من الدلائل العقلية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حكم الإشتراك فى صفح على النت فيها أخطاء شرعية ،التعليق على صفحة فيها منكرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          حكم زيارة القبور للنساء والفتيات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          لا يجوز للمسلم أن يحمل أو يلبس ما فيه شعار الكفر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          النوم بعد صلاة الصبح لا يحرم وتركه أفضل ولكن ما أضرار النوم وقت الضحى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          التحذير من مصاحبة أهل السوء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          مفاسد مجالسة أهل المنكر والكفر، وهل يجب نصح الكافر؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          قيام الليل دأب الصالحين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          موالد مصر: بين الجهل والاستغلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 15 )           »          الاستغلال السياسي لبدعة المولد النبوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          أهمية الكتابة لطالب العلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14-02-2022, 09:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,920
الدولة : Egypt
افتراضي من الدلائل العقلية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم

من الدلائل العقلية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم


د. علي حسن الروبي

نُحاول في هذه المقالات إلقاء الضوء على بعض البراهين والدلائل العقلية على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى النبوة والرسالة.

ذلك أننا نزعم أن الإنسان الذي يعيش في عصرنا الحاضر ولم يعاصر النبي صلى الله عليه وسلم - لهو قادرٌ على أن يتحقق من صدق نبوته، وإنْ لم يكن قد عاين الخوارق التي رآها المعاصرون له، التي كانت برهانًا على صدق دعواه النبوة والرسالة.

وأول ما نبدأ به من تلكم البراهين والدلائل هو تقليب النظر في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخلاقه وأحواله قبل دعوى النبوة وبعدها، وسنرى إلامَ سيقودنا التفحص والتأمل في هذا الجانب، محاولين قدر الجهد أن نلتزم التفكير العقلاني ونبتعد عن العواطف والمصادرات والإطلاقات، فإننا وإنْ كنا من المسلمين المؤمنين بهذا النبي الكريم - صلوات الله عليه - والمذعنين لدينه والمستسلمين لشريعته ومنهاجه، إلا أننا على ثقة كبيرة بأن نبوته - شأنها شأن الركائز الإيمانية في الإسلام - يمكن البرهنة العقلية عليها، وليس فيها ما يتعارض مع العقل الصحيح المتجرد من الهوى والغيِّ، ولعل في سرد تلكم الدلائل العقلية ما يزداد به المؤمن إيمانًا، وما يستقين ويطمئن به المتشكك المتحير.

وإنما اخترنا جانب الأخلاق والسيرة الذاتية؛ ليكون معيارًا يُعتبر به في الحكم على صدق ادعاء النبوة من عدمه؛ للتعلق والتلازم بين الأمرين، فإن النبوة ليست اختراعًا علميًّا تقنيًّا أو موهبةً فنيةً أو أدبيةً أو مُنجزًا اقتصاديًّا، أو نحو ذلك من الأمور المقطوعة الصلة بأخلاق الإنسان وتكوينه القيمي، فإننا نجد الموهبة الأدبية والفنية في أشخاص عارين عن الفضيلة والخُلق كما نجدها عند أصحاب الفضيلة والخلق، ونجد الذكاء المعرفي والعلمي عند الأخيار الأبرار كما نجده عند الأشرار الفجار.

وأما في حالة البنوة، فالأمر مختلف تمامًا، فالنبوة دعوى من صاحبها إما أنه صادق فيها وإما أنه كاذبٌ، ولا ثالث لهما.

وإذا كان كاذبًا فالكذب متنافٍ مع الفضيلة والخُلق عند عامة البشر، فادعاء النبوة كذبًا مثله مثل القبائح الأخلاقية، لا يتأتى إلا من شخصٍ لا حظ له في الأخلاق والفضيلة، ولا سيما فضيلة الصدق والأمانة، بل هو - أي ادعاء النبوة كذبًا - أقبح من سائر القبائح الأخلاقية، لما فيه من الخداع العام للبشر، ولجمعه بين الكذب على البشر والكذب على الله، ولاستعماله الكذب والخداع فيما ينبغي أن يكون داعية للأخلاق الحميدة والفضائل والمحاسن، ألا وهو النبوة.

وبالجملة فهذا معيارٌ ناهضٌ للحكم على مدعي النبوة بالصدق أو الكذب في دعواه؛ لما فيه من إنباءٍ عن حاله وما يتوقع منه؛ إذْ الناس يجرون مع ما اطرد وترسَّخ من أخلاقهم وطبائعهم، ولا يخالفون ذلك إلا على جهة الندرة، وآية ذلك أنك تجد من نفسك القدرة على تصديق أو تكذيب ما يُنسب من فعلٍ ما لشخصٍ ما إذا كنتَ على دراية حقيقية بأخلاق هذا الشخص وطبيعة تصرفاته، فمثلًا لو حدثك الناس عن شيء ينسبونه لصديقٍ تَخْبُره أو لشخصٍ عاملتَه وداخلتَه، فإنك لا تلبث أن تسارع إلى قبول ما ينسبه الناس إلى ذلك الشخص أو إلى ردِّه ورفضه، ويكون معوِّلك في القبول أو الردِّ، هو ما تَخْبُره من أخلاقه وما تعرفه من حاله، وهل تنسجم الصفة أو الفعل الذي نسبوه إليه مع المستقر المعروف المتحقق من أخلاقه وأفعاله أم يتعارض معها؟ فإذا كنتَ قد خَبَرْته بالمعاشرة والمعاملة الطويلة وعلمتَ أنه جبانٌ خوَّارٌ، فستستيقن ساعتها كذبَ نسبةِ الشجاعة والإقدام إليه، وأنَّ واسمه بالشجاعة والإقدام إما منتفعٌ من صاحبك أو جاهلٌ بحاله، وإنْ كنتَ قد خَبْرته عفيفًا زاهدًا متحريًا للحلال في مطعمه ومشربه، علمت أن الشائعة التي انتشرت بأنه حاول سرقة حافظة نقود أحد الأشخاص محض كذبٍ وافتراءٍ، وهكذا.

ذلك أنَّا نعلم أنَّ مَن اصطبغ بخلقٍ ما من الأخلاق مذمومًا كان أو محمودًا، فإنه لا يصدر منه خلافه إلا على جهة الهفوة والفلتة، فقد يجبن الشجاع المِقدام في مرةٍ، وقد يقع الكذب من الصدوق هفوةً، وقد يجود الشحيح على سبيل المنفعة، لكن يبقى الخُلق الراسخ المعلوم من حال المرء هو المسيطر عليه، ولا يتحول الإنسان إلى ضده تحولًا كليًّا، إلا إذا حدث له من الهزات النفسية الإيجابية أو السلبية ما يوجب هذا التغيير الكامل في الشخصية وأخلاقها، فنرى المجرم قد صار إنسانًا صالحًا ونرى إنسانًا عاديًّا قد تحول لمجرمٍ.

والشاهد الذي أردناه من سَوْق ما قد سلفَ أنَّ أخلاق الشخص وسيرته تصلح أن تكون شاهدةً معه أو ضده إذا عنَّ من أمرِه ما يُحتاج فيه إلى الاستشهاد بأخلاقه وسيرته كدليلٍ معه أو عليه.

وفي حالتنا هذه - أعني قضية دعوى النبوة والرسالة - علينا أن ننظر في حال صاحبها وما كان عليه من أخلاقٍ حميدةً كانت أو ذميمةً، وهل ما كان عليه من أخلاقٍ يرجِّح صدقه أم يرجِّح كذبه في دعواه؟ وبأي أخلاقٍ كان صاحب هذه الدعوى يُعرف بين قومه الذين كانوا يعاشرونه ويتعاملون معه قبل دعواه تلك؟

وهل دعواه النبوة مرحلةٌ في سجل أخلاقه الذميمة الجارية على الكذب والخديعة والمراوغة؟ أم مرحلةٌ في سجل أخلاقه الحميدة الجارية على الصدق والأمانة والفضيلة؟

وإذا نظرنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وجدنا أنه كان يعمل مع عمه أبي طالب في التجارة، وأنه قد اشتَهر عنه الصدق والأمانة، ومن آيات هذه الشهرة - أن خديجة رضي الله عنه وهي امرأة عاقلة متمرسة بحال الناس، كان قد مات عنها زوجها، ولها مالٌ وتجارةٌ، قد اختارته ليقوم على أمر تجارتها، وحملها ما ظهر لها من أخلاقه وأمانته أن تعرض عليه الزواج منها، مع أنَّ حالها ومكانتها الاجتماعية والمالية تؤهلها لأنْ تكون مرغوبة للزواج من سادات قريش وأهل الوجاهة فيها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت شابًّا في الخامسة والعشرين من عمره، ولم يكن له من المال والرياسة في قريش ما يجعله مقدمًا في التزويج على سادات قريش وأعيانها، إلا أن تكون هذه المرأة الناضجة العاقلة قد لمست في أخلاق هذا الشاب ما دعاها إلى الإعجاب به واختياره زوجًا وقرينًا، وإنْ لم يكن من أهل الغنى والزعامة والسيادة في قومه.

وتنقل لنا كتب السيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معروفًا بين قومه بالصدق والأمانة ومشتهرًا بينهم بذلك؛ حتى إنهم كانوا يلقبونه بـ" الصادق الأمين"، ودليل صحة هذه الشهرة وثبوتها وأنها ليست من مجاملات المؤرخين المسلمين - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أُمِر أن يصارح قومه بنبوته ويجهر فيهم برسالته ودعوته لأول مرةٍ، طرح عليهم سؤالًا يستخرج منه حاله عندهم من جهة الصدق والموثوقية والنزاهة ومجانبة الكذب والافتراء والادعاء، فقال لهم: "... أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟"، قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا قط، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد".

