فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 8 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4962 - عددالزوار : 2067128 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4538 - عددالزوار : 1336091 )           »          في آخر الزمان تصبح السنة بدعة والبدعة سنة (اخر مشاركة : عبد العليم عثماني - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 606 - عددالزوار : 339557 )           »          فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 379 - عددالزوار : 156472 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 394 - عددالزوار : 92528 )           »          السَّدَاد فيما اتفقا عليه البخاري ومسلم في المتن والإسناد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 14144 )           »          الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 68 - عددالزوار : 53418 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 84 - عددالزوار : 47079 )           »          درر وفوائـد من كــلام السلف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 15497 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #71  
قديم 24-02-2022, 06:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,002
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (71)

من صــ 241 الى صـ
ـ 248



الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ خُصُوصًا، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: أَنْتُمْ أَذَلُّ الْأُمَمِ، فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَمْ يُبَدَّلْ فَهُوَ مَغْلُوبٌ مَقْهُورٌ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَهَلْ تَعْجَبُونَ مِنْ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، فَيَبْعَثُهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ حَتَّى يَصِيرَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ مَنْصُورًا ظَاهِرًا بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ.
وَيُقَالُ لِلنَّصَارَى: أَنْتُمْ لَمْ تُخَلِّصُوا دِينَ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُعَطِّلِينَ، بَلْ أَخَذْتُمْ مِنْ أُصُولِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُعَطِّلِينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مَا أَدْخَلْتُمُوهُ فِي دِينِكُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ عَلَى أَكْثَرِ الْكُفَّارِ حُجَّةٌ عِلْمِيَّةٌ وَلَا يَدٌ قَهْرِيَّةٌ، بَلْ لِلْكُفَّارِ فِي
قُلُوبِكُمْ مِنَ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ وَالتَّعْظِيمِ مَا أَنْتُمْ بِهِ مِنْ أَضْعَفِ الْأُمَمِ حُجَّةً وَأَضْيَقِهَا مَحَجَّةً، وَأَبْعَدِهَا عَنِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ، وَأَعْجَزِهَا عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ؛ تَارَةً تَخَافُونَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُعَطِّلِينَ، فَإِمَّا أَنْ تُوَافِقُوهُمْ عَلَى أَقْوَالِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ تَخْضَعُوا لَهُمْ مُتَوَاضِعِينَ، وَتَارَةً تَخَافُونَ مِنْ سُيُوفِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِمَّا أَنْ تَتْرُكُوا بَعْضَ دِينِكُمْ لِأَجْلِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ تَذِلُّوا لَهُمْ خَاضِعِينَ.
ففيكم من ضعف سلطان الحجة، وضعف سلطان النصرة ما يظهر به حاجتكم إلى قيام الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه فالعجب منكم كيف تعدلون عما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة إلى ما فيه شقاؤكم في الدنيا والآخرة. هذا هو العجب ليس العجب ممن آمن بما فيه سعادة الدنيا والآخرة وفي خلافه شقاوة الدنيا والآخرة.
ومثل هذا لا يرد على المسلمين، فإنه لم يزل ولا يزال فيه طائفة قائمة بالهدى ودين الحق ظاهرة بالحجة والبيان واليد والسنان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، كما ثبت في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة" " وفي لفظ " "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة حتي يأتي الله بأمره" ".
الوجه الثامن: أن يقال لأهل الكتاب: لليهود: أنتم لما كنتم متبعين لموسى - عليه السلام - كنتم على الهدى ودين الحق وكنتم منصورين، ثم كثرت فيكم الأحداث التي تعرفونها كما قال - تعالى -:{قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون - قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل} [المائدة: 59 - 60].
وقوله - تعالى -: {وعبد الطاغوت} [المائدة: 60] معطوف على (لعنه الله) أي من لعنه الله وغضب عليهم وعبد هو الطاغوت، ليس هو داخلا في خبر " جعل "، حتى يلزم إشكال كما ظنه بعض الناس.
وأهل الكتاب معترفون بأن اليهود عبدوا الأصنام مرات، وقتلوا الأنبياء.
وقال - تعالى -:
{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا - فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا - ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا - إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا - عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} [الإسراء: 4 - 8].
وهم معترفون بأن بيت المقدس خرب مرتين.
فالخراب الأول لما جاء " بختنصر " وسباهم إلى بابل وبقي خرابا سبعين سنة، والخراب الثاني بعد المسيح بنحو سبعين سنة، وقد قيل: هذا تأويل قوله:
{لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم} [المائدة: 78].
فبعد الخراب الثاني تفرقوا في الأرض ولم يبق لهم ملك. وبين الخرابين كانوا تحت قهر الملوك الكفار، وبعث المسيح - عليه الصلاة والسلام - وهم كذلك.

ويقال للنصارى: أنتم ما زلتم مقهورين مغلوبين مبددين في الأرض، حتى ظهر قسطنطين وأقام دين النصرانية بالسيف، وقتل من خالفه من المشركين واليهود. لكن أظهر دينا مبدلا مغيرا ليس هو دين المسيح - عليه السلام - ومع هذا فكانت أرض العراق وفارس كفارا - المجوس وغيرهم - مجوسا ومشركين. وكانوا في بعض الأزمنة يقهرون النصارى على بلادهم، وأما أرض المشرق والمغرب ففيهما من أنواع المشركين أمم، وكان الشرك والكفر ظاهرا في أرض اليمن والحجاز والشام والعراق، فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أظهر به توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ظهورا لم يعرف في أمة من الأمم، ولم يحصل مثله لنبي من الأنبياء، وأظهر به من تصديق الكتب والرسل والتوراة والإنجيل والزبور، وموسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم من الرسل ما لم يكن ظاهرا لا عند أهل الكتاب ولا غيرهم، فأهل الكتاب وإن كانوا خيرا من غيرهم فلم يكونوا قائمين بما يجب من الإيمان بالله ورسله ولا باليوم الآخر ولا شرائع دينه، ولا كانوا قاهرين لأكثر الكفار، ولا كانوا منصورين عليهم ولهذا قال: - تعالى -.:
{قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب} [التوبة: 29]. .

أما اليهود ففيهم من التنقص من الأنبياء في سبهم، وذكر عيوب نزههم الله عنها، ما هو معروف. حتى إن منهم من يقول أن سليمان كان ساحرا، وداود كان منجما لم يكن نبيا، إلى أمثال ذلك.
مما يطول وصفه. ففيهم من الكفر بالأنبياء، من جنس ما كان في سلفهم الخبيث. .

وأما النصارى - فمع غلوهم في المسيح وأتباعه - يستخفون بغيره فتارة يجعلون الحواريين مثل إبراهيم وموسى أو أفضل منهم، وتارة يقولون - كما قال اليهود -: " إن سليمان لم يكن نبيا بل سقط من النبوة "، وتارة يجعلون ما خاطب الله به داود وغيره من الأنبياء إنما أريد به المسيح، مع أن اللفظ لا يدل على ذلك، بل يتأولون كتب الله بمجرد هوى أنفسهم، وتارة يقولون: إن الواحد منهم إذا أطاع الله بما يزعمون أنه طاعة، صار مثل واحد من الأنبياء، ويسوغون لمثل هؤلاء أن يغيروا شرائع الأنبياء ويضعوا دينا ابتدعوه ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته أقاموا توحيد الله الذي كان عليه إبراهيم وموسى وسائر الرسل وآمنوا بكل كتاب أنزله الله وكل رسول بعثه الله، وأقاموا دين الرحمن إقامة لم يقمها أحد من الأمم. فعامة أهل الأرض مع محمد - صلى الله عليه وسلم -: إما مؤمن به باطنا وظاهرا - وهم أولياء الله المتقون وحزبه المفلحون وجنده الغالبون - وإما مسلمون له في الظاهر تقية وخوفا من أمته، وهم المنافقون.
وإما مسالمون له بالعهد والذمة والهدنة - وهم أهل الذمة والهدنة في جميع الأرض - وإما خائفون من أمته.
وحيث كان الواحد والطائفة من أمته متمسكا بدينه، كان نوره ظاهرا وبرهانه باهرا معظما منصورا، يعرف فضله على كل من سواه.
وهذا أمر يعرفه الناس في أرض الكفار من المشركين وأهل الكتاب؛ لما خص الله به محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأمته من الهدى ودين الحق. وقد أظهروا دين الرب في مشارق الأرض ومغاربها بالقول والعمل. فهل يقول من عنده علم وعدل: إنه لا فائدة في إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه يستغنى بما عند أهل الكتاب عن رسالته؟!

الوجه التاسع: أن يقال: هم معترفون بانتفاع المشركين به غاية الانتفاع، فإنه أقام توحيد الله ودينه فيهم، وأنه عظم المسيح. ورد على اليهود قولهم فيه وأهانهم وحينئذ فهذا من أعظم الفوائد وأجل المقاصد وأعظم نعم الله على عباده، ثم هو - مع ذلك - قال: إن الله أرسله وأمره بذلك.

فإن كان كاذبا فالكذاب المفتري على الله من شر الكفار، ومن يكون كذلك لا يحصل منه هذا الخير العظيم، الذي ما حصل مثله من أحد من الأنبياء، فإنه أزال دين المشركين، ودين المجوس، وقمع اليهود وكل واحدة من هذه الثلاث لم يقدر عليها أحد قبله من الأنبياء والمرسلين.
وإن كان صادقا؛ فهو قد أخبر أنه رسول الله إلى النصارى وغيرهم من الأمم، وأخبر عن الله بكفر كل من لم يؤمن به. وهذا الوجه ممن يخاطب به كل صنف، فيقال لكل صنف من الأمم: أنتم معترفون بأن من سواكم إذا اتبعوا دين محمد - صلى الله عليه وسلم - كان خيرا لهم مما هم عليه؛ فاليهود معترفة بأن النصارى إذا اتبعوه كان خيرا لهم من دين النصارى، والنصارى معترفون بأن اليهود إذا اتبعوه كان خيرا لهم من دين اليهود، وأهل الكتاب اليهود والنصارى معترفون بأن من سواهم إذا اتبعوا محمدا كان خيرا لهم مما هم عليه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #72  
قديم 24-02-2022, 06:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,002
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (72)

من صــ 249 الى صـ
ـ 256

فالمجوس والمشركون من العرب، والسودان والترك وأصناف الخزر والصقالبة، إذا اتبعوه كان خيرا لهم مما هم عليه وسائر أصناف الكفار معترفون بأن أتباعه خير من غيرهم. ومن ليس من أهل الكتاب - عامتهم - معترفون بأن دين المسلمين خير من دين اليهود والنصارى. وحينئذ فيقال: من جاء بهذا الدين الذي يفضله جميع أهل الأرض على غيره يمتنع أن يكون من أكفر الناس وأحقهم بغضب الله وعقابه.
وكل من قال: إنه رسول الله؛ فإن كان صادقا كان من خير أهل الأرض وأحقهم برضوان الله وثوابه، وإن كان كاذبا كان من شر أهل الأرض وأحقهم بغضب الله وعقابه. ومن حصل منه هذا الخير والعلم والهدى وما فيه صلاح الدنيا والآخرة أعظم مما حصل من جميع الخلق يمتنع أن يكون من أكفر الناس المستحقين لغضب الله وعقابه، فوجب أن يكون من خير أهل الأرض، بل هو خير أهل الأرض وأحقهم برضوان الله وثوابه.
الوجه العاشر: إن الله - سبحانه وتعالى - كانت سنته قبل إنزال
التوراة، إذا كذب نبي من الأنبياء ينتقم الله من أعدائه بعذاب من عنده، كما أهلك قوم نوح بالغرق، وقوم هود بالريح الصرصر، وقوم صالح بالصيحة، وقوم شعيب بالظلة، وقوم لوط بالحاصب، وقوم فرعون بالغرق قال تعالى:{ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون} [القصص: 43].

فلما أنزل التوراة، أمر أهل الكتاب بالجهاد، فمنهم من نكل ومنهم من أطاع.
وصار المقصود بالرسالة لا يحصل إلا بالعلم والقدرة كما قال تعالى:
{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا} [الفتح: 28].
فقول هؤلاء: " إن التوراة جاءت بالعدل، والإنجيل بالفضل فلا حاجة إلى غيرهما، لو قدر أنه حق. إنما يستقيم إذا كان الكتابان لم يبدلا، بل كانا متبعين علما وعملا، وكان أهلهما مع ذلك منصورين مؤيدين على من خالفهم، فكيف وكل منهما قد بدل كثير مما فيه، وأهلهما غير منصورين على سائر الكفار، بل الكفار ظاهرون عليهم في أكثر الأرض؛ كأرض اليمن والحجاز وسائر جزيرة العرب وأرض العراق وخراسان والمغرب وأرض الهند والسند والترك، وكان بأيدي أهل الكتاب الشام ومصر وغير ذلك، ومع هذا فكانت الفرس قد غلبتهم على ذلك،، ثم إن الله أظهر النصارى عليهم، فكان ظهورهم توطئة وتمهيدا لإظهار دين الإسلام.
فإن الفرس المجوس لما غلبوا الروم ساء ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به، وفرح بذلك مشركو العرب وكانوا أكثر من المؤمنين؛ لأن أهل الكتاب أقرب إلى المؤمنين من المجوس، والمجوس أقرب إلى المشركين منهم إلى أهل الكتاب، ووعد الله المؤمنين أن تغلب الروم بعد ذلك، وأنه يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
فأضاف النصرة إلى اسم الله، ولم يقل بنصر الله إياهم. وذلك أنه حين ظهرت الروم على فارس كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قد ظهروا على المشركين واليهود.
وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك يدعو ملوك النصارى بالشام ومصر إلى الإيمان به، فعرفوه وعرفوا أنه النبي المبشر به، وكان ذلك أول ظهور دينه، ثم أرسل طائفة من أصحابه إلى غيرهم، ثم خرج بالمسلمين بنفسه معهم عام تبوك إلى الشام، ثم فتح هذه البلاد أصحابه، فكان تأييد دين الله وظهوره وإذلال المشركين والمجوس وغيرهم من الكفار على يديه ويدي أمته، لا على يد اليهود والنصارى.
فلو قدر أن شرع أولئك كامل لا تبديل فيه، لكان مغلوبا مقهورا، وكان الله قد أرسل من يؤيد دينه ويظهره، فكيف وهو مبدل؟ ولو لم يبدل فدين أحمد أكمل وأفضل منه، فذاك مفضول مبدل، وهذا فاضل لم يبدل، وذلك مغلوب مقهور، وهذا مؤيد منصور. وببعض هذا تحصل الفائدة في إرساله.
فكان من أجل الفوائد إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف يقال: إنه لا فائدة في إرساله.
الوجه الحادي عشر: قولهم: " لما كان الباري عدلا جوادا أوجب أن يظهر عدله وجوده " فيقال لهم: جود الجواد غير إلزام الناس بترك حقوقهم، فإن الجواد هو الذي يحسن إلى الناس ليس هو الذي يلزم الناس بترك حقوقهم، وهؤلاء يزعمون أن شريعة الإنجيل ألزمت الناس بترك حقوقهم، وأنه لا ينصف مظلوم من ظالمه، ولهذا ليس عندهم حكم عدل يحكمون به بين الناس، بل الحكم عندهم حكمان: حكم الكنيسة، وليس فيه إنصاف المظلوم من الظالم. والثاني: حكم الملوك، وليس هو شرعا منزلا، بل هو بحسب آراء الملوك.
ولهذا تجدهم يردون الناس إلى حكم شرع الإسلام في الدماء والأموال ونحو ذلك، حتى في بعض بلادهم يكون الملك والعسكر كلهم نصارى، وفيهم طائفة قليلة مسلمون لهم حاكم،
فيردون الناس في الدماء والأموال إلى حكم شرع المسلمين، وذلك أن الدماء والأموال وإن كان يستحب للمظلوم أن يعفو فيها عن ظالمه، فالحاكم الذي يحكم بين الناس، متى حكم على المظلوم بترك حقه كان حاكما بالظلم لا بالعدل.
ولو أمرنا كل ولي مقتول أن لا يقتص من القاتل، وكل صاحب دين أن لا يطالب غريمه، بل يدعه على اختياره، وكل مشتوم ومضروب أن لا ينتصف من ظالمه، لم يكن للظالمين زاجر يزجرهم، وظلم الأقوياء الضعفاء، وفسدت الأرض. قال تعالى:
{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة: 251].
فلا بد من شرع يتضمن الحكم بالعدل ولا بد - مع ذلك - من ندب الناس إلى العفو والأخذ بالفضل.
وهذه شريعة الإسلام كما تقدم ما ذكرنا من الآيات مثل قوله:
{والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له} [المائدة: 45].
وقوله:
{وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم} [البقرة: 280].:.
وقوله:
{وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40].
وقوله:{وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل: 126].
وقوله:
{الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} [آل عمران: 134].
وقوله:
{ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} [النساء: 92] ..

وقوله:
{ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى: 43].
وقال أنس: " "ما رفع للنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر فيه القصاص، إلا أمر فيه بالعفو" " فكان يأمر بالعفو، ولا يلزم الناس به؛ ولهذا لما عتقت (بريرة)، وكان لها أن تفسخ النكاح، وطلب زوجها أن لا تفارقه، شفع إليها أن لا تفارقه، فقالت: أتأمرني؟ قال: لا إنما أنا شافع فلم يوجب عليها قبول شفاعته - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الثاني عشر: قولهم: " ولما كان الكمال الذي هو الفضل
لا يمكن أن يضعه إلا أكمل الكمال " فيقال لهم: العدل والفضل لا يشرعه إلا الله، فشريعة التوراة لم يشرعها إلا الله، وشريعة الإنجيل لم يشرعها إلا الله - عز وجل -.
يبين ذلك أن الله كلم موسى من الشجرة تكليما، وهم غاية ما قرروا به إلهية المسيح أن زعموا أن الله كلم الناس من ناسوت المسيح، كما كلم موسى من الشجرة، ومعلوم عند كل عاقل، لو كان هذا حقا، أن تكليمه لموسى من الشجرة أعظم تكليم كلمه الله لعباده فكيف يقال: إن شريعة العدل لم يشرعها الله عز وجل؟.
ثم يقال لهم: بل شريعة العدل أحق بأن تضاف إلى الله من شريعة الفضل، فإن الأمر بالإحسان والعفو يحسنه كل أحد، وأما معرفة العدل والحكم بين الناس به، فلا يقدر عليه إلا آحاد الناس؛ ولهذا يوجد الذي يصلح بين الناس بالإحسان خلق كثير، وأما الذي يحسن أن يفصل بينهم بالعدل فناس قليل، فكيف يقال: إن الذي يأمر بشرع الفضل هو الله، دون الذي يأمر بشرع العدل؟.
والله - تعالى - أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ ليقوم الناس بالقسط كما قال تعالى:
{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز} [الحديد: 25].
وأمر المسيح - عليه السلام - للمظلوم بالعفو عن الظالم: ليس فيه ما يدل على أنه من الواجب الذي من تركه استحق الذم والعقاب، بل هو من المرغب فيه الذي من فعله استحق المدح والثواب. وموسى - عليه السلام - أوجب العدل الذي من تركه استحق الذم والعقاب. وحينئذ فلا منافاة بين إيجاب العدل، وبين استحباب الفضل.
لكن إيجاب العدل يقترن به الترهيب والتخويف في تركه، واستحباب الفضل يقترن به الترغيب والتشويق إلى فعله، فذاك فيه رهبة مع ما فيه من الرغبة. وهذا فيه رغبة بلا رهبة؛ ولهذا قال المسيح - عليه السلام -:.
{وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد - إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 117 - 118].
ولهذا قيل: إن المسيح - عليه السلام - بعث لتكميل التوراة، فإن النوافل تكون بعد الفرائض كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

"يقول الله - تعالى -: " من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه".



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #73  
قديم 24-02-2022, 06:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,002
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (73)

من صــ 257 الى صـ
ـ 264

وإلا فلو قيل: إن المسيح - عليه السلام - أوجب على المظلوم العفو عن الظالم؛ بمعنى أنه يستحق الوعيد والذم والعقاب إن
لم يعف عنه لزم من هذا أن يكون كل من انتصف من الظالم، ظالما مستحقا للذم والعقاب، وهذا ظلم ثان للمظلوم الذي انتصف؛ فإن الظالم ظلمه أولا فلما انتصف منه ظلم ظلما ثانيا، فهو ظلم العادل انتصف من ظالمه.
وما أحسن كلام الله حيث يقول:.
{فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون - والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون - والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون - والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون - وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين - ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل - إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم - ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى: 36 - 43].
وقال:
{ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور} [الحج: 60].
فهذا من أحسن الكلام وأعدله وأفضله حيث شرع العدل فقال:
{وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40].

ثم ندب إلى الفضل، فقال:
{فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين} [الشورى: 40].
ولما ندب إلى العفو، ذكر أنه لا لوم على المنتصف، لئلا يظن أن العفو فرض فقال:
{ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} [الشورى: 41].
ثم بين أن السبيل إنما يكون على الظالمين فقال:
{إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم} [الشورى: 42].
ثم لما رفع عنهم السبيل ندبهم مع ذلك إلى الصبر والعفو فقال:.
{ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى: 43].
فهذا أحسن شرع وأحكمه يرغب في الصبر والغفر والعفو والإصلاح بغاية الترغيب، ويذكر ما فيه من الفضائل والمحاسن وحميد
العاقبة، ويرفع عن المنتصف ممن ظلمه الملام والعذل، ويبين أنه لا حرج عليه ولا سبيل إذا انتصر بعدما ظلم.
فهل يمكن أن تأتي شريعة بأن تجعل على المنتصف سبيلا مع عدله وهي لا تجعل على الظالم سبيلا مع ظلمه؟.
فعلم أن ما أمر به المسيح من العفو لم يكن لأن تاركه مستحق للذم والعقاب، بل لأنه محروم مما يحصل للعافي المحسن من الأجر والثواب، وهذا حق لا يناقض شرع التوراة، فعلم أن شرع الإنجيل لم يناقض شرع التوراة؛ إذ كان فرعا عليها ومكملا لها، وحينئذ فزعمهم أن شرع الإنجيل شرعه الله دون شرع التوراة كلام من هو من أجهل الناس وأضلهم ولهذا كان فرعا على قولهم بالاتحاد، وأن المسيح هو الله.
فذاك الضلال مما أوجب هذا القول المحال.
[فصل: بطلان استدلالهم بما يدعونه أنه من كلام الأنبياء السابقين]
فصل

وجميع ما احتجوا به من التوراة والإنجيل وغيرهما من كلام الأنبياء - عليهم السلام - إنما يكون الحجة فيه علمية برهانية، إذا أقاموا الدليل على نبوة من احتجوا بكلامه، بأن بينوا إمكان النبوة ثم بينوا وقوعها في الشخص المعين بالطرق التي يستدل بها على نبوة النبي.
وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، بل احتجوا بذلك بناء على أنها مقدمة مسلمة يسلمها المسلمون لهم. وهذا لا ينفعهم لوجوه:
أحدها: أن فيمن ذكروه من لم يثبت عند المسلمين أنه نبي كميخا وعاموص.
الثاني: أن من ثبت عند المسلمين نبوته كموسى وعيسى وداود وسليمان لم يثبت عندهم أنهم قالوا جميع ما ذكروه من الكلام وأن ترجمته بالعربية هو ما ذكروه، وأن مرادهم به ما فسروه.
الثالث: أن جمهور المسلمين لا يعلمون نبوة أحد من الأنبياء قبل محمد إلا بإخبار محمد - صلى الله عليه وسلم - بنبوتهم فلا يمكنهم التصديق بنبوة أحد من هؤلاء إلا بعد التصديق بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فإذا طلب هؤلاء من المسلمين أن يسلموا نبوة هؤلاء، دون نبوة محمد لم يمكن المسلمين أن يسلموا ذلك لهم، ولا يشرع ذلك للمسلمين لا عقلا ولا نقلا، وحينئذ إذا لم يقيموا الأدلة على نبوة أولئك؛ لم يكونوا قد ذكروا لا حجة برهانية ولا حجة جدلية.
الرابع: أن المسلمين لم يصدقوا بنبوة موسى وعيسى، إلا مع إخبارهما بنبوة محمد، فإن سلموا أنهما أخبرا بنبوة محمد ثبتت نبوته ونبوتهما، وإن جحدوا ذلك جحد المسلمون نبوة من يدعون أنه موسى.
وعيسى اللذين لم يخبرا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
الخامس: أن المسلمين وكل عاقل، يمنع - بعد النظر التام - أن يقر بنبوة موسى وعيسى دون محمد - صلى الله عليه وسلم -، إذ كانت نبوته أكمل، وطرق معرفتها أتم وأكثر وما من دليل يستدل به على نبوة غيره إلا وهو على نبوته أدل، فإن جحد نبوته يستلزم جحد نبوة غيره بطريق الأولى. ولكن من قال ذلك هو متناقض كما يتناقض سائر أهل الباطل؛ ولهذا قال - تعالى - في الكفار:
{إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك} [الذاريات: 8].

(وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (113)

ذكر محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
رضي الله عنهما أنه قال لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى والإنجيل جميعا، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى، وكفر بالتوراة، فأنزل الله ذلك في قولهما {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب} [البقرة: 113].
قال: كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر: أي تكفر اليهود بعيسى، وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه السلام، وفي الإنجيل بإجابة عيسى بتصديق موسى، وبما جاء به من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يدي صاحبه.قال قتادة {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} [البقرة: 113] قال: بلى قد كان أوائل النصارى على شيء ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا.
{وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} [البقرة: 113] قال: بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا.
فاليهود كذبوا بدين النصارى، وقالوا ليسوا على شيء، والنصارى كذبوا بجميع ما تميز به اليهود عنهم، حتى في شرائع التوراة التي لم ينسخها المسيح، بل أمرهم بالعمل بها، وكذبوا بكثير من الذين تميزوا به عنهم، حتى كذبوا بما جاء به عيسى عليه السلام من الحق.
لكن النصارى - وإن بالغوا في تكفير اليهود ومعاداتهم على الحد الواجب عما ابتدعوه من الغلو والضلال - فلا ريب أن اليهود لما كذبوا المسيح صاروا كفارا، كما قال تعالى للمسيح: {إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا} [آل عمران: 55].

وقال تعالى: {قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14].







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #74  
قديم 24-02-2022, 06:42 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,002
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (74)

من صــ 265 الى صـ
ـ 272

وكفر النصارى بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، وبمخالفة المسلمين أعظم من كفر اليهود بمجرد تكذيب المسيح، فإن المسيح لم ينسخ من شرع التوراة إلا قليلا، وسائر شرعه إحالة على التوراة، ولكن عامة دين النصارى أحدثوه بعد المسيح، فلم يكن في مجرد تكذيب اليهود له من مخالفة شرع الله الذي جاء بكتاب مستقل من عند الله لم يحل شيئا من شرعه على شرع غيره.
قال الله تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 51].
والقرآن أصل كالتوراة وإن كان أعظم منها ; ولهذا علماء النصارى يقرنون بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال النجاشي ملك النصارى لما سمع القرآن: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.

وكذلك «قال ورقة بن نوفل، وهو من أحبار نصارى العرب، لما سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إنه يأتيك الناموس الذي يأتي موسى، يا ليتني فيها جذعا، حين يخرجك قومك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا».
ولهذا يقرن سبحانه بين التوراة والقرآن، في مثل قوله {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا} [القصص: 48] ويعني التوراة والقرآن، وفي القراءة الأخرى (قالوا ساحران) أي محمد وموسى.
{وقالوا إنا بكل كافرون - قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 48 - 49].
فلم ينزل كتاب من عند الله أهدى من التوراة والقرآن.
ثم قال تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [القصص: 50].
(الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون (121)
(فصل)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وكذلك لفظ " التلاوة " فإنها إذا أطلقت في مثل قوله: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} تناولت العمل به كما فسره بذلك الصحابة والتابعون مثل ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم قالوا: يتلونه حق تلاوته يتبعونه حق اتباعه فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه. وقيل: هو من التلاوة بمعنى الاتباع كقوله: {والقمر إذا تلاها} وهذا يدخل فيه من لم يقرأه وقيل: بل من تمام قراءته أن يفهم معناه ويعمل به كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا. وقوله: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} قد فسر بالقرآن وفسر بالتوراة. وروى محمد بن نصر بإسناده الثابت عن ابن عباس: {يتلونه حق تلاوته} قال يتبعونه حق اتباعه. وروي أيضا عن ابن عباس: يتلونه حق تلاوته قال: يحلون حلاله. ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه وعن قتادة: يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به قال: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا بكتاب الله وصدقوا به أحلوا حلاله وحرموا حرامه وعملوا بما فيه ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول إن حق تلاوته: أن يحل حلاله ويحرم حرامه وأن نقرأه كما أنزل الله ولا نحرفه عن مواضعه وعن الحسن: يتلونه حق تلاوته قال: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه وعن مجاهد: يتبعونه حق اتباعه وفي رواية: يعملون به حق عمله.
(وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (124)
[فصل البرهان الحادي عشر " إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي " والجواب عليه]
فصل قال الرافضي: " البرهان الحادي عشر: قوله تعالى: {إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي}
[سورة البقرة: 124]. روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي عن ابن مسعود، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «انتهت الدعوة إلي وإلى علي، لم يسجد أحدنا لصنم قط، فاتخذني نبيا واتخذ عليا وصيا». وهذا نص في الباب ". والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا كما تقدم. الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع بإجماع أهل العلم. وانظر: زاد المسير 1 139 - 141، الدر المنثور للسيوطي 1 118. الثالث: أن قوله: " انتهت الدعوة إلينا " كلام لا يجوز أن ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه إن أريد: أنها لم تصب من قبلنا كان ممتنعا ; لأن الأنبياء من ذرية إبراهيم دخلوا في الدعوة. قال تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} [سورة الأنبياء: 72 - 73] وقال تعالى: {وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل} [سورة الإسراء: 2]. وقال عن بني إسرائيل: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [سورة السجدة: 24]
وقال: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض} [سورة القصص: 5، 6]. فهذه عدة نصوص من القرآن في جعل الله [أئمة] من ذرية إبراهيم قبل أمتنا. وإن أريد: انتهت الدعوة إلينا: أنه لا إمام بعدنا، لزم أن لا يكون الحسن والحسين ولا غيرهما أئمة، وهو باطل بالإجماع. ثم التعليل بكونه لم يسجد لصنم [هو] هو علة موجودة في سائر المسلمين بعدهم. الوجه الرابع: أن كون الشخص لم يسجد لصنم فضيلة يشاركه فيها جميع من ولد على الإسلام، مع أن السابقين الأولين أفضل منه، فكيف يجعل المفضول مستحقا لهذه المرتبة دون الفاضل؟ الخامس: أنه لو قيل أنه لم يسجد لصنم لأنه أسلم قبل البلوغ، فلم يسجد بعد إسلامه، فهكذا كل مسلم، والصبي غير مكلف. وإن قيل: إنه لم يسجد قبل إسلامه فهذا النفي غير معلوم، ولا قائله ممن يوثق به. ويقال: ليس كل من لم يكفر أو من لم يأت بكبيرة أفضل ممن تاب عنها مطلقا بل قد يكون التائب من الكفر والفسوق أفضل ممن لم يكفر ولم يفسق، كما دل على ذلك الكتاب [العزيز] فإن الله فضل الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا على الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وأولئك كلهم أسلموا بعد [الكفر]. وهؤلاء فيهم من ولد على الإسلام. وفضل
السابقين الأولين على التابعين لهم بإحسان، وأولئك آمنوا بعد الكفر، و [أكثر] التابعين ولدوا على الإسلام. وقد ذكر الله في القرآن أن لوطا آمن لإبراهيم، وبعثه الله نبيا. وقال شعيب: {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} [سورة الأعراف: 89]. وقال تعالى: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا} [سورة إبراهيم: 13]. وقد أخبر الله عن إخوة يوسف بما أخبر، ثم نبأهم بعد توبتهم، وهم الأسباط الذين أمرنا أن نؤمن بما أوتوا في سورة البقرة وآل عمران والنساء. وإذا كان في هؤلاء من صار نبيا، فمعلوم أن الأنبياء أفضل من غيرهم. وهذا مما تنازع فيه الرافضة وغيرهم، ويقولون: من صدر منه ذنب لا يصير نبيا. والنزاع فيمن أسلم أعظم، لكن الاعتبار بما دل عليه الكتاب والسنة. والذين منعوا من هذا عمدتهم أن التائب من الذنب يكون ناقصا مذموما لا يستحق النبوة، ولو صار من أعظم الناس طاعة. وهذا هو الأصل الذي نوزعوا فيه، والكتاب والسنة و [الإجماع] يدل على بطلان قولهم فيه.
(قال لا ينال عهدي الظالمين (124)
[فصل قال الرافضي الخامس قوله تعالى " لا ينال عهدي الظالمين " أخبر بأن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم والرد عليه]
فصل

قال الرافضي: " الخامس: قوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} [سورة البقرة: 124] أخبر بأن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم. والكافر ظالم ; لقوله: {والكافرون هم الظالمون} [سورة البقرة: 254]. ولا شك في أن الثلاثة كانوا كفارا يعبدون الأصنام، إلى أن ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم ".
والجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: الكفر الذي يعقبه الإيمان الصحيح لم يبق على صاحبه منه ذم. هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، بل من دين الرسل كلهم.
كما قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [سورة الأنفال: 38]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث
الصحيح: " «إن الإسلام يجب ما قبله» "، وفي لفظ: " «يهدم من كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله» ".
الثاني: أنه ليس كل من ولد على الإسلام بأفضل ممن أسلم بنفسه، بل قد ثبت بالنصوص المستفيضة أن خير القرون القرن الأول، وعامتهم أسلموا بأنفسهم بعد الكفر، وهم أفضل من القرن الثاني الذين ولدوا على الإسلام.
ولهذا قال أكثر العلماء: إنه يجوز على الله أن يبعث نبيا ممن آمن بالأنبياء قبل محمد - صلى الله عليه وسلم ; فإنه إذا جاز أن يبعث نبيا من ذرية إبراهيم وموسى، فمن الذين آمنوا بهما أولى وأحرى.
كما قال تعالى: {فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي} [سورة العنكبوت: 26].
وقال تعالى: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين - ولنسكننكم الأرض من بعدهم} [سورة إبراهيم: 13 - 14].
وقال تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين - قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا} الآية [سورة الأعراف: 88 - 89].
وطرد هذا: من تاب من الذنب وغفر له لم يقدح في علو درجته كائنا من كان. والرافضة لهم في هذا الباب قول فارقوا به الكتاب والسنة وإجماع السلف ودلائل العقول، والتزموا لأجل ذلك ما يعلم بطلانه بالضرورة، كدعواهم إيمان آزر، وأبوي النبي وأجداده وعمه أبي طالب، وغير ذلك.
الثالث: أن يقال: قبل أن يبعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أحد مؤمنا من قريش: لا رجل ولا صبي ولا امرأة، ولا الثلاثة، ولا علي، وإذا قيل عن الرجال: إنهم كانوا يعبدون الأصنام، فالصبيان كذلك: علي وغيره.
وإن قيل: كفر الصبي ليس مثل كفر البالغ.
قيل: ولا إيمان الصبي مثل إيمان البالغ ; فأولئك يثبت لهم حكم الإيمان والكفر وهم بالغون، وعلي يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ.
والصبي المولود بين أبوين كافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا
باتفاق المسلمين. وإذا أسلم قبل البلوغ فهل يجري عليه حكم الإسلام قبل البلوغ؟ على قولين للعلماء، بخلاف البالغ فإنه يصير مسلما باتفاق المسلمين.
فكان إسلام الثلاثة مخرجا لهم من الكفر باتفاق المسلمين. وأما إسلام علي، فهل يكون مخرجا له من الكفر؟ على قولين مشهورين. ومذهب الشافعي أن إسلام الصبي غير مخرج له من الكفر.
وأما كون صبي من الصبيان قبل النبوة سجد لصنم أو لم يسجد، فهو لم يعرف ; فلا يمكن الجزم بأن عليا أو الزبير ونحوهما لم يسجدوا لصنم، كما أنه ليس معنا نقل بثبوت ذلك، بل ولا معنا نقل معين عن أحد من الثلاثة أنه سجد لصنم. بل هذا يقال لأن من عادة قريش قبل الإسلام أن يسجدوا للأصنام ; وحينئذ فهذا ممكن في الصبيان، كما هو العادة في مثل ذلك.
الرابع: أن أسماء الذم: كالكفر، والظلم، والفسق التي في القرآن - لا تتناول إلا من كان مقيما على ذلك، وأما من (* صار مؤمنا بعد الكفر، وعادلا بعد الظلم، وبرا بعد الفجور - فهذا تتناوله أسماء المدح *) دون أسماء الذم باتفاق المسلمين.
فقوله عز وجل: {لا ينال عهدي الظالمين} [سورة البقرة: 124]، أي:

ينال العادل دون الظالم، فإذا قدر أن شخصا كان ظالما ثم تاب وصار عادلا تناوله العهد كما يتناوله سائر آيات المدح والثناء.
لقوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم} [سورة المطففين: 22]، وقوله: {إن المتقين في جنات ونعيم} [سورة الطور: 17].
الخامس: أن من قال: إن المسلم بعد إيمانه كافر، فهو كافر بإجماع المسلمين. فكيف يقال عن أفضل الخلق إيمانا: إنهم كفار ; لأجل ما تقدم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #75  
قديم 24-02-2022, 06:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,002
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (75)

من صــ 273 الى صـ
ـ 280

السادس: أنه قال لموسى: {إني لا يخاف لدي المرسلون - إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم} [سورة النمل: 10 - 11.
السابع: أنه قال: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا - ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} الآية [سورة الأحزاب: 72 - 73].
فقد أخبرنا الله عن جنس الإنسان أنه ظلوم جهول، واستثنى من العذاب من تاب. ونصوص الكتاب صريحة في أن كل بني آدم لا بد أن يتوب. وهذه المسألة متعلقة بمسألة العصمة: هل الأنبياء معصومون من الذنوب أم لا فيحتاجون إلى توبة؟ والكلام فيها مبسوط قد تقدم.
(وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126)
سئل شيخ الإسلام مفتي الأنام أوحد عصره فريد دهره: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية - رحمه الله ورضي عنه -:
عن الرجل: إذا قطع الطريق وسرق أو أكل الحرام ونحو ذلك هل هو رزقه الذي ضمنه الله تعالى له أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله، ليس هذا هو الرزق الذي أباحه الله له ولا يحب ذلك ولا يرضاه. ولا أمره أن ينفق منه. كقوله تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} وكقوله تعالى: {وأنفقوا من ما رزقناكم} ونحو ذلك لم يدخل فيه الحرام بل من أنفق من الحرام فإن الله تعالى يذمه ويستحق بذلك العقاب في الدنيا والآخرة بحسب دينه. وقد قال الله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} وهذا أكل المال بالباطل.
ولكن هذا الرزق الذي سبق به علم الله وقدره كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد} فكما أن الله كتب ما يعمله من خير وشر وهو يثيبه على الخير ويعاقبه على الشر فكذلك كتب ما يرزقه من حلال وحرام مع أنه يعاقبه على الرزق الحرام. ولهذا كل ما في الوجود واقع بمشيئة الله وقدره كما تقع سائر الأعمال لكن لا عذر لأحد بالقدر بل القدر يؤمن به وليس لأحد أن يحتج على الله بالقدر بل لله الحجة البالغة ومن احتج بالقدر على ركوب المعاصي فحجته داحضة ومن اعتذر به فعذره غير مقبول كالذين قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} والذين قالوا: {لو شاء الرحمن ما عبدناهم} كما قال تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين} {أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين}.

وأما الرزق الذي ضمنه الله لعباده فهو قد ضمن لمن يتقيه أن يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وأما من ليس من المتقين فضمن له ما يناسبه بأن يمنحه ما يعيش به في الدنيا ثم يعاقبه في الآخرة كما قال عن الخليل: {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} - قال الله -: {ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير}.

والله إنما أباح الرزق لمن يستعين به على طاعته لم يبحه لمن يستعين به على معصيته؛ بل هؤلاء وإن أكلوا ما ضمنه لهم من الرزق فإنه يعاقبهم كما قال: {ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} وقال تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم} فإنما أباح الأنعام لمن يحرم عليه الصيد في الإحرام.
وقال تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين} فكما أن كل حيوان يأكل ما قدر له من الرزق فإنه يعاقب على أخذ ما لم يبح له سواء كان محرم الجنس أو كان مستعينا به على معصية الله ولهذا كانت أموال الكفار غير مغصوبة بل مباحة للمؤمنين وتسمى فيئا إذا عادت إلى المؤمنين؛ لأن الأموال إنما يستحقها من يطيع الله لا من يعصيه بها فالمؤمنون يأخذونها بحكم الاستحقاق والكفار يعتدون في إنفاقها كما أنهم يعتدون في أعمالهم فإذا عادت إلى المؤمنين فقد فاءت إليهم كما يفيء المال إلى مستحقه.
(قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون (133)
[فصل: رد استدلال النصارى بما ورد في التوراة من كلام الله لموسى وما يفيده ذلك من تعدد ألوهيته سبحانه]

قالوا: نذكر خامسا، وفي السفر الثاني من التوراة: وكلم الله موسى من العليقة قائلا: (أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب)، ولم يقل أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، بل كرر اسم الإله ثلاث دفوع قائلا: أنا إله وإله؛ لتحقق مسألة الثلاث أقانيم في لاهوته.
والجواب: أن الاحتجاج بهذا على الأقانيم الثلاثة من أفسد الأشياء، وذلك يظهر من وجوه:
أحدها: أنه لو أريد بلفظ الإله أقنوم الوجود، وبلفظ الإله مرة ثانية أقنوم الكلمة، وبالثالث أقنوم الحياة، لكان الأقنوم الواحد إله إبراهيم، والأقنوم الثاني إله إسحاق، والأقنوم الثالث إله يعقوب، فيكون كل من الأقانيم الثلاثة إله أحد الأنبياء الثلاثة، والأقنومين ليسا بإلهين له.
وهذا كفر عندهم، وعند جميع أهل الملل، وأيضا فيلزم من ذلك أن يكون الآلهة ثلاثة، وهم يقولون: إله واحد، ثم هم إذا قالوا: كل من الأقانيم إله واحد، فيجعلون الجميع إله كل نبي، فإذا احتجوا بهذا النص على قولهم لزم أن يكون إله كل نبي، ليس هو إله النبي الآخر، مع كون الآلهة ثلاثة.
الوجه الثاني: أنه يقال: إن الله رب العالمين، ورب السماوات ورب الأرض ورب العرش ورب كل شيء، أفيلزم أن يكون رب السماوات ليس هو رب الأرض، رب كل شيء.
وكذلك يقال: إله موسى وإله محمد، مع قولنا: إله إبراهيم وإسحاق، ويعقوب، (أفتكون الآلهة خمسة، وقد قال يعقوب لبنيه: (ما تعبدون من بعدي)، قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق.
أفتراه أثبت إلهين: أحدهما إلهه، والآخر إله الثلاثة؟!
الوجه الثالث: أن العطف يكون تارة لتغاير الذوات، وتارة لتغاير الصفات كقوله تعالى:
{سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] (1) {الذي خلق فسوى} [الأعلى: 2] (2) {والذي قدر فهدى} [الأعلى: 3] (3) {والذي أخرج المرعى} [الأعلى: 4] (4) {فجعله غثاء أحوى} [الأعلى: 5].
والذي خلق هو الذي قدر وأخرج، وكذلك قوله:
{إلهك وإله آبائك} [البقرة: 133].
وهو هو سبحانه، وقال إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وسلامه لقومه:
{قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون} [الشعراء: 75] (75) {أنتم وآباؤكم الأقدمون} [الشعراء: 76] (76) {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} [الشعراء: 77] (77) {الذي خلقني فهو يهدين} [الشعراء: 78] (78) {والذي هو يطعمني ويسقين} [الشعراء: 79] (79) {وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء: 80] (80) {والذي يميتني ثم يحيين} [الشعراء: 81] (81) {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} [الشعراء: 82]
والذي خلقه هو الذي يطعمه ويسقيه، وهو الذي يميته ثم يحييه.
فقوله في التوراة: إله إبراهيم وإله إسحاق، وإله يعقوب، هو من هذا الباب، ولا يختص هذا بثلاثة، بل يقال في الاثنين والأربعة والخمسة بحسب ما يقصد المتكلم ذكره من الصفات، وفي هذا من الفائدة ما ليس في قوله: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فإنه لو قيل ذلك لم يفد إلا أنه معبود الثلاثة، لا يدل على أنهم عبدوه مستقلين، كل منهم عبده عبادة اختص بها، لم تكن هي نفس عبادة الأول.

وأيضا فإنه إذا قيل: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب دل على عبادة كل منهم باللزوم، وإذا قال: وإله، دل على أنه معبود كل من الثلاثة، فأعاده باسم الإله الذي يدل على العبادة دلالة باللفظ المتضمن لها، وفي ذلك من ظهور المعنى للسامع وتفرعه بصورة له من غير فكر - ما ليس في دلالة الملزوم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #76  
قديم 24-02-2022, 06:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,002
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (76)

من صــ 281 الى صـ
ـ 288

[فصل: رد ما جاء في التوراة من قوله نقدسك ونعظمك ونثلث لك تقديسا مثلثا كالمكتوب على لسان نبيك أشعيا]
وأما قولهم: (نقدسك، ونعظمك، ونثلث لك تقديسا مثلثا، كالمكتوب على لسان نبيك أشعيا).
وقولهم: قدوس، قدوس، قدوس، رب القوات، ورب السماوات والأرض)، فيقال: هذا الكلام صريح في أن المثلث هو نفس التقديس لا نفس الإله المقدس.
وكذلك قولهم: (قدوس، قدوس، قدوس). قدسوه ثلاث مرات، فإنه قال: (نقدسك، ونثلث لك تقديسا مثلثا). فنصب التثليث على المصدر الذي ينصب بفعل التقديس، فقال: نقدسك تقديسا مثلثا.
(فنصب التقديس على المصدر)، كما تقول: سبحتك تسبيحا مثلثا، أي سبحتك ثلاث مرات، وقال: نثلث لك أي نثلث تقديسا لك، لم يقل: أنت ثلاثة، بل جعلوا أنفسهم هم الذين يقدسون التقديس المثلث، وهم يثلثون له، وهذا صريح في أنهم يسبحونه ثلاث مرات، ولا يسبحون ثلاثة آلهة، ولا ثلاثة أقانيم.
وهذا كما في السنن عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «(إذا قال العبد في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاثا، فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، وإذا قال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاثا، فقد تم سجوده وذلك أدناه»)، والتسبيح هو تقديس الرب، وأدناه أن يقدسه ثلاث مرات، فمعناه: قدسوه ثلاث مرات، لا تقتصروا على مرة واحدة.
ولهذا يقولون مجاوبين: قدوس، قدوس، قدوس، فيقدسونه ثلاث مرات، فعلم أن المراد تثليث التقديس حيث ما دل عليه لفظه، وما يفعلونه ممتثلين لهذا الأمر، وما يفعل في نظير ذلك من تثليث تقديسه، وأن يقدس ثلاث مرات لا أن يكون المقدس ثلاث أقانيم، فإن هذا أمر لم ينطق نبي من الأنبياء به لا لفظا ولا معنى، بل جميع الأنبياء عليهم السلام أثبتوا إلها واحدا له الأسماء الحسنى.
وأسماؤه متعددة تدل على صفاته المتعددة، ولا يختص ذلك بثلاثة أسماء، ولا بثلاث صفات، (وليست الصفات أقنوما هو ذات وصفة، بل ليس إلا ذات واحدة لها صفات) متعددة، فالتعدد في الصفات لا في الذات التي يسمونها الجوهر، ولا في الذات والصفة التي يسمونها الأقنوم.
(قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون (139)
[فصل: الإسلام هو دين الأنبياء جميعا]

وقولهم: إنه لم يقل: كونوا له مسلمين، ولكن ونحن، أي عنه وعن العرب التابعين له، ولما أتى به وجاء في كتابه.
فيقال لهم: هذا ونظائره كلام من لم يفهم القرآن، بل ولا يفهم كلام سائر الناس، فإنه إذا عرف من صاحب كتاب يقول إنه منزل من الله، أو يقول إنه صنفه هو أنه يدعو قوما بالأقوال الصريحة الكثيرة، والأعمال البينة الظاهرة، كان سكوته عن دعائهم في بعض الألفاظ لا ينافي دعاءهم له.
لكن إن كان حكيما في كلامه كان للسكوت عن دعائهم في بعض المواضع حكمة تناسب ذلك، وهذا كقوله - تعالى -:
{قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون} [البقرة: 139].
أفتراه لما أمر أمته أن يقولوا {ونحن له مخلصون} [البقرة: 139] لم يكن أهل الكتاب مأمورين بالإخلاص لله، وقد ذكر أمر أهل الكتاب بالإخلاص في غير موضع كقوله - تعالى -: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} [البينة: 4] (4) {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [البينة: 5].
وكذلك دعاهم إلى الإسلام وتوعدهم على التولي عنه في مثل:
{شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} [آل عمران: 18] (18) {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب} [آل عمران: 19] (19) {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} [آل عمران: 20]، وقال - تعالى -:
{ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} [البقرة: 130] (130) {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131] (131) {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 132] (132) {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون} [البقرة: 133].
فقد بين - سبحانه - أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه أي سفه نفسا، أي كانت نفسه سفيهة جاهلة، هذا أصح القولين في ذلك، وهو مذهب الكوفيين من النحاة، يجوزون أن يكون المنصوب على التمييز معرفة، كما يكون نكرة، ثم أخبر عنه أنه:
{إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131].
وذكر أن إبراهيم وصى بها بنيه، ويعقوب وصى بها بنيه أيضا، كلاهما قال لبنيه:
{يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 132].
ثم ذكر أن يعقوب عند موته:
{إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون} [البقرة: 133].
فهؤلاء إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب كلهم على الإسلام وهم يأمرون بالإسلام ثم قال بعد ذلك:
{وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} [البقرة: 135].
ثم قال: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136].
ثم قال:
{فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة: 137].
فقد أخبر أنهم إن تولوا عن الإيمان بمثل ما آمنتم به المتضمن قولكم: ونحن له مسلمون فإنما هم في شقاق، أي: مشاقون لله ورسوله كما قال - تعالى -:
{هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار} [الحشر: 2].
إلى قوله:
{ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب} [الحشر: 4].
وقوله - تعالى -: {ونحن له مسلمون} [البقرة: 133] في العنكبوت فهو مثل قوله: {ونحن له مسلمون} [البقرة: 133] في البقرة مع دعائهم إلى الإسلام، وكذلك في سورة آل عمران في قوله:
{قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].

فقد دعاهم أولا إلى الإسلام، وهو عبادة الله وحده، لا شريك له، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، كما قال - تعالى -:
{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #77  
قديم 24-02-2022, 07:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,002
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (77)

من صــ 289 الى صـ
ـ 296


ثم قال - تعالى -:{فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].
وهذه الآية هي التي كتب بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر ملك الروم لما دعاه إلى الإسلام.
وقال في كتابه.

«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و:
{ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64]».
فدعاه النبي إلى الإسلام، في كتابه الذي أرسله إليه وقال أيضا في آل عمران:
{ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} [آل عمران: 79] (79) {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} [آل عمران: 80].
فذكر التوحيد في هذه الآية، وكفر من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا، فكيف بمن اتخذ الأحبار والرهبان أربابا ثم ذكر الإيمان بخاتم الرسل، فقال: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} [آل عمران: 81] (81) {فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} [آل عمران: 82] (82) {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون} [آل عمران: 83] (83) {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [آل عمران: 84] (84) {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران: 85].

[فصل: أمر المؤمنين بقول الحق لتقوم به الحجة على المخالف]
وأما قوله - تعالى -:

{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} [العنكبوت: 46].
فهو أمر للمؤمنين أن يقولوا الحق الذي أوجبه الله عليهم، وعلى جميع الخلق ليرضوا به الله، وتقوم به الحجة على المخالفين، فإن هذا من الجدال بالتي هي أحسن، وهو أن تقول كلاما حقا يلزمك، ويلزم المنازع لك أن يقوله، فإن وافقك وإلا ظهر عناده وظلمه.
كما قال - تعالى - في الآية الأخرى:

{قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون} [البقرة: 139].

فإنا مشتركون في أنه ربنا كلنا وأن عمل كل عامل له لا لغيره،وامتزنا نحن بأنا مخلصون له، وأنتم لستم مخلصين له، فأوجب هذا أن الحق معنا دونكم، وأن أعمالنا صالحة مقبولة، وأعمالكم مردودة.
ويشبه ذلك قوله - تعالى -:
{قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].
فأمره لهم أن يقولوا اشهدوا بأنا مسلمون يتضمن إقامة الحجة عليهم كما كان المسيح - عليه السلام - يقول.
(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ... (143)
والوسط العدل الخيار وقد جعلهم الله شهداء على الناس وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول.
وقد ثبت في الصحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال: وجبت وجبت ثم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال: وجبت وجبت قالوا: يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت؟ قال: هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت: وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت: وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض}. فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء فقد أمر به وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض بل زكاهم الله في شهادتهم كما زكى الأنبياء فيما يبلغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلا بحق وقال تعالى: {واتبع سبيل من أناب إلي} والأمة منيبة إلى الله فيجب اتباع سبيلها وقال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} فرضي عمن اتبع السابقين إلى يوم القيامة فدل على أن متابعهم عامل بما يرضى الله والله لا يرضى إلا بالحق لا بالباطل.
[فصل: توسط المسلمين واعتدالهم في التوحيد والعبادات والمعاملات]
وإذا كان جنس أهل الكتاب أكمل - في العلوم النافعة والأعمال الصالحة - ممن لا كتاب له، فمعلوم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل من طائفتي أهل الكتاب: اليهود والنصارى وأعدل، وقد جمع لهم محاسن ما في التوراة وما في الإنجيل. فليس عند أهل الكتاب فضيلة علمية وعملية إلا وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل منهم فيها.
فأما العلوم: فهم أحذق - في جميع العلوم - من جميع الأمم حتى العلوم التي ليست بنبوية، ولا أخروية، كعلم الطب - مثلا - والحساب، ونحو ذلك، هم أحذق فيها من الأمتين، ومصنفاتهم فيها أكمل من مصنفات الأمتين، بل أحسن علما وبيانا لها من الأولين الذين كانت هي غاية علمهم، وقد يكون الحاذق فيها من هو عند المسلمين منبوذ بنفاق وإلحاد، ولا قدر له عندهم، لكن حصل له بما يعلمه من المسلمين من العقل، والبيان ما أعانه على الحذق في تلك العلوم، فصار حثالة المسلمين أحسن معرفة وبيانا لهذه العلوم من أولئك المتقدمين. وأما العلوم الإلهية والمعارف الربانية وما أخبرت به الأنبياء من الغيب كالعرش، والملائكة، والجن، والجنة، والنار، وتفاصيل المعاد، فكل من نظر في كلام المسلمين فيها وكلام علماء اليهود، والنصارى وجد كلام المسلمين فيها أكمل، وأتم.

ومعلوم أن علم أهل الكتاب والملل بذلك أتم من علم غيرهم، وأما العبادة، والزهد، والأخلاق، والسياسة المنزلية، والمدنية، فالكلام فيها مبني على أصل، وهو معرفة المقصود بها، وما به يحصل المقصود.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #78  
قديم 24-02-2022, 07:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,002
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (78)

من صــ 297 الى صـ
ـ 304

فنقول: للناس في مقصود العبادات مذاهب: منهم من يقول: المقصود بها تهذيب أخلاق النفوس، وتعديلها؛ لتستعد بذلك للعلم، وليست هي مقصودة في نفسها، ويجعلونها من قسم الأخلاق، وهذا قول متفلسفة اليونان، وقول من اتبعهم من الملاحدة والإسماعيلية وغيرهم من المتفلسفة الإسلاميين كالفارابي، وابن سينا، وغيرهما،
ومن سلك طريقهم من متكلم، ومتصوف، ومتفقه، كما يوجد مثل ذلك في كتب أبي حامد، والسهروردي المقتول، وابن رشد الحفيد، وابن عربي، وابن سبعين، لكن أبو حامد يختلف كلامه؛ تارة يوافقهم، وتارة يخالفهم.
وهذا القدر فعله ابن سينا وأمثاله ممن رام الجمع بين ما جاءت به الأنبياء، وبين فلسفة المشائين - أرسطو، وأمثاله، ولهذا تكلموا في الآيات، وخوارق العادات، وجعلوا لها ثلاثة أسباب: القوى الفلكية، والقوى النفسانية، والطبيعية؛ إذ كانت هذه هي المؤثرات في هذا العالم عندهم، وجعلوا ما للأنبياء وغير الأنبياء من المعجزات، والكرامات، وما للسحرة من العجائب هو من قوى النفس. لكن الفرق بينهما أن ذلك قصده الخير، وهذا قصده الشر، وهذا المذهب من أفسد مذاهب العقلاء، كما قد بسط الكلام عليه في موضع آخر. فإنه مبني على إنكار الملائكة، وإنكار الجن، وعلى أن الله لا يعلم الجزئيات، ولا يخلق بمشيئته وقدرته، ولا يقدر على تغيير العالم،
ثم إن هؤلاء لا يقرون من المعجزات إلا بما جرى على هذا الأصل، وأمكن أن يقال فيه هذا، مثل: نزول المطر، وتسخير السباع، وإمراض الغير، وقتله، ونحو ذلك. وأما قلب العصا حية، وإحياء الموتى، وإخراج الناقة من الهضبة، وانشقاق القمر، وأمثال ذلك فلا
يقرون به، وقد علم بطرق متعددة ما يكون من الخوارق بسبب أفعال الجن، وبسبب أفعال الملائكة. وأحوال الجن معلومة عند عامة الأمم: مسلمهم، وكافرهم، لا يجحد ذلك إلا من هو من أجهل الناس، وكذلك من فسرها بقوى النفس، وهذا غير إخبار الله عنهم فيما أنزله من الكتب. وأما الملائكة فأمرهم أجل، وهم رسل الله في تدبير العالم كما قال تعالى: {فالمدبرات أمرا} [النازعات: 5]،
وقال: {فالمقسمات أمرا} [الذاريات: 4] وقد ذكر الله تعالى في كتبه من أخبارهم، وأصنافهم ما يطول وصفه، وآثارهم موجودة في العالم، يعرف ذلك بالاعتبار كما قد بسط في موضعه؛ إذ المقصود هنا ذكر مذاهب الناس في العبادات، وهؤلاء غاية ما عندهم في العبادات، والأخلاق، والحكمة العملية، أنهم رأوا النفس فيها شهوة، وغضب من حيث القوة العملية، ولها نظر من جهة القوة العلمية. فقالوا: كمال الشهوة في العفة، وكمال الغضب في الحلم، والشجاعة، وكمال القوة النظرية في العلم. والتوسط في جميع ذلك بين الإفراط والتفريط هو العدل. وما ذكروه من العمل متعلق بالندب لم يثبتوا خاصية النفس التي هي محبة الله، وتوحيده، بل ولا عرفوا ذلك كما لم يكن عندهم من العلم بالله إلا قليل مع كثير من الباطل،
كما بسط الكلام عنهم في موضعه. ومحبة الله وتوحيده هو الغاية التي فيها صلاح للنفس، وهو عبادة الله وحده لا شريك له. فلا صلاح للنفس، ولا كمال لها إلا في ذلك، وبدون ذلك تكون فاسدة، لا صلاح لها، كما قد بسط الكلام على ذلك في موضع آخر، ولهذا كان هذا هو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل، قال الله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36]، وقال:، {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]،

وقال: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} [آل عمران: 85]، وقال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45]، وقال تعالى:{ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 51]، وقال لما ذكر قصص الأنبياء: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون} [الأنبياء: 92]،

وقال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13]، وقال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} [الروم: 30]وقد قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]
فالغاية الحميدة التي بها يحصل كمال بني آدم وسعادتهم ونجاتهم عبادة الله وحده، وهي حقيقة قول القائل: لا إله إلا الله، ولهذا بعث الله جميع الرسل، وأنزل جميع الكتب، ولا تصلح النفس وتزكو وتكمل إلا بهذا، كما قال تعالى: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} [فصلت: 6] أي لا يؤتون ما تزكو به نفوسهم من التوحيد، والإيمان.
وكل من لم يحصل له هذا الإخلاص لم يكن من أهل النجاة والسعادة كما قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]في موضعين من كتابه، وهذا أول الكلمات العشر التي أنزلها الله على موسى حيث قال: أنا الله لا إله إلا أنا إلهك الذي أخرجتك من أرض مصر، من التعبد، لا يكون لك إله غيري ; لا تتخذ صورا، ولا تمثالا، ما في السماوات من فوق، ومن في الأرض من أسفل، وما في الماء من تحت الأرض ; لا تسجد لهن ; ولا تعبدهن إني أنا ربك العزيز.
وقد شهد المسيح عليه السلام أن هذا هو أعظم وصية في الناموس، فعبادة الله وحده لا شريك له، وأن يكون الله أحب إلى العبد من كل ما سواه، هو أعظم وصية وكلمة جاء بها المرسلون كموسى، والمسيح، ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، وضد هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى: قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة: 165]
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن النفس ليس لها نجاة ولا سعادة ولا كمال إلا بأن يكون الله معبودها ومحبوبها، الذي لا أحب إليها منه، ولهذا كثر في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده،
ولفظ العبادة يتضمن كمال الذل بكمال الحب. فلا بد أن يكون العابد محبا للإله المعبود كمال الحب، ولا بد أن يكون ذليلا له كمال الذل، فمن أحب شيئا ولم يذل له لم يعبده، ومن خضع له ولم يحبه لم يعبده، وكمال الحب والذل لا يصلح إلا لله وحده، فهو الإله المستحق للعبادة التي لا يستحقها إلا هو، وذلك يتضمن كمال الحب، والذل، والإجلال، والإكرام، والتوكل،
والعبادة. فالنفوس محتاجة إلى الله من حيث هو معبودها ومنتهى مرادها وبغيتها، ومن حيث هو ربها وخالقها. فمن آمن بالله رب كل شيء وخالقه، ولم يعبد إلا الله وحده، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، وأخشى عنده من كل ما سواه،

وأعظم عنده من كل ما سواه، وأرجى عنده من كل ما سواه، بل من سوى بين الله وبين بعض المخلوقات في الحب بحيث يحبه مثل ما يحب الله، ويخشاه مثل ما يخشى الله، ويرجوه مثل ما يرجو الله، ويدعوه مثل ما يدعوه، فهو مشرك الشرك الذي لا يغفره الله، ولو كان مع ذلك عفيفا في طعامه ونكاحه، وكان حكيما شجاعا.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #79  
قديم 24-02-2022, 07:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,002
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (79)

من صــ 305 الى صـ
ـ 312

فما ذكره المتفلسفة من الحكمة العملية ليس فيها من الأعمال ما تسعد به النفوس، وتنجو من العذاب، كما أن ما ذكروه من الحكمة النظرية ليس فيها الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فليس عندهم من العلم ما تهتدي به النفوس، ولا من الأخلاق ما هو دين حق، ولهذا لم يكونوا داخلين في أهل السعادة في الآخرة المذكورين في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62]

وهذه الفضائل الأربع التي ذكرها المتفلسفة لا بد منها في كمال النفس، وصلاحها، وتزكيتها. والمتفلسفة لم يحدوا ما يحتاج إليه بحد يبين مقدار ما تحصل به النجاة والسعادة. ولكن الأنبياء بينوا ذلك، وقد قال سبحانه: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33]

فهذه الأنواع الأربعة هي التي حرمها تحريما مطلقا، لم يبح منها شيئا لأحد من الخلق، ولا في حال من الأحوال، بخلاف الدم، والميتة، ولحم الخنزير، وغير ذلك، فإنه يحرم في حال، ويباح في حال.
وأما الأربعة فهي محرمة مطلقا. فالفواحش متعلقة بالشهوة. والبغي بغير الحق يتعلق بالغضب، والشرك بالله فساد أصل العدل فإن الشرك ظلم عظيم، والقول على الله بلا علم فساد في العلم، فقد حرم سبحانه هذه الأربعة، وهي فساد الشهوة، والغضب، وفساد العدل، والعلم. وقوله: {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} [الأعراف: 33] يتضمن تحريم أصل الظلم في حق الله، وذلك يستلزم إيجاب العدل في حق الله تعالى وهو عبادته وحده لا شريك له، فإن النفس لها القوتان: العلمية، والعملية، وعمل الإنسان عمل اختياري، والعمل الاختياري إنما يكون بإرادة العبد. وكل إنسان له إرادة، وعمل بإرادته فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء الحارث، وهمام» والإرادة لا بد لها من مراد، وكل مراد فإما أن يراد لنفسه، وإما أن يراد لغيره، والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه.
فالقوة العملية تستلزم أن يكون للإنسان مراد، وذلك المراد لنفسه هو علة فاعلة للعلة الفاعلة، ولهذا قيل: العامة تقول:قيمة كل امرئ ما يحسنه. والعارفون يقولون: قيمة كل امرئ ما يطلب. وفي بعض الكتب المتقدمة: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنما أنظر إلى همته. وهؤلاء المتفلسفة لم يذكروا هذا في كمال النفس، وإنما جعلوا كمالها العملي في تعديل الشهوة والغضب بالعفة، والحلم، وهذا غايته ترك الإسراف في الشهوة والغضب، والشهوة: هي جلب ما ينفع البدن ويبقي النوع، والغضب: دفع ما يضر البدن.

ولم يتعرضوا لمراد الروح الذي يحبه لذاته. مع أنهم إنما تكلموا فيما يعود إلى البدن، وجعلوا ذلك إصلاحا للبدن الذي هو آلة للنفس، وجعلوا كمال النفس في مجرد العلم. وقد بسطنا غلطهم في هذا الأصل من وجوه في غير هذا الموضع، وبينا أن النفس لها كمال في العمل والإرادة، كما أن لها كمالا في العلم، وأن العلم المجرد ليس كمالا لها ولا صلاحا، ولو كان كمالا لم يكن ما عندهم من العلم ما هو كمال النفس، وبينا غلط الجهمية الذين قالوا: الإيمان هو مجرد العلم، وأن الصواب قول السلف والأئمة: إن الإيمان قول وعمل.

أصله قول القلب، وعمل القلب المتضمن علم القلب وإرادته. وإذا كان لا بد للنفس من مراد محبوب لذاته لا تصلح إلا به، ولا تكمل إلا به، وذلك هو إلهها، فليس لها إله يكون به صلاحا إلا الله، ولهذا قال الله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22]، وليس ذلك للإنسان فقط بل للملائكة والجن فإنهم كلهم أحياء عقلاء ناطقون، لهم علم وعمل اختياري، ولا صلاح لهم إلا بمرادهم المحبوب لذاته، وهو معبودهم، ولا يجوز أن يكون معبودا محبوبا لنفسه إلا الله، فلو كان في السماوات والأرض إله إلا الله لفسدتا. فلهذا كان دين جميع الرسل عبادة الله وحده لا شريك له.
وهؤلاء المتفلسفة لا يعرفون ذلك، فليس عندهم من صلاح النفس وكمالها في العلم والعمل ما تنجو به من الشقاء، فضلا عما تسعد به، ومما يبين ذلك أن أرسطو معلمهم الأول هو وأتباعه إنما أثبتوا العلة الأولى بالحركة الفلكية، فقالوا: الحركة الدورية حركة اختيارية نفسانية، فقوامه بحركته الاختيارية، وفساده بعدمها، وقوام حركته بما يتحرك لأجله، فإن الفاعل بالاختيار إنما قوامه بعلته الغائية التي يتحرك لأجلها، وغايته التي يتحرك لأجلها، هو العلة الأولى فإنه يتحرك للتشبه بها.

فجعلوا قوام العالم كله بالعلة الأولى من حيث هو متشبه به؛ لأن المتحرك باختياره لا بد له من مراد. ومعلوم أن الحركة الإرادية تطلب مرادا محبوبا لنفسها، وتستلزم ذلك أعظم من استلزامها مشبها به، فإن كل متحرك بإرادة لا بد له من مراد محبوب لنفسه، فإن الإرادة لا بد لها من مراد، والمراد يكون إما مرادا لنفسه، وإما لغيره،

والمراد لغيره إنما يراد لذلك الغير بدلا أن يكون ذلك الغير مرادا لنفسه، أو منتهى إلى مراد لنفسه، وإلا لزم التسلسل في العلل الغائبة، وذلك باطل كبطلان التسلسل في العلل الفاعلية بصريح العقل، واتفاق العقلاء، وبسط هذا له موضع آخر. وإذا كان الفاعل باختيار يستلزم مرادا لنفسه محبوبا، فلا بد أن يكون لما يتحرك في السماوات بإرادته سواء كان هؤلاء الملائكة، أو ما يسمونه هم نفسا من محبوب مراد لذاته، يكون هو الإله المعبود المراد بتلك الحركات، وكذلك نفس الإنسان حركتها بالإرادة من لوازم ذاتها، فلا بد لها من محبوب مراد لذاته، وهو الإله،
وهذا المحبوب المراد لذاته هو الله تعالى، ويمتنع أن يكون غيره، كما قد بسط هذا في موضع آخر، وبين أنه يمتنع أن يكون موجودا بغيره، بل هو واجب الوجود بنفسه، فيمتنع أن يكون مرادا لغيره بل مراد لنفسه. وكما يمتنع أن يكون للعالم ربان قادران، يمتنع أن يكون للعالم إلهان معبودان، فإن كون أحدهما قادرا يناقض كون الآخر قادرا؛ لامتناع اجتماع القادرين على مقدور واحد، وامتناع كون أحدهما قادرا على الفعل حين يكون الآخر قادرا عليه، وامتناع ارتفاع قدرة أحدهما بقدرة الآخر مع التكافؤ.
كذلك يمتنع أن يكون إلهان معبودان محبوبان لذاتهما؛ لأن كون أحدهما هو المعبود لذاته يناقضه أن يكون غيره معبودا لذاته، فإن ذلك يستلزم أن يكون بعض المحبة والعمل لهذا، وبعض ذلك لهذا، وذلك يناقض كون الحب والعمل كله لهذا، فإن الشركة نقص في الحب، فلا تكون حركة المتحرك بإرادته له، فلا يكون أحدهما معبودا معمولا له إلا إذا لم يكن الآخر كذلك،

فإن العمل لهذا يناقض أن يكون له شريك فضلا عن أن يكون لغيره. وكل من أحب شيئين فإنما يحبهما لثالث غيرهما، وإلا فيمتنع أن يكون كل منهما محبوبا لذاته؛ إذ المحبوب لذاته هو الذي تريده النفس وتطلبه، وتطمئن إليه، بحيث لا يبقى لها مراد غيره، وهذا يناقض أن يكون له شريك.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #80  
قديم 24-02-2022, 07:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,002
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (80)

من صــ 313 الى صـ
ـ 320


والقول الثاني: قول من يقول: إن الله عوض الناس بالتكليف بالعبادات ليثيبهم على ذلك بعد الموت؛ فإن الإنعام بالثواب لا يحسن بدون التكليف؛ لما فيه من الإجلال، والتعظيم الذي لا يستحقه إلا مكلف، كما يقول ذلك القدرية من المسلمين وغيرهم وهؤلاء قد يجعلون الواجبات الشرعية لطفا في الواجبات العقلية، وقد يقولون: إن الغاية المقصودة التي بها يحصل الثواب هو العمل، والعلم ذريعة إليه، حتى يقولوا مثل ذلك في معرفة الله تعالى، يقولون: إنما وجبت لأنها لطف في أداء الواجبات العقلية العملية.
، والقول الثالث: قول من يقول: بل الله أمر بذلك لا لحكمة مطلوبة ولا بسبب، بل لمحض المشيئة، وهذا قول الجبرية المقابلين للقدرية كالجهم، والأشعري، وخلق كثير من المتكلمين والفقهاء، والصوفية، وغيرهم.
القول الرابع: قول سلف الأمة وأئمتها، وهو أن نفس معرفة الله تعالى ومحبته مقصودة لذاتها، وأن الله سبحانه محبوب مستحق للعبادة لذاته لا إله إلا هو، ولا يجوز أن يكون غيره محبوبا معبودا لذاته، وأنه سبحانه يحب عباده الذين يحبونه، ويرضى عنهم، ويفرح بتوبة التائب، ويبغض الكافرين ويمقتهم، ويغضب عليهم ويذمهم، وأن في ذلك من الحكم البالغة، وكذلك من الأسباب ما يطول وصفه في هذا الخطاب كما قد بسط في موضعه؛ إذ المقصود هنا التنبيه على أن المسلمين في هذا أكمل من غيرهم في العلوم النافعة والأعمال الصالحة. وإذا عرف مذاهب الناس في مقاصد العبادات فهم أيضا مختلفون في صفاتها، فمن الناس من يظن أن كل ما كان أشق على النفس وأشد إماتة لشهوتها فهو أفضل، وهذا مذهب كثير من المشركين الهند، وغيرهم، وكثير من أهل الكتاب اليهود، والنصارى، وكثير من مبتدعة المسلمين.
والثاني: قول من يقول: إن أفضلها ما كان أدعى إلى تحصيل الواجبات العقلية
. والثالث: قول من يقول: فضل بعضها على بعض لا علة له، بل يرجع إلى محض المشيئة.
والرابع وهو الصواب: أن أفضلها ما كان لله أطوع، وللعبد أنفع. فما كان صاحبه أكثر انتفاعا به، وكان صاحبه أطوع لله به من غيره فهو أفضل، كما جاء في الحديث: «خير العمل أنفعه» وعلى كل قول فعبادات المسلمين أكمل من عبادات غيرهم، أما عن الأول فأولئك يقولون: كلما كانت الأعمال أشق على النفس فهي أفضل.

ثم هؤلاء قد يفضلون الجوع، والسهر، والصمت، والخلوة، ونحو ذلك، كما يفعل ذلك من يفعله من المشركين الهند، وغيرهم، ومن النصارى، ومبتدعة هذه الأمة، ولكن يقال لهم: الجهاد أعظم مشقة من هذا كله، فإنه بذل النفس، وتعريضها للموت، ففيه غاية الزهد المتضمن لترك الدنيا كلها، وفيه جهاد النفس في الباطن، وجهاد العدو في الظاهر، ومعلوم أن المسلمين أعظم جهادا من اليهود، والنصارى. فإن اليهود خالفوا موسى في الجهاد، وعصوه، والنصارى لا يجاهدون على دين، وأما على قول من يجعل العبادات الشرعية لطفا في الواجبات العقلية، فلا ريب أن عبادات المسلمين - كصلاتهم وصيامهم وحجهم - أدعى إلى العدل الذي هو جماع الواجبات العقلية، من عبادات غيرهم التي ابتدعوها، فإنها متضمنة للظلم المنافي للعدل.
وأما على قول نفاة التعليل، ورد ذلك إلى مشيئة الله: فيكون الأمر في ذلك راجعا إلى محض مشيئة الله، وتعبده للخلق، وحينئذ فمن تكون عباداته تابعة لأمر الله الذي جاء به الرسل يكون متعبدا بما أمر الله به بخلاف من تكون عباداته قد ابتدعها أكابرهم من غير أن يأتيهم بها رسول الله من عند الله. وأما على القول الرابع: فإن علم أن الله أمر به يتضمن طاعة الله.
وهذا إنما يكون في عبادات أمر الله بها، وهي عبادات المسلمين دون من ابتدع كثيرا من عباداتهم أكابرهم. وأما انتفاع العباد بها، فهذا يعرف بثمراتها ونتائجها وفوائدها، ومن ذلك آثارها في صلاح القلوب. فليتدبر الإنسان عقول المسلمين وأخلاقهم، وعدلهم، يظهر له الفرق بينهم وبين غيرهم. ثم صفات عباداتهم فيها من الكمال، والاعتدال، كالطهارة، والاصطفاف، والركوع، والسجود، واستقبال بيت إبراهيم، الذي هو إمام الخلائق، والإمساك فيها عن الكلام، وما فيها من الخشوع، وتلاوة القرآن، واستماعه الذي يظهر الفرق بينه وبين غيره من الكتب لكل متدبر منصف، إلى أمثال ذلك من الأمور التي يظهر بها فضل عبادات المسلمين على عبادات غيرهم.
وأما حكم المسلمين في الحدود والحقوق فلا يخفى على عاقل فضله. حتى إن النصارى في طائفة من بلادهم ينصبون لهم من يقضي بينهم بشرع المسلمين إذا لم يكن لهم شرع يحكم به الناس.
وليس في الإنجيل حكم عام، بل عامته، وإنما فيه الأمر بالزهد، ومكارم الأخلاق، وهو مما يأمر به المسلمون أيضا. وقد ذكرنا في كون المسلمين معتدلين متوسطين بين اليهود والنصارى في التوحيد، والنبوات، والحلال، والحرام وغير ذلك، مما يبين أنهم أفضل من الأمتين، مع أن دلائل هذا كثيرة جدا، وإنما المقصود التنبيه على ذلك، وحينئذ ففضل الأمة يستلزم فضل متبوعها.

(وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ... (143)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
لما حولت [القبلة] ارتد عن الإيمان لأجل ذلك طائفة وكانت محنة امتحن الله بها الناس. قال تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله}
قال: أي إذا حولت؛ والمعنى أن الكعبة هي القبلة التي كان في علمنا أن نجعلها قبلتكم؛ فإن الكعبة ومسجدها وحرمها أفضل بكثير من بيت المقدس وهي البيت العتيق وقبلة إبراهيم وغيره من الأنبياء ولم يأمر الله قط أحدا أن يصلي إلى بيت المقدس لا موسى ولا عيسى ولا غيرهما؛ فلم نكن لنجعلها لك قبلة دائمة ولكن جعلناها أولا قبلة لنمتحن بتحويلك عنها الناس فيتبين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه فكان في شرعها هذه الحكمة.

(كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151)
[فصل: قياس النصارى كتبهم على القرآن قياس باطل]

فحينئذ فقولهم: إنا نعجب من هؤلاء القوم على علمهم وذكائهم ومعرفتهم كيف يحتجون علينا بمثل هذا القول؟
وذلك أنا أيضا إذا قلنا واحتججنا عليهم بمثل هذا القول إن الكتاب الذي بأيديهم يومنا هذا قد غيروه وبدلوه وكتبوا فيه ما أرادوا واشتهوا هل كانوا يجوزون كلامنا؟
قال الحاكي عنهم: فقلت لهم هذا ما لا يجوز ولا يمكن لأحد أن يقوله ولا يمكن تغييره ولا تبديل حرف واحد منه.
فقالوا سبحان الله العظيم! إذا كان الكتاب الذي لهم، الذي هو باللسان الواحد لا يمكن تبديله، ولا تغيير حرف واحد منه فكيف يمكن تغيير كتبنا التي هي مكتوبة باثنين وسبعين لسانا وفي كل لسان منها كذا وكذا ألف نسخة وجاز عليها إلى مجيء محمد أكثر من ستمائة سنة، وصارت في أيدي الناس يقرءونها باختلاف ألسنتهم على تشاسع بلدانهم.
فمن الذي تكلم باثنين وسبعين لسانا؟ ومن هو الذي حكم على الدنيا جميعها ملوكها وقساوستها وغالبها حتى حكم على جميعها في أقطار الأرض وجمعها في أربع زوايا العالم حتى يغيرها؟
وإن كان غير بعضها، وترك بعضها فهذا لا يمكن أن يكون لأن كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن، فهذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله أبدا والجواب أن يقال:

أولا: هذا الكلام منهم يدل على غاية جهلهم بما يقوله المسلمون في كتبهم، وتبين أنهم - لفرط جهلهم - يظنون أن المسلمين يقولون مقالة لا يخفى فسادها على من له أدنى عقل ومعرفة والمسلمون لا يشك أحد من الأمم أنهم أعظم الأمم عقولا وأفهاما وأتمهم معرفة وبيانا وأحسن قصدا وديانة وتحريا للصدق والعدل، وأنهم لم يحصل في النوع الإنساني أمة أكمل منهم ولا ناموس أكمل من الناموس الذي جاء به نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وحذاق الفلاسفة معترفون لهم بذلك وأنه لم يقرع العالم ناموس أكمل من هذا الناموس.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 291.29 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 285.45 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (2.01%)]