من هدايات السنة النبوية (20) حديث استفتاء القلب - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         أبو الفتح ابن سيد الناس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          الخوارج تاريخ وعقيدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 27 - عددالزوار : 1447 )           »          ما أحلى سويعات قربك يا أمي!! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          دور المسجد في الدعوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          هل تشكو من عصبية زوجك أو ولدك أو جارك؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          أصحاب الأخدود... عبر ودروس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 52 )           »          العُمَران (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          إني أحبك أيها الفاروق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          المنهج التربوي وثقافة المجتمع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          بين الرأي والحديث.. لماذا وكيف تمذهب المسلمون ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 06-09-2021, 02:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,690
الدولة : Egypt
افتراضي من هدايات السنة النبوية (20) حديث استفتاء القلب

من هدايات السنة النبوية (20) حديث استفتاء القلب
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل


الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَرِيم الْمَجِيدِ، الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ؛ أَنَارَ الطَّرِيقَ لِلسَّالِكِينَ، وَدَلَّهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، فَسَعِدُوا فِي الدَّارَيْنِ. وَعَمِيَ عَنْ هُدَاهُ أَهْلُ الْإِعْرَاضِ وَالْجُحُودِ وَالتَّكْذِيبِ، فَكَتَبَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءَ الْأَبَدِيَّ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ لَا خَيْرَ إِلَّا دَلَّنَا عَلَيْهِ، وَلَا شَرَّ إِلَّا حَذَّرَنَا مِنْهُ، تَرَكَنَا عَلَى بَيْضَاءَ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِ وَلَوْ كَثُرَ الْمُتَفَلِّتُونَ، وَالْزَمُوا صِرَاطَهُ وَلَوْ زَاغَ عَنْهُ الزَّائِغُونَ؛ فَإِنَّ أَقْوَامًا يُذَادُونَ عَنْ حَوْضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ تَبْدِيلِهِمْ وَتَغْيِيرِهِمْ، وَالْفِتَنُ كَثِيرَةٌ، وَالثَّبَاتُ عَزِيزٌ ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: 27].

أَيُّهَا النَّاسُ: الِاسْتِهْدَاءُ بِنُورِ الْوَحْيِ يَمْنَحُ صَاحِبَهُ الْحَقَائِقَ، وَيُبْعِدُهُ عَنِ الْأَوْهَامِ وَالْأَبَاطِيلِ؛ لِأَنَّ الْوَحْيَ حَقِيقَةٌ مُطْلَقَةٌ؛ ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فُصِّلَتْ: 42]، وَمَا صَحَّ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فَهُوَ وَحْيٌ يَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ؛ ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النَّجْمِ: 3-4].

وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَجْمُلُ بِالْمُؤْمِنِ فَهْمُ مَعَانِيهَا، وَفِقْهُ أَحْكَامِهَا: حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِمَا يَحِلُّ لِي وَيُحَرَّمُ عَلَيَّ، قَالَ: فَصَعَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَوَّبَ فِيَّ النَّظَرَ، فَقَالَ: الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَسُؤَالُ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا كَانَ حِرْصًا عَلَى إِتْيَانِ الْحَلَالِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْحَرَامِ، وَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدَةً فِي مَعْرِفَةِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، وَذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الْقَلْبِ الْعَامِرِ بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، فَهُوَ مِيزَانٌ لِصَاحِبِهِ يَدْفَعُهُ لِلْبِرِّ وَالْحَلَالِ وَلَوْ نَفَّرَهُ النَّاسُ مِنْهُ، وَيَحْجِزُهُ عَنِ الْإِثْمِ وَالْحَرَامِ وَلَوْ زَيَّنَهُ النَّاسُ لَهُ.

وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَوَاهِدُ عِدَّةٌ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
مِنْهَا حَدِيثُ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَمِنْهَا حَدِيثُ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي وَيَقُولُ: يَا وَابِصَةُ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: إِذَا سَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ، وَسَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا الْإِثْمُ؟ قَالَ: إِذَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَمِنْهَا حَدِيثُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

فَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْوَرَعَ مَحَلُّهُمَا الْقَلْبُ، كَمَا أَنَّ النِّفَاقَ وَالشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ أَيْضًا. فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ عَامِرًا بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى تَنَزَّهَ عَنِ النِّفَاقِ، وَتَحَصَّنَ مِنَ الشُّبُهَاتِ، وَاسْتَعْصَى عَلَى الشَّهَوَاتِ، فَكَانَ قَلْبًا سَلِيمًا مِنْ كُلِّ ذَلِكَ. وَقَدْ يَمْرَضُ الْقَلْبُ بِشَيْءٍ مِنَ النِّفَاقِ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَهْوَاءِ، فَيَسْتَسْلِمُ لِلشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، فَإِمَّا اسْتَسْلَمَ صَاحِبُهُ لِهَوَاهُ، وَإِمَّا ثَابَ إِلَى رُشْدِهِ وَتَابَ.


وَالْأَحَادِيثُ الْآنِفُ ذِكْرُهَا دَلَّتْ عَلَى اسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ لِلْعَالِمِ حِينَ تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ، سَوَاءٌ فِي ثُبُوتِهَا أَوْ دَلَالَتِهَا، فَيَسْتَفْتِي قَلْبَهُ فِي الِاخْتِيَارِ بَيْنَهَا. وَمَحَلُّهُ لِعَامَّةِ النَّاسِ إِذَا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَا يَدْرِي الْعَامِّيُّ أَيَّ فَتْوَى يَأْخُذُ بِهَا، فَيَسْتَفْتِي قَلْبَهُ فِي الِاخْتِيَارِ بَيْنَهُمَا.

وَاسْتِفْتَاءُ الْقَلْبِ لَهُ ضَوَابِطُ وَرَدَتْ فِي النُّصُوصِ، وَهِيَ:
أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ الْمُسْتَفْتَى عَامِرًا بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، سَلِيمًا مِنَ النِّفَاقِ وَالْأَهْوَاءِ، وَحُجَّةُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الْأَنْفَالِ: 29]؛ فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ «مَنِ اتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ وُفِّقَ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ». وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِاسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ؛ وُجِّهَ الْخِطَابُ فِيهَا لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُمْ أَبَرُّ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَكْثَرُهُمْ خَشْيَةً وَتَقْوَى، فَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ فِي صَلَاحِ الْقَلْبِ وَإِصْلَاحِهِ؛ كَانَ قَلْبُهُ صَالِحًا لِاسْتِفْتَائِهِ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «مَنْ أَكْثَرَ مِنْ مُوَاقَعَةِ الشُّبُهَاتِ أَظْلَمَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ، لِفِقْدَانِ نُورِ الْعِلْمِ وَنُورِ الْوَرَعِ، فَيَقَعُ فِي الْحَرَامِ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ. وَإِلَى هَذَا النُّورِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ [الزُّمَرِ: 22]، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِظْلَامِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزُّمَرِ: 22]».

وَمِنَ الضَّوَابِطِ لِاسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ: أَلَّا يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا، فَيَقَعُ الِاشْتِبَاهُ بِسَبَبِ عَدَمِ الدَّلِيلِ، وَإِلَّا مَعَ الدَّلِيلِ فَلَا اسْتِفْتَاءَ لِلْقَلْبِ، بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ وَلَوْ خَالَفَ هَوَى الْقَلْبِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُّوسِيُّ: «وَأَمَّا حَدِيثُ وَابِصَةَ: فَقَدْ وَرَدَ فِي بَابٍ يَحِلُّ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ، فَيَجِبُ تَرْكُ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ؛ احْتِيَاطِيًّا لِدِينِهِ، عَلَى مَا شَهِدَ لَهُ قَلْبُهُ بِهِ، فَأَمَّا مَا ثَبَتَ حِلُّهُ بِدَلِيلِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيمُهُ بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ، وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ، فَلَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهَا بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ».

وَمِنَ الضَّوَابِطِ لِاسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ: أَنْ يَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ وَاضِحَةً فَلَا اسْتِفْتَاءَ لِلْقَلْبِ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: «فَدَلَّ حَدِيثُ وَابِصَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْقُلُوبِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ».

وَمِنَ الضَّوَابِطِ لِاسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ: أَنْ يَطْمَئِنَّ الْقَلْبُ وَيَسْكُنَ لِلْحُكْمِ، وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي أَحَادِيثِ اسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ، وَمِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: «فَمَا إِلَيْهِ سَكَنَ الْقَلْبُ، وَانْشَرَحَ إِلَيْهِ الصَّدْرُ، فَهُوَ الْبِرُّ وَالْحَلَالُ، وَمَا كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ، فَهُوَ الْإِثْمُ وَالْحَرَامُ».

وَإِذَا فَقِهَ الْمُؤْمِنُ أَحْكَامَ اسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ وَمَحَلَّهُ وَضَوَابِطَهُ هُدِيَ إِلَى الصَّوَابِ وَالْحَقِّ، وَكَانَ بَعِيدًا عَنِ الْخَطَأِ وَالْبَاطِلِ.
اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ، وَلَا تَجْعَلْهُ مُلْتَبِسًا عَلَيْنَا فَنَضِلَّ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوهُ؛ ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 131-132].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَسْتَنِدُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالشُّبُهَاتِ وَاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى أَحَادِيثِ اسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ؛ لِإِقْنَاعِ النَّاسِ بِأَهْوَائِهِمْ وَشُبُهَاتِهِمْ وَمُحَرَّمَاتِهِمْ، وَيَغْفُلُونَ عَنِ الضَّوَابِطِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا، إِمَّا عَنْ جَهْلٍ وَإِمَّا عَنْ هَوًى. وَيَتَّكِئُونَ عَلَى الْمُتَشَابِهَاتِ لِإِبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَيَلْتَمِسُونَ زَلَّةَ الْعَالِمِ لِيَجْعَلُوهَا سَيْفًا مُصْلَتًا عَلَى النُّصُوصِ فَيُعَطِّلُونَهَا بِزَلَّتِهِ. وَقَدْ حَذَّرَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ هَذَا الْمَسْلَكِ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ، فَرَوَى يَزِيدُ بْنُ عُمَيْرَةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ؛ حَتَّى يَأْخُذَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ، فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا لِلنَّاسِ لَا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ؟ مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ، وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ، قَالَ يَزِيدُ: قُلْتُ لِمُعَاذٍ: مَا يُدْرِينِي -رَحِمَكَ اللَّهُ- أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: بَلَى، اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ الْمُشْتَهِرَاتِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: مَا هَذِهِ؟ وَلَا يُثْنِيَنَّكَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ، وَتَلَقَّ الْحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ؛ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. «فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ لَا يَلْتَبِسُ أَمْرُهُمَا عَلَى الْمُؤْمِنِ الْبَصِيرِ، بَلْ يَعْرِفُ الْحَقَّ بِالنُّورِ عَلَيْهِ، فَيَقْبَلُهُ قَلْبُهُ، وَيَنْفِرُ عَنِ الْبَاطِلِ، فَيُنْكِرُهُ وَلَا يَعْرِفُهُ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ» يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِمَا تَسْتَنْكِرُهُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا تَعْرِفُهُ، وَفِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا اسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَتَطَاوُلِ الزَّمَانِ، فَهُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ مَا أُحْدِثَ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَنْكَرُ فَلَا خَيْرَ فِيهِ».

فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ -عِبَادَ اللَّهِ- مِنَ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَادِّعَاءِ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الْقَلْبِ؛ فَإِنَّ النِّفَاقَ وَالْهَوَى أَيْضًا فِي الْقَلْبِ. وَلْيَسْعَ كُلٌّ مِنَّا لِصَلَاحِ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ حَتَّى يَكْتَسِبَ نُورًا يَعْرِفُ بِهِ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَالْخَطَأَ وَالصَّوَابَ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 59.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 58.03 كيلو بايت... تم توفير 1.71 كيلو بايت...بمعدل (2.87%)]