ولا ريب أن هذا صنيع العقلاء، فإن استخراج شهادتهم له بالصدق واستمراره عليه، حتى إنه لو أخبرهم بأمرٍ مدلهمٍ كهجوم الأعداء لما تشككوا في صدقه؛ لديمومته على الصدق ومجانبته للكذب طوال حياته بينهم وتعامله معهم، فجديرٌ به أن يكون صادقًا أيضًا في دعواه النبوة وانتحاله الرسالة.


ومما يدلنا كذلك على صحة هذه الشهرة بالصدق والأمانة أنه بعد ادعاء محمد صلى الله عليه وسلم النبوة، كانت تهمته عند القرشيين أنه مجنونٌ وأنه شاعرٌ، وأنه كاذبٌ في ادعاء النبوة، لكن أحدًا منهم لم يوجه له اتهامًا أخلاقيًّا بالكذب فيما سبق في الأمور الحياتية، ولم يُعيِّره بقباحة خديعة من الخدائع ولا احتيالٍ من الاحتيالات الماضية ارتكبها معه أو مع غيره من الناس، ولم يُذِّكره أحدهم بموقف من المواقف الذي كذب فيها ولا بمرةٍ من المرات التي استعمل فيها المراوغة والاحتيال.

كما أننا يمكننا الوقوف على الطبيعة الأخلاقية لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم بشاهد آخر، وذلك مما ذكرته له خديجة رضي الله عنها عندما حاولت التهدئة من روعه والتخفيف من توتره بعد ما أصابه من النزع بعد لقائه الأول بجبريل في غار حراء، وأنه قد خشي على نفسه، فذكرت له أنه جدير بإكرام الله تعالى له لما عنده من الصفات الحميدة ومكارم الأخلاق التي يحبها الله تعالى ويحب المتحققين بها، فقالت: "إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ".

إن هذه الكلمات ليست مجرد مجاملة زوجة لزوجها، بل هي واقعٌ ثابتٌ، قد دلَّنا على ثبوته استمرارُ النبي صلى الله عليه وسلم عليه بعد البعثة وحتى وفاته، وأن تلكم الصفات هي أخلاقٌ راسخةٌ لديه متمكنةٌ فيه.

إن كل القرائن تفيد أن السجل الأخلاقي للنبي صلى الله عليه وسلم قبل دعواه النبوة كان ناصع البياض جدًّا؛ إذْ لم تقدر الدعاية القرشية وآلتها الإعلامية الجبارة حينذاك، والتي نجحت في بث الدعاية المكثفة في العرب قبل موسم الحج بأن فتى مكة الذي يزعم أنه نبيٌّ هو شخصٌ ساحرٌ يملك بيانًا خلابًا وقدرة مذهلة على خداع السامعين، بحيث إنه يملك التأثير في السامعين بإفساد الابن على أبيه والزوجة على زوجها ...إلخ.

أقول: إن الآلة الإعلامية القرشية التي نجحت في نقل صورة منفرة عن محمد صلى الله عليه وسلم بين العرب، جعلت الناس يخافون من الحديث معه والاستماع منه؛ خشية أن يصيبهم هذا السحر الذي جاء به محمد... هذه الآلة الإعلامية لم تجد في السجل الأخلاقي من ماضي محمد - صلى الله عليه وسلم - ما تتمكن به من تشويهه والتنفير عنه، ولم تحد من الهنات الأخلاقية ما تستطيع الاستثمار فيه واستغلاله في الدعاية، فاتجهت إلى تشويه ما يدعو إليه وبيان عاقبته وأثره السيئ في زعمهم.

وهذا في حد ذاته كافٍ لوقوفنا على المنزلة الأخلاقية التي كان يتمتع بها محمد صلى الله عليه وسلم قبل ادعاء النبوة، فإن التشهير بهفوات الخصوم ومحاولة تضخيمها - مسلك لم يزل متبعًا في الخصومات الشخصية والعامة في كل العصور وإلى يومنا هذا.

وإذْ قد عرفتَ ذلك ووقفتَ على المنزلة الأخلاقية لشخصية محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - والتي عجز الخصوم عن إيجاد أيِّ زلةٍ مرتكَبة في حياته قبل ادعاء النبوة، بُغيةَ أن يقوموا باستثمارها في خصومتهم معه - فاعلمْ أن هذه المنزلة الأخلاقية ليست تدُلنا على النزاهة الأخلاقية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل تقودنا إلى دليلٍ جوهريٍّ على صدقه في دعواه.

ذلك أنَّنا نجد التكوين الأخلاقي والفكري لكل واحدٍ منا حائلٌ دونَه ودونَ الوقوع فيما يُعاكس تكوينه ويضاده، فلكل شخصيةٍ حاجزٌ أخلاقيٌّ يحول بينها وبين ومُقارفة ما ينافي وينافر قواعدها القِيمية الداخلية، والناس في ذلك متفاوتون تفاوتًا عظيمًا بقدر قوة إيمانهم بقِيَهم ومبادئهم الأخلاقية، وبقدر تفاضل قوة شخصياتهم في التغلب على إغواء ما يعارض ويناقض ما يؤمنون به ويعتقدون أنه الحق والأفضل.

فالشخص المتصف بخلق الرحمة الذي تمكَّن منه هذا الخلق حتى صار راسخًا فيه، لن تجده يومًا يمارس تعذيب إنسانٍ بريءٍ أو حيوانٍ مُستلِذًّا بذلك فرحًا به، فضلًا أن يكون مفاخرًا بذلك مُبتهجًا؛ لأن ممارسة التعذيب والاستلذاذ به مناهضٌ لخلق الرحمة الذي في طبعه، وكذلك الشخص المتطبع بخُلق الأنَفة والعزة لن تجده يمارس خُلق الخضوع والخنوع للناس، فضلًا عن المُعالنة بذلك والمفاخرة به، والشخص الذي خُلقه الصدق والمصارحة لن تجده يمارس الكذب فرحًا به مجاهرًا مُنتشيًا؛ لأن ذلك مضاد لخُلق الصدق الراسخ لديه...
وبالجملة، فلكلٍّ منا قِيَمه ومُثُله الذاتية التي تمنعه من ممارسة ما يضاد تلك القيم ويعارضها، ولا تسمح نفس الواحد له أن يمارس خلاف ما يرتضيه ضميره الداخلي ووازعه الأخلاقي؛ لئلا يفقد الإنسان احترامه لنفسه واحترام الآخرين له.


وإذا رجعنا إلى شخصية محمد - صلى الله عليه وسلم - وتكوينها الأخلاقي قبل ادعاء النبوة، فسنعلم يقينًا أن أخلاقيات هذه الشخصية لن تسمح لها مطلقًا بارتكاب جريمة الكذب في شأن النبوة، ولن تطاوعها على ذلك، سواء كان ذلك احترامًا للذات أو للسمعة بين الناس، ولن تسمح منظومةٌ أخلاقية كالتي كان يتمتع بها محمد - صلى الله عليه وسلم - له بأن يمارس الكذب ويختلق دعوى إرسال الله له، ولن يُفلت من تأنيب الضمير الداخلي لديه على هذه الجريمة المنافية لمنظومة أخلاقه، كما لن تسمح له شخصيته بأن تكون نظرة الناس إليه نظرتهم إلى الشخص الكاذب المنتحل الجدير بكل تحقيرٍ وازدراءٍ وإهانةٍ.

وأنا وأنت أيها القارئ على تواضع المنزلة الأخلاقية عندنا، إلا أن لنا سقفًا لا نرضى لأنفسنا أنْ تنزل عنه، سواء في صورتنا أمام أنفسنا، أو في صورتنا أمام الناس، فلا أجرؤ أنا ولا تجرؤ أنت - ما دمنا نملك الحد الأدنى من احترام الذات وتقديرها - على أن نُقدِم على اختلاق ادعاءٍ ما؛ تكون نتيجته تأنيب الضمير الداخلي لنا على الكذب، وتشهير المجتمع من حولنا بسُمعتنا وسيرتنا.

فإذا كان آحاد الناس مثلي ومثلك بهذه المنزلة من احترام أنفسهم، والاستنكاف عن الكذب وعدم استجازة الإفك والبهتان الذي لن يُقرَّه الضمير الداخلي لنا، ولن يصمد أمام التشهير المجتمعي بسُمعتنا، فكيف بشخصيةٍ أخلاقيةٍ كشخصية محمد صلى الله عليه وسلم؟!

هل من السهل على شخصيةٍ فذَّةٍ كهذه، لا تتمتع بأخلاقٍ عليا فحسب، بل بتفردٍ أخلاقيٍّ في مجتمعها - أن تُقدم على أمرٍ منافرٍ للأخلاق ومباينٍ لها وهو افتراء ادعاء الرسالة والنبوة؟!

ثم هبْ أن الضمير الأخلاقي عند تلك الشخصية الأخلاقية الصارمة قد تعطل، فهل تعطل عندها العقل والفِطنة حتى تُقدمِ على تشويه سمعتها الناصعة البياض بين قومها والعرب في عشيةٍ أو ضحاها؟!

لقد كانت العرب تستقبح الكذب وتتحاشى كل المحاشاة أن توصم به، وتعد الكذب من النقائص والقبائح التي تقضي على سُمعة صاحبها ومكانته وشرفه إن كان له مكانةٌ وشرفٌ، فهذا أبو سفيان - رضي الله عنه - قبل إسلامه عندما كان في حديثه مع قيصر بشأن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في حضور مجموعةٍ من قريش، وكان أبو سفيان وقتها أحوج ما يكون إلى استنقاص منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند قيصر، إلا أنه قد منعه من اختلاق الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - في جواباته لأسئلة قيصر عنه - أن تخبر المجموعة القريشة الحاضرة في ذلك المجلس أن أبا سفيان وهو الزعيم القرشي قد اقترف رذيلة الكذب.

