تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 29 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الوصايا النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 34 - عددالزوار : 12818 )           »          مختصر تاريخ تطور مدينة القاهرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          العقيدة اليهودية والسيطرة على العالم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          حاجتنا إلى النضج الدعوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          نصائح وضوابط إصلاحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 57 - عددالزوار : 26756 )           »          وهو يتولى الصالحين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          إعانة الفقيه بتيسير مسائل ابن قاسم وشروحه وحواشيه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 44 - عددالزوار : 14266 )           »          عطاءات المتقين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          علاج العشق من كلام ابن الجوزي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          العلمانية المختبئة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #281  
قديم 14-04-2022, 11:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (279)

سُورَةُ طه
صـ 40 إلى صـ 46



الأمر الثاني أنه عرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظة لا يفلح يراد بها الكافر ، كقوله تعالى في سورة " يونس " : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 68 - 70 ] ، وقوله في " يونس " أيضا : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون [ 10 17 ] ، وقوله [ ص: 40 ] في " الأنعام " : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون [ 6 21 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

ويفهم من مفهوم مخالفة الآيات المذكورة : أن من جانب تلك الصفات التي استوجبت نفي الفلاح عن السحرة ، والكفرة غيرهم أنه ينال الفلاح ، وهو كذلك ، كما بينه جل وعلا في آيات كثيرة . كقوله : أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [ 2 5 ] ، وقوله تعالى : قد أفلح المؤمنون [ 23 1 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا يفلح الساحر مضارع أفلح بمعنى نال الفلاح . والفلاح يطلق في العربية على الفوز بالمطلوب . ومنه قول لبيد :


فاعقلي إن كنت لما تعقلي ولقد أفلح من كان عقل


فقوله " ولقد أفلح من كان عقل " يعني أن من رزقه الله العقل فاز بأكبر مطلوب . ويطلق الفلاح أيضا على البقاء ، والدوام في النعيم . ومنه قول لبيد :


لو أن حيا مدرك الفلاح لناله ملاعب الرماح


فقوله " مدرك الفلاح " يعني البقاء . وقول الأضبط بن قريع السعدي ، وقيل كعب بن زهير :


لكل هم من الهموم سعه والمسي والصبح لا فلاح معه


عنى أنه ليس مع تعاقب الليل ، والنهار بقاء . وبكل واحد من المعنيين فسر بعض أهل العلم " حي على الفلاح " في الأذان ، والإقامة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : حيث أتى حيث كلمة تدل على المكان ، كما تدل حينا على الزمان ، ربما ضمنت معنى الشرط . فقوله : ولا يفلح الساحر حيث أتى أي : حيث توجه وسلك . وهذا أسلوب عربي معروف يقصد به التعميم . كقولهم : فلان متصف بكذا حيث سار ، وأية سلك ، وأينما كان . ومن هذا القبيل قول زهير :


بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا وزودوك اشتياقا أية سلكوا


وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : ولا يفلح الساحر حيث أتى أي : لا يفوز ، ولا ينجو حيث أتى من الأرض . وقيل : حيث احتال . والمعنى في الآية هو [ ص: 41 ] ما بينا ، والله تعالى أعلم .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى : اعلم أن السحر يطلق في اللغة على كل شيء خفي سببه ولطف ودق . ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء : أخفى من السحر . ومنه قول مسلم بن الوليد الأنصاري :


جعلت علامات المودة بيننا مصائد لحظ هن أخفى من السحر فأعرف منها الوصل في لين طرفها
وأعرف منها الهجر في النظر الشزر


ولهذا قيل لملاحة العينين : سحر . لأنها تصيب القلوب بسهامها في خفاء . ومنه قول المرأة التي شببت بنصر بن حجاج السلمي :


وانظر إلى السحر يجري في لواحظه وانظر إلى دعج في طرفه الساجي


المسألة الثانية : اعلم أن السحر في الاصطلاح لا يمكن حده بحد جامع مانع . لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته ، ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعا لها مانعا لغيرها . ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافا متباينا .
المسألة الثالثة : اعلم أن الفخر الرازي في تفسيره قسم السحر إلى ثمانية أقسام :

القسم الأول : سحر الكلدانيين ، والكسدائيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب ، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ، ومنها تصدر الخيرات ، والشرور ، والسعادة ، والنحوسة ، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلا لمقالتهم ورادا عليهم . وقد أطال الكلام في هذا النوع من السحر .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ومعلوم أن هذا النوع من السحر كفر بلا خلاف . لأنهم كانوا يتقربون فيه للكواكب كما يتقرب المسلمون إلى الله ، ويرجون الخير من قبل الكواكب ويخافون الشر من قبلها كما يرجو المسلمون ربهم ويخافونه . فهم كفرة يتقربون إلى الكواكب في سحرهم بالكفر البواح .

[ ص: 42 ] النوع الثاني من السحر : سحر أصحاب الأوهام ، والنفوس القوية . ثم استدل على تأثير الوهم بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض ، ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدودا على نهر أو نحوه قال : وما ذاك إلا أن تخيل السقوط متى قوي أوجبه . وقال : واجتمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر ، والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان ، والدوران . وما ذاك إلا أن النفوس خلقت مطيعة للأوهام .

قال : وحكى صاحب الشفاء عن أرسطو في طبائع الحيوان : أن الدجاجة إذا تشبهت كثيرا بالديكة في الصوت وفي الحراب مع الديكة نبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك ، قال : ثم قال صاحب الشفاء : وهذا يدل على أن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية . قال : واجتمعت الأمم على أن الدعاء اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليل العمل عديم الأثر . فدل ذلك على أن للهمم والنفوس آثارا . . . إلى آخر كلامه في هذا النوع من أنواع السحر ، وقد أطال فيه الكلام .

ومعلوم أن النفوس الخبيثة لها آثار بإذن الله تعالى ، ومن أصرح الأدلة الشرعية في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين " . وهذا الحديث الصحيح يدل على أن همة العائن وقوة نفسه في الشر جعلها الله سببا للتأثير في المصاب بالعين .

وقال الرازي في هذا النوع من أنواع السحر : إذا عرفت هذا فنقول : النفوس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جدا فتستغني في هذه الأفعال عن الاستعانة بالآلات ، والأدوات ، وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات . وتحقيقه : أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السماء كانت كأنها روح من الأرواح السماوية ، فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم ، أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف البتة إلا في هذا البدن . إلى آخر كلامه . ولا يخفى ما فيه على من نظره .

وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره في سورة " البقرة " بعد أن ساق كلام الرازي الذي ذكرناه آنفا ما نصه : ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء ، والانقطاع عن الناس . قلت : وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال وهو على قسمين : تارة يكون حالا صحيحة شرعية ، يتصرف بها فيما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ويترك ما نهى الله تعالى عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - : فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى ، وكرامات للصالحين من هذه [ ص: 43 ] الأمة ، ولا يسمى هذا سحرا في الشرع . وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله تعالى به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يتصرف بها في ذلك . فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة ، ولا يدل إعطاء الله إياهم هذه الأحوال على محبته لهم . كما أن الدجال له من خوارق العادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة ، مع أنه مذموم شرعا لعنه الله . وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى .

النوع الثالث من أنواع السحر المذكورة : الاستعانة بالأرواح الأرضية ، يعني تسخير الجن واستخدامهم . قال :

واعلم أن القول بالجن مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة ، والمعتزلة . أما أكابر الفلاسفة فلم ينكروا القول بها . إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية . والجن المذكورون قسمان : مؤمنون ، وكافرون وهم الشياطين .

قال الرازي في كلامه على هذا النوع من السحر : واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينهما من المناسبة ، والقرب . ثم إن أصحاب الصنعة وأصحاب التجربة شاهدوا بأن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة من الرقى ، والدخن ، والتجريد . وهذا النوع هو المسمى بالعزائم ، وعمل تسخير الجن . وقد أطال الرازي أيضا الكلام في هذا النوع من أنواع السحر .

النوع الرابع من أنواع السحر : هو التخيلات ، والأخذ بالعيون . ومبنى هذا النوع منه على أن القوة الباصرة قد ترى الشيء على خلاف ما هو عليه في الحقيقة لبعض الأسباب العارضة . ولأجل هذا كانت أغلاط البصر كثيرة . ألا ترى أن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى السفينة واقفة ، والشط متحركا ، وذلك يدل على أن الساكن يرى متحركا . والمتحرك ساكنا . والقطرة النازلة ترى خطا مستقيما . إلى آخر كلام الرازي . وقد أطال الكلام أيضا في هذا النوع .

وقال ابن كثير في تفسيره في سورة " البقرة " مختصرا كلام الرازي المذكور : ومبناه على أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره . ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ، ويأخذ عيونهم إليه ، حتى إذا استغرقهم الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه عمل شيئا آخر عملا بسرعة شديدة ، وحينئذ ، يظهر لهم شيء غير ما انتظروه فيتعجبون منه جدا ، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما [ ص: 44 ] يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون لكل ما يفعله . قال : وكلما كانت الأحوال تفيد حس البصر نوعا من أنواع الخلل أشد ، كان العمل أحسن . مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدا أو مظلم ، فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها ، والحالة هذه . ا ه منه .

ولا يخفى أن يكون سحر سحرة فرعون من هذا النوع . فهو تخييل وأخذ بالعيون كما دل عليه قوله تعالى : فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى [ 20 66 ] فإطلاق التخييل في الآية على سحرهم نص صريح في ذلك . وقد دل على ذلك أيضا قوله في " الأعراف " : فلما ألقوا سحروا أعين الناس [ 7 116 ] . لأن إيقاع السحر على أعين الناس في الآية يدل على أن أعينهم تخيلت غير الحقيقة الواقعة ، والعلم عند الله تعالى .

النوع الخامس من أنواع السحر : الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية ، كفارس على فرس في يده بوق ، كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد . ومنها الصور التي يصورها الروم ، والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان ، حتى إنهم يصورونها ضاحكة وباكية ، حتى يفرق فيها بين ضحك السرور ، وبين ضحك الخجل ، وضحك الشامت .

فهذه الوجوه من لطيف أمور المخايل . قال الرازي : وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب . ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات . ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال ، وهو أن يجر ثقيلا عظيما بآلة خفيفة سهلة ، وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر لأن لها أسبابا معلومة نفيسة ، من اطلع عليها قدر عليها ، إلا أن الاطلاع عليها لما كان عسيرا عد أهل الظاهر ذلك من باب السحر لخفاء مأخذه ا ه .

وقد علمت أن الرازي يرى أن سحر سحرة فرعون من هذا النوع الأخير ، لأن السحرة جعلوا الزئبق على الحبال ، والعصي فحركته حرارة الشمس فتحركت الحبال والعصي فظنوا أنها حركة طبيعية حقيقية . والذي يظهر لنا أنه من النوع الذي قبله كما قدمنا ، ولا مانع من أن يتوارد نوعان على شيء واحد فيكون داخلا في هذا وفي هذا . والله تعالى أعلم .

وقال ابن كثير بعد أن ذكر كلام الرازي الذي ذكرنا في هذا النوع من السحر . قلت : ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار ، كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببيت المقدس ، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى [ ص: 45 ] الكنيسة ، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام منهم ، وأما الخواص منهم فمعترفون بذلك ، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم ، فيرون ذلك سائغا لهم ، وفيهم شبه من الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب ، والترهيب ، فيدخلون في عداد من قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " ، وقوله : " حدثوا عني ، ولا تكذبوا علي ، فإنه من يكذب علي يلج النار " . ثم ذكرها هنا - يعني الرازي - حكاية عن بعض الرهبان ، وهي أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ، ضعيف الحركة ، فإذا سمعته الطيور ترق له فتذهب في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به ، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله وتوصل إلى أن جعله أجوفا ، فإذا دخلته الريح سمع منه صوت كصوت ذلك الطائر . وانقطع في صومعة ابتناها ، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم ، وعلق ذلك الطائر في مكان منها ، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابا من ناحيته فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضا ، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئا كثيرا فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة ، ولا يدرون ما سببه . ففتنهم بذلك وأوهمهم أن هذا من كرامات صاحب ذلك القبر ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة انتهى كلام ابن كثير .

وذكر الرازي في هذه المسألة التي نقلها عنه ابن كثير : أن ذلك الطائر المذكور يسمى البراصل ، وأن الذي عمل صورته يسمى أرجعيانوس الموسيقار ، وأنه جعل ذلك على هيكل أورشليم العتيق عند تجديده إياه ، وأن الذي قام بعمارة ذلك الهيكل أولا أسطرخس الناسك .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وهذا النوع الخامس الذي عده الرازي من أنواع السحر ، الذي هو الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية . . . إلخ لا ينبغي عده اليوم من أنواع السحر . لأن أسبابه صارت واضحة متعارفة عند الناس ، بسبب تقدم العلم المادي . والواضح الذي صار عاديا لا يدخل في حد السحر ، وقد كانت أمور كثيرة خفية الأسباب فصارت اليوم ظاهرتها جدا . والله تعالى أعلم .

النوع السادس من أنواع السحر : الاستعانة بخواص الأدوية ، مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية المبلدة المزيلة للعقل ، والدخن المسكرة نحو دماغ الحمار إذا تناوله [ ص: 46 ] الإنسان تبلد عقله ، وقلت فطنته ، قاله الرازي . ثم قال : واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص : فإن أثر المغناطيس مشاهد إلا أن الناس قد أكثروا فيه وخلطوا الصدق بالكذب ، والباطل بالحق . ا ه كلام الرازي .

وقال ابن كثير بعد أن ذكر هذا النوع من السحر نقلا عن الرازي : قلت : يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ، ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص مدعيا أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحاولات . انتهى كلام ابن كثير .

النوع السابع من أنواع السحر المذكور : تعليق القلب ، وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم ، وأن الجن يطيعون وينقادون له في أكثر الأحوال : فإذا اتفق أن كان السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق : وتعلق قلبه بذلك : حصل في نفسه نوع من الرعب ، والمخافة : وإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة : فحينئذ يتمكن الساحر من أن يفعل ما يشاء . قال الرازي : وإن من جرب الأمور وعرف أحوال أهل العلم علم أن لتعلق القلب أثرا عظيما في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار .

وقال ابن كثير بعد أن نقل هذا النوع من السحر عن الرازي : هذا النمط يقال له التنبلة ، وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم . وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه . فإذا كان النبيل حاذقا في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره .

النوع الثامن من أنواع السحر : السعي بالنميمة ، والتضريب من وجوه لطيفة خفية وذلك شائع في الناس ا ه . والتضريب بين القوم : إغراء بعضهم على بعض .

وقال ابن كثير بعد أن نقل هذا النوع الأخير عن الرازي قلت : النميمة على قسمين : تارة تكون على وجه التحريش بين الناس ، وتفريق قلوب المؤمنين . فهذا حرام متفق عليه . فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس ، وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث " ليس الكذاب من ينم خيرا " أو يكون على وجه التخذيل ، والتفريق بين جموع الكفرة ، فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث " الحرب خدعة " ، وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين قريظة ، جاء إلى هؤلاء ونمى إليهم عن هؤلاء ، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئا آخر ، ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت . وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة . والله المستعان .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #282  
قديم 15-04-2022, 12:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (280)

سُورَةُ طه
صـ 47 إلى صـ 53




[ ص: 47 ] ثم قال الرازي : فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه .

قلت : وإنما أدخل كثيرا من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها . لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي سببه ، ولهذا جاء في الحديث " إن من البيان لسحرا " وسمي السحور سحورا لكونه يقع خفيا آخر الليل . والسحر : الرئة وهي محل الغذاء ، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه ، كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة : أنتفخ سحره ؟ أي : أنتفخت رئته من الخوف ؟

وقالت عائشة رضي الله عنها : توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سحري ونحري . وقال تعالى : سحروا أعين الناس [ 7 116 ] أي : أخفوا عنهم عملهم ، انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى .

هذا هو حاصل الأقسام الثمانية التي ذكر الفخر الرازي في تفسيره في سورة " البقرة " انقسام السحر إليها . ولأهل العلم فيه تقسيمات متعددة يرجع غالبها إلى هذه الأقسام المذكورة وقد قسمه الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي صاحب التآليف العديدة المفيدة في نظمه المسمى ( رشد الغافل ) وشرحه له ، الذي بين فيه أنواع علوم الشر لتتقى وتجتنب إلى أقسام متعددة :

( منها ) قسم يسمى ( بالهيمياء ) بكسر الهاء بعدها مثناة تحتية فميم فياء بعدها ألف التأنيث الممدودة ، على وزن كبرياء . قال : وهو ما تركب من خواص سماوية تضاف لأحوال الأفلاك ، يحصل لمن عمل له شيء من ذلك أمور معلومة عند السحرة ، وقد يبقى له إدراك ، وقد يسلبه بالكلية فتصير أحواله كحالات النائم من غير فرق ، حتى يتخيل مرور السنين الكثيرة في الزمن اليسير وحدوث الأولاد وانقضاء الأعمار ، وغير ذلك في ساعة ونحوها من الزمن اليسير . ومن لم يعمل له ذلك لا تجد شيئا مما ذكر . وهذا تخييل لا حقيقة له اه .

( ومنها ) نوع يسمى ( بالسيمياء ) بكسر السين المهملة وبقية حروفه كحروف ما قبله . قال : وهو عبارة عما تركب من خواص أرضية كدهن خاص ، أو مائعات خاصة يبقى معها إدراك ، وقد يسلب بالكلية إلى آخر ما تقدم في الهيمياء .

( ومنها ) : نوع هو رقى ضارة . قال : كرقى الجاهلية وأهل الهند ، وربما كانت كفرا . قال : ولهذا نهى مالك عن الرقى بالعجمية . وقال ابن زكريا في شرح ( النصيحة ) : ولا يقال لما يحدث ضررا رقى ، بل ذلك يقال له سحر .

[ ص: 48 ] ( ومنها ) : قسم يسمى خصائص بعض الحقائق التي لها تسلط على النفوس . كالمشط ، والمشاقة وجف طلع الذكر من النخل ، وقصة جعل اليهودي الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر في سحره مشهورة . وسيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله تعالى .

ومن أمثلة هذا النوع عند أهله : أن بعض أنواع الكلاب من شأنه إذا رمي بحجر أن يعضه ، فإذا رمي بسبع حجارة وعض كل واحدة منها وطرحت تلك الحجارة في ماء فمن شرب منه فإن السحرة يزعمون أن تظهر فيه آثار مخصوصة معروفة عندهم . قبحهم الله تعالى .

( ومنها ) : نوع يسمى ( بالطلاسم ) وهو عبارة عن نقش أسماء خاصة لها تعلق بالأفلاك والكواكب على زعم أهلها في جسم من المعادن أو غيرها ، تحدث بها خاصية ربطت في مجاري العادات ، ولا بد مع ذلك من نفس صالحة لهذه الأعمال . فإن بعض النفوس لا تجري الخاصة المذكورة على يده .

( ومنها ) : نوع يسمى ( بالعزائم ) وهم يزعمون أن لكل نوع من الملائكة أسماء أمروا بتعظيمها ، ومتى أقسم عليهم بها أطاعوا وأجابوا وفعلوا ما طلب منهم ا هـ ، ولا يخفى ما في هذا الزعم من الفساد .

( ومنها ) : نوع يسمونه الاستخدام للكواكب ، والجن . وأهل الاستخدمات يزعمون أن للكواكب إدراكات روحانية . فإذا قوبلت الكواكب ببخور خاص ولباس خاص على الذي يباشر البخور ، كانت روحانية فلك الكواكب مطيعة له ، متى ما أراد شيئا فعلته له على زعمهم لعنهم الله تعالى . وهذا النوع من سحر الكلدانيين المتقدم . وكذلك ملوك الجان يزعمون أنهم إذا عملوا لهم أشياء خاصة بكل ملك من ملوكهم أطاعوا وفعلوا لهم ما أرادوا . قال : وشروط هذه الأمور مستوعبة في كتبهم . وذكر من علوم الشر أنواعا كثيرة : كالخط ، والأشكال ، والموالد ، والقرعة ، والفأل ، وعلم الكتف ، والموسيقى ، والرعدي ، والكهانة ، وغير ذلك .

والخط الرملي معروف . والأشكال جمع شكل ، ويسمى علمها علم الجداول وعلم الأوفاق ، وهي معروفة وهي من الباطل .

والموالد جمع مولد ، وهي أن يدعي من معرفة النجم الذي كان طالعا عند ولادة الشخص أنه يكون سلطانا أو عالما ، أو غنيا أو فقيرا ، أو طويل العمر أو قصيره ، ونحو ذلك .

[ ص: 49 ] والقرعة ما يسمونه قرعة الأنبياء ، وحاصلها جدول مرسوم في بيوته أسماء الأنبياء وأسماء الطيور . وبعد الجدول تراجم ، لكل اسم ترجمة خاصة به ، ويذكر فيها أمور من المنافع ، والمضار ، يقال للشخص غمض عينيك وضع أصبعك في الجدول . فإذا وضعها على اسم قرئت له ترجمته ليعتقد أنه يكون له ذلك المذكور منها . قال : وقد عدها العلماء من باب الاستقسام بالأزلام .

ومراده بالفأل : الفأل المكتسب . كأن يريد إنسان التزوج أو السفر مثلا ، فيخرج ليسمع ما يفهم منه الإقدام أو الإحجام ، ويدخل فيه النظر في المصحف لذلك : ولا يخفى أن ذلك من نوع الاستقسام بالأزلام . أما ما يعرض من غير اكتساب كأن يسمع قائلا يقول : ما مفلح ، فليس من هذا القبيل كما جاءت به الأحاديث الصحيحة .

وعلم الكتف : علم يزعم أهل الشر ، والضلال أن من علمه يكون إذا نظر في أكتاف الغنم اطلع على أمور من الغيب ، وربما زعم المشتغل به أن السلطان يموت في تاريخ كذا ، وأنه يطرأ رخص أو غلاء أو موت الأعيان كالعلماء ، والصالحين ، وقد يذكر شأن الكنوز أو الدفائن ، ونحو ذلك . والموسيقى معروفة ، وكلها من الباطل كما لا يخفى على من له إلمام بالشرع الكريم .

والرعديات : علم يزعم أهله أن الرعد إذا كان في وقت كذا من السنة والشهر فهو علامة على أمور غيبية من جدب وخصب ، وكثرة الرواج في الأسواق وقلته ، وكثرة الموت وهلاك الماشية ، وانقراض الملك ونحو ذلك . والفرق بين العرافة والكهانة مع أنهما يشتركان في دعوى الاطلاع على الغيب : أن العرافة مختصة بالأمور الماضية ، والكهانة مختصة بالأمور المستقبلة ا ه منه .

وعلوم الشر كثيرة ، وقصدنا بذكر ما ذكرنا منها التنبيه على خستها وقبحها شرعا ، وأن منها ما هو كفر بواح ، ومنها ما يؤدي إلى الكفر ، وأقل درجاتها التحريم الشديد . وقد دل بعض الأحاديث ، والآثار على أن العيافة ، والطرق ، والطيرة من السحر . وقد قدمنا معنى ذلك في " الأنعام " وعنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس رضي الله عنه : " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد " رواه أبو داود بإسناد صحيح . وللنسائي من حديث أبي هريرة " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئا وكل إليه " .
[ ص: 50 ] المسألة الرابعة

اختلف العلماء في السحر هل هو حقيقة أو هو تخييل لا حقيقة له . والتحقيق أن منه ما هو حقيقة كما قدمنا ، ومنه ما هو تخييل كما تقدم إيضاحه . وهو مفهوم من أقسام السحر المتقدمة في كلام الرازي ، وغيره .
المسألة الخامسة

اختلف العلماء فيمن يتعلم السحر ويستعمله فقال بعضهم : إنه يكفر بذلك ، وهو قول جمهور العلماء منهم مالك ، وأبو حنيفة وأصحاب أحمد ، وغيرهم . وعن أحمد ما يقتضي عدم كفره . وعن الشافعي أنه إذا تعلم السحر قيل له صف لنا سحرك . فإن وصف ما يستوجب الكفر مثل سحر أهل بابل من التقرب للكواكب ، وأنها تفعل ما يطلب منها فهو كافر ، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر ، وإلا فلا . وأقوال أهل العلم في ذلك كثيرة معروفة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل . فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب ، والجن ، وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر فهو كفر بلا نزاع ، ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة " البقرة " فإنه كفر بلا نزاع . كما دل عليه قوله تعالى : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [ 2 102 ] ، وقوله تعالى : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر [ 2 102 ] ، وقوله : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق [ 2 102 ] ، وقوله تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى [ 20 69 ] كما تقدم إيضاحه . وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها فهو حرام حرمة شديدة ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر . هذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى في هذه المسألة التي اختلف فيها العلماء .
المسألة السادسة

اعلم أن العلماء اختلفوا في الساحر هل يقتل بمجرد فعله للسحر واستعماله له أو لا ؟ قال ابن كثير في تفسيره : قال ابن هبيرة : وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله له ؟ فقال مالك وأحمد : نعم . وقال الشافعي ، وأبو حنيفة : لا . فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه [ ص: 51 ] يقتل عند مالك ، والشافعي وأحمد . وقال أبو حنيفة : لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك ، أو يقر بذلك في حق شخص معين . وإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إلا الشافعي فإنه قال : يقتل ، والحالة هذه قصاصا .

وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته ؟ فقال مالك ، وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم : لا تقبل . وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى : تقبل التوبة .

وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم . وقال مالك والشافعي وأحمد : لا يقتل . يعني لقصة لبيد بن الأعصم .

واختلفوا في المسلمة الساحرة . فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ، ولكن تحبس . وقال الثلاثة : حكمها حكم الرجل . وقال أبو بكر الخلال : أخبرنا أبو بكر المروزي قال : قرأ على أبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري قال : يقتل ساحر المسلمين ، ولا يقتل ساحر المشركين . لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها . وقد نقل القرطبي عن مالك أنه قال في الذمي : يقتل إن قتل بسحره . وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر : إحداهما أنه يستتاب فإن أسلم وإلا قتل : والثانية أنه يقتل وإن أسلم .

وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرا كفر عند الأئمة الأربعة ، وغيرهم ، لقوله تعالى : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر [ 2 102 ] لكن قال مالك : إذا ظهر عليه لم تقبل توبته . لأنه كالزنديق فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاء تائبا قبلناه . فإن قتل سحره قتل . قال الشافعي فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى .

وقال النووي في شرح مسلم : وأما تعلمه وتعليمه فحرام ، فإن تضمن ما يقتضي الكفر كفر وإلا فلا . وإذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر واستتيب منه ، ولا يقتل عندنا ، فإن تاب قبلت توبته . وقال مالك : الساحر كافر يقتل بالسحر ، ولا يستتاب ، ولا تقبل توبته بل يتحتم قتله : والمسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق ، لأن الساحر عنده كافر كما ذكرنا ، وعندنا ليس بكافر ، وعندنا تقبل توبة المنافق ، والزنديق . وقال القاضي عياض : وبقول مالك قال أحمد بن حنبل ، وهو مروي عن جماعة من الصحابة ، والتابعين . قال أصحابنا : فإذا قتل الساحر بسحره إنسانا واعترف أنه مات بسحره وأنه يقتل غالبا لزمه القصاص . وإن قال مات به ولكنه قد يقتل وقد لا يقتل فلا قصاص ، وتجب الدية في ماله [ ص: 52 ] لا على عاقلته . لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجاني . وقال أصحابنا : ولا يتصور القتل بالسحر بالبينة ، وإنما يتصور باعتراف الساحر ، والله أعلم . انتهى كلام النووي .

وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على قول البخاري : ( باب السحر ) وقول الله تعالى : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [ 2 102 ] : وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر ، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها ، وهو التعبد للشياطين أو الكواكب . وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر من تعلمه أصلا .

قال النووي . عمل السحر حرام ، وهو من الكبائر بالإجماع ، وقد عده النبي - صلى الله عليه وسلم - من السبع الموبقات ، ومنه ما يكون كفرا . ومنه ما لا يكون كفرا ، بل معصية كبيرة . فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا . وأما تعلمه وتعليمه فحرام ، إلى آخر كلام النووي الذي ذكرناه عنه آنفا . ثم إن ابن حجة لما نقله عنه قال : وفي المسألة اختلاف كبير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها ا ه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق في هذه المسألة إن شاء الله تعالى أن السحر نوعان كما تقدم ؟ منه ما هو كفر ، ومنه ما لا يبلغ بصاحبه الكفر ، فإن كان الساحر استعمل السحر الذي هو كفر فلا شك في أنه يقتل كفرا ؟ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من بدل دينه فاقتلوه " .

وأظهر القولين عندي في استتابته أنه يستتاب ، فإن تاب قبلت توبته . وقد بينت في كتابي ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " آل عمران " أن أظهر القولين دليلا أن الزنديق تقبل توبته ؟ لأن الله لم يأمر نبيه ، ولا أمته - صلى الله عليه وسلم - بالتنقيب عن قلوب الناس ؟ بل بالاكتفاء بالظاهر . وما يخفونه في سرائرهم أمره إلى الله تعالى . خلافا للإمام مالك وأصحابه القائلين بأن الساحر له حكم الزنديق . لأنه مستمر بالكفر ، والزنديق لا تقبل توبته عنده إلا إذا جاء تائبا قبل الاطلاع عليه . وأظهر القولين عندي : أن المرأة الساحرة حكمها حكم الرجل الساحر وأنها إن كفرت بسحرها قتلت كما يقتل الرجل . لأن لفظة " من " في قوله : " من بدل دينه فاقتلوه " تشمل الأنثى على أظهر القولين وأصحهما إن شاء الله تعالى . ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى الآية [ 4 124 ] . فأدخل الأنثى في لفظة " من " وقوله تعالى : يانساء النبي من يأت منكن الآية [ 4 124 ] ، وقوله : ومن يقنت منكن لله الآية [ 33 30 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وإلى هذه المسألة التي هي شمول لفظة " من " في الكتاب ، والسنة [ ص: 53 ] للأنثى أشار في مراقي السعود بقوله :


وما شمول من للأنثى جنف وفي شيبه المسلمين اختلفوا


وأما إن كان الساحر عمل السحر الذي لا يبلغ بصاحبه الكفر ، فهذا هو محل الخلاف بين العلماء . فالذين قالوا يقتل ولو لم يكفر بسحره قال أكثرهم : يقتل حدا ولو قتل إنسانا بسحره ، وانفرد الشافعي في هذه الصورة بأنه يقتل قصاصا لا حدا .

وهذه حجج الفريقين ومناقشتها :

أما الذين قالوا مطلقا إذا عمل بسحره ولو لم يقتل به أحدا فاستدلوا بآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ، وبحديث جاء بذلك إلا أنه لم يصح . فمن الآثار الدالة على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب ( الجهاد في باب الجزية ) : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان قال : سمعت عمرا قال : كنت جالسا مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس فحدثهما بجالة سنة سبعين عام حج مصعب بن الزبير بأهل البصرة عند درج زمزم قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف ، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة : اقتلوا كل ساحر ، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس قال : فقتلنا في يوم واحد ثلاث سواحر وفرقنا بين المحارم منهم . ورواه أيضا أحمد ، وأبو داود . واعلم أن لفظة " اقتلوا كل ساحر " إلخ في هذا الأثر ساقطة في بعض روايات البخاري ، ثابتة في بعضها ، وهي ثابتة في رواية مسدد وأبي يعلى . قاله في الفتح .

ومن الآثار الدالة على ذلك أيضا ما رواه مالك في الموطأ عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلت جارية لها سحرتها ، وقد كانت دبرتها فأمرت بها فقتلت . قال مالك : الساحر الذي يعمل السحر ولم يعمل ذلك له غيره هو مثل الذي قال الله تبارك وتعالى في كتابه : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق [ 2 102 ] فأرى أن يقتل ذلك إذا عمل ذلك من نفسه انتهى من الموطأ .

ونحوه أخرجه عبد الرزاق . ومن الآثار الدالة على ذلك ما رواه البخاري في تاريخه الكبير : حدثنا إسحاق . حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن أبي عثمان : كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنسانا وأبان رأسه ، فجاء جندب الأزدي فقتله . حدثني عمرو بن محمد ، حدثنا هشيم عن خالد عن أبي عثمان عن جندب البجلي : أنه قتله . حدثنا موسى قال حدثنا عبد الواحد عن عاصم عن أبي عثمان : قتله جندب بن كعب .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #283  
قديم 11-05-2022, 06:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (281)

سُورَةُ طه
صـ 54 إلى صـ 60




وفي ( فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ) للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن ، رحمه الله تعالى بعد أن أشار لكلام البخاري في [ ص: 54 ] التاريخ الذي ذكرنا ، ورواه البيهقي في الدلائل مطولا ، وفيه : فأمر به الوليد فسجن . فذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة انتهى منه .

فهذه آثار عن ثلاثة من الصحابة في قتل الساحر : وهم عمر وابنته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنهم جميعا ، وجندب ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . ويعتضد ذلك بما رواه للترمذي ، والدارقطني عن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حد الساحر ضربه بالسيف " . وضعف الترمذي إسناد هذا الحديث وقال : الصحيح عن جندب موقوف ، وتضعيفه بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو يضعف في الحديث . وقال في ( فتح المجيد ) أيضا في الكلام على حديث جندب المذكور : روى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يضرب ضربة واحدة فيكون أمة وحده " ا ه منه .

وقال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر تضعيفه بإسماعيل المذكور : قلت قد رواه الطبراني من وجه آخر ، عن الحسن عن جندب مرفوعا ا ه . وهذا يقويه كما ترى .

فهذه الآثار التي لم يعلم أن أحدا من الصحابة أنكرها على من عمل بها مع اعتضادها بالحديث المرفوع المذكور هي حجة من قال بقتله مطلقا . والآثار المذكورة والحديث فيهما الدلالة على أنه يقتل ولو لم يبلغ به سحره الكفر . لأن الساحر الذي قتله جندب رضي الله عنه كان سحره من نحو الشعوذة ، والأخذ بالعيون ، حتى إنه يخيل إليهم أنه أبان رأس الرجل ، والواقع بخلاف ذلك . وقول عمر " اقتلوا كل ساحر " يدل على ذلك لصيغة العموم . وممن قال بمقتضى هذه الآثار وهذا الحديث : مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد في أصح الروايتين ، وعمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وحفصة ، وجندب بن عبد الله ، وجندب بن كعب ، وقيس بن سعد ، وعمر بن عبد العزيز . وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن قدامة في ( المغني ) خلافا للشافعي ، وابن المنذر ومن وافقهما .

واحتج من قال : بأنه إن كان سحره لم يبلغ به الكفر لا يقتل بحديث ابن مسعود المتفق عليه " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث . . . " الحديث ، وقد قدمناه مرارا . وليس السحر الذي لم يكفر صاحبه من الثلاث المذكورة . قال القرطبي منتصرا لهذا القول : وهذا صحيح ، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف ، والله أعلم .

واحتجوا أيضا بأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها ، ولو وجب قتلها [ ص: 55 ] لما حل بيعها . قاله ابن المنذر ، وغيره . وما حاوله بعضهم من الجمع بين الأدلة المذكورة بحمل السحر على الذي يقتضي الكفر في قول من قال بالقتل ، وحمله على الذي لا يقتضي الكفر في قول من قال بعدم القتل لا يصح . لأن الآثار الواردة في قتله جاءت بقتل الساحر الذي سحره من نوع الشعوذة كساحر جندب الذي قتله ، وليس ذلك مما يقتضي الكفر المخرج من ملة الإسلام ، كما تقدم إيضاحه . فالجمع غير ممكن . وعليه فيجب الترجيح ، فبعضهم يرجح عدم القتل بأن دماء المسلمين حرام إلا بيقين . وبعضهم يرجح القتل بأن أدلته خاصة ، ولا يتعارض عام وخاص . لأن الخاص يقضي على العام عند أكثر أهل الأصول كما هو مقرر في محله .

قال مقيده - عفا الله عنه - : والأظهر عندي أن الساحر الذي لم يبلغ به سحره الكفر ولم يقتل به إنسانا أنه لا يقتل . لدلالة النصوص القطعية ، والإجماع على عصمة دماء المسلمين عامة إلا بدليل واضح . وقتل الساحر الذي لم يكفر بسحره لم يثبت فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والتجرؤ على دم مسلم من غير دليل صحيح من كتاب أو سنة مرفوعة غير ظاهر عندي . والعلم عند الله تعالى ، مع أن القول بقتله مطلقا قوي جدا لفعل الصحابة له من غير نكير .
المسألة السابعة

اعلم أن الناس اختلفوا في تعلم السحر من غير عمل به . هل يجوز أو لا ؟ ، والتحقيق وهو الذي عليه الجمهور : هو أنه لا يجوز ، ومن أصرح الأدلة في ذلك تصريحه تعالى بأنه يضر ولا ينفع في قوله : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم [ 2 102 ] وإذا أثبت الله أن السحر ضار ونفى أنه نافع فكيف يجوز تعلم ما هو ضرر محض لا نفع فيه ؟ !

وجزم الفخر الرازي في تفسيره في سورة " البقرة " بأنه جائز بل واجب . قال ما نصه :

( المسألة الخامسة ) في أن العلم بالسحر غير قبيح ، ولا محظور ، اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف ، وأيضا لعموم قوله تعالى : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ 39 9 ] ، ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة ، والعلم بكون المعجز معجزا واجب ، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب ، فهذا [ ص: 56 ] يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا ، وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا . انتهى منه بلفظه .

ولا يخفى سقوط هذا الكلام وعدم صحته . وقد تعقبه ابن كثير في تفسيره بعد أن نقله عنه بلفظه الذي ذكرنا بما نصه :

وهذا الكلام فيه نظر من وجوه : أحدها قوله : " العلم بالسحر ليس بقبيح " إن عنى به ليس بقبيح عقلا فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا ، وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعا ففي هذه الآية الكريمة يعني قوله تعالى ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم تبشيع لعلم السحر . وفي السنن " من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد " ، وفي السنن " من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر " وقوله " ولا محظور ، اتفق المحققون على ذلك " كيف لا يكون محظورا مع ما ذكرنا من الآية ، والحديث ، واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم . وأين نصوصهم على ذلك ! !

ثم إدخاله علم السحر في عموم قوله تعالى : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ 39 9 ] فيه نظر . لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي ، ولما قلت إن هذا منها ! ثم ترقيه إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ضعيف بل فاسد . لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .

ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلا . ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة ، والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز ، ويفرقون بينه وبين غيره ، ولم يكونوا يعلمون السحر ، ولا تعلموه ، ولا علموه ، والله أعلم . انتهى .

ولا يخفى أن كلام ابن كثير هذا صواب ، وأن رده على الرازي واقع موقعه ، وأن تعلم السحر لا ينبغي أن يختلف في منعه . لقوله جل وعلا : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم [ 2 102 ] . وقول ابن كثير في كلامه المذكور : وفي الصحيح " من أتى عرافا أو كاهنا . . إلخ " إن كان يعني أن الحديث بذلك صحيح فلا مانع ، وإن كان يعني أنه في الصحيحين أو أحدهما فليس كذلك . وبذلك كله تعلم أن قول ابن حجر في ( فتح الباري ) : وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأمرين : إما لتمييز ما فيه كفر من غيره . وإما لإزالته عمن وقع فيه .

فأما الأول : فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد ، فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء [ ص: 57 ] بمجرده لا تستلزم منعا . كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان . لأن كيفية ما يعلمه الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل ، بخلاف تعاطيه ، والعمل به .

وأما الثاني : فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا ، وإلا جاز للمعنى المذكور . ا ه خلاف التحقيق ، إذ ليس لأحد أن يبيح ما صرح الله بأنه يضر ، ولا ينفع ، مع أن تعلمه قد يكون ذريعة للعمل به ، والذريعة إلى الحرام يجب سدها كما قدمناه . قال في المراقي :


سد الذرائع إلى المحرم حتم كفتحها إلى المنحتم


هذا هو الظاهر لنا . والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثامنة

اعلم أن العلماء اختلفوا في حل السحر عن المسحور . فأجازه بعضهم ، ومنعه بعضهم . وممن أجازه سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى . قال البخاري في صحيحه ( باب هل يستخرج السحر ) : وقال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته ، أيحل عنه ، أو ينشر ؟ قال : لا بأس به ، إنما يريدون به الإصلاح . فأما ما ينفع فلم ينه عنه ا ه . ومال إلى هذا المزني . وقال الشافعي : لا بأس بالنشرة . قاله القرطبي . وقال أيضا : قال ابن بطال : وفي كتاب وهب بن منبه : أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ، ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل . فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله تعالى ، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله انتهى منه .

وممن أجاز النشرة وهي حل السحر عن المسحور : أبو جعفر الطبري ، وعامر الشعبي ، وغيرهما . وممن كره ذلك : الحسن . وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سحره لبيد بن الأعصم : هلا تنشرت ؟ فقال : " أما الله فقد شفاني وكرهت أن أثير على الناس شرا " .

قال مقيده - عفا الله عنه - : التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه في هذه المسألة : أن استخراج السحر إن كان بالقرآن كالمعوذتين ، وآية الكرسي ونحو ذلك مما تجوز الرقيا به فلا مانع من ذلك . وإن كان بسحر أو بألفاظ عجمية ، أو بما لا يفهم معناه ، أو بنوع آخر مما لا يجوز فإنه ممنوع . وهذا واضح وهو الصواب إن شاء الله تعالى كما ترى .

[ ص: 58 ] وقال ابن حجر في فتح الباري ما نصه : ( تكميل ) قال ابن القيم : من أنفع الأدوية ، وأقوى ما يوجد من النشرة مقاومة السحر الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية : من الذكر ، والدعاء ، والقراءة . فالقلب إذا كان ممتلئا من الله ، معمورا بذكره ، وله ورد من الذكر ، والدعاء ، والتوجه ، لا يخل به كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له . قال : وسلطان تأثير السحر هو في القلوب الضعيفة . ولهذا غالب ما يؤثر فيه النساء ، والصبيان ، والجهال . لأن الأرواح الخبيثة إنما تنشط على الأرواح ، تلقاها مستعدة لما يناسبها انتهى ملخصا . ويعكر عليه حديث الباب ، وجواز السحر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع عظيم مقامه ، وصدق توجهه ، وملازمة ورده ولكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن الذي ذكره محمول على الغالب ، وإنما وقع به - صلى الله عليه وسلم - لبيان تجويز ذلك ، والله أعلم انتهى من فتح الباري .
المسألة التاسعة

اعلم أن العلماء اختلفوا في تحقيق القدر الذي يمكن أن يبلغه تأثير السحر في المسحور ، واعلم أن لهذه المسألة واسطة وطرفين : طرف لا خلاف في أن تأثير السحر يبلغه كالتفريق بين الرجل وامرأته ، وكالمرض الذي يصيب المسحور من السحر ونحو ذلك ، ودليل ذلك القرآن ، والسنة الصحيحة . أما القرآن فقوله تعالى : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه [ 2 102 ] فصرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة بأن من تأثير السحر التفريق بين المرء وزوجه . وأما السنة فما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها بألفاظ متعددة متقاربة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ، ولا يأتيهن . فقال : " يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه ، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، فقال الذي عند رأسي للآخر : ما بال الرجل ؟ قال : مطبوب ، قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم رجل من بني زريق حليف اليهودي كان منافقا ، قال : وفيم ؟ قال : في مشط ومشاطة ؟ قال : وأين ؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت راعوفة فيبئر ذروان " قالت : فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - البئر حتى استخرجه ، فقال : " هذه البئر التي أربتها ، وكأن ماءها نقاعة الحناء ، وكأن نخلها رءوس الشياطين ، فاستخرج " قالت فقلت : أفلا أي : تنشرت ؟ فقال : " أما الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا " ا ه هذا لفظ البخاري في بعض رواياته لهذا الحديث . والقصة مشهورة صحيحة . ففي هذا الحديث الصحيح : أن تأثير السحر فيه - صلى الله عليه وسلم - سبب له [ ص: 59 ] المرض . بدليل قوله " أما الله فقد شفاني " وفي بعض الروايات الثابتة في صحيح البخاري ، وغيره بلفظ : فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ قال مطبوب . أي : مسحور . وهو تصريح بأن السحر سبب له وجعا . ونفي بعض الناس لهذه القصة مستدلا بأنها لا تجوز في حقه - صلى الله عليه وسلم - ، لقوله تعالى عن الكفار منكرا عليهم . إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ 17 47 ] ساقط ؛ لأن الروايات الصحيحة الثابتة لا يمكن ردها بمثل هذه الدعاوى . وسترى في آخر بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى إيضاح وجه ذلك . وطرف لا خلاف في أن تأثير السحر لا يمكن أن يبلغه كإحياء الموتى ، وفلق البحر ونحو ذلك .

قال القرطبي في تفسيره : أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد ، والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر ، وقلب العصا ، وإحياء الموتى ، وإنطاق العجماء ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام . فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون لا يفعله الله عند إرادة الساحر . قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه انتهى كلام القرطبي .

وأما الواسطة فهي محل خلاف بين العلماء ، وهي هل يجوز أن ينقلب بالسحر الإنسان حمارا مثلا ، والحمار إنسانا ؟ وهل يصح أن يطير الساحر في الهواء ، وأن يستدق حتى يدخل من كوة ضيقة . وينتصب على رأس قصبة ، ويجري على خيط مستدق ، ويمشي على الماء ، ويركب الكلب ونحو ذلك . فبعض الناس يجيز هذا . وجزم بجوازه الفخر الرازي في تفسيره ، وكذلك صاحب رشد الغافل ، وغيرهما . وبعضهم يمنع مثل هذا .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما بالنسبة إلى أن الله قادر على أن يفعل جميع ذلك ، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب وإن لم تكن هناك مناسبة عقلية بين السبب ، والمسبب كما قدمناه مستوفى في سورة " مريم " فلا مانع من ذلك ، والله جل وعلا يقول وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله [ 2 102 ] . وأما بالنسبة إلى ثبوت وقوع مثل ذلك بالفعل فلم يقم عليه دليل مقنع . لأن غالب ما يستدل عليه به قائله حكايات لم تثبت عن عدول ، ويجوز أن يكون ما وقع منها من جنس الشعوذة ، والأخذ بالعيون ، لا قلب الحقيقة مثلا إلى حقيقة أخرى . وهذا هو الأظهر عندي ، والله تعالى أعلم .
[ ص: 60 ] تنبيه

اعلم أن ما وقع من تأثير السحر في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستلزم نقصا ، ولا محالا شرعيا حتى ترد بذلك الروايات الصحيحة . لأنه من نوع الأعراض البشرية ، كالأمراض المؤثرة في الأجسام ، ولم يؤثر البتة فيما يتعلق بالتبليغ . واستدلال من منع ذلك زاعما أنه محال في حقه - صلى الله عليه وسلم - بآية إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ 17 47 ] مردود كما سنوضحه إن شاء الله في آخر هذا البحث .

قال ابن حجر في الفتح : قال المازري : أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث ، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها . قالوا : وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل . وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع ، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ، ثم وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه شيء . قال المازري : هذا كله مردود . لأن الدليل قد قام على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن الله تعالى ، وعلى عصمته في التبليغ . والمعجزات شاهدات بتصديقه . فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل . وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ، ولا كانت الرسالة من أجلها ، فهو في ذلك عرضة لما يعتري البشر كالأمراض . فغير بعيد أن يخيل الله في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين . قال : وقد قال بعض الناس : إن المراد بالحديث : أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطئهن وهذا كثير ما يقع تخيله للإنسان في المنام . فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #284  
قديم 11-05-2022, 06:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (282)

سُورَةُ طه
صـ 61 إلى صـ 67




قلت : وهذا قد ورد صريحا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ، ولفظه : " حتى كان يرى أنه يأتي النساء ، ولا يأتيهن " وفي رواية الحميدي " أنه يأتي أهله ، ولا يأتيهم " قال الداودي : " يرى " بضم أوله أي : يظن . وقال ابن التين : ضبطت " يرى " بفتح أوله . قلت : وهو من الرأي لا من الرؤية فيرجع إلى معنى الظن . وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق : سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة ، حتى أنكر بصره . وعنده في مرسل سعيد بن المسيب : حتى كاد ينكر بصره . قال عياض فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه ، لا على تمييزه ومعتقده . قلت : ووقع في مرسل عبد الرحمن بن كعب عند ابن سعد : فقالت أخت لبيد بن الأعصم : إن يكن نبينا فسيخبر ، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله : قلت : فوقع الشق الأول كما في هذا الحديث الصحيح . وقد [ ص: 61 ] قال بعض العلماء : لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك ، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ، ولا يثبت . فلا يبقى على هذا للملحد حجة .

وقال عياض : يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء ، فإذا دنا من المرأة فتر من ذلك كما هو شأن المعقود ، ويكون قوله في الرواية الأخرى " حتى كاد ينكر بصره " أي : صار كالذي أنكر بصره بحيث إنه إذا رأى الشيء يخيل إليه أنه على غير صفته . فإذا تأمله عرف حقيقته . ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - في خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به . وقال المهلب : صون النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده ، فقد مضى في الصحيح : أن شيطانا أراد أن يفسد عليه صلاته ، فأمكنه الله منه . فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصا على ما يتعلق بالتبليغ ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض : من ضعف عن الكلام ، أو عجز عن بعض الفعل ، أو حدوث تخيل لا يستمر بل يزول . ويبطل الله كيد الشياطين .

واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث : " أما أنا فقد شفاني الله " وفي الاستدلال به نظر . لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل : فكان يدور ، ولا يدري ما وجعه . وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد : مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأخذ عن النساء ، والطعام ، والشراب . فهبط عليه ملكان . الحديث انتهى من ( فتح الباري ) .

وعلى كل حال فهو - صلى الله عليه وسلم - معصوم بالإجماع من كل ما يؤثر خللا في التبليغ ، والتشريع . وأما بالنسبة إلى الأعراض البشرية : كأنواع الأمراض ، والآلام ، ونحو ذلك فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يعتريهم من ذلك ما يعتري البشر . لأنهم بشر كما قال تعالى عنهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [ 14 11 ] ونحو ذلك من الآيات .

وأما قوله تعالى : إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ 17 47 ] فمعناه أنهم يزعمون أنه - صلى الله عليه وسلم - مسحور أو مطبوب ، قد خبله السحر فاختلط عقله فالتبس عليه أمره . يقولون ذلك لينفروا الناس عنه . وقال مجاهد : " مسحورا " أي : مخدوعا . مثل قوله فأنى تسحرون [ 23 89 ] أي : من أين تخدعون . ومعنى هذا راجع إلى [ ص: 62 ] ما قبله . لأن المخدوع مغلوب في عقله . وقال أبو عبيدة مسحورا معناه أن له سحرا أي : رئة فهو لا يستغني عن الطعام ، والشراب ، فهو مثلكم وليس بملك . كقولهم مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق [ 25 7 ] ، وقوله عن الكفار ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 33 - 34 ] ونحو ذلك من الآيات . ويقال لكل من أكل أو شرب من آدمي أو غيره : مسحور ومسحر . ومنه قول لبيد :


فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر


وقال امرؤ القيس :


أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب


أي : نغذى ونعلل .

وإذا علمت أن أقوال العلماء في قوله " مسحورا " راجعة إلى دعواهم اختلال عقله بالسحر أو الخديعة ، أو كونه بشرا علمت أنه لا دليل في الآية على منع بعض التأثيرات العرضية التي لا تعلق لها بالتبليغ ، والتشريع كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .

وقد أشرنا فيما تقدم لحكم ساحر أهل الذمة ، واختلاف العلماء في قتله ، واستدلال من قال بأنه لا يقتل بعدم قتله - صلى الله عليه وسلم - لبيد بن الأعصم الذي سحره . والقول بأنه قتله ضعيف ، ولم يثبت أنه قتله . وأظهر الأقوال عندنا أنه لا يكون أشد حرمة من ساحر المسلمين ، بل يقتل كما يقتل ساحر المسلمين . وأما عدم قتله - صلى الله عليه وسلم - لابن الأعصم فقد بينت الروايات الصحيحة أنه ترك قتله اتقاء إثارة فتنة ، فدل على أنه لولا ذلك لقتله . وقد ترك المنافقين لئلا يقول الناس : محمد يقتل أصحابه . فيكون في ذلك تنفير عن دين الإسلام مع اتفاق العلماء على قتل الزنديق وهو عبارة عن المنافق ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن سحرة فرعون لما عاينوا عصا موسى تبتلع جميع حبالهم وعصيهم خروا سجدا لله تعالى قائلين : آمنا بالله الذي هو رب هارون وموسى . فهداهم الله بذلك البرهان الإلهي ، هذه الهداية العظيمة . وقد أوضح تعالى هذا المعنى في مواضع أخر . كقوله في " الأعراف " : وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون [ 7 117 ] ، [ ص: 63 ] وقوله في " الشعراء " : فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون [ 26 45 - 48 ] ، وقوله : فألقي يدل على قوة البرهان الذي عاينوه . كأنهم أمسكهم إنسان وألقاهم ساجدين بالقوة لعظم المعجزة التي عاينوها . وذكر في قصتهم أنهم عاينوا منازلهم في الجنة في سجودهم . والظاهر أن ذلك من نوع الإسرائيليات ، وأطلق عليهم اسم السحرة في حال سجودهم لله مؤمنين به نظرا إلى حالهم الماضية . كقوله : وآتوا اليتامى أموالهم [ 4 2 ] فأطلق عليهم اسم اليتم بعد البلوغ نظرا إلى الحال الماضية كما هو معروف في محله .

والظاهر أن تقديم هارون على موسى في هذه الآية لمراعاة فواصل الآيات .

واعلم أن علم السحر مع خسته ، وأن الله صرح بأنه لا يضر ، ولا ينفع ، قد كان سببا لإيمان سحرة فرعون . لأنهم لمعرفتهم بالسحر عرفوا معجزة العصا خارجة عن طور السحر ، وأنها أمر إلهي فلم يداخلهم شك في ذلك . فكان ذلك سببا لإيمانهم الراسخ الذي لا يزعزعه الوعيد ، والتهديد . ولو كانوا غير عالمين بالسحر جدا ، لأمكن أن يظنوا أن مسألة العصا من جنس الشعوذة . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن سحرة فرعون لما آمنوا برب هارون وموسى قال لهم فرعون منكرا عليهم : آمنتم له أي : صدقتموه في أنه نبي مرسل من الله ، وآمنتم بالله قبل أن آذن لكم . يعني أنهم لم يكفوا عن الإيمان حتى يأذن لهم ، لأنه يزعم أنهم لا يحق لهم أن يفعلوا شيئا إلا بعد إذنه هو لهم . وقال لهم أيضا : إن موسى هو كبيرهم . أي : كبير السحرة وأستاذهم الذي علمهم السحر . ثم هددهم مقسما على أنه يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ؛ يعني اليد اليمنى ، والرجل اليسرى مثلا . لأنه أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة . لأنه إن كان قطعهما من جهة واحدة يبقى عنده شق كامل صحيح ، بخلاف قطعهما من خلاف . فالجنب الأيمن يضعف بقطع اليد ، والأيسر يضعف بقطع الرجل كما هو معلوم . وأنه يصلبهم في جذوع النخل ، وجذع النخلة هو أخشن جذع من جذوع الشجر ، والتصليب عليه أشد من التصليب على غيره من [ ص: 64 ] الجذوع كما هو معروف .

وما ذكره جل وعلا عنه هنا أوضحه في غير هذا الموضع أيضا . كقوله في سورة " الشعراء " : قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين [ 26 49 ] . وذكر هذا أيضا في سورة " الأعراف " وزاد فيها التصريح بفاعل ، قال : وادعاء فرعون أن موسى ، والسحرة تمالئوا على أن يظهروا أنه غلبهم مكرا ليتعاونوا على إخراج فرعون وقومه من مصر . وذلك في قوله : قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين [ 7 123 - 124 ] " وقوله في " طه " : ولأصلبنكم في جذوع النخل يبين أن التصليب في جذوع النخل هو مراده بقوله في " الأعراف ، والشعراء " : ولأصلبنكم أجمعين [ 7 124 ، 26 49 ] . أي : في جذوع النخل ، وتعدية التصليب بـ " في " أسلوب عربي معروف ، ومنه قول سويد بن أبي كاهل :


هم صلبوا العبدي في جذع نخلة فلا عطست شيبان إلا بأجدعا


ومعلوم عند علماء البلاغة : أن في مثل هذه الآية استعارة تبعية في معنى الحرف كما سيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح كلامهم في ذلك ونحوه في سورة " القصص " . وقد أوضحنا في كتابنا المسمى ( منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز ) . أن ما يسميه البلاغيون من أنواع المجاز مجازا كلها أساليب عربية نطقت بها العرب في لغتها . وقد بينا وجه عدم جواز المجاز في القرآن وما يترتب على ذلك من المحذور .

وقوله في هذه الآية الكريمة : ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قال بعض أهل العلم : ولتعلمن أينا : يعني أنا ، أم رب موسى أشد عذابا وأبقى . واقتصر على هذا القرطبي . وعليه ففرعون يدعي أن عذابه أشد وأبقى من عذاب الله . وهذا كقوله : أنا ربكم الأعلى [ 79 24 ] ، وقوله : ما علمت لكم من إله غيري [ 28 38 ] ، وقوله : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 29 ] . وقال بعضهم : ولتعلمن أينا أنا ، أم موسى أشد عذابا وأبقى . وعلى هذا فهو كالتهكم بموسى لاستضعافه له ، وأنه لا يقدر على أن يعذب من لم يطعه . كقوله : أم أنا خير من هذا الذي هو مهين [ 43 52 ] . والله جل وعلا أعلم .

[ ص: 65 ] واعلم أن العلماء اختلفوا : هل فعل بهم فرعون ما توعدهم به ، أو لم يفعله بهم ؟ فقال قوم : قتلهم وصلبهم . وقوم أنكروا ذلك ، وأظهرهما عندي : أنه لم يقتلهم ، وأن الله عصمهم منه لأجل إيمانهم الراسخ بالله تعالى . لأن الله يقول لموسى وهارون : أنتما ومن اتبعكما الغالبون [ 28 35 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا .

قوله : لن نؤثرك أي : لن نختار اتباعك وكوننا من حزبك ، وسلامتنا من عذابك على ما جاءنا من البينات . كمعجزة العصا التي أتتنا وتيقنا صحتها . والواو في قوله والذي فطرنا عاطفة على " ما " من قوله : على ما جاءنا أي : لن نختارك على ما جاءنا من البينات ولا على والذي فطرنا أي : خلقنا وأبرزنا من العدم إلى الوجود . وقيل : هي واو القسم ، والمقسم عليه محذوف دل عليه ما قبله . أي : والذي فطرنا لا نؤثرك على ما جاءنا من البينات فاقض ما أي : اصنع ما أنت صانع . فلسنا راجعين عما نحن عليه إنما تقضي هذه الحياة الدنيا أي : إنما ينفذ أمرك فيها . فـ " هذه " منصوب على الظرف على الأصح . أي : وليس فيها شيء يهم لسرعة زوالها وانقضائها .

وما ذكره جل وعلا عنهم في هذا الموضع : من ثباتهم على الإيمان ، وعدم مبالاتهم بتهديد فرعون ووعيده رغبة فيما عند الله قد ذكره في غير هذا الموضع . كقوله في " الشعراء " عنهم في القصة بعينها : قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون [ 26 \ 50 ] . وقوله في " الأعراف " : قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين [ 7 125 - 126 ] . وقوله : فاقض ما أنت قاض عائد الصلة محذوف ، أي : ما أنت قاضيه لأنه مخفوض بالوصف ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :


كذاك حذف ما بوصف خفضا كأنت قاض بعد أمر من قضى


ونظيره من كلام العرب قول سعد بن ناشب المازني :


ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت يميني بإدراك الذي كنت طالبا


[ ص: 66 ] أي : طالبه .
قوله تعالى : إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن فرعون لعنه الله لما قال للسحرة ما قال لما آمنوا ، قالوا له : إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا [ 20 73 ] يعنون ذنوبهم السالفة كالكفر ، وغيره من المعاصي وما أكرهتنا عليه من السحر أي : ويغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر . وهذا الذي ذكره عنهم هنا أشار له في غير هذا الموضع . كقوله تعالى في " الشعراء " عنهم : إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين [ 26 50 - 51 ] وقوله عنهم في " الأعراف " : ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين [ 7 126 ] . وفي آية طه " هذا سؤال معروف ، وهو أن يقال : قولهم وما أكرهتنا عليه من السحر [ 20 73 ] يدل على أنه أكرههم عليه ، مع أنه دلت آيات أخر على أنهم فعلوه طائعين غير مكرهين ، كقوله في " طه " : فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى [ 20 62 - 63 ] . فقولهم : فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا [ 20 64 ] صريح في أنهم غير مكرهين . وكذلك قوله عنهم في " الشعراء " : قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين [ 26 41 ] وقوله في " الأعراف " : قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين [ 7 113 - 114 ] فتلك الآيات تدل على أنهم غير مكرهين .

وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفة :

( منها ) : أنه أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم ، فلما أكرهوا على القدوم وأمروا بالسحر أتوه طائعين ، فإكراههم بالنسبة إلى أول الأمر ، وطوعهم بالنسبة إلى آخر الأمر ، فانفكت الجهة وبذلك ينتفي التعارض ، ويدل لهذا قوله : وابعث في المدائن حاشرين [ 26 36 ] وقوله : وأرسل في المدائن حاشرين [ 7 111 ] .

( ومنها ) : أنه كان يكرههم على تعليم أولادهم السحر في حال صغرهم ، وأن ذلك هو مرادهم بإكراههم على السحر . ولا ينافي ذلك أنهم فعلوا ما فعلوا من السحر بعد تعلمهم وكبرهم طائعين .

[ ص: 67 ] ( ومنها ) : أنهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائما : ففعل فوجدوه قرب عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر الساحر ! لأن الساحر إذا نام بطل سحره . فأبى إلا أن يعارضوه ، وألزمهم بذلك . فلما لم يجدوا بدا من ذلك فعلوه طائعين . وأظهرها عندي الأول ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله : في هذه الآية الكريمة خطايانا جمع خطيئة ، وهي الذنب العظيم . كالكفر ونحوه . والفعيلة تجمع على فعائل ، والهمزة في فعائل مبدلة من الياء في فعيلة ، ومثلها الألف ، والواو ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :


والمد زيد ثالثا في الواحد همزا يرى في مثل كالقلائد

فأصل خطايا " خطائي " بياء مكسورة ، وهي ياء خطيئة ، وهمزة بعدها هي لام الكلمة . ثم أبدلت الياء همزة على حد الإبدال في صحائف فصارت خطائئ بهمزتين ، ثم أبدلت الثانية ياء للزوم إبدال الهمزة المتطرفة بعد الهمزة المكسورة ياء ، فصارت خطائي ، ثم فتحت الهمزة الأولى تخفيفا فصار خطاءي ، ثم أبدلت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار خطاءا بألفين بينهما همزة ، والهمزة تشبه الألف ، فاجتمع شبه ثلاثة ألفات ، فأبدلت الهمزة ياء فصار خطايا بعد خمسة أعمال ، وإلى ما ذكرنا أشار في الخلاصة بقوله :


وافتح ورد الهمز يا فيما أعل لاما وفي مثل هراوة جعل
واوا . . . إلخ .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #285  
قديم 11-05-2022, 06:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (283)

سُورَةُ طه
صـ 68 إلى صـ 74





وقوله في هذه الآية الكريمة : والله خير وأبقى ظاهره المتبادر منه : أن المعنى خير من فرعون وأبقى منه . لأنه باق لا يزول ملكه ، ولا يذل ، ولا يموت ، ولا يعزل . كما أوضحنا هذا المعنى في سورة " النحل " في الكلام على قوله تعالى : وله الدين واصبا [ 16 52 ] . أي : بخلاف فرعون ، وغيره من ملوك الدنيا فإنه لا يبقى ، بل يموت أو يعزل ، أو يذل بعد العز . وأكثر المفسرين على أن المعنى : أن ثوابه خير مما وعدهم فرعون في قوله : قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين [ 7 113 - 114 ] . وأبقى : أي : أدوم . لأن ما وعدهم به فرعون زائل ، وثواب الله باق . كما قال تعالى : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 96 ] وقال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ 87 16 ] . وقال بعض العلماء : وأبقى أي : أبقى عذابا من عذابك ، وأدوم منه . وعليه فهو رد لقول فرعون ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى [ ص: 68 ] ومعنى أبقى أكثر بقاء .
قوله تعالى : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا .

ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : إنه أي : الأمر والشأن من يأت ربه يوم القيامة في حال كونه مجرما أي : مرتكبا الجريمة في الدنيا حتى مات على ذلك كالكافر عياذا بالله تعالى فإن له عند الله جهنم يعذب فيها فـ لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة فيها راحة .

وهذا الذي ذكره هنا أوضحه في غير هذا الموضع : كقوله : والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور [ 30 36 ] وقوله تعالى : واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ [ 14 15 - 17 ] وقوله تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [ 4 56 ] وقوله تعالى : ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا [ 87 11 - 13 ] وقوله تعالى : ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون [ 43 77 ] إلى غير ذلك من الآيات . ونظير ذلك من كلام العرب قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة :


ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم

قوله تعالى : ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : " أن " ومن يأته يوم القيامة في حال كونه مؤمنا قد عمل الصالحات أي : في الدنيا حتى مات على ذلك فأولئك لهم عند الله الدرجات العلا والعلا : جمع عليا وهي تأنيث الأعلى . وقد أشار إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع . كقوله تعالى : وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا [ 17 21 ] وقوله : ولكل درجات مما عملوا [ 6 132 ] ونحو ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة . أنه أوحى إلى نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة [ ص: 69 ] والسلام : أن يسري بعباده ، وهم بنو إسرائيل فيخرجهم من قبضة فرعون ليلا ، وأن يضرب لهم طريقا في البحر يبسا ، أي : يابسا لا ماء فيه ، ولا بلل ، وأنه لا يخاف دركا من فرعون وراءه أن يناله بسوء . ولا يخشى من البحر أمامه أن يغرق قومه . وقد أوضح هذه القصة في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة " الشعراء " : وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم [ 26 52 - 63 ] .

فقوله في " الشعراء " : أن اضرب بعصاك البحر فانفلق [ 26 63 ] أي : فضربه فانفلق يوضح معنى قوله : فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا [ 20 77 ] وقوله : قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين [ 26 61 - 62 ] يوضح معنى قوله : لا تخاف دركا ولا تخشى وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله في " الدخان " : فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون [ 44 22 - 24 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا طرفا من ذلك في سورة " البقرة " ، والقصة معروفة واضحة من القرآن العظيم . وقرأ نافع ، وابن كثير " أن اسر " بهمزة وصل وكسر نون أن لالتقاء الساكنين ، والباقون قرءوا أن أسر بهمزة قطع مفتوحة مع إسكان نون " أن " وقد قدمنا في سورة " هود " أن أسرى وسرى لغتان وبينا شواهد ذلك العربية . وقرأ حمزة لا تخف بسكون الفاء بدون ألف بين الخاء ، والفاء ، وهو مجزوم لأنه جزاء الطلب ، أي : فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخف . وقد قدمنا أن نحو ذلك من الجزم بشرط محذوف تدل عليه صيغة الطلب ، أي : أن تضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخف . وعلى قراءة الجمهور " لا تخاف " بالرفع ، فلا إشكال في قوله ولا تخشى لأنه فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الألف ، معطوف على فعل مضارع مرفوع هو قوله : لا تخاف .

وأما على قراءة حمزة " لا تخف " بالجزم ففي قوله ولا تخشى إشكال معروف ، وهو أنه معطوف على مضارع مجزوم ، وذلك يقتضي جزمه ، ولو جزم لحذفت [ ص: 70 ] الألف من تخشى على حد قوله في الخلاصة :


واحذف جازما ثلاثهن تقض حكما لازما


والألف لم تحذف فوقع الإشكال بسبب ذلك .

وأجيب عنه من ثلاثة أوجه :

الأول : أن ولا تخشى مستأنف خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : وأنت لا تخشى ، أي : ومن شأنك أنك آمن لا تخشى .

والثاني : أن الفعل مجزوم ، والألف ليست هي الألف التي في موضع لام الكلمة ، ولكنها زيدت للإطلاق من أجل الفاصلة ، كقوله : فأضلونا السبيل [ 33 67 ] وقوله : وتظنون بالله الظنون [ 33 10 ] .

والثالث : أن إشباع الحركة بحرف مد يناسبها أسلوب معروف من أساليب اللغة العربية ، كقول عبد يغوث بن وقاص الحارثي :


وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا


وقول الراجز :


إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق


وقول الآخر :


قلت وقد خرت على الكلكال يا ناقتي ما جلت من مجال


وقول عنترة في معلقته :


ينباع من ذفري غضوب جسرة زيافة مثل الفنيق المكدم


فالأصل في البيت الأول : كأن لم تر ، ولكن الفتحة أشبعت . والأصل في الثاني ، ولا ترضها ، ولكن الفتحة أشبعت . والأصل في الثالث على الكلكال يعني الصدر ، ولكن الفتحة أشبعت . والأصل في الرابع ينبع يعني أن العرق ينبع من عظم الذفرى من ناقته على التحقيق ، ولكن الفتحة أشبعت ، وإشباع الفتحة بألف في هذه الأبيات وأمثالها مما لم نذكره ليس لضرورة للشعر لتصريح علماء العربية بأنه أسلوب عربي معروف . ويؤيد ذلك أنه مسموع في النثر ، كقولهم في النثر : كلكال ، وخاتام ، وداناق ، يعنون كلكلا ، وخاتما ، ودانقا . وقد أوضحنا هذه المسألة ، وأكثرنا من شواهدها العربية في كتابنا [ ص: 71 ] ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " البلد " في الكلام على قوله : لا أقسم بهذا البلد [ 90 1 ] مع قوله : وهذا البلد الأمين [ 95 3 ] وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية فاضرب لهم طريقا : فاجعل لهم طريقا ، من قولهم : ضرب له في ماله سهما ، وضرب اللبن عمله ا هـ . والتحقيق أن يبسا صفة مشبهة جاءت على فعل بفتحتين كبطل وحسن . وقال الزمخشري : اليبس مصدر وصف به . يقال : يبس يبسا ويبسا ، ونحوهما العدم ، والعدم ، ومن ثم وصف به المؤنث فقيل : شاتنا يبس ، وناقتنا يبس . إذا جف لبنها .

وقوله : لا تخاف دركا الدرك : اسم مصدر بمعنى الإدراك ، أي : لا يدرك فرعون وجنوده ، ولا يلحقونك من ورائك ، ولا تخشى من البحر أمامك . وعلى قراءة الجمهور لا تخاف فالجملة حال من الضمير في قوله فاضرب أي : فاضرب لهم طريقا في حال كونك غير خائف دركا ، ولا خاش . وقد تقرر في علم النحو أن الفعل المضارع المنفي بلا إذا كانت جملته حالية وجب الربط فيها بالضمير وامتنع بالواو . كقوله هنا : فاضرب لهم طريقا أي : في حال كونك لا تخاف دركا ، وقوله ما لي لا أرى الهدهد [ 27 20 ] وقوله : وما لنا لا نؤمن بالله [ 5 84 ] ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :


ولو أن قوما لارتفاع قبيلة دخلوا السماء دخلتها لا أحجب


يعني دخلتها في حال كوني غير محجوب ، وبذلك تعلم أن قوله في الخلاصة :


وذات بدء بمضارع ثبت حوت ضميرا ومن الواو خلت


في مفهومه تفصيل كما هو معلوم في علم النحو .
قوله تعالى : فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم .

التحقيق أن أتبع واتبع بمعنى واحد . فقوله : فـ أتبعهم أي : اتبعهم ، ونظيره قوله تعالى : فأتبعه شهاب ثاقب [ 37 \ 10 ] وقوله : فأتبعه الشيطان الآية [ 7 \ 175 ] . والمعنى : أن موسى لما أسرى ببني إسرائيل ليلا أتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليم [ 20 \ 78 ] أي : البحر ما غشيهم أي : أغرق الله فرعون وجنوده في البحر فهلكوا عن آخرهم . وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن فرعون أتبع بني إسرائيل هو وجنوده ، وأن الله أغرقهم في البحر أوضحه في غير هذا [ ص: 72 ] الموضع . وقد بين تعالى أنهم اتبعوهم في أول النهار عند إشراق الشمس ، فمن الآيات الدالة على اتباعه لهم قوله تعالى في " الشعراء " : وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون [ 26 \ 52 ] يعني سيتبعكم فرعون وجنوده . ثم بين كيفية اتباعه لهم فقال فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين [ 26 \ 53 - 62 ] .

وقوله في هذه الآية : فأتبعوهم مشرقين أي : أول النهار عند إشراق الشمس . ومن الآيات الدالة على ذلك أيضا قوله تعالى في " يونس " : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا [ 10 \ 90 ] وقوله في " الدخان " : فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون [ 44 \ 23 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على إتباعه لهم . وأما غرقه هو وجميع قومه المشار إليه بقوله هنا : فغشيهم من اليم ما غشيهم فقد أوضحه تعالى في مواضع متعددة من كتابه العزيز . كقوله في " الشعراء " : فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 63 - 67 ] وقوله في " الأعراف " : فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم [ 136 ] وقوله في " الزخرف " : فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين [ 43 \ 55 ] وقوله في " البقرة " : وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون [ 2 \ 50 ] وقوله في " يونس " : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين [ 10 \ 90 ] وقوله في " الدخان " : واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون [ 44 \ 24 ] إلى غير ذلك من الآيات . والتعبير بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله فغشيهم من اليم ما غشيهم [ 20 \ 78 ] يدل على تعظيم الأمر وتفخيم شأنه ، ونظيره في القرآن قوله : إذ يغشى السدرة ما يغشى [ 53 \ 16 ] وقوله : والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى [ 53 \ 53 - 54 ] وقوله : فأوحى إلى عبده ما أوحى [ 53 \ 10 ] . واليم : البحر . والمعنى : فأصابهم من البحر ما أصابهم وهو الغرق ، والهلاك المستأصل .
[ ص: 73 ] قوله تعالى : وأضل فرعون قومه وما هدى .

يعني أن فرعون أضل قومه عن طريق الحق وما هداهم إليها . وهذه الآية الكريمة بين الله فيها كذب فرعون في قوله : قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد [ 40 29 ] ومن الآيات الموضحة لذلك قوله تعالى : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود [ 11 96 - 98 ] والنكتة البلاغية في حذف المفعول في قوله وما هدى ولم يقل وما هداهم ، هي مراعاة فواصل الآيات ، ونظيره في القرآن قوله تعالى : ما ودعك ربك وما قلى [ 93 3 ] .
قوله تعالى : يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : امتنانه على بني إسرائيل بإنجائه إياهم من عدوهم فرعون ، وأنه واعدهم جانب الطور الأيمن ، وأنه نزل عليهم المن ، والسلوى ، وقال لهم : كلوا من طيبات ما رزقناكم . ولا تطغوا فيغضب عليكم ربكم . وما ذكره هنا أوضحه في غير هذا الموضع . كقوله في امتنانه عليهم بإنجائهم من عدوهم فرعون في " سورة البقرة " : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ 2 49 ] وقوله في " الأعراف " : وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ 7 141 ] وقوله في " الدخان " : ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين [ 44 30 - 31 ] وقوله في سورة " إبراهيم " : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ 14 6 ] وقوله في " الشعراء " كذلك وأورثناها بني إسرائيل [ 26 59 ] وقوله في " الدخان " كذلك وأورثناها قوما آخرين [ 44 28 ] وقوله في " الأعراف " : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها [ 7 137 ] وقوله في " القصص " : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة إلى قوله يحذرون [ 28 6 ] إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 74 ] وقوله هنا : وواعدناكم جانب الطور الأيمن [ 20 80 ] الأظهر أن ذلك الوعد هو المذكور في قوله : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر الآية [ 7 142 ] وقوله : وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة الآية [ 2 51 ] وقوله : ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا [ 20 86 ] وهو الوعد بإنزال التوراة . وقيل فيه غير ذلك .

