنه لم يستطع أن يواجهه بأن ما يقوله إنما هو سطو على أفكار مرجليوث بلا حياء أو اكتراث.

ومن هنا يكون طه حسين هو السبب في دخول شاكر لكلية الآداب، وهو نفسه المتسبب في تركه إياها!

بعد ترك الرجل للجامعة عكف على قراءة الشعر الجاهلي، بل وكل كلام عربي، سواء كان شعرًا جاهليًّا، أو إسلاميًّا، أو شعرًا حديثًا، وأخذ منه هذا الموقوف عقدًا من الزمان استمر من عام 1928 حتى عام 1938.

حفظه وذاكرته القوية:
يقول د. عبدالقدوس صالح -أحد تلاميذه-: "من شواهد حفظه للشعر القديم ما رأيته من محاورة تمَّت أمامي بين الصديق الدكتور "محمد علي الهاشمي" وبين الدكتور "حسين نصار"، وكان الدكتور الهاشمي يحقق جمهرة أشعار العرب، فسأل الدكتور حسين نصار عن بعض الأبيات في الشعر الجاهلي لم يهتدِ إلى قائلها، وما كان من الدكتور نصار إلا أن قال له دون تردُّد: اسأل شيخك محمود شاكر فهو يحفظ الشعر الجاهلي.

وكنت في أثناء تحقيقي لشرح ديوان ذي الرمة وقفت حائرًا أمام نحو أربعين شاهدًا من شواهد الشرح، لم أستطع الاهتداء إليها في مظانِّها على ما بذلت من جهد، ولما سألت الشيخ محمود شاكر عنها، إذا به يرشدني فورًا إلى نحو نصفها، ذاكرًا اسم القائل واسم المصدر الذي يحتوي الشاهد، أما النصف الآخر فقد أراد أن يسهل عليَّ متابعة البحث عنها، فقال لي عن كل شاهد منها: ليس هذا البيت معروف القائل، ولا هو من شعر فلان وفلان وفلان".

وقد وقفت عاجزًا عن تخريج عبارة وردت في أثناء شرح ديوان ذي الرمة، وهي قولهم: "إن ابن آدم ومتاعه على قَلَتٍ إلا ما وقى الله"؛ أي: على هلاك. ولما سألت عنها الشيخ محمود لم يتلبث في الإجابة بأكثر مما يتلبث المشتغل على الحاسوب "الكمبيوتر" في الضغط على أزرار الجهاز، ثم قال لي: "أظن أني قرأت هذه العبارة في الطبعة القديمة لكتاب "البيان والتبيين" للجاحظ، وما دامت الطبعة التي حقَّقها الأستاذ عبدالسلام هارون تحتوي على فهرس لغوي فانظر فيها لعلك تجد هذه العبارة". وقمت من فوري لأنظر في البيان والتبيين، حيث وجدت العبارة بنَصِّها، وأخذ مني العجب مأخذه حين قرأت في مقدمة التحقيق التي كتبها الأستاذ عبدالسلام هارون أن الطبعة القديمة التي قرأها الشيخ محمود شاكر، ورأى فيها تلك العبارة، مضى على صدورها نحو من ستين عامًا!

على أن أطرف ما حدث بيني وبين الشيخ محمود شاكر أني سألته عن معنى بيت عويص من شواهد شرح ديوان ذي الرمة، ولما أخذ ينظر في البيت رآني قد عزوته إلى كتاب "معاني الشعر" للأشنانداني، فأنكر عليَّ ذلك، ومضى على عادته يسلقني بلسانه الحاد قائلًا: لا أدري كيف تدرس في الجامعة وأنت تخطئ في عزو بيت من الشعر إلى مصدر لم يرد فيه.

وأجبت قائلًا: إنني تلميذك يا أستاذ محمود، وقد درست في الجامعة نحوًا من ثماني سنوات، ومن المحال أن أقع في مثل هذا الخطأ الذي لا يقع فيه طالب مبتدئ. وهنا ثارت ثائرة الشيخ وقال بالحرف الواحد: "انتظر، وسأريك مدى جهلك ومكابرتك".

