|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (430) سُورَةُ الشُّعَرَاءِ . صـ 139 إلى صـ 146 ومنها : أن الميت يسمع قرع نعال الدافنين إذا ولوا مدبرين ، واستدلاله بهذا الحديث الصحيح استدلال قوي جدا ; لأنه إذا كان في ذلك الوقت يسمع قرع النعال ، فلأن يسمع الكلام الواضح بالتلقين من أصحاب النعال أولى [ ص: 139 ] وأحرى ، واستدلاله لذلك بحديث أبي داود : " سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل " ، له وجه من النظر ; لأنه إذا كان يسمع سؤال السائل فإنه يسمع تلقين الملقن ، والله أعلم . والفرق بين سماعه سؤال الملك وسماعه التلقين من الدافنين محتمل احتمالا قويا ، وما ذكره بعضهم من أن التلقين بعد الموت لم يفعله إلا أهل الشام ، يقال فيه : إنهم هم أول من فعله ، ولكن الناس تبعوهم في ذلك ، كما هو معلوم عند المالكية والشافعية . قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل بن إسحاق المالكي في مختصره : ( وتلقينه الشهادة ) وجزم النووي باستحباب التلقين بعد الدفن . وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة والإرشاد ، وقد سئل عنه أبو بكر بن الطلاع من المالكية ، فقال : هو الذي نختاره ونعمل به ، وقد روينا فيه حديثا عن أبي أمامة ليس بالقوي ، ولكنه اعتضد بالشواهد ، وعمل أهل الشام قديما ، إلى أن قال : وقال في المدخل : ينبغي أن يتفقده بعد انصراف الناس عنه من كان من أهل الفضل والدين ، ويقف عند قبره تلقاء وجهه ويلقنه ; لأن الملكين عليهما السلام ، إذ ذاك يسألانه وهو يسمع قرع نعال المنصرفين . وقد روى أبو داود في سننه عن عثمان - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه ، وقال : " استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل " ، إلى أن قال : وقد كان سيدي أبو حامد بن البقال ، وكان من كبار العلماء والصلحاء ، إذا حضر جنازة عزى وليها بعد الدفن ، وانصرف مع من ينصرف ، فيتوارى هنيهة حتى ينصرف الناس ، ثم يأتي إلى القبر ، فيذكر الميت بما يجاوب به الملكين عليهما السلام ، انتهى محل الغرض من كلام الحطاب . وما ذكره من كلام أبي بكر بن الطلاع المالكي له وجه قوي من النظر ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى . ثم قال الحطاب : واستحب التلقين بعد الدفن أيضا القرطبي والثعالبي وغيرهما ، ويظهر من كلام أبي . . . في أول كتاب الجنائز يعني من صحيح مسلم ، وفي حديث عمرو بن العاص في كتاب " الإيمان " ميل إليه ، انتهى من الحطاب . وحديث عمرو بن العاص المشار إليه ، هو الذي ذكرنا محل الغرض منه في كلام ابن القيم الطويل المتقدم . قال مسلم في " صحيحه " : حدثنا محمد بن المثنى العنزي ، وأبو معن الرقاشي ، وإسحاق بن منصور ، كلهم عن أبي عاصم . واللفظ لابن المثنى : حدثنا الضحاك ، يعني أبا عاصم ، قال : أخبرنا حيوة بن شريح ، قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن شماسة [ ص: 140 ] المهري ، قال : حضرنا عمرو بن العاص ، وهو في سياقة الموت ، فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار ، الحديث . وقد قدمنا محل الغرض منه بلفظه في كلام ابن القيم المذكور ، وقدمنا أن حديث عمرو هذا له حكم الرفع ، وأنه دليل صحيح على استئناس الميت بوجود الأحياء عند قبره . وقال النووي في " روضة الطالبين " ، ما نصه : ويستحب أن يلقن الميت بعد الدفن ، فيقال : يا عبد الله ابن أمة الله اذكر ما خرجت عليه من الدنيا : شهادة ألا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأن البعث حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأنت رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ، وبالقرآن إماما ، وبالكعبة قبلة ، وبالمؤمنين إخوانا ، ورد به الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم . قلت : هذا التلقين استحبه جماعات من أصحابنا ، منهم القاضي حسين ، وصاحب التتمة ، والشيخ نصر المقدسي في كتابه " التهذيب " وغيرهم ، ونقله القاضي حسين عن أصحابنا مطلقا ، والحديث الوارد فيه ضعيف ، لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم ، وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الأحاديث الصحيحة ; كحديث : " اسألوا له التثبيت " ، ووصية عمرو بن العاص : أقيموا عند قبري قدر ما