الأوبئة (3) بين المنافع والأضرار - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3099 - عددالزوار : 375604 )           »          تحريم الحلف بملة غير الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          بلاغة قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة)، مع موازنته مع ما استحسنته العرب من قولهم: "ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          الإسلام كفل لغير المسلمين حق العمل والكسب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          أكثر من ذكر الله اقتداء بحبيبك صلى الله عليه وسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          أينقص الدين هذا وأنا حي؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          خلاصة بحث علمي (أفكار مختصرة) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          موعظة وذكرى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          أعمال يسيرة وراءها قلب سليم ونية صالحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          {هم درجات عند الله} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19-06-2021, 03:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,771
الدولة : Egypt
افتراضي الأوبئة (3) بين المنافع والأضرار

الأوبئة (3)

بين المنافع والأضرار

الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ، اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ؛ لَا يَقْضِي قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَعَلَيْهِ السَّخَطُ، نَحْمَدُهُ عَلَى جَمِيلِ لُطْفِهِ، وَكَرِيمِ عَفْوِهِ، وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ، وَجَزِيلِ عَطَائِهِ؛ فَهُوَ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ، الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ وَيَظُنُّونَهُ شَرًّا عَلَيْهِمْ، وَيُقَدِّرُ لَهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمْ مَا يَضُرُّهُمْ؛ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَجَهْلِهِمْ، وَقُدْرَتِهِ تَعَالَى وَعَجْزِهِمْ، وَرَحْمَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمْ مَعَ سُوءِ ظَنِّهِمْ ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النِّسَاءِ: 19]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْشَدَ أُمَّتَهُ إِلَى الشُّكْرِ فِي السَّرَّاءِ، وَالصَّبْرِ فِي الضَّرَّاءِ، وَسُؤَالِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، وَأَمَرَ أُمَّتَهُ فَقَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ» وَكَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَقِيمُوا عَلَى أَمْرِهِ وَلَا تَعْصُوهُ؛ فَإِنَّ لِلْأَيَّامِ تَقَلُّبَاتٍ يُصْبِحُ الْعَزِيزُ فِيهَا ذَلِيلًا، وَالْغَنِيُّ فَقِيرًا، وَالصَّحِيحُ مَرِيضًا، وَالْقَوِيُّ ضَعِيفًا، وَالْقَادِرُ عَاجِزًا، وَالْقَاهِرُ مَقْهُورًا، وَالْآمِنُ خَائِفًا، وَالْمُعَافَى مُبْتَلًى، وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا خُبِّئَ لَهُ فِي الْقَدَرِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ؛ وَلِذَا أُمِرَ الْمُؤْمِنُ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَأَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْعَافِيَةِ وَالسَّرَّاءِ، وَيَصْبِرَ فِي الْبَلَاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشُّورَى: 30].

أَيُّهَا النَّاسُ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ فِي الْكَوْنِ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقَدَرِهِ، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الشَّكُّ أَبَدًا، وَدَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الْفُرْقَانِ: 2]، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [الْقَمَرِ: 49]، وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لِابْنِهِ الْوَلِيدِ: «يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَكُلُّ شَرٍّ مَوْجُودٍ فَلَيْسَ شَرًّا مَحْضًا، بَلْ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ مِنْهُ مَا عَلَّمَهُمْ رَبُّهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وَلِذَا لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ تَعَالَى شَرًّا مَحْضًا، وَمِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالشَّرُّ الْمَنْفِيُّ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الشَّرُّ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ، وَهُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ لَا وُجُودَ لَهُ، وَكُلُّ شَرٍّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ خَيْرٌ يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ أَوْ يَجْهَلُونَهُ؛ وَلِذَا كَانَ مِنْ دُعَاءِ الْوِتْرِ: «وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.


وَالْأَوْبِئَةُ مِنَ الضَّرَرِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَكْرَهُهَا الْبَشَرُ وَيُحَاذِرُونَهَا، وَلَكِنْ فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ مَا يَعْلَمُونَهُ وَمَا لَا يَعْلَمُونَهُ، وَفِيهَا حِكَمٌ لِلَّهِ تَعَالَى بَاهِرَةٌ، وَمِنَحٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَظِيمَةٌ:
فَمِنْ مَنَافِعِ الْأَوْبِئَةِ: أَنَّهَا عَذَابٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ، وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَنِي: «أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ..» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالْوَبَاءُ يَشْتَرِكُ مَعَ الطَّاعُونِ فِي هَذَا الْوَصْفِ.

وَمِنْ مَنَافِعِ الْأَوْبِئَةِ: أَنَّهَا تَكْشِفُ لِلْإِنْسَانِ عَظِيمَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ إِذْ كَانَ يَنْعَمُ بِالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ؛ فَإِذَا انْتَشَرَ الْوَبَاءُ عَرَفَ الْمَرْءُ قِيمَةَ مَا كَانَ يَتَنَعَّمُ بِهِ، وَقَادَهُ ذَلِكَ إِلَى شُكْرِ الْمُنْعِمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَكَمْ غَفَلَ النَّاسُ عَنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ؛ فَإِذَا رَأَى الْعَبْدُ مَنْ أُصِيبُوا بِالْوَبَاءِ، أَوْ هُوَ أُصِيبَ بِهِ تَذَكَّرَ تَقْصِيرَهُ فِي الشُّكْرِ، وَتَدَارَكَ نَفْسَهُ قَبْلَ فَوَاتِهَا.

وَمِنْ مَنَافِعِ الْأَوْبِئَةِ: أَنَّهَا دَوْرَةٌ حَضَارِيَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا لِتَنْشِيطِ الْبَشَرِ، وَتَحْرِيكِ رُكُودِهِمْ، وَتَغْيِيرِ أَحْوَالِهِمْ. وَفِي كُلِّ الْأَوْبِئَةِ الْعَامَّةِ السَّابِقَةِ الَّتِي انْتَشَرَتْ فِي الْأَرْضِ، وَأَفْنَتْ كَثِيرًا مِنَ الْبَشَرِ؛ أَعْقَبَهَا تَغْيِيرٌ كَبِيرٌ، وَانْبِعَاثٌ حَضَارِيٌّ مَا كَانَ لِيَكُونَ لَوْلَا الْوَبَاءُ الَّذِي غَيَّرَ النَّاسَ رَغْمًا عَنْهُمْ ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الْقَصَصِ: 68].

وَمِنْ مَنَافِعِ الْأَوْبِئَةِ: أَنَّهَا تُنَشِّطُ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ لِلْبَحْثِ عَنْ عِلَاجٍ لَهَا مِنْ أَجْلِ الْبَقَاءِ؛ وَلَوْلَا مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَوْبِئَةِ الْمَاضِيَةِ لَمَا تَقَدَّمَ الطِّبُّ وَأَجْهِزَتُهُ وَمُسْتَشْفَيَاتُهُ، وَلَمَا وُجِدَتْ مَرَاكِزُ الْأَبْحَاثِ الطِّبِّيَّةِ، وَلَمَا اخْتُرِعَتِ الْمَجَاهِرُ الَّتِي عُرِفَ بِوَاسِطَتِهَا الْفَيْرُوسَاتُ وَالْمَيْكُرُوبَاتُ، وَلَمَا رُكِّبَتِ الْأَدْوِيَةُ وَاللَّقَاحَاتُ وَالْمُضَادَّاتُ الْحَيَوِيَّةُ. وَكُلَّمَا زَادَتِ الْأَوْبِئَةُ نَشِطَ الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ لِمُكَافَحَتِهَا، وَإِيجَادِ الْأَدْوِيَةِ لِلْمُصَابِينَ بِهَا، فَتَتَقَدَّمُ عُلُومُ الطِّبِّ وَالْعُلُومُ الْمُسَانِدَةُ لَهُ بِوُجُودِ الْأَوْبِئَةِ وَتَنَوُّعِهَا وَتَطَوُّرِهَا.

وَمِنْ مَنَافِعِ الْأَوْبِئَةِ: أَنَّهَا تُثْرِي الْفِقْهَ الْإِسْلَامِيَّ بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالْفَتَاوَى وَالْبُحُوثِ، وَالْمُلَاحَظُ أَنَّهُ فِي كُلِّ وَبَاءٍ مَضَى كَسَبَتِ الْمَكْتَبَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ جُمْلَةً مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي كَتَبَهَا مَنْ حَضَرُوا الْوَبَاءَ، وَعَاشُوا فِي أَوْسَاطِ النَّاسِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُؤَرِّخِينَ، حَتَّى إِنْ جُمْلَةً مِنْهُمْ كَتَبُوا كُتُبَهُمْ ثُمَّ مَاتُوا فِي الْوَبَاءِ الَّذِي كَتَبُوا عَنْهُ، فَبَقِيَتْ كُتُبُهُمْ ذُخْرًا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَفِي هَذَا الْوَبَاءِ الْمُسْتَجِدِّ اسْتَجَدَّتْ مَسَائِلُ فِقْهِيَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَنَالَتْ حَظَّهَا مِنَ النِّقَاشِ وَالْجِدَالِ الْعِلْمِيِّ الْمُثْمِرِ، وَهِيَ مِنَ الْإِضَافَاتِ لِلْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ الْمُتَجَدِّدِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَالْبُحُوثِ الَّتِي كَانَتْ بِسَبَبِ الْأَوْبِئَةِ.

نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْإِيمَانَ وَالْيَقِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْآجَالَ وَالْأَرْزَاقَ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ «وَأَنَّ نَفْسًا لَنْ تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا».

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَا أَحَدَ أَطْيَبُ عَيْشًا، وَلَا أَقَرُّ بِالْحَيَاةِ عَيْنًا مِنَ الْمُؤْمِنِ؛ لِإِيمَانِهِ بِالْقَدَرِ، وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُقَدِّرُ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ مَهْمَا كَانَتْ مَرَارَةُ الْمَقْدُورِ. وَهُوَ يُوقِنُ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُقَدِّرُ شَيْئًا ظَاهِرُهُ شَرٌّ وَضَرَرٌ إِلَّا وَيَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ خَيْرًا كَثِيرًا، وَنَفْعًا عَظِيمًا، وَمِنْ ذَلِكَ الْأَوْبِئَةُ الَّتِي تَفْتِكُ بِمَنْ أَصَابَتْهُمْ، وَتُرْعِبُ مَنْ لَمْ تُصِبْهُمْ.

وَمِنْ مَنَافِعِ الْأَوْبِئَةِ: أَنَّهَا تَكْشِفُ زَيْفَ الْبَشَرِ، وَتُظْهِرُهُمْ عَلَى حَقِيقَتِهِمْ بِلَا أَقْنِعَةٍ مُسْتَعَارَةٍ، وَلَا أَخْلَاقٍ مُصْطَنَعَةٍ. وَقَدْ رَأَيْنَا فِي هَذَا الْوَبَاءِ الْمُسْتَجِدِّ (كُورُونَا) كَيْفَ أَنَّ الْمَادِّيَّةَ فَتَكَتْ بِالْأَخْلَاقِ فِي الدُّوَلِ الْأُورُبِّيَّةِ؛ فَاخْتَفَتِ الِابْتِسَامَاتُ الْمُصْطَنَعَةُ، وَذَهَبَ التَّعَاطُفُ الْمُزَوَّرُ، وَصَارَتِ الدُّوَلُ يَنْهَبُ بَعْضُهَا حَاجَةَ بَعْضٍ، وَيَمْنَعُ بَعْضُهَا عَنِ الْأُخْرَى مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَهَا، مِمَّا هُوَ مُؤْذِنٌ بِتَفَكُّكِ اتِّحَادِهَا الَّذِي بُنِيَ عَلَى الْمَصَالِحِ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ فِي ظَاهِرِهِ قَدْ بُنِيَ عَلَى الِاتِّحَادِ وَالتَّعَاوُنِ، لَكِنَّ الْوَبَاءَ كَشَفَ الْحَقِيقِيَّةَ الْمَادِّيَّةَ لِدُوَلِ هَذَا الِاتِّحَادِ، فَلَا يَصِحُّ إِلَّا الصَّحِيحُ، وَفِي الْأَزَمَاتِ تَظْهَرُ الْحَقَائِقُ.

وَمِنْ مَنَافِعِ الْأَوْبِئَةِ: أَنَّهَا تَكْسِرُ حِدَّةَ الْمَادِّيَّةِ، وَتُدَمِّرُ أَسَاسَاتِ الْعَلْمَانِيَّةِ؛ فَتَؤُوبُ الشُّعُوبُ الْمَضْرُوبَةُ بِالْوَبَاءِ وَالْخَائِفَةُ مِنْهُ إِلَى رَبِّهَا سُبْحَانَهُ تَسْأَلُهُ كَشْفَ الضُّرِّ، وَتَسْتَجِيرُ بِهِ مِنْ كُلِّ شَرٍّ. وَفِي الْوَبَاءِ حَيْثُ الشِّدَّةُ يَجِدُ أَهْلُ الْإِيمَانِ مَلَاذًا يَلُوذُونَ بِهِ، وَمَلْجَأً يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَعْتَصِمُونَ بِهِ، وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي دُعَائِهِ سُبْحَانَهُ؛ فَيَجِدُونَ عُقْبَى ذَلِكَ رَاحَةً وَطُمَأْنِينَةً وَسَكِينَةً. أَمَّا أَهْلُ الْمَادِّيَّةِ وَعُبَّادُ الْوَثَنِيَّةِ فَيَتَمَلَّكُهُمُ الْخَوْفُ، وَيَقْتُلُهُمُ الرُّعْبُ، وَلَا مَلْجَأَ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنِ اسْتَكْبَرُوا عَنْ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَزْدَادُ رُعْبُهُمْ مَعَ تَمَدُّدِ الْوَبَاءِ وَانْتِشَارِهِ، وَعَجْزِ الْأَطِبَّاءِ عَنْ إِيقَافِهِ أَوْ عِلَاجِ الْمُصَابِينَ بِهِ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الْأَعْرَافِ: 194].

وَلِذَا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ -مَعَ أَخْذِهِ بِأَسْبَابِ الْوِقَايَةِ وَالْحِيطَةِ وَالْعِلَاجِ- أَنْ يُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْفَيْرُوسَ الَّذِي فَتَكَ بِالْبَشَرِ وَأَرْعَبَهُمْ مَا هُوَ إِلَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى يُدَبِّرُهُ سُبْحَانَهُ كَيْفَ يَشَاءُ، فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْرِفُهُ عَمَّنْ يَشَاءُ، وَيُهْلِكُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيُعَافِي مِنْهُ مَنْ يَشَاءُ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الرَّحِيمُ ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الْأَنْعَامِ: 17].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 56.55 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 54.92 كيلو بايت... تم توفير 1.63 كيلو بايت...بمعدل (2.89%)]