وأسرع الشيخ إلى إحدى الغرف الداخلية- وغرف البيت كلها مملوءة بأرفف الكتب- وجاء بكتاب "معاني الشعر" للأشنانداني، وفتح الكتاب على الصفحة التي عزوت إليها الشاهد العويص، فإذا بالشاهد مثبت في الكتاب كما عزوته بالضبط، وهنا احمرَّ وجه الشيخ خجلًا، وظهرت عليه أمارات الضيق والتبرُّم، وكان يتلفت يَمْنةً ويَسْرةً، ويعيد النظر في الكتاب، وكأنه لا يصدق ما يرى بأُمِّ عينه، ولا يصدق أن ذاكرته العجيبة قد خانته هذه المرة.

وقلت للشيخ مهدئًا روعه، بعد أن أخذت الكتاب من يديه، ونظرت في غلافه وعرفت اسم المحقق: هوِّن عليك يا أستاذ محمود، فأنت قرأت كتاب معاني الشعر في طبعته التي حققها الأستاذ "عز الدين التنوخي"، وأنا رجعت في عزو هذا البيت إلى الطبعة التي حققها الدكتور "صلاح الدين المنجد" الذي عثر على مخطوطة للكتاب لم تصل إلى الأستاذ التنوخي، وفي هذه المخطوطات زيادات منها هذا البيت دون شك.

وسارع الشيخ محمود شاكر مرة أخرى ليأتي من إحدى الغرف بطبعة الأستاذ عز الدين التنوخي، وتأكد أن الشاهد لم يرد فيها، وعندئذٍ تنفَّس الصعداء قائلًا: "الله يرضى عليك.. لقد خفت أشد الخوف وقلت: محمود شاكر قد خرف".




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15-05-2025, 01:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,816
الدولة : Egypt
افتراضي رد: محمود شاكر (شيخ العربية)

محمود شاكر (شيخ العربية) (2)

أ. د. زكريا محمد هيبة



منهج التذوق عنده:
بدأ محمود شاكر بإعادة قراءة ما وقع تحت يده من الشعر العربي، قراءةً تختلف عن الأولى في أنها متأنية تتوقف عند كل لفظ ومعنى محاولًا الوصول إلى ما قد يكون أخفاه الشاعر في ألفاظه بفنِّه وبراعته، وهذا هو أساس منهج التذوق الذي جعله منهجًا شاملًا يطبقه على كل الكلام شعرًا كان أو غيره، فأقدم على قراءة كل ما يقع تحت يده من كتب أسلافنا: من تفسير لكتاب الله، إلى علوم القرآن، إلى دواوين الحديث، إلى ما تفرع منها من كتب مصطلح الحديث، والجرح والتعديل، وغيرها من كتب أصول الفقه وأصول الدين، وكتب المِلَل والنِّحَل، ثم كتب البلاغة والنحو والتاريخ؛ بحيث يكون اتجاهه من الأقدم. ومع تطبيقه لأسلوب التذوق كان يقرأ كل التراث على أنه إبانة عن خبايا كاتبه. يقول: "وشيئًا فشيئًا انفتح لي الباب على مصراعيه؛ فرأيت عجبًا من العجب، وعثرت يومئذٍ على فيض غزير من مساجلات صامتة خفية كالهمس، ومساجلات ناطقة جهيرة الصوت، غير أن جميعها إبانة صادقة عن الأنفس والعقول.

يقول شاكر: "......وببديهة العقل لم يكن من عملي، ولا من عمل أي كاتب مبين عن نفسه، أن يبدأ أول كل شيء فيفيض في شرح منهجه في القراءة والكتابة ثم يكتب بعد ذلك ما يكتب ليقول للناس ها هو منهجي، وها أنا قد طبقته، هذا سخف مريض غير معقول، بل عكسه هو الصحيح المعقول، وهو أن يكتب الكاتب مُطبِّقًا منهجه، وعلى القارئ والناقد أن يستشف المنهج ويتبينه، محاولًا استقصاء وجـوهـه الظاهرة والخفية، مما يجده مطبقًا فيما كتب الكاتب".

أعماله:
يعد شاكر على رأس قائمة مُحقِّقي التراث العربي، وأطلق عليه العقاد المحقق الفنان، وإنجازاته في هذا المجال كثيرة، وهي عنوان على الدقة والإتقان، ومن أشهر الكتب التي حقَّقها: تفسير الطبري (ستة عشر جزءًا)، طبقات فحول الشعراء (مجلدان)، تهذيب الآثار للطبري (ستة مجلدات).

وشاكر لا يحب أن يُوصَف بأنه مُحقِّق لنصوص التراث العربي، وإنما يحب أن يُوصَف بأنه قارئ وشارح لها، وهو يكتب على أغلفة الكتب التي يقوم بتحقيقها عبارة: "قرأه وعلَّق عليه".

وفق كتب التحقيق فإن له مؤلفات وإن لم تكن كثيرة لكنها عميقة وذات تأثير كبير في الأوساط الأدبية لفترة طويلة، منها: المتنبي، أباطيل وأسمار، القوس العذراء، نمط صعب ونمط مخيف، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، مدخل إعجاز القرآن، الأحرف السبعة...

حدَّة محمود شاكر:
كل من اقترب من محمود شاكر عرَف فيه اندفاعة ملحوظة لا تخطؤها عين.

نقل حسين أحمد أمين عن حوار بينه وبين صاحب دار وهبة للنشر حينما كان الأول بصدد شراء نسخة من كتاب فحول الشعراء تحقيق محمود شاكر، يقول حسين أحمد أمين: وإذ دخلت مع وهبة في حديث عبرت خلاله عن إعجابي بشاكر كمُحقِّق، سألني عما إذا كنت أعرف الرجل شخصيًّا، فأجبت بالنفي. فإذا به يتمتم وهو يبتسم: "أن تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه".

وسألته مندهشًا: كيف؟ أتعرفه شخصيًّا؟


قضينـا فتـرة في السجن في زنـزانـة واحـدة خلال حكم جمـال عبدالناصر، وكنت شديد الإعجاب به قبلها، فلما عاشرته إذا هو أثقل النـاس وطأة، وأقلهم أدبًا ومراعاة لمشـاعـر الآخرين. كنت على استعداد بسبب تقديري العظيم له لأن أكون خادمه في الزنزانة. غير أنه تقَبَّل خدمتي له كأمر طبيعي، وعاملني معاملة الخادم الأجير.

أي نوع من الشخصيات هو؟

فظ، فظ، فظ! وفي ظني أن مفتاح شخصيتـه يكمن في إحسـاسـه العميق بالفشل رغم ثقافته الأصيلة، ومواهبه الجمة، وشعوره بأن حياتـه قد ضاعت سُدًى ....."

ويحكي حسين أحمد أمين في لقاء جمعه بمحمود شاكر وكيف كان شاكر صُلْبًا وحادًّا لأبعد الحدود. تعالَ نسمع ما حكاه حسين أحمد أمين:
"وصلنا إلى الشقة ففتح لنا بابها شاب دمیم، شدید الأُدْمة، يرتدي جلبابًا، حسبته الخادم، حتى حيَّاه محمد المعلم تحيةً حارةً وناداه باسمه "فهر"، فأدركت أنه ابنُ رَبِّ الدار. ودلفنا مباشرةً إلى الصالة، فإذا بمحمود شاكر وأم فهر وابنته وزوج ابنته وقد اجتمعوا حول جهاز التليفزيون يتابعون إحدى حلقات تمثيلية مسلسلة. وقد كانت صدمة لي أن أرى هذا العملاق المخيف جالسًا أمـام التليفزيون يضيع وقته بمراقبة تمثيلية غثة. غير أنه ترك مقعده أمام الجهاز عن طيب خاطر، واصطحبنا إلى صالون صغير ملحق بالصالة. وإذا اعتذرنا له عن قدومنا في وقت غير مناسب ودعوناه إلى إكمال مشاهدة التمثيلية، تظاهَرَ ضاحكًا بعدم المبالاة بتفاهات التليفزيون. هنَّأه المعلم بجائزة الملك فيصل، وكان واضح السرور بها. وعندما عَرَّفته بنفسي لم ألحظ في وجهه أي رد فعل، فأيقنت أنه لم يقرأ شيئًا من كتاباتي، كما رجحت بسبب فتور ترحيبه بي أنه لم يكن على علاقة طيبة بأبي. ثم بدأنا نتحدث عن الجائزة، فقال شاكر في مرارة: إنه رغم أهميتها العظمى، ورغم أنه شرف عظيم لمصر أن تُعطى الجائزة لأحد أبنائها، لم تتحدَّث أيٌّ من الصحف أو المجلات المصرية ولو في سطر واحـد عن فوزه بها، وهو ما ارتأه دليلًا قاطعًا على أن ثمة مؤامرةً ضده. غير أن محمد المعلم نفى أن يكون الإغفال مقصودًا، ونسبه إلى قصور من صحافتنا في تغطية الأخبار. ثم قال: سأتصل الليلة بأحمد بهجت في الأهرام، وأطلب منه أن يكتب مقالًا في الموضوع في الصفحة الأدبية. قالها بلهجة الواثق من أن أحمد بهجت لا بد ممتثل للأمر، وكأنه موظف عنده في "دار الشروق"، غير أن هذا لم يكن مفاجأة لي.

فقال شاكر: هيهات يا سيدي، هيهات! أليس كافة موظفي الأهرام من تلاميذ حسنين هيكل، ذلك الذَّنَب الأكبر للاستعمار الغربي؟ وعلى أي حال فإن رسالة الأهرام هي هي لم تتغيَّر منذ كان يرأس تحريرها تقلا الذي بصق في وجه أحمد عرابي. هي عملية الاستعمار منذ عهد تقلا إلى عهد إبراهيم نافع. ثم شرع يتحدث عن كيف أن لويس عوض، بعـد صـدور "أبـاطـيـل وأسمار"، شعر بأن من واجبه إزاء فداحة الاتهامات التي وجَّهَهـا شـاكـر إليه، وعجزه عن الرد عليها، أن يتقدم باستقالته من الأهرام إلى حسنين هيكل، غير أن هيكل رفض قبولها، وأصرَّ على أن يـواصـل لـويس عمله وكتـابـاتـه في الصحيفة. ثم قال مُوجِّهًا الحديث إلى المعلم: أتحسب أن أحدًا من زملائي الأفاضل أعضاء المجمع اللغوي خطر في ذهنه أن يهنئني على فوزي بالجائزة؟ لا يا سيدي، بل إن منهم من بلغت به القحة حد الاستهزاء أمامي بقيمتها الأدبية. غير أني لم أعبأ بالرد أو المعاتبة؛ إذ ماذا عساي أن أتوقَّع من أناس كهؤلاء؟

ولاحظ المعلم أن شاكرًا لم يوجه إليَّ كلمة منذ أن استقر بنا المجلس، ولا يكاد يلتفت إليَّ بوجهه في أثناء حديثه، فحسب أنه لم يسمع اسمي واضحًا حين عَرَّفته بنفسي. فانبرى يقول: الأستاذ حسين أمين هو ابن أستاذنا المرحوم أحمد أمين. قال شاكر: أعرف ذلك. وقد نشرنا له مؤخرًا كتابًا بعنوان "دليل المسلم الحزين"، أحرز نجاحًا عظيمًا. سأرسل إلى سيادتك في الصباح نسخة منه. فإذا بمحمود شاكر يشير بذراعه إلى الباب المفتوح لغرفة مكتبه (إشـارة إلى أن الكتاب موجود بها)، ويتمتم قائلًا: قرأتُه!

قلت في دهشة: قرأت سيادتك "دليل المسلم الحزين"؟

أيوه يا سيدي!

وما رأيك فيه؟

فوت! (أي لا داعي للحديث عنه).