وقوله هنا : ونزلنا عليكم المن والسلوى قد أوضح امتنانه عليهم بذلك في غير هذا الموضع . كقوله في " البقرة " : وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى [ 2 57 ] وقوله في " الأعراف " وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى [ 7 160 ] وأكثر العلماء على أن المن : الترنجبين ، وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى ثم يتجمد ، وهو يشبه العسل الأبيض . والسلوى : طائر يشبه السمانى . وقيل هو السمانى . وهذا قول الجمهور في المن ، والسلوى . وقيل : السلوى العسل . وأنكر بعضهم إطلاق السلوى على العسل . والتحقيق : أن " السلوى " يطلق على العسل لغة . ومنه قول خالد بن زهير الهذلي :


وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها

يعني ألذ من العسل إذا ما نستخرجها . لأن النشور : استخراج العسل . قال مؤرج بن عمر السدوسي : إطلاق السلوى على العسل لغة كنانة . سمي به لأنه يسلي . قاله القرطبي . إلا أن أكثر العلماء على أن ذلك ليس هو المراد في الآية . واختلفوا في السلوى . هل هو جمع أو مفرد ؟ فقال بعضهم : هو جمع ، واحده سلواة ، وأنشد الخليل لذلك قول الشاعر :


وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض السلواة من بلل القطر


ويروى هذا البيت :


كما انتفض العصفور بلله القطر


وعليه فلا شاهد في البيت . وقال الكسائي : السلوى مفرد وجمعه سلاوى . وقال الأخفش : هو جمع لا واحد له من لفظه . مثل الخير والشر ، وهو يشبه أن يكون واحده سلوى مثل جماعته . كما قالوا : دفلى وسمانى وشكاعى في الواحد والجمع . والدفلى كذكرى : شجر أخضر مر حسن المنظر ، يكون في الأودية . والشكاعى كحبارى وقد تفتح : نوع من دقيق النبات صغير أخضر ، دقيق العيدان يتداوى به . والسمانى : طائر معروف .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #286  
قديم 11-05-2022, 06:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (284)

سُورَةُ طه
صـ 75 إلى صـ 81




قال مقيده - عفا الله عنه - : والأظهر عندي في المن : أنه اسم جامع لما يمن الله به على عبده من غير كد ، ولا تعب ، فيدخل فيه الترنجبين الذي من الله به على بني إسرائيل في التيه . ويشمل غير ذلك مما يماثله . ويدل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيحين : " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " .

والأظهر عندي في السلوى : أنه طائر ، سواء قلنا إنه السمانى ، أو طائر يشبهه ، لإطباق جمهور العلماء من السلف ، والخلف على ذلك . مع أن السلوى ، يطلق لغة على العسل ، كما بينا .

وقوله في آية " طه " هذه : كلوا من طيبات ما رزقناكم [ 20 81 ] أي : من المن ، والسلوى ، والأمر فيه للإباحة ، والامتنان .

وقد ذكر ذلك أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله في " البقرة " وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 2 57 ] وقوله في " الأعراف " : وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 7 160 ] وقوله : كلوا في هذه الآيات مقول قول محذوف ، أي : وقلنا لهم كلوا ، والضمير المجرور في قوله : ولا تطغوا فيه راجع إلى الموصول الذي هو " ما " أي : كلوا من طيبات الذي رزقناكم ولا تطغوا فيه أي : فيما رزقناكم . ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم ، وهو أن يتعدوا حدود الله فيه بأن يكفروا نعمته به ، ويشغلهم اللهو والنعيم عن القيام بشكر نعمه ، وأن ينفقوا رزقه الذي أنعم عليهم به في المعاصي ، أو يستعينوا به على المعصية ، أو يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيه ، ونحو ذلك .

وبين أن ذلك يسبب لهم أن يحل عليهم غضبه جل وعلا ، لأن الفاء في قوله فيحل سببية ، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها ، لأنه بعد النهي وهو طلب محض ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :


وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وسترها حتم نصب


وقرأ هذا الحرف الكسائي " فيحل " بضم الحاء ( ومن يحلل ) بضم اللام . والباقون قرءوا يحل بكسر الحاء و يحلل بكسر اللام . وعلى قراءة الكسائي ( فيحل ) بالضم أي : ينزل بكم غضبي . وعلى قراءة الجمهور فهو من حل يحل بالكسر : [ ص: 76 ] إذا وجب ، ومنه حل دينه إذا وجب أداؤه . ومنه ثم محلها إلى البيت العتيق [ 22 33 ] . وقوله : فقد هوى أي : هلك وصار إلى الهاوية ، وأصله أن يسقط من جبل أو نحوه فيهوي إلى الأرض فيهلك ، ومنه قول الشاعر :


هوى من رأس مرقبة ففتت تحتها كبده


ويقولون : هوت أمه ، أي : سقط سقوطا لا نهوض بعده . ومنه قول كعب بن سعد الغنوي :


هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يود الليل حين يئوب


ونحو هذا هو أحد التفسيرات في قوله تعالى : فأمه هاوية وعن شفي بن ماتع الأصبحي قال : إن في جهنم جبلا يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه . قال الله تعالى : سأرهقه صعودا [ 74 17 ] وإن في جهنم قصرا يقال له هوى ، يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفا قبل أن يبلغ أصله ، قال الله تعالى : ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى قال القرطبي ، وابن كثير ، والله تعالى أعلم .

واعلم أن الغضب صفة وصف الله بها نفسه إذا انتهكت حرماته ، تظهر آثارها في المغضوب عليهم . نعوذ بالله من غضبه جل وعلا . ونحن معاشر المسلمين نمرها كما جاءت فنصدق ربنا في كل ما وصف به نفسه ، ولا نكذب بشيء من ذلك ، مع تنزيهنا التام له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا . كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة " الأعراف " وقرأ حمزة ، والكسائي في هذه الآية قد أنجيتكم من عدوكم وواعدتكم بتاء المتكلم فيهما . وقرأه الباقون " وواعدناكم وأنجيناكم " بالنون الدالة على العظمة ، فصيغة الجمع في قراءة الجمهور للتعظيم . وقرأ أبو عمرو ( ووعدناكم ) بلا ألف بعد الواو الثانية بصيغة الفعل المجرد ، من الوعد لا من المواعدة مع نون التعظيم .
قوله تعالى : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى .

ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه غفار أي : كثير المغفرة لمن تاب إليه من معاصيه وكفره ، وآمن به وعمل صالحا ثم اهتدى . وقد أوضح هذا المعنى في مواضع متعددة من كتابه ، كقوله : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف الآية [ 8 38 ] . وقوله في الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة : أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [ 5 74 ] [ ص: 77 ] وقوله تعالى : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له الآية [ 39 53 - 54 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد قدمنا معنى التوبة ، والعمل الصالح .

وقوله في هذه الآية الكريمة : ثم اهتدى أي : استقام وثبت على ما ذكر من التوبة ، والإيمان ، والعمل الصالح ولم ينكث . ونظير ذلك قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا [ 41 30 ] وفي الحديث : " قل آمنت بالله ثم استقم " . وقال تعالى : فاستقم كما أمرت الآية [ 11 112 ] .
قوله تعالى : وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى .

أشار جل وعلا في هذه الآية الكريمة إلى قصة مواعدته موسى أربعين ليلة وذهابه إلى الميقات ، واستعجاله إليه قبل قومه . وذلك أنه لما واعده ربه وجعل له الميقات المذكور ، وأوصى أخاه هارون أن يخلفه في قومه ، استعجل إلى الميقات فقال له ربه وما أعجلك عن قومك .

الآية ، وهذه القصة التي أجملها هنا أشار لها في غير هذا الموضع . كقوله في " الأعراف " : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك [ 7 142 ] .

وفي هذه الآية سؤال معروف : وهو أن جواب موسى ليس مطابقا للسؤال الذي سأله ربه ، لأن السؤال عن السبب الذي أعجله عن قومه ، والجواب لم يأت مطابقا لذلك . لأنه أجاب بقوله : هم أولاء على أثري وعجلت إليك .

وأجيب عن ذلك بأجوبة :

( منها ) : أن قوله : هم أولاء على أثري يعني هم قريب وما تقدمتهم إلا بيسير يغتفر مثله ، فكأني لم أتقدمهم ولم أعجل عنهم لقرب ما بيني وبينهم .

( ومنها ) : أن الله جل وعلا لما خاطبه بقوله وما أعجلك عن قومك داخله من الهيبة ، والإجلال ، والتعظيم لله جل وعلا ما أذهله عن الجواب المطابق . والله أعلم .

[ ص: 78 ] وقوله هم أولاء المد فيه لغة الحجازيين . ورجحها ابن مالك في الخلاصة بقوله :

والمد أولى .

ولغة التميميين " أولا " بالقصر ، ويجوز دخول اللام على لغة التميميين في البعد ، ومنه قول الشاعر :


أولالكا قومي لم يكونوا أشابة وهل يعظ الضليل إلا أولالكا


وأما على لغة الحجازيين بالمد فلا يجوز دخول اللام عليها .
قوله تعالى : قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري .

الظاهر أن الفتنة المذكورة هي عبادتهم العجل . فهي فتنة إضلال . كقوله : إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء [ 7 155 ] . وهذه الفتنة بعبادة العجل جاءت مبينة في آيات متعددة . كقوله : وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون [ 2 51 ] ونحو ذلك من الآيات .

قوله هنا : وأضلهم السامري أوضح كيفية إضلاله لهم في غير هذا الموضع . كقوله : واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار إلى قوله اتخذوه وكانوا ظالمين [ 7 148 ] أي : اتخذوه إلها وقد صنعه السامري لهم من حلي القبط فأضلهم بعبادته . وقوله هنا فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي [ 20 88 ] والسامري : قيل اسمه هارون ، وقيل اسمه موسى بن ظفر ، وعن ابن عباس : أنه من قوم كانوا يعبدون البقر . وقيل : كان رجلا من القبط . وكان جارا لموسى آمن به وخرج معه . وقيل : كان عظيما من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام . قال سعيد بن جبير : كان من أهل كرمان . والفتنة أصلها في اللغة : وضع الذهب في النار ليتبين أهو خالص أم زائف . وقد أطلقت في القرآن إطلاقات متعددة :

( منها ) : الوضع في النار ، كقوله يوم هم على النار يفتنون [ 51 13 ] أي : يحرقون بها ، وقوله إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات الآية [ 85 10 ] . أي : أحرقوهم بنار الأخدود .

[ ص: 79 ] ( ومنها ) : الاختبار وهو الأغلب في استعمال الفتنة . كقوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة الآية [ 64 15 ] وقوله وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه [ 72 16 - 17 ] .

( ومنها ) : نتيجة الاختبار إذا كانت سيئة . ومن هنا أطلقت الفتنة على الشرك ، كقوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 8 39 ] وقوله هنا فإنا قد فتنا قومك الآية [ 20 85 ] .

( ومنها ) : الحجة ، كقوله ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 23 ] أي : لم تكن حجتهم .

وقوله تعالى في هذه الآية : وأضلهم السامري أسند إضلالهم إليه ، لأنه هو الذي تسبب فيه بصياغته لهم العجل من حلي القبط ورميه عليه التراب الذي مسه حافر الفرس التي جاء عليها جبريل ، فجعله الله بسبب ذلك عجلا جسدا له خوار ، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة : فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار وقال في " الأعراف " واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار [ 7 148 ] . والخوار : صوت البقر . قال بعض العلماء : جعل الله بقدرته ذلك الحلي المصوغ جسدا من لحم ودم ، وهذا هو ظاهر قوله عجلا جسدا .

وقال بعض العلماء : لم تكن تلك الصورة لحما ، ولا دما ، ولكن إذا دخلت فيها الريح صوتت كخوار العجل . والأول أقرب لظاهر الآية ، والله تعالى قادر على أن يجعل الجماد لحما ودما ، كما جعل آدم لحما ودما وكان طينا .
قوله تعالى : فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن موسى رجع إلى قومه بعد مجيئه للميقات في حال كونه في ذلك الرجوع غضبان أسفا على قومه من أجل عبادتهم العجل .

وقوله أسفا أي : شديد الغضب . فالأسف هنا : شدة الغضب ، وعلى هذا فقوله غضبان أسفا أي : غضبان شديد الغضب . ومن إطلاق الأسف على الغضب في القرآن قوله تعالى في " الزخرف " فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين [ 43 55 ] أي : فلما أغضبونا بتماديهم في الكفر مع توالي الآيات عليهم انتقمنا منهم . وقال بعض العلماء : الأسف هنا الحزن ، والجزع . أي : رجع موسى في حال كونه غضبان [ ص: 80 ] حزينا جزعا لكفر قومه بعبادتهم للعجل . وقيل : أسفا أي : مغتاظا . وقائل هذا يقول : الفرق بين الغضب ، والغيظ : أن الله وصف نفسه بالغضب ، ولم يجز وصفه بالغيظ . حكاه الفخر الرازي . ولا يخفى عدم اتجاهه في تفسير هذه الآية ، لأنه راجع إلى القول الأول ، ولا حاجة في ذلك إلى التفصيل المذكور .

وقوله غضبان أسفا حالان . وقد قدمنا فيما مضى أن التحقيق جواز تعدد الحال من صاحب واحد مع كون العامل واحدا . كما أشار له في الخلاصة بقوله :


والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم وغير مفرد

وما ذكره جل وعلا في آية " طه " هذه من كون موسى رجع إلى قومه غضبان أسفا ذكره في غير هذا الموضع ، وذكر أشياء من آثار غضبه المذكور ، كقوله في " الأعراف " : ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي [ 7 150 ] . وقد بين تعالى أن من آثار غضب موسى إلقاءه الألواح التي فيها التوراة ، وأخذه برأس أخيه يجره إليه ، كما قال في " الأعراف " : وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه [ 7 150 ] وقال في " طه " مشيرا لأخذه برأس أخيه : قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي [ الآية 94 ] . وهذه الآيات فيها الدلالة على أن الخبر ليس كالعيان ، لأن الله لما أخبر موسى بكفر قومه بعبادتهم العجل كما بينه في قوله : قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري [ 20 85 ] وهذا خبر من الله يقين لا شك فيه لم يلق الألواح ، ولكنه لما عاين قومه حول العجل يعبدونه أثرت فيه معاينة ذلك أثرا لم يؤثره فيه الخبر اليقين بذلك ، فألقى الألواح حتى تكسرت ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه لما أصابه من شدة الغضب من انتهاك حرمات الله تعالى .

وقال ابن كثير في تفسيره في سورة " الأعراف " : وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر ، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح ، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح " .
قوله تعالى : قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا .

[ ص: 81 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما رجع إلى قومه ، ووجدهم قد عبدوا العجل من بعده قال لهم : ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا .

وأظهر الأقوال عندي في المراد بهذا الوعد الحسن : أنه وعدهم أن ينزل على نبيهم كتابا فيه كل ما يحتاجون إليه من خير الدنيا ، والآخرة . وهذا الوعد الحسن المذكور هنا هو المذكور في قوله تعالى : وواعدناكم جانب الطور الأيمن الآية [ 20 80 ] وفيه أقوال غير ذلك .

وقوله : أفطال عليكم العهد الاستفهام فيه للإنكار ، يعني لم يطل العهد . كما يقال في المثل : ( وما بالعهد من قدم ) . لأن طول العهد مظنة النسيان ، والعهد قريب لم يطل فكيف نسيتم ؟

وقوله : أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم قال بعض العلماء : " أم " هنا هي المنقطعة ، والمعنى : بل أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ، ومعنى إرادتهم حلول الغضب : أنهم فعلوا ما يستوجب غضب ربهم بإرادتهم . فكأنهم أرادوا الغضب لما أرادوا سببه ، وهو الكفر بعبادة العجل .

وقوله : فأخلفتم موعدي كانوا وعدوه أن يتبعوه لما تقدمهم إلى الميقات ، وأن يثبتوا على طاعة الله تعالى . فعبدوا العجل وعكفوا عليه ولم يتبعوا موسى . فأخلفوا موعده بالكفر وعدم الذهاب في أثره ، قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا قرأه نافع وعاصم " بملكنا " بفتح الميم . وقرأه حمزة ، والكسائي " بملكنا " بضم الميم ، وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو " بملكنا " بكسر الميم . والمعنى على جميع القراءات : ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا ، فلو ملكنا أمرنا ما أخلفنا موعدك . وهو اعتذار منهم بأنهم ما أخلفوا الموعد باختيارهم ، ولكنهم مغلوبون على أمرهم من جهة السامري وكيده . وهو اعتذار بارد ساقط كما ترى ! ولقد صدق من قال :


إذا كان وجه العذر ليس ببين فإن اطراح العذر خير من العذر



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #287  
قديم 11-05-2022, 06:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (285)

سُورَةُ طه
صـ 82 إلى صـ 88




وأما على قول من قال : إن الذين قالوا لموسى : ما أخلفنا موعدك بملكنا هم الذين لم يعبدوا العجل . لأنهم وعدوه أن يتبعوه ، ولما وقع ما وقع من عبادة أكثرهم للعجل تأخروا عن اتباع موسى بسبب ذلك ، ولم يتجرءوا على مفارقتهم خوفا من الفرقة [ ص: 82 ] فالعذر له وجه في الجملة ، كما يشير إليه قوله تعالى في القصة في هذه السورة الكريمة قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي [ 20 92 ] .

والمصدر في قوله بملكنا مضاف إلى فاعله ومفعوله محذوف ، أي : بملكنا أمرنا . وقال القرطبي : كأنه قال بملكنا الصواب بل أخطأنا . فهو اعتراف منهم بالخطأ . وقال الزمخشري : أفطال عليكم العهد : الزمان ، يريد مدة مفارقته لهم .
تنبيه

كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بـ " لم " إذا تقدمتها همزة استفهام . كقوله هنا : ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا فيه وجهان معروفان عند العلماء :

الأول : أن مضارعته تنقلب ماضوية ، ونفيه ينقلب إثباتا . فيصير قوله : ألم يعدكم بمعنى وعدكم ، وقوله : ألم نشرح بمعنى شرحنا ، وقوله : ألم نجعل له عينين جعلنا له عينين . وهكذا . ووجه انقلاب المضارعة ماضوية ظاهر ، لأن " لم " حرف قلب تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي كما هو معروف . ووجه انقلاب النفي إثباتا أن الهمزة إنكارية ، فهي مضمنة معنى النفي ، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في " لم " فينفيه ، ونفي النفي إثبات فيؤول إلى معنى الإثبات .

الوجه الثاني : أن الاستفهام في ذلك التقرير ، وهو حمل المخاطب على أن يقر فيقول " بلى " وعليه فالمراد من قوله ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا حملهم على أن يقروا بذلك فيقولوا بلى هكذا . ونظير هذا من كلام العرب قول جرير :


ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح


فإذا عرفت أن قوله هنا فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا إلى قوله بملكنا قد بين الله فيه أن موسى لما رجع إليهم في شدة غضب مما فعلوا وعاتبهم قال لهم في ذلك العتاب ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد الآية [ 20 86 ] فاعلم أن بعض عتابه لهم لم يبينه هنا ، وكذلك بعض فعله ، ولكنه بينه في غير هذا الموضع . كقوله في " الأعراف " في القصة بعينها : ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم [ 7 150 ] [ ص: 83 ] وبين بعض ما فعل بقوله في " الأعراف " : وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه [ 7 150 ] وقد أشار إلى ذلك هنا في " طه " في قوله : قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي [ 20 94 ] .
قوله تعالى : ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي .

قرأ هذا الحرف أبو عمرو وشعبة عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي حملنا بفتح الحاء ، والميم المخففة مبينا للفاعل مجردا . وقرأه نافع ، وابن كثير ، وابن عامر وحفص عن عاصم " حملنا " بضم الحاء وكسر الميم المشددة مبنيا للمفعول . و " نا " على القراءة الأولى فاعل " حمل " وعلى الثانية نائب فاعل " حمل " بالتضعيف . والأوزار في قوله أوزارا قال بعض العلماء : معناها الأثقال . وقال بعض العلماء : معناها الآثام . ووجه القول الأول أنها أحمال من حلي القبط الذي استعاروه منهم . ووجه الثاني أنها آثام وتبعات . لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب ، وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي ، ولأن الغنائم لم تكن تحل لهم . والتعليل الأخير أقوى .

وقوله : من زينة القوم المراد بالزينة الحلي ، كما يوضحه قوله تعالى : واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم [ 7 148 ] أي : ألقيناها وطرحناها في النار التي أوقدها السامري في الحفرة ، وأمرنا أن نطرح الحلي فيها . وأظهر الأقوال عندي في ذلك : هو أنهم جعلوا جميع الحلي في النار ليذوب فيصير قطعة واحدة . لأن ذلك أسهل لحفظه حتى يرى نبي الله موسى فيه رأيه . والسامري يريد تدبير خطة لم يطلعوا عليها . وذلك أنه لما جاء جبريل ليذهب بموسى إلى الميقات وكان على فرس ، أخذ السامري ترابا مسه حافر تلك الفرس ، ويزعمون في القصة أنه عاين موضع أثرها ينبت فيه النبات ، فتفرس أن الله جعل فيها خاصية الحياة ، فأخذ تلك القبضة من التراب واحتفظ بها ، فلما أرادوا أن يطرحوا الحلي في النار ليجعلوه قطعة واحدة أو لغير ذلك من الأسباب وجعلوه فيها ، ألقى السامري عليه تلك القبضة من التراب المذكورة ، وقال له : كن عجلا جسدا له خوار . فجعله الله عجلا جسدا له خوار . فقال لهم : هذا العجل هو إلاهكم وإله موسى ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى عن موسى : قال فما خطبك ياسامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي [ 20 59 ] .

[ ص: 84 ] وقوله في هذه الآية : ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم هو من بقية اعتذارهم الفاسد البارد ، وهو يدل على أن ذلك الاعتذار من الذين عبدوا العجل لا من غيرهم ، ولا يبعد معه احتمال أنه من غيرهم . لأنه ليس فيه ما يعين كون الاعتذار منهم تعينا غير محتمل . ومعلوم أن هذا العذر عذر لا وجه له على كل حال .

وقوله في هذه الآية الكريمة : فنسي أي : نسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في محل آخر . قاله ابن عباس في حديث الفتون . وهو قول مجاهد . وعن ابن عباس أيضا من طريق عكرمة فنسي أي : نسي أن يذكركم به . وعن ابن عباس أيضا فنسي أي : السامري ما كان عليه من الإسلام ، وصار كافرا بادعاء ألوهية العجل وعبادته .
قوله تعالى : أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا .

بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة سخافة عقول الذين عبدوا العجل ، وكيف عبدوا ما لا يقدر على رد الجواب لمن سأله ، ولا يملك نفعا لمن عبده ، ولا ضرا لمن عصاه . وهذا يدل على أن المعبود لا يمكن أن يكون عاجزا عن النفع ، والضرر ورد الجواب . وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع . كقوله في " الأعراف " في القصة بعينها : ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين [ 7 148 ] ولا شك أن من اتخذ من لا يكلمه ، ولا يهديه سبيلا إلها أنه من أظلم الظالمين . ونظير ذلك قوله تعالى عن إبراهيم : ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا [ 19 42 ] وقوله تعالى عنه أيضا : قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون [ 26 72 ] وقوله تعالى : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها [ 7 195 ] وقوله تعالى : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 5 - 6 ] وقوله تعالى : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير [ 35 13 ] . وقد قدمنا [ ص: 85 ] الكلام مستوفى في همزة الاستفهام التي بعدها أداة عطف كالفاء ، والواو ، كقوله هنا : أفلا يرون فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقرأ هذا الحرف جماهير القراء ألا يرجع بالرفع لأن " أن " مخففة من الثقيلة . والدليل على أنها مخففة من الثقيلة تصريحه تعالى بالثقيلة في قوله في المسألة بعينها في " الأعراف " : ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم الآية [ 7 148 ] ورأى في آية " طه ، والأعراف " علمية على التحقيق ، لأنهم يعلمون علما يقينا أن ذلك العجل المصوغ من الحلي لا ينفع ، ولا يضر ، ولا يتكلم .

واعلم أن المقرر في علم النحو أن : " أن " لها ثلاث حالات : الأولى أن تكون مخففة من الثقيلة قولا واحدا . ولا يحتمل أن تكون " أن " المصدرية الناصبة للفعل المضارع . وضابط هذه : أن تكون بعد فعل العلم وما جرى مجراه من الأفعال الدالة على اليقين . كقوله تعالى : أن سيكون منكم مرضى [ 73 \ 20 ] ، وقوله : ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم الآية [ 72 \ 28 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، وقول الشاعر :


واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا


وقول الآخر :


في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل


وإذا جاء بعد هذه المخففة من الثقيلة فعل مضارع فإنه يرفع ، ولا ينصب كقوله :


علموا أن يؤملون فجادوا قبل أن يسألوا بأعظم سؤل


و " أن " هذه المخففة من الثقيلة يكون اسمها مستكنا غالبا ، والأغلب أن يكون ضمير الشأن . وقيل لا يكون إلا ضمير الشأن ، وخبرها الجملة التي بعدها ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :


وإن تخفف أن فاسمها استكن والخبر اجعل جملة من بعد أن


وما سمع في شعر العرب من بروز اسمها في حال كونه غير ضمير الشأن فمن ضرورة الشعر . كقول جنوب أخت عمرو ذي الكلب :


لقد علم الضيف والمرملون إذا اغبر أفق وهبت شمالا
بأنك ربيع وغيث مربع وأنك هناك تكون الثمالا


وقول الآخر :


فلو أنك في يوم الرخاء سألتني طلاقك لم أبخل وأنت صديق


[ ص: 86 ] الحالة الثانية أن تكون محتملة لكونها المصدرية الناصبة للمضارع . ومحتملة لأن تكون هي المخففة من الثقيلة .

وإن جاء بعدها فعل مضارع جاز نصبه للاحتمال الأول ، ورفعه للاحتمال الثاني ، وعليه القراءتان السبعيتان في قوله وحسبوا ألا تكون فتنة [ 5 ] ، بنصب " تكون " ورفعه ، وضابط " أن " هذه أن تكون بعد فعل يقتضي الظن ونحوه من أفعال الرجحان . وإذا لم يفصل بينها وبين الفعل فاصل فالنصب أرجح ، ولذا اتفق القراء على النصب في قوله تعالى أحسب الناس أن يتركوا الآية [ 29 \ 2 ] وقيل : إن " أن " الواقعة بعد الشك ليس فيها إلا النصب . نقله الصبان في حاشيته عن أبي حيان بواسطة نقل السيوطي .

الحالة الثالثة : أن تكون " أن " ليست بعد ما يقتضي اليقين ، ولا الظن ولم يجر مجراهما ، فهي المصدرية الناصبة للفعل المضارع قولا واحدا . وإلى الحالات الثلاث المذكورة أشار بقوله في الخلاصة :


وبلن انصبه وكي كذا بأن لا بعد علم والتي من بعد ظن
فانصب بها والرفع صحح واعتقد تخفيفها من أن فهو مطرد


تنبيه

قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة : وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلها . لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطا بشروط كثيرة ، ففوات واحد منها يقتضي فوات المشروط ، ولكن حصول الواحد فيها لا يقتضي حصول المشروط انتهى كلامه .

وما ذكره مقرر في الأصول . فكل ما توقف على شرطين فصاعدا لا يحصل إلا بحصول جميع الشروط . فلو قلت لعبدك : إن صام زيد وصلى وحج فأعطه دينارا . لم يجز له إعطاؤه الدينار إلا بالشروط الثلاثة . ومحل هذا ما لم يكن تعليق الشروط على سبيل البدل فإنه يكفي فيه واحد . فلو قلت لعبدك : إن صام زيد أو صلى فأعطه درهما . فإنه يستوجب إعطاء الدرهم بأحد الأمرين . وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود في مبحث المخصصات المتصلة بقوله :


وإن تعلق على شرطين شيء فبالحصول للشرطين وما على البدل قد تعلقا
فبحصول واحد تحققا



وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : وقد تقدم في حديث الفتون عن [ ص: 87 ] الحسن البصري : أن هذا العجل اسمه يهموت . وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة : أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل ، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير ، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر : أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب . يعني هل يصلي فيه أم لا ؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما : انظروا إلى أهل العراق قتلوا ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( يعني الحسين رضي الله عنه ) وهم يسألون عن دم البعوضة انتهى منه .
قوله تعالى : ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى .

بين جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين : أن بني إسرائيل لما فتنهم السامري وأضلهم بعبادة العجل ، نصحهم نبي الله هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وبين لهم أن عبادتهم العجل فتنة فتنوا بها . أي : كفر وضلال ارتكبوه بذلك ، وبين لهم أن ربهم الرحمن خالق كل شيء جل وعلا ، وأن عجلا مصطنعا من حلي لا يعبده إلا مفتون ضال كافر . وأمرهم باتباعه في توحيد الله تعالى ، والوفاء بموعد موسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام وأن يطيعوه في ذلك . فصارحوه بالتمرد ، والعصيان ، والديمومة على الكفر حتى يرجع موسى . وهذا يدل على أنه بلغ معهم غاية جهده وطاقته ، وأنهم استضعفوه وتمردوا عليه ولم يطيعوه .

وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع ، كقوله في " الأعراف " : قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين [ 7 \ 150 ] ، . فقوله عنهم في خطابهم له لن نبرح عليه عاكفين يدل على استضعافهم له وتمردهم عليه المصرح به في " الأعراف " كما بينا . وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات الكريمات ما نصه : وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي : ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية ؟ واعلم حرس الله مدته : أنه اجتمع جماعة من رجال فيكثرون من ذكر الله تعالى وذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم ، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه ، ويحضرون شيئا يأكلونه . هل الحضور معهم جائز أم لا ؟ أفتونا مأجورين . وهذا القول الذي يذكرونه :

يا شيخ كف عن الذنوب قبل التفرق والزلل

[ ص: 88 ]
واعمل لنفسك صالحا ما دام ينفعك العمل أما الشباب فقد مضى
ومشيب رأسك قد نزل


وفي مثل هذا ونحوه الجواب يرحمك الله : مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة ، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . وأما الرقص ، والتواجد : فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار ، قاموا يرقصون حواليه ، ويتواجدون ، فهو دين الكفار وعبادة العجل . وأما القضيب : فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى . وإنما كان يجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه كأنما على رءوسهم الطير من الوقار . فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من حضور المساجد ، وغيرها . ولا يحل لأحد أن يؤمن بالله ، واليوم الآخر أن يحضر معهم ، ولا أن يعينهم على باطلهم . هذا مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق انتهى منه بلفظه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد قدمنا في سورة " مريم " ما يدل على أن بعض الصوفية على الحق . ولا شك أن منهم من هو على الطريق المستقيم من العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وبذلك عالجوا أمراض قلوبهم وحرسوها ، وراقبوها وعرفوا أحوالها ، وتكلموا على أحوال القلوب كلاما مفصلا كما هو معلوم ، كعبد الرحمن بن عطية ، أو ابن أحمد بن عطية ، أو ابن عسكر أعني أبا سليمان الداراني ، وكعون بن عبد الله الذي كان يقال له حكم الأمة ، وأضرابهما ، وكسهل بن عبد الله التستري ، أبي طالب المكي ، وأبي عثمان النيسابوري ، ويحيى بن معاذ الرازي ، والجنيد بن محمد ، ومن سار على منوالهم ، لأنهم عالجوا أمراض أنفسهم بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يحيدون عن العمل بالكتاب ، والسنة ظاهرا وباطنا ، ولم تظهر منهم أشياء تخالف الشرع . فالحكم بالضلال على جميع الصوفية لا ينبغي ، ولا يصح على إطلاقه ، والميزان الفارق بين الحق ، والباطل في ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . فمن كان منهم متبعا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله ، وهديه وسمته ، كمن ذكرنا وأمثالهم ، فإنهم من جملة العلماء العاملين ، ولا يجوز الحكم عليهم بالضلال . وأما من كان على خلاف ذلك فهو الضال .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #288  
قديم 11-05-2022, 07:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (286)

سُورَةُ طه
صـ 89 إلى صـ 95



نعم ، صار المعروف في الآونة الأخيرة ، وأزمنة كثيرة قبلها بالاستقراء ، أن عامة الذين يدعون التصوف في أقطار الدنيا إلا من شاء الله منهم دجاجلة يتظاهرون بالدين ليضلوا العوام الجهلة وضعاف العقول من طلبة العلم ، ليتخذوا بذلك أتباعا وخدما ، [ ص: 89 ] وأموالا وجاها ، وهم بمعزل عن مذهب الصوفية الحق ، لا يعملون بكتاب الله ، ولا بسنة نبيه ، واستعمارهم لأفكار ضعاف العقول أشد من استعمار كل طوائف المستعمرين . فيجب التباعد عنهم ، والاعتصام من ضلالتهم بكتاب الله وسنة نبيه ، ولو ظهر على أيديهم بعض الخوارق ، ولقد صدق من قال :


إذا رأيت رجلا يطير وفوق ماء البحر قد يسير
ولم يقف عند حدود الشرع فإنه مستدرج أو بدعي


والقول الفصل في ذلك هو قوله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا [ 4 \ 123 ] ، فمن كان عمله مخالفا للشرع كمتصوفة آخر الزمان فهو الضال . ومن كان عمله موافقا لما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام فهو المهتدي . نرجو الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المؤمنين ، وألا يزيغنا ، ولا يضلنا عن العمل بكتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - التي هي محجة بيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك .
قوله تعالى : قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني .

قال بعض أهل العلم : " لا " في قوله : ألا تتبعني زائدة للتوكيد . واستدل من قال ذلك بقوله تعالى في " الأعراف " : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] ، قال لأن المراد : ما منعك أن تسجد إذ أمرتك . بدليل قوله في القصة بعينها في سورة " ص " : قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي الآية [ 38 ] . فحذف لفظة " لا " في " ص " مع ثبوتها في " الأعراف " ، والمعنى واحد . فدل ذلك على أنها مزيدة للتوكيد .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد عرف في اللغة العربية أن زيادة لفظة " لا " في الكلام الذي فيه معنى الجحد لتوكيده مطردة . كقوله هنا : ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أي : ما منعك أن تتبعني ، وقوله : ما منعك أن تسجد بدليل قوله في " ص " : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي الآية ، وقوله تعالى : لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله الآية [ 57 \ 29 ] . أي : ليعلم أهل الكتاب ، وقوله فلا وربك لا يؤمنون [ 4 \ 65 ] ، أي فوربك لا يؤمنون ، وقوله : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة [ 41 ] ، [ ص: 90 ] أي : والسيئة ، وقوله : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [ 21 \ 95 ] ، على أحد القولين ، وقوله : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون [ 6 \ 109 ] ، على أحد القولين ، وقوله : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا الآية [ 6 \ 151 ] على أحد الأقوال فيها .

ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس :


فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر


يعني فوأبيك . وقول أبي النجم :


فما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا


يعني أن تسخر ، وقول الآخر :


ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر


يعني وعمر . وقول الآخر :


وتلحينني في اللهو ألا أحبه وللهو داع دائب غير غافل


يعني أن أحبه ، و " لا " مزيدة في جميع الأبيات لتوكيد الجحد فيها . وقال الفراء : إنها لا تزاد إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد كالأمثلة المتقدمة . والمراد بالجحد النفي وما يشبه كالمنع في قوله : ما منعك [ 20 \ 89 ] ، ونحو ذلك . والذي يظهر لنا ، والله تعالى أعلم . أن زيادة لفظة " لا " لتوكيد الكلام وتقويته أسلوب من أساليب اللغة العربية ، وهو في الكلام الذي فيه معنى الجحد أغلب مع أن ذلك مسموع في غيره . وأنشد الأصمعي لزيادة " لا " قول ساعدة الهذلي :


أفعنك لا برق كأن وميضه غاب تسنمه ضرام مثقب


ويروى " أفمنك " بدل " أفعنك " و " تشيمه " بدل " تسنمه " يعني أعنك برق بـ " لا " زائدة للتوكيد ، والكلام ليس فيه معنى الجهد . ونظيره قول الآخر :


تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع


يعني كاد يتقطع . وأنشد الجوهري لزيادة " لا " قول العجاج :


في بئر لا حور سرى وما شعر بإفكه حتى رأى الصبح جشر


والحور الهلكة . يعني في بئر هلكة ، ولا زائدة للتوكيد . قاله أبو عبيدة ، وغيره . [ ص: 91 ] والكلام ليس فيه معنى الجحد . وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " البلد " .
قوله تعالى : أفعصيت أمري .

الظاهر أن أمره المذكور في هذه الآية هو المذكور في قوله تعالى : وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين [ 7 \ 142 ] .

وهذه الآية الكريمة تدل على اقتضاء الأمر للوجوب . لأنه أطلق اسم المعصية على عدم امتثال الأمر ، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة : كقوله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] ، وقوله : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] ، فجعل أمره وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - مانعا من الاختيار ، موجبا للامتثال . وقوله تعالى : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] ، فوبخه هذا التوبيخ الشديد على عدم امتثال الأمر المدلول عليه بصيغة افعل في قوله تعالى : اسجدوا لآدم [ 20 \ 116 ] ، . وجماهير الأصوليين على أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب للأدلة التي ذكرنا ، وغيرها مما هو مماثل لها . وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله :


وافعل لدى الأكثر للوجوب وقيل للندب أو المطلوب


. . إلخ .
قوله تعالى : قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن هارون قاله لأخيه موسى ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي وذلك يدل على أنه لشدة غضبه أراد أن يمسك برأسه ولحيته . وقد بين تعالى في " الأعراف " أنه أخذ برأسه يجره إليه . وذلك في قوله : وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن [ 7 \ 150 ] ، . وقوله : ولم ترقب قولي [ 20 \ 94 ] ، من بقية كلام هارون . أي : خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ، وأن تقول لي لم ترقب قولي أي : لم تعمل بوصيتي وتمتثل أمري .
[ ص: 92 ] تنبيه

هذه الآية الكريمة بضميمة آية " الأنعام " إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية ، فهي دليل قرآني على إعفاء اللحية وعدم حلقها . وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى : ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون الآية [ 6 \ 84 ] . ثم إنه تعالى قال بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 ] ، فدل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم ، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بذلك أمر لنا . لأن أمر القدوة أمر لأتباعه كما بينا إيضاحه بالأدلة القرآنية في هذا الكتاب المبارك في سورة " المائدة " وقد قدمنا هناك : أنه ثبت في صحيح البخاري : أن مجاهدا سأل ابن عباس : من أين أخذت السجدة في " ص " قال : أو ما تقرأ ومن ذريته داود [ 6 \ 84 ] ، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 ] ، فسجدها داود فسجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا علمت بذلك أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم في سورة " الأنعام " ، وعلمت أن أمره أمر لنا . لأن لنا فيه الأسوة الحسنة ، وعلمت أن هارون كان موفرا شعر لحيته بدليل قوله لأخيه : لا تأخذ بلحيتي لأنه لو كان حالقا لما أراد أخوه الأخذ بلحيته تبين لك من ذلك بإيضاح : أن إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به في القرآن العظيم ، وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم . والعجب من الذين مضخت ضمائرهم ، واضمحل ذوقهم ، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية ، وشرف الرجولة ، إلى خنوثة الأنوثة ، ويمثلون بوجوههم بحلق أذقانهم ، ويتشبهون بالنساء حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر ، والأنثى وهو اللحية . وقد كان - صلى الله عليه وسلم - كث اللحية ، وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة . والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر ، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها : ليس فيهم حالق . نرجو الله أن يرينا وإخواننا المؤمنين الحق حقا ، ويرزقنا اتباعه ، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه .

أما الأحاديث النبوية الدالة على إعفاء اللحية ، فلسنا بحاجة إلى ذكرها لشهرتها بين الناس ، وكثرة الرسائل المؤلفة في ذلك . وقصدنا هنا أن نبين دليل ذلك من القرآن . وإنما قال هارون لأخيه قال ياابن أم لأن قرابة الأم أشد عطفا وحنانا من قرابة الأب .

وأصله يا ابن أمي بالإضافة إلى ياء المتكلم ، ويطرد حذف الياء وإبدالها ألفا وحذف الألف المبدلة منها كما هنا ، وإلى ذلك أشار في الخلاصة بقوله :


وفتح أو كسر وحذف اليا استمر في يا بن أم يا بن عم لا مفر

[ ص: 93 ] وأما ثبوت ياء المتكلم فيقول حرملة بن المنذر :


يا ابن أمي ويا شقيقي نفسي أنت خليتني لدهر شديد


فلغة قليلة . وقال بعضهم : هو لضرورة الشعر . وقوله " يا ابن أم " قرأه ابن عامر وشعبة عن عاصم وحمزة ، والكسائي بكسر الميم . وقرأه الباقون بفتحها . وكذلك قوله في " الأعراف " : قال ابن أم إن القوم [ 7 \ 150 ] .
قوله تعالى : إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما .

بين جل وعلا في هذه الآية : أن العجل الذي صنعه السامري من حلي القبط لا يمكن أن يكون إلاها ؟ وذلك لأنه حصر الإله أي : المعبود بحق بـ إنما التي هي أداة حصر على التحقيق في خالق السماوات ، والأرض . الذي لا إله إلا هو . أي : لا معبود بالحق إلا هو وحده جل وعلا ، وهو الذي وسع كل شيء علما . وقوله علما تمييز محول عن الفاعل ، أي : وسع علمه كل شيء .

وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة : من أنه تعالى هو الإله المعبود بحق دون غيره ، وأنه وسع كل شيء علما ذكره في آيات كثيرة من كتابه تعالى . كقوله تعالى : الله لا إله إلا هو الآية [ 3 \ 2 ] ، وقوله : فاعلم أنه لا إله إلا الله الآية [ 47 \ 19 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله في إحاطة علمه بكل شيء : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] ، وقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [ 6 \ 59 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق .

الكاف في قوله كذلك في محل نصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : نقص عليك من أنباء ما سبق قصصا مثل ذلك القصص الحسن الحق الذي قصصنا عليك عن موسى وهارون ، وعن موسى وقومه ، والسامري . والظاهر أن " من " في قوله من أنباء ما قد سبق للتبعيض ، ويفهم من ذلك أن بعضهم لم يقصص عليه خبره ويدل لهذا [ ص: 94 ] المفهوم قوله تعالى في سورة " النساء " : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك [ 4 \ 164 ] ، وقوله في سورة " المؤمن " : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك [ 40 \ 78 ] ، قوله في سورة " إبراهيم " ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات [ 14 \ 9 ] ، . والأنباء : جمع نبأ وهو الخبر الذي له شأن .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه قص على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أخبار الماضين . أي : ليبين بذلك صدق نبوته ، لأنه أمي لا يكتب ، ولا يقرأ الكتب ، ولم يتعلم أخبار الأمم وقصصهم . فلولا أن الله أوحى إليه ذلك لما علمه . بينه أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله في " آل عمران " : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون [ 3 \ 44 ] ، أي : فلولا أن الله أوحى إليك ذلك لما كان لك علم به . وقوله تعالى في سورة " هود " تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين [ 11 \ 49 ] ، وقوله في " هود " أيضا : وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك الآية [ 11 \ 120 ] . وقوله تعالى في سورة " يوسف " : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون [ 12 \ 102 ] ، وقوله في " يوسف " أيضا : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [ 12 \ 3 ] ، وقوله في " القصص " : وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر [ 28 \ 44 ] ، وقوله فيها : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا [ 28 \ 46 ] ، وقوله : وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا [ 28 \ 45 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . يعني لم تكن حاضرا يا نبي الله لتلك الوقائع ، فلولا أن الله أوحى إليك ذلك لما علمته . وقوله من أنباء ما قد سبق أي : أخبار ما مضى من أحوال الأمم ، والرسل .
قوله تعالى : وقد آتيناك من لدنا ذكرا .

أي : أعطيناك من عندنا ذكرا وهو هذا القرآن العظيم ، وقد دلت على ذلك آيات من كتاب الله . كقوله : وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون [ 21 \ 50 ] ، وقوله تعالى : ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم [ 3 \ 58 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 95 ] ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون [ 21 \ 2 ] ، وقوله : وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون [ 15 \ 6 ] ، وقوله تعالى : ص والقرآن ذي الذكر [ 38 ] ، وقوله تعالى : وإنه لذكر لك ولقومك الآية [ 43 \ 44 ] وقوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة : ثم في تسمية القرآن بالذكر وجوه :

أحدها : أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم .

وثانيها : أنه يذكر أنواع آلاء الله ونعمائه تعالى . ففيه التذكير ، والمواعظ .

وثالثها : أنه فيه الذكر ، والشرف لك ولقومك على ما قال : وإنه لذكر لك ولقومك [ 43 \ 44 ] ، .

واعلم أن الله تعالى سمى كل كتبه ذكرا فقال : فاسألوا أهل الذكر [ 21 \ 7 ] ، ا ه المراد من كلام الرازي .

ويدل للوجه الثاني في كلامه قوله تعالى :

كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] ، وقوله تعالى : وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا . [ 20 \ 113 ] .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #289  
قديم 11-05-2022, 07:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (287)

سُورَةُ طه
صـ 96 إلى صـ 102




وقوله تعالى : من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من أعرض عن هذا الذكر الذي هو القرآن العظيم ، أي : صد وأدبر عنه ، ولم يعمل بما فيه من الحلال ، والحرام ، والآداب ، والمكارم ، ولم يعتقد ما فيه من العقائد ويعتبر بما فيه من القصص ، والأمثال ، ونحو ذلك فإنه يحمل يوم القيامة وزرا ، قال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : يريد بالوزر العقوبة الثقيلة الباهظة . سماها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها ، بالحمل الذي يفدح الحامل وينقض ظهره ، ويلقي عليه بوزره . أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد دلت آيات كثيرة من كتاب الله : على أن المجرمين يأتون يوم القيامة يحملون أوزارهم . أي : أثقال ذنوبهم على ظهورهم . كقوله في [ ص: 96 ] سورة " الأنعام " : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون [ 6 \ 31 ] ، وقوله في " النحل " : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون [ 16 \ 25 ] ، وقوله في " العنكبوت " : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون [ 29 \ 13 ] ، وقوله في " فاطر " : ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [ 35 \ 18 ] ، .

وبهذه الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تعلم أن معنى قوله تعالى : فإنه يحمل يوم القيامة وزرا [ 20 \ 100 ] ، وقوله : وساء لهم يوم القيامة حملا [ 20 \ 101 ] ، أن المراد بذلك الوزر المحمول أثقال ذنوبهم وكفرهم يأتون يوم القيامة يحملونها : سواء قلنا إن أعمالهم السيئة تتجسم في أقبح صورة وأنتنها ، أو غير ذلك كما تقدم إيضاحه . والعلم عند الله . وقد قدمنا عمل " ساء " التي بمعنى بئس مرارا . فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقوله تعالى : خالدين فيه . قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : خالدين فيه يريد مقيمين فيه ، أي : في جزائه ، وجزاؤه جهنم .

تنبيه

إفراد الضمير في قوله : أعرض وقوله : فإنه وقوله : يحمل باعتبار لفظ " من " وأما جمع خالدين وضمير لهم يوم القيامة فباعتبار معنى من . كقوله : ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها [ 20 \ 101 ] ، وقوله : ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا الآية [ 72 \ 23 ] .

وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت : اللام في " لهم " ما هي ؟ وبم تتعلق ؟ قلت : هي للبيان كما في هيت لك . [ 12 \ 23 ] .
قوله تعالى : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنهم يسألونه عن الجبال ، وأمره أن يقول لهم : [ ص: 97 ] إن ربه ينسفها نسفا ، وذلك بأن يقلعها من أصولها ، ثم يجعلها كالرمل المتهايل الذي يسيل ، وكالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا .

واعلم أنه جل وعلا بين الأحوال التي تصير إليها الجبال يوم القيامة في آيات من كتابه . فبين أنه ينزعها من أماكنها ويحملها فيدكها دكا . وذلك في قوله : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة [ 69 \ 13 - 14 ] ، .

ثم بين أنه يسيرها في الهواء بين السماء والأرض . وذلك في قوله ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون [ 27 \ 87 - 88 ] ، وقوله : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة الآية [ 18 \ 47 ] وقوله : وإذا الجبال سيرت [ 81 \ 3 ] ، وقوله تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، وقوله تعالى : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا [ 52 \ 9 - 10 ] ، .

ثم بين أنه يفتتها ويدقها كقوله وبست الجبال بسا أي : فتتت حتى صارت كالبسيسة ، وهي دقيق ملتوت بسمن أو نحوه على القول بذلك ، وقوله : وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة [ 69 \ 14 ] ، .

ثم بين أنه يصيرها كالرمل المتهايل ، وكالعهن المنفوش ؟ وذلك في قوله : يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا [ 73 \ 14 ] ، وقوله تعالى : يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن [ 70 \ 9 ] ، في " المعارج ، والقارعة " . والعهن : الصوف المصبوغ . ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته :


كأن فتات العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم


ثم بين أنها تصير كالهباء المنبث في قوله : وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا [ 56 \ 5 - 6 ] ، ثم بين أنها تصير سرابا ، وذلك في قوله : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، وقد بين في موضع آخر : أن السراب لا شيء . وذلك قوله تعالى : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] ، وبين أنه ينسفها نسفا في قوله هنا : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا [ 20 \ 105 ] ، .
تنبيه

[ ص: 98 ] جرت العادة في القرآن : أن الله إذا قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : يسألونك قال له قل بغير فاء . كقوله : ويسألونك عن الروح قل الروح الآية [ 17 \ 85 ] وقوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير الآية [ 2 \ 219 ] وقوله : يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير الآية [ 2 \ 215 ] وقوله يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات الآية [ 5 \ 4 ] وقوله : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير [ 2 \ 217 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، أما في آية " طه " هذه فقال فيها : فقل ينسفها [ 20 \ 105 ] بالفاء . وقد أجاب القرطبي عن هذا في تفسير هذه الآية بما نصه : ويسألونك عن الجبال أي : عن حال الجبال يوم القيامة ، فقل . جاء هذا بفاء ، وكل سؤال في القرآن " قل " بغير فاء إلا هذا ؛ لأن المعنى : إن سألوك عن الجبال فقل ، فتضمن الكلام معنى الشرط ، وقد علم الله أنهم يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال . وتلك أسئلة تقدمت ، سألوا عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء الجواب عقب السؤال . فلذلك كان بغير فاء . وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد فتفهمه انتهى منه . وما ذكره يحتاج إلى دليل ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا .

الضمير في قوله : فيذرها فيه وجهان معروفان عند العلماء :

أحدهما : أنه راجع إلى الأرض وإن لم يجر لها ذكر . ونظير هذا القول في هذه الآية قوله تعالى : ما ترك على ظهرها من دابة [ 35 \ 45 ] ، وقوله : ما ترك عليها من دابة [ 16 \ 16 ] ، فالضمير فيهما راجع إلى الأرض ولم يجر لها ذكر . وقد بينا شواهد ذلك من العربية ، والقرآن بإيضاح في سورة " النحل " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

والثاني : أنه راجع إلى منابت الجبال التي هي مراكزها ومقارها لأنها مفهومة من ذكر الجبال . والمعنى : فيذر مواضعها التي كانت مستقرة فيها من الأرض قاعا صفصفا . والقاع : المستوي من الأرض . وقيل : مستنقع الماء . والصفصف : المستوي الأملس [ ص: 99 ] الذي لا نبات فيه ، ولا بناء ، فإنه على صف واحد في استوائه . وأنشد لذلك سيبويه قول الأعشى :


وكم دون بيتك من صفصف ودكداك رمل وأعقادها


ومنه قول الآخر :


وملمومة شهباء لو قذفوا بها شماريخ من رضوى إذا عاد صفصفا


وقوله : لا ترى فيها عوجا ولا أمتا [ 20 \ 107 ] ، أي : لا اعوجاج فيها ، ولا أمت . والأمت : النتوء اليسير . أي : ليس فيها اعوجاج ، ولا ارتفاع بعضها على بعض ، بل هي مستوية ، ومن إطلاق الأمت بالمعنى المذكور قول لبيد :


فاجرمزت ثم سارت وهي لاهية في كافر ما به أمت ، ولا شرف


وقول الآخر :


فأبصرت لمحة من رأس عكرشة في كافر ما به أمت ولا عوج


والكافر في البيتين : قيل الليل . وقيل المطر ، لأنه يمنع العين من رؤية الارتفاع ، والانحدار في الأرض .

وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت : قد فرقوا بين العوج ، والعوج فقالوا . العوج بالكسر في المعاني ، والعوج بالفتح في الأعيان . والأرض عين ، فكيف صح فيها المكسور العين ؟

قلت اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء ، والملاسة ، ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون . وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها ، وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة ، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط ، ثم استطلعت رأي المهندس فيها ، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك ذلك بحاسة البصر ، ولكن بالقياس الهندسي ، فنفى الله عز وجل ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإدراك ، اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير ، والهندسة ، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل فيه : عوج بالكسر ، والأمت : النتوء اليسير ، يقال : مد حبله حتى ما فيه أمت . انتهى منه . وقد قدمنا في أول سورة الكهف ما يغني عن هذا الكلام الذي ذكره ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 100 ] قوله تعالى : يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا .

قوله يومئذ أي : يوم إذ نسفت الجبال يتبعون الداعي . والداعي : هو الملك الذي يدعوهم إلى الحضور للحساب . قال بعض أهل العلم : يناديهم أيتها العظام النخرة ، والأوصال المتفرقة ، واللحوم المتمزقة ، قومي إلى ربك للحساب ، والجزاء ، فيسمعون الصوت ويتبعونه . ومعنى لا عوج له : أي : لا يحيدون عنه ، ولا يميلون يمينا ، ولا شمالا . وقيل : لا عوج لدعاء الملك عن أحد ، أي : لا يعدل بدعائه عن أحد ، بل يدعوهم جميعا . وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من اتباعهم للداعي للحساب ، وعدم عدولهم عنه بينه في غير هذا الموضع ، وزاد أنهم يسرعون إليه كقوله تعالى فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر [ 54 \ 6 - 8 ] ، والإهطاع : الإسراع : وقوله تعالى : واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج [ 50 \ 41 - 42 ] ، وقوله تعالى : يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده الآية [ 17 \ 52 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وخشعت الأصوات للرحمن أي : خفضت وخفتت ، وسكنت هيبة لله ، وإجلالا وخوفا فلا تسمع في ذلك اليوم صوتا عاليا ، بل لا تسمع إلا همسا أي : صوتا خفيا خافتا من شدة الخوف . أو إلا همسا أي : إلا صوت خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر ، والهمس يطلق في اللغة على الخفاء ، فيشمل خفض الصوت وصوت الأقدام . كصوت أخفاف الإبل في الأرض التي فيها يابس النبات ، ومنه قول الراجز :


وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا


وما ذكره جل وعلا هنا أشار له في غير هذا الموضع ، كقوله : رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ 78 \ 37 ] .

وقوله هنا : يومئذ لا تنفع الشفاعة الآية ، قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في " مريم " ، وغيرها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
[ ص: 101 ] قوله تعالى : وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما .

قوله : عنت أي : ذلت وخضعت . تقول العرب : عنا يعنو عنوا وعناء : إذ ذل وخضع ، وخشع . ومنه قيل للأسير عان لذله وخضوعه لمن أسره . ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :


مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد


وقوله أيضا :


وعنا له وجهي وخلقي كله في الساجدين لوجهه مشكورا


واعلم أن العلماء اختلفوا في هذه الآية الكريمة ، فقال بعضهم : المراد بالوجوه التي ذلت وخشعت للحي القيوم : وجوه العصاة خاصة وذلك يوم القيامة : وأسند الذل ، والخشوع لوجوههم ، لأن الوجه تظهر فيه آثار الذل ، والخشوع . ومما يدل على هذا المعنى من الآيات القرآنية قوله تعالى : فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا الآية [ 67 \ 27 ] وقوله : ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة [ 75 \ 24 ] ، وقوله تعالى : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية [ 88 \ 2 - 4 ] ، ، وعلى هذا القول انتصر الزمخشري واستدل له ببعض الآيات المذكورة .

وقال بعض العلماء وعنت الوجوه : أي : ذلت وخضعت وجوه المؤمنين لله في دار الدنيا ، وذلك بالسجود ، والركوع . وظاهر القرآن يدل على أن المراد الذل والخضوع لله يوم القيامة ، لأن السياق في يوم القيامة ، وكل الخلائق تظهر عليهم في ذلك اليوم علامات الذل ، والخضوع لله جل وعلا .

وقوله في هذه الآية : وقد خاب من حمل ظلما قال بعض العلماء : أي : خسر من حمل شركا . وتدل لهذا القول الآيات القرآنية الدالة على تسمية الشرك ظلما . كقوله : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] ، وقوله : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] ، وقوله : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] ، وقوله : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية [ 6 \ 82 ] إلى غير ذلك من الآيات ، والأظهر أن الظلم في قوله : وقد خاب من حمل ظلما [ 20 \ 111 ] ، يعم الشرك ، وغيره من المعاصي . وخيبة كل ظالم بقدر ما حل من الظلم ، والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 102 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : للحي القيوم الحي : المتصف بالحياة الذي لا يموت أبدا . والقيوم صيغة مبالغة . لأنه جل وعلا هو القائم بتدبير شئون جميع الخلق . وهو القائم على كل نفس بما كسبت . وقيل : القيوم الدائم الذي لا يزول .
قوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من يعمل من الصالحات وهو مؤمن بربه فإنه لا يخاف ظلما ، ولا هضما . وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع . كقوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] ، وقوله : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 60 \ 44 ] ، وقوله تعالى : ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، كما قدمنا ذلك .

وفرق بعض أهل العلم بين الظلم ، والهضم بأن الظلم المنع من الحق كله . والهضم : النقص والمنع من بعض الحق . فكل هضم ظلم ، ولا ينعكس . ومن إطلاق الهضم على ما ذكر قول المتوكل الليثي :


إن الأذلة واللئام لمعشر مولاهم المنهضم المظلوم


فالمنهضم : اسم مفعول تهضمه إذا اهتضمه في بعض حقوقه وظلمه فيها .

وقرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن كثير بربه فلا يخاف [ 20 \ 111 ] ، بضم الفاء وبألف بعد الخاء مرفوعا ، ولا نافية . أي : فهو لا يخاف ، أو فإنه لا يخاف . وقرأه ابن كثير " فلا يخف " بالجزم من غير ألف بعد الخاء . وعليه فـ " لا " ناهية جازمة المضارع . وقول القرطبي في تفسيره : إنه على قراءة ابن كثير مجزوم . لأنه جواب لقوله ومن يعمل غلط منه . لأن الفاء في قوله فلا يخاف مانعة من ذلك . والتحقيق هو ما ذكرنا من أن " لا " ناهية على قراءة ابن كثير ، والجملة الطلبية جزاء الشرط ، فيلزم اقترانها بالفاء . لأنها لا تصلح فعلا للشرط كما قدمناه مرارا .
قوله تعالى : وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد .

الآية ، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #290  
قديم 11-05-2022, 07:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (288)

سُورَةُ طه
صـ 103 إلى صـ 109




قوله تعالى : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما

.

[ ص: 103 ] كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه جبريل بالوحي كلما قال جبريل آية قالها معه - صلى الله عليه وسلم - من شدة حرصه على حفظ القرآن . فأرشده الله في هذه الآية إلى ما ينبغي . فنهاه عن العجلة بقراءة القرآن مع جبريل ، بل أمره أن ينصت لقراءة جبريل حتى ينتهي ، ثم يقرؤه هو بعد ذلك ، فإن الله ييسر له حفظه . وهذا المعنى المشار إليه في هذه الآية أوضحه الله في غير هذا الموضع . كقوله في " القيامة " : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 16 - 19 ] ، وقال البخاري في صحيحه : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا أبو عوانة قال : حدثنا موسى بن أبي عائشة قال : حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة ، وكان مما يحرك شفتيه ، فقال ابن عباس : فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما . وقال سعيد : أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما ، فحرك شفتيه . فأنزل الله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه [ 75 \ 16 - 17 ] ، قال : جمعه لك في صدرك ، ونقرؤه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه [ 75 \ 18 ] ، قال : فاستمع له وأنصت ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 19 ] ، ثم علينا أن نقرأه . فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع . فإذا انطلق جبريل قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قرأه ا ه .
قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما .

قوله : ولقد عهدنا إلى آدم أي : أوصيناه ألا يقرب تلك الشجرة . وهذا العهد إلى آدم الذي أجمله هنا بينه في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة " البقرة " : وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [ 2 \ 35 ] ، فقوله : ولا تقربا هذه الشجرة هو عهده إلى آدم المذكور هنا .

وقوله في " الأعراف " : ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [ 7 \ 19 ] ، .

وقوله تعالى : فنسي فيه للعلماء وجهان معروفان : أحدهما : أن المراد بالنسيان الترك ، فلا ينافي كون الترك عمدا . والعرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمدا ، ومنه قوله تعالى : قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ 20 \ 126 ] ، فالمراد في هذه الآية : الترك قصدا . وكقوله تعالى : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] ، [ ص: 104 ] وقوله تعالى : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون [ 32 \ 14 ] ، وقوله تعالى : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون [ 59 \ 19 ] ، وقوله تعالى : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 45 \ 34 ] . وعلى هذا فمعنى قوله : فنسي أي : ترك الوفاء بالعهد ، وخالف ما أمره الله به من ترك الأكل من تلك الشجرة ، لأن النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده .

والوجه الثاني : هو أن المراد بالنسيان في الآية : النسيان الذي هو ضد الذكر ، لأن إبليس لما أقسم له بالله أنه له ناصح فيما دعاه إليه من الأكل من الشجرة التي نهاه ربه عنها غره وخدعه بذلك ، حتى أنساه العهد المذكور . كما يشير إليه قوله تعالى : وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور [ 7 \ 21 - 22 ] ، . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي رواه عنه ابن أبي حاتم ا ه . ولقد قال بعض الشعراء :


وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب


أما على القول الأول فلا إشكال في قوله : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] ، وأما على الثاني ففيه إشكال معروف . لأن الناسي معذور فكيف يقال فيه وعصى آدم ربه فغوى .

وأظهر أوجه الجواب عندي عن ذلك : أن آدم لم يكن معذورا بالنسيان . وقد بينت في كتابي ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) الأدلة الدالة على أن العذر بالنسيان والخطأ والإكراه من خصائص هذه الأمة . كقوله هنا فنسي مع قوله وعصى فأسند إليه النسيان ، والعصيان ، فدل على أنه غير معذور بالنسيان . ومما يدل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] ، قال الله نعم قد فعلت . فلو كان ذلك معفوا عن جميع الأمم لما كان لذكره على سبيل الامتنان وتعظيم المنة عظيم موقع . ويستأنس لذلك بقوله : كما حملته على الذين من قبلنا [ 2 \ 286 ] ، ويؤيد ذلك حديث : " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان وما استكرهوا عليه " . فقوله " تجاوز لي عن أمتي " يدل على الاختصاص بأمته . وليس مفهوم لقب . لأن مناط [ ص: 105 ] التجاوز عن ذلك هو ما خصه الله به من التفضيل على غيره من الرسل .

والحديث المذكور وإن أعله الإمام أحمد ، وابن أبي حاتم فله شواهد ثابتة في الكتاب ، والسنة . ولم يزل علماء الأمة قديما وحديثا يتلقونه بالقبول . ومن الأدلة على ذلك حديث طارق بن شهاب المشهور في الذي دخل النار في ذباب قربه مع أنه مكره وصاحبه الذي امتنع من تقريب شيء للصنم ولو ذبابا قتلوه . فدل ذلك على أن الذي قربه مكره . لأنه لو لم يقرب لقتلوه كما قتلوا صاحبه ، ومع هذا دخل النار فلم يكن إكراهه عذرا . ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى عن أصحاب الكهف : إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا [ 18 \ 20 ] ، فقوله : يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم دليل على الإكراه ، وقوله : ولن تفلحوا إذا أبدا دليل على عدم العذر بذلك الإكراه . كما أوضحنا ذلك في غير هذا الموضع .

واعلم أن في شرعنا ما يدل على نوع من التكليف بذلك في الجملة ، كقوله تعالى : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة الآية [ 4 \ 92 ] . فتحرير الرقبة هنا كفارة لذلك القتل خطأ . والكفارة تشعر بوجود الذنب في الجملة . كما يشير إلى ذلك قوله في كفارة القتل خطأ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما [ 4 \ 92 ] ، فجعل صوم الشهرين بدلا من العتق عند العجز عنه . وقوله بعد ذلك توبة من الله يدل على أن هناك مؤاخذة في الجملة بذلك الخطأ ، مع قوله : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به [ 33 \ 5 ] ، وما قدمنا من حديث مسلم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] ، قال الله نعم قد فعلت ، فالمؤاخذة التي هي الإثم مرفوعة ، والكفارة المذكورة . قال بعض أهل العلم : هي بسبب التقصير في التحفظ ، والحذر من وقوع الخطأ ، والنسيان ، والله جل وعلا أعلم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 122 ] ، هو ونحوه من الآيات مستند من قال من أهل الأصول بعدم عصمة الأنبياء من الصغائر التي لا تتعلق بالتبليغ . لأنهم يتداركونها بالتوبة ، والإنابة إلى الله حتى تصير كأنها لم تكن .

واعلم أن جميع العلماء أجمعوا على عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في كل ما يتعلق بالتبليغ . واختلفوا في عصمتهم من الصغائر التي لا تعلق لها بالتبليغ اختلافا مشهورا معروفا في الأصول . ولا شك أنهم صلوات الله عليهم وسلامه إن وقع [ ص: 106 ] منهم بعض الشيء فإنهم يتداركونه بصدق الإنابة إلى الله حتى يبلغوا بذلك درجة أعلا من درجة من لم يقع منه ذلك . كما قال هنا : وعصى آدم ربه فغوى ثم أتبع ذلك بقوله : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 20 \ 122 ] ، .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولم نجد له عزما [ 20 \ 115 ] ، يدل على أن أبانا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس من الرسل الذين قال الله فيهم فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ 46 \ 35 ] ، وهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : هم جميع الرسل . وعن ابن عباس ، وقتادة ولم نجد له عزما أي : لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة ومواظبة على التزام الأمر .

وأقوال العلماء راجعة إلى هذا ، والوجود في قوله : ولم نجد قال أبو حيان في البحر : يجوز أن يكون بمعنى العلم ، ومفعولاه له عزما وأن يكون نقيض العدم . كأنه قال : وعند مناله عزما ا ه منه . والأول أظهر ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى . أي : أبى أن يسجد . فذكر عنه هنا الإباء ولم يذكر عنه هنا الاستكبار . وذكر عنه الإباء أيضا في " الحجر " في قوله : إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين [ 15 \ 31 ] ، . وقوله في آية " الحجر " هذه أبى أن يكون مع الساجدين يبين معمول " أبى " المحذوف في آية " طه " هذه التي هي قوله إلا إبليس أبى [ 20 \ 116 ] ، أي : أبى أن يكون مع الساجدين ، كما صرح به في " الحجر " وكما أشار إلى ذلك في " الأعراف " في قوله : إلا إبليس لم يكن من الساجدين [ 7 \ 11 ] ، وذكر عنه في سورة " ص " الاستكبار وحده في قوله : إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين [ 38 ] ، وذكر عنه الإباء ، والاستكبار معا في سورة " البقرة " في قوله : إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين [ 2 ] ، . وقد بينا في سورة " البقرة " سبب استكباره في زعمه وأدلة بطلان شبهته في زعمه المذكور . وقد بينها في سورة " الكهف " كلام العلماء فيه هل أصله ملك من الملائكة أو لا ؟

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فسجدوا إلا إبليس صرح في غير هذا الموضع أن السجود المذكور سجده الملائكة كلهم أجمعون لا بعضهم ، وذلك في قوله [ ص: 107 ] فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس . [ 38 - 74 ] .
قوله تعالى : فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى .

قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن هذا عدو لك ولزوجك قد قدمنا الآيات الموضحة له في " الكهف " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقوله في هذه الآية الكريمة : فتشقى أي : فتتعب في طلب المعيشة بالكد ، والاكتساب . لأنه لا يحصل لقمة العيش في الدنيا بعد الخروج من الجنة حتى يحرث الأرض ، ثم يزرعها ، ثم يقوم على الزرع حتى يدرك ، ثم يدرسه ، ثم ينقيه ، ثم يطحنه ، ثم يعجنه ، ثم يخبزه . فهذا شقاؤه المذكور .

والدليل على أن المراد بالشقاء في هذه الآية : التعب في اكتساب المعيشة قوله تعالى بعده : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ 20 \ 118 - 119 ] ، يعني احذر من عدوك أن يخرجك من دار الراحة التي يضمن لك فيها الشبع ، والري ، والكسوة ، والسكن . قال الزمخشري : وهذه الأربعة هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان ، فذكره استجماعها له في الجنة ، وأنه مكفي لا يحتاج إلى كفاية كاف ، ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا . وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع ، والعري ، والظمأ ، والضحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها ، حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها ا ه .

فقوله في هذه الآية الكريمة : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى [ 20 \ 118 ] ، قرينة واضحة على أن الشقاء المحذر منه تعب الدنيا في كد المعيشة ليدفع به الجوع ، والظمأ ، والعري ، والضحاء . والجوع معروف ، والظمأ : العطش . والعري بالضم : خلاف اللبس .

وقوله : ولا تضحى أي : لا تصير بارزا للشمس ، ليس لك ما تستكن فيه من حرها . تقول العرب : ضحي يضحى ، كرضي يرضى . وضحى يضحى كسعى يسعى إذا كان بارزا لحر الشمس ليس له ما يكنه منه . ومن هذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة :


رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فينحصر


وقول الآخر :


ضحيت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة قالصا


[ ص: 108 ] وقرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا نافعا وشعبة عن عاصم وأنك لا تظمأ بفتح همزة " أن " ، والمصدر المنسبك من " أن " وصلتها معطوف على المصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله : إن لك ألا تجوع أي : وإن لك أنك لا تظمأ فيها ولا تضحى . ويجوز في المصدر المعطوف المذكور النصب ، والرفع ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :


وجائز رفعك معطوفا على منصوب إن بعد أن تستكملا


وإيضاح تقدير المصدرين المذكورين : إن لك عدم الجوع فيها ، وعدم الظمأ .
تنبيه

أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب نفقة الزوجة على زوجها لأن الله لما قال إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة [ 20 \ 117 ] ، بخطاب شامل لآدم وحواء ، ثم خص آدم بالشقاء دونها في قوله فتشقى دل ذلك على أنه هو المكلف بالكد عليها وتحصيل لوازم الحياة الضرورية لها : من مطعم ، ومشرب ، وملبس ، ومسكن .

قال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيا يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج ، فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج . فلما كانت نفقة حواء على آدم كذلك نفقات بناتها على بني آدم بحق الزوجية . وأعلمنا في هذه الآية : أن النفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الأربعة : الطعام ، والشراب ، والكسوة ، والمسكن . فإذا أعطاها هذه الأربعة فقد خرج إليها من نفقتها ، فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور . فأما هذه الأربعة فلا بد منها . لأن بها إقامة المهجة ا ه منه .

وذكر في قصة آدم : أنه لما أهبط إلى الأرض أهبط إليه ثور أحمر وحبات من الجنة ، فكان يحرث على ذلك الثور ويمسح العرق عن جبينه وذلك من الشقاء المذكور في الآية .

والظاهر أن الذي في هذه الآية الكريمة من البديع المعنوي في اصطلاح البلاغيين ، هو ما يسمى " مراعاة النظير " ، ويسمى " التناسب ، والائتلاف . والتوفيق ، والتلفيق " . فهذه كلها أسماء لهذا النوع من البديع المعنوي . وضابطه : أنه جمع أمر وما يناسبه لا بالتضاد . كقوله تعالى : الشمس والقمر بحسبان [ 55 \ 5 ] ، فإن الشمس ، والقمر متناسبان [ ص: 109 ] لا بالتضاد . وكقول البحتري يصف الإبل الأنضاء المهازيل ، أو الرماح :


كالقسي المعطفات بل الأسهم مبرية بل الأوتار


وبين الأسهم ، والقسي المعطفات ، والأوتار مناسبة في الرقة وإن كان بعضها أرق من بعض ، وهي مناسبة لا بالتضاد . وكقول ابن رشيق :


أصح وأقوى ما سمعناه في الندى من الخبر المأثور منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا عن البحر عن كف الأمير تميم


فقد ناسب بين الصحة ، والقوة ، والسماع ، والخبر المأثور ، والأحاديث ، والرواية ، وكذا ناسب بين السيل ، والحيا وهو المطر ، والبحر وكف الأمير تميم ، وكقول أسيد بن عنقاء الفزاري :


كأن الثريا علقت في جبينه وفي خده الشعرى وفي وجهه البدر


فقد ناسب بين الثريا ، والشعرى ، والبدر ، كما ناسب بين الجبين ، والوجنة ، والوجه . وأمثلة هذا النوع كثيرة معروفة في فن البلاغة .

وإذا علمت هذا فاعلم أنه جل وعلا ناسب في هذه الآية الكريمة في قوله إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى بين نفي الجوع المتضمن لنفي الحرارة الباطنية ، والألم الباطني الوجداني ، وبين نفي العري المتضمن لنفي الألم الظاهري من أذى الحر ، والبرد ، وهي مناسبة لا بالتضاد . كما أنه تعالى ناسب في قوله وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى بين نفي الظمأ المتضمن لنفي الألم الباطني الوجداني الذي يسببه الظمأ . وبين نفي الضحى المتضمن لنفي الألم الظاهري الذي يسببه حر الشمس ونحوه كما هو واضح .

بما ذكرنا تعلم أن قول من قال : إن في هذه الآية المذكورة ما يسمى قطع النظير عن النظير ، وأن الغرض من قطع النظير عن النظير المزعوم تحقيق تعداد هذه النعم وتكثيرها . لأنه لو قرن النظير بنظيره لأوهم أن المعدودات نعمة واحدة ، ولهذا قطع الظمأ عن الجوع ، والضحو عن الكسوة ، مع ما بين ذلك من التناسب . وقالوا : ومن قطع النظير عن النظير المذكور قول امرئ القيس :


كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل لخيل كري كرة بعد إجفال

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 403.39 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 397.59 كيلو بايت... تم توفير 5.80 كيلو بايت...بمعدل (1.44%)]