إن أبا سفيان لم يشأْ أن يضحي بسُمعته بين العرب، وأن تلحق به وصمة الكذب، حتى وإن كان ذلك في سبيل تشويه صورة خصمه اللدود عند ملك الروم، وما ذاك إلا لأصالة استهجان العرب للكذب وشُنعة التهمة عندهم.

أفيُعقل بعد هذا كله أن تُقدم شخصيةٌ متمتعةٌ بالكمال الأخلاقي والعقلي كشخصية محمد - صلى الله عليه وسلم - على الاستعلان بفريةٍ يُضرب لها الطبل دون أن اعتبار منها لسمعتها ومنزلتها ومكانتها في قومها والعرب جميعًا؟!

هل من السهل على رجلٍ عاقلٍ متزنٍ أن يُقامر بسُمعته وشرفه ومكانته لأجل كذبةٍ وفريةٍ يختلقها وهو لا يدري هل سيصدق الناس فريته وينخدعون بها أم يكذبونها ويردونها عليه؟! فكيف إذا كانت القرائن والمعطيات تقول: إن هذه الفرية ستقابل حتمًا بالإنكار وعدم القبول؟!

أين كان ضميره؟! وأين كان عقله حين أقدم على ما أقدم عليه من ادعاء النبوة إنْ لم يكن صادقًا في ذلك بالفعل، ومحقًّا فيما ادعاه في نفس الأمر؟!

بل ثمت أمرٌ أخلاقيٌّ آخر في هذه القضية، وهو أن العقل والعادة قاضيان بأن أخلاق المرء إذا كانت تنهاه على ترك استعمال الكذب استقباحًا واستهجانًا، فهاته الأخلاق قاضيةٌ كذلك بمنعه من الكذب على الله الخالق من باب أولى، فمنطقي أن مَن يخجل من الكذب على الناس في الأمور الدنيوية التافهة، للؤم خُلق الكذب ومهانة فاعله - أن يكون خجله من الكذب على الله تعالى أشد وأكبر، وأن يكون منه أبعدَ وعنه أنْأى.

ولهذا لم يكن غريبًا من أمر قيصر في سؤالاته لأبي سفيان حول أمر النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه الشام، قد جاء في مقدمتها: هل جربتم عليه كذبًا قبل أن يقول ما قال؟"؛ أي: هل كان الكذب في الأمور الحياتية من شأنه قبل دعواه النبوة؟ ولما أجابه أبو سفيان رضي الله عنه بأنهم ما جربوا عليه الكذب - توصل قيصر إلى نتيجة منطقية جدًّا، وهي استبعاد أن يكون خُلْق الإنسان هو الصدق مع الناس وترك الكذب عليهم، ثم يكون أول افتتاحه لأمر الكذب بكذبةٍ كبرى على الله نفسه!

إذًا السيرة الشخصية والتكوين الأخلاقي لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم - لا يسمح له بارتكاب جريمة افتراء النبوة وادعائها بالباطل، ومجابهة الناس بالكذب الصريح والامتحال القَراح، ولا تطاوعه نفسه ولا تساعده أخلاقه على ارتكاب جريمة الكذب على الله وادعاء النبوة افتراءً، فكيف وكذبة كهذه ستكون توابعها شديدة الكلفة جدًّا، ولا بد فيها من تضحيات باهظة، فكيف يجرؤ شخصٌ متزنٌ عقلًا، صادقٌ لهجةً، أمينٌ نفسًا على المقامرة بسُمعته ومخالفة شمائل أخلاقه وطبائع شخصيته بالإقدام على كذبٍ أصلع ليس تعلقه مع قومه وعشيرته فحسب، ولا حتى عموم الناس فقط، بل كذبٌ له تعلق بالله تعالى، وإنَّ قريشًا والعرب لم يكونوا ملاحدةً ينكرون وجود الله وهيمنته وبطشه بمن استحقَّ عقابه، بل كانوا يعرفون الله ويعبدونه ويحجون بيته ويعظمون كعبته، ويتحاشون المال الحرام في تعميرها، وإنْ وقعوا في الشرك وتلوثوا به، وأضعف الإيمان وأقل الأحوال أن يكون عند محمد - صلى الله عليه وسلم - من تعظيم الله والخوف منه ما عند قومه من ذلك، فكيف تسوِّغ له نفسه افتتاح الكذب بكذبة كبرى على الله تعالى؟!

ثم لا بد من القول: إنه يتعيَّن النظر كذلك في حال محمد - صلى الله عليه وسلم - وأخلاقه بعد دعواه النبوة فيما يتعلق بأمر الكذب، فإننا قد ذكرنا في مطلع هذه الكلمة أن الإنسان يمضي على خُلقه الثابت له ولا يتحول عنه إلا على سبيل الهفوة والندرة، لكن قد أشرنا أيضًا إلى إنه قد يطرأ على النفس البشرية من التحولات الفكرية أو الهزات النفسيَّة ما يُحدِث لها التغير والتبدل الكامل أو الكثير في أخلاقها، وضربنا له مثلًا بالمجرم العتيد في الإجرام الذي يتوب ويتحول إلى شخص طيبٍ مسالمٍ، وكالشخص الملتزم أخلاقيًا ودينيًا الذي ينحرف ويكاد أن يصير شيطانًا رجيمًا.

وعلى هذا، فإذا قال قائل: لعل الاستقامة الأخلاقية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ومجانبته العظيمة للكذب والخداع، كانت مرحلةً من مراحل حياته وهي قبل النبوة، لكن لما ادعى النبوة كان هذا بمثابة مرحلةٍ جديدةٍ في حياته، فلا يلزم أن تكون الاستقامة الأخلاقية السابقة دليلًا على صدق ادعاء النبوة لاحتمال وجود تحوُّل طارئٍ في الشخصية كان ادعاء النبوة نتيجةً له أو سببًا فيه.

وافتراض هذا القائل قد يكون له حظ من الاحتمالية من جهة الافتراض، لكن الواقع ينسف هذا الافتراض من أصله ولا يبقي له أي نصيب من الاحتمالية، ذلك أنَّا إذا نظرنا في حال محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد النبوة والرسالة من جهة الأخلاق لا سيما خلق الصدق - وجدناه سائرًا على السيرة التي كان معروفًا بها قبل النبوة، ومُنتهِجًا ذات السبيل الذي كان يسلكها، بل إنه يترقى في ذلك الخُلق وليس ينقلب عليه ولا يتنكر له، وله في ذلك الأقوال الكثيرة التي تذم الكذب وتحمد الصدق، فيخبر أن الكذب من علامات النفاق، وسيما المنافقين، كما الصدق من سيما من المؤمنين، وأن الكذب يقود أصحابه إلى النار كما أن الصدق يقود أصحابه إلى الجنة، بل إننا نجد محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يبالغ في المباعدة عن الكذب مبالغةً عظيمةً على المستوى الشخصي، فنجده يحترز من الكذب حتى في المزاح الدعابة ويخبر أصحابه أنه مهما مازحهم وداعبهم - فلن يقول في مزاحه ودعابته إلا صدقًا وحقًّا، بل إن ليستعمل المعاريض البعيدة التي توهم السامع خلاف مراد المتكلم؛ تلافيًا للكذب الصريح إذا وُضِع في موقفٍ يترتب على الصدق فيه ضررٌ يلحق بالمسلمين، وذلك كما في قوله: "نحن من ماء" تعمية على الرجل الذي سأله ...

بل أظهر من الوفاء بالعهد مع الأعداء وفي أحلك الظروف - ما لا يكون إلا ممن تمكنت منهم فضائل الأخلاق واستحوذت عليهم كلَّ الاستحواذ، فإن الصحابي حذيفة بن اليمان ووالده -رضي الله عنه - قد خرجا يريدان شهود معركة بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فصادف التقاؤهما بالجيش القرشي، ولما أراد القرشيون أسرهما حلف حذيفة وأبوه أنهما يقصدان المدينة وليس اللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فتركهم القرشيون بعد أخذ العهود والمواثيق عليهما بعدم القتال مع المسلمين، ولما حضر الرجلان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبراه بتلك العهود المواثيق، طلب منهما الرجوع وعدم القتال معه، وقال كلمته المشهورة: "نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم"، وفي فتح مكة لما تأخر في إجابة طلب الأمان لرجلٍ مهدور الدم بُغية أن يقتله أحدهم قبل ذلك، ولما لم يفعلوا وأعطاه الأمان وحقن دمه، أخبرهم أن تأخره كان رجاء أن يقتلوه قبل منحه الأمان، فسألوه لِمَ لَمْ يغمز لهم بعينه، ليفهموا أنه يريد قتله ولا يريد الموافقة على إعطائه الأمان؟ قال لهم: «ما كان لنبيٍّ أن تكون له خائنة الأعين»، وكان في مطلع وصاياه لأمراء الجيوش التي كان يرسلها في الغزو "لا تغدِروا".

والشاهد أننا نُلفي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على سيرته الأولى وطريقته المعهودة في ديمومة الأخلاق الحميدة وعلى رأسها الصدق والأمانة والوفاء بالعهد، وكل هذا يعني تأكيد الحقيقة الساطعة من أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قبل دعواه النبوة على حالٍ تسمح له أخلاقه وقيمه ومبادئه باختلاق دعوى النبوة من تلقاء نفسه، والوقوع في دنس خطيئة الكذب المنافرة كل المنافرة لمعهود أخلاقه ومُستقِر شمائله، وكذلك لم يحدث له تحولٌ أخلاقيٌّ يغير ذلكم الثابت المستقر من خُلقه وشمائله بحيث يقول القائل: قد كان صادقًا خلوقًا ثم ادعى النبوة وانتكست أخلاقه وترك الصدق، بل لم يزل صلى الله عليه وسلم ملازمًا للصدق والوضوح مجانبًا للكذب والخديعة حياته كلها ودهره أجمع، وليس هذا من شأن المتقوِّلين الكاذبين ولا هو من طريقة المخادعين الماكرين؛ فثبت أن ما ادعاه من النبوة وما زعمه من إرسال الله له - هو جارٍ على معهود حاله من الصدق والأمانة والشفافية والوضوح، فهو صادقٌ فيه كل الصدق أمينٌ فيه كل الأمانة.


يُتبع...










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 31-03-2022, 02:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,920
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من الدلائل العقلية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم

من الدلائل العقلية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم (2)

د. علي حسن الروبي


الحلقة الثانية:

(الدوافع والأسباب المفترضة وراء ادعاء النبوة)


إذْ قد فرغنا من الكلام على أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم- وسيرته قبل البعثة ومدى مركزيتها في الدلالة على صدق دعوى النبوة، فإننا سنعرج هنا على جانب آخر له تعلق بقضية الصدق والكذب في دعوى النبوة، ألا وهو الدوافع والأسباب التي يمكن أن تحمل صاحبها على اختلاق دعوى النبوة، وهل هي موجودة في حال النبي محمد صلى الله عليه وسلم أم ليست موجودة؟

فمعلوم على أن المقْدِم على دعوى كاذبة خطيرة كادعاء النبوة لا بد أن يكون له من الدوافع والأسباب الحاملة له على الولوج في هذا الأمر الخطير، بل تلك الدوافع لا بد أن تكون متناسبة مع أعباء هذا الادعاء وما سيلقاه صاحبه من تحدياتٍ، وما سيبذله من تضحياتٍ.

إن مجازفة ادعاء النبوة كذبًا جريمةٌ ليست سهلة التنفيذ ولا سهلة التبعات ولا مأمونة العواقب ولا عارية من المخاطر ولا خالية من التضحيات الكبرى، بل هي كالسرقات الكبرى التي لا يقدم عليها إلا المجرم المحترف المغامر الطموح، وهو يعلم ما يكتنفها من أهوال ومخاطر ومصاعب، وما سيتبعها من نتائج، وأنها إما أن يكون فيها تغيير حياته إلى الغنى والثروة وإما أن يكون فيها حبل المشنقة، أو ظلام السجن حتى الموت.

إن كل ذي عقل صحيح سليم يجبره عقله على التفكر والتأمل في عواقب الإقدام على هذه المجازفة الخطرة وما سيجنيه منها من أرباح وما سيدفعه في سبيلها من كلفاتٍ، فيقدم ويضحي إذا ظن أن الأرباح أكثر، ويحجم إذا ظن أن جانب الخسائر أكثر، ولا يهمل تلك الحسابات والموازنات إلا الحمقى البين حمقُهم أو المجانين البين جنونُهم.

وإن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، لقاضية برجاحة عقله وكمال فطنته، ومن ثَم فلا يبقى على إقدام عاقل مثله على ادعاء النبوة – إن كان كاذبًا في ادعائها- إلا أن تكون له من الدوافع والأسباب ما يجعله يجازف ويغامر بسمعته وشرفه بين قومه، ويعرض نفسه لويلات وتهلكات يستغني العاقل عن إيراد نفسه مواردها بلا مقابلٍ ولا عائدٍ.

فما تلكم الدوافع والأسباب التي يمكن أن تقف وراء ادعاء النبوة كذبًا في حق رجل تام العقل والفطنة والفضائل كمحمد صلى الله عليه وسلم؟

لا يخلو ادعاء النبوة كذبًا أن تكون أسبابه والبواعث عليه تحقيق مطامع مالية أو تحقيق مطامع سلطوية.

وكلاهما -أعني البحث عن مطامع مالية أو مطامع سلطوية- من الدوافع التي لا تكون وليدة اللحظة، بل هما كغيرهما من أهداف الإنسان وتطلعاته وأحلامه، نتِاج من نِتاج شخصيته وأخلاقه ومُثله وقِيمه وطريقة تفكيره ونظرته للحياة ومعايير النجاح والفشل فيها.

وإذا كان كذلك، فإننا نقول إن تطلعات الإنسان وأحلامه وطموحاته هي نتاج طبيعة شخصيته وأفكاره وأخلاقه، وهي كذلك أسبابٌ لتكوين أخلاقه وتشكلها بما يتوافق مع تلك الطموحات والمطامع والأحلام.

فصاحب طبعِ الطمع والجشع المالي الغالب على شخصيته أن يحمله ذلك الطبع والخلق على أن يلهث وراء المطامع المالية متى لاحت وأين لاحت، ولا يحجزه عن الوصول إليها حاجز من مشقةٍ أو مكارم أخلاقٍ حتى يصل إلى تلك المطامع أو ييأس من الوصول إليها. وفي ذات الوقت فإن استمرار مطاردة الإنسان للمطامع المالية ولهثها خلفها يعزز عنده خًلق الطمع ويقويه ويؤصله عنده بحيث يغلب عليه ويصبح هذا الخُلق القوي المتأصل قادرًا على توليد مطامع مالية جديدة عند صاحبه.

وهذا شأن جميع الأخلاق فاضلة كانت أو قبيحة؛ فممارسات الشخص للأعمال المواتية لأخلاقه هو نتاج لتك الأخلاق وهو كذلك باعث على تعزيز تلكم الأخلاق عنده وتقويتها. فهي علاقة تفاعلية كما أن الإيمان بالله تعالى يحمل أصحابه على التزود من الأعمال الصالحة، والتزودُ من الأعمال الصالحة يقوي الإيمان في قلوب أصحابها.

نعود إلى قولنا إن المطامع المالية والسلطوية لا تكون وليدة اللحظة عند الشخص، بل هي نتاج شخصيته وأخلاقه وأفكاره. فإذا نظرنا إلى شخصية محمد -صلى الله عليه وسلم- فهل نجد في أخلاق هذه الشخصية وسيرتها ما يدل على وجود المطامع المالية والسلطوية فضلًا عن رسوخها وغلبتها عليه حتى يكون ادعاء أمرٍ عظيمٍ خطيرٍ، كادعاء النبوة كذبًا، هو أحد أعراض تلك المطامع المالية والسلطوية وأبرز تجلياتها؟

إن صاحب المطامع المالية أو السلطوية لا ينفك عنه ذلك الخُلق ولا يقدر على كتمانه مهما حاول إخفاء ذلك، بل إن واقع الافتراض يقول: إن الباحث عن المال المتستر في بحثه عنه خلف دعوى قيمية أخلاقية هو كاذب فيها، سيكون مُراده الأول والأخير هو الوصول إلى تحقيق أهدافه المالية، ومتى انفتح أمامه الطريق إلى تحقيق أحلامه المالية سيسرع في ركوب تلك الطريق وعدم الحيدة عنها، غاية ما هناك أن يراوغ ويخدع مَن حوله أنه لا يفكر في المال وأنه ليس من غايته الأصيلة، أما اكتنازه المال وتضخيم الثروة، فأمرٌ لا بد من حصوله منه متى أتيحت أسبابه، وإلا كان وصفنا لإنسانٍ ما بأنه حريصٌ جشعٌ طماعٌ ونحو هذه الأوصاف ضربًا من العبث إذا كان هذا الشخص الموصوف بتلك الصفات لا يبالي بالمال إذا حصل له، بل لا يبالي بجمعه ولا يسعى في تحصيله.

وبتنزيل هذا التقرير على ما نحن بصدده من شأن افتراض وجود مطامع مالية أو سلطوية خلف ادعاء النبوة كذبًا، نقول:
لقد أوقفنا القارئ الكريم في المقالة السابقة على أخلاقه صلى الله عليه وسلم وطبائع شخصته وما اشتهر به بين قومه قبل البعثة، وأنها كانت على الغاية في الكمال الخلقي، بحيث إننا لم نجد خصومه الذين سعوا في إلحاق الضرر به بكل طريقٍ يعثرون في سجلات ماضيه الأخلاقية على ما يمكنهم تعييره به والتشنيع عليه بسببه، ونضيف هنا تأكيدًا بخصوص تلك "الأطماع المالية المفترضة" أنها لو كانت تلكم المطامع موجودة عنده ومتأصلة في شخصيته، فإنه لا بد أن يكون لها ظهور على تصرفاته وأفعاله كما أسلفنا في العلاقة التلازمية بين أخلاق الشخص وتصرفاته.

ذلك أنه لو كان الطمع عمومًا والطمع المالي خصوصًا خلقًا أصيلًا في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم، لا نعكس ذلك على تصرفاته وأفعاله قبل البعثة ولَوُجِد منه ما يدل على ذلك، ولكانت أقرب تهمة يتهمها به الخصوم، مثلًا، أن يقولوا: "أيها الحريص الجشع، هل تذكر حين وقعتْ منك الخزية الفلانية بسبب جشعك وطمعك"؟

لكن شيئًا من ذلك لم يقع، ولسنا كذلك نجد في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم قبل دعوى النبوة ما يدل على لهثه وراء الأموال أو سعيه في تجميعها من كل طريق، بل نعلم إنه عاش صباه راعيًا أغنامَ عمه ثم مساعدًا له في التجارة، ثم مُشرفًا على تجارة خديجة - رضي الله عنها - حتى اختارته زوجًا لأمانته ولما توسمت فيه من نبيل الأخلاق وكريم الشمائل، وهي صورةٌ مغايرةٌ ومباينةٌ لصورة الرجل المولع بجمع المال واكتنازه، حتى يحمله هذا الولع على افتراء واختلاق فِرية كبرى لم يسبقها أحدٌ من قومه أو أسلافه إلى اختلاقها وافترائها.