تنحر جزور ، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي ، رواه مسلم في صحيحه ، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا التلقين ، من العصر الأول ، وفي زمن من يقتدى به ، ا هـ محل الغرض من كلام النووي . وبما ذكر ابن القيم وابن الطلاع ، وصاحب المدخل من المالكية ، والنووي من الشافعية ، كما أوضحنا كلامهم تعلم أن التلقين بعد الدفن له وجه قوي من النظر ; لأنه جاء فيه حديث ضعيف ، واعتضد بشواهد صحيحة ، وبعمل أهل الشام قديما ، ومتابعة غيرهم لهم . وبما علم في علم الحديث من التساهل في العمل بالضعيف في أحاديث الفضائل ، ولا سيما المعتضد منها بصحيح ، وإيضاح شهادة الشواهد له أن حقيقة التلقين بعد الدفن مركبة من شيئين : أحدهما : سماع الميت كلام ملقنه بعد دفنه . [ ص: 141 ] والثاني : انتفاعه بذلك التلقين ، وكلاهما ثابت في الجملة ، أما سماعه لكلام الملقن فيشهد له سماعه لقرع نعل الملقن الثابت في الصحيحين ، وليس سماع كلامه بأبعد من سماع قرع نعله كما ترى . وأما انتفاعه بكلام الملقن ، فيشهد له انتفاعه بدعاء الحي وقت السؤال في حديث : " سلوا لأخيكم التثبيت فإنه يسأل الآن " ، واحتمال الفرق بين الدعاء والتلقين قوي جدا كما ترى ، فإذا كان وقت السؤال ينتفع بكلام الحي الذي هو دعاؤه له ، فإن ذلك يشهد لانتفاعه بكلام الحي الذي هو تلقينه إياه وإرشاده إلى جواب الملكين ، فالجميع في الأول سماع من الميت لكلام الحي ، وفي الثاني انتفاع من الميت بكلام الحي وقت السؤال ، وقد علمت قوة احتمال الفرق بين الدعاء والتلقين . وفي ذلك كله دليل على سماع الميت كلام الحي ، ومن أوضح الشواهد للتلقين بعد الدفن السلام عليه ، وخطابه خطاب من يسمع ، ويعلم عند زيارته ، كما تقدم إيضاحه ; لأن كلا منهما خطاب له في قبره ، وقد انتصرابن كثير رحمه الله في تفسير سورة " الروم " ، في كلامه على قوله تعالى : فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء ، إلى قوله : فهم مسلمون [ 30 \ 32 - 33 ] ، لسماع الموتى ، وأورد في ذلك كثيرا من الأدلة التي قدمنا في كلام ابن القيم ، وابن أبي الدنيا وغيرهما ، وكثيرا من المرائي الدالة على ذلك ، وقد قدمنا الحديث الدال على أن المرائي إذا تواترت أفادت الحجة ، ومما قال في كلامه المذكور : وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية : فإنك لا تسمع الموتى ، على توهيم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، في روايته مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - القتلى الذين ألقوا في قليب بدر بعد ثلاثة أيام ، إلى أن قال : والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، لما لها من الشواهد على صحتها ، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححا له عن ابن عباس مرفوعا : " ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه " ، الحديث . وقد قدمناه في هذا المبحث مرارا ، وبجميع ما ذكرنا في هذا المبحث في الكلام على آية " النمل " هذه تعلم أن الذي يرجحه الدليل : أن الموتى يسمعون سلام الأحياء وخطابهم سواء قلنا : إن الله يرد عليهم أرواحهم حتى يسمعوا الخطاب ويردوا الجواب ، أو قلنا : إن الأرواح أيضا تسمع وترد بعد فناء الأجسام ، لأنا قد قدمنا أن هذا ينبني على مقدمتين : ثبوت سماع الموتى بالسنة الصحيحة ، وأن القرآن لا يعارضها على التفسير [ ص: 142 ] الصحيح الذي تشهد له القرائن القرآنية ، واستقراء القرآن ، وإذا ثبت ذلك بالسنة الصحيحة من غير معارض من كتاب ولا سنة ظهر بذلك رجحانه على تأول عائشة رضي الله عنها ومن تبعها بعض آيات القرآن ، كما تقدم إيضاحه . وفي الأدلة التي ذكرها ابن القيم في كتاب الروح على ذلك مقنع للمنصف ، وقد زدنا عليها ما رأيت ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون . ظاهر هذه الآية الكريمة خصوص الحشر بهذه الأفواج المكذبة بآيات الله ، ولكنه قد دلت آيات كثيرة على عموم الحشر لجميع الخلائق ; كقوله تعالى بعد هذا بقليل : وكل أتوه داخرين [ 27 \ 87 ] ، وقوله تعالى : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [ 18 \ 47 ] ، وقوله تعالى : ويوم نحشرهم جميعا [ 6 \ 22 ] ، وقوله تعالى : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون [ 6 \ 38 