بين الأثرة والإيثار - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4954 - عددالزوار : 2057035 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4529 - عددالزوار : 1325089 )           »          الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 65 - عددالزوار : 52100 )           »          الحرص على الائتلاف والجماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 80 - عددالزوار : 45884 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 196 - عددالزوار : 64239 )           »          فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 374 - عددالزوار : 155290 )           »          6 مميزات جديدة فى تطبيق الهاتف الخاص بنظام iOS 18 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          إيه الفرق؟.. تعرف على أبرز الاختلافات بين هاتف iPhone 12 و Google Pixel 9 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          برنامج الدردشة Gemini متاح الآن على Gmail لمستخدمى أندرويد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21-02-2021, 09:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,565
الدولة : Egypt
افتراضي بين الأثرة والإيثار

بين الأثرة والإيثار


قسم الخطب بدائرة الأئمة والخطباء بسلطنة عمان



عناصر الخطبة

1/ حقيقة الأثرة وتحذير الإسلام منها 2/ حقيقة الإيثار وترغيب الإسلام بها 3/ أنواع الإيثار 4/ الصحابة وضربهم لأروع الأمثلة في الإيثار 5/ أثر الأثرة والإيثار على المجتمعات


اقتباسإِنَّ الأَثَرَةَ مَرَضٌ نَفْسِيٌّ وَوَبَاءٌ، إِذَا فَشَا بَيْنَ أَفْرَادِ المُجتَمَعِ اِنْتَشَرَتْ بَيْنَهُمُ البَغْضَاءُ، وَصَارَ بَيْنَهُمُ الكُرْهُ والحِقْدُ، والتَّدَابُرُ والحَسَدُ؛ إِذْ يَكُونُ أَفْرادُ المُجتَمَعُ لاَ هَمَّ لَهُمْ سِوَى الحُصُولِ عَلَى مَصَالِحِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ، فَيَحْصُلُ التَّنَازُعُ بَيْنَ بَنِي الإِنْسَانِ؛ فَمَا أَقْبَحَ أَنْ يَتَّصِفَ الإِنْسَانُ بِالأَثَرَةِ وَحُبِّ الذَّاتِ، ومَا أَجْمَلَ ..





الخطبة الأولى:


الحَمْدُ للهِ الذِي جَعَلَ الإِيثَارَ، صِفَةً مِنْ صِفَاتِ المُتَّقِينَ الأَبْرَارِ، وسِمَةً مِنْ سِمَاتِ المُؤمِنينَ الأَخْيَارِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ أَهْلٌ مِنَ الحَمْدِ وأُثْنِي عَلَيْهِ، وأُومِنُ بِهِ وأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ.

وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، حَثَّ عَلَى الإِيثَارِ والبَذْلِ، ونَهَى عَنِ الأَثَرَةِ والبُخْلِ، ونَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا ونَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ، خَيْرُ مَنْ آثَرَ عَلَى نَفْسِهِ وتَصَدَّقَ، وبَسَطَ يَدَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ وأَنْفَقَ، -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَى آلهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، والتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ جَاءَ الإِسلاَمُ الحَنِيفُ حَاثّاً عَلَى أَحْسَنِ الخُلُقِ وأَجْمَلِ الصِّفَاتِ، وأَنْبَلِ القِيَمِ وأَفْضَلِ السِّمَاتِ، ونَبْذِ كُلِّ مَا هُوَ مَذْمُومٌ مِنَ الطِّبَاعِ والعَادَاتِ، ومِنَ الصِّفَاتِ التِي ذَمَّهَا الإِسلاَمُ صِفَةُ الأَثَرَةِ، وهِيَ تَعْنِي الاستِبْدَادَ وحُبَّ التَّمَلُّكِ والأَنَانِيَّةَ، وهِيَ ضَرْبٌ مِنْ ضُروبِ الشُّحِّ والبُخْلِ، وسَبَبٌ لِمَنْعِ مَا أَمَرَ اللهُ مِنَ الإِنْفَاقِ والبَذْلِ.

وَلَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الشُّحِّ أَيَّمَا تَحْذِيرٍ؛ لأَنَّهُ صِفَةٌ مَذْمُومَةٌ ودَاءٌ خَطِيرٌ، إِذْ قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ-: “إِيَّاكُمْ والشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ”، وَحَسْبُنَا قَولُ اللهِ فِي كِتَابِهِ: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].

وَكُلَّمَا كَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ أَثَرَةً، كَانَ أَكْثَرَ بُعْداً عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَيْفَ لاَ؟! وقَدْ أَمَرَهُ بِالجُودِ والإِنْفَاقِ بِسَخاءٍ، بَيْنَما شُحُّ هَذَا الإِنْسَانِ أَبعَدَهُ عَنِ البَذْلِ والعَطَاءِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الأَثَرِ: “السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ، قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ، بَعِيدٌ عَنِ النَّارِ، والبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللهِ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ”.

إِنَّ الأَثَرَةَ مَرَضٌ نَفْسِيٌّ وَوَبَاءٌ، إِذَا فَشَا بَيْنَ أَفْرَادِ المُجتَمَعِ اِنْتَشَرَتْ بَيْنَهُمُ البَغْضَاءُ، وَصَارَ بَيْنَهُمُ الكُرْهُ والحِقْدُ، والتَّدَابُرُ والحَسَدُ؛ إِذْ يَكُونُ أَفْرادُ المُجتَمَعُ لاَ هَمَّ لَهُمْ سِوَى الحُصُولِ عَلَى مَصَالِحِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ، فَيَحْصُلُ التَّنَازُعُ بَيْنَ بَنِي الإِنْسَانِ؛ فَمَا أَقْبَحَ أَنْ يَتَّصِفَ الإِنْسَانُ بِالأَثَرَةِ وَحُبِّ الذَّاتِ، ومَا أَجْمَلَ أَنْ يَسْعَى بِالتَّخَلُّصِ مِنْهَا بِأَفْضَلِ الصِّفَاتِ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ الإِنْسَانَ بِطَبِيعَةِ فِطْرَتِهِ يَمِيلُ إِلَى الصِّفَاتِ الحَسَنَةِ، ويَبتَعِدُ عَنِ الصِّفَاتِ التِي تُكْسِبُهُ المَذَمَّةَ، وَلَقَدْ جَاءَ الإِسلاَمُ لِيُحَقِّقَ أَسْمَى الفَضَائِلِ لِنَفْسِ الإِنْسَانِ؛ لِيَحْيَى الجَمِيعُ حَيَاةَ الاستِقْرَارِ والاطْمِئنَانِ، ويَعِيشُوا عِيشَةَ السَّلاَمَةِ والأَمَانِ.

ومِنَ الصِّفَاتِ التِي حَثَّ عَلَيْهَا الإِسلاَمُ صِفَةُ الإِيثَارِ؛ فَالإِيثَارُ مَعْنَاهُ تَقْدِيمُ الغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ فِي الحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ، رَغْبَةً فِي نَيْلِ رِضَا رَبِّ البَرِيَّةِ، والإِيثَارُ فَضِيلَةٌ أَخْلاَقِيَّةٌ نَبِيلَةٌ، وصِفَةٌ حَمِيدَةٌ جَلِيلَةٌ، لاَ يَتَحلَّى بِهَا إِلاَّ أَصْحَابُ القُلُوبِ الكَبِيرَةِ، والهِمَمِ العَالِيَةِ، والعَزَائِمِ الثَّابِتَةِ، لَكِنَّهُ يَحتَاجُ لِتَحقِيقِهِ إِلَى صَبْرٍ واحتِمَالٍ، وبَذْلٍ وَكَرَمٍ عَلَى أَيِّ حَالٍ.

فَمَا أَعْظَمَ أَنْ يُحِبَّ المَرْءُ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، ويُواسِيَهُ بِمُستَطَاعِ مَالِهِ، والأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤثِرَ الإِنْسَانُ غَيْرَهُ بِالشَّيءِ وَهُوَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ، وأَنْ يَبْذُلَ لَهُ مِنْ مَالِهِ وَوَقْتِهِ وَجُهْدِهِ مَا لاَ يَبْذُلُهُ لِنَفْسِهِ التِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، يَقُولُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “لاَ يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ”.

فَالمُؤْثِرُ هُوَ الذِي يَجُوعُ لِيُشْبِعَ أَخَاهُ، ويَظْمَأُ لِيُرْوِيَهُ، ويَسُدَّ لَهُ خَلَّتَهُ، وَيَقْضِيَ لَهُ حَاجَتَهُ، وَلَو بَقِيَ طَاوِياً مُحتَاجاً، فَهَذَا واللهِ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَخُلُقٍ كَرِيمٍ، لَهُ فِي مَرَاتِبِ الإِيمَانِ المَرتَبَةُ العُظْمَى، والدَّرَجَةُ الكُبْرَى، بَلْ يَنَالُ أَعلَى دَرَجَاتِ البِرِّ، كَيْفَ لاَ؟! وَاللهُ -سُبْحَانَهُ وتَعَالَى- يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران:92].

وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ العُلَمَاءِ بَيْنَ التَّقِيِّ والسَّخِيِّ والجَوَادِ، فَالذِي يُؤثِرُ حُبَّ اللهِ ورِضَاهُ عَلَى حُبِّ الدُّنْيَا هُوَ التَّقِيُّ، والذِي يَسْهُلُ عَلَيْهِ العَطَاءُ ولاَ يُؤلِمُهُ البَذْلُ والإِيثَارُ هُوَ السَّخِيُّ، وإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُعْطُونَ الأَكْثَرَ ويُبقُونَ لأَنْفُسِهِمْ فَذَاكَ جَوَادٌ.

أَيُّها المُؤمِنونَ: إِنَّ مَفْهُومَ الإِيثَارِ لاَ يَقْتَصِرُ عَلَى المُؤاثَرَةِ فِي الأَشْيَاءِ المَادِّيَّةِ، بَلْ الإِيثَارُ أَنْوَاعٌ ودَرَجَاتٌ، وأَعلَى دَرَجَاتِ الإِيثَارِ هُوَ: إِيثَارُ مَرْضَاةِ اللهِ عَلَى أَهْوَاءِ النَّفْسِ ورَغَبَاتِها، وتَأَمَّلُوا مَثَلاً قِصَّةَ مُوسَى-عَلَيْهِ السَّلاَمُ- مَعَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ، وَكَيْفَ ظَهَرَتْ لَهُمْ مُعْجِزَةُ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-؛ إِذْ تَحَوَّلَتِ العَصَا بِقُدْرَةِ اللهِ إِلَى ثُعْبَانٍ، فَأَقَرُّوا بِالحَقِّ والإِيمَانِِ، وَأَنَّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- نَبِيٌّ مُرْسَلٌ مِنَ الوَاحِدِ الدَّيَّانِ، (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) [طه:70]، فَهَدَّدَهُمْ فِرْعَوْنُ بِأَشَدِّ العَذَابِ، إِذْ قَالَ لَهُمْ كَمَا حَكَى عَنْهُ القُرآنُ الكَرِيمُ: (لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى)[طه:71]، فَآثَرَ السَّحَرَةُ رِضَا اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) [طه:72].

أَمَّا فِي مُؤاثَرَةِ الغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا، فَقَدْ ضَرَبَ لَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَثَلاً عَالِياً، وَخُلُقاً أَصِيلاً، إِذْ كَانَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- يُؤْثِرُ غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا هُوَ مُحتَاجٌ إِلَيْهِ، ويَجُودُ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ وَلاَ يَبْخَلُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَجُودُ بِهِ اقتَرَضَهُ وَرَدَّهُ، وإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَمَّلَهُ وَوَعَدَهُ، فَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ يَطلُبُ مِنْهُ صَدَقَةً، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “مَا عِنْدِي شَيءٌ، وَلَكِنِ اذْهَبْ فَابْتَعْ عَلَيَّ فَإِذَا جَاءَنَا شَيءٌ قَضَيْنَاهُ”. فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مَا كَلَّفَكَ اللهُ مَا لاَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- هَذِهِ المَقَالَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْفِقْ ولاَ تَخْشَ مِنْ ذِي العَرْشِ إِقْلاَلاً، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وعُرِفَ البِشْرُ فِي وَجْهِهِ وَقَالَ: “بِهَذَا أُمِرْتُ”.

عِبادَ اللهِ: لَقَدْ سَجَّلَ التَّأْرِيخُ أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ، وأَصْدَقَ الشَّوَاهِدِ والأَدَلَّةِ، مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- الذِينَ زَيَّنُوا صَفَحَاتِ حَيَاتِهِمْ بِأَوسِمَةِ الإِيثَارِ، وَقَلَّدُوا أَعْنَاقَهُمْ بِقَلاَئِدِ العِزِّ والفَخَارِ، فَصَاغُوا صَفَحَاتٍ مِلْؤُهَا الأُخُوَّةُ الصَّادِقَةُ، وَالمَحَبَّةُ الفَائِقَةُ، فَعِنْدَ قُدُومِ المُهَاجِرينَ إِلَى المَدِينَةِ، استَقْبَلَهُمُ الأَنْصَارُ بِلَهْفَةٍ عَارِمَةٍ، وَمَحَبَّةٍ صَادِقَةٍ، بَلَغَتْ حَدَّ التَّنَافُسِ بَيْنَهُمْ فِي نَيْلِ تَضْيِيفِهِمْ.

فَقَامَ الحُبُّ والإِيثَارُ فِيهِمْ مَقَامَ العَصَبِيَّةِ القَبَلِيَّةِ، والحَمِيَّةِ الجَاهِلِيَّةِ، فَذَابَتْ تِلْكَ العَصَبِيَّاتُ والحَمِيَّاتُ، وَسَقَطَتْ فَوارِقُ اللَّوْنِ والدَّمِ، وَصَفَتِ القُلُوبُ مِنَ الضَّغَائِنِ والأَحقَادِ، فَبَلَغَ بَيْنَهُمُ الإِيثَارُ أَنْ يَعْرِضَ أَحَدُهُمْ لأَخِيهِ المُسلِمِ نِصْفَ مَالِهِ وَدَارِهِ، وَقَدْ نَزَلَ فِيهِمْ قَولُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].

إِنَّ الإِنسانَ مَا خُلِقَ لِيَعِيشَ لِنَفْسِهِ فَحَسْبُ، وإِنَّمَا خُلِقَ لِيَكُونَ عُضْواً فِي المُجتَمَعِ، يَشْعُرُ بِشُعُورِهِمْ، ويَفْرَحُ لِفَرَحِهِمْ، ويَحْزَنُ لِحُزْنِهِمْ، ويَتَألَّمُ لآلاَمِهِمْ؛ فَلاَ يَجْعَلُ الأَثَرَةَ والأَنَانِيَّةَ تُنْسِيهِ الأُخُوَّةَ الإِنْسَانِيَّةَ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: “اللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ”.

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واعلَمُوا أَنَّ الإِيثَارَ مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، ومِمَّا يُوصِلُ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ الوَاحِدِ الخَلاَّقِ.

أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.



الخطبة الثانية:


الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ المُجْتَمَعَ الذِي تَسُودُهُ الأَثَرَةُ يَكُونُ مُجتَمَعاً مُتَنَافِساً عَلَى الدُّنْيَا وحُطَامِهَا، والتَّبَاغُضِ مِنْ أَجْلِهَا، فَيَعُمُّ القَلَقُ بَيْنَ الأَفْرَادِ، وَيَسُودُ بَيْنَهُمْ حُبُّ الأَنَانِيَّةِ والاستِبْدَادِ، أَمَّا المُجتَمَعُ الذِي يَسُودُ فِيهِ الإِيثَارُ، ويَتَعَامَلُ بِأَخْلاَقِ الأَخْيَارِ الأَبْرَارِ، فَإِنَّهُ حَقِيقٌ أَنْ يَنَالَ الرِّفْعَةَ والسُّؤْدَدَ، ويُحَقِّقَ السَّعَادَةَ وَالمَجْدَ.

إِنَّهُ مُجتَمَعٌ يَتَحلَّى بِمَعَانِي الإِنْسَانِيَّةِ، ويَسْتَعلِي عَلَى الأَثَرَةِ والأَنَانِيَّةِ؛ لِثَبَاتِهِ عَلَى الرَّكَائِزِ الإِيمَانِيَّةِ، فَهُوَ يَرْبأُ عَنِ الحَيَاةِ المَادِّيَّةِ البَحْتَةِ التِي تُفَضِّلُ المَصْلَحَةَ عَلَى المَبْدَأِ، وتُقَدِّمُ الرَّغْبَةَ الشَّخْصِيَّةَ عَلَى المُثُلِ الإِنْسَانِيَّةِ، فَأَكْرِمْ بِمُجتَمَعٍ يَعْطِفُ فِيهِ الكَبِيرُ عَلَى الصَّغِيرِ، ويُوَقِّرُ فِيهِ الصَّغِيرُ الكَبِيرَ، وَيَرأَفُ غَنِيُّهُ بِالفَقِيرِ، ويُؤْثِرُ المَرْءُ فِيهِ أَخَاهُ الضَّعِيفَ الكَسِيرَ.

إِنَّهُ مُجتمعٌ جَدِيرٌ بأَنْ يَنْعَمَ بِالأَمْنِ والمَحَبَّةِ والسَّلاَمِ، وتَتَآلفَ قُلُوبُ أَفْرَادِهِ عَلَى الخَيْرِ والوِئَامِ، إِنَّ الذِي يَسْمُو بِنَفْسِهِ عَنْ مَقَامِ الأَثَرَةِ، ويُرَوِّضُ النَّفْسَ عَلَى المُؤاثَرَةِ ونَفْعِ الآخَرِينَ، لَجَدِيرٌ أَنْ يَنَالَ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّاسِ الثَّنَاءَ والتَّقْدِيرَ، وفِي الآخِرَةِ التَّمَتُّعَ بِنَعِيمِ جَنَّةِ العَلِيِّ القَدِيرِ، قَالَ تَعَالَى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [سورة النازعات:37-41].

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وكُونُوا مِمَّنْ (يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].

هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا) [الأحزاب:56].

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادِكَ أَجْمَعِينَ.

اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.

اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.

عِبَادَ اللهِ: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ) [النحل:90].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 64.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 62.50 كيلو بايت... تم توفير 1.63 كيلو بايت...بمعدل (2.55%)]