فهذه شواهد (قَبْلية) على عدم صحة هذا الافتراض وعدم إمكانية وجوده أصلًا، ولو أغضينا الطرف عن تلك الشواهد، وتنزلنا مع هذا الافتراض (وجود أطماع مالية وراء دعوى النبوة)، فإننا لا بد أن نتساءل: أين الشواهد (البَعْدية) واللاحقة على صحته؟ وأين تجلياتها؟

فأما في المرحلة المكية للدعوة وهي ثلاثة عشر عامًا، فلا نجد فيها إلا الخسائر المادية الكاملة التي لحقت بمحمد صلى الله عليه وسلم، فمنذ أن بدأ دعوته ترك العمل بالتجارة وتفرغ تفرغًا لدعوته، وكان الكتاب الذي يقول إن الله تعالى أنزله عليه يأمره بأن يقول للمدعوين الذي يخاطبهم للإيمان بدعوته ﴿ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [الأنعام: 90]، ويكرر عليه ذلك بين الفينة والفينة، ثم لم تنته تلك المرحلة إلا عن حصار اقتصادي وعزل اجتماعي جائر ضد محمد صلى الله عليه وسلم وعشيرته كعقوبة قرشية لبني هاشم وبني المطلب لعدم تسليمهم محمدًا صلى الله عليه وسلم للزعامة القرشية تقضي فيه قضاءها.

وبكل حال فالمرحلة المكية من الدعوة لم تكن موضعًا لتحقيق الطموحات المالية إن كان محمد صلى الله عليه وسلم لديه شيء من ذلك، بل كانت موضعًا لتجسد الأضرار المادية والمعنوية له ولأتباعه أيضًا.

ثم لننتقل إلى المرحلة المدنية؛ حيث بدأ صلى الله عليه وسلم في تأسيس دولة جديدة، وتغيرت كليةً الأوضاع التي كان يعيشها هو وأصحابه في مكة من الاضطهاد والتعذيب والخوف والمحاربة، وصارت للمسلمين دولة وغزوات وأموال، ونصطحب معنا سؤالنا: هل شهدت تلك المرحلة من حرص محمد صلى الله عليه وسلم على جمع المال واكتنازه أو التوسع في الثروة والزيادة في الممتلكات ما يمكن جعله شاهدًا على صحة افتراض وجود دوافع مالية وأغراض مادية كانت هي السبب في فرية ادعاء النبوة خلافًا للواقع ونفس الأمر؟

من المؤسف جدًّا أن مفترض هذا الافتراض لن يجد من شواهد تلك المرحلة - أي المرحلة المدنية - إلا ما هو ضد ذلك الافتراض ونقيضه، فإن المنقول إلينا من سيرة محمد صلى الله عليه وسلم في تلك المرحلة أنه منذ وصوله إلى المدينة وحتى وفاته كان مسكنه هو حجرات متواضعة، منخفضة السقف، في كل حجرة منها تسكن زوجة من زوجاته، ولم يتخذ المنازل الواسعة الجميلة فضلًا عن القصور ذات الخدم والحشم.

وظل محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن تتحسن الأوضاع الاقتصادية للمسلمين في المدينة وبعد أن تحسنت، وفُتحت الدنيا على أصحابه، ظل محمد -صلى الله عليه وسلم- على حالة واحدة من التقلل من الدنيا، وحالةٍ واحدةٍ من الفقر وقلة ذات اليد؛ حتى إنه حتى موته لم يشبع من الخبز الجيد، وكان يمر الشهر والشهران لا يجد أهل منزله من الطعام ما يوقدون عليه النار، وكان يسأل أهله في الصباح عن الطعام، فإن وجد أكل وإن لم يجد شرع في الصوم! وكان ينام على سرير له سيور تؤثر في ظهره حتى يرثي أصحابه له، والمنقول في هذا الشأن كثيرٌ مطردٌ متواترٌ دالٌّ على مدى التقشف والفاقة والبُعد التام عن الثراء المالي أو التنعم الدنيوي، بل قد مات محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد رهن درعه عند رجل يهودي مقابل طعام يشتريه لأهله!

كل ذلك كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يعيشه ويحياه، وهو هو نفس الرجل الذي سأله سائلٌ بعد حصول غنائم إحدى الغزوات، فأعطاه أعدادًا كبيرة من الأغنام تملأ ما بين جبلين، وهو هو نفس الشخص الذي يقف بعد غزوة حنين فيعطي رموز العرب وساداتهم المائة من الإبل لكل واحدٍ منهم، وتجتمع حوله الجموع الكثيرة تسأله بإلحاح وإكثار ليعطيهم من الغنائم، حتى تلجئه تلك الجموع إلى شجرة يتعلق رداؤه بها، فيعلن لهم كلمته الشهيرة (لن تجدوني بخيلًا ولا كذابًا)!

يخرج محمد صلى الله عليه وسلم بعد هذه الغنائم واقتسام الأموال الهائلة خالي الوفاض، ويرجع إلى بيته ويمارس حياته السابقة، فيجوع يومًا ويشبع يومًا، ويجد الوجبة حينًا ويفقدها حينًا، هذا ولمحمد صلى الله عليه وسلم (نظريًّا) الخُمس من الغنائم، لكن هذا الخُمس (النظري) كما أخبر هو بنفسه (مردودٌ على المسلمين)، فيتحمل به الديون عن المدينين ويقضي به حاجات المحتاجين والسائلين، ولا يُبقي لنفسه ولا أهله بيته شيئًا.

فأين هي تجليات الدوافع المالية والاقتصادية التي كانت له وبسببها ادعى النبوة؟! ولماذا لم يحقق آماله وطموحاته المالية، ويتخذ القصور ويحوز الملذات ويتنعم بالدنيا، وقد واتته الفرصة لذلك بعد انفتاح الدنيا عليه وعلى أصحابه؟! ألم تكن تلك الغنائم الكثيرة التي كان يوزعها هنا وهناك، كفيلة بجعله من أثرياء العرب إن لم يكن أثراهم؟!

أين هي الكنوز وسبائك الذهب والجواهر والأحجار الكريمة التي تركها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - لورثته وقرابته؟! فلعل قائلًا يقول: كان يُقتر على نفسه ويجمع لورثته! إن التركة التي خلفها ذلكم الرجل الذي يعطي الأموال يمنة ويسرة وكأنها ليست الأموال التي يعرفها الناس ويسيل لعابهم من أجلها، إن تركة ذلكم الرجل ما كانت إلا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضًا بخيبر جعلها لابن السبيل صدقة!!

وإذْ قد بدا لذي اللب والإنصاف أن أي افتراض لوجود دوافع مالية وراء ادعاء النبوة ما هو إلا ضربٌ من الجهل والعبث، فلننتقل إلى الافتراض الثاني، ألا وهو افتراض وجود دوافع سلطوية كانت هي الحافز على ادعاء النبوة كذبًا، وهنا نعيد التذكير بما أسلفناه في أول المقال بأن الأطماع المالية أو الأطماع السلطوية المفترضة إن كانت موجودة شخصٍ ما ثم حملته على اقتراف جريمةٍ نكراء في حق الله وحق الناس كادعاء النبوة كذبًا، فهي ( أي تلك الأطماع) مرض متأصل في أخلاق هذا الشخص، قد تمكن منه كل التمكن حتى دعاه إلى الوقوع في تلك الجريمة من أجل الوصول إليه، فلا بد أن تظهر أعراض هذا المرض على تصرفات الشخص وأفعاله، ويكون لها الأثر الكبير في اهتماماته وأولوياته.

وبناءً على هذا، فعلينا أن ننظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل دعوى النبوة وبعدها، فلا ريب أن فيها ما يشهد على ذلك الافتراض بالبطلان أو يشهد له بالصحة، وقد تقدم القول عند معالجة الافتراض السابق أن سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- تدل على أنه نشأ راعيًا للغنم في صباه ثم مساعدًا لعمِّه في تجارته ثم عاملًا في مال خديجة - رضي الله عنه - والتي أصبحت زوجته بعد ذلك.

وليس في أي من الحوادث المنقولة لنا قبل البعثة ما يشير إلى بحثه عن سلطة وسيادة، فلا نجد له أي محاولة من المحاولات التي يمكن أن نقول عنها: إنها كان الخطوة الأولى منه على طريق تحقيق أحلامه في السيادة والوصول إلى السلطة، لا نجد أي خبر يدل على ذلك، حتى لو كانت محاولة للوصول إلى سيادة قبيلته (بني هاشم)، فضلًا عن سيادة قريش بأكملها، فضلًا عن العرب بأجمعهم.

ذلك أن الذي يدعي النبوة كذبًا وبهتانًا ويقول للناس: إنه رسول لا لقريش وحدها ولا للعرب فقط، بل للعالم أجمع، لهو شخصٌ مريض بحُبِّ السلطة مرضًا قويًّا قد تمكن منه واستولى على تفكيره، حتى أوصله إلى ما يشبه أحلام اليقظة في التفكير وأبعده عن حقائق الواقع العربي وأنساه سنن الحياة من حوله.

أليس من الطبيعي أن ذلك الشخص المريض بحب السلطة والمهوس بها هوسًا جنونيًّا، حمله على دعوى النبوة كذبًا، تكون له محاولات سابقة على ذلك الادعاء للوثوب إلى السلطة والسعي إليها؟

إننا لا نعرف من سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما يتصل بالشأن العام إلا أنه حضر وهو غلامٌ مع أعمامه حرب الفجار، وأنه شهد حلف الفضول لنصرة المظلوم في دار عبد الله بن جدعان، كما شهده غيرُه من الرافضين للظلم والساعين لنصرة المظلوم، حتى حادثة وضعه الحجر الأسود عند إعادة بناء الكعبة، حينما تنازعت القبائل فيما بينها على مَن هو الجدير بحيازة هذا الشرف، لم يكن ذلك الشرف الذي ناله عن سعيٍ منه في الوصول إليه ولا لأنه وقتها كان من زعامات القرشية المشتهرة، بل وقع ذلك قدرًا عندما اقترح مُقترِحٌ أن يكون تحاكم المتنازعين إلى أول داخل من باب المسجد الحرام، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ذلك الداخل، فاقترح عليهم وضع الحجر الأسود على ثوب لتتشارك كل القبائل في حمله، حتى إذا رفعوه قام هو بوضعه في موضعه، ولم يكن رضاهم بمقترحه ناتجًا عن مكانة سيادية له بينهم، وإنما كان لما هو مشتهرٌ به من حُسن الخلق وسلامة النفس والبُعد عن الخصومات والعداوات بحيث لم يكن بينه وبين أحدٍ ما يشنؤه لأجله.

فإذا ما تركنا مرحلة ما قبل البعثة، وفتَّشنا في المرحلة المكية بعد البعثة، فإننا سنجد فيها - فيما يتعلق بتحقيق الآمال السلطوية - نظيرَ ما وجدناه فيها بالنسبة لتحقيق الآمال المالية إن كان لواحدةٍ منهما وجود على الحقيقة، فلقد كان المرحلة المكية مرحلة الصراع غير المتكافئ مع قريش، ولم يكن أمام محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه سوى الصبر على الأذى القرشي واحتمال التنكيل والمضايقات وسائر أصناف الإيذاء والمضايقات.

إن تلك المرحلة لا تمثل انعدامًا لتحقيق أية تطلعات سلطوية فحسب، بل إنها كانت بمثابة التضييع للوجاهة الاجتماعية والشرفِ الذي كان قد حازه النبي -صلى الله عليه وسلم- بنسبه الهاشمي الباسق في قريش وبكماله الخُلقي الذي زاده شرفًا في قومه إلى الشرف المكتسب بالنسب والوارثة. إننا سنجد محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ذا الهيبة الأخلاقية والوجاهة القبلية يتعرض لأصناف من الإيذاء والشتم والسخرية وما شاكل ذلك مما لم يتعرض له في حياته من قبلُ قط، بل لم يكن يقع مثلها لآحاد الناس ممن هم دونه في الشرف والمنزلة بمراحل، إنها أذية لا يتعرض لمثلها إلا أولئك الذين ضعف شأنهم جدًّا بين الناس فلا يؤبه لهم لهوانهم على الناس أو هوانهم على أنفسهم، وفوق ذلك فإن تلك الأذية الحاصلة لمحمد -صلى الله عليه وسلم- تأتيه من أعيان قريش وأشرافها كما تأتيه من رعاعها وغوغائها، فلقد كانت الدعاية القرشية تقنع الرأي العام المكي بأن الرجل قد جاء بما يتوجب معه استباحته كل الاستباحة والتفنن في النيل منه بكل سبيل.

أفلم يكن جميع ذلك مما لقيه محمد -صلى الله عليه وسلم- طيلة ثلاثة عشر عامًا زاجرًا له عن الاستمرار في الكذب المزعوم، ومجبرًا له على التراجع عن تلك الأهداف والأحلام السلطوية المفترضة؟!

ثم إننا إذا تركنا المرحلة المكية، وولجنا إلى المرحلة المدنية التي تغيرت فيها حياة محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وأصبح للمسلمين شوكة ودولة، وهنا قد يقول القائل الذي افترض أن الأحلام السلطوية الشخصية هي التي تقف خلف ادعاء النبوة كذبًا: إن المرحلة المدنية تصلح أن تكون مرحلة جني ثمار وتحقيق لتلك الأحلام، فلقد صار محمد (صلى الله عليه وسلم) هو رأس الدولة الناشئة والآمر الناهي فيها، بحيث لم يعد أحدٌ ينازعه في تلك المكانة ولا يقاربه فيها.

فنقول: إن الشواهد لتدلنا على أن المرحلة المدنية وإنْ كانت قد أعطت محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من السلطة والمكانة ما لا مرية فيه ولا جدال، إلا أن تلك الشواهد لتدل كذلك على أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مُلتفتًا إلى ما يلتفت إليه الباحثون عن السلطوية فضلًا عن المهوسين بها حدَّ الجنون، فإننا قد سبق أن أشرنا إلى أن الهوس بالمال والهوس بالسلطة أمراضٌ لا بد من ظهور أعراضها على أصحابها، والقارئ يقف بنفسه يوميًّا على صحة ذلك عبر ما يلمسه من تصرفات بعض الناس من حوله التي تنادي بأعلى صوتها على هوس أصحابها بالسلطة أو بالمال أو بالشهرة والصيت.

وأنت- أيها القارئ- إذا نظرت في سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- في المرحلة المدنية، لم تجده شيد قصرًا يمارس فيه مظاهر السلطوية، ولا حتى اتخذ مجلسًا خاصًّا بذلك على عادة أهل الرياسة والزعامة، ولا كان الرجال يقفون عند رأسه وهو جالس على الطريقة المعتادة عند الملوك وأهل الإمارة، بل لم يكن يتميز عن جلسائه بأي مظهر من مظاهر التميز، حتى إن الأعرابي الغريب كان يدخل عليه وعلى أصحابه المجلس، فيسأل: أيكم محمد؟!، وكان ينهى أصحابه عن القيام له إذا دخل عليهم، وكان يشتري حاجته من السوق بنفسه، ويساعد أهل بيته في مهنتهم إذا لم يكن عنده ما يشغله، وكانت الأَمة من جواري المدينة تأتي فتأخذ بيده وتذهب به حيث شاءت؛ ليساعدها في بعض المهام التي طُلِب منها تنفيذُها! ورأى صاحبه معاذ بن جبل طريقة تعامل الناس مع أمرائهم وملوكهم في الشام، وأنهم يسجدون للملك عند الدخول عليه، فحاول نقل تلك العادة إلى مجتمع المدينة، فسجد للنبي -صلى الله عليه وسلم- عند لقائه به كنوع من التحية، فنهاه عن ذلك، إلى غير ذلك من عشرات التصرفات والأفعال التي تقطع ببُعد صاحبها عن السلطوية، وعدم اكتراثه بها، فضلًا عن أن يكون مهوسًا بها هوسًا دعاه إلى اختلاق فرية النبوة سعيًا وراءها وطلبًا لتحصيلها.

وبعد، فقد ظهر بينًا أن افتراض وجود دوافع وأغراض مالية أو سلطوية تقف خلف ادعاء محمد -صلى الله عليه وسلم- النبوة كذبًا، لهو ضربٌ من الافتراض من أبعد ما يكون عن العقل، ومن أشد ما يكون مجانبة للصحة والحقيقة، وأنه سيرته وأخلاقه وسيرته قبل البعثة وبعدها ليس فيها إلا ما يشير إلى ضد ذلك الافتراض ونقيضه ومقابله، وما يجعل ذلكم الاحتمال ضربًا من الكذب والتخرُّص.

يتبع.......


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 05-06-2022, 07:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,920
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من الدلائل العقلية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم

من الدلائل العقلية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم (3)

د. علي حسن الروبي






الحلقة الثالثة (أخلاقه وسيرته بعد البعثة)



تكلَّمْنا في المقالة الأولى عن أخلاقِ النبي صلى الله عليه وسلم وسيرتِه قبلَ البَعْثةِ ودعوى النبوَّةِ، وكيف أن المتبصِّرَ فيها بإنصاف سيعلم يقينًا أن تلك الأخلاقَ لا بُدَّ أن تحجِز صاحبَها عن الكذب، ولا سيما في كذبة كبرى كافتراء النبوَّة، ونتكلَّم في هذه المقالة عن أخلاقِه وسيرتِه المنقولةِ لنا بعد بَعْثَتِه، وهل يمكن أن يكون صاحبُ تلك الأخلاقِ قد كذب في ادِّعاء النبوة، واستمرَّ على كذبته تلك حتى وفاتِه كما يقوله الخُصُوم؟

إننا لنحاول هنا أنْ نلفت الانتباهَ إلى أهمية تلكُم الصرامةِ الأخلاقيةِ المتكاملةِ التي كان عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حياتِه وسيرتِه والتي استمرَّ على استعمالها مع الصديق والعدوِّ، ومع القريب والغريب، ومع الضعيف ومع القوي، وفي داخل بيته وخارجه، وفي حَضَره وسَفَره، وفي صحَّتِه ومَرَضِه... وإلى أيِّ مدى تدُلُّ على صِدْقه في دعوى النبوَّة.

وإننا لنقطع أنَّ مثل تِلكُم الصرامةِ الأخلاقيةِ وذلكُم الكمالِ الأخلاقيِ يستحيل أن يكتسبهما كذابٌ مُفْترٍ، كما يستحيل أن يقتدر صاحبُهما على ضمِّ الكذب إليهما؛ فيكون الجميعُ من جملة أخلاقِه وصفاتِه.

ذلك أننا نعلم أن الإنسانَ الكاذبَ لا بد أن تُخالِفَ أقوالَه أفعالُه؛ فنجده يدعو غيره إلى الجُود، لكن مَنْ يعامله يكتشف أنه بخيلٌ، أو يدعو غيرَه إلى العِفَّة والطهارة ومَن يخالطه ويُداخله يجد فيه تهتُّكًا وانحلالًا، أو يدعو الناس إلى الزهادة في الدنيا والتقلُّل منها ومَن يطلع على خاصة شأنه سيجده يكنِز الأموال ويسعى في طِلابها، أو يدعو إلى الرحمة بالناس وإعطائهم حقوقَهم ومن يعامله في تجارة أو إجارة ونحوها يجده ظالمًا للناس آكلًا لأموالهم بالباطل... وكل هذه الألوان من أطياف الكاذبين المتاجرين بالقيم والفضيلة لا يخلو منهم زمانٌ ولا مكانٌ.

بيد أننا لم نسمع قط ولن نسمع أبدًا بكاذبٍ تسير أفعالُه مع أقوالِه حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّة، ويتسق ما يدعو إليه غاية الاتساق مع ما يقوم به.

ولهذا فإن استمرار محمد صلى الله عليه وسلم على ما كان معهودًا عنده من فضائل الأخلاق ومكارمها، بل وترسُّخها فيه ووصوله إلى بلوغ غايتها وذُرْوة سَنامِها ينسِفُ افتراضَ كذبِه في دعوى النبوَّة.

وإنَّ كُلَّ ذي مَسْحةٍ من العقل لَيَعْلَم يقينًا أن استمرار شخصٍ ما في الكذب في ادِّعاء النبوة مدةَ ثلاثةٍ وعشرينَ عامًا، والافتراء على الله ونَحْل ما يقوله إليه، وأنه وحيٌ من عند الله لا من قِبَل شخصه، مع استمراره في نفس الوقت على الكمال الأخلاقي بين أصحابه ومَن حوله من الناس وتفرُّده عنهم في ذلك، لا سيما خُلُق الصدق، لهو ضَرْبٌ من المُحالات التي لا وجود لها في دنيا الناس، واجتماع الحوت والضَّبِّ، والثُّريَّا وسُهَيل، لهو أولى بالقَبُول والتصديق من اجتماع هذين الأمرين (الكمالِ الأخلاقي والكذبِ) في شخصٍ واحدٍ في زمانٍ واحدٍ.

هل يمكن لرجلٍ كاذبٍ طاوعَه ضميرُه الفاسدُ أن يختلق كذبةً في غاية الخِسَّة والدناءة الأخلاقية، ويعيش بقيةَ حياتِه مخادعًا للناس بها مفتريًا على الله فيها، ثم نفس هذا الرجل- هو هو- يقضي بقيةَ حياته كذلك يتحاشى الكذب على الناس من حوله، العدوِّ منهم قبل الصديق، والخَصْمِ قبل الحبيب، والبعيدِ قبل القريبِ، والصغيرِ قبل الكبيرِ؟!

هل يستطيع عاقلٌ أن يُصدِّق أنَّ الشخص الذي يكذب على الله وعلى الناس يوميًّا، هو نفس الشخص الذي يتحاشى الكذب ويتحاماه في سائر أموره وشئونه حتى في المِزاح، ويُنزِّه نفسَه عنه، ويستعمل المعاريضَ من الكلام؛ اجتنابًا للوقوع في صورة الكذب، ويقول: أنا أمزَح ولكن لا أقول إلا حقًّا؟!

كيف يجوز أن يكونَ الرجلُ المستهجِنُ للكذب قولًا وفعلًا، المُشنِّعُ على الكاذبين، الذامُّ لهم، المُقيمُ على الصدق في مجريات حياته وسائر شؤونه مع الناس مع حوله- هو ذات الرجل المُقيم والمُصرِّ على الكذب على الله وعلى الناس بادِّعاء النبوة وتنزُّلِ الوحيِ عليه بين الفَيْنةِ والفَيْنةِ؟

تأمَّل- أيُّها القارئ- وأنْعِم النظرَ جيدًا في حال هذا الرجل الذي ترصُد عيونُ مَن حوله كلَّ حركة من حركاته وكلَّ بِنْتِ شَفَةٍ ينطِق بها، هذا الرجلُ الذي نُقِل من تفاصيل حياتِه وأحوالِه ودقائقِ شئونِه الشخصيةِ وأقوالِه وأفعالِه ما لم يُنقَل مثلُه عن أيِّ إنسانٍ آخر في العالم كُلِّه قبله ولا بعده.

أيجوز أن يتمكَّن هذا الرجلُ المفترَض أنه مستمرٌّ في جريمة الكذب على الله وعلى الناس- من الإفلات من كل ( كاميرات) الرصد والمراقبة المتمثلة في عيون الأصحاب والمرافقين الذين يعتقدون نبوَّتَه، ويرصُدون كلَّ حركاته وسكناته وينقلونها إلى غيرهم؟

كيف استمرَّ على الصدق، بل وأعلى درجات الصدق في شئونه اليومية والحياتية مع مَن حوله مع تقلُّب الأيام وتبدُّل الأحوال، وهو الذي يفترض الخصوم فيه أنه شخص في حضيض الحقارة الإنسانية مُتوشِّح بالكذب على الله وخِداع الناس في ادِّعاء النبوة؟!

هل في مقدور كاذب مفطور على الكذب بل أقبح درجات الكذب أن يعيش حياته اليومية مع الناس ملتزمًا بأعلى درجات الصدق في الحديث جِدًّا وهَزْلًا، حَرْبًا وسَلْمًا، غضبًا ورِضًا، خوفًا وأمْنًا، غِنًى وفَقْرًا؟!

إنه يمكنك أن تتكلَّف خُلق الصدق أو الكرم أو الشجاعة أو العفو أو غيرها من أمهات الفضائل الأخلاقية مرة أو مرَّتين أو حتى مرات معدودة، وإنْ كان طبعك بضدِّ ذلك، لكن لا يمكنك أن تتكلَّفَها في جميع الأوقات ما لم تكن من صميم طِباعك؛ فإن الطباع غالبة على التطبُّع، وما أصدق قول أبي الطيب المتنبي:
وأسرعُ مَفْعولٍ فعلْتَ تغيُّرًا
تكلُّفُ شيءٍ في طِباعكَ ضِدُّه



لا جرمَ أنه ليس بمقدور محمد صلوات الله عليه أن يعيش حياتَه اليومية على الصدق والذُّرْوة الرفيعة منه، إنْ لم يكن الصدقُ طبعَه وخلقَه الأصيلَ وسجيَّتَه الفطريةَ.

فإن قال قائل لا يحترم عقلَه ولا عقولَ الناس: إن الذي نقل إلينا ما نُقل من أخلاق محمد صلوات الله عليه هم المسلمون المتَّبِعون له، فنقلوا لنا صورةً جميلةً، ولا مانع أن يكون الواقع بضدِّها في نفس الأمر.

والجواب:
إنه مع غضِّ الطَّرْف عن طريقة نقل الأخبار عند المسلمين وتوثيقها ووجود علمٍ كاملٍ أنشأه المسلمون خِصِّيصَى لغربلة الأخبار وفرزها وهو ما لم يوجد عند أمة غيرهم، مع غض الطرف عن ذلك إلا أننا نقول: لو كانت هناك وقائعُ وحوادثُ تدلُّ على وجود الكذب أو غيره من مساوي الأخلاق في الشخصية المحمدية، لنقلَتْها الرواياتُ لنا كما نقلت لنا بعض ما يشوش به الخصوم ويعتبرونه مطاعنَ على الإسلام ورسوله، ولذلك أمثلة منتشرة مشتهرة، وهي الشُّبهات التي يستغلُّها أعداءُ المسلمين ضدَّهم في التنفير من الإسلام والتشكيك فيه، ولولا وجود روايات تدل عليها، لما كان لتلك الشُّبهات وجودٌ أصلًا.

هذا جانبٌ، والجانب الآخر أن ذلك الافتراض يغفُل تأثيرَ وجودِ الكذبِ ونحوه من رذائل الأخلاق في المحيطين بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلو كان الانحراف الأخلاقي المفترض موجودًا، لكان داعيًا لنفور مَن يدخلون في الإسلام إذا اقتربوا من محمد صلى الله عليه وسلم، وعاينوا أخلاقه ورأوا المفارقة والمنافرة بين ما يدعوهم إليه وما يمارسه هو على الجانب الشخصي من حياته.

أيعقل أن يكون جميع أولئك الذين أحاطوا واقتربوا منه وصَحِبوه ولازَموه، لم يكن لدى بعضهم من التمييز ما يلاحظون الانفصام في شخصيته بين أقواله وأفعاله، وبين دعوته وواقعه؟!

أم تراهم كانوا جميعًا على درجة من الانتهازية و(البراجماتية)، بحيث إنهم يغضُّون الطرف عن ذلك؛ ابتغاء المصالح الشخصية في صحبة محمد صلى الله عليه وسلم؟! ثم أين هي تلك المصالح، وأكثرهم تغيَّرت حياتُه بإيمانه بمحمدٍ واتِّباعِه له والتحاقه به، من الخوف إلى الأمن، ومن الثراء إلى الفقر، ومن الوطن إلى الاغتراب؟!

ثم كيف يكون ذلك مقبولًا وأصحابُه كانوا مختلفي النزعات النفسية والسلوك الشخصي، وفيهم مَنْ شخصيتُه جريئةٌ صريحةٌ لا تقبل التلوُّن، ولا تعرف المحاباة، ولا ترضى بالمهادنة والملاينة إذا ظهر أمامها ما تعتقد خطأه وقُبحه، كشخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذلكم الرجل الجسور على الإنكار والاعتراض لما يراه خطأً، ولقد نقلت لنا كتبُ السِّيَر والأخبار اعتراضَه على بعض الأمور التي لم يظهر له وجهُ صحَّتِها.

فشخصيةٌ عملاقةٌ جريئةٌ مُهابةٌ كعمر، هل كان يقبل الاستمرار في اتِّباع محمد صلى الله عليه وسلم إنْ كان عنده تناقضٌ بين ما يدعو إليه الناس وبين ما يُمارسه في حياته اليومية؟!

ما الذي يدعو شخصيةً زاهدةً في الدنيا بل مُبالغة في الزهد والتقشُّف إلى درجة تكاد تقترب من الغلو كأبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه وأمثاله من زُهَّاد الصحابة المُنْزَوِيْنَ عن الدنيا ونَعِيمِها إلى مصاحبة رجلٍ يفعل في حياته اليومية ومعاملاته الشخصية خلافَ ما يدعوهم إليه ويحضُّهم عليه؟! وتِلْكُم شخصيات ما كانت تتطلع لشيء من الدنيا أصلًا، ولم يحصُل لها من المال أو المنصب طول حياتِها قليلٌ ولا كثيرٌ؛ ليقول القائل: إنها كانت تصحَب محمدًا وتسكُت عن الازدواجية التي تراها فيه؛ ابتغاء حَظِّها من الدنيا.

بل إننا نجد أولئك الذين آمنوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم قد بهرهم قربُهم منه، وزادهم حبًّا له، وتعلُّقًا به، بعد معاينتهم لكماله الأخلاقي، وقد جرت العادةُ أن اقتراب الجماهير المُحبَّة من الحياة الشخصية لمن يُعظمِّونهم من الأعْلامِ والرُّوَّاد، يُزهِّدُهم في أولئك العظماء؛ نظرًا لما يكشفه القربُ من الحياة الشخصية من النقص البشري عند أولئك المُعَظَّمين، بينما الذي نجدُه في حالة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو العكس، وأنَّ الحُبَّ الكبير والافتتان العظيم بشخصيته ناتجٌ عن الاقتراب الشديد من شخصيته وليس عن مجرد الصورة الكمالية المتناقلة عن شخصيته.

ثم إننا نعود ونقول في لازم الأخلاق الأخرى للشخصية المحمدية مثل ما قلناه في خُلُق الصدق فيها، وأنَّ من يعيش حياته واصلًا إلى الغاية الرفيعة من الكرم والجود والإيثار على النفس، ويبقى على حالةٍ واحدةٍ في تِلْكُم الشمائل مهما تقلَّبت عليه الدنيا من سَعةٍ أو ضيق، لا يمكن أن تكون نفسُه منطويةً مع تلكم الشمائل النبيلة على رذيلة الكذب على الله وخِداع الناس.

وأنَّ مَن كانت أخلاقُه في الذُّرْوة من العفو عن الناس، والصفح عنهم، والتسامح معهم، والرحمة بهم، والشفقة عليهم، والحرص على إيصال الخير لهم، مستعملًا تلك الشمائل مع أعدائه قبل أحبابه، ومع الغرباء عنه، ومع أهله سواءً بسواءٍ، لا يمكن أن يكون قلبه الحائز على تلكم الطهارة قد اشتملت جوانبُه على رذيلة الكذب على الناس والافتراء على رب الناس.

وأنَّ من يُضرب به المثل في الوفاء بالذمة وحفظ العهد للصديق والعدو والأقرب والأبعد، لا يمكن أن يكون هو هو ذلك الشخص الذي تستبطن نفسُه غايةَ الخيانة والخديعة بادعاء النبوة كذبًا.

وأنَّ مَن ثبَت- بالمعاينة لمعاصريه وبالتواتُر لمن لم يعاصره- كمالُ زُهْدِه في الدنيا، وانصرافُه عن مُغْرياتها، وانزواؤه عنها، وعدمُ اكتراثه بملذَّاتِها، وأنه قد عاش حياته يجوع يومًا ويشبع يومًا، وأنه بقي على تلكم الحال كُلَّ حياته حتى فارق الدنيا، وهو الذي كان يُوزِّع أموال الغنائم على الناس، ولا يكتنِز شيئًا من الأموال لا لنفسه ولا لورثته، ولا يبني القصور الفخمة، ولا يستعمل المواكب الملكية المهيبة، ولا يحيا حياة الملوك ولا الأمراء ولا حتى رؤساء القبائل والعشائر... أقول: أيكون ذلكم الذي اكتمل فيه الزهد في بهارج الدنيا وزخارفها وأموالها ورياستها وطلب العلو فيها- هو نفس الشخص الذي ادَّعى النبوة كذبًا على الله وخداعًا للناس؟!

ألا يسأل سائلٌ من خصوم محمد صلى الله عليه وسلم نفسَه: لماذا ادَّعى محمدٌ النبوة كاذبًا (حاشاه)؟ ومن أجل ماذا خادع الناسَ وافترى على رب الناس، إنْ كان سيحيا طول عمره زاهدًا قانعًا في الدنيا مُعرِضًا عنها؟!

هل يقبل العقلُ السليمُ التصديقَ بإقدام شخصٍ على تلكم الشناعة والجريمة النكراء- ادِّعاء النبوة- بلا أهدافٍ ولا دوافعَ ولا مآرب ولا مصالح مالية ولا رئاسية يستمتع بها في حياته ويلتذُّ بحصولها في مُقامه في الدنيا؟ أم يبلُغ الهزل بالعقل مَداه فيفترض الخَصْم أنه (حاشاه) تبرَّع بتلك الكذبة مجانًا بلا أغراضٍ ولا مآرب!

فإن قال ذلك القائل: بل حصل له غرضه وهو أن يدعوه الناس بالنبي والرسول. وهذه رياسة أيَّما رياسة!

قلنا: مدعي النبوة كذبًا ابتغاء نيل الجاه عند الناس والتعظيم له منهم- إنسانٌ مريضٌ بداء النقص في الشخصية، وإنما يحاول تعويض نقص نفسه بحصول التعظيم والثناء عن طريق اختلاقه تلك الكذبة العريضة؛ ولذلك فمثل هذه الشخصية المريضة لا يمكن أن تصبر على عدم حصول مقصودها من الثناء والتعظيم والجاه عند الناس؛ لأنها به تدفَع شعورها الذاتي بالنقص والمهانة، فإذا حصل مقصودُها من التعظيم والمدح والجاه، حصل لها الرِّضا عن النفس والسكون، وإذا لم يحصل لها مقصودُها تعذَّبَتْ وتألَّمَتْ.

وإننا إذا نظرنا في حال محمدٍ صلى الله عليه وسلم سنجده ظلَّ مدةَ ثلاثةَ عشرَ عامًا بمكةَ لا يدعوه بالرسول والنبيِّ إلا طائفةٌ صغيرةٌ مستضعَفةٌ من الناس، بينما عمومُ الناس ووجهاؤهم يدعونه بالكذَّاب، والمجنون، والساحر.

فهل يمكن أن تَقنَع الشخصيةُ المريضةُ الانتهازيةُ بمثل هذا، وتكتفي به، وتقبل أن تُلاقي في سبيله كلَّ ما لاقاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من اضطهاد وعناء؟!

هل يَقنَع الشخصُ المريضُ بحبِّ الجاه والرياسة أن يكون المُصدِّقون له في ادعاء النبوة شِرْذِمةً أكثرُها من العبيد والضعفاء ممن لا يُؤبَه بهم، وأن يكون المكذِّبون له والمُتِّهمون له بالجنون والخبل هم أصحاب الجاه وأرباب الرياسة والسُّلْطة؟

هل يمكن للشخصية الانتهازية المريضة أن تصبر- ولسنوات طويلة- على تقديم التضحيات الكبرى؛ من تعريض النفس للأذى والقتل، فضلًا عن فقدان الجاه الاجتماعي في مكة، ومعاداة ساداتها وسائر أهلها وسائر العرب من حولها، وأن يتحوَّل الإنسانُ ذو الهيبة والمنزلة والوجاهة الذي كان يُدعى بالأمس بالصادق الأمين، إلى ذلك الإنسان الذي يُدعى بالكذَّاب والمجنون والساحر، والذي يتضاحك الناسُ ويتغامزون عندما يمُرُّ بهم؛ استهزاءً به وسخريةً منه، والذي يصل به الحال أن يذهب إلى (الطائف) داعيًا أهلها، فيكون من شأنه حين يخرُج منها أن يصطفَّ صبيان وسفهاء (الطائف) على جانبي الطريق يقذفونه بالحجارة وهو يُسرِع في الهرب منهم كما يفعلون بالمجانين؟!

أبمثل هذا تكون الشخصيةُ الانتهازيةُ المريضةُ المهووسةُ بحب الثناء وحصول الجاه والتعظيم قد حققت غرضها، ووصلت إلى مآربها؟!

إن طريق محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن مفروشًا بالورد، بل كان مليئًا بالأشواك الغليظة التي لا يقدر على احتمالها إلا صادقٌ واثقٌ من نُبْل ما يقوم به وسمُوِّه فوق جميع الأهداف الدنيوية الصغيرة، وأنه لا يستنكف أن تذهب هيبتُه ووجاهتُه ومنزلتُه الاجتماعية ومالُه بل وروحُه في سبيل إيصال دعوته إلى الناس، غير مبالٍ بما يقدمه من تضحيات، ولا بما يُلاقيه من مخاطر وأهوال.

والحقُّ الذي لا ريبَ فيه أن مخاطر وأهوال الطريق الذي سلكه النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانت من الشدة والقوة، بحيث يكون من العبث والاستهزاء بعقول الناس افتراضُ وجودِ غرضٍ ماليٍّ أو سياسيٍّ هو المُحرِّك له لاقتحام تلك الأهوال والمخاطر والصبر عليها.

وبعد:

فأخلاقُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وسيرتُه بعد البَعْثة كما هي قبلها لا تدُلُّ إلا على صِدْقه، وهي أخلاقٌ يستحيل على كاذب أن يبلُغَها؛ استحالةَ العَدْوِ على الأشلّ، واستحالةَ الكلام على الأبْكَم، واستحالةَ السَّمْع على الأصَمّ، كلا! إنها أخلاقٌ لا يبلُغُها إلا نبيٌّ صادقٌ من خِيرة الأنبياء، بل لا يبلُغُها إلا خِيرتُهم.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 110.19 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 107.60 كيلو بايت... تم توفير 2.59 كيلو بايت...بمعدل (2.35%)]