اسمح لي بأن أصر على سماع رأيك مهما كان.

اعتدل في مجلسه ليواجهني، ثم قال: أتحسبني غافلًا يا سيد حسين عما تفعله؟ أتحسبني غافلًا عن نوايـاك وخططك من وراء مقالاتك في "المصور" أو كتابك هذا؟ لا يا سيد حسين! لا أنا بالغافل ولا أنا بالأبْلَه حتى أسميـك كما أسماك عبدالعظيم أنيس منذ أسبوع في "الأهالي" بالكاتب الإسلامي المستنير. ما معنى "الإسلام المستنير" بالله عليك؟ أهناك إسلام مستنير وإسلام غير مستنير، أم أن الإسلام كله نور ومن لم يستنر به لا يجوز وصفه بأنه مسلم؟ الكاتب الإسلامي المستنير حسين أمين! محمد عمارة! فهمي هويدي! حسن حنفي! دعني أقول لك: إن كل ما تكتبونه هو عبث أطفال. نعم، مجرد لعب عيال! كلكم أطفال. يقرأ أحـدكم كتابين أو ثلاثة فيحسب نفسه مجتهدًا ومؤهلًا للكتابة عن الإسلام والإصلاح والاستنارة! محمد عمارة هذا تبلغ به الصفاقة والادِّعـاء والجهل مبلغًا يجعله يصف كتاب محمد عبده "رسالة التوحيد"، بأنه من أهم ما كتب في التراث الإسلامي في علم الكلام! لا يا شيخ؟! هل قرأت يا سيد عمارة كـل ما كتب في التراث الإسلامي في علم الكلام، ثم وصلت إلى اقتناع بأن هـذا الكتاب الهزيـل الحقيـر الغـث لمؤلفه ضحـل الثقافة، من أهم الكتب في الموضوع؟! ما هذا العبث وهذا الاستغلال لجهل الناس؟! لا . . الأمر أخطر من ذلك. إنها مؤامرة!

مؤامرة؟!

مؤامرة تستهدف تمجيد رجلين من أخطر عملاء الاستعمار في تاريخ أمة الإسلام: جمال الدين الأفغاني الماسوني، ومحمد عبده الصديق الصدوق لكرومر. ودخلت زوجته السمينة، بعد انتهاء التمثيلية، تدور علينا بأكواب الشاي. فرشف شاكر من كوبه رشفةً بصوت هائل، ثم عاد يتمتم: نعم، تبدو مندهشًا! غير أني قائل لك إن المسؤولية عن معـظم ما يعاني منه الإسلام اليوم تقع على عاتق هذين الخبيثين، خاصة الأفغاني الذي هو أُسُّ الفساد كله. وقد تعجبـان إن قلت لكما إنني متفق مع لويس عوض في الرأي بأن الأفغاني كان مجرد متآمر، وأنه لم يكن صحيح الإسلام.

وعلى أي حال فإن رأي لويس ليس جديدًا، وكل هذه الأمور كانت معروفة عن الأفغاني حتى أثناء حياته. وبدا محمد المعلم نفسه مذهولًا، رغم صلته الوثيقة القديمة بشاكر. فكان أن خيم علينا الوجوم، وساد المجلس سكون لم يقطعه غير صوت احتساء ربِّ الدار لشايه وقد بدا غير عابئ بما أصابنا.

ألف حسرة على العالم الإسلامي وأمة الإسلام! جهل مطبق بالفكر الإسلامي وبالتاريخ الإسلامي. تدهور رهيب في اللغة العربية، نظم التعليم في مدارسنا غربية محضة. حتى الجماعات المسماة بالإسلامية قد ألقت بتراث أربعة عشر قرنًا في صندوق القمامة. نعم، ولكنهم ينبرون للتهليل لإسلام جارودي وكأنه حدث هام في تاريخ الإسلام، وذلك لمجرد أن هذا الأفَّاق الانتهازي نطق أمامهم بالشهادتين وأثنى على الإسلام في كتب له كلها أخـطاء وكفر ومغالطات. وبعضهم يهلل للخميني والثورة الإيرانية والاثنـا عشرية، وما منهم من يدري أن الاثنا عشرية هم غلاة الشيعة لا معتدلوها كما يزعمون، وأن الخميني كافر زنديق.