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقد أوضحنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في آية " النمل " هذه ، في الكلام على وجه الجمع بين قوله تعالى فيها : ويوم نحشر من كل أمة فوجا الآية ، وبين قوله تعالى : وكل أتوه داخرين [ 27 \ 87 ] ، ونحوها من الآيات ، وذكرنا قول الألوسي في تفسيره أن قوله : وكل أتوه داخرين في الحشر العام لجميع الناس للحساب والجزاء . وقوله تعالى : ويوم نحشر من كل أمة فوجا في الحشر الخاص بهذه الأفواج المكذبة ; لأجل التوبيخ المنصوص عليه في قوله هنا : حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما الآية [ 27 \ 84 ] ، وهذا يدل عليه القرآن ، كما ترى . وقال بعضهم : هذه الأفواج التي تحشر حشرا خاصا هي رؤساء أهل الضلال وقادتهم ، وعليه فالآية كقوله تعالى : فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا [ 19 \ 68 - 69 ] ، والفوج : الجماعة من الناس . ومنه قوله تعالى : يدخلون في دين الله أفواجا [ 110 \ 2 ] ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهم يوزعون ، أي : يرد أولهم على [ ص: 143 ] آخرهم حتى يجتمعوا ، ثم يدفعون جميعا ، كما قاله غير واحد . قوله تعالى : حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون . قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : أي يسألون عن اعتقادهم وأعمالهم ، ومقصوده بسؤالهم عن اعتقادهم قوله تعالى : أكذبتم بآياتي ، لأن التصديق بآيات الله التي هي هذا القرآن من عقائد الإيمان التي لا بد منها ، كما هو معلوم في حديث جبريل وغيره ، ومقصوده بسؤالهم عن أعمالهم قوله تعالى : أم ماذا كنتم تعملون ، والسؤال المذكور سؤال توبيخ وتقريع ، فقد وبخهم تعالى فيه على فساد الاعتقاد ، وفساد الأعمال ، والتوبيخ عليهما معا المذكور هنا جاء مثله في قوله تعالى : فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى [ 75 \ 31 ] ، كما أشار له ابن كثير رحمه الله ، فقوله تعالى : فلا صدق ، وقوله : ولكن كذب ، توبيخ على فساد الاعتقاد . وقوله : ولا صلى : توبيخ على إضاعة العمل . قوله تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون . الظاهر أن القول الذي وقع عليهم هو كلمة العذاب ، كما يوضحه قوله تعالى : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهم لا ينطقون ظاهره أن الكفار لا ينطقون يوم القيامة ; كما يفهم ذلك من قوله تعالى : هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون [ 77 \ 35 ] ، وقوله تعالى : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما الآية [ 17 \ 97 ] ، مع أنه بينت آيات أخر من كتاب الله أنهم ينطقون يوم القيامة ويعتذرون ; كقوله تعالى عنهم : والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله تعالى عنهم : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، وقوله : ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا الآية [ 32 \ 12 ] ، وقوله تعالى عنهم : ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون [ 23 \ 106 - 107 ] ، وقوله تعالى : ونادوا يامالك [ ص: 144 ] الآية [ 43 \ 77 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كلامهم يوم القيامة . وقد بينا الجواب عن هذا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في سورة " المرسلات " ، في الكلام على قوله تعالى : هذا يوم لا ينطقون [ 77 \ 35 ] ، وما ذكرنا من الآيات . فذكرنا أن من أوجه الجواب عن ذلك أن القيامة مواطن ، ففي بعضها ينطقون ، وفي بعضها لا ينطقون ، فإثبات النطق لهم ونفيه عنهم كلاهما منزل على حال ووقت غير حال الآخر ووقته . ومنها أن نطقهم المثبت لهم خاص بما لا فائدة لهم فيه ، والنطق المنفي عنهم خاص بما لهم فيه فائدة ومنها غير ذلك ، وقد ذكرنا شيئا من أجوبة ذلك في " الفرقان " و " طه " ، و " الإسراء " . قوله تعالى : ألم يروا أنا جعلنا اليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل الآية [ 17 \ 12 ] . قوله تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون . قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول ، وذكرنا في ترجمته أيضا أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على المعنى ، بكونه هو الغالب في القرآن ; لأن غلبته فيه ، تدل على عدم خروجه من معنى الآية ، ومثلنا لجميع ذلك أمثلة متعددة في هذا الكتاب المبارك ، والأمران المذكوران من أنواع البيان قد اشتملت عليهما معا آية " النمل " هذه . وإيضاح ذلك أن بعض الناس قد زعم أن قوله تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ، يدل على أن الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة ، أي : واقفة ساكنة غير متحركة ، وهي تمر مر السحاب ، ونحوه قول النابغة يصف جيشا : بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج والنوعان المذكوران من أنواع البيان ، يبينان عدم صحة هذا القول . [ ص: 145 ] أما الأول منهما : وهو وجود القرينة الدالة على عدم صحته ، فهو أن قوله تعالى : وترى الجبال معطوف على قوله : ففزع ، وذلك المعطوف عليه مرتب بالفاء على قوله تعالى : ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات الآية [ 27 \ 87 ] ، أي : ويوم ينفخ في الصور ، فيفزع من في السماوات وترى الجبال ، فدلت هذه القرينة القرآنية الواضحة على أن مر الجبال مر السحاب كائن يوم ينفخ في الصور ، لا الآن . وأما الثاني : وهو كون هذا المعنى هو الغالب في القرآن فواضح ; لأن جميع الآيات التي فيها حركة الجبال كلها في يوم القيامة ; كقوله تعالى : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا [ 52 \ 10 ] ، وقوله تعالى : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة [ 18 \ 47 ] ، وقوله تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، وقوله تعالى : وإذا الجبال سيرت [ 81 \ 3 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : صنع الله الذي أتقن كل شيء ، جاء نحوه في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 14 ] ، وقوله تعالى : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت [ 67 \ 3 ] ، وتسيير الجبال وإيجادها ونصبها قبل تسييرها ، كل ذلك صنع متقن . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنه خبير بما تفعلون قد قدمنا الآيات التي بمعناه في أول سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ، إلى قوله : إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] . قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله خير منها . اعلم : أن الحسنة في هذه الآية الكريمة تشمل نوعين من الحسنات : الأول : حسنة هي فعل خير من أفعال العبد ، كالإنفاق في سبيل الله ، وبذل النفس والمال في إعلاء كلمة الله ، ونحو ذلك ، ومعنى قوله تعالى : فله خير منها ، بالنسبة إلى هذا النوع من الحسنات ، أن الثواب مضاعف ، فهو خير من نفس العمل ; لأن من أنفق درهما واحدا في سبيل الله فأعطاه الله ثوابا هو سبعمائة درهم فله عند الله ثواب هو سبعمائة درهم مثلا ، خير من الحسنة التي قدمها التي هي إنفاق درهم واحد ، وهذا لا إشكال فيه كما ترى . [ ص: 146 ] وهذا المعنى توضحه آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ 6 \ 160 ] ، ومعلوم أن عشر أمثال الحسنة خير منها هي وحدها ; وكقوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها [ 4 \ 40 ] ، وقوله تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء [ 2 \ 261 ] . وأما النوع الثاني من الحسنة : فكقول من قال من أهل العلم : إن المراد بالحسنة في هذه الآية : لا إله إلا الله ، ولا يوجد شيء خير من لا إله إلا الله ، بل هي أساس الخير كله ، والذي يظهر على هذا المعنى أن لفظة خير ليست صيغة تفضيل . وأن المعنى : فله خير عظيم عند الله حاصل له منها ، أي : من قبلها ومن أجلها ، وعليه فلفظة من في الآية ; كقوله تعالى : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] ، أي : من أجل خطيئاتهم أغرقوا ، فأدخلوا نارا . وأما على الأول فخير صيغة تفضيل ، ويحتمل عندي أن لفظة خير على الوجه الثاني صيغة تفضيل أيضا ، ولا يراد بها تفضيل شيء على لا إله إلا الله ، بل المراد أن كلمة لا إله إلا الله تعبد بها العبد في دار الدنيا ، وتعبده بها فعله المحض ، وقد أثابه الله في الآخرة على تعبده بها ، وإثابة الله فعله جل وعلا ، ولا شك أن فعل الله خير من فعل عبده ، والعلم عند الله تعالى . ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |