|
|||||||
| ملتقى التنمية البشرية وعلم النفس ملتقى يختص بالتنمية البشرية والمهارات العقلية وإدارة الأعمال وتطوير الذات |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
|
|
#1
|
||||
|
||||
|
عند البحث عن أسباب هذا التخلف والضعف، نجدُها تكمن أساسًا في غياب الشرط الأساسي في الإبداع في العملية التعليميَّة الجامعيَّة، وهو تهيئة العقول التهيئةَ الصحيحة المتمثِّلة في "التمثل الناضج والمستنير للتجارب الفكرية الرائعة، وكفاح العقول الفذَّة في تاريخ الأمة، واستلهام نفحات الإبداع في تراث القِمم، ممن أنجبت في مختلف العلوم والفنون، ثم يمضي الأفذاذ الموهوبون من أبناء الجيل على الدرب الذي مضى عليه الأفذاذ الموهوبون من أبناء الأجيال السابقة، يستلُّون من تحت الغيم خيوطًا كسنا الفجر؛ يضيئون بها دروبَ المجهول الذي تتعشَّق عقولهم القدحَ على أبوابه"[14]، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق. لقد تحوَّلت الجامعة عندنا إلى شبه فصول تثقيفيَّة؛ من جهة أنها تقدِّم كمًّا من المعارف والمعلومات، تحشو بها ذهنَ الطالب، في غياب إستراتيجيَّة تَهدف إلى تأصيلِ تلك المعارف وغرسها في نفوس الطلبة؛ فتولد لديهم عدم الثقة فيما يقدم، حيث "صاروا معلَّقين على البرزخ في ثقافات مختلفة، يسمع من هذه أنغامًا مختلطة، ومن هذه غمغمات مُبْهمة، فلم يستقرَّ عنده شيء، نظر فوجد العطاء أخلاطًا غيرَ متجانسة، يرجع إلى أصول مختلفة وحضارات مختلفة، واختلط عليه الأمرُ والتبَس"[15]. والدافعُ إلى هذه الحالة عند تفحص المحتوى الدراسي، نجده لا يعدو أن يكونَ من امتزاج المعارف الغربيَّة مع العربية؛ فصار الطالبُ يعيش ازدواجية ثقافية: ثقافة عربية؛ بحكم الانتماء والأصل، وثقافة غربية؛ بحكم معظم المادة المعرفيَّة المقدَّمة، وهنا وقع الطالب بين ضغطَيْن اثنين، هما: ضغط المادة العربية، وعناء هضم أصولها وتمثلها، وضغط المادة الغربيَّة الغريبة المنبت عنه، والعارية عن التكامل والانسجام، فأوجد له هذا الوضع فكرًا مُشتَّتًا وممزَّقًا، وأحدثت له حركة علمية غير واضحة المعالم، غامضة الأصول، فحلَّ بدل البناء الفكري الفوضى الفكرية، وكلما وجد الطالب نفسه في هذه الوضعية أمام قرار ينبغي أن يتخذه، اكتشف أنه يُعوِزُه النظامُ الفكري الذي يستند إليه في التحليل والقبول والرفض. هذا الذي قلته ليس رأيًا انفردتُ به من خلال التأمل والنظر في الواقع الجامعي فقط، بل ذكرت هذا ثم وجدت كلامًا لأحد أكبر الباحثين المعاصرين في القضايا الفكرية والحضارية، بل من المتخصصين في ذلك، أنقله بكامله لما فيه من الفائدة، يقول تحت عنصر بعنوان "واقع التعليم والثقافة في الوطن العربي": "وأول المظاهر السلبيَّة التي يجب إبرازُها هو أن التعليم في جميع الأقطار العربية تعليمٌ لا يتوافر على القدر الضروري من الوحدة والانسجام، مما يجعله يُكرِّس ظاهرة انفصام الشخصية الثقافية وازدواجها؛ ذلك أنه ليس هناك في أي قطر عربي "مدرسة وطنية عربية"[16]، بل هناك مدارس تستنسخ هذا النموذج أو ذاك: النموذج الإنجليزي، أو الفرنسي، أو خليط منهما معًا من جهة، والنموذج الإسلامي القديم من جهة أخرى، إضافة إلى مدارس البعثات الأجنبية التي ما زال لها وجود في كثير من الأقطار العربية، هذه الازدواجية على صعيد تعدُّد النماذج تُعمِّقُها ازدواجيةٌ على صعيد النموذج الواحد... وفي الصنفين معًا انقطاع بين المجتمع ومضمون المواد الدراسية، إن المعارف التي تلقن - سواء منها ما ينتمي إلى التراث، أو ينقل من العلم الحديث - معارف غير مبيأة عربيًّا، وغير معدَّة للغرس والاستنبات في المجتمع العربي، وهكذا يظل نظام التعليم في الأقطار العربية نظامًا غريبًا يطفو على سطح المجتمع، ويزيد من تعقيد مشاكله. وواضح أن تعليمًا هذا شأنه لا يمكن أن يُنتِجَ إلا ما يعانيه نفسه: الازدواجية وانفصام الشخصية الفكرية وضعفها"[17]، وهو ما يحصل تمامًا كما قال. والذي أدَّى إلى إحداث هذه الازدواجيَّة التي ساقتنا إلى هذه الفوضى المعرفية، والتي أثرت سلبًا على التعليم الجامعي - هو انبهارنا بما وصل إليه البحث والمعرفة عند الغربيِّين؛ فحاولنا اللَّحاق بهم للدخول في المعاصرة، فلجأنا إلى استيراد معارفهم؛ فتغيَّر قصدُنا من طلب المعرفة وتعلمها؛ من تربية الفكر، وتنشئة العقول على كيفيات إنتاج المعرفة وتوليدها - إلى استيراد المعرفة واستهلاكها وحفظها قَصْدَ إدراكِ التطور الغربي ونهضته العلمية؛ فركد العقل الجامعي عندها عن فهم ما استورد وعن تمثُّله، وعن اللَّحاق برَكْب الحضارة المتطورة كما يقال، ووقع في شَرَكِ التبعيَّة الفكرية؛ وهي شر ما يُصاب به الإنسان، وأقبح الأغلال التي يغلُّ بها العقل. ولا يُفهَم من هذا الكلام الحرب على المُثاقَفَة مع الغرب؛ فهي - إن كانت بشروطها وقوانينها - تُعدُّ "رافدًا معرفيًّا، تسعى كل أمة من خلاله لتنمية كيانها الثقافي، واستثمار ما لدى الآخرين من الحِكَم التي كانت نِتاج عبقرية ملهمَة، وعملٍ دؤوب"[18]، إلا أننا لم نحسن تطبيقَها والاستفادة منها في المجال التعليمي، خاصةً الجامعيَّ منه؛ وذلك بسبب خلطنا بين السعي وراء المعرفة للَّحاق برَكْب الحضارة، والدخول في المعاصرة، وبين بناء العقول وتربية الجيل وتكوينه، ففي الوقت الذي يحتاج فيه الطالب البناءَ الفكري وتكوينَ الأسس الذهنية، هجمنا عليه بركام من المعارف ضخم، متنوعِ المآخذِ والمشارب، مختلف في التوجُّهات والآراء، قصدَ إيلاجِه في حاضره زعمًا منا، فوقع الطالب في حيرة عظمى أمام هذا الركام غير المنتظم، الذي زامَنَه في الوقت نفسه غيابُ البناء الفكري، الذي يتَّكئ عليه في الاستيعاب والفرز والتقييم والتقويم. وهذا إنما ينمُّ - أيضًا - عن فهمنا الخاطئ للمعاصرة؛ فـ"ليست المعاصرة هي ما يصنعُه الآخرون بعقولهم وعلومهم ومذاهبهم وآدابهم وعقائدهم، نعم هي معاصرتهم هم وقد أجادوا وجدوا وأنجزوا، ولكن كلَّ هذا لهم ولشعبهم وأممهم وأجيالهم، ومن العجز أن نعدَّها معاصرتَنا، وأن ندخل فيها رؤوسَنا ورؤوس أجيالنا، وأن نخدع أنفسَنا وأبناءنا، ونكذب ونقول: يجب أن نعيش عصرنا، والحق الذي لا يُماري فيه من له عقل مبرَّأ من الآفات هو: أنه يجب أن تكون لنا معاصرتنا التي نصنعها نحن بعقولنا، ومن واقع حياتنا وعلومنا ولغتنا وقيمنا وآدابنا"[19]. نعم، ليست المعاصرة تغييبَ الذات وراء ذوات الآخرين؛ إنما المعاصرةُ أن تكون موجودًا في عصرك حاضرًا، وهذا لا يكون إلا بأن تصنعَ عصرك باجتهادك وعقلك، وأن تكون معاصرتك نابعةً من صميم حاجياتك. وهذا الفهم الخاطئ للمعاصرة جرَّ - أيضًا - إلى ظهور أمرين خطيرين في الوسط الجامعي، كان لهما الأثر السيئ على التعليم الجامعي، وعلى الحياة الفكرية للطلبة، هما: 1) الأمر الأول: انتشار الاستهانة بالتراث، والإطاحة به إلى حدِّ الازدراء والقدح، وهذا "شر ما تُرمَى به الأمم، وأسوأ ما تُربَّى عليه الأجيال، وأفضل ما يمكن لأعدائها منها، فماذا يُنتظَر من جيل يزدري حضارتَه وتاريخه ومعارفه ورجاله؟! وماذا ننتظر من حركة علميَّة تقوم على القدح والزِّراية، وتحرص على تثبيت ذلك وتلح على تأصيله؟! نعم هذا قائم، ويعلمه ويراه كلُّ مَن يداخلون الحياة الفكرية في الجامعات، وخارج الجامعات"[20]؛ فأدَّى هذا إلى صناعة العقم الفكري وتربيته؛ لأنه من "الخطأ الظاهر أن نفصل بين تخريب ينابيع المعرفة في علومنا، وبين حالة الغيبوبة والعقم الفكري التي نعايشها من غير قلق ولا معاناة"[21]، وتخريب ينابيع المعرفة يؤدي حتمًا إلى ضياع عقول الأجيال وتهلهلها. 2) الأمر الثاني: السقوط في مزالق الإسقاط بين المعارف الأجنبية، والمعارف التراثيَّة، وهذا بالإضافة إلى أنه يعني: عدم الرضا بهذا التراث، ويظهره بمظهر التناقض عند وجوده في المعرفة الأجنبية، يلغي أيضًا الفارق الفكري والحضاري بين المعرفتين[22]. قلت: بالإضافة إلى هذا، فإن له أثرًا سيِّئًا على تعليم الجيل من ناحية أنه يطفئ نورَ فكرهم وعقلهم في قراءة النصوص؛ لأنه يجعلهم يقرؤونها بعقول غيرهم[23]، كما أن هذا يوهمهم بفضفاضيَّة هذا التراث واتِّساعه واكتماله، مما يُولد لديهم الاكتفاء به، والجمود عليه[24]، وهذا أو ذاك طريق إلى تربية الجيل على الجمود الفكري، وقتل روح التفكير في نفوسهم. إذًا، يمكن القول أن المتسبِّب في الركود الفكري والإبداعي عند الطالب الجامعي عندنا هو تراجع البناء الفكري له، بل البناء الفوضوي الذي يتعرَّض له في الفصول الدراسية، والناتج بدوره من نوعية المادة المعرفيَّة المقدمة له، التي نشأ عليها فكره في الجامعة، فالتناول السطحي لمعارف التراث، وطغيان المعرفة الغربية غير المؤصلة - دَفَعَا إلى هذا النوع من البناء الميت أحيانًا، والمميت أحيانًا أخرى، فكان هذا البناء المهلهل بؤرة لعدة أنواع من الأمراض الفكرية والثقافية التي يعاني المجتمع من وَيْلاتها. ولعلَّ في هذا إشارة كافية في التنبيه على أهم عامل - في نظري - ساعد على التخلف الفكري الذي نعاني منه في الجامعة، ونرجو أن تجد هذه الإشارة صداها في عقول المهتمِّين؛ من أجل النظر فيها، وتقييمها وتقويمها، والله الموفق. [1] القتاد: شجر صلب له شوكة كالإبر؛ القاموس المحيط (مادة ق ت د). [2] محمد الطاهر بن عاشور، أليس الصبح بقريب، التعليم العربي الإسلامي دراسة تاريخية وآراء إصلاحية، دار السلام - دمشق، ط2، 2008م، (ص: 15). [3] المرجع نفسه (ص: 17). [4] المرجع نفسه (ص: 18). [5] انظر: نظريات التعلم (دراسة مقارنة)، ت: علي حسين حجاج، مراجعة: عطية محمود هنا، عالم المعرفة - الكويت العدد:70، أكتوبر 1983، (ج1/ ص: 15). [6] المرجع نفسه (ج1/ ص: 16)، والتعريف؛ لصاحب نظرية الارتباط "ثورندايك". [7] المرجع نفسه، عالم المعرفة، العدد: 108، ديسمبر 1986، (ج2/ ص: 7). [8] تقريب منهاج البلغاء، مكتبة وهبة - القاهرة، ط1، 2006م، (ص: 5). [9] أليس الصبح بقريب (ص: 156). [10] المرجع نفسه (ص: 165، 157). [11] دلائل الإعجاز، تعليق: محمد التنجي، دار الكتاب العربي، ط3، 1999م، (ص: 201). [12] تر: بسام بركة وأحمد شعبو، دار الفكر - دمشق، ط1، 1992م، (ص: 153). [13] أنطونيوس كرم، العرب أمام تحديات التكنولوجيا، عالم المعرفة، العدد 59، نوفمبر1982، (ص: 117). [14] محمد محمد أبو موسى، دلالات التراكيب، مكتبة وهبة - القاهرة، ط2، 2004م، (ص: 18). [15] المرجع نفسه (ص: 19). [16] هنا نلفت الانتباه إلى أننا نوافقه في أن الثقافة العربية تعاني من هذه الازدواجية، وأحيانًا أخرى من انسلاخ كلي، أما الدعوة إلى الوطنية العربية المجردة، فهذا موضوع آخر. [17] محمد عابد الجابري، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت، ط2، 1990م، (ص: 70). [18] صالح بن سعيد الزهراني، العقل المستعار: بحث في إشكالية المنهج في النقد الأدبي العربي الحديث عن المنهج النفسي أنموذجًا، من: مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، المجلد (13) العدد (22)، ربيع أول 1422هـ. [19] محمد محمد أبو موسى، خصائص التراكيب، مكتبة وهبة - القاهرة، ط6، 2004م، (الصفحة: أ، من مقدمة الطبعة 6). [20] محمد محمد أبو موسى، دلالات التراكيب، (ص: 17). [21] المرجع نفسه (ص: 18). [22] انظر: محمد عبداللطيف حماسة، النحو والدلالة، دار الشروق - القاهرة، ط1، 2000م، (ص: 22). [23] انظر: محمد محمد أبو موسى، خصائص التراكيب، (الصحفة: ب، من مقدمة الطبعة 6). [24] انظر: محمد حماسة، النحو والدلالة، (ص: 22).
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |