أسباب الإلحاد وسُبُل مواجهته
الإلحاد ليس انحرافًا فكريا حادثًا فحسب، بل هو ممَّا زاغت به قلوب فِئام من البشر قديمًا، ويعود إلى عصور ما قبل الميلاد، إلَّا أنَّ هذا الانحراف وهذه الضلالة قد راجت في العصر الحديث، ولا سيما في عصرنا الحالي في مطلع القرن الحادي والعشرين؛ فاجتالت تلك المشكلة بعض النَّاس، وصرفتهم عن الفطرة التي فطرهم الله عليها، ولم تكن مشكلة الإلحاد بهذا الظهور والاتساع والحدَّة، إلَّا أنَّه في القرنين الماضيين اجتمعت عوامل عديدة صيَّرت الإلحاد والكفر بالله -تعالى- ظاهرة في المجتمعات الغربية، ثم بدأ الخطر ينتقل إلى مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
ويبقى التساؤل المطروح دائمًا هو: لماذا يتجه شبابنا إلى الإلحاد؟
يختصر بعضهم الأسباب إلى سبب واحد أو سببين اثنين، وهذا غير مقبول كون المشكلة كبيرة ومعقدة ومبنية على عوامل وأسباب متداخلة فيما بينها، ويرجع تأثر نفر من الناس بالإلحاد في العالم الإسلامي ولا سيما العالم العربي إلى ما يأتي:
أكد الباحثون في مجال الإلحاد أنَّ هناك أسبابا عدة محورية أدت إلى ظهور الإلحاد في العالم العربي من أهمها:
الهزيمة الحضارية للعالم الإسلامي
فالهزيمة الحضارية التي سيطرت على واقع الأمة أدَّت إلى انسلاخ بعض المسلمين عن عقيدتهم ودينهم، ولذلك يقال أنَّ الاستعمار فاتح أبواب الإلحاد، أو هو أبو الإلحاد، فظهرت هذه الهزيمة إبَّان الاستعمار الأوروبي للبلاد الإسلامية بعد سقوط الخلافة العثمانية وما رافقة من ظهور الإلحاد في الغرب، وحملات التنصير وحصر الدين الإسلامي بالعبادة، ومن ثم التدخل في رسم سياستها الخارجية ونظامها والاقتصادي وإبعادها عن منهجها الأصيل المستمد من القرآن الكريم وسنة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم .
لا شك أنّ سقوط الخلافة العثمانية وانهيارها بعد الحرب العالمية الأولى سنة: (1924م)، قد سرَّع بولادة أحزاب يسارية، ومعظمها مال إلى العمل السري لتستنسخ لنا الفكر الشيوعي بلباس عربي فلسفي، فظهرت بأيدولوجية غريبة عن المجتمع الإسلامي العربي.
وتزامن مع هذه الأحزاب الشيوعية ولادة أحزاب علمانية، ولا سيما في ستينيات القرن العشرين، لتنقل لنا تجربة فصل الدين عن السياسة في الغرب، كي تصل إلى الحكم والسياسة بعيدًا عن تشريعات الدين الإسلامي، فبعض الملاحدة تستروا بالواجهات الوطنية والقومية وإظهار الغيرة على الوطن لكنه يطعن في الدين، وما إن يصل إلى مناصب عالية في السلطة حتى تراه يبث سمومه في الطعن في الدين.
لا يجد الملحد أي قيد ليعلن إلحاده بحرية والدعوة إليه دون خوف أو رادع من القوانين الموجودة، كذلك لا نجد عقوبات لتارك الدين والمرتد عنه، أو لمن يتعدى على الذات الإلهية، أو الأنبياء، أو القرآن والكتب السماوية، فمن الحكمة للدول الإسلامية اليوم أن تحافظ على عقيدتها، وتمنع طيش من ألحد تحت رايتها؛ فالملحد في العصور الماضية لم يتجرأ أن يعلن عن إلحاده؛ بسبب قوة الأحكام الصادرة ضده، أمَّا اليوم فقد ظهر الإلحاد وأصبح له قنوات ومواقع ومقاه، ومراكز ثقافية، فينبغي التنبه لخطورة هذا الأمر قبل فوات الأوان.
ظهور حركات المستشرقين التي تعد المصنع الرئيسي للشبهات والطعون والتشكيك في ثوابت الدين، وكانوا يستعملون لهذا الهدف أدوات كثيرة؛ فزادوا من الدس في الدين وزيادة الطائفية بين المسلمين، وركزوا على المدارس والجامعات في شتى البلاد الإسلامية.
هناك أسباب عدة تتعلق بالملحد نفسه تجعله أرضا خصبة لتقبل الإلحاد من أهمها ما يلي:
القابلية للاستهواء والتأزم
فالقابلية للاستهواء بأن يتقبل الشخص المعلومة، أو الفكرة ويثق بها مع عدم وجود أدلة منطقية لتقبلها، بمعنى وجود قابلية في الشخص للشكوك والإلحاد، ثم يقع في أزمة، فيتأثر بهذه المعلومات والأفكار التي سمعها مسبقًا، وهذا الأسلوب بحسب اطلاعي هو ما يركز عليه الملحدون الجدد في طرح أفكارهم، فهم يروجون الأفكار بطريقة تدعو إلى الاستهواء.
عدم الشعور بالراحة مع العبادة، أو بلذة العبادة، وكثرة المعاصي مع جفاف الروح، وقسوة القلب فلا يتأثر بالقرآن الكريم، ولا تؤثر فيه الأحاديث والمواعظ والعبر، وهذا أغلبه بسبب الغفلة، والبعد عن الله -تعالى- والبعد عن اتباع سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ونفور الطاعات، واقتراف المعاصي، فبسبب هذا الجفاف أو الخواء الروحي يكون عرضة للانحراف ومن ثم للإلحاد.
السطحية الفكرية وغياب الهدف
اعتلال الفكر، وغياب العقل، وضبابية المنهج، أي: عدم استيعاب المنهج الرباني الذي ارتضاه الله -تعالى- لنا وفقدان الهدف، وهذا ما يعرف بالسطحية الفكرية وغياب الهدف، فمن أسباب الإلحاد هو اختلال الفكر فيبدأ يقرأ بطريقة عشوائية، ويظن أنه يفهم في كل شيء فيتأثر بكل ما يقرأ ويسمع من نظريات وشبهات فيقع في الإلحاد.
فإنَّ تسلط الشهوات مع قلة الخوف من الله -تعالى- وغياب الوازع الإيماني الذي يضبطها بالحلال والحرام، قد يكون سببًا في الانحراف والإلحاد للتخلص من التعاليم والضوابط التي جاءت في الشريعة الإسلامية، فنجد المُلحد، ومن سار في خطوات الإلحاد يتباهى بالتلذذ بالمتع والشهوات المحرمة، وينتج ممَّا تقدم ما يسمى بإلحاد الشهوة، فيتبنى الإلحاد ويدعو إليه رغم أنَّ الداعي أمّيّ بالدين، ولا يهتم به أصلا، ولا يناقش الأفكار من أساسها، إنّما هو صاحب هوى متبع.
وإذا عُدنا إلى هذا السبب سنجد أن القرآن الكريم قد ذم أصحاب الشهوات غير المباحة في آيات كثيرة، فقال الله -تعالى-: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (مريم:59)، فكان الوعيد الشديد لمن أضاع الصلاة، فكيف بمن ألحد وأنكر وجود الخالق -سبحانه- بقصد إشباع شهواته المحرمة لا غير.
الهزيمة النفسية والقلق والوسواس
فالإيمان بالله الخالق -سبحانه وتعالى- هو طبيعة الفطرة في النفس البشرية، فالإيمان غذاء الروح، وطبيعة هذه الحياة؛ ولذا فإن الملحد إنسان غير طبيعي بسبب ما يحمله من الحيرة والانعزال واليأس، فالفكر الإلحادي يمثل شذوذًا فكريا، وخروجًا عن إجماع العقلاء؛ فالملحد يستمر معه اليأس والحيرة والوسواس على شكل تخيلات تشككية حتى تصل به إلى الوساوس في العقيدة، وتسمى بالاضطرابات المعرفية، وإن الاضطرابات والهزيمة النفسية هي أول بداية الفشل والانحراف، وهي سهم مسموم، متى أصاب إنسانا أرداه قتيلًا، ولما كان الإلحاد اعتقادا جهليا قائما على أساس عدم وجود إله خالق، فإنه لا يقدم للإنسان شيئًا للخروج من القلق والحيرة والاضطرابات النفسية.
ومن الأسباب التي أدت إلى ظهور الإلحاد وانتشاره ما سماه الباحثون أسبابا معرفية ومنها ما يلي:
وجود كتب كثيرة تعرف الإلحاد وتبين أسبابه وخطورته لكن لا يوجد إلا القليل من الكتب من تواجه أو ترد أو تناظر الملحدين وتحاججهم.
ومن ذلك استخدام بعض الدعاة لعبارات كلامية قديمة لا يفهما العوام، ولا سيما جيل الشباب المعاصر، فالخطباء والدعاة الأفاضل رغم وفرتهم، لكن قلة منهم من يكون لديه قدرة على محاورة الملحدين، ومواجهتهم، وهذا واضح في مجتمعنا؛ فنادرًا ما نجد خطيبًا، أو داعيةً ممّن يتصدى ويواجه ويتحاور مع المشككين، أو الملحدين ويجيب عن أسئلتهم بأسلوب مناسب.
انتشار النظريات الإلحادية والترويج لها
فبالرغم من انتشار النظريات في وسائل الإعلام والجامعات والترويج لها بأسلوب مؤثر، فالمُلحد اليوم يُجادل وفق نظريات يؤمن بصحتها رغم الثغرات العلمية الكثيرة فيها، وبالمقابل من يتصدَّر للدعوة تجده قليل الاطلاع على هذه النظريات العلمية ودراستها لمواجهتها بأسلوب علمي مقنع.
زيادة الجهل وضعف الوعي الديني العقدي
فبالرغم من زيادة عدد الجامعات والمعاهد والمدارس وفشو القلم، إلا أن غالبية الشباب تجده يجهل كثيرا من ثوابت دينه وعقيدته؛ ممَّا يجعله فريسة سهلة للوقوع في شبهات الإلحاد وانحرافاته.إن الإلحاد المعاصر والجديد ظهر بوصفه رد فعل للانحرافات العقدية والفكرية ومن ذلك ما يلي:
يعد الغلو أحد أسباب التوجه إلى الإلحاد؛ فالغلاة والخوارج أساؤوا للدين، وسفكوا الدماء ونشروا الرعب وصدوا الناس عن الدين، وجدير بالذكر أن نذكر بما مرَّ في البلاد الإسلامية من ظهور الخوارج الذين غالوا في الدين، ولم يرَ النَّاس منهم إلا القتل والتعذيب تحت حُجج وأفهام معكوسة للشريعة الإسلامية السمحاء، فأهلكوا البلاد والعباد؛ ممَّا كان له أثر كبير على عوام النَّاس، بل كان لظهورهم سبب لاتجاه بعض ضعيفي الإيمان إلى الإلحاد.
فقد كان من أسباب الإلحاد الرئيسة في الغرب -ولا سيما في أوروبا- انتشار الشرك، وظهور عقيدة التثليث، وهذا السبب انتقل إلينا في العصر الحديث من ظهور بوادر الشرك والانحرافات العقدية الكبيرة بصرف أنواع كثيرة من العبادات لغير الله الخالق المتصرف في هذا الكون، وقد جاء التحذير من الشرك في القرآن الكريم وفي سنة النبي الهادي من هذه الآفة الخطيرة الماحقة للدين، ومن الآيات التي تحذر من الشرك قول الله -تعالى-: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (65 الزمر) وقوله -تعالى-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الشورى21).
ومن الأحاديث، حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر-أو سُئل عن الكبائر- فقال: «الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين، فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور أو قال: شهادة الزور، قال شعبة وأكثر ظني أنه قال: شهادة الزور».
فإنَّ للإلحاد مُهيئات، فنشأة المسلم في بيئة بعيدة عن الالتزام والمعرفة بأصول دينه، وأركان إيمانه وإسلامه، لا ريب فإنَّ مثل هذا يكون عرضه للتأثر بأي شبه تعرض عليه ولا سيما شبه الملحدين، فينحدر في هاوية الإلحاد.
فاطلاع بعض الشباب -ولا سيما طلاب الجامعات- على مؤلفات الملحدين وفيها ما فيها من الدَّس والتشكيك والإلحاد العلني، فلا يلبث أن يتأثر بقراءته لتلك الكتب فيخرج إلى الجحود والإلحاد.
قلة التفقه في مقاصد الشريعة الإسلامية
فغياب فقه مقاصد الشريعة لدى المسلم من تحريم جرائم القتل، والزنا، والسرقة، وأكل أموال الناس بالباطل، والربا مع ضعف الالتزام، فتتغلب الشهوات على النَّفس، فيخرج إلى الإلحاد الذي يبيح له كل ما هو محرم دون قيود، يقول (دوكينز) -وهو أبرز دعاة الإلحاد-: «إنّ الإلحاد يؤثّر في نحو منهجيّ بالنَّاس لفعل الأمور السيئة، وهو بيان مُذهل وساذج ومُحزن بعض الشيء»؛ فإنَّ الشهوات واستباحتها أمرٌ خطير، وسببٌ لقيام جذور الشبهات والدعوة إليها، وصولًا لتبني الإلحاد.
من أسباب الإلحاد: هجر القرآن الكريم
من أسباب الإلحاد المهمة البعد عن القرآن وهجره، قال الله -تعالى-: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان 30)، والغفلة عن الأذكار- أذكار المسلم اليومية- وسائر الأدعية لا سيما أدعية الثبات، وأفراد الله -تعالى- بالوحدانية، قال الله -تعالى-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر:٦٠).
معرفة جميع أسباب الإلحاد يجعلنا نتعامل مع مشكلة الإلحاد وخطورتها بموضوعية وبجدية أكثر، كما أنَّ معرفة أسباب الإلحاد مهم للابتعاد عن تسطيح الظاهرة الإلحادية، والاتكال على اضمحلال هذه الظاهرة للظروف والوقت، بل لابد من بذل قصارى وقتنا وجُهدنا لمواجهتها، فمعرفة الأسباب حتمًا ستؤدي إلى معرفة السُبُل والأساليب النافعة في مواجهة الإلحاد كلا بحسب تخصصه.
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان