فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 38 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 65 - عددالزوار : 52078 )           »          الحرص على الائتلاف والجماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 80 - عددالزوار : 45860 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 196 - عددالزوار : 64233 )           »          فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 374 - عددالزوار : 155275 )           »          6 مميزات جديدة فى تطبيق الهاتف الخاص بنظام iOS 18 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          إيه الفرق؟.. تعرف على أبرز الاختلافات بين هاتف iPhone 12 و Google Pixel 9 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          برنامج الدردشة Gemini متاح الآن على Gmail لمستخدمى أندرويد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          كيفية حذف صفحة Word فى 3 خطوات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          خطوات.. كيفية إعادة ترتيب الأزرار وتغيير حجمها في مركز التحكم بـiOS 18 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #371  
قديم يوم أمس, 09:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 371)

من صــ 256 الى صـ 270





فصل:
في قوله تعالى {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} الآية وما بعدها إلى قوله: {أفلا تذكرون} ذكر سبحانه الفرق بين أهل الحق والباطل وما بينهما من التباين والاختلاف مرة بعد مرة ترغيبا في السعادة وترهيبا من الشقاوة. وقد افتتح السورة بذلك فقال: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} فذكر أنه نذير وبشير؛ نذير ينذر بالعذاب لأهل النار وبشير يبشر بالسعادة لأهل الحق. ثم ذكر حال الفريقين في السراء والضراء فقال: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور} {ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور} {إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير}.

ثم ذكر بعد هذا قصص الأنبياء وحال من اتبعهم ومن كذبهم كيف سعد هؤلاء في الدنيا والآخرة وشقي هؤلاء في الدنيا والآخرة فذكر ما جرى لهم إلى قوله: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك} إلى قوله: {وذلك يوم مشهود}. ثم ذكر حال الذين سعدوا والذين شقوا. ثم قال: {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة} فإنه قد يقال: غاية ما أصاب هؤلاء أنهم ماتوا والناس كلهم يموتون وأما كونهم أهلكوا كلهم وصارت بيوتهم خاوية وصاروا عبرة يذكرون بالشر ويلعنون إنما يخاف ذلك من آمن بالآخرة فإن لعنة المؤمنين لهم بالآخرة وبغضهم لهم كما جرى لآل فرعون هو مما يزيدهم عذابا كما أن لسان الصدق وثناء الناس ودعاءهم للأنبياء واتباعهم لهم هو مما يزيدهم ثوابا.
فمن استدل بما أصاب هؤلاء على صدق الأنبياء فآمن بالآخرة خاف عذاب الآخرة وكان ذلك له آية وأما من لم يؤمن بالآخرة ويظن أن من مات لم يبعث فقد لا يبالي بمثل هذا وإن كان يخاف هذا من لا يخاف الآخرة؛ لكن كل من خاف الآخرة كان هذا حاله وذلك له آية.
وقد ختم السورة بقوله: {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون} إلى آخرها كما افتتحها بقوله: {ألا تعبدوا إلا الله} فذكر التوحيد والإيمان بالرسل فهذا دين الله في الأولين والآخرين قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين. ولهذا قال: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} و {أين شركائي الذين كنتم تزعمون} هو الشرك في العبادة وهذان هما الإيمان والإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ تارة في ركعتي الفجر سورتي الإخلاص وتارة بآيتي الإيمان والإسلام فيقرأ قوله: {آمنا بالله وما أنزل إلينا} الآية فأولها الإيمان وآخرها الإسلام ويقرأ في الثانية: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله} فأولها إخلاص العبادة لله وآخرها الإسلام له.
وقال: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} ففيها الإيمان والإسلام في آخرها وقال: {الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين} {ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون}.
(وقيل ياأرض ابلعي ماءك وياسماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين (44)
قيل: أراد بالسماء المطر أي: يا مطر انقطع وليس كذلك بل الإقلاع الإمساك أي: يا سماء امسكي عن الإمطار.

(تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين (49)
[فصل: براهين قرآنية مستقلة على نبوته صلى الله عليه وسلم]
والقرآن - نفسه - قد بين من آيات نبوته وبراهين رسالته أنواعا متعددة مع اشتمال كل نوع على عدد من الآيات والبراهين، مثال ذلك: إخباره لقومه بالغيب الماضي الذي لا يمكن بشرا أن يعلمه إلا أن يكون نبيا، أو يكون ممن تلقاه عن نبي، وقومه يعلمون أنه لم يتعلم ذلك من بشر، ولا من أهل الكتاب، ولا غيرهم. وهذا نوعان:
منه: ما كان يسأله عنه المشركون وأهل الكتاب ; لينظر هل هو نبي أم لا؟
وكان قومه يرسلون إلى أهل الكتاب، البعيدين عنهم، مثل من كان بالمدينة، وغيرها من أهل الكتاب، يطلبون منهم ما يسألونه عنه، فيرسلون إليهم ليسألوه عن ذلك، ويمتحنون بذلك هل هو نبي أم لا؟

ومنه: ما كان الله يخبره به ابتداء، ويجعله علما وآية لنبوته، وبرهانا لرسالته، مع ما في ذكر هذه القصص من الاعتبار لأمور أخرى، فكان كل من هذين النوعين دليلا وعبرة على نبوته، من طريقين، فكان دليلا وعبرة على نبوته من جهة إخباره بالغيب، الذي لا يعلمه إلا نبي، وكانت عبرة بما فيها من أحوال المؤمنين والكافرين التي توجب اتباع سبيل المؤمنين الذين اتبعوا مثله، وتجنب سبيل الكافرين الذين خالفوا مثله، وحكم الشيء حكم
نظيره. فإذا كان من كان مثله ومثل من اتبعه سعيدا، وحال من خالف مثله ومثل من اتبعه شقيا، كان في هذا دلالة وعبرة توجب اتباعه، وتنهى عن مخالفته، وهذا - أيضا - دليل على نبوة من قبله من الأنبياء من وجهين: من جهة أنه أخبر بمثل ما أخبروا به، من غير مواطأة بينهم وبينه، ولا تشاعر، لم يأخذوا عنه، ولم يأخذ عنهم.

وكل منهما أخبر عن الله بأخبار مفصلة، يمتنع الاتفاق عليها عادة إلا بتواطؤ، فإذا لم يكن تواطؤ وتشاعر، وامتنع اتفاق ذلك من غير مواطأة، علم أن كلا من المخبرين صادق، قال تعالى:
{لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين} [يوسف: 7].
وقص قصته في السورة، إلى أن قال:

{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون - وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين - وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين - وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون - وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 102 - 106].
إلى قوله:
{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين - وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون - حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين - لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} [يوسف: 108 - 111].
وقال تعالى: {ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا} [الكهف: 83].
وقال:
{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85].
وقال:

{أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا} [الكهف: 9].
وقال تعالى لما قص قصة نوح من سورة هود، وهي أطول
ما قصه في قصة نوح:
{تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} [هود: 49].

فذكر سبحانه أن هذا الذي أوحاه إليه من أنباء الغيب، ما كان يعلمه هو ولا قومه من قبل هذا. فإذا لم يكن قومه يعلمون ذلك لا من أهل الكتاب، ولا من غيرهم، وهو لم يعاشر إلا قومه، وقومه يعلمون ذلك منه، ويعلمون أنهم لم يكونوا يعلمون ذلك، ويعلمون - أيضا - أنه هو لم يكن تعلم ذلك، وأنه لم يكن يعاشر غيرهم، وهم لا يعلمون ذلك، صار هذا حجة على قومه، وعلى من بلغه خبر قومه، ومثل ما أخبرهم عن قصة آدم، وسجود الملائكة له، وتزيين إبليس له حتى أكل من الشجرة، وهبط هو وزوجه.
وأخبرهم عن قصة نوح ومكثه فيهم ألف سنة إلا خمسين
عاما، وهذا في التوراة الموجودة بأيدي أهل الكتاب: مقدار لبثه في قومه قبل الغرق وبعده.

وأخبرهم عن قصة الخليل، وما جرى له مع قومه، وإلقائه في النار، وذبح ولده، ومجيء الملائكة إليه في صورة ضيفان، وتبشيره بإسحاق ويعقوب، وذهاب الملائكة إلى لوط، وما جرى للوط مع قومه، وإهلاك الله مدائن قوم لوط، وقصة إسرائيل مع بنيه ; كقصة يوسف، وما جرى له بمصر، وقصة موسى مع فرعون، وتكليم الله إياه مرة بعد مرة، وآياته كالعصا، واليد البيضاء، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وتظليل الغمام على بني إسرائيل، وإطعامهم المن والسلوى، وانفجار الماء من الحجر اثنتي عشرة عينا لسقيهم وعبادتهم العجل، وقتل بعضهم بعضا لما تاب الله عليهم، وقصة البقرة، ونتق الجبل فوقهم، وقصة داود، وقتله لجالوت، وقصة الذين خرجوا
من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم، وقصة الذي أماته الله مائة عام، ثم بعثه، وغير ذلك من أحوال بني إسرائيل.

إلى أن ذكر قصة زكريا وابنه يحيى، وعيسى ابن مريم، وأحوال المسيح وآياته، ودعائه لقومه، والآيات التي بعث بها، وتفاصيل ذلك، وذكر قصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين، وغير ذلك من قصص الأنبياء والصالحين والكفار مفصلة مبينة بأحسن بيان وأتم معرفة، مع علم قومه الذين يعرفون أحواله من صغره إلى أن ادعى النبوة: أنه لم يتعلم هذا من بشر، بل لم يجتمع هو بأحد من البشر يعرف ذلك، ولا كان عندهم بمكة من يعرف ذلك، لا يهودي ولا نصراني، ولا غيرهم.
فكان هذا من أعظم الآيات والبراهين لقومه بأن هذا إنما أعلمه به وأنبأه به الله، ومثل هذا الغيب لا يعلمه إلا نبي، أو من أخذ عن نبي، فإذا لم يكن هو أخذه عن نبي، تعين أن يكون نبيا.

، ثم سائر أهل الأرض يعلمون أنه لم يتعلم ذلك من بشر، من طرق:
أحدها: أن قومه المعادين له، الذين هم من أحرص الناس على
القدح في نبوته، مع كمال علمهم - لو علموا أنه تعلم ذلك من بشر - لطعنوا عليه بذلك وأظهروه، فإنهم - مع علمهم - بحاله يمتنع أن لا يعلموا ذلك لو كان، ومع حرصهم على القدح فيه، يمتنع أن لا يقدحوا فيه، ويمتنع أن لا يظهر ذلك.

الثاني: أنه قد تواتر عن قومه أنهم كانوا يقولون: إنه لم يكن يجتمع به من يعلمه ذلك.
الثالث: أنه لو كانت هذه القصص المتنوعة قد تعلمها من أهل الكتاب - مع عداوته لهم - لكانوا يخبرون بذلك، ويظهرونه، ولو أظهروا ذلك لنقل ذلك وعرف، فإن هذا من الحوادث التي تتوفر الهمم والدواعي على نقله.
الرابع: أنه حيث بعث كان الناس إما مشركا وإما كتابيا، فلم يكن هناك أحد على الدين الذي دعا إليه، وقد علم الناس بالتواتر أن المشركين - من قريش وغيرهم - لم يكونوا يعرفون هذه القصص، ولو قدر أنهم كانوا يعرفونها فهم أول من دعاهم إلى دينه فعادوه وكذبوه، فلو كان فيهم من علمه، أو يعلم أنه تعلم من غيره لأظهر ذلك.
الخامس: أن مثل هذا لو كان، فلا بد أن يعرفه - ولو خواص الناس - وكان في أصحابه الذين آمنوا به من يعرف ذلك، وكان ذلك
يشيع، ولو تواصوا بكتمانه كما شاع ما كتم من أمر الدول الباطنية، ولكان خواصه في الباطن يعلمون كذبه، وكان علمهم بذلك يناقض تصديقه في الباطن كما عرف في مثل ذلك.

فكيف، وكان أخص أصحابه وأعلمهم بحاله أعظمهم محبة وموالاة؟ بخلاف حال من يبطن خلاف ما يظهر، فإن خواص أصحابه لا يعظمونه في الباطن.
فإنه علم الناس أن قومه الذين كانوا معادين له غاية العداوة، وكانوا يطلبون القدح في نبوته بكل طريق، يعلمون أنه لم يكن عندهم بشر يعلمه مثل هذا، وأنه لم يكن في قومه ولا بلده من يعرف هذا.
علم الناس ما علمه قومه أن هذا أنبأه به الله، وكان هذا من أعلامه وآياته وبراهينه، وهذا مما يبين الله في القرآن أنه من آياته، وأنه حين أخبر قومه بهذا - مع تكذيبهم وفرط عداوتهم له - لم يمكن أحدا منهم أن يقول له: بل فينا من كان يعلم ذلك، وأنت كنت تعلم ذلك، وقد تعلمته منا أو من غيرنا. فكان إقرارهم بعدم علمه وعلمهم،
ومع فرط عداوتهم له، آية بينة لجميع الأمم أنه لم يكن هو ولا هم يعلمون ذلك.

ولهذا لما كان بعضهم يفتري عليه فرية ظاهرة، كانوا كلهم يعلمون كذبه، وإذا اجتمعوا وتشاوروا في أمره يعرفون أن هذا كذب ظاهر عليه كما كان بعضهم يقول: إنه مجنون، وبعضهم يقول: إنه كاهن، وبعضهم يقول: إنه ساحر، وبعضهم يقول: إنه تعلمه من بشر، وبعضهم يقول: أضغاث أحلام.
فحكى الله أقوالهم، مبينا لظهور كذب من قال ذلك، وأنه قول ضال حائر، قد بهره حال الرسول، فحار، فلم يدر ما يقول، كما قال تعالى:
{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا - الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا - واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا - وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا - وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا - قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما} [الفرقان: 1 - 6].

فأخبر عمن قال ذلك، وهم يعلمون أن هذا من أظهر الكذب، فإن هذه القصص المذكورة في القرآن، لم يكن بمكة من يعرفها، فضلا عن أن يمليها كما قال:
{وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} [العنكبوت: 48].
وقال:
{ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} [هود: 49].
ولهذا قال:

{أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض} [الفرقان: 6].
فأخبر أن هذا من علم من يعلم السر، إذ كان البشر لا يعلمون ذلك إلا من جهة أخبار الأنبياء، وليس بمكة من يعلم ما أخبرت به الأنبياء.
، ثم ذكر ما اقترحوه فقال:

{وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا - أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا - انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} [الفرقان: 7 - 9].
أمر بالنظر في كيفية ما ضربوه من الأمثال، حيث شبهوه بمن يظهر الفرق بينه وبينه ظهورا لا يخفى على الناظر ; ولهذا قال:
{فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} [الفرقان: 9].
إذ كان ظاهرا أن هذا ضلال عن طريق الحق، فلا يستطيع الضال عن طريق الحق إليه سبيلا.

وقال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم - إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون - إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون - وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون - قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين - ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} [النحل: 98 - 103].
فأخبر عما افتراه بعضهم، من قوله: إنما يعلمه هذا القرآن بشر.

وكان بمكة مولى أعجمي لبعض قريش، قيل: إنه مولى لبني الحضرمي، والنبي لا يحسن أن يتكلم بلسان العجمي، وذاك لا يحسن أن يتكلم بهذا الكلام العربي. فلما قالوا: إنه افترى
هذا القرآن، وأنه علمه إياه بشر قال تعالى:
{لسان الذي يلحدون} [النحل: 103].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #372  
قديم يوم أمس, 09:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 372)

من صــ 271 الى صـ 285








أي يضيفون إليه هذا التعليم، وينسبونه إليه، وعبر عنه بلفظ الإلحاد ; لما فيه من الميل، فقال: لسان هذا الشخص الذي قالوا إنه يعلمه القرآن، لسان أعجمي، وهم لم يمكنهم أن يضيفوا هذا التعليم إلى رجل عربي، بل إلى هذا الأعجمي ; لكونه كان يجلس - أحيانا - إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك الأعجمي لا يمكنه التكلم بهذا الكلام العربي، بل هو أعجمي، ومحمد لا يعرف بالعجمية، لكن غاية ذلك الأعجمي كعبد بني الحضرمي أن يعرف قليلا من كلام العرب الذي يحتاج إليه في العادة، مثل الألفاظ التي يحتاج إليها في غالب الأوقات ; كلفظ الخبز والماء والسماء والأرض، ولا يعرف أن يقرأ سورة واحدة من القرآن.
فبين سبحانه ظهور كذبهم فيما افتروه، ولم يقل أحد منهم ما يمكن أن يكون شبهة من تعلمه أنباء الغيب، من علماء أهل الكتاب ونحو ذلك، وإنما قالوا ما ظهر بطلانه لكل أحد، ولم ينقل عن
أحد منهم أنه قال قولا يخفى بطلانه، بل ما يظهر كذبه لكل أحد.

فتبين أنه لم يمكنهم أن يقولوا: إنه تعلم أخبار الغيوب من أحد. وهذه القصة: قصة نوح - لا سيما قصته في سورة هود كما تقدم - لا يعلمها إلا نبي، أو من تلقاها عن نبي، فإذا عرف أنه لم يتلقاها عن أحد، علم أنه نبي ; ولهذا قال تعالى في آخرها:
{تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} [هود: 49].
والقول في سائر القصص، كالقول فيها.
وكما قال - في سورة يوسف -:
{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} [يوسف: 102].
وقال - في سورة آل عمران، لما ذكر قصة زكريا ومريم -:
{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون} [آل عمران: 44].
وقال: - في قصة موسى -:
{وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين - ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين - وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك} [القصص: 44 - 46] الآية.

والإنسان إنما يعلم مثل هذا بمشاهدة أو خبر، فنبه بقوله: (وما كنت لديهم) على أنه إنما علمت ذلك بإخبارنا وإيحائنا إليك وإعلامنا لك بذلك، إذ كان معلوما عند كل من عرفه: أنه لم يسمع ذلك من بشر، وأنه لم يكن هو ولا قومه يعلمون ذلك.
وقد قال تعالى:
{قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} [يونس: 16].
بين بذلك أن تلاوته عليهم هذا الكتاب، وإدراءهم ; أي إعلامهم به، هو بمشيئة الله وقدرته لا من تلقاء نفسه، كما قال تعالى:
{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم - قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به} [يونس: 15 - 16].

فبين أنه لبث فيهم عمرا من قبله، وهو لا يتلو شيئا من ذلك، ولا يعلمه، ولا يعلمهم به، فليس الأمر من جهته، ولكن من جهة الله الذي لو شاء ما تلاه عليهم ولا أدراهم به، وتلاوته عليهم وإدراؤهم به هو من الإعلام بالغيوب الذي لا يعلمها إلا نبي، وبين أن ذلك من الإرسال الذي يحبه الله ويرضاه، لا من الكوني الذي قدره، وهو لا يحبه، ولا يرضاه؛ كإرسال الشياطين، ولهذا كانوا يعرضون عليه أن يصير ملكا عليهم، وأن يعطوه حتى يكون من أغناهم، وأن يزوجوه ما شاء من نسائهم، فيقول: " "لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر لم أستطع أن أدعه" "، وهذه الثلاث هي
مطلوب النفوس من الدنيا (السلطان والمال والنساء)، فيعرض عن قبول الدنيا التي هي غاية أماني طالبها، ويبين أنه لا يقدر على أن يدع ما أمر به من تبليغ الرسالة.

وقال تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا - ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا - إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا - وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا - سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا} [الإسراء: 73 - 77].
بين سبحانه أنهم كادوا أن يمنعوه بكل طريق، فإن الإنسان إنما يتم عمله بإرادته وقدرته. فمع الإدارة الجازمة والقدرة التامة يجب وجود المقدور، وإذا تعذر أحدهما امتنع، فطلبوا تغيير إرادته ليركن إليهم فيغير ما أوحي إليه، فعصمه الله وثبته.
، ثم طلبوا تعجيزه بأن يستفزوه ويخرجوه، حتى يعجز عن تبليغ رسالة ربه، ولو كان ذلك لعاجلهم الله بالعقوبة، أسوة بمن تقدمه من الرسل، فإن الله كان إذا أراد إهلاك أمة، أخرج نبيها منها ثم أهلكها، لا يهلكها وهو بين أظهرها، كما قال تعالى:
{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33].

وهذا بعد قوله:

{وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32].
قال تعالى:
{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33].
فلما خرج من بينهم بالهجرة أتاهم الله بعذاب أليم يوم (بدر) وغيره، فقوله:
{وإن كادوا ليفتنونك} [الإسراء: 73].
إشارة إلى سعيهم في إفساد إرادته.
وقوله:
{وإن كادوا ليستفزونك من الأرض} [الإسراء: 76].
إشارة إلى سعيهم في تعجيزه.

وقال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48].
بين سبحانه من حاله ما يعلمه العامة والخاصة، وهو معلوم لجميع قومه الذين شاهدوه، متواتر عند من غاب عنه، وبلغته أخباره من جميع الناس: أنه كان أميا لا يقرأ كتابا، ولا يحفظ كتابا من الكتب، لا المنزلة ولا غيرها، ولا يقرأ شيئا مكتوبا، لا كتابا منزلا ولا غيره، ولا يكتب بيمينه كتابا، ولا ينسخ شيئا من كتب الناس المنزلة ولا غيرها.
ومعلوم أن من يعلم من غيره إما أن يأخذ تلقينا وحفظا، وإما أن يأخذ من كتابه، وهو لم يكن يقرأ شيئا من الكتب من حفظه، ولا يقرأ مكتوبا، والذي يأخذ من كتاب غيره إما أن يقرأه وإما أن ينسخه، وهو لم يكن يقرأ ولا ينسخ.
وقال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين - نزل به الروح الأمين - على قلبك لتكون من المنذرين - بلسان عربي مبين - وإنه لفي زبر الأولين - أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [الشعراء: 192 - 197].
إلى قوله.
{وما تنزلت به الشياطين - وما ينبغي لهم وما يستطيعون - إنهم عن السمع لمعزولون - فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين - وأنذر عشيرتك الأقربين - واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين - فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون - وتوكل على العزيز الرحيم - الذي يراك حين تقوم - وتقلبك في الساجدين - إنه هو السميع العليم - هل أنبئكم على من تنزل الشياطين - تنزل على كل أفاك أثيم - يلقون السمع وأكثرهم كاذبون - والشعراء يتبعهم الغاوون - ألم تر أنهم في كل واد يهيمون - وأنهم يقولون ما لا يفعلون - إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء: 210 - 227].
فقال تعالى:

{وإنه لفي زبر الأولين} [الشعراء: 196].
وقال:
{أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [الشعراء: 197].
وعلماء بني إسرائيل يعلمون ذكر إرسال محمد ونزول الوحي عليه، كما قال تعالى:
{الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157].
وقال:
{والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين} [الأنعام: 114].
وقال:

{الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} [القصص: 52].
وقال:
{وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين} [القصص: 53].
ويعلمون المعاني التي فيه أنها موافقة لأقوال الرسل قبله في الخبر والأمر.
فإنه أخبر عن توحيد الله وصفاته، وعرشه وملائكته، وخلقه السماوات والأرض، وغير ذلك بمثل ما أخبرت به الرسل قبله. وأمر بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وبالعدل والصدق والصلاة والزكاة، ونهى عن الشرك والظلم والفواحش كما أمرت ونهت الرسل قبله.
والسور المكية نزلت بالأصول الكلية المشتركة، التي اتفقت عليها الرسل، التي لا بد منها، وهي الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحد من الأولين والآخرين دينا غيره.

وأما السور المدنية ففيها هذا، وفيها ما يختص به محمد صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج. فإن دين الأنبياء واحد كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إنا - معشر الأنبياء - ديننا واحد"، قال الله تعالى:
{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13].
وقال تعالى: {ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم - وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون - فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 51 - 53].

وقال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون - منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين - من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} [الروم: 30 - 32].
وأما الشرعة والمنهاج، فقد قال عن أهل التوراة والإنجيل والقرآن:
{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} [المائدة: 48].
وقال:

{ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين - الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون - والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون - لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [الحج: 34 - 37].
إلى قوله:
{لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه} [الحج: 67].
وأما القبلة: فلم يجعل ما ابتدعه أهل الكتاب من القبلة، فلذلك قال:
{ولكل وجهة هو موليها} [البقرة: 148].
لم يقل: إنا جعلنا لكل وجهة، كما قال في المنسك والشرعة والمنهاج. وقال تعالى:
{وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} [طه: 133].
فإنه إذا أتاهم ببيان ما في الصحف الأولى - مع علمهم بأنه لم يعاشر أحدا من أهل الصحف الأولى، ولا استفاد منهم علما - كان هذا من أعظم الآيات من الله.