کافر زندیق؟!

بالتأكيد. ألم يقل بتحريف القرآن وتزنية عائشة؟

قلت: إزاء فرحة اتهامك للأفغاني ومحمـد عبـده، سـأكـون شـاكـرًا لو فصَّلت لنا الأمر.

وسأكون أنا شاكرًا لو غيَّرت الموضوع.

وهو كذلك. هل لي أن أسألك سؤالًا يحيرني منذ مدة؟

قل.

ما السبب يا تُرى في قلة إنتاجك مع غزارة علمك؟

امتقع وجهه امتقاعًا شديدًا لسؤالي، وخُيِّل إليَّ لأول وهلة أنه في سبيل أن يسبني سبًّا غليظًا. غير أنه سرعان ما تمالك نفسه وقال في هدوء: لماذا توقفت عن الكتابة بعد صدور كتابي عن المتنبي؟ أقول لك بكل بساطة يا سيد حسين: إنني خشيت على نفسي من أن يصيبني الغرور، لقد كتبت المتنبي، في أيام الحداثة، ووصلني بعد صدوره أكثر من ثمانين رسالة تثني عليه وترفعه إلى السماء. وظللت مدة لا تكاد الدنيا تسعني من النشوة والزهو، إلى أن أفقت لنفسي، أفقت لنفسي وقررت التوقف عن الكتابة. بالضبط كما فعل الشاعر على محمود طه ولنفس السبب . . . الكتابة لا تهمني وإنما تهمني نفسي وتقويم ذاتي. وكان أن انصرفت إلى تحقيق الكتب القديمة وبذلت كل جهدي وطاقتي في أن يكون التحقيق غاية في الدقة والإتقان.

غير أنك توقفت عن إكمال تحقيقك لتفسير الطبري.

قال في ضيق وهو يتململ في مقعده: نعم؛ لأن الناشرين معظمهم لصوص. لا تؤاخذني يا محمـد بك! ولأن الناس لم تعد تقرأ. فإن قرأوا فليست الكتب الجادة هي التي يقرأونها، وإنما يقرءون لأنيس منصور، ومحمود السعدني، ومحمد عمارة.

قلت: وحسين أمين.

فرَدَّ: وحسين أمين!

هل لي أن أسألك عن علاقتك بوالدي كيف كانت؟

ابتسم ابتسامة خبيثة ثم قال: فوت!

لا يا أستاذ شاكر لن أفوت!

لم أكن أحبه. لحظة صمت.

ولمَ؟

ما كل هذه الأسئلة المحرجة؟ تريد أن تعرف لماذا لم أكن أحبه؟ حسنًا. لم أكن أحبه لأنه كان رجلًا خبيثًا داهية.

لم يكن ثمة رجل أطيب قلبًا ولا أبسط من أبي.

وانفجر شاكر ضاحكًا. ولدهشتي البالغة إذا بمحمـد المعلم هو أيضـًا يشاركه الضحك لقولي: إن أبي كان طيب القلب. قال المعلم: لا تؤاخذني يا حسين بك، ولكن المرحوم أحمد أمين لم يكن طيب القلب على الإطلاق، ولا كان رجلًا بسيطًا.

