|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#61
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 62 ) باب: التَّسْبِيحُ للحاجة في الصلاة الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 338-عَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ». وفي رواية: « في الصلاة». الشرح: قال المنذري : باب: التَّسْبِيحُ للحاجة في الصلاة. والحديث أخرجه مسلم في الصلاة (1/ 318) وبوب عليه النووي : باب تسبيح الرجل، وتصفيق المرأة إذا نابهما شيء في الصلاة. قوله: «التسبيح للرجال» أي: قول سبحان الله إذا ناب المصلي شيء في الصلاة، أو أراد تنبيه الإمام لسهوه أو خطئه. قوله: «والتصفيق للنساء» قال الإمام النووي : السُّنة لمن نابه شيءٌ في صلاته؛ كإعلام من يستأذن عليه، وتنبيه الإمام وغير ذلك، أن يسبح إنْ كان رجلاً؛ فيقول: سبحان الله، وأن تُصفِّق وهو التصْفيح إن كانتْ امرأةً؛ فتضرب بطن كفها الأيمن على ظهر كفها الأيسر، ولا تضرب بطن كفٍّ على بطن كفٍّ على وجه اللعب واللهو، فإن فعلت هكذا على جهة اللعب، بطلت صلاتها لمنافاته الصلاة. (شرح مسلم : 4 / 146). وقد وقع في بعض الروايات: «التّصفيح للنساء» قال الحافظ زين الدين العراقي: المشهور أن معناهما واحد، قال عقبة: والتصفيح التصفيق، وكذا قال أبو علي البغدادي والخطابي والجوهري. وقال ابن حزم: لا خلاف في أنّ التصفيح والتصفيق بمعنى واحد، وهو الضرب بإحدى صفحتي الكف على الأخرى. فتعقبه العراقي بقوله: وما ادعاه من نفي الخلاف ليس بجيد! بل فيه قولان آخران أنهما مختلفا المعنى، أحدهما : أن التصفيح: الضرب بظاهر إحداهما على الأخرى، والتصفيق: الضرب بباطن إحداهما على باطن الأخرى. حكاه صاحب الإكمال وصاحب المفهم ، والقول الثاني: أن التصفيح الضرب بأصبعين للإنذار والتنبيه، وبالقاف بالجميع للهو واللعب. وروى أبو داود في سننه ( 942 )عن عيسى بن أيوب قال: قوله: «التصفيح للنساء» تضرب بأصبعين من يمينها على باطن الكف اليسرى. والحديث دليل: على جواز التسبيح للرجال في الصلاة، والتصفيق للنساء إذا ناب أمرٌ من الأمور. وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود: من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعا: «منْ نابه شيءٌ في صلاته فليسبّح، فإنما التصفيقُ للنساء» وحديثه طويل في إمامة أبي بكر رضي الله عنه، وهذا طرف منه. وقال الترمذي - بعد روايته لحديث الباب - ( 369 ) : قال علي : كنت إذا استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي سبح. وهذا الأثر أخرجه أحمد وابن ماجة والنسائي وصححه ابن السكن. وقال البيهقي: هذا مختلفٌ في إسناده ومتنه، وقيل: سبح، وقيل: تنحنح، ومداره على عبد الله بن نجي، قال الحافظ: واختلف عليه فيه، فقيل: عن علي، وقيل: عن أبيه عن علي، قال البخاري: فيه نظر، وضعفه غيره ووثقه النسائي وابن حبان، وقال يحيى بن معين: لم يسمعه عبد الله عن علي بينه وبين علي أبوه. وقد استدل به على جواز التنحنح في الصلاة للحاجة. وهل يجوز للمرأة أن تعدل عن التصفيق إلى التسبيح ؟ فيقال: الأولى بها أن تقتصر على ما ورد في الحديث، وهذا يدل على أن الإسلام حرص على ستر المرأة، فإنّ التسبيح وإنْ كان من جنس الصلاة، إلا أنه عدل عنه إلى التصفيق من باب المبالغة في التستر. ولو عدل الرجل عن التسبيح إلى التصفيق؟ فيقال: هذا لا يجوز في حقه في الصلاة؛ لأنه نوعٌ من العبث، بل إن التصفيق خارج الصلاة في الزمن المعتاد مختلف فيه بين أهل العلم، فمنهم من يرى جوازه؛ لأن النهي الوارد فيه إنما هو نهي عن تصفيق الكفار عندما يأتون بالعبادة، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}(الأنفال: 35). هو الصفير (وَتَصْدِيَةً) وهو التصفيق. ولم يرد الشرع بالتصفيق في شيء من العبادات، إلا للمرأة في الصلاة، إذا حدث ما يقتضي التنبيه عليه، للأحاديث الواردة. وقال الحافظ شمس الدين بن القيم قوله في الحديث: «وليصفق النساء» دليل على أن قوله في حديث سهل بن سعد المتفق عليه: «التصفيق للنساء» أنه إذنٌ وإباحة لهن في التصفيق في الصلاة ، عند نائبة تنوب، لا أنه عيبٌ وذم. قال الشافعي: حكم النساء التصفيق، وكذا قاله أحمد. وذهب مالك: إلى أن المرأة لا تصفق، وأنها تسبح! واحتج له الباجي وغيره بقوله «من نابه شيء في صلاته فليسبح». قالوا: وهذا عام في الرجال. قالوا: وقوله: «التصفيق للنساء» هو على طريق الذم والعيب لهن، كما يقال «كفران العشير» من فعل النساء! وهذا باطل من ثلاثة أوجه: أحدها: أن في نفس الحديث تقسيم التنبيه بين الرجال والنساء، وإنما ساقه في معرض التقسيم، وبيان اختصاص كل نوعٍ بما يصلح له، فالمرأة لمّا كان صوتها عورة، مُنعتْ من التسبيح، وجُعل لها التصفيق، والرجل لما خالفها في ذلك شرع له التسبيح. الثاني: أن في الصحيحين: من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله التسبيح للرجال والتصفيق للنساء فهذا التقسيم والتنويع صريح في أن حكم كل نوع ما خصه به، وخرجه مسلم بهذا اللفظ، وقال في آخره: «في الصلاة». الثالث: أنه أمر به في قوله: «وليصفق النساء» ولو كان قوله التصفيق للنساء على جهة الذم والعيب ، لم يأذن فيه، والله أعلم» تهذيب السنن (6/155). وقال في إغاثة اللهفان: «والمقصود أن المصفّقين والصفّارين، في يَراعٍ أو مزمارٍ ونحوه، فيهم شبهٌ منْ هؤلاء، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر، فلهم قِسطٌ من الذم بحسب تشبّههم بهم، وإنْ لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم. والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال، وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمرٌ، بل أُمروا بالعدول عنه إلى التسبيح، لئلا يتشبهوا بالنساء فكيف إذا فعلوه لا لحاجة! وقرنوا به أنواعاً من المعاصي قولاً وفعلا؟ إغاثة اللهفان (1/245). قلت: فما يفعله بعض الصوفية في حلقاتهم وموالدهم، من التصفيق عند الأذكار والأوراد، لا شك أنه بدعة وضلالة، وهو مشابه لفعل المشركين عند الكعبة، كما قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (الأنفال: 35). والمكاء: هو الصفير. والتصدية: هو التصفيق وقال الشيخ بكر أبو زيد: لا يُشرع التصفيق في شيء من أمور الدين، إلا في موضع واحد للحاجة: وهو للمرأة داخل الصلاة، إذا عرض عارض كسهو الإمام في صلاته، فإنه يستحب لمن اقتدى به تنبيهه: فالرجل ينبه الإمام بالتسبيح، والمرأة تنبه الإمام بالتصفيق؛ وهذا لثبوت السنة به عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء». ثم حدث في الأمة التعبد بالتصفيق لدى بعض المبتدعة عند قراءة الأذكار، والأوراد، والأحزاب، وفي الموالد، والمدائح في البيوت، والمساجد، وغيرها، ويظهر أنه منذ القرن الرابع، فإن الحافظ عبيد الله بن بطة المتوفي سنة 387هـ أنكر عليهم ذلك، وقد تتابع إنكار العلماء عليهم، وتهجينهم، وتبديعهم، فمن الذين لهم مقام صدق في ذلك الحافظ ابن الجوزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وغيرهم، قديماً، وحديثاً، مقررين بالإجماع: أنّ التعبّد بالتصفيق بدعة ضلالة، وخروج على الشرع المطهر، فيجب اجتناب التعبد به ويجب منعه. ثم في أثناء القرن الرابع عشر تسلل إلى المسلمين في اجتماعاتهم واحتفالاتهم، التصفيق عند التعجب؛ تشبهاً بما لدى المشركين من التصفيق للتشجيع، والتعجب. وإذا كان التصفيق في حالة التعبد: بدعة ضلالة، كما تقدم ، فإن اتخاذه عادة في المحافل، الاجتماعات؛ للتشجيع، والتعجب، تشبه منكر، ومعصية يجب أن تُنكر؛ وذلك لما يلي: معلوم أن هدى النبي صلى الله عليه وسلم عند التعجب، هو الثناء على الله - تعالى - وذكره بالتكبير، والتسبيح، والتهليل، ونحوها، والأحاديث في هذا كثيرة شهيرة في كتب السنة، ترجم لبعضها الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه فقال: «باب التكبير والتسبيح عند التعجب»، وأدخلها العلماء في كتب الأذكار منهم النووي رحمه الله تعالى في: (كتاب الأذكار) فقال: «باب جواز التعجب بلفظ التسبيح والتهليل ونحوها»، وعلى هذا الهدي المبارك درج سَلَفُ هذه الأمة ، من الصحابة رضي الله عنهم فمن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا والحمد لله، وفي هذا استمرار حال المسلم بتعظيم الله، وتمرين لسانه على ذكر الله تعالى. إذا عُلِمَ ذلك، فإنه لا نعلم من المرويات عن المقتدى بهم من أئمة الهدى، التَّصْفِيْقَ في مثل هذه الحال، فضلاً عن ورود شيء من ذلك في السنة، وعليه، فإن التصفيق في احتفالات المدارس، وغيرها: إن وقع على وجه التعبد فهو بدعة محرمة شرعاً؛ لأن التصفيق لم يتعبدنا الله به، وهو نظير ما ابتدعه بعض المتصوفة من التصفيق حال الذكر والدعاء، كما تقدم. وإن وقع التصفيق المذكور على وجه العادة ، فهو منكر محرم ؛ لأنه تشبه (بالكفار). ولا نعرف دخول هذه العادة في تاريخ المسلمين إلا في أثناء القرن الرابع عشر، حين تَفَشَّى في المسلمين كثير من عادات الكافرين والتشبه بهم. قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: والتصفيق منكر، يطرب ، ويُخرج عن الاعتدال، وتنزه عن مثله العقلاء، ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت من: «التصدية» وهي التي ذمهم الله عز وجل بها فقال: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (الأنفال: 35)، فالمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق، ثم قال: وفيه أيضاً تشبه بالنساء، والعاقل يأنف من أن يخرج من الوقار، إلى أفعال الكفار والنسوة» انتهى. وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: ما حكم التصفيق للرجال في المناسبات والاحتفالات؟. فأجاب : التصفيق في الحفلات من أعمال الجاهلية ، وأقل ما يقال فيه الكراهة، والأظهر في الدليل تحريمه؛ لأن المسلمين منهيون عن التشبه بالكفرة، وقد قال الله سبحانه في وصف الكفار من أهل مكة: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (الأنفال: 35). قال العلماء : المكاء الصفير ، والتصدية التصفيق. والسنة للمؤمن إذا رأى أو سمع ما يُعجبه أو ما ينكره، أن يقول: سبحان الله، أو يقول: الله أكبر، كما صحّ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ، ويشرع التصفيق للنساء خاصة، إذا نابهن شيء في الصلاة، أو كنّ مع الرجال فسهى الإمام في الصلاة، فإنه يشرع لهن التنبيه بالتصفيق، أما الرجال فينبهونه بالتسبيح، كما صحت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبهذا يعلم أن التصفيق من الرجال فيه تشبه بالكفرة وبالنساء، وكل ذلك منهيٌ عنه. والله ولي التوفيق» انتهى. «مجموع فتاوى الشيخ ابن باز» (4/151)
__________________
|
#62
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 63 ) باب: النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 339.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ، عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ، إِلَى السَّمَاءِ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ». الشرح: قال المنذري: باب: النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة. والحديث رواه مسلم في الصلاة (1 /321) وبوب عليه النووي بمثل تبويب المنذري. ورواه مسلم أيضا: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لينتهين أقوامٌ يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، أو لا ترجع إليهم». قوله: «لينتهين أقوام»، أي: ليمتنعن. و«أقوام»: جمع قوم، وهو خاص بجماعة الرجال في الوضع اللغوي، لكن يدخل فيه النسوة تبعاً، ويستشهدون لذلك بقول الشاعر: أقومٌ آل حصن أم نساء فجعل النساء قسيمات للقوم وقوله: «لينتهين أقوام» يشمل الأفراد كذلك، فإذا كان النهي للجماعة، فهو يشمل أفراد الجماعة واحداً واحداً، كما تقول: لينتهين بنو فلان عن أذية فلان، فـ(بنو فلان) تشمل جماعتهم، وأفرادهم ضمناً.وقوله: «لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم إلى السماء»، جاء هنا بلفظ: «عند الدعاء في الصلاة»، والحديث جاء تارة مطلقاً، بلفظ: «عن رفعهم أبصارهم إلى السماء في الصلاة». والنظر بالبصر إلى السماء يكون فيه - غالباً - الانصراف عن معنى الصلاة وخشوعها؛ لأنه لا يخرج عن أحد أمرين: فإما أن يكون عبثاً فهو عين المقصود في النهي عنه؛ لأنه ينافي الخشوع في الصلاة. وإما أن يكون للتأمل في شيء، كمن كان في الليل يتأمل زينة السماء، وينظر في النجوم والكواكب، ويفكر في قدرة الله وفي مصنوعاته، فهذا باب والصلاة باب آخر، فيكون قد خرج عن مناجاة ربه إلى موضوع آخر وهو العظة والاعتبار بقدرة ربه، وفرق بين المناجي - وهو مستحضر لمن يناجيه رغبةً ورهبة - وبين من يفكر في مصنوعات الله، وفي قدرته سبحانه وتعالى. كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (آل عمران:191)، فهذا ذاكرٌ، وهذا متفكرٌ، فجعل التفكر قسيماً للذكر. فرفع البصر إلى السماء يتنافى مع الخشوع في الصلاة، ولو كان للتدبر في الآيات الكونية، والاعتبار بهذا الخلق العظيم. بل من الأدب في الصلاة ألا يتعدى بصر المصلي موضع سجوده، أو سترته التي بين يديه؛ لأن ذلك أدعى لاجتماع حواسه وقلبه، لتتجاوب مع لسانه فيما يتلو، وفيما يناجي به ربه سبحانه وتعالى. وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في النظر إلى موضع السجود حال الصلاة، وهي – في عمومها – تشمل جميع أجزاء الصلاة، ومنها: ما رواه ابن حبان (4 / 332) والحاكم (1 / 652) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة، ما خلَّف بصره موضع سجوده حتى خرج منها» صححه الألباني في «صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ». وفي الباب آثار عن بعض السلف في ذلك، وهذا هو قول الجمهور: أبي حنيفة والشافعي وأحمد، قال أبو محمد ابن قدامة: يستحب للمصلي أن يجعل نظره إلى موضع سجوده، قال أحمد - في رواية حنبل -: الخشوع في الصلاة: أن يجعل نظره إلى موضع سجوده، وروي ذلك عن مسلم بن يسار , وقتادة. «المغني» (1 / 370). واستثنى بعضهم موضع التشهد، فقالوا: ينظر المصلي فيه إلى السبابة، وهو استثناء صحيح له ما يؤيده من صحيح السنَّة، فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا قعد في التشهد، وضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسبابة لا يجاوز بصره إشارته». رواه أبو داود (990) والنسائي (1275) – واللفظ له - وصححه النووي في «شرح مسلم» (5 / 81) فقال: والسنَّة أن لا يجاوزه بصره إشارته، وفيه حديث صحيح في «سنن أبي داود». وقد استدل الإمام مالك رحمه الله ومن وافقه في أن المصلي ينظر أمامه بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (البقرة:144)، على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده! وهو قول مرجوح، بعد هذا الزجر الشديد عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة. ففي رفع البصر إلى السماء، جاء هذا الوعيد الشديد في هذا الحديث: «أو لا ترجع إليهم»، يعني: تخطف أبصارهم، وهذا وعيدٌ شديد بعقوبة عظيمة على الإنسان، فلا يجوز له أن يفعل ذلك. وبعض العلماء حمل ذلك على العموم في الصلاة وفي غير الصلاة، وقالوا: فعله في الصلاة يتنافى مع الخشوع، وفي غير الصلاة، لا يفعله حياءً من الله تعالى، كما أن المصلي لا يبصق أمامه حياء من الله تعالى، ولا تجاه القبلة، كما صح في الحديث، فكذلك ها هنا. وقال شريك القاضي: ينظر في القيام إلى موضع السجود؛ لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع، وقد ورد به الحديث، وأما في حال في حال ركوعه فإلى موضع قدميه، وفي حال سجوده إلى موضع أنفه، وفي حال قعوده إلى حجره (تفسير ابن كثير). وما مضي من تحديد موضع نظر المصلى إذا كان منفردا، فإذا كان المصلى في جماعة كان نظره إلى الإمام للإئتمام به، وترجم له البخاري في «صحيحه»: «باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة»، وساق فيه عدة أحاديث في أن الصحابة كانوا ينظرون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهم في الصلاة في أحوال مختلفة. قال الزين بن المنير: نظر المأموم إلى الإمام من مقاصد الائتمام، فإذا تمكن من مراقبته بغير التفات، كان ذلك من إصلاح صلاته. وقدأورد الحافظ ابن حجر هذا القول لابن المنير ثم قال: «يمكن أن يفرق بين الإمام والمأموم، فيستحب للإمام النظر إلى موضع السجود، وكذا للمأموم، إلا حيث يحتاج إلى مراقبة إمامه. وأما المنفرد فحكمه حكم الإمام». وبهذا يُجمع بين الأحاديث التي ساقها البخاري، وبين أحاديث النظر إلى موضع السجود، وهو جمعٌ حسن.
__________________
|
#63
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 64 ) باب : التغليظ في المرور بين يدي المصلي الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 340.عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ : أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ رضي الله عنه أَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ يَسْأَلُهُ : مَاذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي؟ قَالَ أَبُو جُهَيْمٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ، خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ»، قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لَا أَدْرِي، قَالَ: «أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا، أَوْ سَنَةً».الشرح: قال المنذري: باب: التغليظ في المرور بين يدي المصلي. والحديث أخرجه مسلم في الصلاة (1/363) وبوب عليه النووي: باب منع المار بين يدي المصلي. والحديث رواه البخاري في الصلاة (510) باب: إثم المار بين يدي المصلي. فهو من المتفق عليه. بسر بن سعيد، وهو المدني العابد، تابعي ثقة جليل. زيد بن خالد الْجُهنيَّ، صحابي مشهور، مات بالمدينة، وقيل: بالكوفة، سنة ثمان وستين أو سبعين، وله خمس وثمانون سنة. أبو جهيم هو ابن الصمة الأنصاري، قيل: اسمه عبدالله، صحابي معروف، بقي إلى خلافة معاوية رضي الله عنه. قوله: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ» وزاد في رواية: «مِنْ الإِثْمِ»، وهذا يدل على عِظم إثم المار بين يدي المصلِّي، لكونه نكره ولم يذكر مقداره. وليس من شرط الثواب أو العقاب أن يُعلم قَدره، بل قد يُخفى ليكون أوقع في النفوس. قال النووي: معناه لو يعلم ما عليه من الإثم لاختار الوقوف أربعين على ارتكاب ذلك الإثم، ومعنى الحديث النهي الأكيد ، والوعيد الشديد في ذلك. اهـ . قوله: «بين يدي المصلي»، أي: أمامه بالقرب منه، وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما، واختلف في تحديد ذلك فقيل: إذا مرّ بينه وبين مقدار سجوده، وقيل : بينه وبينها قدر ثلاثة أذرع. قال النووي: يعني بالمصلي موضع السجود، وفيه: أنّ السُنة قرب المصلى من سترته. وهذا يدل على أنه لا يضر المصلي مَن يَمُرّ بعد سترته، ولا من يَمُرّ بعيدا عن مُصَلاّه، ومكان سجوده. قوله: «ماذا عليه» زاد الكشميهني –أحد رواة صحيح البخاري- «من الإثم»، وليست هذه الزيادة في شيء من الروايات عند غيره، والحديث في الموطأ بدونها. وقال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في شيء منه، وكذا رواه باقي الستة، وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها، ولم أرها في شيء من الروايات مطلقا. لكن في مصنف ابن أبي شيبة يعني من الإثم»، فيحتمل أن تكون ذكرت في أصل البخاري حاشية، فظنها الكشميهني أصلاً; لأنه لم يكن من أهل العلم ولا من الحفاظ، بل كان راوية. وأنكر ابن الصلاح في «مشكل الوسيط» على من أثبتها في الخبر، فقال: لفظ الإثم ليس في الحديث صريحا. ولما ذكره النووي في «شرح المهذب دونها»، قال: وفي رواية رويناها في الأربعين لعبد القادر الهروي «ماذا عليه من الإثم» (انظر الفتح 1/585). قوله: «لكان أنْ يقف أربعين»، يعني: أنّ المار لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي، لاختار أنْ يقف المدة المذكورة، حتى لا يلحقه ذلك الإثم. وقال الكرماني : جواب «لو» ليس هو المذكور، بل التقدير: لو يعلم ما عليه، لوقف أربعين، ولو وقف أربعين لكان خيراً له. قال الحافظ : وليس ما قاله متعينا، قال: وأبهم المعدود تفخيما للأمر وتعظيما. قلت: ظاهر السياق أنه عيّن المعدود، ولكن شك الراوي فيه، ثم أبدى الكرماني لتخصيص الأربعين بالذكر حكمتين: إحداهما: كون الأربعة أصلٌ جميع الأعداد، فلما أُريد التكثير ، ضربت في عشرة. ثانيتهما: كون كمال أطوار الإنسان بأربعين، كالنطفة والمضغة والعلقة، وكذا بلوغ الأشد. ويحتمل غير ذلك.اهـ . وفي ابن ماجة ( 946 ) وابن حبان (2365): من حديث أبي هريرة: «لكان أنْ يقف مائة عامٍ، خيراً له من الخطوة التي خطاها». وهذا يشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر، لا لخصوص عدد معين. وجنح الطحاوي إلى أن التقييد بالمائة، وقع بعد التقييد بالأربعين، زيادة في تعظيم الأمر على المار; لأنهما لم يقعا معا؛ إذ المائة أكثر من الأربعين، والمقام مقام زجر وتخويف، فلا يناسب أنْ يتقدم ذكر المائة على الأربعين، بل المناسب أن يتأخر . انتهى (الفتح) . قلت: والحديث الذي ذكره «أنْ يقف مائة عام...» حديثٌ ضعيف، فيه ضعيف ومجهول، ورواه أحمد (2/371). قوله : «خيراً له» كذا في رواية الصحيح بالنصب، على أنه خبر كان، ولبعضهم «خير» بالرفع، وهي رواية الترمذي، وأعربها ابن العربي على أنها اسم كان، وأشار إلى تسويغ الابتداء بالنكرة، لكونها موصوفة، ويحتمل أنْ يقال: اسمها ضمير الشأن، والجملة خبرها. قال النووي: فيه دليلٌ على تحريم المرور، فإنّ معنى الحديث: النهي الأكيد، والوعيد الشديد على ذلك. انتهى. قال الحافظ : ومقتضى ذلك: أنْ يُعد في الكبائر. وفي الحديث: أخذ القرين عن قرينه ما فاته، من سماع الحديث وغيره، أو استثباته فيما سمع معه. وفيه: الاعتماد على خبر الواحد; لأن زيداً اقتصر على النزول، مع القدرة على العلو، اكتفاء برسوله المذكور. وفيه: استعمال «لو» في باب الوعيد، ولا يدخل ذلك في النهي عن استعمال لو؛ لأنّ محل النهي أن يشعر بما يعاند المقدور. قال الحافظ: (تنبيهات): أحدها: استنبط ابن بطال من قوله: «لو يعلم» أنّ الإثم يختص بمن يعلم بالنهي وارتكبه. انتهى. وأخذه من ذلك فيه بُعد، لكن هو معروف من أدلة أخرى. ثانيها: ظاهر الحديث أنّ الوعيد المذكور يختص بمن مرّ، لا بمن وقف عامداً مثلا بين يدي المصلي، أو قعد أو رقد، لكنْ إنْ كانت العلة فيه التشويش على المصلي، فهو في معنى المار . ثالثها : ظاهره عموم النهي في كل مصلّ، وخصّه بعض المالكية بالإمام والمنفرد; لأنّ المأموم لا يضره منْ مرّ بين يديه; لأنّ سترة إمامه سترةٌ له، أو إمامه سترةٌ له. ا هـ . والتعليل المذكور لا يُطابق المدعَى; لأنّ السترة تفيد رفع الحرج عن المصلي، لا عن المار، فاستوى الإمام والمأموم والمنفرد في ذلك . رابعها: ذكر ابن دقيق العيد: أن بعض الفقهاء - أي المالكية - قسم أحوال المار والمصلي في الإثم وعدمه، إلى أربعة أقسام: يأثم المار دون المصلي، وعكسه يأثمان جميعا، وعكسه. فالصورة الأولى: أن يصلي إلى سترة في غير مشرع، وللمار مندوحة، فيأثم المار دون المصلي. الثانية: أنْ يُصلي في مشرع مسلوك بغير سترة، أو متباعد عن السترة، ولا يجد المار مندوحة، فيأثم المصلي دون المار. الثالثة: مثل الثانية، لكن يجد المار مندوحة ، فيأثمان جميعا. الرابعة: مثل الأولى، لكن لم يجد المار مندوحة، فلا يأثمان جميعا. انتهى. وظاهر الحديث يدل على منع المرور مطلقا، ولو لم يجدْ مسلكاً، بل يجب عليه أن يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته. ويؤيده ما جاء في قصة أبي سعيد رضي الله عنه في البخاري ومسلم: فإن فيها «فنظر الشاب فلم يجدْ مساغا»، وسيأتي الكلام عليه. والسنة النبوية: أن يُصلي المصلِّي إلى شيء يستره من الناس، ولاسيما في الأماكن التي يمر فيها الناس، وأن لا يُعرِّض نفسه ولا غيره للإثم. قال الإمام البخاري: باب الصلاة إلى الأسطوانة. وقال عمر: الْمُصَلُّون أحقّ بالسواري من المتحدثين إليها. ورأى عمر رجلا يُصلي بين أسطوانتين، فأدناه إلى سارية، فقال: صَلّ إليها . ثم روى بإسناده: إلى يزيد بن أبي عبيد قال: كنتُ آتي مع سلمة بن الأكوع فيُصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؟ قال: فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرّى الصلاة عندها. وروى: عن أنس رضي الله عنه أنه قال: لقد رأيتُ كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري عند المغرب. وهذا الحديث رواه مسلم أيضا، ولفظه عنده: كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب، ابتدروا السواري فيركعون ركعتين ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أن الصلاة قد صُلِّيَتْ من كثرة من يصليهما. وهذا يدلّ على حرصهم رضي الله عنهم على السُنة، وعلى الصلاة إلى سُترة ما أمكن. مسألة: استثنى جماعةٌ منْ أهل العلم المسجد الحرام من ذلك، فرخّصوا للناس المرور فيه بين يدي المصلي، وذهبوا إلى أن مرور المرأة وغيرها بين يدي المصلي، لا يقطع صلاته. قال الإمام ابن قدامة رحمه الله في «المغني» (2/40): «ولا بأس أن يصلي بمكة إلى غير سترة»، وروي ذلك عن ابن الزبير وعطاء ومجاهد. قال الأثرم: قيل لأحمد: الرجل يصلي بمكة، ولا يستتر بشيء؟ فقال: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه صلى ثم ليس بينه وبين الطُّوَّاف سترة. قال أحمد: لأن مكة ليست كغيرها، كأنّ مكة مخصوصة. وقال ابن أبي عمار: رأيتُ ابن الزبير جاء يصلي، والطُّوَّاف بينه وبين القبلة، تمرّ المرأة بين يديه، فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدمها. رواه حنبل في كتاب «المناسك». وقال المعتمر: قلت لطاووس: الرجل يصلي - يعني بمكة - فيمر بين يديه الرجل والمرأة؟ فإذا هو يرى أنّ لهذا البلد حالاً، ليس لغيره من البلدان؛ وذلك لأن الناس يكثرون بمكة لأجل قضاء نسكهم، ويزدحمون فيها، فلو مَنَع المصلي من يجتاز بين يديه لضاق على الناس. «انتهى باختصار ».
__________________
|
#64
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 65 ) باب : منــــع المــــــارّ بين يـــدي المصـــلي الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 341. عن أَبُي صَالِحٍ السَّمَّانِ : أَنَا أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ وَرَأَيْتُ مِنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَبِي سَعِيدٍ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ أَرَادَ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ فِي نَحْرِهِ فَنَظَرَ فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلَّا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي سَعِيدٍ، فَعَادَ فَدَفَعَ فِي نَحْرِهِ أَشَدَّ مِنْ الدَّفْعَةِ الْأُولَى، فَمَثَلَ قَائِمًا فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ زَاحَمَ النَّاسَ فَخَرَجَ، فَدَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ، قَالَ: وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ عَلَى مَرْوَانَ ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ : مَا لَكَ وَلِابْنِ أَخِيكَ ؟! جَاءَ يَشْكُوكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَلْيَدْفَعْ فِي نَحْرِهِ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ». الشرح: قال المنذري: باب: منع المارّ بين يدي المصلي. والحديث أخرجه مسلم في الصلاة في الموضع والباب السابق. والحديث رواه البخاري في الصلاة (509) باب: يردُ المصلي من مرّ بين يديه. أبو صَالِحٍ السَّمَّانِ هو ذكوان المدني، ثقةٌ ثبت، مات سنة (71 ) هـ، روى له الستة. وأبو سعيد هو الخدْري الصحابي المشهور، واسمه سعد بن مالك بن سنان الأنصاري ، له ولأبيه صحبة. قوله: «أَنَا أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ وَرَأَيْتُ مِنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَبِي سَعِيدٍ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ»، أي: كان أبوسعيد يصلي إلى سترة، وهو عادة الصحابة في صلاتهم، كما روى البخاري وغيره: عن أنس رضي الله عنه أنه قال : لقد رأيتُ كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري عند المغرب. ورواه مسلم أيضا ، ولفظه عنده : كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري، فيركعون ركعتين ركعتين، حتى إنّ الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسبُ أنّ الصلاة قد صُلِّيَتْ، من كثرة من يصليهما. وهذا يدلّ على حرصهم رضي الله عنهم على هذه السُنة ، والصلاة إلى سُترة ما أمكن. قوله: «إِذْ جَاء رجُلٌ شَابٌّ مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ أَرَادَ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ» أي: أراد أن يمر بينه وبين سترته ، وورد في بعض الروايات أنه: الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، ولا يثبت. قوله: «فَدَفَعَ فِي نَحْرِهِ» أي : دفعه بيده في صدره. قوله: «فَنَظَرَ فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلَّا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي سَعِيدٍ ، فَعَادَ، فَدَفَعَ فِي نَحْرِهِ أَشَدَّ مِنْ الدَّفْعَةِ الْأُولَى» أي: لم يجد ممراً وطريقا، إلا من بين يدي أبي سعيد، فأراد المرور مرة أخرى، فدفعه أبو سعيد بأقوى من المرة الأولى. وفيه: أنه يُشرع دفعُ المارّ، ولو لم يكن هناك مسلكٌ غَيْرُ الذي يريد المرور منه، خلافا لإمام الحرمين. قوله: «فَمَثَلَ قَائِمًا فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثمَّ زَاحَمَ النَّاسَ فَخَرَج» مثل: أي ظل منتصباً قائما، ثم نال أي: شتم أبا سعيد؟! ثم خرج من موضعٍ آخر بين الناس. قوله: «فَدَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ» أي: اشتكاه إلى مروان بن الحكم، وكان أمير المدينة يومئذ في خلافة معاوية رضي الله عنه. قَالَ: ودَخلَ أَبو سَعِيدٍ عَلَى مرْوانَ، فقال لَه مَرْوانُ: ما لَكَ وَلِابْنِ أَخيكَ؟! جاء يَشْكُوك ؟ أي : لم صنعتَ به ما صنعت آنفا؟ وسماه بابن الأخ باعتبار الإيمان والإسلام. فَقَالَ لهم أَبو سعيدٍ: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا صَلَّى أَحدُكُم إِلَى شيءٍ يَسْتُرُهُ مِن النَّاس» أي : إذا صلى إلى سترة تستره من مرور الناس أمامه. قوله: «فَأَراد أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْن يَدَيه، فَلْيَدْفَعْ في نَحْرِهِ» أي : يدفعه في صدره ويمنعه من المرور. قوله: «فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ» أي: يزيد في دفعه له. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تُصل إلا إلى سُترة، ولا تدَع أحداً يمرّ بين يديك، فإنْ أبى فلتقاتله؛ فإنّ معه القَرين»، صحيح ابن خزيمة، وقال الألباني: سنده جيد، صفة صلاة النبي (ص82). وقال: «إذا صلّى أحدُكم إلى سُترة فليدْن منها، لا يقطعُ الشيطانُ عليه صلاته» رواه أبو داود ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (643). فعلى الداخل إلى المسجد إذا أراد الصلاة منفرداً أو إماماً، أن يبادر إلى جدار أو عمود من أعمدة المسجد، أو يضع شيئاً فيصلي إليه. قوله: «فإِنَّما هو شَيْطَانٌ» أي: فعله فعل الشيطان؛ لأنه أبى إلا أن يشوش على المصلي، وإطلاق اسم الشيطان على الإنسان كثير في القرآن والسنة، كما في قوله تعالى: { شَيَاطِيْنَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوْحِيْ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوْرًا}(الأنعام: 112). أو يحتمل أن يكون المعنى : فإنما الحامل له على ذلك الشيطان (الفتح). وحكم المار بين يدي المصلي كحكم العدو الصائل، يدفع بما يرده، فقوْله: «فَلْيُقَاتِلْهُ» أَيْ: يَزِيدُ فِي دَفْعه الثَّاني، أَشَدّ منْ الْأَوَّل، قال القرطبي: وأَجْمعوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقاتلَه بِالسِّلاحِ، لمُخالَفة ذلك لقَاعدَة الْإِقْبَال عَلَى الصَّلَاةِ، والِاشْتغال بها وَالْخُشُوعِ فيها. اهـ. قال الحافظ: أَطْلَق جَمَاعَةٌ من الشَّافعيَّة أَنَّ لَه أَنْ يُقَاتلَه حَقيقَة؟! واسْتَبْعد ابن الْعربيِّ ذلك في «الْقَبَس» وقَال: الْمُرادُ بالْمُقَاتَلَة الْمُدَافَعَة. وَأَغْرَبَ الْبَاجيُّ فَقَال: يحتَمل أَنْ يَكُون الْمُراد بالْمُقَاتَلَة: اللَّعْن أَو التَّعْنِيف؟! وَتُعُقِّبَ بأَنَّه يستَلْزمُ التَّكَلُّمَ في الصَّلَاة! وَهُوَ مُبْطِل، بخلاف الْفعل الْيسِيرِ. ويُمكنُ أَنْ يَكُونَ أَراد أَنَّهُ يَلْعنُهُ داعيًا لَا مُخاطبًا، لَكنَّ فعْلَ الصَّحابيِّ يُخَالِفُهُ، وهو أَدرى بالْمُرَاد. وقال: وصَرَّح أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: يرُدُّهُ بِأَسْهَل الْوُجوه، فَإِنْ أَبى فبأَشَدَّ، ولَو أَدَّى إِلَى قَتْلِهِ. فَلَوْ قَتَلَ فَلَا شَيءَ علَيه؛ لأَنَّ الشَّارعَ أَبَاح لَه مُقاتَلَتَه، وَالْمُقاتَلَةَ الْمُباحةَ لَا ضمانَ فيها. وَنَقَل عياض وغيره أَنَّ عندهم خلَافًا في وُجُوبِ الدِّية في هذه الْحالَةِ. ولا يجوز للمصلي المشي من مكانه ليدفعه ، ونقل في ذلك الاتفاق، قال في الفتح: ونقَل ابن بطَّال وغيره: الاتِّفاق عَلَى أَنَّه لا يجوزُ لَه الْمشيُ من مَكَانه لِيَدْفَعَهُ، وَلا الْعَمَل الْكَثِير فِي مُدَافَعَتِهِ؛ لأَنَّ ذَلِكَ أَشَدّ فِي الصَّلاةِ مِنْ الْمُرُورِ. وذهب الْجُمهورُ إلَى أَنَّه إذَا مرَّ وَلَم يَدْفعْه، فلَا يَنبغِي لَه أَنْ يَرُدَّه؛ لِأَنَّ فِيهِ إعادةً للْمُرُور. ثم هل المنع والْمُقَاتَلَةُ لخَلَلٍ يَقعُ في صَلاة الْمُصَلِّي من الْمرور، أَو لدفْعِ الإِثْم عَنْ الْمَارِّ؟ الظَّاهرُ الثَّاني. وقيل: بل الأَوَّل أَظْهَرُ؛ لأَنَّ إقْبَال الْمُصَلِّي عَلَى صَلاته أَوْلَى لَه من اشْتغَاله بِدَفْع الإِثْم عن غَيْره. والمرور بين يدي المصلي ينقص أجر الصلاة ولا يبطلها، وَقَدْ روى اِبْن أَبي شَيبة عَنْ ابْن مسعود «أَنَّ الْمُرُور بينَ يَدَيْ الْمُصَلِّي يَقْطَعُ نِصْفَ صَلَاتِه»، وَرَوَى أَبُو نُعَيْم عَنْ عُمَرَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُصَلِّي مَا يَنْقُصُ مِنْ صلَاتِهِ بِالْمُرُور بين يديه، مَا صلّى إِلَّا إِلَى شَيءٍ يَسْتُرُهُ منْ النَّاس». قال الحافظ: فهذان الْأَثَران مُقْتَضاهما أَنَّ الدَّفْعَ لِخَلَلٍ يتَعلَّقُ بصلاة الْمُصلِّي، ولا يخْتَصُّ بِالْمارِّ، وهما وإنْ كَانا موقُوفين لَفظا فحكْمُهما حُكْم الرَّفْعِ؛ لأَنَّ مثْلَهُما لَا يُقالُ بالرَّأْي. وفي الحديث: أن السترة مشروعةٌ للمُصلِّي، فينبغي للمسلم أن يصل إليها، ويدن منها، ولا يدع أحداً يمر بين يديه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقف قريباً من السترة، فكان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع . رواه البخاري. وبين موضع سجوده والجدار ممر شاة . متفق عليه وكان أحياناً يتحرى الصلاة عند الاسطوانة التي في مسجده . وفي صحيح مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا وضع أحدُكم بين يديه مثل مُؤْخِرة الرَّحْل؛ فليصلّ، ولا يُبال منْ مرّ وراء ذلك». فليس على المصلي وزر إذا كان قد احتاط، فاتخذ سترة أمامه. ويحق له عند ذلك أن يدفع المار بين يديه ، كما في حديث الباب. وقد مرّ تحذَّير الرسول صلى الله عليه وسلم من المرور بين يدي المصلي، فقال: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه ؛ لكان يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه». ومما سبق: أن السترة تكون في المسجد، وتكون في الفضاء للإمام والمنفرد، وأن سترة الإمام سترةٌ لمن خلفه ، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: هبطنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية أذاخر، فحضرت الصلاة فصلى إلى جدار فاتخذه قبلة، ونحن خلفه، فجاءت بهمة تمرّ بين يديه، فما زال يُدارئها حتى لصقَ بطنَه بالجدار، ومرّت من ورائه . رواه أبو داود وأحمد. وأحاديث السترة لا تختص بمسجدٍ دون مسجد، ولا بمكان دون مكان، بل تشمل المسجد الحرام، والمسجد النبوي من باب أولى؛ لأن هذه الأحاديث ؛ إنما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده ، فهو المراد بها أصالة، والمساجد الأخرى تبعاً له. وعليه فلا يُتساهل في أمر السترة في هذين المسجدين، إنْ أمكنه أن يصلي إليها، وكذلك لا يتساهل المار بين يدي المصلي فيهما، وهو يجد مندوحة عن المرور بين يديه. وسترة الإمام سترة لمن خلفه، فعن ابن عباس قال: أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذ قد ناهزتُ الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى فمررتُ بين يدي الصف فنزلت، فأرسلتُ الأتان ترتع، ودخلت في الصف ، فلم ينكر ذلك عليَّ أحد . متفق عليه. وهل يستحب دفع المار بين يدي المصلي أم يجب؟ قيل: يستحب، وقيل يجب. قَالَ النَّوويّ: لَا أَعلَمُ أَحَدًا من الْفُقَهاء قَالَ بوجُوب هذا الدَّفْع، بل صرَّحَ أَصحابنَا بأَنَّه مَنْدُوب . انتَهى. قال الحافظ: وقَد صَرَّح بوجوبه أَهَّلُ الظَّاهر، فَكَأَنَّ الشيخَ لَم يُراجع كَلامَهُمْ فِيه، أَوْ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلافِهِمْ . وهو مروي كذلك عن الإمام أحمد رحمه الله. قال ابن رشد في كتابه: «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» (1/82): واتفق العلماء بأجمعهم : على استحباب السترة بين المصلي والقبلة ، إذا صلى منفرداً كان أو إماماً ؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل». واختلفوا في الخط إذا لم يجد سترة, فقال الجمهور: ليس عليه أنْ يخط، وقال أحمد بن حنبل: يخط خطاً بين يديه. انتهى وقد سبق بيان أنّ حديث الخط حديث ضعيف. وقال بوجوب السترة أحمد في إحدى الروايتين عنه، والبخاري، ومن المعاصرين العلامة الألباني، رحمة الله عليهم، انظر صفة صلاة النبي (ص 82).
__________________
|
#65
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 66 ) بـــاب : ما يــســــــتر المــصــــلي الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 342.عَنْ طَلْحَةَ بن عبيد الله رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي وَالدَّوَابُّ تَمُرُّ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ: «مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ تَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ ، ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ»، وقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: «فَلَا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ».الشرح: قال المنذري : باب ما يستر المصلي . والحديث أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (1/358) وبوب عليه النووي: باب سترة المصلي. طَلْحَةَ بن عبيد الله هو ابن عثمان التيمي، أبو محمد المدني، المسمى طلحة الفياض، أحد العشرة رضي الله عنهم، استشهد يوم الجمل سنة ثلاثين، وهو ابن ثلاث وستين. قوله: «مِثْلُ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ» مُؤَخِّرَةِ: لغة قليلة في آخرة ، وآخرة الرحل هي: الخشبة التي يستند إليها الراكب على البعير. قال الحافظ: عد الفقهاء مؤخرة الرحل في مقدار أقل السترة، واختلفوا في تقديرها بفعل ذلك. فقيل: ذراع، وقيل: ثلثا ذراع، وهو أشهر، لكن في مصنف عبد الرزاق عن نافع: أنَّ مؤخرة رحل ابن عمر كانت قدر ذراع. (الفتح: 1/764). قوله: «تكونُ بين يديْ أَحدِكُم « ذكرنا فيما مضى: أنها تكون بينه وبين موضع سجوده بقدر ممر شاة، كما في الصحيحين. أو بينه وبينها ثلاثة أذرع، كما في البخاري وغيره، وسبق في باب: الدّنو من السترة، حديث (259 ) . قوله: «ثُمَّ لا يضُرُّهُ مَا مرَّ بين يَدَيْه. أي: لا يضره ما يمر من وراء السترة، وقد ورد في حديث أبي جحيفة: «يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الحِمَارُ وَالكَلْبُ لاَ يَمْنَعُ». أي: من وراء السترة، كما قال الإمام النووي: «معناه: يمر الحمار والكلب وراء السترة وقُدَّامها إلى القبلة، كما قال في الحديث الآخر: «ورأيتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بينَ يَدَيْ العَنَـزَة …»، وفي الحديث الآخر: «فَيَمُرُّ من ورائِها المرأةُ والحمَارُ»، وفي الحديث السابق: «ولاَ يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ وَراءَ ذلِكَ». اهـ (شرح مسلم 4/220). وقَال الإمام أَبُو بكر ابن خزيمة في صحيحه (ح 816): «ففي قوله صلى الله عليه وسلم : «مِثْلُ مُؤَخِّرة الرَّحْل يكونُ بين يديْ أَحدِكُم، ثُمَّ لا يضُرُّهُ مَا مرَّ بين يَدَيْهِ» دلالَةٌ واضحةٌ إذا لَم يكنْ بين يديه مثْلُ مُؤَخِّرَة الرَّحْل، ضرَّهُ مُرُورُ الدَّوَابِّ بين يديه، والدَّوابُّ الَّتي تَضُرُّ مُرُورُها بين يديه ، هي الدَّوابُّ الَّتي أَعْلَمَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّها تقْطَعُ الصَّلاةَ، وهو الحمارُ، والْكَلْبُ الأَسْودُ، عَلَى ما أَعْلَمَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم ، لا غيْرَهُما من الدَّوابِّ الَّتي لا تَقْطعُ الصَّلاة». وقال الإمام ابن القيم: فإنْ لم يكن سترةٌ، فإنَّه صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه: يقطع صلاته المرأة والحمار والكلب الأسود، وثبت ذلك عنه مِن رواية أبي ذر وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن المغفل ، ومعارض هذه الأحاديث قسمان: صحيحٌ غيرُ صريحٍ، وصريحٌ غيرُ صحيحٍ، فلا يترك لمعارضٍ هذا شأنه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي وعائشةُ رضي الله عنها نائمةٌ في قبلته، وكان ذلك ليس كالمارِّ، فإنَّ الرجلَ محرَّمٌ عليه المرور بين يدي المصلي ، ولا يكره له أنْ يكون لابثاً بين يديه، وهكذا المرأة يقطع مرورها الصلاة دون لبثها، والله أعلم. اهـ (زاد المعاد 1/306). أي: قد استشكل بعضهم حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وفيه: «وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ صلى الله عليه وسلم وبين القِبْلَةِ». وقد ردَّ عليه ابن خزيمة فقال: «باب: ذكر الدليل على أنَّ هذا الخبر–أي: حديث أبي ذر- في ذِكر المرأة ليس مضاد خبر عائشة، إذْ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إنما أراد أنَّ مرور الكلب والمرأة والحمار يقطع صلاة المصلي لا ثوى الكلب ولا ربضه، ولا ربض الحمار، ولا اضطجاع المرأة يقطع صلاة المصلي، وعائشة إنما أخبرت أنها كانت تضطجع بين يدي النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، لا أنها مرَّت بين يديه. اهـ (صحيح ابن خزيمة 2/21). ثم من مرّ بعد موضع السجود ، فليس ماراً بين يديه، ولا يقطع عليه صلاته، ويقدر ذلك بمترين من المصلي. والمأموم لا تجب عليه سترة، إنما السترة في صلاة الجماعة من مسؤولية الإمام، وقد ثبت أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى «عنـزة»، وهي عصا في رأسها حديدة، يغرزها في الأرض ويصلي إليها في سفره وغيره، فعن ابن عمر رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَان إِذَا خَرَج يومَ العيد، أمَرَ بِالحَرْبَة فَتُوضَعُ بين يديه فيُصلِّي إلَيها، وَالنَّاسُ وراءَهُ، وَكَان يَفْعلُ ذلِك في السّفر ، فمن ثَمَّ اتَّخَذَهَا الأمَرَاءُ . رواه البخاري (1/753). أما ما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما: من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبلت راكباً على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلّي بمنى إلى غير جدار، فمررّت بين يدي بعض الصف، وأرسلتُ الأتان تَرتع ، فدخلت في الصف، فلم ينكر ذلك أحد». فالجواب: أن حديث ابن عمر رضي الله عنه مثبتٌ ، وابن عباس رضي الله عنه نَفي، والمثبَت مقدَّمٌ على النفي، ولاسيما في مثل هذه الحـال، إذْ قد توضع ولا يراها ابن عباس. ثُم هو لم يَنْفِها إنما نفى الجدار. وقد ورد في الباب حديث ضعيف، وهو: «لاَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ شَيْءٌ». قلت: وهو مرويٌّ من حديث أبي سعيد، وأنس، وأبي هريرة، وابن عمر، وجابر، لكنَّه ضعيفٌ لا يحتج به، ولا يفرح بكثرةِ طرقه. وقد ضعفه العلماء: ابن حزم (المحلى 2/326)، وابن الجوزي (التحقيق 1/427)، والنَّووي (شرح مسلم 4/227)، وابن قدامة (المغني 2/82)، وابن تيمية (مجموع الفتاوى 21/16)، والحافظ ابن حجر (فتح الباري 1/774)، والشوكاني (نيل الأوطار 3/16)، والألباني (تمام المنَّة ص307).
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |