طلب العلم - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الينبوع الروحي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          الإسلام دين الرحمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 71 - عددالزوار : 18670 )           »          وصايا تربوية وأسرية واجتماعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          بين مالك والليث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 7 )           »          الإسلام في أفريقيا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 17 - عددالزوار : 2867 )           »          قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          المرء مع من أحب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 71 - عددالزوار : 19821 )           »          من حسن إسلام المرء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الشباب المسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-03-2020, 03:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,970
الدولة : Egypt
افتراضي رد: طلب العلم

طلب العلم


أحمد الجوهري عبد الجواد





ما يترتَّب على العلم الواجب وعدمه:
ولا يغيبنَّ عنك أن الأثر المترتِّب على ضياعه خطير، والجرم في التفريط فيه كبير، يؤدِّي إلى التخبُّط، ويُردُّ به العمل، وقال العلامة ابن جبرين: "الواجب - أي من العلم - هو ما كان مكلفًا به كل إنسان؛ فإن كل فرد من الأمة مطالب بالعمل، مطالب بالعبادات أن يتعبَّد بها، ولا شك أن التعبد على جهل لا يُقبل؛ فلأجل ذلك فرض عليك أن تتعلم ما أنت مأمور بالعمل به، حتى لا تتخبط في الأعمال؛ فإن التخبط في العمل، والعمل على جهل، وسيلة وذريعة إلى رد العمل وعدم قبوله وعدم إجزائه".


ويُعينك في هذا المجال إدمان كتب ابن القيم، لا سيما كتابه الفذ مدارج السالكين، لكن لا تبتدئ به، وابتدئ بتهذيبه؛ "تهذيب مدارج السالكين" للعزي، وهُوَ هوَ الأستاذُ محمد أحمد الراشد، فإذا هضمته، فاعبره إلى المدارج، تجد فيه بُغيتَكَ وأمَلَكَ.

ويتجدَّد الوجوب بكل علم طرأ على المسلم فيما يحتاج إليه في حياته؛ فمثلاً "مِن فروض الأعيان في عَصرِنا على الذكور والإناث سواءً:
تعلم أحكام النظر؛ لكثرة الاختلاط، وشيوع الفاحشة.

ويجب أيضًا تعلم أحكام الاختلاط والحجاب والاستئذان ومعرفة المحارم.

كذلك وجب الإلمام بمعرفة الربا وأنواعه وأحكامه.

وكذلك أنواع البيوع والإجارات والوكالات؛ لأن المسلم في هذا العصر يتعامَل بكافة أنواع التعاملات يوميًّا؛ لكثرة البشر، وتنوُّع التعامل، وحاجة الناس لبعضهم البعض.

وكذلك يجب من أمور الاعتقادات أشياء كثيرة تَخفى على الناس؛ مثل: حرمة التبرك بالقبور، وحرمة التوسل بالموتى، بل وأشياء من صميم العقيدة؛ مثل: تحكيم شرع الله، والولاء والبراء، وأحكام أهل الذمة، وغير ذلك مما يلزم شرعًا".

والتاجر واجبٌ عليه تعلُّم أحكام البيع والشراء.

وكذلك مؤذِّن أُسند إليه القيام على رعاية الأذان والإقامة، وجب عليه تعلُّم أحكامها.

وكذا مَن فُرض عليه إمامة المصلين في الصلاة.

وهكذا كل ما يعرض من الأمور في حياة المسلم، سواء من المطلوبات أو المُجتَنَبات، فيتعلم طرق الإقبال، والعمل بالأولى، ويتعرَّف على سبُلِ تجنُّب الأخرى.

السبيل إلى تَحصيل العلم:
فإن قيل: قد علمنا فرضيَّة العلم الذي طلبُه علينا فرض، ونود أن نسعى لتحصيله، وأن نجدَّ في طلبه ونواله؛ فأنَّى إليه الطريق وكيف السبيل؟!

والجواب ما تحمله إليك - أخي الكريم - سطور هذا العنصر الأخير:
من المعلوم أن الإنسان إذا أراد مكانًا فلا بد أن يعرف الطريق الموصل إليه، وإذا كانت الطرق إليه متعددة، فالعقل أن يبحث عن أقربها إلى هدفه، وأيسرها إلى بغيته.

أخي الكريم، السبيل إلى تحصيل العلم يتلخَّص في الأخذ بجملة مِن الأمور، أُلخِّصها لك في نقاط:
أولاً: أن يلجأ المسلم الصادق والمسلمة المخلصة إلى الله، وهو الذي علَّم داود وفهَّم سليمان بالدعاء والتضرُّع أن يُعلِّمه وأن يُفهِّمه، ولن يعرف قدر هذا الدعاء وفضل هذه الاستعانة إلا من وجَدَ بَردها وذاق فضلها، وبالله إن فضلها لعظيم! ولقد كان النبي نفسه يلجأ إلى الله تعالى مستعينًا به سبحانه أن يعلمه وأن ينفعه بما علمه فيقول: ((اللهمَّ انفعني بما علمتني، وعلِّمني ما يَنفعني، وزدني علمًا))[25].

ثانيًا: بذل أقصى ما يمكن من جهد ووقت ومال لطلب العلم، والصبر على ذلك، والحرص على أخذ العلم من أهله المتحقِّقين به، وقديمًا قالوا: لقد كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى بطون الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال، ولما سُئل أحدهم: ما السبب الذي ينال به العلم؟ فقال: بالحرص عليه يتَّبع، وبالحب له يستمع، وبالفراغ له يجتمع.

ورحم الله الشافعي حيث قال:
أخي، لن تَنال العلم إلا بستَّة
سأُنبيكَ عن تَفصيلِها بِبَيانِ

ذكاءٍ وحرصٍ واجتهادٍ وبُلغةٍ
وصُحبةِ أستاذٍ وطولِ زَمانِ[26]




يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: "وإذا ثبَت أنه لا بدَّ من أخذ العلم عن أهله المتحقِّقين به، فلذلك طريقان:
الأول: المُشافَهة، وهي أنفع الطريقَين وأسلمهما؛ فقد جعل الله تعالى بين المعلِّم والمتعلِّم خاصيةً، يشهدها كل مَن زاول العلم والعلماء، فكم من مسألة يَقرؤها المتعلم في كتاب، ويَحفظها ويُردِّدها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها عليه المعلِّم فهمَها بغتةً، وحصل له العِلم بها، وهذا الفَهم يحصل إما بأمرٍ عادي من قرائن الأحوال، وإيضاح موضوع إشكال لم يَخطر للمُتعلِّم ببالٍ، وقد يَحصُل بأمرٍ غير مُعتاد، ولكن بأمر يَهبُه اللهُ للمُتعلم عند مثوله بين يدَي المعلِّم ظاهر الفقر بادي الحاجة إلى ما يُلقى إليه؛ إذ يفتح للمُتعلِّم بين أيديهم - أي العُلماء - ما لا يفتح له دونهم.

الطريق الثاني لأخذ العلم:
مُطالَعة كتب المصنِّفين ومُدوِّني الدواوين، وهو أيضًا نافع في بابه بشرطَين - وما زال الكلام للشاطبي -:
الأول:
أن يَحصل له - أي لطالب العلم - من فهم مقاصدِ ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطِلاحات أهله ما يتمُّ به النظر في الكتب.

والشرط الثاني:
أن يتحرَّى كتبَ المتقدِّمين مِن أهل العلم المراد؛ فإنَّهم أقعَدُ به مِن غيرهم من المتأخِّرين؛ فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلَغه المتقدِّم، فتحقُّق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقُّق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم.. وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيرهم وأقوالهم وحِكاياتهم، أبصر العجب في هذا المعنى، وأما الخبر ففي الحديث: ((خيرُ الناسِ قرني، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يلونهم))[27]، وفي هذا إشارة إلى أنَّ كلَّ قرن مع ما بعده كذلك"؛ اهـ[28].

وأودُّ أن أوضِّح أنه ليس معنى ذلك أن نُعرض عن كل ما هو حديث من الكتب والمصنَّفات إعراضًا تامًّا؛ فمنها ما هو مُفيد في بابه كثيرًا؛ لما تمتاز به من تحقيق وتدقيق وتبويب وسهولة في العرض، بل ومنها ما لا يمكن بحال أن يستغني عنه الباحث وطلاب العلم، فضلاً عن الدعاة والعلماء؛ ككتب الحديث المحقَّقة، والمعاجم، والفهارس، وفتاوى المجامع الفقهية المعاصِرة، وغيرها، ولا مانع مِن استشارة العلماء في هذا الجانب.

ثالثًا: من أهم الأسباب والطرُق الموصلة لتحصيل العلم الشرعي تركُ الذنوب والمعاصي بتقوى الله عزَّ وجل: ï´؟ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ï´¾ [البقرة: 282][29].

وأوضَحُ في الدَّلالة قوله تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ï´¾ [الأنفال: 29]، ومِن الفُرقان العلم؛ فبِهِ يُفرق بين الحق والباطل، فمن اتقى الله كان له هذا الفرقان؛ ولهذا كان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "إني لأحسب أنَّ الرجل ينسى العلم قد عَلِمَه بالذنب يعمله"[30]، ولما جلس الشافعي بين يدي مالك رحمهما الله وأُعجب مالك بذكاء الشافعي وحفْظِه قال له: "يا شافعي، إني أرى الله قد جعل في قلبكَ نورًا، فلا تُطفِئه بظُلمة المعصية"[31]، ويُنسَبُ إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
شكوتُ إلى وَكيعٍ سُوءَ حِفْظي
فأرشَدَني إلى تَركِ المَعاصي

وأخبَرَني بأنَّ العلم نورٌ
ونورُ اللهِ لا يُهدَى لعاصِي[32]



وإن زلَّ طالب العلم، فعليه أن يحدث توبةً؛ فالكمال لله وحده، والعصمة لأنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

رابعًا: عدم الكبر والحَياء:
فالحَياء يَمنع من السؤال والتفقُّه في الدين، وهذا مَذموم في هذه الحالة؛ لأنَّ الحياء خيرٌ كلُّه؛ ولهذا قالت عائشةُ رضي الله عنها: "نعم النساء نساء الأنصار؛ لم يمنعهنَّ الحياءُ أن يتفقَّهن في الدين"[33]،

وقال مجاهد: "لا يتعلَّم العِلمَ مُستحٍ ولا مُستكبِر"[34].

والكِبْر داء عضال ينخر في جسم الحركة، ويعرِّض مسيرها لكثير من الأخطار، فلو لم يتكبر كل فرد مِن أفرادها يَنقصه العلم وتُعوزه المعرفة أن يذهب إلى العلماء وأن يزاحم مجالسهم، لَمَا رأينا مثل هذه الخلافات الحادة التي لا يمكن بحالٍ أن نغضَّ الطرف عنها، أو نتجاهَلها، ورحم الله الغزاليَّ الإمامَ حيث يقول: "لو سكَت مَن لا يعلم، لسقط الخلاف".

خامسًا: وقطب الرَّحى بين هذه الأسباب، وبوصلة الخير التي ستحدِّد المسار وتوضح الاتجاه لهذه الطرق هي "الإخلاص"، وهذا هو باب السعادة وسرُّ القبول؛ أن يكون طلبك خالصًا لله جلَّ وعلا، وفي حديث كعب بن مالك الأنصاري قال: سمعتُ رسولَ اللهِ يَقولُ: ((مَن طلب العلم ليُجاريَ به العلماء، أو ليُماريَ به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه، فهو في النار))[35]، [36].

فالتعلُّم إذًا "له طريقان - بحسب طاقة الناس -:
1 - فمَن كان قادرًا على تلقِّي العلم من شيوخه بالجلوس عند ركبهم، ودراسة العلوم عليهم، وجب عليه أن يتعلم الحدَّ الواجب من العلوم بهذه الطريقة.

2 - ومن لم يكن قادرًا على ذلك، فليتعلَّم بطريقة السؤال؛ يسأل أهل الذِّكر وأهلَ العِلم عن المسائل الضروريةِ التي يُصحِّح بها عمَلَه، ويُصحِّح بها إيمانَه.

قال الله تعالى: ï´؟ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ï´¾ [النحل: 43]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((فإنَّما شفاءُ العيِّ السؤالُ))[37].

وقد سلَك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كِلا المسلكَين، كلٌّ على قَدر طاقته، وعلى قدر إمكاناتِه؛ فالمُهاجِرون والأنصارُ الذين كانوا معه في المدينة النبوية المباركة أكثرُهم تلقَّوا العلم مِن فَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَن لم يسمعه من فمِه صلى الله عليه وسلم يسمعه عمَّن سمعه منه صلى الله عليه وسلم، وكانوا يَتناوَبون على سماع العلم منه صلى الله عليه وسلم.

في الصحيحين عن عبدالله بن عباس عن عمر رضي الله عنهما قال: كنتُ أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أميَّة بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نَتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يومًا، وأنزل يومًا، فإذا نزلتُ جئتُه بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزَلَ فعَل مثل ذلك"[38].

وكثير من المسلمين في عهده - الذين لم يستطيعوا التعلم بهذه الطريقة - تلقَّوه بطريق السؤال، كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن كلِّ حدب وصوب يسألون عن الضروري من أمور دينهم، فيُجيبهم صلى الله عليه وسلم بأوجز وأبلغ عبارة، فيَفهمون المراد، ويرجعون إلى بلادِهم وأقوامهم، يُبادرون إلى العمل.

فهذا رجل من ثقيف يأتي بعد أن امتنَّ الله على قبيلتِه فدخلَت في الإسلام، لكن ذلك كان في فترة متأخِّرة، فيرغب في الخير الذي حصَّله من سبَقَه، فيَسأل النبيَّ سؤالاً جامعًا، ويُجيبه النبيُّ بإجابة بليغة وجيزة.

عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلتُ: يا رسولَ الله، قلْ لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدَكَ، وفي رواية "غيرَك"، قال: ((قلْ آمنتُ بالله فاستقم))[39].

فعلى المسلم والمسلمة أن يعمَلا على الأخذ بهذه الأمور مُجتهِدين في سبيل تَحصيلِها؛ ليَحصُل لهم العلم والعمل، واضِعين نصب أعينهما قوله تعالى: ï´؟ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ï´¾ [العنكبوت: 69].

قال الفُضيل بن عياض: والذين جاهدوا في طلب العلم، لنهدينهم سبل العمل به[40]، فيؤدِّيا بذلك حقًّا طالَما أضاعاه، وبسببِه ضاعَ الإسلامُ من بين أيديهم، والله المستعان، وعليه التُّكلان.

وفي النهاية: تَبقى كلمة:
نعم، فلا أنسى أن أُذكِّرك ما كان مقصودك من التعلُّم حين أردته وغايتك منه لما قصدته، وذاك هو التبصُّر في العمل؛ فحذارِ أن تَترك العمل وتنساهُ، بل كلَّما تعلمتَ شيئًا اعمل به، ولا تَكتب أو تسمع علمًا إلا ويرى عليك أثر العمل به، ولو لمرَّة واحدة، واحذر التفريط في ذلك؛ فكل علم لم تعمل به حجة عليك، فليكن العمل همَّك، وانظر لأثر العلم فيك، فليُرَ عليك، وليَزِدِ العلم في عملك كل يوم جديدًا.

قال الشاطبيُّ رحمه الله: "العلم الذي هو العلم المعتبر شرعًا - أعني الذي مدَح الله ورسوله أهله على الإطلاق - هو الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريًا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيِّد لصاحبه بمُقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعًا وكرهًا"[41].

وقال: "قال سفيان الثوري: إنما يُتعلَّم العلم ليُتقى به الله، وإنما فُضِّل العلمُ على غيره؛ لأنه يُتَّقى الله به، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تزولُ قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس خصال..))، وذكر فيها: ((وعن علمه ماذا عمل فيه))[42].

وعن أبي الدرداء: "إنما أنا أخافُ أن يقال لي يوم القيامة: أعلمتَ أم جهلتَ؟ فأقول: علمتُ، فلا تَبقى آية من كتاب الله آمِرَة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتسألني الآمرة: هل ائتمرتَ؟ والزاجرة: هل ازدجرتَ؟ فأعوذ بالله مِن علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع..."[43].

وأوضَحَ ابنُ القيم رحمه الله أن العلم النافع هو العلم الذي تطيب به الحياة، ويَنشرِحُ به الصَّدر، وهو الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ومنها - أي من أسباب شرح الصدر -: العلم؛ فإنه يَشرح الصدر ويوسِّعه، حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يُورثه الضيق والحصر والحبْس، فكلما اتَّسع عِلمُ العبدِ انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم، بل للعلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدرًا، وأوسعهم قلوبًا، وأحسنهم أخلاقًا، وأطيبهم عيشًا..."[44].

ومِن روائع ابن الجوزي إليك هذه الرائعة، فلتصحبك طوال طريقك تحثك وتدفعك، قال رحمه الله: لما رأيتُ رأي نفسي في العلم حسَنًا، فهي تُقدِّمه على كل شيء، وتعتقد الدليل، وتفضِّل ساعةَ التشاغُلِ به على ساعات النوافل، وتقول: أقوى دليل لي على فضله على النوافل: أنِّي رأيتُ كثيرًا ممَّن شغلتهم نوافل الصلاة والصوم عن نوافل العلم عاد ذلك عليهم بالقدح في الأصول، فرأيتُها في هذا الاتجاه على الجادة السهلة والرأي الصحيح، إلا أنِّي رأيتُها واقفة مع صورة التشاغل بالعلم، فصِحْتُ بها:
فما الذي أفادَك العلمُ؟ أين الخوفُ؟ أين القلق؟ أين الحذر؟ أوَما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبُّدهم واجتهادهم؟
أما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الكل، ثم إنه قام حتَّى تورَّمت قدماه؟
أما كان أبو بكر رضي الله عنه شجيَّ النشيج، كثير البكاء؟
أما كان في خدِّ عمر رضي الله عنه خطان من آثار الدموع؟
أما كان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن في ركعة؟
أما كان عليٌّ رضي الله عنه يبكي بالليل في محرابه حتَّى تخضلَّ لحيتُه بالدموع؟ ويقول: يا دنيا، غُرِّي غَيري!
أما كان الحسن البصري يحيا على قوَّة القلق؟
أما كان سعيد بن المسيب ملازمًا المسجد فلم تفتْه صلاةٌ في جماعةٍ أربعين سنة؟
أما صام الأسوَدُ بنُ يَزيد حتى اخضرَّ واصفرَّ؟
أما قالت بنت الربيع بن خثيم له: ما لي أرى الناس يَنامون وأنت لا تنام؟

فقال: إنَّ أباك يخاف عذاب البَيات؟
أما كان أبو مسلم الخولاني يعلِّق سوطًا في المسجد يؤدِّب به نفسه إذا فتَر؟
أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة وكان يقول: وا لهفاه! سبقني العابدون، وقُطع بي.
أما صام منصور بن المعتمر أربعين سنة؟
أما كان سفيان الثوري يَبكي الدم من الخوف؟
أما كان إبراهيم بن أدهم يَبولُ الدمَ مِن الخوف؟
أما تعلَمين أخبار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبُّدهم؛ أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد؟

فاحذري من الإخلاد إلى صورة العلم، مع ترك العمل به؛ فإنها حالة الكُسالى الزَّمْنَى.
وخذْ لكَ مِنْك عَلَى مُهْلةٍ
وَمُقبلُ عَيْشِكَ لمْ يُدبِرِ

وَخَفْ هَجْمَةً لا تُقيلُ العَثا
رَ تَطْوي الوُرود عَلَى المُصْدِر

ومثِّل لِنَفْسِكَ أي الرَّعيل
يَضمُّكَ فِي حَلْبَةِ المحشَر[45]


والسلام.


[1] سير أعلام النبلاء (4 / 583).
[2] اقتضاء العلم العمل؛ للخطيب البغدادي، بتحقيق الشيخ الألباني (ص: 14).
[3] تفسير البغوي (4 / 113).
[4] كتاب العلم؛ لابن عثيمين (ص: 9).
[5] بتصرف يسير من (مجموع الفتاوى 11 / 396، 397).
[6] رواه مسلم (816).
[7] التحرير والتنوير (13 / 416).
[8] انظر: الفتح (1 / 193).
[9] كشف الخفاء (2 / 262).
[10] رواه البيهقي في الشعب (5751)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (58).
[11] إحياء علوم الدين (1 / 7).
[12] نفسه (1 / 7).
[13] رواه ابن ماجه 224، والطبراني في الكبير 10439، والأوسط 9 - و2008، والصغير 22، والبزار 94، والبيهقي في الشُّعب 1665، وصحَّحه الألباني في صحيح ابن ماجه (183)، واستوفى الشيخ في تخريج أحاديث مشكلة الفقر الكلام عنه، تخريج أحاديث مشكلة الفقر؛ للألباني (ص: 48 - 62). تنبيه: قال في المقاصد الحسنة: قد ألحق بعض المصنِّفين بهذا الحديث: "ومسلمة"، وليس لها ذكر في شيء من طرقه، وإن كان معناها صحيحًا؛ تمييز الطيب من الخبيث؛ لابن الديبع: (ص: 116)، كشف الخفاء: 2 / 56 - 57، نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني (ص: 35 - 37).
[14] وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع: 3914.
[15] تفسير القرطبي (8/ 293 - 294).
[16] جامع بيان العلم وفضله؛ لابن عبدالبر (ص: 5 - 7).
[17] انظر: التربية الذاتية من الكتاب والسنة؛ الدكتور هاشم علي الأهدل.
[18] متفق عليه؛ رواه البخاري 6937، ومسلم 1389.
[19] رواه البخاري 605.
[20] متفق عليه؛ أخرجه البخاري 724، ومسلم 397.
[21] رواه مسلم 1297.
[22] العبودية (ص: 4).
[23] مجموع الفتاوى (10 / 5) بتصرف يسير.
[24] منطلقات طالب العلم (ص: 78، 79)، بتصرف وزيادة، فتفطَّن.
[25] أخرجه ابن ماجه (1/ 92)، والترمذي (5/ 470).
[26] ديوان الشافعي (ص: 116).
[27] متفق عليه؛ رواه البخاري (2509)، ومسلم (2533) عن عبدالله بن مسعود.
[28] بتصرف من المُوافقات؛ لأبي إسحاق الشاطبي (1 / 96، 97).
[29] خواطر على طريق الدعوة (ص: 109)؛ لفضيلة الشيخ محمد حسان.
[30] جامع بيان العلم وفضله؛ لابن عبدالبر (1 / 196).
[31] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي؛ لابن القيم (ص: 14).
[32] ديوان الشافعي (ص: 88)، وانظر: الجواب الكافي (ص: 14).
[33] رواه البخاري 1 / 276.
[34] نفسه 1 / 276.
[35] رواه ابن ماجه (253)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1).
[36] خواطر على طريق الدعوة جراح وأفراح (ص: 111)، الشيخ محمد حسان.
[37] رواه أبو داود 316، وصححه الألباني في صحيح الجامع 4363.
[38] متفق عليه؛ رواه البخاري 89، ومسلم 1479 وغيرهما.
[39] رواه مسلم 38.
[40] تفسير البغوي (6 / 256).
[41] الموافقات (1 / 34).
[42] من حديث أبي برزة الأسلمي، وصححه الألباني في الصحيحة 649.
[43] الموافقات (1 / 29 - 30).
[44] زاد المعاد (2 / 24).
[45] صيد الخاطر (ص: 72، 73).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 74.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 73.04 كيلو بايت... تم توفير 1.71 كيلو بايت...بمعدل (2.28%)]