كيف؟ كيف؟

قال شاكر: لن نخوض في هذا الأمر. عبد الوهاب عـزام، على عيوبه، كان رجلًا طيبًا بسيطًا، أما أحمد أمين فلا. ولكنه على أي الأحوال لم يكن في خبث طه حسين ودهائه ومكره. غير أن ما أعيبـه حقيقة على أحمـد أمين هو أنـه وهو الرجل العالم المثقف الذي كان بوسعه أن يقدم فكرًا جديدًا مبتكرًا في ميدان الدراسات الإسلامية، والذي يجبُّ علمـه علـم كـافـة المستشرقين، استسلم وأذعن لتأثير طه حسين وآرائه، ووقف مـوقـفـًا ذليـلًا من أحكـام المستشرقين الخبثاء الحاقدين على الإسلام، وتبنَّى في كتبه: فجـر الإسـلام، وضُحاه، وظُهْره هذه الأحكام، دون أن يجرؤ على تفنيدهـا والتصدي لها... ما هذا الذل، وهذه الاستكانة، وهذا الضعف، سواء منك أو من أبيك، تجـاه المستشرقين الغربيين؟ أهم أدرى بتراثنا وأقدر على إصدار الأحكام بصدده من علمائنا نحن الذين نهلوا من هذا التراث مع لبن أمهاتهم ونشأوا عليه منذ نعومة أظفارهم؟! كيف يكون من حق "خواجة" بدأ في تعلم العربية في سن العشرين أو الثلاثين، ويظل "يتهته" بها إلى أن يموت، أن يُدلي برأي في المُعلَّقات السبع، وأن يصدر حكمًا على المتنبي أو أبي العلاء؟! كيف تسوغ لمسيحي صليبي نفسه أن يتحدث عن الأشاعرة أو المعتزلة حديث الواثق المطمئن لمجرد أنه قرأ كتابين أو ثلاثة في الموضوع؟! أيجوز لي، وأنا العربي، مهما بلغ إتقاني للغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي أن أؤلف كتابًا عن تشوسر شبيهًا بذلك الذي كتبه بلاشير الفرنسي عن المتنبي؟ هل أسمح لنفسي، وأنا المسلم، أن تبلغ بها الصفاقة والغـرور حد الكتابة عن دقائق الاختلاف بين المذاهب المسيحية؟ كيف يمكن لعالم إسلامي فذ كأحمد أمين أن يقع في فخِّ هؤلاء الصليبيين؟! الأمر في حالة طه حسين أيسر فهمًا؛ فهو لم يقع في الفخ، وإنما قرر باختياره الحر أن يشارك الصليبيين في نصب الأفخاخ لبني قومه ودينه. أما أحمد أمين، بالرغم من ذكائه وعلمه وصدق إسلامه، فقد وقع "زي الشاطر" في حبـائل الشيطان.

ثم استطرد يقول: كلمني هذا الصباح المدعو مارسدن جونز الأستاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، يريد أن يجتمع بي. رفضت، وقلت له: إنني لا أريد أن أجتمع به. أتسمع عن مارسدن جونز هذا؟

محقق كتاب المغازي للواقدي.

آه! حتى أنت قد صدقت هذه الأكذوبة كسائر الناس. مارسدن جونز لم يحقق مغازي الواقدي ولا بذل فيه إلا أضعف الجهد. وهذا هو السبب في أني رفضت مقابلته. فقد حدث يومًا أن جاءني رجل مصري "غلبان" اسمه عبدالفتاح الحلو، وأخبرني أنه هو الذي حقَّق كتاب المغازي من أوَّلِه إلى آخره بناء على تكليف من مارسدن جونز ومقابل بضعة جنيهات كان في حاجة ماسة إليها، ولم يظهر اسمه على الغلاف لا باعتباره محققًا ولا حتى باعتباره مشتركًا في التحقيق، واكتفى جونز بالإشارة إليه في المقدمة باعتباره أحد الذين قدموا له العون أثناء تحقيقه للكتاب! هذا مجرد مثل لأخلاقيات هؤلاء المستشرقين الذين تغنَّى والدُك بفضلهم!

وما الذي مال بك إلى تصديق زعم عبدالفتاح الحلو دون تصديق زعم مارسدن جونز أنه محقق الكتاب؟

قال شاكر - في ضيق وهو يتململ في كرسيه مؤذنًا بانتهاء الجلسة: الذي مال بي إلى تصديق زعم الحلو يا سيد حسين هـو مـعـرفتي بأخلاقيات المستشرقين: بالمر، جيب، ماسينيون، مـرجـوليـوث، شاخت، كلهم خنازير استعماريون. وإني لأرد على كل عربي يتحدث عن فضل هؤلاء سواء في تعليمنا المنهج العلمي في تحقيق التراث أو في كتابة التاريخ أو غير ذلك، بأن المسلمين هم الذين خرجوا على الدنيا في عصرهم الذهبي بالمنهج العلمي في التأليف، وهم الذين ابتدعوا وضع الفهارس للكتب لا الغربيون كما يدعون. لقد وضعت بنفسي فهارس كتاب المقريزي "إمتاع الأسماع"، الذي حققته، فوصلتني رسالة من مستشرق فرنسي شهير يبدي فيها انبهاره بروعة هذه الفهارس، ويقول: إنه ليس بوسع أي غربي أن يأتي بمثلها. فالمسألة إذن ليست مسألة فضـل، وإنما هي تتعلق بخيبـة المسلمين المحدثين حيـال تراثهم. كل الأمور معنا تسير من سيئ إلى أسوأ؛ في الثقافة، والسياسة، والاقتصاد، والأخلاق..... والله سبحانه وتعالى إنما يعاقبنا على ما نرتكب وما نهمل، وهو على كل شيء قدير. وتحرك في مقعـده حـركـة من يهمُّ بـالـوقـوف، فنهضنا على الفـور للانصراف.

بدري يا جماعة!

وكرَّر محمد المعلم عند باب الشقة وعده بأن يتصل بأحمد بهجت حتى يكتب عن الجائزة.

قال شاكر: لا تتعب نفسك... لن ينشروا شيئًا. إنها مؤامرة يا صديقي، وعزم قاطع من جانب السلطة على ألا يذكر اسم العبد الفقير في الصحف والمجلات لا بخير ولا بشَرٍّ حتى ينسى الناس وجودي. لا بأس.. لا بأس... شرفتم... خطوة عزيزة.

وعاد المعلم يهنئه بالجائزة، غير أني حين حاولت أن أحذو حذوه لم يطاوعني لساني".

وواضح تحامل حسين أحمد أمين على شاكر؛ من قبيل "أن عين السخط تبدي المساويا"، وإلا فما تفسيرك من أقواله التي تناثرت في وصف الموقف: "ففتح لنا بابها شاب دمیم، شدید الأُدْمة .... حسبته خادمًا ..... أرى هذا العملاق المخيف جالسًا أمـام التليفزيون يضيع وقته بمراقبة تمثيلية غثة...... ودخلت زوجته السمينة، بعد انتهاء التمثيلية، تدور علينا بأكواب الشاي. فرشف شاكر من كوبه رشفةً بصوت هائل .... وخيِّل إليَّ لأول وهلة أنه في سبيل أن يسبني سبًّا غليظًا، غير أنه سرعان ما تمالك نفسه وقال في هدوء...".

وهي سقطات تبدي عدم موضوعية حسين، وأنه وقع في حبائل التحيز الذي هو مقتلة للباحث المدقق، ألم يكن في غنى من ذكر "فهر" بأنه حسبه خادمًا لأنه دميم، وألم يكن في غنى عن وصف زوجة شاكر بأنها سمينة، بتكراره الوصف في مرتين، ثم ما الذي نستفيده من هذا السرد من أن شاكر كان يشرب الشاي بصوت هائل، غير التعريض بجلافة الرجل، ثم ما أدراه أنه كان يشاهد تمثيلية، فضلًا عن أنها غثة، وهل باتت مشاهدة التليفزيون مضيعة للوقت، وأليس له الحق في الترفيه مع أسرته بما يراه ما دام لا يتعارض مع عُرْف أو دين؟! وكيف عرف أن الرجل في طريقه إلى أن يسبه؛ حينما سأله عن سبب قلة إنتاجه؟!

غير أنه في الأحوال جميعها نتفق مع حسين أمين بأن شاكرًا كان مندفعًا، حاد المزاج، ويمكن ربط ذلك بما سيأتي في حديثنا عن نفسه الثائرة.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 75.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 73.57 كيلو بايت... تم توفير 2.13 كيلو بايت...بمعدل (2.82%)]