وكما أن إخباره عن أمور الغيب يدل على نبوته، فإنه يدل على أن النبوة إنباء من الله، ليس ذلك كما يقوله بعض المتفلسفة كابن سينا وأمثاله: (إنه فيض فاض عليه من النفس الفلكية أو العقل الفعال)، ويقولون: (إن النفس أو العقل هو اللوح المحفوظ، وأن من اتصلت نفسه به علم ما علمته الأنبياء)، ويقولون: (النبوة مكتسبة؛ لأن هذه صفتها)، ويقولون: (إن سبب علمه بالغيب هو اتصال نفسه بالنفس الفلكية)، وزعموا أنها اللوح المحفوظ، وأن تحريكها للفلك هو سبب حدوث الحوادث في الأرض، فتكون عالمة بما يحدث في الأرض؛ لأن العلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب. فإن هذا مبني على مقدمات باطلة، قد بسط الكلام على بطلانها في مواضع أخرى:
منها: إثبات العقل الفعال.
ومنها: دعواهم أنه لا سبب للحوادث إلا حركة الفلك.
ومنها: أن المحرك له هو النفس.

ومنها: اتصال نفوسنا بتلك النفس.

والمقصود - هنا - أن هذا لو كان حقا فإنما يفيد علما بالمستقبل الذي تكون الحركة الحاضرة سببا له، أما ما قد مضى بمئين أو ألوف من السنين فليس شيء من حركات الفلك - حين مبعث الرسول - كان سببا له، وإنما تكون الحركة الموجودة في زمانه سببا للمستقبل لا للماضي، وحينئذ فلا يكون تحريك النفس للفلك سببا للعلم بهذه الأمور، ولا يكون ذلك هو اللوح المحفوظ، بل القرآن المجيد في لوح محفوظ، وهو في أم الكتاب، وهو:
{في كتاب مكنون - لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 78 - 79].
وأخبر سبحانه أنه:
{نزل به الروح الأمين} [الشعراء: 193].
وقال في آية أخرى:
{قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [النحل: 102].
وقال: في موضع آخر:

{قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة: 97].
وقال:
{إنه لقول رسول كريم - ذي قوة عند ذي العرش مكين - مطاع ثم أمين - وما صاحبكم بمجنون - ولقد رآه بالأفق المبين - وما هو على الغيب بضنين - وما هو بقول شيطان رجيم - فأين تذهبون - إن هو إلا ذكر للعالمين - لمن شاء منكم أن يستقيم} [التكوير: 19 - 28].
وقال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} [الحج: 75].

فذكر أنه قول رسول اصطفاه من الملائكة، نزله به على رسول اصطفاه من البشر، فقال:
{إنه لقول رسول كريم - وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون - ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون - تنزيل من رب العالمين - ولو تقول علينا بعض الأقاويل - لأخذنا منه باليمين - ثم لقطعنا منه الوتين - فما منكم من أحد عنه حاجزين - وإنه لتذكرة للمتقين - وإنا لنعلم أن منكم مكذبين - وإنه لحسرة على الكافرين - وإنه لحق اليقين - فسبح باسم ربك العظيم} [الحاقة: 19 - 52].
فنزه كلا من الرسولين عما قد يشتبه به.
نزه الملك أن يكون شيطانا، ونزه البشر أن يكون شاعرا أو كاهنا، وبين برهان ذلك وآيته، فقال:
{وما تنزلت به الشياطين - وما ينبغي لهم وما يستطيعون - إنهم عن السمع لمعزولون} [الشعراء: 210 - 212].
فبين أنه ما يصلح لهم النزول به، بل هم منهيون عن ذلك، وهم ممتنعون عن ذلك لا يريدونه لمنافاته لمقصودهم، وأنهم لو أرادوا لعجزوا عن ذلك فلم يستطيعوه ; إذ كانوا معزولين عن أن يسمعوه من الملأ الأعلى، وهم إنما يقدرون على أن ينزلوا بما سمعوه لا بما لم يسمعوه، وذلك أن الفاعل للفعل إنما يفعله إذا كان مريدا له قادرا عليه.

فبين قوله:
{وما ينبغي لهم} [الشعراء: 211].
أنهم لا يريدون تنزيله.
وبقوله:
{وما يستطيعون} [الشعراء: 211].
أنهم عاجزون عن تنزيله.
أما كونهم لا يريدون ; فلأنه لا ينبغي لهم، (وينبغي) مضارع بغى يبغي: أي طلب وأراد. فالذي لا ينبغي للفاعل هو الذي لا يطلبه ولا يريده، إما لكونه ممتنعا من ذلك، أو لكونه ممنوعا منه. والشيطان إنما يريد الكذب والفجور، لا يريد الصدق والصلاح.
وما جاء به الرسول مناقض لمراد الشياطين غاية المناقضة، فلم يحدث في الأرض أمر أعظم مناقضة لمراد الشياطين من إرسال محمد، فنزول القرآن عليه، فيمتنع أن تفعل الشياطين ما لا يريدون إلا نقيضه، وهم - أيضا - ممنوعون من ذلك بحيث لا يصلح لهم ذلك ولا يتأتى منهم كما أن الساحر لا ينبغي له أن يكون نبيا. والمعروف بالكذب والفجور لا ينبغي له - مع ذلك - أن يكون نبيا، ولا أن يكون حاكما، ولا شاهدا، ولا مفتيا ; إذ الكذب والفجور يناقض مقصود الحكم والشهادة والفتيا، فكذلك ما في طبع الشياطين من إرادة الكذب والفجور يناقض أن تتنزل بهذا الكلام الذي هو في غاية الصدق والعدل، لم يشتمل على كذبة واحدة ولا ظلم لأحد.
، ثم قال:
{وما يستطيعون} [الشعراء: 211].

فإنهم عن سمع هذا الكلام لمعزولون، بما حرست به السماء من الشهب كما قال - عن الجن -:
{وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا - وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} [الجن: 8 - 9].

وقد ذكرنا تواتر هذا الخبر وأن السماء حرست حرسا لم يعهده الناس قبل ذلك، ورأى الناس ذلك بأبصارهم فكانوا قد عاينوا ما أخبرهم به من الرمي بالشهب التي يرمى بها لطرد الشياطين، فعزلوا بذلك عن سمع الملأ الأعلى، وكان ما عاينه الكفار - من الرمي الشديد العام - الذي انتقضت به العادة المعروفة من رمي الشهب، دليلا على سبب خارق للعادة، ولم يحدث - إذ ذاك - في الأرض أمر لم تجر به العادة إلا ادعاءه للرسالة، فلم يعرف قبله من نزل عليه الكلام كنزوله عليه؛ إذ كان موسى عليه السلام إنما أنزلت عليه التوراة مكتوبة، لم تنزل عليه منجمة مفرقة ملقاة إليه
حفظا، حتى تحتاج السماء إلى حراستها عن استراق سمعها. والزبور تابع لشرع التوراة، وكذلك الإنجيل فرع على التوراة

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #373  
قديم يوم أمس, 09:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 373)

من صــ 286 الى صـ 300







لم ينزل كتاب مستقل إلا التوراة والقرآن، كما قال تعالى:
{قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 49].
ولهذا يقرن سبحانه بين التوراة والقرآن كثيرا كما في قوله:
{وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} [الأنعام: 91].
إلى قوله:
{وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه} [الأنعام: 92].
وقال:
{أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} [هود: 17].
قال سعيد بن جبير وغيره: " والأحزاب هي الملل كلها "، قال: وهذا تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار"، وقرأ هذه الآية:
{ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} [هود: 17].
وقالت الجن:
{إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى} [الأحقاف: 30].
وقال النجاشي - لما سمع القرآن -: (إن هذا والذي جاء به
موسى ليخرج من مشكاة واحدة).

وأيضا، فكان معروفا عندهم إخبار الكهان عن الشياطين التي تسترق السمع، فلما رأوا أن السماء قد حرست حرسا شديدا خلاف العادة، علموا أن الشياطين منعوا استراق السمع، وعلمت الجن ذلك كما تقدم، وقد قالت الجن:
{وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا - وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} [الجن: 8 - 9].
وقد تواترت الأخبار بأنه حين المبعث كثر الرمي بالشهب، وهذا أمر خارق للعادة، حتى خاف بعض الناس أن يكون ذلك لخراب العالم، حتى نظروا هل الرمي بالكواكب التي في الفلك أم الرمي بالشهب؟ فلما رأوا أنه بالشهب، علموا أنه لأمر حدث. وأرسلت
الجن تطلب سبب ذلك، حتى سمعت القرآن، فعلموا أنه كان لأجل ذلك.
وهذا من أعلام النبوة ودلائلها.
وقبل زمان البعث وبعده، كان الرمي خفيفا، لم تمتلئ به السماء كما ملئت حين نزول القرآن، وقال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين - تنزل على كل أفاك أثيم - يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} [الشعراء: 221 - 223].
والأفاك الكذاب، والأثيم الفاجر، كما قال:
{لنسفعا بالناصية - ناصية كاذبة خاطئة} [العلق: 15 - 16].

قال في الحديث المتفق على صحته: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يدعو إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا".
فالشياطين تنزل على من يحصل مقصودها بنزولها عليه، وهو المناسب لها في الكذب والفجور. فأما الصادق البار، فلا يحصل به مقصود الشياطين، فإن الشيطان لا يطلب الصدق والبر، وإنما يطلب الكذب والفجور.
ومحمد صلى الله عليه وسلم ما زال قومه يعرفونه بينهم بالصادق الأمين، لم تجرب عليه كذبة واحدة. ولما جاءه الروح بالوحي لم يخبر بخبر واحد كذب، لا عمدا ولا خطأ.

ومن تنزلت عليه الشياطين لا بد أن يخبر بالكذب، فإن الشياطين يلقون إليهم السمع، ولا يلقون إليهم ما سمعوه على وجهه، بل يكذبون فيه كثيرا ; إذ كان أكثر الشياطين الذين ينزلون عليهم كاذبين فيما ينزلون به عليهم. والشياطين وإن كان كلهم كاذبا - فليس كل من ألقى السمع يكذب فيما يلقيه، بل قد يصدق أحدهم فيما يلقيه من السمع ويسترقه، ولكن أكثرهم يكذبون، والذي يصدق منهم مرة يكذب مرات، والذي ينزل عليه الشياطين أفاك أثيم.
فالفرق بين الصادق البار الذي يأتيه الملك، والكاذب الأثيم الذي يأتيه الشيطان الرجيم، فرق بين، يعرف بأدنى معرفة بحال الاثنين، ولما كان الكاهن الذي يأتيه شيطان قد يخبر ببعض الأمور الغائبة بين سبحانه أن هذا يكون - وإن صدق في بعض الأخبار - كاذبا فاجرا، والذي يأتيه بالكذب، فلا يشتبه بمن لا يكذب ولا يفجر، وهذا مما يبين أن النبي لا يكون إلا بارا معصوما أن يصر على ذنب.

(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد (59)
فأطلق معصيتهم للرسل بأنهم عصوا هودا معصية تكذيب لجنس الرسل فكانت المعصية لجنس الرسل كمعصية من قال: {فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء}. ومعصية من كذب وتولى قال تعالى: {لا يصلاها إلا الأشقى} {الذي كذب وتولى} أي كذب بالخير وتولى عن طاعة الأمر، وإنما على الخلق أن يصدقوا الرسل فيما أخبروا ويطيعوهم فيما أمروا.

(وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب (101)
فصل:
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
ومن هذا الباب " ظلم النفس ": فإنه إذا أطلق تناول جميع الذنوب فإنها ظلم العبد نفسه قال تعالى: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد} {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب}. وقال تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم}. وقال في قتل النفس: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي}. وقالت بلقيس: {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}. وقال آدم عليه السلام {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}. ثم قد يقرن ببعض الذنوب كقوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم}. وقوله: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}. وأما لفظ " الظلم المطلق " فيدخل فيه الكفر وسائر الذنوب.

(وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ (108)
وسئل - رحمه الله -:
عن قوله تعالى {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} وقوله تعالى {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب}.
فأجاب:
الحمد لله، قال طوائف من العلماء إن قوله: {ما دامت السماوات والأرض} أراد بها سماء الجنة وأرض الجنة كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفه عرش الرحمن} وقال بعض العلماء في قوله تعالى {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} هي أرض الجنة. وعلى هذا فلا منافاة بين انطواء هذه السماء وبقاء السماء التي هي سقف الجنة؛ إذ كل ما علا فإنه يسمى في اللغة سماء كما يسمى السحاب سماء والسقف سماء.

و " أيضا " فإن السموات وإن طويت وكانت كالمهل واستحالت عن صورتها فإن ذلك لا يوجب عدمها وفسادها بل أصلها باق؛ بتحويلها من حال إلى حال كما قال تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} وإذا بدلت فإنه لا يزال سماء دائمة وأرض دائمة والله أعلم.

مسألة في الرد على من قال: بفناء الجنة والنار، وعلى من قال بفناء كالفارابية وذكر اختلاف الناس في دار الجزاء بالعقاب، ودار الثواب بالإنعام، وللناس في ذلك ثلاثة أقوال:
قوم قالوا بفنائهما جميعا، وقوم قالوا ببقائهما جميعا، وقوم قالوا: بفناء دار الجزاء، وبقاء دار الإفضال، والإنعام، والإكرام.
رد شيخ الإسلام على مذهب الجهمية
وقد تكلم الشيخ رحمه الله - على الجهمية، والهذيلية، الفارابية، ورجح أدلة أهل السنة، وهدم شبه أهل البدعة، وأشار إلى بعض أدلة غلبة الرضا على الغضب، فقال - رحمه الله:
وقد تنازع الناس في ذلك على ثلاثة أقوال:
قيل: ببقائهما، وقيل: بفنائهما، وقيل: ببقاء الجنة، دون النار.
أما القول بفنائها: فما رأينا أحدا حكاه عن أحد من السلف، من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وإنما حكوه عن الجهم بن صفوان، وأتباعه الجهمية.
وهذا مما أنكر عليه أئمة الإسلام، بل ذلك مما أكفروهم به، كما ذكره
عبد الله بن أحمد في كتاب "السنة" والأثرم في: كتاب "السنة"، وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد"، وغيرهم عن خارجة بن مصعب، أنه قال:
كفرت الجهمية بآيات من كتاب الله - عز وجل -، في غير موضع بأربع آيات من كتاب الله:
بقوله تعالى: {أكلها دائم}، وهم يقولون: لا يدوم.
ويقول الله تعالى: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد}، وهم يقولون ينفد.
وبقوله تعالى: {لا مقطوعة ولا ممنوعة}، فمن قال: إنها تنقطع، فقد كفر.
وبقوله تعالى: {عطاء غير مجذوذ}. أي: غير مقطوع. فمن قال: إنه ينقطع، فقد كفر.

"وهذا قاله جهم، لأصله الذي اعتقده، وهو: امتناع وجود ما يتناهى من الحوادث كما بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع - وهو عمدة أهل الكلام الذين استدلوا على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يخل من الحوادث بها، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم، فرأى الجهم: أن ما يمنع من وجود ما لا يتناهى بمنعه في المستقبل، كما يمنعه في الماضي، فيلزم أن يكون الفعل الدائم ممتنعا على الرب في المستقبل كما كان ممتنعا عليه في الماضي وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة وافقه على هذا الأصل، لكن قال: هذا إنما يقتضي
فناء الحركات، فقال: إنه تفنى حركات أهل الجنة، والنار حتى يبقوا في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة".
وزعم طائفة ممن وافقهم على امتناع حوادث لا نهاية لها، كأبي الحسن بن الزاغواني، أن هذا القول هو المقتضى القياس العقلي، لكن السمع لما جاء ببقاء الجنة، والنار، قلنا به، ولم يعلم أن ما كان ممتنعا في العقل لا يجيء السمع بوقوعه، فإن السمع لا يخبر بوجود ما كان ممتنعا في العقل.
والأكثرون الذين وافقوا جهما، وأبا الهذيل على أصلها، فرقوا بين الماضي، والمستقبل من جهة العقل، بأن الماضي قد دخل في الوجود بخلاف المستقبل، والممتنع إنما هو أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى.
وقد بسط الكلام على هذه الأقوال في غير هذا الموضع، وبين غلط أصحابها، وأن الماضي إذا قيل: لا يتناهى، فإنما المراد أنه لا ابتداء له، فلم ينته من طرف الابتداء، وإلا فإذا قدر ماضيا منتقضا، فقد تناهى.
ففرض مالا يتناهى مطلقا، وجعله قاضيا منقضيا جمع بين النقيضين.
ولهذا كانت أدلتهم عليه جامعة بين النقيضين، مثل قولهم: يلزم أن يكون اليوم، وما سواه من الحوادث متوقفا على انقضاء ما نهاية له، وانقضاء ما لا نهاية له محال.
فإنه يقال لهم نعم، ما لا يتناهى لا في الابتداء، ولا في الانتهاء، فانقضاؤه محال، أما إذا قدرتموه حتى مضى، وانتهى إلى حد.

فقولهم بعد ذلك:
أن انقضاءه محال، كلام متناقض، فإنكم فرضتموه قد انقضى وانتهى من هذا الجانب، جانب النهاية، دون جانب البداية، ومثل قولهم في دليل ذلك التطبيق، إذا فرضنا الحوادث إلى حين الطوفان، والحوادث إلى حين الهجرة، ثم طبقنا بينهما: فإما أن يتماثلا، وإما أن يتفاضلا، والتماثل ممتنع، والتفاضل يقتضي وقوع التفاضل فيما لا يتناهى، وهو محال، فإنه يقال لهم:
هذه الحوادث، هي بعينها لكنها زادت بما بين الوقتين: وقت الطوفان، ووقت الهجرة، وسواء قدر أنها هي، أو أنها غيرها، فهذه أكثر من هذه، وهذا تفاضل فيما انتهى، وهو الماضي، فهو تفاضل فيما تناهى من أحد طرفيه من الطرف المتناهي، فإن كان تناهى ما لا ابتداء له في المستقبل ممكنا، فالتفاضل وقع من جهة كونه متناهيا، لا من جهة كونه غير متناه - أي - لا بداية له. وإن كان تناهى ما لا ابتداء له غير ممكن، فقولكم: تناهى الحوادث إلى زمان الطوفان، أو الهجرة، باطل، وذلك أنه إذا قيل: إنه لم يزل الرب متكلما
بمشيئته، وقدرته، أو لم يزل فعالا لما يشاء، نحو ذلك مما يقتضي كونه فاعلها، كان هذا النوع قديما، وما وجب قدمه، امتنع عدمه، وذلك يقتضي امتناع انقضاء فعل الرب، نقيض قول الجهم، فإن عنده يجب انقضاء فعله وانقطاعه، ويمتنع عنده دوامه أبدا كما امتنع دوامه أزلا، ويجب عنده أن يكون لم يزل غير فاعل في الماضي، ولا في الأبد إذا فنيت الجنة والنار.
وحقيقة قوله: أنه لم يزل غير قادر، ثم صار قادرا، ثم يصير غير قادر وهو يقول: ما كان له بداية، وجب أن يكون له نهاية.
فأما إذا قدر أن الرب لم يزل قادرا على الفعل، والكلام بمشيئته، وأنه لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء، فهنا وجب وجود ما لا ابتداء له، ولا نهاية لابتدائه، فإذا قدر انتهاء هذا النوع كان باطلا، فإذا قيل: إن الحوادث انتهت إلى الطوفان أو الهجرة.

فإن قيل: يقدر الرب ما بقي بفعل شيئا، فهذا تقدير خلاف الواقع، بل هو ممتنع. وإن قيل: يقدر فضلا في الذهن بين ما مضى وبين ما يستقبل، فهذا التقدير الذهني لا يغير الحقائق، بل الفعل الدائم في نفسه، ثم إذا قدر هذا في الذهن، فقد قدرت الحوادث الماضية انتهت إلى هذا الحد.
وإذا انتهت قبلت الزيادة والنقصان، فإن ما ينتهي من الحوادث يقبل الزيادة والنقصان، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، ولكن نبهنا هنا على أصل قول الجهم الذي أوجب له أن يقول بفناء الجنة والنار، حتى أنكر ذلك
عليه أئمة الإسلام، وجمهورهم كفروه. والذين وافقوه على الأصل خالفوه في لوازمه فتناقضوا.
وفرق من فرق بين الماضي والمستقبل، بأن الماضي دخل في الوجود بخلاف المستقبل، فرق ضعيف "3 أ" لوجوه:
أحدها: إن الماضي قد جعله متناهيا، فلم يقع التفاضل إلا فيما تناهى دون ما لا تناهى كما تقدم، وحينئذ فما دخل في الوجوه إلا ما يتناهى من هذا الجانب، فهو تقدير يتناهى فما قدر متناهيا، ثم هذا إذا قدر أن تنهايه ممكن، فكيف إذا كان ممتنعا؟.

الثاني: أن الدليل شامل للنوعين، فإنه يمكن أن يقال: الحوادث من الهجرة، ومن الطوفان إلى ما لا يتناهى، هل هما متفاضلان؟ أم متماثلان. فإن تماثلا فهو محال، لأن أحدهما أزيد من الآخر، وإن تفاضلا فهو محال، لأن التفاضل في ما لا يتناهى محال.
فإن قيل: هذا تقدير التفاضل، والتماثل في ما لم يكن بعد.
قيل: نعم، لكنه تقدير التفاضل والتماثل، بتقدير وجوده لا في حال كونه معدوما، كما أن الماضي قدرتهم فيه التماثل، والتفاضل بعد عدمه بعد عدمه لا في حال وجوده، لكن قدرتهم تلك الحوادث الماضية التي عدمت كأنها موجودة.
ففي كلا الموضعين إنما هو تقدير التفاضل، والتماثل فيما هو معدوم.
فإن صح في أحد الموضعين صح في الآخر، وإن امتنع في أحدهما امتنع في الآخر.

الوجه الثالث: أن يقال: كون الشيء ماضيا، ومستقبلا أمرا إضافي بالنسبة إلى المتكلم المخبر، فيما مضى قبل كلامه، كان ماضيا، وما يكون بعده يكون مستقبلا، وبنسبة أحدهما إلى الآخر، فالماضي ماض على ما يستقبل، والمستقبل مستقبل لما قد مضى، وما من ماض إلا وقد كان مستقبلا، وما من مستقبل إلا وسيصير ماضيا، فليس ذلك فرقا يعود إلى صفات النوعين، حتى يقال: إن أحدهما ممكن، والآخر ممتنع، بل هذا الماضي كان مستقبلا، وهذا المستقبل يصير ماضيا، فتتصف كل الحوادث بالمضي والاستقبال، فلم يكن في ذلك ما هو لازم للنوعين يوجب الفرق بينهما.
وبسط الكلام على ذلك له موضع آخر.
"والمقصود هنا: أن هذا القول "هو القول بفناء الجنة، والنار قول لم يعرف عن أحد من السلف: من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، والذين قالوه لم يقولوه تلقيا له من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم. وإعلامه وبيانه، ولا من قياس معقول دل عليه الرسول، وإنما قالوه عن قياس قاسوه بعقولهم، وهو خطأ في نفس الأمر"، وإن كان قد اشتبه على كثير من أهل الكلام فاعتقدوه حقا، حتى بنوا عليه وجوب حدوث ما لم يخل من الحوادث، بل وجوب حدوث ما تقوم به الحوادث.
ومن هذا قالوا: إن القرآن مخلوق هو، وغيره من كلام الله، وإن الله يمتنع أن يكون لم يزل متكلما إذا شاء، وعليه - أيضا - بنوا نفي الصفات، لأنها أعراض لا تقوم بإلا بجسم، ثم منهم من قال: إنه صار يتكلم بمشيئته، بعد أن لم يكن يتكلم بمشيئته، وهؤلاء منهم من قال: الكلام لا يقوم به، فيكون مخلوقا بائنا عنه، ومنهم من قال: بل يقوم بذاته، فيكون جنس كلامه حادثا، والذين وافقوا السلف على أنه لم يزل متكلما وافقوا الجهم على أصله، قالوا: إن كلامه قديم العين، وهو لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل هو لازم لذاته كالحياة، ثم من هؤلاء من قال: إنه معنى واحد، هو الأمر بكل مأمور، والنهي عن كل منهي، وهو معنى التوراة. والإنجيل، والزبور وكل كلام يكلم به عبادة المؤمنين، ملائكته وغيرهم.
ومنهم من قال: بل هو حروف، أو حروف وأصوات أزلية، لم تزل ولا تزال لازمة لذاته، لا تتعلق بمشيئته وقدرته فهذه الطوائف الأربعة قد دخل في كل طائفة كثير من أهل النظر المعدودين من أكابر النظار، وأهل العلم، الناصرين للإسلام، أو للإسلام، والسنة وأصل أمرهم موافقتهم لجهم على قوله بامتناع دوام الحوادث، وأن الله يمتنع أن يكون لم يزل متكلما إذا شاء، فعالا لما يشاء، فوافقوه على أن كلام الرب وفعله يمتنع أن يكون دائما بقدرته، ومشيئته، وعلى أن يمتنع أن يكون كلمات الله لا نهاية لها، وقد قال تعالى: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} إلى قوله: {ولو جئنا بمثله مددا}.
وقال تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم}.

روى ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن سليمان بن عامر، قال: سمعت البيع بن أنس يقول: "إن مثل علم العباد كلهم في علم الله ربهم، كقطرة من هذه البحور كلها، وقد أنزل في ذلك: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم}.
وقوله: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}.
ذلك الذي عني في هذا الحديث، يقول: لو كان البحر مدادا لكلمات ربي، والشجر كلها أقلام، لانكسرت الأقلام، وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة دائمة لا يفنيها شيء، لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره، ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما نقول، وفوق ما نقول، ثم إن مثل نعيم الدنيا أوله وآخره في نعيم الآخرة، كحبة من خردل في خلال الأرض كلها.
قلت: ومثل هذا الكلام يقصد به التعبير عن عدم النهاية والنفاد والانقضاء.
والمراد: أن كلمات الله لا انتهاء لها، فلا تنفد، ولا تنقضي، وقد ذكر الربيع مع ذلك نعيم الجنة، فإن الله تعالى - قال: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد}.
فاخبر أنه: لا ينفد، فلا يكون له انقضاء، ولا فراغ وآخر ينتهي عنده.
وهذه الأقوال، والكلام عليها مبسوطة في غير هذا الموضع، والمقصود هنا في فناء الجنة والنار، فقد تبين أن القول بفناء الجنة لم يعرف عن أحد من السلف، ولا الأئمة، وإنما هو قول جهم، ونحوه، وقد عرف فساده عقلا، ونقلا.
وأما القول بفناء النار: ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف والنزاع في ذلك معروف عن التابعين، ومن بعدهم.

وهذا أحد المأخذين في دوام عذاب من يدخلها، فإن الذين يقولون: إن عذابهم له حد ينتهي إليه ليس بدائم، كدوام نعيم الجنة قد يقولون: إنها قد تفنى، وقد يقولون: إنهم يخرجون منها، فلا يبقى فيها أحد، لكن قد يقال: إنهم لم يريدوا بذلك أنهم يخرجون مع بقاء العذاب فيها على غير أحد، بل يفنى عذابها، وهذا هو معنى فنائها.
"وقد نقل هذا القول عن عمر، ابن مسعود، وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وغيرهم".
وقد روى عبد بن حميد - وهو من أجل علماء الحديث - في تفسيره المشهور، قال: أنا سليمان بن حرب، أنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن البصري، قال: قال عمر: "لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه".
وقال: أنبأ حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب قال: "لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج، لكان لهم يوم يخرجون فيه".
ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا}.

وهذا يبين أن مثل الشيخ الكبير من علماء الحديث والسنة يروي عن مثل هؤلاء الأئمة في الحديث، والسنة مثل سليمان بن حرب والذي هو من أجل علماء السنة والحديث، ومثل حجاج بن منهال في كلامهما عن حماد بن سلمة مع جلالته في العلم، والسنة، والذي يروي من وجهين: من طريق سلمة مع جلالته في العلم، والسنة، والذي يروى من وجهين: من طريق ثابت، ومن طريق حميد هذا عن الحسن من بعض التابعين فسواء كان هذا قد حفظ هذا عن عمر، أو لم يحفظ، كان مثل
هذا الحديث متداولا بين هؤلاء العلماء الأئمة لا ينكرونه، وهؤلاء كانوا ينكرون على من خرج عن السنة من الخوارج، والمعتزلة، والمرجئة، والجهمية.
وكان أحمد بن حنبل يقول: "أحاديث حماد بن سلمة هي الشجا في حلوق المبتدعة".


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #374  
قديم يوم أمس, 09:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 374)

من صــ 301 الى صـ 315






فهؤلاء من أعظم أعلام السنة الذين ينكرون من البدع ما هو دون هذا لو كان هذا القول عندهم من البدع المخالفة للكتاب والسنة، والإجماع، كما يظنه طائفة من الناس.
وعبد بن حميد ذكر هذا في تفسير قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا}.
ليبين قول من قال: الأحقاب لها أمد ينفذ، ليست كالرزق الذي ماله من نفاذ، ولا ريب أنه من قال هذا القول، قول عمر، ومن نقله عنه، إنما أرادوا بذاك جنس أهل النار الذين هم أهلها.
فأما قوم أصيبوا بذنوب، فأولئك قد علم هؤلاء، وغيرهم، بخروجهم منه، وأنهم لا يلبثون فيها قدر رمل عالج، ولا قريبا من ذلك.
والحسن كان يروي حديث الشفاعة في أهل التوحيد، وقد ذكره
البخاري، ومسلم عنه، وكذلك حماد بن سلمة كان يجمعها، ويحدث بها، وكذلك سليمان بن حرب، وأمثاله، فهذا عندهم لا يقال فيه مثل هذا، ولفظ أهل النار لا يختص بالموحدين، بل يختص بمن عداهم، كما قاتل النبي صلى الله عيه وسلم: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها، ولا يحيون". وقوله: يخرجون منها، أي يخرجون من جهنم بعد أن يفنى عذابها، وينفذ وينقطع.
فهم لا يخرجون منها يعني جهنم، بل هم خالدون في جهنم كما أخبر الله سبحانه وتعالى.
لكن إذا انقضى أجلها، وفنيت كما تفنى الدنيا، لم يبق فيها عذاب، وذلك أن العالم لا يعدم، وجهنم في الأرض، والأرض لا تعدم بالكلية ولكن فناؤها بتغير حالها، واستحالتها من حال إلى حال كما قال تعالى: {كل من عليها فان}، وهم لا يعدمون بل يموتون، ويهلكون، كما قال تعالى: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق}.
فإذا أنفذه الرجل فقد نفذ ما عنده، إن كان لم يعدم، بل يعدم، بل انتقل من حال إلى حال.

وفي "تفسير علي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس - وهو معروف مشهور، ينقل منه عامة المفسرين الذين يسندون كابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وعثمان بن سعيد الدارمي، والبيهقي والذين يذكرون الإسناد مجملا، كالثعلبي، والبغوي، والذين لا يسندون كالماوردي، وابن الجوزي، قال: قوله: {النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم}.
قال: "وفي هذه الآية إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارا".
قال الطبري: "وروي عن ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الاستثناء:
أن الله تعالى جعل أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابه إياهم إلى مشيئته ثنا عبد الله ثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: {النار مثواكم خالدين فيها}.
قال في هذه الآية: "إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارا".
وهذا الوعيد في هذه الآية ليس مختصا بأهل القبلة فإنه قال: {ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الأنس وقال أولياؤهم من الأنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم، وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون}. "فأولياؤهم من الإنس" لفظ يدخل فيه الكفار قطعا، فإنهم أحق بموالاتهم من عصاة المسلمين.
وقال تعالى: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون}.
وقال تعالى: {جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون}.

وقال تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون}.
وقال تعالى: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون}.
وقال تعالى: {فتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا}.
وقال تعالى: {فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا}.
فأمر بقتال أولياء الشيطان، وهم الكفار، وقال: {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.
وقال تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}.
فأخبر أنهم يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوكم، فهذه وأمثالها تبين أن الكفار أولياء الشياطين، فهم أحق الناس بدخول في قوله: {وقال أولياؤهم من الأنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم}.

وقد قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: "إن هذه الآية تقتضي أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارا".

فدل على أن هذا الاستثناء عنده دفع العذاب عنهم، وهذا مدلول الآية، وأنه لأجل هذه الآية يجب أن يتوقف، فلا يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ونارا، وهذا يناقض قول من يقول سوى ما شاء الله من أنواع العذاب، وإلا مدة مقامهم قبل الدخول من حين بعثوا إلى أن دخلوا، فإن ذلك معلوم أنه قبل الدخول لم يكونوا فيها، وقول من يقول في أهل الجنة فإنها صريحة في تناول الكفار.
لكن ذكر البغوي، أن ابن عباس قال: "الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله وأنهم يسلمون فيخرجون من النار". ولم يذكر من نقل هذا عن ابن
عباس، فإن أريد بذلك من أسلم في الدنيا فليس كذلك، فإن الخطاب إنما هو لمن كان من أولياء الشيطان والجن الذين استمتع بعضهم ببعض وهؤلاء من جملة المسلمين، وجميع من أسلم سبق فيه علم الله، وأنه يسلم، وكأن قائل هذا القول ظن أن هذا خطاب للأحياء، وليس كذلك، بل هذا خطاب لهم يوم القيامة، وإن أراد أنهم يسلمون في جهنم فيخرجون منها، وهذا خلاف ما دل عليه القرآن في غير موضع، فعن عبد الله بن مسعود قال: "ليأتين على جهنم زمان، ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا، وهؤلاء هم الكفار، وعن أبي هريرة ومثله" قال البغوي: "ومعناه عند أهل السنة - إن ثبت - ألا يبقى فيها أحد من؟ أهل الإيمان".
فيقال: إنهما لم يريدا ذلك، فإنهما بعد ما يلبثون فيها أحقابا وهؤلاء هم الكفار المذكورون في قوله تعالى: {إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزاء وفاقا إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا}.

وهذا الوصف الذين كذبوا بآيات الله {كذابا} أي تكذيبا، فهو تكذيب مؤكد بالمصدر، ولم أجد نقلا مشهورا عن أحد من الصحابة يخالف ذلك، بل أبو سعيد وأبو هريرة هما رويا حديث ذبح الموت، وأحاديث الشفاعة، وخروج
أهل التوحيد وغيرهما، قالا في فناء النار ما قالا، وقد نقل البغوي: روى السدي، عن مرة، عن عبد الله، قال: "لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا".
وقد استفاض عن غير واحد من السلف تقدير الحقب بحد محدود، والأحقاب، جمع حقب، فروى ابن أبي حاتم عن عطية، عن ابن عباس قال في قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا}. قال: "سنين".
وعن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة قال: {لابثين فيها أحقابا}.
قال: الحقب: ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، واليوم كألف سنة، اليوم منها كالدنيا كلها.
قال ابن أبي حاتم، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهلال الهجري والضحاك، وذكوان، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعمرو بن ميمون أنهم قالوا: الحقب: ثمانون سنة.
وعن هشام، عن الحسن البصري أنه سئل عن قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا} فقال: الله أعلم بالأحقاب فليس فيها عدد إلا الخلود، ولكنه بلغنا أن
الحقب الواحد: سبعون ألف سنة، كل يوم من تلك الأيام كألف سنة مما تعدون.
وعن هشام، عن الحسن قال: "الأحقاب" لا يدري أحد ما هي؟ ولكن الحقب الواحد: سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون وقوله: الله أعلم ما الأحقاب، ولا يدري ما هي؟ يقتضي أن لها عددا الله أعلم، ولو كانت لا عدد لها لعلم كل أحد أنه لا عدد لها، ويؤيد ما نقله الحسن، عن عمر بن الخطاب كما تقدم، قول الحسن: "ليس فيها عدد إلا الخلود" حق أيضا، فإنهم خالدون فيها، لا يخرجون منها ما دامت باقية، فأقوال الحسن يصدق بعضها بعضا.
وأما خلودهم في النار فهو حق كما أخبر الله.

وعن السدي: {لابثين فيها أحقابا} قال: "سبعمائة حقب، كل حقب سبعون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم كألف سنة مما تعدون".
وعن عبد الله بن عمرو قال: "الحقب: أربعون سنة".
وقد تنازع الناس في الأحقاب، هل هي مقدرة محدودة؟ على قولين: فعلى قول السدي وغيره: هي محدودة، مقدرة، وهو قول الزجاج، وغيره، لكن قال الزجاج: "المعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا، لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا".
قال الزجاج: "وبيانه: أن الأحقاب حد لعذابهم بالحميم والغساق، فإذا انقضت الأحقاب عذبوا بغير ذلك من العذاب".
وهذا الذي قاله الزجاج شاذ، خلاف ما عليه الأولون والآخرون، وهو خلاف ما دل عليه القرآن، فإن هذا يقتضي أنهم يبقون بعد الأحقاب فيها، ولكن لا يذوقون البرد والشارب حينئذ، وهذا باطل قطعا، ثم إذا ذاقوا البرد والشارب فهذا نعيم، فكيف يكونون معذبين فيها ذلك؟
وقال بعضهم: هذه الآية منسوخة، وقيل: "هي في أهل التوحيد".
قال عبد الحق بن عطية في "تفسيره".
"ومن الناس من ظن لذكر الأحقاب أن مدة العذاب تنحصر وتتم، فطلبوا التأويل لذلك، فقال مقاتل بن حيان: الحقب سبع عشرة ألف سنة وهي منسوخة بقوله تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا}. قال: وقد ذكرنا فساد هذا القول.
وقال آخرون: الموصوف باللبث أحقابا عصاة المؤمنين قال: وهذا أيضا ضعيف فما بعده من السورة يرد عليه.
وقال آخرون: إنما المعنى: {لابثين فيها أحقابا} غير ذائقين بردا ولا شرابا، فهذه الحال: يلبثون أحقابا، ثم يبقى العذاب سرمدا وهم يشربون أشربة جهنم.
والقول الثاني: إنها غير مقدرة، وقال هؤلاء: هذا لا يدل على غاية، لأنه كلما مضى حقب تبعه حقب، ولو أنه قال: لابثين فيها عشرة أحقاب، أو خمسة أحقاب دل على غاية، هذا قول ابن قتيبة وغيره.

قال أبو الفرج بن الجوزي: وهذا قول ابن قتيبة والجمهور وبيانه: إن زمان أهل الجنة والنار يتصور دخوله تحت العدد كقوله تعالى: {بكرة وعشيا}، ومثل هذا، أن كلمات الله داخلة تحت العدد وإن لم يكن لها نهاية، فيقال: هذا ممنوع، فما لا نهاية يمتنع أن يدخل تحت العدد، وإنما يدخل تحت العدد ما له مقدار محدود وهو المعدود، لكن إذا أخذ بعض من أبعاضه دخل تحت العدد كالبكرة والعشي، وهو مقدار يوم من أيام الجنة، ويعرف ذلك بنور يظهر لهم يزيد على
النور المعتاد، يعرفون به البكرة والعشي، كما تظهر الشمس لأهل الدنيا، لكن الجنة ليس فيها ظلمة.
وقوله: كلمات الله داخلة تحت العدد ممنوع إنما يدخل منها تحت العدد بعض من أبعاضها مثل الآيات المنزلة، وإلا فيما لا نهاية له كيف يكون معدودا وكلما عد بقدر معدود فهو ما حد، وما يقدره الإنسان بلسانه وذهنه من العدد فله حد، والذي لا يتناهى ليس له مقدار لا في ذهنه ولا في لسانه.
وقوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض}، {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد}.
قال ابن أبي حاتم: ذكر عن جعفر بن سليمان، عن الجريري قال: سمعت أبا نضرة يقول: ينتهي القرآن إلى هذه الآية: {إن ربك فعال لما يريد}.
وقد روى حرب الكرماني، وأبو بكر البيهقي عن أبي سعيد الخدري، وعن قتادة في قوله: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك}. والله أعلم بتثنيته على ما وقعت.

وروى الطبري، عن يونس، نا ابن وهب، نا ابن زيد. في قوله: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} فقرأ حتى بلغ: {عطاء غير مجذوذ} فأخبرنا الذي شاء لأهل الجنة، فقال: {عطاء غير مجذوذ} ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.
وعن السدي: {إلا ما شاء ربك}. عن هذه الآية يوم نزلت كانوا يطعمون في الخروج.

قوله: {خالدين فيها أبدا}، ذكر البغوي عن عبد الرحمن بن زيد أنه قال: قد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بالذي لأهل الجنة، فقال: {عطاء غير مجذوذ} ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.
وقد روى علماء السنة والحديث في ذلك آثارا عن الصحابة والتابعين مثل ما روى حرب الكرماني، وأبو بكر البيهقي، وأبو جعفر الطبري وغيرهم عن الصحابة في ذلك.
وفي المسند للطبراني: ذكر فيه "أنه ينبت فيها الجرجير"، وحينئذ فيحتج على فنائها بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة - مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب، ولا سنة ولا أقوال الصحابة -.
منها ما رواه حرب، والبيهقي قال حرب الكرماني: "سألت إسحاق عن
قول الله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك}. قال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن.
قال إسحاق: ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا معتمر بن سليمان، قال: قال لي أبي: ثنا أبو نضرة، عن جابر، أو أبي سعيد، أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد}.
قال المعتمر: قال أبي: عنى كل وعيد في القرآن.

رواه أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره قال: ثنا الحسن بن يحيى، أنا عبد الرزاق، أنا ابن التيمي، عن أبيه أبي نضرة، عن جابر، أو أبي سعيد، أو عن رجل من؟ أصحاب النبي صلى لله عليه وسلم في قوله سبحانه: {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد}. قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله، فيقول: حيث كان في القرآن: {خالدين فيها} تأتي عليه.
وقال ابن جرير، حدثت عن ابن المسيب، عمن ذكره عن ابن عباس: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك}. قال: استثنى الله عز وجل قال: يأمر النار أن تأكلهم.
قال: وقال ابن مسعود: "ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا".
وقال ثنا محمد بن حميد الرازي، ثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي قال: "جهنم أسرع الدارين عمرانا، وأسرعهما خرابا".
وقال حرب الكرماني، عن إسحاق بن راهوية، ثنا عبيد الله بن معاذ ثنا أبي، ثنا شعبة، عن أبي بلج، سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبد الله بن عمرو قال: "ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها، ليس أحد"، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا.
وقال إسحاق، ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا شعبة، عن يحيى بن أيوب عن أبي زرعة وعن أبي هريرة، قال: أما الذي أقول: "إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ: {فأما الذين شقوا ففي النار} الآية.
طرق القائلين بدوام النار أربع
الذين قطعوا بدوام النار
قلت: والذين قطعوا بدوام النار، لهم أربع طرق.
أحدها: ظن الإجماع فإن كثيرا من الناس يعتقد أن هذا مجمع عليه، ولا خلاف فيه بين السلف، وإن كان فيه خلاف حادث، فهو من أقوال أهل البدع.
والثاني: أن القرآن قد دل على ذلك دلالة قطعية، فإنه أخبر بخلودهم في النار أبدا في غير موضع من القرآن.

والثالث: أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج من في قلبه مثال ذرة من إيمان من النار دون الكفار، فإنهم لم يخرجوا.
والرابع: قول من يقول: الرسول وقفنا على ذلك، وعلمناه من بعده ضرورة ولا يحتجون بنص معين، وعامة الناس يقولون: هذا لا نعلمه إلا من الخبر وشذ بعضهم فزعم أن العقل دل على خلود الكفار.
فأما الإجماع فهو أولا: غير معلوم، فإن هذه المسائل لا يقطع فيها بإجماع، نعم قد يظن فيها الإجماع وذلك قبل أن يعرف النزاع، وقد عرف النزاع قديما
وحديثا، بل إلى الساعة لم أعلم أحدا من الصحابة قال: إنها لا تفنى، وإنما المنقول عنهم ضد ذلك ولكن التابعون نقل عنهم هذا وهذا.
أدلة خلود النار من الكتاب
وأما القرآن، فالذي دل عليه وليس في القرآن ما يدل على أنها لا تفنى، بل الذي يدل عليه ظاهر القرآن أنهم خالدون فيها أبدا، كما أخبر الله - عز وجل - في غير موضع، وأخبر أنهم يطلبون الموت، والخروج منها ويطلبون تخفيف العذاب، فلا يجابون: لا إلى هذا ولا على هذا، وأخبر أنهم ماكثون فيها، وأخبر أنهم {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها}.
وقال تعالى: {وهم يصطرخون فيها}، {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسأوا فيها ولا تكلمون}.
وقال تعالى: {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون}.
وقوله: {ليقض علينا ربك} أي: يميتنا، وهكذا قال المفسرون مثل: السدي وابن زيد وغيرهما.

قال السدي: يقضي علينا بالموت، وقال ابن زيد: القضاء هاهنا: الموت. وكذلك قال سائر المفسرون، وهذا كقوله تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها}.
وعن الفراء في قوله تعالى: {وأما من أوتي كتابه بشماله} إلى قوله تعالى. {يا ليتها كانت القاضية}. وذلك أن القضاء هو الإكمال والإتمام، والأمر المقتضى هو الذي قد مضى وفرغ.
وبالموت تنقضي حياة الإنسان، فقال تعالى: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}.
وقال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون}.
وقال تعالى: {والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير}.
وقال تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}.

فهذه النصوص وأمثالها في القرآن تبين أنهم خالدون في جهنم لا يموتون ولا يحيون، وأنهم يسألون هذا وهذا فلا يجابون.
وهذا يقتضي خلودهم في جهنم - دار العذاب - مادام ذلك العذاب باقيا ولا يخرجون منها مع بقائها وبقاء عذابها، كما يخرج أهل التوحيد، فإن هؤلاء يخرجون منها بالشفاعة، وغير الشفاعة مع بقائها، كما يخرج ناس من الحبس الذي فيه العذاب مع بقاء الحبس والعذاب لذي فيه على من لم يخرج.
أحاديث الشفاعة
وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "صحيح مسلم":
عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم، فأماتهم الله
إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر، ضمائر فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل".

وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة في الحديث الطويل الذي فيه المرور على الصراط، والشفاعة، وقال فيه: "حتى إذا فرغ الله من القصاص بين العباد، فأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يقول: لا إله إلا الله فيعرفونهم بأثر السجود، وتأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ الله من القصاص بين العباد ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار"، وذكر صرفه عن النار، ثم تقدمه إلى الجنة، ثم إلى بابها، ثم إدخاله الجنة، وانه يعطيه ما تناه، مثله معه.
ورواه أبو سعيد، وقال: "وعشرة أمثاله".

وكذلك في "الصحيحين" من حديث أبي سعيد قال: "حتى إذا خلص المؤمن من النار، فو الذي نفي بيده، من أحد بأشد منا شدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون: ربنا كانوا يصمون معنا، ويصلون ويحجون، فيقول: أخرجوا من عرفتوهم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا، وقد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، فيقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتهم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، إلى أن قال: ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا".
وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث، فاقرءوا إن شئتم: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما}.
فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السبيل، قال: فيخرجون كالؤلؤ في قاربهم الخواتيم، يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله، الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، ثم يقدموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة، فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا،
فيقولون: يا ربنا، وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي، فلا أسخط عليكم بعده أبدا".
وفي رواية: "من إيمان" بدل قوله: "من خير"، قال فيه: "فيقول الجبار: قد بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقواما قد امتشحوا فليقيهم في نهر بأفواه الجنة ... " الحديث.
ولم يقل: "لم يعملوا خيرا قط".

وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها، وآخر الجنة دخولا الجنة: رجل يخرج من النار حبوا، فيقول الله له: اذهب: فادخل الجنة، فيأتيها، فتخيل إليه أنها ملآى - إلى أن قال -: فيقول الله له: اذهب، فإن لك عشرة أمثال الدنيا - أو - إن لك الدنيا، وعشرة أمثالها".
وفي رواية لمسلم: فيقول له: "تمن، فتمنى، فيقال له: لك الذي تمنيت، وعشرة أضعافه".
وهذا يوافق حديث أبي سعيد من وجهين:
وكذلك لمسلم من حديث جابر: "مثل الدنيا وعشرة أمثالها"، كما في اللفظ الأول في حديث ابن مسعود.
وفي حديث جابر في "الصحيحين" أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى يخرج ناسا من النار، فيدخلهم الجنة".
وفي رواية: "إن الله يخرج قوما من النار بالشفاعة"، ولمسلم من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات وجوههم، حتى يدخلون الجنة".
وللبخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج قوم النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة، فيسمون الجهنميين".
وللبخاري، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج قوم من النار بعد ما "مسهم" منها سفع، فيدخلون الجنة، فيسمون الجهنميين".
وأحاديث الشفاعة فيمن يخرج من النار كثيرة فيخرج من النار كثير منها عدة أحاديث في "الصحيحين".
وفي حديث أنس: ذكر فيه الشفاعة مرة بعد مرة، وأنه صلى لله عليه وسلم قال في الآخرة، "فأقول: أي رب، ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله فيقول الله - عز وجل - وعزني وجلالي، وعظمتي وكبريائي، لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله".
وفي رواية لمسلم: "ليس ذلك لك، أو إليك".
الفرق بين بقاء الجنة والنار:
"الفرق بين بقاء الجنة، والنار، شرعا، وعقلا" فأما شرعا، فمن وجوه:

أحدها: أن الله أخبر ببقاء نعيم الجنة ودوامه، وأنه لا نفاد له ولا انقطاع في غير موضع من كتابه، كما أخبر أن أهل الجنة لا يخرجون منها، وأما النار وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك، بل أخبر أن أهلها لا يخرجون منها، وأما النار وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك، بل أخبر أن أهلها لا يخرجون منها.
الثاني: أنه أخبر بما يدل على أنه ليس بمؤيد في عدة آيات.
الثالث: أن النار لم يذكره فيها شيء يدل على الدوام.
الرابع: إن النار قيدها بقوله: {لابثين فيها أحقابا}، وقوله: {خالدين فيها إلا ما شاء الله} وقوله: {ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك}، فهذه ثلاث آيات تقتضي قضية مؤقتة، أو معلقة على شرط، وذاك دائم مطلق، ليس بمؤقت ولا معلق.
الخامس: أنه قد ثبت أنه يدخل الجنة من ينشأه في الآخرة لها ويدخلها من دخل النار أولا، ويدخلها الأولاد بعمل الآباء، فثبت أن الجنة يدخلها من لم يعمل خيرا، وأما النار فلا يعذب أحد بذنوبه، فلا تقاس هذه بهذه.
السادس: أن الجنة من مقتضى رحمته ومغفرته، والنار من عذابه، وقد قال: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم}.
وقال: {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم}.
وقال: {ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم}.
فالنعيم من موجب أسمائه التي هي من لوازم ذاته فيجب داومه بدوام معاني أسمائه وصفاته.
وأما العذاب فإنما هو من مخلوقاته، والمخلوق قد يكون له انتهاء مثل الدنيا وغيرها، لاسيما مخلوق خلق تتعلق بغيره.
السابع: أنه قد أخبر أن رحمته وسعت كل شيء، وأنه {كتب على نفسه الرحمة}، وقال: "سبقت رحمتي غضبي" "وغلبت رحمتي غضبي".
وهذا عموم، وإطلاق، فإذا قدر عذاب لا آخر له، لم يكن هناك رحمة البتة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #375  
قديم يوم أمس, 10:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 375)

من صــ 316 الى صـ 330




الثامن: أنه قد ثبت مع رحمته الواسعة أنه حكيم، والحكيم إنما يخلق لحكمته العامة، كما ذكر حكمته في غير موضع "10 - أ" فإذا قدر أنه يعذب من يعذب لحكمة كان هذا ممكنا، توجد في الدنيا العقوبات الشرعية فيها حكمة، وكذلك ما يقدره من المصائب فيها حكم عظيمة، فيها تطهير من الذنوب، وتزكية للنفوس، وزجر عنها في المستقبل للفاعل ولغيره، ففيها عبرة، والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب، ولهذا قال في الحديث الصحيح: "إنهم يحسبون بعد خلاصهم من الصراط على قنطرة بين الجنة والنار، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة".
والنفوس الشريرة الظالمة التي ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادات لما نهيت عنه لا يصلح أن تسكن دار السلام التي تنافي الكذب والظلم والشر، فإذا عذبوا بالنار عذابا يخلص نفوسهم من ذلك الشر كان هذا معقولا في الحكمة كما
يوجد في تعذيب الدنيا، وخلق من فيه شر يزول بالتعذيب من تمام الحكمة، وأما خلق نفوس تعمل الشر في الدنيا وفي الآخرة لا تكون إلا في العذاب، فهذا تناقض يظهر فيه من مناقضة الحكمة والرحمة ما لا يظهر في غيره.
ولهذا كان الجهم لما رأى ذلك ينكر أن يكون الله أرحم الراحمين، وقال: بل يفعل ما يشاء، والذين سلكوا طريقته كالأشعري وغيره، ليس عندهم في الحقيقة حكمة ورحمة، ولكن له علم وقدرة وإرادة لا ترجح أحد الجانبين، ولهذا لما طلب منهم أن يقروا بكونه حكيما، فسروه بأنه عليم أو قدير أو مؤيد، وليس من الثلاثة ما يقتضي الحكمة، وإذا ثبت أنه رحيم حكيم، وعلم بطلان قول الجهم تعين إثبات ما تقتضيه الرحمة والحكمة.
وما قاله المعتزلة - أيضا - باطل، فقول القدرية المجبرة والنفاة في حكمته ورحمته باطل، ومن أعظم ما غلظهم اعتقادهم تأييد جهم، فإن ذلك يستلزم ما قالوه، وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم، والله سبحانه أعلم.
وأما آيات بقاء الجنة.

فالأول: مثل قوله تعالى: {أكلها دائم وظلها}. فأخبر أنه دائم والمنقطع ليس بدائم.
والثاني: مثل قوله: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد}، والمنقطع ينفد
والثالث: قوله تعالى: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} فأخبر أن ما في الدنيا من الخير ينفد وما عند الله باق لا ينفد، فلو كان لما عند الله من النعيم آخر لكان ينفد نعيم الدنيا، ولم يكن باقيا لا ينفد.
والرابع: مثل قوله تعالى في آيتين: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون}.
{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون}.
كما قال: {وإن لك لأجرا غير ممنون}.
قال عامة المفسرين: غير مقطوع، ولا منقوص.
وذكروا عن ابن عباس أنه قال: غير مقطوع.
وعن مقاتل: غير منقوص - أيضا -.
قال عامة المفسرين: غير مقطوع ولا منقوص، كما قال: {وإن لك لأجرا غير ممنون}.
قالوا - ومنه المنون، لأنه يقطع عمر الإنسان.
وعن مجاهد "غير مسحوب" وهذا يوافق ذلك، لأن ما ينتهي مقدر محسوب، بخلاف ما لا نهاية له فإنه غير مسحوب.
وقد شذ بعض الناس فقال: غير ممنون عليهم من جنس قوله: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان}.
وهذا القول مع مخالفته لأقوال السلف والجمهور هو خطأ لوجوه:
أحدها: أن الله يمن علينا بكل نعمة أنعم بها علينا، حتى بالإيمان والعمل الصالح قال تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}.

وقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم}.
وقال أهل الجنة ما أخبر الله تعالى به في قوله: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم}.
وهذا قولهم: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}.
وقوله: {ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين}، وقد ثبت في الصحيح
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يدخل أحد منكم بعمله الجنة" قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
والله تعالى في غير موضع يذكر آلاءه وإحسانه ونعمه على عباده، ويأمرهم أن يذكروها، ويأمرهم أن يشكروها.
والعبد قد نهي أن يمن بصدقته بقوله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} لأن المتصدق في الحقيقة إنما أحسن إلى نفسه لا إلى المتصدق عليه، فإنه لولا أن له في ذلك منفعة وأجرا وعوضا لم يتصدق عليه، فصار كالذي يخدم المماليك بأجرة يأخذها من سيدهم ليس بمحسن إليهم.
وأيضا فإن المصدق الله هو المنعم عليه بما يسره الله للإحسان إلى نفسه وعليه أن يشكر الله تعالى ويرى أن الله هو المحسن إليه، فإن نظر إلى الفعل فالله خالقه، وإن نظر إلى غايته فهو يطلب جزاءه وعوضه من الله، وإن نظر إلى المحسن إليه فهو المحسن إلى نفسه، والله أحسن إليه أن جعله محسنا إلى نفسه لا ظالما لها.

فلهذا كان منه على المخلوق ظلما أبطل به صدقته، والله هو المنعم على عباده حقيقة بالنعمة، والشكر عليها إذا أعانهم على شكره وجعلهم شاكرين بنعمته، بثواب الشكر، فكل ذلك تفضل منه وإحسان من غير أن يكون له على ذلك عوض يأخذه من غيره، لا من المحسن إليه ولا من غيره فهو المنعم حقيقة، وإن كان له في الإنعام حكمة يحبها ويرضاها، فتلك الحكمة منه، فما لأحد عليه منة وهو الجواد المحض وهو سبحانه ليس كمثله شيء.
وللناس كلام في الجود والإحسان ومن يفعل لحكمة ومقصود هل هو جواد
أم ليس بجواد؟ يفرق بين من يطلب عوضا من غيره فيحتاج إلى غيره فيكون جوده من باب المعاوضة، وبين من لا يحتاج إلى غيره بل هو الجواد بالنعم وبالحكم كما قد بسط في غير هذا الموضع.
ولأنه لما قال تعالى: {لقد خلقنا الأنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، وبين أن غير المؤمنين تزول عنه النعمة، فلو كان المؤمن كذلك لم يكن بينهما فرق.
الخامس: مثل قوله تعالى في نعيم الجنة: {عطاء غير مجذوذ} وفي عذاب أهل النار: {إن ربك فعال لما يريد} قال غير واحد: غير مقطوع - أيضا -.

السادس: أنه قدر أخبر أن أهل الجنة والنار لا يموتون كما في الحديث الصحيح "يؤتى بالموت في صورة كبش، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة، خلود ولا موت فيها ويا أهل النار خلود ولا موت فيها" كل خالد فيما هو فيه، فإذا كانوا لا يموتون فلا بد لهم من دار يكونون فيها، ومحال أن يعذبوا بعد دخول الجنة فلم يبق إلا دار النعيم، والحي لا يخلو من لذة أو ألم، فإذا انتفى الألم تعينت اللذة الدائمة هـ.
آخرها ... والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه، حسبنا الله ونعم الوكيل.

(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (119)
أخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولا وفعلا وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة فمن خالفهم في شيء فاته من الرحمة بقدر ذلك. ولهذا لما كانت الفلاسفة أبعد عن اتباع الأنبياء كانوا أعظم اختلافا والخوارج والمعتزلة والروافض لما كانوا أيضا أبعد عن السنة والحديث كانوا أعظم افتراقا في هذه لا سيما الرافضة فإنه يقال: إنهم أعظم الطوائف اختلافا وذلك لأنهم أبعد الطوائف عن السنة والجماعة بخلاف المعتزلة فإنهم أقرب إلى ذلك منهم.
(فصل)
والاختلاف في كتاب الله على وجهين: أحدهما: أن يكون كله مذموما، كقوله: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [سورة البقرة: 176].
والثاني: أن يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل، كقوله: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} [سورة البقرة: 253]. لكن إذا أطلق الاختلاف فالجميع مذموم كقوله: {ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} [سورة هود: 118 - 119]. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم: " «إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» ".
ولهذا فسروا الاختلاف في هذا الموضع بأنه كله مذموم. قال الفراء: في اختلافهم وجهان: أحدهما: كفر بعضهم بكتاب بعض، والثاني: تبديل ما بدلوا. وهو كما قال ; فإن المختلفين كل منهم يكون معه حق وباطل، فيكفر بالحق الذي مع الآخر، ويصدق بالباطل الذي معه، وهو تبديل ما بدل.
فالاختلاف لا بد أن يجمع النوعين. ولهذا ذكر كل من السلف أنواعا من هذا: أحدها: الاختلاف في اليوم الذي يكون فيه الاجتماع، فاليوم الذي أمروا به يوم الجمعة، فعدلت عنه الطائفتان ; فهذه أخذت السبت، وهذه أخذت الأحد.

وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، الناس لنا فيه تبع، اليوم لنا، وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى» ".
وهذا الحديث يطابق قوله تعالى: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} [سورة البقرة: 203].
وفي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان إذا قام من الليل يصلي يقول: " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» "
والحديث الأول يبين أن الله - تعالى - هدى المؤمنين لغير ما كان فيه المختلفون ; فلا كانوا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، وهو مما يبين أن الاختلاف كله مذموم.
والنوع الثاني: القبلة. فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب. وكلاهما مذموم لم يشرعه الله.

والثالث: إبراهيم. قالت اليهود كان يهوديا، وقالت النصارى كان نصرانيا. وكلاهما كان من الاختلاف المذموم: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} [سورة آل عمران: 67].
والرابع: عيسى. جعلته اليهود لغية، وجعلته النصارى إلها.

والخامس: الكتب المنزلة. آمن هؤلاء ببعض، وهؤلاء ببعض.
والسادس: الدين. أخذ هؤلاء بدين، وهؤلاء بدين. ومن هذا الباب قوله تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} [سورة البقرة: 113]. وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - «أنه قال: اختصمت يهود المدينة ونصارى نجران عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، ولا يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وكفروا بالإنجيل وعيسى. وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، وكفروا بالتوراة وموسى، فأنزل الله هذه الآية والتي قبلها».
واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط ; فالخارجي يقول: ليس الشيعي على شيء. والشيعي يقول: ليس الخارجي على شيء. والقدري النافي يقول: ليس المثبت على شيء. والقدري الجبري المثبت يقول: ليس النافي على شيء. والوعيدية تقول: ليست المرجئة على شيء. والمرجئة تقول: ليست الوعيدية على شيء.
بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية المنتسبين إلى السنة. فالكلابي يقول: ليس الكرامي على شيء. والكرامي يقول: ليس الكلابي على شيء. والأشعري يقول: ليس السالمي على شيء. والسالمي يقول: ليس الأشعري على شيء.
ويصنف السالمي كأبي علي الأهوازي كتابا في مثالب الأشعري ويصنف الأشعري كابن عساكر كتابا يناقض ذلك من كل وجه، وذكر فيه مثالب السالمية.

وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس إما نقلا مجردا، مثل كتاب المقالات لأبي الحسن الأشعري، وكتاب الملل والنحل للشهرستاني، ولأبي عيسى الوراق، أو مع انتصار لبعض الأقوال، كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم فرأيت عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم. وأما الحق الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وكان عليه سلف الأمة فلا يوجد فيها في جميع مسائل الاختلاف، بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال، والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه، وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه، بل لا يعرفونه.
ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام.
ولهذا يوجد الحاذق منهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك، إذ لم يجد في الاختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض. وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلى دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب.
كما قال أبو المعالي وقت السياق: " لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه. والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي ".
وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة، بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار: أهل الكلام والفلسفة، وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهد، وفي آخر عمره اشتغل بالحديث: بالبخاري ومسلم.
وكذلك الشهرستاني، مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والاختلاف، وصنف فيها كتابه المعروف بنهاية الإقدام في علم الكلام، وقال: " قد أشار علي من إشارته غنم، وطاعته حتم، أن أذكر له من مشكلات الأصول ما أشكل على ذوي العقول، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، لعمري:
لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم
فأخبر أنه لم يجد إلا حائرا شاكا ومرتابا، أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه. فالأول في الجهل البسيط: كظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، وهذا دخل في الجهل المركب، ثم تبين له أنه جهل فندم، ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججهم، ولا يكاد يرجح شيئا للحيرة.

(ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون (123)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
فصل:
قال " الشيخ عبد القادر " قدس الله روحه: " افن عن الخلق بحكم الله وعن هواك بأمره وعن إرادتك بفعله لحينئذ يصلح أن تكون وعاء لعلم الله ". قلت: فحكمه يتناول خلقه وأمره أي: افن عن عبادة الخلق والتوكل عليهم بعبادة الله والتوكل عليه فلا تطعهم في معصية الله تعالى ولا تتعلق بهم في جلب منفعة ولا دفع مضرة. وأما الفناء عن الهوى بالأمر وعن الإرادة بالفعل بأن يكون فعله موافقا للأمر الشرعي لا لهواه وأن تكون إرادته لما يخلق تابعة لفعل الله لا لإرادة نفسه. فالإرادة تارة تتعلق بفعل نفسه وتارة بالمخلوقات. فالأول " يكون بالأمر و " الثاني " لا تكون له إرادة. ولا بد في هذا أن يقيد بأن لا تكون له إرادة لم يؤمر بها وإلا فإذا أمر بأن يريد من المقدورات شيئا دون شيء فليرد ما أمر بإرادته سواء كان موافقا للقدر أم لا. وهذا الموضع قد يغلط فيه طائفة من السالكين والغالب على الصادقين منهم أنهم لم يعرفوا الإرادة الشرعية في ذلك المعين وهم ليس لهم إرادة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير المقدور. قال الشيخ: " فعلامة فنائك عن خلق الله انقطاعك عنهم، وعن التردد إليهم، واليأس مما في أيديهم ". وهو كما قال. فإذا كان القلب لا يرجوهم ولا يخافهم لم يتردد إليهم لطلب شيء منهم وهذا يشبه بما يكون مأمورا به من المشي إليهم لأمرهم بما أمر الله به ونهيهم عما نهاهم الله عنه كذهاب الرسل وأتباع الرسل إلى من يبلغون رسالات الله فإن التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد. ليكون عابدا لله متوكلا عليه وإلا فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمر به؛ فقد يكون ما أضاعه من الأمر أولى به مما قام به من التوكل أو مثله أو دونه كما أن من قام بأمر ولم يتوكل عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب؛ بل قد يكون ما تركه من التوكل والاستعانة أولى به مما فعله من الأمر أو مثله أو دونه. قال الشيخ: " وعلامة فنائك عنك وعن هواك: ترك التكسب، والتعلق بالسبب في جلب النفع، ودفع الضر فلا تتحرك فيك بك، ولا تعتمد عليك لك ولا تنصر نفسك ولا تذب عنك لكن تكل ذلك كله إلى من تولاه أولا فيتولاه آخرا. كما كان ذلك موكولا إليه في حال كونك مغيبا في الرحم وكونك رضيعا طفلا في مهدك ".
قلت: وهذا لأن النفس تهوى وجود ما تحبه وينفعها، ودفع ما تبغضه ويضرها فإذا فني عن ذاك بالأمر فعل ما يحبه الله، وترك ما يبغضه الله فاعتاض بفعل محبوب الله عن محبوبه وبترك ما يبغضه الله عما يبغضه، وحينئذ فالنفس لا بد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة فيكون في ذلك متوكلا على الله. و " الشيخ رحمه الله " ذكر هنا التوكل دون الطاعة؛ لأن النفس لا بد لها من جلب المنفعة، ودفع المضرة فإن لم تكن متوكلة على الله في ذلك واثقة به لم يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل الأمر مطلقا؛ بل لا بد أن تعصي الأمر في جلب المنفعة ودفع المضرة فلا تصح العبادة لله، وطاعة أمره بدون التوكل عليه كما أن التوكل عليه لا يصح بدون عبادته وطاعته. قال تعالى: {فاعبده وتوكل عليه} وقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} {ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه} وقال تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا} {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا}.
و (المقصود) أن امتثال الأمر على الإطلاق لا يصح بدون التوكل والاستعانة ومن كان واثقا بالله أن يجلب له ما ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمره وإلا فنفسه لا تدعه أن يترك ما يقول إنه محتاج فيه إلى غيره.
قال الشيخ - رضي الله عنه -: " وعلامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادا قط فلا يكن لك غرض ولا تقف لك حاجة ولا مرام؛ لأنك لا تريد مع إرادة الله سواها بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة الله تعالى وفعله، ساكن الجوارح، مطمئن الجنان، مشروح الصدر، منور الوجه، عامر الباطن، غنيا عن الأشياء بخالقها تقلبك يد القدرة، ويدعوك لسان الأزل، ويعلمك رب الملك ويكسوك نورا منه والحلل، وينزلك منازل من سلف من أولي العلم الأول فتكون منكسرا أبدا. فلا تثبت فيك شهوة ولا إرادة.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
هذا المقام هو آخر ما يشير إليه الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه - وحقيقته أنه لا يريد كون شيء إلا أن يكون مأمورا بإرادته فقوله: علامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادا قط. أي لا تريد مرادا لم تؤمر بإرادته فأما ما أمرك الله ورسوله بإرادتك إياه فإرادته إما واجب وإما مستحب وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص. وهذا الموضع يلتبس على كثير من السالكين فيظنون أن الطريقة الكاملة ألا يكون للعبد إرادة أصلا وأن قول أبي يزيد: " أريد ألا أريد " - لما قيل له: ماذا تريد؟ - نقص وتناقض؛ لأنه قد أراد، ويحملون كلام المشايخ الذين يمدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة مطلقا وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك الإرادة مطلقا فإن هذا غلط ممن قاله فإن ذلك ليس بمقدور ولا مأمور فإن الحي لا بد له من إرادة فلا يمكن حيا ألا تكون له إرادة فإن الإرادة التي يحبها الله ورسوله ويأمر بها أمر إيجاب أو أمر استحباب لا يدعها إلا كافر أو فاسق أو عاص إن كانت واجبة وإن كانت مستحبة كان تاركها تاركا لما هو خير له. والله تعالى قد وصف الأنبياء والصديقين بهذه " الإرادة " فقال تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} وقال تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} وقال تعالى: {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} وقال تعالى: {وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما} وقال تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} وقال تعالى: {فاعبد الله مخلصا له الدين} {ألا لله الدين الخالص} وقال تعالى: {قل الله أعبد مخلصا له ديني} وقال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
ولا عبادة إلا بإرادة الله ولما أمر به. وقال تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن} أي أخلص قصده لله. وقال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} وإخلاص الدين له هو إرادته وحده بالعبادة. وقال تعالى: {يحبهم ويحبونه} وقال تعالى: {والذين آمنوا أشد حبا لله} وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. وكل محب فهو مريد. وقال الخليل عليه السلام {لا أحب الآفلين} ثم قال: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض}. ومثل هذا كثير في القرآن؛ يأمر الله بإرادته وإرادة ما يأمر به وينهى عن إرادة غيره وإرادة ما نهى عنه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه} " فهما " إرادتان ": إرادة يحبها الله ويرضاها وإرادة لا يحبها الله ولا يرضاها بل إما نهى عنها وإما لم يأمر بها ولا ينهى عنها.

سورة يوسف
(الر تلك آيات الكتاب المبين (1) إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (2)
[فصل: رد دعوى النصارى خصوصية الإسلام لكون كتابه باللسان العربي]
وأما كون القرآن أنزل باللسان العربي وحده فعنه أجوبة: أحدها: أن يقال والتوراة إنما أنزلت باللسان العبري وحده وموسى - عليه السلام - لم يكن يتكلم إلا بالعبرية وكذلك المسيح لم يكن يتكلم بالتوراة والإنجيل وغيرهما إلا بالعبرية وكذلك سائر الكتب لا ينزلها الله إلا بلسان واحد بلسان الذي أنزلت عليه ولسان قومه الذين يخاطبهم أولا، ثم بعد ذلك تبلغ الكتب وكلام الأنبياء لسائر الأمم إما بأن يترجم لمن لا يعرف لسان ذلك الكتاب وإما بأن يتعلم الناس لسان ذلك الكتاب فيعرفون معانيه وإما بأن يبين للمرسل إليه معاني ما أرسل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليه بلسانه وإن لم يعرف سائر ما أرسل به.
وقد أخبر الله في القرآن ما قالته الرسل لقومهم وما قالوا: لهم - وأكثرهم لم يكونوا عربا - وأنزله الله باللسان العربي وحينئذ، فإن شرط التكليف تمكن العباد من فهم ما أرسل به الرسول إليهم وذلك يحصل بأن يرسل بلسان يعرف به مراده ثم جميع الناس متمكنون من معرفة مراده بأن يعرفوا ذلك اللسان أو يعرفوا معنى الكتاب بترجمة من يترجم معناه وهذا مقدور للعباد ومن لم يمكنه فهم كلام الرسول إلا بتعلم اللغة التي أرسل بها وجب عليه ذلك، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بخلاف ما لا يتم الوجوب إلا به، فإنه ليس بواجب ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها لا في الأصل ولا في التمام فلا نحتاج أن نقول ما لا يتم الواجب إلا به - وكان مقدورا للمكلف - فهو واجب، فإن ما ليس مقدورا عليه لا يكلف به العباد بل وقد يكون مقدورا عليه ولا يكلفون به.
فلما كانت الاستطاعة شرطا في وجوب الحج لم يجب تحصيل الاستطاعة بخلاف قطع المسافات، فإنه ليس شرطا في الوجوب فلهذا يجب الحج على الإنسان من المسافة البعيدة والقريبة إذا كان مستطيعا.
وجمهور الناس لا يعرفون معاني الكتب الإلهية: التوراة والإنجيل والقرآن إلا بمن يبينها ويفسرها لهم وإن كانوا يعرفون اللغة فهؤلاء يجب عليهم طلب علم ما يعرفون به ما أمرهم الله به ونهاهم عنه وهذا هو طلب العلم المفروض على الخلق وكذلك ما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من معاني الكتاب الذي أنزله الله عليه يجب على الخلق طلب علم ذلك ممن يعرفه إذا كان معرفة ذلك لا تحصل بمجرد اللسان.

كما يروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله - تبارك وتعالى - فمن ادعى علمه فهو كاذب.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 187.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 183.82 كيلو بايت... تم توفير 3.55 كيلو بايت...بمعدل (1.89%)]