موافقة قول الخطيب عمله - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         في آخر الزمان تصبح السنة بدعة والبدعة سنة (اخر مشاركة : عبد العليم عثماني - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4961 - عددالزوار : 2066726 )           »          شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 606 - عددالزوار : 339492 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4537 - عددالزوار : 1335627 )           »          فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 379 - عددالزوار : 156410 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 394 - عددالزوار : 92434 )           »          السَّدَاد فيما اتفقا عليه البخاري ومسلم في المتن والإسناد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 14117 )           »          الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 68 - عددالزوار : 53325 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 84 - عددالزوار : 46977 )           »          درر وفوائـد من كــلام السلف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 15447 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 25-02-2020, 11:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,002
الدولة : Egypt
افتراضي موافقة قول الخطيب عمله

موافقة قول الخطيب عمله





الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل










حين يقفُ خطيب الجمعة أمام النَّاس متَحَدِّثًا، فهو يذكِّرهم ويَعِظهم، ويدلُّهم على ما ينفعهم في الدُّنيا والآخرة، ويحذِّرهم مما يضرُّهم فيهما، والأصْلُ أنه لا يبتغي مِنْ وراء ذلك جزاء دُنيويًّا، ولا شُكورًا مِنَ النَّاس، إنْ هو إلاَّ مُصْلِح يرْتَسِم خُطَى المرْسَلينَ - عليهم السَّلام - في دعواتهم، ويتأسَّى بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلَّم - في دعوته، ويَقتبس هدْيِ الصَّالحين من هذه الأمَّة؛ سلَفِها وخلَفِها، في أقوالهم وأفعالهم وسَمْتِهم.













ولَمَّا كانت الحِكْمة من مشروعيَّة الخُطبة نفْعَ الناس بها، كان الأَوْلى أن يَنتفع الخطيب بما ألقاه على الناس قَبل أن يُلقِيه؛ لعِلْمه به وقناعته بِمَضْمونه؛ فإنَّه ما نصَح به الناس إلاَّ وفيه خَيْر لهم، وهو أَولى بهذا الخَيْر مِنْ غَيْره.







ولكن النَّفسَ البشَريَّة مطبوعة على الظُّلم والجهل، إلاَّ أن يتعاهَدَها صاحبُها بالإيمان والتَّقوى والتوبة والاستغفار، ودليل ذلك كَثْرة ما يقع ممن يتصدَّرون للكلام في شؤون الناس الدِّينية والدُّنيوية؛ من مخالَفةِ أفعالهِم أقوالَهم، وليس ذلك حِكْرًا على الخُطَباء والدُّعاة والعلماء فحَسْب، بل حتَّى أهل السياسة والاقتصاد والطِّب والفِكْر والإعلام وغيرهم، يَكْثر فيهم مخالفة أقوالِهم أفعالَهم؛ فيُوصون الناس بأشياءَ لا يفعلونها هم، ويحذِّرونهم من أشياء يَقَعون هم فيها، ولكن هؤلاء لا يُؤاخِذُهم الناس كما يؤاخِذون أهلَ العلم والدَّعوة والخَطابة، ولا يُثرِّبون عليهم مثلهم؛ لأنَّ الناس وضَعوا أهل العلم والدَّعوة والخطابة قُدْوة لهم، وهذا حقٌّ وشرَف ومسؤولية، فكانتْ مخالفةُ العالِم أو الدَّاعية أو الخطيب أقوالهم أفعالَهم أشدَّ على الناس من مُخالفة غيرهم؛ ولهذا فإنَّه يجبُ على العالِم والدَّاعية والخطيب أن يُراعُوا هذه الخصوصيَّة لهم، ويُحافظوا على هذه المَنْزلة التي بوَّأَهم الله - تعالى - إيَّاها، ويحفظوا مكانتهم في قلوب الناس بإتْباع العلمِ العملَ، وعدَمِ مخالفة القول الفعل؛ لِيَصدر النَّاس عنهم، ويَقبل الناسُ منهم، ويكون لخِطابهِم وقْعٌ في القلوب، وتأثير في النفوس.







ذمُّ مُخالفة القول الفعل:



تظاهرَتْ نصوص الكِتَاب والسُّنة على ذمِّ مخالفة قول الإنسان عمَلَه؛ لأنَّ ذلك نوْعٌ من الكذب، ويدلُّ على ضعف الإيمان، وهو طريق إلى النِّفاق، نعوذ بالله - تعالى - من ذلك، والنُّصوص الواردة في ذلك على أنواع:



النوع الأول: نُصوصٌ تُثبِت أنَّ الأنبياء - عليهم السَّلام - وهم رُؤوس المُصْلِحين وأئمَّة الدُّعاة والخطباء تُوافق أقولهُم أفعالَهم، حتَّى إنَّ المكذِّبين بهم من أقوامهم لم يَرْموهم بمخالفة أفعالهِم أقوالَهم مع حاجتهم لمثل هذه التُّهمة في صَرْف النَّاس عن الدَّعوة، لكنهم لم يَفْعلوا ذلك؛ لِعِلمهم أن الناس لا يصدِّقونهم؛ لأنَّه من الكذب الظَّاهر.







ومن الأنبياء مَن صرَّح بذلك كما فعَل شُعَيب - عليه السَّلام - حين وعَظ قومه، فبيَّن لهم أنَّه أوَّل مَن يمتثِلُ ما يدعوهم إليه حين حكَى الله - تعالى - عنه أنه قال: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ﴾ [هود: 88]، فموافقة القَول العمل فيها تأسٍّ بالأنبياء - عليهم السَّلام.







النوع الثاني: نصوص تُفِيد أنَّ الله - تعالى - قد ذَمَّ بني إسرائيل على عدم إتْباع العِلمِ العملَ؛ فقال - سبحانه -: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، فإنَّهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبِتَقواه وهم يَعصُونه، فعَيَّرهم الله - تعالى[1].







وفي آيةٍ أخرى أخْبَر الله عنهم بقَوْله - سبحانه -: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187]، قال مالك بن مغول - رحمه الله تعالى -: "تركوا العمل به"[2].







وفي قول الله - تعالى -: ﴿ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الأعراف: 53]، وقوله - سبحانه -: ﴿ نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ﴾ [الأعراف: 51]، وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ نَسُوا الذِّكْرَ ﴾ [الفرقان: 18]، قال المفسِّرون: "ترَكُوا العمل به، فصاروا كالنَّاسين"[3].







النوع الثالث: نصوص تُثْبِت الوعيد الشَّديد المتنوِّع في مُخالفة الإنسان قوله فِعْله:



1- فصاحبه متوعَّدٌ بمقْت الله - تعالى - كما في قوله - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2 - 3].







2- ومُتوعَّدٌ بالعذاب في النَّار، كما في قول الله - تعالى -: ﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾ [المدثر: 49 - 51].







قال الشنقيطي - رحِمَهُ الله تعالى -: "فيَجب على المذكِّر - بالكسر - والمذكَّر - بالفتح - أن يَعْملا بمُقتضى التَّذكرة، وأن يتحَفَّظا عن عدم المبالاة بها؛ لئلاَّ يكونا حِمَارين من حمُر جهنم"[4].







3- وعذابه في النَّار يكون بطريقةٍ بَشِعة منفِّرة، جاء تصويرُها في حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلَّم - قال: ((يُجاء بالرَّجل يوْم الْقيامة، فيُلْقى في النار، فتنْدلق أقْتابُه في النار، فيَدُور كما يدور الحمار بِرَحَاه، فيجْتمع أهْل النار عليْه فيقولون: أيْ فلان، ما شأْنُك؟ أليْس كنْتَ تأمُرنا بالمعْروف وتنْهانا عن المنْكر؟ قال: كنْتُ آمركمْ بالمعْروف ولا آتيه، وأنْهاكمْ عن المُنْكَر وآتيه))[5].







النوع الرابع: أنَّ الخُطباء جاء فيهم وعيدٌ خاصٌّ إذا خالفَتْ خُطبُهم أفعالَهم، كما في حديث أنس بْن مالكٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلم - قال: ((رأيْتُ ليْلة أُسْري بي رجالاً تُقْرض شفاههمْ بمقاريضَ منْ نارٍ، قلْتُ: مَنْ هؤلاء يا جبْريل؟ قال: هؤلاء خطباء منْ أمَّتك، يأْمرون الناس بالبر، وينْسوْن أنْفسهمْ وهمْ يتْلون الْكتاب، أفلا يعْقلون))[6].







وقد تمَسَّك بهذه النُّصوص مَن يرى أنَّ مَن كان مُقارفًا للمعصية، فلا يَأمر ولا ينهى، وهاهنا ثلاث مسائل:



المسألة الأولى: اشتِرَاط أن يكونَ الخطيبُ أو الدَّاعية خاليًا من المعاصي، وإلاَّ لا يَعِظ الناس ولا يخطب فيهم، ولم أَقِف على أحدٍ يقول بهذا، ولازِمُ القول به تعطيلُ الأمْرِ والنهي الشَّرعيِّين؛ لاِشْتراط العِصْمة منَ الذُّنوب في صاحبه.







ولهذا يجوز أن يَنصح المفضولُ الفاضلَ، وأنْ يعِظَ الطالبُ العالِمَ؛ لأنه لا أحد منَ البشَر فوق النُّصح والمَوْعِظة مهما كانتْ مَنْزلته، ومهما علاَ كعبُه في العلم والفَضْل، وجاء في النَّصيحة التي وجَّهَها الفقيه الحنبليُّ أبو الفضل إسحاقُ بن أحمد العَلْثِي إلى العلاَّمة ابن الجوزي - رحمة الله تعالى عليهما -: "ولو كان لا يُنكِر مَن قلَّ عِلْمُه على مَن كَثُر علمه، إذًا لتعَطَّل الأمر بالمعروف، وصِرْنا كبني إسرائيل حيثُ قال - تعالى -: ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ [المائدة: 79]، بل ينكر المفضول على الفاضل، وينكر الفاجر على الوليِّ، على تقدير معرفة الولي"[7].







المسألة الثانية: اشتراط موافقةِ قولِه فِعلَه فيما يخطب به، فلا يحلُّ له الكلام إلا ما وافق فيه قولُه فعله، وما خالف فيه قولُه فعلَه فلا يخطب به، وفي هذه المسألة قولان:



القول الأول: يُشترط ذلك؛ لأنَّ ظاهر النُّصوص السابقة تدلُّ على تقبيح من خالف قوله فعله، بمعنى أنَّه لا يَأمر بما لا يفعل، ولا ينهى عمَّا يفعل؛ لئلاَّ يتناوله الوعيد الوارد في النُّصوص السابقة، قال أبو القاسم القُشَيري الصوفي: "فشَرْطُ الأمرِ بالمعروف استعمالُ ما تَأْمر به، والانتهاءُ عما تنْهَى عنه"[8]، ويتأيَّد هذا القول بالآثار التالية:



1- عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنه جاءه رجلٌ فقال: "يا ابن عبَّاس، إنِّي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عنِ المنكر، قال: أوَبلَغْتَ؟ قال: أرجو، قال: فإن لم تَخْش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله - عزَّ وجلَّ - فافْعَل، قال: وما هُنَّ؟ قال: قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 44]، أحكمت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فالحرف الثَّاني؟ قال: قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2 - 3]، أحكمْتَ هذه الآية؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث؟ قال: قول العبد الصَّالح شعيب - عليه السَّلام -: ﴿ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ [هود: 88]، أحكمْتَ هذه الآية؟ قال: لا، قال: فابْدَأ بنفسك"[9].







2- وقال النَّخَعي - رحِمَه الله تعالى -: "ثلاثُ آيات منَعَتْني أن أَقُصَّ على الناس: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 44]، ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ [هود: 88]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2]"[10].







3- وعن بعض السَّلَف أنه قيل له: "حَدِّثنا، فسَكَت، ثم قيل له: حدِّثْنا، فقال: أتَرَونني أن أقول ما لا أفعل، فأستَعْجِل مقْتَ الله - تعالى"[11].







القول الثاني: لا يُشترط في المتصدِّي للخَطابة ألاَّ يَعِظ الناس إلاَّ بما وافَقَ فيه قولُه فعلَه، بل يعظهم بما يحتاجون ولو كان مخالفًا فيه، وهو قول عامَّة العلماء، ويُستدلُّ له بما يلي:



1- عموم أدلَّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله - تعالى - إذْ ليس في شيء منها منْعُ من فرَّط في طاعةٍ من الدَّعوة إليها، ولا منعُ من وقَع في معصية من النهي عنها.







2- قول الله - تعالى -: ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 79]، فذَمَّهم الله - تعالى - لأنَّ بعضهم لم ينه بعضًا عما قارفوا من المنكرات.







قال ابنُ عَطيَّة - رحمه الله تعالى -: "وقال حُذَّاق أهل العلم: ليس من شُروط النَّاهي أن يكون سليمًا من المعصية، بل يَنهى العُصَاةُ بعضهم بعضًا، وقال بعض الأصوليِّين: فرْضٌ على الذين يتعاطون الكؤُوس أن ينهى بعضهم بعضًا، واستدلَّ قائل هذه المقالة بقوله - تعالى -: ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ [المائدة: 79]؛ لأنَّ قولَه: "يتناهون" و"فعَلُوه" يقتضي اشتراكهم في الفِعْل، وذمَّهم على تَرْك التَّناهي"[12].







3- أن حُكم الله - تعالى - في عِباده كتابة حسَناتهم وسيِّئاتهم، ومحاسبتهم على أعمالهم، وليس مِن لازم اكتساب السيِّئة بُطلانُ الحسنة، إلاَّ ما كان محبطًا للعمل وهو الشِّرك، ودعوة النَّاس إلى الخير وتحذيرهم من الشرِّ حسنةٌ يُثاب العبد عليها، ووقُوعه في المُنكَر سيِّئة يُحاسَب بها، فالجهة مُنفكَّة بين ميادين اكتساب الحسَنات، وميادين اجتراح السيِّئات.







وهذا القول هو الرَّاجح، وأمَّا الجواب عن النُّصوص المنفِّرة من مخالفة القول الفعل، فإنَّ الذمَّ فيها على المعصية مع العلم بها، وليس على النَّهي عنها، وعلى هذا المعنى اجتمعَتْ كلمة المحقِّقين من العلماء:



قال الجصَّاص - رحِمَهُ الله تعالى -: "من لَم يفعلْ سائر المعروف ولم يَنْتَه عن سائر المناكير، فإنَّ فرْضَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غيرُ ساقط عنه"[13].







وقال القُرطبي - رحمه الله تعالى -: "اعْلَم - وفَّقكَ الله تعالى - أنَّ التوبيخ في الآية بسبب ترك فِعْل البِرِّ، لا بسبب الأمر بالبر"[14].







وقال النَّووي - رحمه الله تعالى -: "قال العلماء: ولا يُشترط في الآمر والنَّاهي أن يكون كامِلَ الحال ممتثلاً ما يأمر به، مجتنبًا ما يَنهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مُخلاًّ بما يَأمر به، والنَّهي وإن كان متلبِّسًا بما ينهى عنه"[15].







وقال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "فكلٌّ من الأمر بالمعروف وفِعْله واجبٌ لا يَسقط أحدُهما بترْك الآخَر على أصحِّ قوْلَي العلماء من السَّلف والخَلَف، وذهب بعضُهم إلى أنَّ مُرتكب المعاصي لا يَنهى غيره عنها، وهذا ضعيف... والصَّحيح أن العالِم يأمر بالمعروف وإنْ لم يفعله، ويَنهى عن المنكر وإنِ ارتَكَبَه"[16].







ونقل الحافظُ ابن حجَر عن بعض أهل العلم قولَه: "يجب الأمر بالمعروف لمن قَدر عليه ولم يَخَفْ على نفسه منه ضررًا، ولو كان الآمرُ متلبِّسًا بالمعصية؛ لأنَّه في الجملة يؤْجَر على الأمر بالمعروف، ولا سيِّما إن كان مُطاعًا، وأما إثْمه الخاصُّ به فقد يغفره الله - تعالى - له، وقد يُؤاخِذه به"[17].







وقال الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: "فالحقُّ أنَّ الأمر بالمعروف غيرُ ساقط عن صالح ولا طالح، والوعيد على المعصية لا على الأمر بالمعروف؛ لأنَّه في حدِّ ذاته ليس فيه إلا الخير"[18].







وأما الآثار الواردة عن ابن عبَّاس والنَّخعي وغيرهما فهي غير ثابتة، فإنْ ثبَت شيء منها أو ثبت مِثلها عن بعض السَّلَف، فتُحمَل على التَّشديد في إتْباع العلم العمل، والتَّرهيب من مخالفة القول للفعل، فإنْ ثبَت أنَّ أحدًا عمل بهذه الآثار فهو اجتهاد في مقابل النُّصوص لا يُتابَع عليه صاحبُه؛ إذ يجب على المتلبِّس بالمعصية أن يَنهى الناس عنها، كما يجب على المقصِّر في الطاعة أن يأمر الناس بها، وإلاَّ جمَع إثمَيْن: إثم التلبُّس بالمعصية والتَّقصير في الطَّاعة، مع إثْم تعطيل الأمْر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وقد نُقل عن السَّلَف ما يُقابل الآثار السَّابقة، ومن ذلك:



1- قول أبي الدرداء - رضي الله عنه -: "إنِّي لآمُرُكم بالأمر وما أفعله، ولكنِّي أرجو فيه الأجر"[19].







ويُحمل قوله - رضي الله تعالى عنه - على بعض المندوبات؛ لأنَّ الإنسان مهما بَلَغ فلا يستطيع أن يأتيَ بالسُّنَن كلِّها لا يَفُوته منها شيء، فكان يأمر بأنواعٍ من المندوبات لا يتمكَّن مِن فِعلها.







2- قول عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى -: "لو أنَّ المرء لم يَعِظ أخاه حتىَّ يحكم نفسه ويكمل في الذي خُلِق له لعبادة ربِّه، إذًا تواكل الناسُ بالخير، وإذًا يُرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستُحِلَّت المحَارم، وقلَّ الواعظون والسَّاعون لله بالنصيحة في الأرض"[20].







3- قول سعيد بن جبير - رحِمَهُ الله تعالى -: "لو كان المرْءُ لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر؛ حتىَّ لا يكون فيه شيء، ما أَمَر أحد بمعروف ولا نهَى عن مُنكر، قال مالك: وصَدَق، مَن ذا الذي ليس فيه شيء؟!"[21].







4 - قول الحسَن لِمُطرف - رحمهما الله تعالى -: "عِظْ أصحابك، فقال: إنِّي أخاف أن أقول ما لا أفعل، قال: يرحمك الله، وأيُّنا يَفعل ما يقول؟ ويَوَدُّ الشيطان أنَّه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحدٌ بمعروف، ولم ينْهَ عن منكر"[22].








المسألة الثالثة:
قد يتلَبَّس الخطيب بمعصية مثل: ترْكِ واجب كصِلَة الرَّحِم، أو فِعْل محرَّم كقطيعتها، فهل له أن يُؤجِّل الكلام عنها حتى يَتُوب من معصيته؛ لأنه متلبِّس بها؟ أم يبادر إلى إنكارها ولو لم يَتُب منها؟









الذي يظهر - والله تعالى أعلم - أنَّ ذلك مَنُوط بحاجة الناس، فإذا احتاجوا إلى العلم بها والتنبيه عليها، فلا يُؤخِّر الحديثَ عنها إلى أن يَتُوب؛ لما يلي:



1- عموم نصوص الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والدَّعوة إلى الله - تعالى - فليس في شيء منها تأجيلُ الأمر والنهي الشَّرعيِّيَن لمخالفة الآمر والناهي ما يقول، وإنما فيها ذمُّ مَن فعل ذلك كما مضى، وذمُّه لعدم انتفاعه بالخير الذي يدعو إليه لا لدعوته.







2- قول النبي - صلى الله عليه وسلَّم - تعليقًا على الذي قتَل نفْسَه في غزوة خيبر: ((لا يدْخل الْجنَّة إلاَّ مؤْمنٌ، وإن الله ليؤيِّد هذا الدِّين بالرجل الفاجر))[23]، ومنه نصْرُ أبي طالب للنبي - صلى الله عليه وسلَّم - مع أنه من أهل النار، فالله - تعالى - إذا كان قد أيَّد الدِّين ببعض الكفار، فتأييده بمسلمين متلبِّسين بالمعاصي أولى.







3- أن الخُطبة شُرِعت لمعالجة ما يَحتاج الناس من موضوعات، فلا يَعْدِل الخطيب عن حِكمة ذلك لعلَّة فيه.







4- أنَّ دعوته إلى طاعة قَصَّر هو فيها، أو نَهْيه عن معصية وقَع هو فيها، طاعة وقُرْبة تُقرِّب إلى الله - تعالى - فلا يؤخِّر الطاعة؛ للأمر بالاستباق إلى الخيرات، ولعلَّها تكون كفَّارة لذنبه، فقد قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114]، وفي الحديث: ((وأتْبع السيِّئةَ الحسَنةَ تَمْحُها))[24]، أو لعلَّه يُرزق بسببها التوبة من ذنبه؛ لما يقوم في قلبه من الخجَل والحياء من الله - تعالى - أو لِتَأثُّره بما ألقى على الناس من موعظة، أو لتأثُّره بتأثير خطبته في الناس، فيرى فضل الله - تعالى - عليه بانقياد الناس له في هذا الأمر، فتدعوه نفسه لأنْ يكون أول المُمْتثِلين.







وعلى الخطيب أن يجاهد نفسه على ما يلي:



1- خشية الله - تعالى - بالغيب؛ فإنَّ الخطيب مُذكِّر بكلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلَّم - فأَوْلَى أن يكون أوَّل متَّعِظ به، وقد خاطب الله - تعالى - نبيَّه محمَّدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال - سبحانه -: ﴿ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴾ [يس: 11].







2- الحَذَر من معاصي السِّرِّ، والإصرارِ عليها، فإنها سُلَّم يَهبِط بالعبد إلى نفَقِ النِّفاق المظْلِم، وهي سببٌ لذهاب الحسنات؛ كما في حديث ثَوْبَانَ - رضي الله عنه - عن النبي أنَّهُ قال: ((لأَعْلمن أقْوامًا من أُمَّتي يأْتون يوم الْقيامة بحسناتٍ أمْثال جبال تهامة بيضًا، فيجْعلها الله - عز وجل - هباءً منْثورًا))، قال ثوْبان: يا رسول الله، صِفْهم لنا، جَلِّهمْ لنا؛ أنْ لا نكون منهم ونحْن لا نعْلم، قال: ((أمَا إنَّهمْ إخْوانُكم ومِنْ جِلْدتكم، ويأْخذون من الليْل كما تأْخذون، ولكنهمْ أقْوامٌ إذا خَلَوْا بمحارم الله انْتهَكُوها))[25].







3- اللُّجوء إلى الله - تعالى - بالدُّعاء، والإخبات والاستغفار، وسؤاله الثَّبات على الدِّين، مع الخوف الشديد من عاقبة ذنبه.







4- الإكثار من الأعمال الصالحة المكَفِّرة؛ قال الله - تعالى -: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114].







5- وعلى الخطيب أن يَحْذَر من كثرة مخالفة فعله لقوله، وتعدُّد ذنوبه، وإصراره عليها، واستهانته بها؛ لئلاَّ يقع في النِّفاق، أو يُرْدِيه الشيطان إلى الانتكاس.







فِعْل الواجبات والانتهاء عن المحرَّمات:



وهذا واجب على كلِّ مسْلِم، فيُثاب على فِعْل الواجبات، ويستحِقُّ العقاب على تَرْكها، كما يُثاب على اجتناب المحرَّمات ويستحقُّ العقاب على فِعْلها، لكن هذا الواجب يكون على الخُطَباء آكَدَ من عامَّة الناس؛ لأُمُور، منها:



1- ما علَّمَهم الله - تعالى - من حُكم الواجب والمحرَّم، فهُم من أُولِي العلم، وأولو العلم أعلم بالأحكام من غيرهم، ومِنْ شُكرهم لله - تعالى - على ما علَّمَهم من الأحكام العملُ بما علموا، قال الله - تعالى -: ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113].







وأُمرنا أن نَذكر الله - تعالى - ونكبِّره على ما علَّمَنا وهدانا إليه من أحكام دِينه، ونشكره - عزَّ وجلَّ - على ذلك؛ قال الله - تعالى -: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 239]، وقال - سبحانه -:﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].







2- أنَّهم قُدْوة الناس، وصفوة المُجتمَعات، ويَنظُر إليهم غيرُهم ويقلِّدونهم في أفعالهم، فإذا كانوا يَنتهكون حرمة الشَّرع بتعطيل الواجبات، وفِعْل المحرَّمات كان غيرُهم أولى أن يَنتهكوها، وقد ذمَّ الله - تعالى - أهْلَ الكتاب بذلك، فقال - سبحانه -: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ [آل عمران: 70].







3- أنهم يَدْعون الناس إلى فعل الواجب، والانتهاء عن المحرَّم، ولا يَقبل الناس دعوتهم إن رَأَوهم مخالِفِين ما يَدْعون إليه؛ فيكون فِعْلُهم فتنة للنَّاس، وصدًّا لهم عن دين الله - تعالى - والصدِّ عن دين الله - تعالى - يكون بالفعل كما يكون بالقول، ومن الصدِّ بالفعل مخالفةُ الخطيب ما يدعو الناس إليه.







4- أنَّهم بِمُخالفة أقوالهم أفعالهم يشوِّهون سُمْعة الدُّعاة والخُطَباء وأهل الخير عند الناس، ويتسبَّبون في فرْيِ أعراضهم، والكلام السيِّئ فيهم، قال سُفيان بن عُيَينة - رحمه الله تعالى -: "لا ينبغي للواعظ أن يذمَّ نفسه عند الموعوظين، ألم تسمع إلى قول شعيب - عليه السَّلام -: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ [هود: 88]؟"[26].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 136.06 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 134.38 كيلو بايت... تم توفير 1.68 كيلو بايت...بمعدل (1.24%)]