أصحاب الأخدود... عبر ودروس - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         السخرية في سورة ( المنافقون) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          الأخلاق في حياتنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 5 - عددالزوار : 29 )           »          وقفة تربوية مع التقوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          فتح مكة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الخوارج تاريخ وعقيدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 29 - عددالزوار : 1785 )           »          فتنة المسلمين في الغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          معركة مرج الصفر شرقي شقحب بحوران (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          أبو مسلم الخراساني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 17 )           »          ابن العديم .. مؤرخ يعشق حلب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-09-2025, 10:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي أصحاب الأخدود... عبر ودروس

أصحاب الأخدود... عبر ودروس (1)

طارق مصطفى حميدة


مركز نون للدراسات القرآنية/ فلسطين

أورد الإمام مسلم حديث أصحاب الأخدود في كتاب الزهد، وللحديث روايات أخرى عند غير مسلم ، لكن تلك الروايات دون رواية مسلم في الصحة وكذلك في اللغة وتماسك النص.
وقد تناول الحديث/ القصة، غير واحد من القدماء والمعاصرين، وكان من أحسنها ما كتبه الأستاذ رفاعي سرور في كتابه( أصحاب الأخدود)، وكذلك ما كتبه أستاذنا الدكتور محمد أبو فارس في كتابه: ( الابتلاء والمحن واثره في الدعوات )، وكان الأديب العراقي داود سليمان العبيدي قد بنى رواية جميلة على حديث أصحاب الأخدود سماها: ( فتاة الجزيرة )، جعلها في بضع مئات من الصفحات.
وقد شاء الله تعالى أن يهتم كاتب هذه السطور بقصة أصحاب الأخدود منتصف الثمانينات من القرن المنصرم، وكتب وريقات عن الموضوع بعثها إلى إحدى المجلات ولم تنشر، كما وألقى عدة محاضرات خلال الفترة السابقة، حتى قدر الله أن يعود إلى الكتابة والنشر من جديد.
ومع أن هذه السطور معنية بالأساس بشرح الحديث الشريف، لكنها تعرج أحياناً على سورة البروج، ولعل الرغبة في سرعة الإنجاز بعد طول التأجيل والتسويف والمماطلة، قد حالت دون الجمع بين تفسير السورة الكريمة وشرح الحديث والربط بينهما، ولعل الله تعالى يعين من أجل التتميم والتكميل، والكاتب يقر بأنه أفاد كثيراً من قدامى العلماء ومعاصريهم، لكنه ضمّن هذه السطور الكثير مما فتح الله عليه، وهو بفضل الله كثير، وحيث إن وحي الله تعالى لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، فإن الباب سيظل مفتوحاً لكل من ينظر في الكتاب والسنة، فيفتح الله عليه.







أورد الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الزهد: باب قصة اصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام:
حدثنا هداب بن خالد. حدثنا حماد بن سلمة. حدثنا ثابت عن عبد الرحمن بن ابي ليلى، عن صهيب؛ ' ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كان ملك فيمن كان قبلكم. وكان له ساحر. فلما كبر قال للملك: اني قد كبرت. فابعث الي غلاما اعلمه السحر. فبعث اليه غلاما يعلمه. فكان في طريقه، اذا سلك، راهب. فقعد اليه وسمع كلامه. فاعجبه. فكان اذا اتى الساحر مر بالراهب وقعد اليه. فاذا اتى الساحر ضربه. فشكا ذلك الى الراهب. فقال: اذا خشيت الساحر فقل: حبسني اهلي. واذا خشيت اهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك اذ اتى على دابة عظيمة قد حبست الناس. فقال: اليوم اعلم الساحر افضل ام الراهب افضل؟ فاخذ حجرا فقال: اللهم! ان كان امر الراهب احب اليك من امر الساحر فاقتل هذه الدابة. حتى يمضي الناس. فرماها فقتلها. ومضى الناس. فاتى الراهب فاخبره. فقال له الراهب: اي بني! انت، اليوم، افضل مني. قد بلغ من امرك ما ارى. وانك ستبتلى. فان ابتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرئ الاكمه والابرص ويداوي الناس من سائر الادواء. فسمع جليس للملك كان قد عمي. فاتاه بهدايا كثيرة. فقال: ما ههنا لك اجمع، ان انت شفيتني. فقال: اني لا اشفي احدا. انما يشفي الله. فان انت امنت بالله دعوت الله فشفاك. فامن بالله. فشفاه الله. فاتى الملك فجلس اليه كما كان يجلس. فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله. فاخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام. فجئ بالغلام. فقال له الملك: اي بني! قد بلغ من سحرك ما تبرئ الاكمه والابرص وتفعل وتفعل. فقال: اني لا اشفي احدا. انما يشفي الله. فاخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب. فجئ بالراهب. فقيل له: ارجع عن دينك. فابى. فدعا بالمئشار. فوضع المئشار على مفرق راسه. فشقه حتى وقع شقاه. ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك. فابى. فوضع المئشار في مفرق راسه. فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جئ بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك. فابى. فدفعه الى نفر من اصحابه فقال: اذهبوا به الى جبل كذا وكذا. فاصعدوا به الجبل. فاذا بلغتم ذروته، فان رجع عن دينه، والا فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل. فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل فسقطوا. وجاء يمشي الى الملك. فقال له الملك: ما فعل اصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فدفعه الى نفر من اصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر. فان رجع عن دينه والا فاقذفوه. فذهبوا به. فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت. فانكفات بهم السفينة فغرقوا. وجاء يمشي الى الملك. فقال له الملك: ما فعل اصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فقال للملك: انك لست بقاتلي حتى تفعل ما امرك به. قال: وماهو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد. وتصلبني على جذع. ثم خذ سهما من كنانتي. ثم ضع السهم في كبد القوس. ثم قل: باسم الله، رب الغلام. ثم ارمني. فانك اذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد. وصلبه على جذع. ثم اخذ سهما من كنانته. ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله، رب الغلام. ثم رماه فوقع السهم في صدغه. فوضع يده في صدغه في موضع السهم. فمات. فقال الناس: امنا برب الغلام. امنا برب الغلام. امنا برب الغلام. فاتى الملك فقيل له: ارايت ما كنت تحذر؟ قد، والله! نزل بك حذرك. قد امن الناس فامر بالاخدود في افواه السكك فخدت. واضرم النيران. وقال: من لم يرجع عن دينه فاحموه فيها. او قيل له: اقتحم. ففعلوا حتى جاءت امراة ومعها صبي لها فتقاعست ان تقع فيها. فقال لها الغلام: يا امه! اصبري. فانك على الحق".

--------------
- أخرجه مسلم في (الزهد والرقائق), والترمذي في التفسير، والنسائي في التفسير أيضاً ، وهو عند أحمد.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-09-2025, 10:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أصحاب الأخدود... عبر ودروس

أصحاب الأخدود... عبر ودروس (2)

طارق مصطفى حميدة


ملك ... وساحر في مواجهة الدعوة



مركز نون للدراسات القرآنية/ فلسطين
(كان ملك فيمن كان قبلكم) .. يفتح الستار فإذا القارئ أو السامع أمام ملك، ذلك أن الذين كانوا يواجهون الأنبياء ودعاة التوحيد هم أصحاب الزعامة والرياسة، لأنهم استعبدوا الناس وظلموهم واستعلوا عليهم وأكلوا حقوقهم، فكان من الطبيعي أن يكون هؤلاء أول من يحمل لواء الحرب ضد الدين.
وفي القرآن تكاد لا تُذكر قصة نبي إلا وفيها أهل الإيمان يواجههم الملأ – أي الزعماء الذين يملأون عيون الناس لمكانتهم وغناهم- كما نرى في قصة نوح وهود وصالح وشعيب عليهم الصلاة والسلام، وفي قصة موسى عليه السلام، نرى فرعون وملأه يتصدرون مشهد الحرب ضد دعوة التوحيد.
وإذا لاحظنا عبارة ( فيمن كان قبلكم)، أي أن ما يقصه الرسول عليه الصلاة والسلام ليس سوى عينة تمثيلية من بين عشرات وربما المئات أو الألوف، ما يعني أن ما تتعرضون له من البلاء والأذى من كبراء قريش ليس جديداً وليس خاصاً بكم، بل هو سنة ربانية جرت على كل المؤمنين قبلكم، وها هو الدور يأتي عليكم؛ فالذين كانوا قبلكم واجههم مثل الذي واجهتم، أو لنقل، إنكم تواجهون مثل الذي واجههم، لا بل إن الذي تواجهونه ليس بشيء إذا ما قورن بالذي واجهوه.
لقد " امتلأ الوحيُ بالقَصص التاريخي؛ لتكونَ كلُّ قصَّة جسرًا لهم عبر الزمان يأتيهم منه الأُنس المطمئِنُ لقلوبهم، والخبرة الضابطة لحرَكتِهم، والحق المبطل لتحريف عدوِّهم، والذِّكرَى المثبتة لهم، والموعظة التي تحدوهم، حتى المقام المحمدي نفْسه كان بحاجةٍ إلى هذا التثبيت؛ ? وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ? [هود: 120]" .
(وكان له ساحر) .. له .. أي مِلك له، فالساحر ملك للملك ويعمل لأجله، والسحر في خدمة المُلك لتثبيت نظام الملك، "ولم يكن السحر مجرد ظاهرة موجودة في المجتمع بل إنه اتجاه يحكم هذا المجتمع وعندما يحكم السحر نفهم طبيعة الواقع الخاضع فلا بد أنه واقع فاسد قائم بالظلم ومحكوم بالهوى"،ومهمة الساحر، كما يتابع الشيخ رفاعي سرور: "ألا يكون في المجتمع قوة عاقلة أو عقل قوي" .
و "السحر ـ كما يقول الدكتور عمر الأشقر – عالم عجيب، تختلط فيه الحقيقة بالخرافة، والعلم بالشعوذة، كما تختلط فيه الدوافع والبواعث، والغايات بالأهداف.
وهو عالم ظاهره جميل خلاب، يفتن قلوب البسطاء، ويخدع السذج والرعاع، وباطنه قذر عفن، يتجافى عنه أولوا الألباب، وينأى عنه أصحاب الفطر السليمة، والقلوب المستنيرة ". (عالم السحر والشعوذة، 1989).
ولعل أول ما يلاحظه قارئ القرآن الكريم، هو ذلك الارتباط الوثيق بين السحر والفرعون ، واجتماعهما معاً في حرب الدين، بل إن السحرة أنفسهم يعلنون بأن فرعون قد ( أكرههم ) على السحر منذ زمن بعيد سابق ليوم المبارزة مع موسى، وهو ما عبروا عنه بالقول ( إنا آمنا بربنا ليغفر خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر )[ سورة طه: 73]، إذ يبدو أن الفرعون كان ينتقي الفتيان الأذكياء ويأخذهم من أهاليهم ويدفعهم إلى من يعلمهم السحر ... ثم يفرقهم في المدائن ليقوموا بما يلزم لتثبيت حكم الفرعون... وقد لاحظنا كيف أشار الملأ على فرعون أن يبعث في " المدائن " حاشرين ليأتوه بكل سحار عليم... ما يؤكد التلازم الوثيق بين السحر والملك. والملاحظة الثانية أن الشياطين هم الذين يتولون تعليم الناس السحر، ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر)[ سورة البقرة: 102]، وبالتالي فالسحر وسوسة شيطانية، وكيد شرير، يستهدف أول ما يستهدف حرف الناس عن الصراط السوي، ودعم حكم الفرعون في محاربة التوحيد، والشيطان يوسوس والفرعون يتولى مهمة إكراه الناس على الكفر.
وإذا استعرضنا أنشطة وأعمال السحرة في تثبيت حكم الفرعون وحرب الدين نلاحظ الأمور الآتية:
أولاً: الإلهاء والتخدير
ذلك أن حكم الفرعون يتسبب في ظلم الناس وهضم حقوقهم وانتهاك كرامتهم... فيقوم السحرة بأعمالهم وحركاتهم العجيبة والغريبة، والتي تعتمد خفة الحركة وخداع البصر، فيشغلون الناس عن التفكير في واقعهم الأليم وتجعلهم يعيشون في غيبوبة تنسيهم آلامهم وتقعدهم عن العمل للتغيير.

ثانياً: الخداع وقلب الحقائق
إن السحرة في الواقع لا يغيرون حقائق الأشياء وإنما هم يخيلون للناس أنها تغيرت، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم في أكثر من موضع في مثل قوله تعالى: ( فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) [ سورة طه: 66]، وقوله أيضا: ( فلما ألقوا سحروا أعين الناس )[ سورة الأعراف: 116].
إن أقرب تشبيه لدور السحرة في واقعنا المعاصر هو ما تقوم به الكثير من وسائل الإعلام في قلب الحقائق وتزيفها وإظهار الحق باطلاً والباطل حقاً، والهزائم انتصارات، والجهاد إرهاباً، والاستسلام والتفريط سلاماً، والظلم عدلاً، والاستعمار تنويراً، والدين تطرفاً، والمجون فناً، والإلحاد فكراً.

ثالثاً: تخويف الجماهير
حبل الكذب قصير، ومهما نشط السحرة القدماء أو المعاصرون في تزييف الحقائق فإن الواقع أنصع حجة وأقوى بياناً من سحر البيان، وإن عمق الجراحات البدنية والنفسية والاقتصادية والسياسية لأقوى من كل عمليات التخدير والإشغال والإلهاء.
ولذلك فان من لم يقنعه الزيف ولم تسكته جرعات المورفين، يحتاج إلى الإرهاب والتخويف كيلا تسول له نفسه القيام بأي عمل ضد الفراعنة... وقد لاحظنا أن عمل السحرة اشتمل على " إرهاب وتخويف الحاضرين "... يقول تعالى: ( فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم)[ سورة الأعراف: 116].
أي استدعوا مشاعر الرهبة والخوف عندهم، حتى إن موسى عليه السلام تأثر بهذا المشهد: ( فأوجس في نفسه خيفة موسى )[ سورة طه: 67].

رابعاً: تفتيت الأسرة
جاء في سورة البقرة أن السحرة يتعلمون ( ما يفرقون به بين المرء وزوجه )[ سورة البقرة: 102]، والحقيقة أن ذكر هذا الأمر دون سواه، يبرز خطورته الشديدة حتى لكأنه ينبه إلى أن باقي الأمور التي يتعلمها السحرة بالمقارنة مع التفريق بين المرء وزوجه لا شيء.
وقد جاء في الحديث أن إبليس يبعث سراياه من الشياطين ليُضلوا بني آدم ثم يعودون إليه ليفتخروا أمامه كل بما صنع، فلا يرى لأحدهم إنجازاً على الرغم من كبر إفسادهم وإجرامهم... حتى يأتيه من يقول إنه فرق بين زوجين، فيقول له: نعم أنت، ويدنيه. عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ : فَيُدْنِيهِ مِنْهُ ، وَيَقُولُ : نِعْمَ أَنْتَ ) .
وإذا ما جرى التفريق بين الزوجين فقد تفتت الأسرة، وما دامت الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع فإن تفككها يعني بالضرورة تفكك هذا المجتمع وتفتته... وهذا ما يسعى إليه الفرعون الذي يريد المجتمع متفتتاً ليسهل عليه القيادة، وشعار الفراعنة، أجنبيهم ووطنيهم على السواء: ( فرق تسد )، وقد حكى القرآن عن فرعون أنه: ( علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً )[ سورة القصص: 4]. وما تقوم به الكثير من المؤسسات والدوائر والمنظمات والمؤتمرات، في أيامنا هذه لتفتيت الأسرة وتهديم بنيانها وتقويض أركانها، لا يخفى على ذي عينين.

خامساً: الإخراج من الأرض
لقد كرر السحرة وآل فرعون عدة مرات، اتهامهم لموسى وأخيه عليهما السلام بأنهما يريدان: "إخراجهم من الأرض بسحرهما" ، إلى الحد الذي يستدعي الدهشة ويسترعي الانتباه: ( إنْ هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما )[ سورة طه: 63]، ( أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ) [ سورة طه: 57]،. فمن جهة يتبين القلق الشديد الذي يساور الفراعنة من أن الدعوة جاءت لتزلزل أركانهم وتقلب سلطانهم وتجعل الأرض تميد من تحتهم، ومن جهة أخرى فإنها تعكس ما يقوم به الفراعنة والسحرة من أعمال ومكائد ثم هم يلصقونها بموسى وهارون _عليهما السلام _ إنهم يتهمونهما بالجريمة التي هم أنفسهم – الفراعنة والسحرة – متلبسون بها. كما يقول المثل العربي: رمتني بدائها وانسلت.
إن الفراعنة سواء كانوا محليين أو أجانب، يقومون بسياسات تستهدف تفريغ الأرض من ساكنيها... أو تفريغها من أصحاب الفكر والعلم فيما يسمى بتهجير الأدمغة، كيلا يبقى في البلاد عقول تفكر بتغير الواقع السيئ ولا شباب لديهم الهمة والعزيمة للتحرك في مواجهته.

سادساً: كاهن يكهن له: وقد ورد عند الترمذي وابن حنبل ( كاهن يكهن له) بدلاً من ساحر، ومع أن رواية الصحيح مقدمة على ما سواها لكن لا يمنع أن يجمع الساحر وظيفة الكهانة أيضاً، وهو واقع في زماننا، كما أن كثيراً من الزعماء يكون لهم عرافون أو عرافات، فمن جهة يجد بعض هؤلاء الزعماء لعدم إيمانهم بالله حق الإيمان، أنفسهم في مسيس الحاجة إلى عرافين يستشيرونهم في أمور عديدة على المستوى الشخصي أو حتى العام، ومن جهة أخرى يمكن لهم أن يوجهوا العامة أو بعضهم لمواقف وسياسات وسلوكيات في صالح النظام، وقد تقوم بذلك مراكز أبحاث أو مستشارون متخصصون ليسهل إقناع الجماهير.
سابعاً: العلاج والخدمات الأخرى
فقد كان السحرة يتعلمون الطب ويمارسون علاج الجماهير، وما داموا معروفين بأنهم سحرة الملك فذلك يسهم في زيادة مشاعر الامتنان للملك، وأن كل الخير يأتي من جانبه وبالتالي الخضوع له، ومن هنا يحرص الفراعنة على إنشاء المستشفيات والمدارس وغيرها من المؤسسات الخدمية، لتدور آلات الدعاية شاكرة لهم ومثنية عليهم ومسبحة بحمدهم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 01-09-2025, 10:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أصحاب الأخدود... عبر ودروس

أصحاب الأخدود... عبر ودروس (3)

طارق مصطفى حميدة


راهب في الطريق


مركز نون للدراسات القرآنية/ فلسطين

(فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر فبعث إليه غلاماً يعلمه)
وهنا عدد من الأسئلة:
- لماذا يحرص الساحر على توريث من يحمل السحر بعده؟
- ولماذا يريده غلاماً؟
- ولماذا انتظر حتى كبر؟
- وما الداعي أن يقول للملك: إني قد كبرت؟
- وكيف سيتم اختيار هذا الغلام؟


لما كان الشيطان هو الذي يوجه الساحر؛ فإنه يريد أن تستمر دولة الكفر والصد عن سبيل الله، ثم إن الإنسان إذا خذله الله وأحاطت به خطاياه لم يكتف بأن يكون فاسداً حتى يكون مفسداً، وحتى تكون له سيئة جارية.
أما لماذا انتظر حتى كبر، فإنه لو طلب الموضوع مبكراً فإنه يخشى أن ينافسه أو يزيحه عن مكانه ومكانته.
ثم ما الداعي أن يقول للملك إني قد كبرت، سيما والأمر ليس بالخفي على الملك ولا على غيره؟ إنه فيما يبدو استباق لما يتوقع أن يطلبه منه الملك فيكون له عنده سابقة، تحول دون عقوبته على التقصير، وتنفعه حين يعجز عن العمل وخدمة الملك.
وقد أراده غلاماً لأنه أطوع وأسهل في التشكل، وأقل مشاغل فهو متفرغ للتعلم، وهذا يفيد أيضاً في أن يظل الغلام أطول فترة في خدمة النظام الحاكم.


وفي رواية الترمذي: ( انْظُروا لي غلامًا فَهِمًا - أو قال: فَطِنًا - لَقِنًا، فأُعَلِّمه علمي)، وهذا مطلوب ليكون تلميذاً نجيباً، وليكون ساحراً متميزاً يتقن خداع الجماهير.
(فبعث إليه غلاماً): لم يخبرنا الحديث كيف تم اختيار الغلام ومن هم أهله، لكن واقع هذه الأنظمة أن كل ما في الدولة وكل من فيها هو في الحقيقة للملك، وتحت تصرفه، لا يملك غلام أن يمتنع ولا يستطيع أهله أن يرفضوا أو حتى يجادلوا، حتى لو أخذوهم وأولادهم إلى الموت المحقق، فكيف والغلام قد أُخذ ليكون ساحر الملك حيث العز والسعادة؟.


الغلام بين الساحروالراهب

( وكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه):أي كان في طريق الغلام أذا أوغل فيها راهب، وهنا تثور مجموعة من الأسئلة:
- أين يسكن الساحر؟
- لماذا ترهبن الراهب، وما الذي جعله يدعو الغلام؟
- ما دلالة فقعد إليه؟.
- ما دلالة فأعجبه؟.
- وما دلالة (كلامه)؟


من الواضح أن الساحر يسكن في مكان بعيد عن المجتمع، ما يتناسب من جهة مع غموض أعماله وسريتها، فالمهام غير النظيفة التي يقوم بها السحرة تطبخ في الظلام بعيداً عن العيون والأنظار، وليس أخطر عليها وعلى أصحابها من النور، ثم إن الساحر بقربه من الملك لا يضيره أن يكون بعيداً عن التجمعات السكانية، ولا يلزمه أن يقيم حتى في تجمعات النخبة والكبراء؛ فكل ما يحتاجه هو وأهل بيته يصلهم مضاعفاً إن لزم الأمر.
ماذا يعني الراهب؟ ولماذا ترهبن؟
الراهب عابد ينعزل عن الحياة ليتعبد بعيداً عن الناس، ومن الجدير بالذكر أن الراهب هنا موحد وليس على التثليث، ويذكر الشراح أنه كان على دين عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو احتمال، ولا يبعد أن يكون من بني إسرائيل، بعد موسى عليه الصلاة والسلام، أو من المؤمنين قبلهم، إلا إذا فهمنا أن آية ( ورهبانية ابتدعوها) على معنى أنه لم يترهبن أحد قبل النصارى، وعلى العموم فلا يترتب على تحديدهم كبير فائدة، وقد خلت القصة من أي محددات زمانية أو مكانية أو تعريف بالأشخاص لتتمحض للعبرة.
أما لماذا ينعزل؟ فمن الواضح أن ذلك لم يكن اختياراً بل كان اضطراراً بسبب ملاحقة النظام لدعوة التوحيد وأتباعها واضطهادهم، حيث إن الأنظمة الفرعونية المتجبرة يمكن أن تسكت عن محاربة المتدينين المنعزلين الذين لا يمارسون الدعوة، ولا يمارسون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يسعون لتغيير الواقع، بل ربما شجعت مثل هذا التدين، وقد رأينا كيف أن قريشاً لم تحارب النبي عليه السلام لما كان يتعبد قبل الوحي في غار حراء.


والسؤال المطروح هل كان إرهاب الدولة وعدوانها على الدين وأهله قد أوصل الراهب إلى درجة من الخوف واليأس، ليتخذ قراراً بالانعزال الدائم والنجاة بنفسه، لكن استفزه ما رآه من محاولة لإفساد طهارة الغلام وبراءته، والحرص على استمرار الكفر والزيف والصد عن سبيل الله، فبادر إلى دعوة الغلام؟ أم تراه كان يتخفى برهبانيته كيلا يصطدم بالنظام ويتحين الفرصة كي يدعو بسرية ويربي على مهل، حتى إذا لقي الغلام وجد فيه بغيته، ومن يدري فلعله دعا غير واحد قبله لكن كان الغلام هو الأبرز؟ ليس سهلاً الترجيح، لكن ما سنراه من حكمة الراهب وإخلاصه وحسن تربيته للغلام يجعل النفس تميل للرأي الثاني، سيما واختيار الراهب صومعته في طريق الناس، بين المدينة "وقلعة" الساحر، حيث يمكن أن يمر العامة والخاصة، يوحي بأنه لم يكن يقصد العزلة التامة بل كان ينتظر ليتخير، ولو كان قصد مجرد العزلة والهرب بدينه لابتعد عن طريق الناس.

إن هذا الراهب ذو شخصية أليفة محببة؛ إذ سرعان ما قعد إليه الغلام، وذاك شرط أساس للدعاة، أنهم يألفون ويؤلفون، وهم يحبون الناس وبالتالي يحبهم الناس، وسيأتي في القصة ما يؤكد شدة التصاق الغلام بالراهب، وثقته به ورجوعه إليه في أموره ومشاكله وكل ما يستجدّ عنده.
( فسمع كلامه فأعجبه): إن عبارة (كلامه) تشير إلى أن للراهب كلاماً آخر مختلفاً عما يسمعه الغلام من الساحر، وعما يعايشه في محيطه الاجتماعي ... (كلامه): إنه الكلام المقابل لكلام الساحر، إذ المفترض أن الساحر يهيء الغلام لمواجهة الدين الحق الذي سيظهر أن الراهب ينتمي إليه، ( فأعجبه) أي أدهشه فيه جدته وغرابته وحسنه، فأين كل الدعوات والأديان مهما بولغ في تزيينها وتزييفها، من دعوة التوحيد ودين الحق؟! إنه سرعان ما يؤدي عرض الدين إلى حالة من الانبهار والاندهاش والإعجاب الذي لا يملك سامعه إلا الإيمان والاستسلام.
ولذلك فقد رأينا موقف الوليد بن المغيرة حين سمع القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومثله ما أخبرنا القرآن عن نفر من الجن الذين استمعوه: ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً)، ولذلك فإن الفراعنة يحرصون على ألا يُسمع لكلام الحق، فإذا بهم يتواصون: ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)، حتى إن أحد الشعراء وضع في أذنيه الكرسف كيلا يتأثر بعد تحذير قريش له، وقد اشتكى نوح قومه بأنهم، وحتى لا يتأثروا بكلامه: ( وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا)، فهم لم يكتفوا بإغلاق آذانهم كيلا يسمعوا الحق بل إنهم غطوا وجوههم بهدف تيئيسه من دعوتهم. وكيلا يتأثروا بمرأى الداعية حيث صدق الملامح وصفاء الوجه ونور الإيمان في وجهه مع لهجة الصدق الحاملة لكلمة الحق والخير والعدل، ولذلك عمدت الدولة الحديثة إلى إبعاد الدعاة عن مواطن التأثير في التعليم والوعظ والإعلام، ويكفي في ذلك منع المحجبات من الظهور على الشاشات، والتواجد في المدارس والجامعات، فضلاً عن تشويه صورة الدعاة بالشائعات حتى يبتعد عنهم الناس، لكن تتفاوت الأنظمة في ذلك لاعتبارات شتى.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 01-09-2025, 10:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أصحاب الأخدود... عبر ودروس

أصحاب الأخدود... عبر ودروس (4)

طارق مصطفى حميدة


ولكن ليطمئن قلبي




مركز نون للدراسات القرآنية/ فلسطين

(فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب فقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكى ذلك إلى الراهب فقال الراهب إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر)،
إن الدين ليس فقط لحظة الاندهاش الأولى، بل هناك تربية وتثقيف وإعداد مستمر لهذا الغلام، كي يصير حاملاً للفكرة داعياً إليها، لا مجرد معجب بها أو مؤمن بها في نفسه، وبالتالي فقد كانت هناك حاجة للقاءات متكررة كلما ذهب الغلام إلى الساحر، وقد كان من ذكاء الراهب وحكمته أنه لم يعين مواعيد خاصة للقاء الغلام سوى ما يكون أثناء ذهاب الغلام وإيابه، كيلا يلفت الانتباه فيقع المحذور.
إن لقاءات الساحر بالغلام تتم بشكل منظم وبمواعيد صارمة، وهو أمر محمود في كل شيء، الاهتمام بالوقت والانضباط بشأنه وتنظيمه واستغلاله على الوجه الأمثل، لكن لماذا الضرب؟ لا شك أنها القسوة والإكراه، فليس للغلام في قلب الساحر أي محبة ولا لغيره، فكل الذي يعنيه في الأمر مصلحته الشخصية. والغريب أو اللافت أن الغلام لم يبح بالسر للساحر وكان بإمكانه أن يفسر له سبب تأخره، ولعل الضرب قد تكرر بمعنى أنه حاول أن يعالج الموضوع وحده، وهو يلوذ بالصمت. إنه لم يخبر الساحر لمَ يتأخر أو أين يتأخر، والمؤكد أن الساحر سأله قبل الضرب وبعده ما يعني أولاً حب الغلام للراهب وتحذير الراهب للغلام من أن يكشف السر لأحد وبالذات للساحر، والمتوقع أن الراهب قد أخبر الغلام بسر اعتزاله المجتمع مع حرص الراهب أن يظل أمره مخفياً.
من الطبيعي أن يتأخر الغلام على الساحر فإنه يخرج من البيت في ساعة يكون الوقت كافياً ليصل الساحر في الموعد، فإذا جلس إلى الراهب لبعض الوقت، كان ذلك على حساب موعده مع الساحر، وكذلك سيكون طبيعياً تأخره على أهله لأن موعد انتهاء لقائه مع الساحر معروف للأهل، فإذا جلس إلى الراهب وهو عائد فلا بد أن يتأخر عليهم.
إن من غير المعقول ولا المقبول أن يلتزم الغلام الصمت مع تكرر مساءلته وضربه فربما تعرض لتعذيب أكبر يضطره للكشف عن سره، ومن الواضح قبل ذلك أن الساحر لم يتوقع أن يكون تأخره مرتبطاً بلقاء الراهب.
إن "الغلام يشتكي إلى الراهب هذا البلاء شكوى الذي يعاني من مشكلة تعوق انطلاقه واستمراره، ولم تكن شكوى الذي يقدم المعاذير ليتخلى ويتراجع، والحاسة السليمة للدعاة هي التي تكشف علة أي شكوى" .
كان الكلام السابق أن الغلام يأتي الراهب وهو ذاهب إلى الساحر لكن قول الراهب للغلام: ( وإذا خشيت أهلك ) يعني أن الساحر قد قرر أن يبدأ، أو أنه كان قد بدأ فعلاً، بمزيد من اللقاءات التربوية التثقيفية للغلام لمضاعفة الجرعة ولمسح وإزالة آثار تعليم الساحر والرد على باطله.
أما لماذا يخاف أهله، وهل تراهم يشكلون خطراً حقيقياً على الغلام والدعوة والاستمرار؟ إن الأهل وإن لم يكونوا بالضرورة أعداء للغلام، فإن حرصهم على ابنهم وخوفهم عليه وعلى أنفسهم من النظام، يجعلهم في غاية الحرص على عدم الاصطدام بالنظام أو التعرض لعقوبته ولذلك لن يقبلوا بلقاء ابنهم بالراهب.
لماذا يطلب الراهب من الغلام أن يكذب؟ الكذب هنا جائز بل هو إلى الوجوب أقرب، حرصاً على الدعوة والدعاة أيضاً من الأعداء، لكن " ليحذر كل من يمارس الدعوة من الخروج عن حدود النصوص التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم في جواز الكذب حتى لا تتسرب تلك الصفة إلى طبيعته فيكتب عند الله كذاباً، ويفقد أقوى إمكانيات التأثير على الناس إذ إن الثقة في الداعية هي باب الإيمان بالدعوة وأساس التحرك فيها ولهذا فإن أول كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته كانت لتأكيد أساس الثقة فيه فقال: ( هل إذا قلت لكم إن الجيش مصبحكم. هل تصدقوني قالوا: نعم لأننا لم نجرب عليك كذباً قط قال: إني نذير بين يديّ عذاب شديد)" .
وهذا يدل أيضاً على أن الراهب حريص على ألا يتعرض الغلام في بداياته، وهو يمثل فسيلة ضعيفة، للرياح العاتية التي يخشى أن تقتلعها وتقتلع معها اليد الغارسة لها، كي تنمو وتكبر بهدوء، مع أنه في الواقع قد بدأ يلاقي مستوى معينا ً من البلاء؛ " وهذا الضرب يمثل بالنسية للغلام بلاءً وامتحاناً إذا راعينا أنه غلام صغير. ولكن الله تبارك وتعالى يريد أن يتربى هذا الغلام - من البداية - تربية حقيقية كاملة ويريد أن يكون ارتباطه بالدعوة متفقاً مع طبيعتها لأن هذا الغلام سيكون منطلقاً أساسياً لتلك الدعوة، وسيكون دليل الناس إليها... لذا كان لا بد من أن يكون شخصية متكاملة بمعنى التكامل الشخصي للدعاة والذي لا يتحقق ولا يتم إلا بالاستعداد للبلاء والصبر عليه عندما يقع".
" فطبيعة التلقي لهذا الدين هي التي تحدد طبيعة اعتناقه والالتزام به والدعوة إليه، والذين يتلقون هذا الدين على أنه بلاء، هم الذين يبقون إلى النهاية، وأخذ هذا الدين بقوة هو ضمان الاستمرار عليه.
" وبذلك أراد الله تبارك وتعالى أن يتفق تكوين هذا الغلام مع طبيعة الدعوة وأن لا تشذ شخصيته عن تكاليفها فابتلاه الله في لحظات التكوين ووقت النمو وفترة التربية فصدق وصبر ".

(فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال : اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضى الناس، فرماها فقتلها، ومضى الناس):
والسؤال الذي يتبادر: هل كان أمر الساحر ليختلط على الغلام حتى إنه ليشك أي الرجلين أفضل؟ بل أيهما أمره أحب إلى الله تعالى؟
من الواضح أن الساحر كان يزيف وعي الغلام مقنعاً إياه بأن الملك ونظامه هو الحق والخير وأن ما عداه وما خالفه شر وباطل، لا بل إنه، وكما يستفاد من النص، يسعى إلى إقناع الغلام بأن الملك أحب وأقرب إلى الله تعالى ودينه، وهي التي فيها مصلحة الناس، ما يعني أن مهمة الغلام في خدمة الملك وتثبيت أركان حكمه وتزييف وعي الجماهير هي مهمة مقدسة.
ونحن نلاحظ حرص الأنظمة المعاصرة مثلاً على التستر بالدين، وادعاء الانتساب إليه، وأنهم نسل أنبيائه، ودعاة دينه، ومطبقو شرعه، وحماة مقدساته، وخُدام مساجده... والتركيز على أن معارضي هذه الأنظمة، وبالذات الدعاة الحقيقيين، هم أعداء الدين المتسترون به، وهم أهل التطرف والإرهاب.
إن هذا الاختلاط لدى الغلام بسبب تزييف الساحر لا يعني أنه كان محتاراً، بل كان الراجح لديه والأقرب إلى قلبه ومشاعره، فضلاً عن عقله، هو الراهب، وهذا ما نلحظه في دعائه، فإنه قال: ( اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة)، ولم يقل العكس : اللهم إن كان أمر الساحر أحب إليك من أمر الراهب، فالأقرب إلى حب الله تعالى، كما يترجح لدى الغلام، هو أمر الراهب، ولذلك فالموضوع كما يبدو هو من قبيل: ولكن ليطمئن قلبي.

( حتى يمضي الناس): إن المحك الحقيقي والمصداقية لأي فكرة أو مبدأ ليس مقدار ما فيه من البهرجة وحسن الصياغة والبلاغة، بل بأثرها وواقعيتها وفاعليتها وإيجابيتها في حياة الناس، وقدرتها على معالجة مشكلاتهم وقضاياهم، وكذلك الأمر بالنسبة لحَمَلة الدعوة فإن عنوان صدقهم وإخلاصهم وبرهان مشروعيتهم، هو تبنيهم لقضايا الناس والسعي لحل مشاكلهم وانغماسهم في الجماهير، وليس مجرد التنظير. لقد جمع الغلام بين قضيتين متلازمتين: الفكرة ومَن يحملها، حيث أراد أولاً أن يستيقن أي الرجلين أفضل الساحر أم الراهب، وكذلك أي الفكرتين والطريقين أحب إلى الله: أمر الراهب أو أمر الساحر.
ومما يستوقف هنا حديث الغلام عن ( أمر الراهب) و ( أمر الساحر)، والأمر في اللغة الشيء الخطير العظيم الشأن، فالغلام يعي ويدرك تماماً أن ما يسمعه من الساحر، وكذلك ما يسمعه من الراهب، أمران عظيمان شأنهما خطير، وهذا بالطبع لأن العمل لدى الملك لتثبيت نظامه ليس بالأمر العادي، ومثله بل أعظم منه وأخطر، الدين الذي يتعلمه من الراهب، ودعوة التوحيد التي يراد تحرير الناس، ولذلك فإن الغلام لم يكن يريد قتل الدابة لمجرد القتل، ولكن ليتيقن من أحقية أمر الراهب من جهة، ومن جهة أخرى لأنه معنيُّ بإنقاذ الناس.

( فرماها فقتلها ومضى الناس) لقد مضى الناس وهم بالتأكيد ينظرون إلى هذا الغلام نظرة إكبار وإعجاب وحب وتقدير، وكانت بداية لفت الأنظار إليه ليس باعتباره الساحر القادم للملك، بل باعتباره منقذاً للناس من خطر عظيم داهم، حيث أزاح عن كاهل الجماهير هماً ثقيلاً، وفي بعض روايات الحديث:" فقال الناس: من قتلها؟ فقالوا: الغلام، ففزع الناس إليه، وقالوا: قد علم هذا الغلام علما لم يعلمه أحد".



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 01-09-2025, 10:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أصحاب الأخدود... عبر ودروس

أصحاب الأخدود... عبر ودروس (5)

طارق مصطفى حميدة


الراهب يسلم الراية للغلام




مركز نون للدراسات القرآنية/ فلسطين

( فأتى الراهب فأخبره): ثقة وحب وتواصل، بين التلميذ وأستاذه، بين الداعية ومرشده، بحيث لا يكاد يمر بالغلام أمر إلا ويخبر به الراهب، وقد رأينا من قبل كيف اشتكى إليه ضرب الساحر.
( أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى): من الواضح أن هذا الراهب على درجة عالية من الإخلاص لله تعالى، فلا يجد غضاضة في أن يقول للغلام إنه أفضل منه، بمعنى أنه أقدر على العمل للدين منه، وأنه أقرب إلى الله منه، حتى وقعت على يديه تلك الكرامة، وكأنه يسلمه قيادة الدعوة ويتراجع خطوة إلى الوراء مقدماً الغلام على نفسه، لكنه في الوقت ذاته يضع علمه وخبرته بين يدي الغلام، فيعرفه أنه سيبتلى.
إنه ينظر إليه كابن له وليس مجرد تلميذ، والوالد لا يضيره أن يتفوق عليه ولده لا بل إنه ليسعد بذلك، بل هو يعمل لهذا الهدف، وهذا فرق جليّ بينه وبين الساحر الذي يتعامل بالقسوة والضرب ويخشى المنافسة حتى لقد أخر البحث عن وارث إلى قرب نهاية حياته.

(أنت اليوم أفضل مني): وهو درس للكبار والصغار، للآباء والأبناء، للمعلمين ولتلاميذ، للقادة والجنود، أن فرق العمر والخبرة لا يعني الأفضلية بالضرورة، فربما يلهم الله تعالى الأصغر ما لم يلهمه الأكبر، وفي التنزيل: ( ففهمناها سليمان)، وقد كان الصحابة يشيرون على الرسول عليه الصلاة والسلام، إن لكل شخص طريقته في التفكير وخبراته الخاصة وتجاربه المختلفة وقد رأينا خبرة سلمان الفارسي في اقتراح الخندق، فضلاً عن أن موضوع الإخلاص والصدق مع الله تعالى يحلق بصاحبه في الأعالي، ويفتح عليه ما لم يفتح للقادة المربين الذين سبقوه.
والدرس المطلوب: أن يفسح الكبار والمربون والقادة، المجال الكبير لمن تحت إشرافهم كي يدلوا بدلوهم ويظهروا مواهبهم، كما أن المطلوب من الجنود والمرؤوسين والتلاميذ ألا يستصغروا شأنهم وألا يتهيبوا طرح رؤاهم وأفكارهم على من يكبرونهم، وفي صحيحي البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مختبراً من حوله إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله بن عمر: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله ؟ فقال: هي النخلة، قال: فذكرت ذلك لعمر فقال: لأن تكون قلت هي النخلة أحب إلي من كذا وكذا ) ، وفي هذا تشجيع لولده أن لا يمنعه الحياء من إظهار مواهبه أمام من هم أكبر منه سناً.

إن قول الراهب للغلام: أنت اليوم أفضل مني، يفيد المربين ألا يظنوا بأن من تحت أيديهم سيظلون على الحال التي التقوهم فيها أول مرة؛ فإن مرور الأيام وتطور الجنود والمرؤوسين والتلاميذ مستمر دون توقف، وقد تحصل قفزات كبيرة جراء بعض التحديات، وما يمكن أن يمن الله به على أهل الصدق والإخلاص من السائرين الجدد، ما يستدعي من الكبار ألا يجمدوا عند مواقفهم الأولى.
وقد كان لافتاً توجيه الإمام عليّ رضي الله عنه، المربين أن لا يُكرهوا أبناءهم على ما تربوا عليه لأنهم خُلقوا لزمان غير زمان الآباء، فالتحديات التي تواجه الأبناء غير تلك التي واجهت الآباء، والجيل الجديد أسرع تكيفاً وأكثر استجابة للجديد، لذلك من المناسب أن يُعطَوا زمام المبادرة في وجود الكبار، فيتدربوا على اتخاذ القرارات ويجري توجيههم وتصويبهم وإرشادهم.
وأمر آخر ما ينبغي تجاهله؛ وهو حديث الغلام للراهب ورد الراهب عليه، الغلام يقول للراهب أنه قد تأكد له أنه أفضل من الساحر، وأن أمره وطريقه أحب إلى الله من أمر الساحر، لكن الراهب لم يجعل من ذلك دليلاً ليزيد من رصيده لدى الغلام ويضاعف من تعلقه به وخضوعه له، فكل الذي يعنيه هو أن أمره وطريقه أحب إلى الله، ولم يفكر في ذاته، ولذلك التقط من القصة ما هو أهم، وهو أن الغلام أفضل عند الله منه في الدعوة إلى الدين وحمل الدين، وأخبره بواقعه وحقيقة أمره وما حباه الله تعالى، ليعرف قدره وفضل الله عليه ومواهبه وإمكانياته ليسير على هدى من ذلك.

( وإنك ستبتلى فإن ابتيت فلا تدل عليّ)

إنها التهيئة والإعداد للتحديات القادمة، لا لأجل أن يقحم نفسه في البلاء؛ فالمؤمن ليس بالمتهور، ولا يغتر بل يسأل الله تعالى العافية، كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد لاحظنا كيف أن الراهب كان حريصاً على تجنيب الغلام الصدام والتحديات؛ فلقاءاته به كانت تتخفى وتتستر بذهاب الغلام وإيابه، ولم يكن يرتب له مواعيد خاصة، كما أنه نصحه بل أمره بالكذب على الساحر وعلى أهله، كيلا يكلف الغلام فوق طاقته أو يعرضه لابتلاء لا يحتمله ويودي بالدعوة وبهما جميعا.

( فإن ابتليت فلا تدل عليّ)

إنك لا بد حين تبتلى ستُسأل من أين أتيت بهذه العقيدة؟ ومن علمك هذا الدين؟، فلتحرص على ألا تكشف السر، وذلك ضمانة لعدم إلقاء القبض على الجميع، وحتى يظل الراهب متوارياً عن الأنظار يتحرك بالدعوة سراً بعيداً عن الأضواء والضوضاء، فالحفاظ على الدعوة يقتضي الحرص على ألا تنكشف حلقات التنظيم للأعداء.
أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم؛ والملاحظ – كما سيأتي - كيف أن بلاء الغلام أشد من بلاء صاحبيه، الراهب وجليس الملك، فقد رأى ما أصابهما، كما عذب من قبل، كما أن التهديد المتواصل والتخويف حتى ذروة الجبل ثم في عُرض البحر، ولا ننسى أن الابتلاء بالإغراء والترغيب لا يقل شدة إن لم يزد، عن الابتلاء بالتعذيب والترهيب، فهو الشاب الذي ينتظره المستقبل الباسم والقرب من الملك والعمل ساحراً له، فيما الراهب والجليس كبيران في السن وليس لديهما طموح كبير أو مستقبل باسم كالذي ينتظر الغلام، ولذلك فالامتحان أبلغ وأقوى.
وقد من حكمة الراهب أن بين للغلام حقيقة وضعه ومستواه الإيماني بعدما رأى تلك الكرامة الخارقة، فقول الراهب للغلام: أنت اليوم أفضل مني، قبل قوله: وإنك ستبتلى، يتضمن أنه بما بلَغه من الإخلاص والإيمان سيُعان على تجاوز الابتلاء والنجاح فيه، كما يتضمن أن الله تعالى الذي أعانه بالكرامة الخارقة لا بد سيمن عليه بالعون على تجاوز البلاء، وسيظهر أن البلاء الحقيقي ليس في الكشف عن " خيوط التنظيم"، ولكن في الثبات على الدين.
وقد بدأ الراهب بأداة التوكيد وثنى بأداة الشك وإنك ستبتلى ... فإن ابتليت)، لئلا يقع الغلام في الكرب قبل وقوعه فيصيبه الجزع، كما ألمح إلى ذلك صاحب كتاب دليل الفالحين شرح رياض الصالحين، ففي الوقت الذي أكد الراهب أن الغلام لا بد سيلقى البلاء فهذه هي سنة الله تعالى إلا أنه لم يشأ أن يملأ قلب الغلام بالخوف ولا نفسه بالجزع، بل فقط المطلوب هو التهيؤ والاستعداد، ولذلك استخدم أداة الشك ( فإن ابتليت ): وكأن البلاء احتمال ضعيف.
ولعل بعض الدعاة وهو يريد إعداد تلاميذه للبلاء القادم، تراه يوقعهم في اليأس والجزع من شدة ما يصور لهم الأهوال التي تنتظرهم، وبطريقة توحي لهم أنهم لن يتجاوزوها.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 01-09-2025, 10:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أصحاب الأخدود... عبر ودروس

أصحاب الأخدود... عبر ودروس (6)

طارق مصطفى حميدة


الدعوة في بلاط الفرعون



مركز نزن للدراسات القرآنية/ فلسطين

(وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ههنا لك أجمع، إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدا. إنما يشفي الله. فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك. فآمن بالله. فشفاه الله).
بعد الإعلان الجماعي الذي عرّف بالغلام، صار له حضور في تخفيف معاناة الناس بمداواتهم أولاً من الأمراض المستعصية كالبرُصان، والكُمه الذين ولدوا عمياً حيث يندر شفاؤهم لتلفت النظر إلى ما عند هذا الغلام مما ليس عند غيره.
وكما تطور إيمان الفتى، فإن دعوته وانتشاره يتضاعف حتى يبلغ أمره جليساً للملك، وهو كما سيأتي الخيط المؤدي لظهور الدعوة والانكشاف أمام قمة هرم السلطة وبالتالي وقوع الابتلاء الذي نبه إليه الراهب.
من الواضح أن الغلام وهو يداوي المرضى ويعالجهم كان يشترط عليهم ألا يكشفوا أمره بدليل أن الجليس سمع عن الغلام كطبيب معالج أو كساحر يشفي من الأمراض المستعصية، لا كداعية للإيمان، ولذلك أتاه بهدايا كثيرة، والجليس نفسه سيُعذب حتى يُضطر إلى كشف الغلام، ولم يبادر إلى الإخبار عن الذي يعلمه الدين من تلقاء نفسه، كما بادر بالإعلان عن إيمانه.
إن مشكلة الطب أن القادرين وكبار القوم هم من يستطيعون الوصول إلى أمهر الأطباء وأفضل المستشفيات، الأمر الذي لا يتوفر لعامة الناس، والمعتاد أنهم يصلون إلى هؤلاء قبل الفقراء والعامة، وأما في حالتنا هذه فقد وصل العلاج والدين إلى العامة قبل كبار القوم.
وفي كلام الجليس أن المريض وذا الحاجة على استعداد لدفع كل ما يملك، ولتقديم الغالي والنفيس لأجل حصول الشفاء، ذلك أن صاحب الحاجة أرعن كما يقال، وإذا كان أصحاب المبادئ الهدامة والغايات الدنيئة يستغلون ذلك في نشر مبادئهم وتحقيق مصالحهم، فإن المؤمنين الدعاة أصحاب الحق أولى بأن يسعوا في حل مشاكل هؤلاء وتخفيف معاناتهم.
واللافت أن الجليس لم يصله خبر الغلام بأنه يدعو إلى الإيمان بالله بل بلغه أن الغلام يعالج أو بحسب حلمه وأمنيته أنه كان يشفي، حيث يتحرك بين الناس بالدعوة مستفيداً من تقديمه خدمة العلاج للناس، متستراً من الحكومة بهذا الأمر وبكونه ساحر الملك.
(إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى): الإخلاص لله تعالى، وعدم تقديس الذات، ومن جهة أخرى تعزيز عقيدة أن الشافي هو الله تعالى وحده ( وإذا مرضت فهو يشفين)، إن الغلام "يداوي" لكن الشافي هو الله تعالى وحده.

(فآمن بالله فشفاه الله): وكأنه لصدقه وإخلاصه في إيمانه شفاه الله تعالى حتى قبل أن يدعو له الغلام بالشفاء، وتأكيداً على حقيقة أن الشفاء فقط بيد الله تعالى.
وتفيد هذه القصة مثل ما أفادت قصة سحرة فرعون ألا نيأس من إمكانية هداية الناس مهما بلغ عداؤهم للدين أو قربهم من الطغاة، لا بل حتى الفراعنة أنفسهم فإن الدين قد جاء لينقذهم من شرور أنفسهم، لقد آمن الغلام الذي أُعد ليكون ساحر الملك، ومن بعده آمن جليس الملك.

هل يجوز اشتراط الإيمان قبل العلاج؟
أولاً: لقد آمن الغلام نفسه دون خارقة ودون " جائزة"، كل ما هنالك أنه سمع كلام الراهب فأعجبه، وأغلب الظن أن الغلام قد تحرك في الناس بالطريقة ذاتها التي كانت سبب إيمانه، ولكن مداواة الناس كانت مهمة كي تسهل تحركه بينهم وتكون العلاجات الخارقة دليلاً على صدقه عند من يحتاجون إلى أدلة مادية، وكذلك فإن الخوارق مهمة لشدة طغيان النظام، فيحتاج المؤمنون إلى ما يثبت إيمانهم في مواجهة شدة بطش الملك وجبروته وتفننه في تعذيب المؤمنين، وحالة الجليس بما فيها من علاج خارق للعمى بمجرد الإيمان تؤكد أهمية الخارقة في تحمل وتقبل التعذيب ومن بعده القتل.
وبالتالي فليس في هذا الموقف دليل لمن قد يظن أن بإمكانه اشتراط إيمان الناس، حتى يقدم لهم ما يحتاجونه من غذاء وعلاج أو أية معونات أخرى، ولم يكن هذا أسلوب المسلمين في الدعوة قديماً ولا حديثاً.

( فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس. فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام):
حضر الجليس عند الملك دون قائد ولا عصا، وجلس إليه كما كان يفعل قبل أن يصاب بالعمى، وكان من الطبيعي أن يسأل الملك هذا الجليس: من رد عليك بصرك؟ أي طبيب نطاسي بارع ذاك الذي أعاد إليك بصرك؟ فقال الجليس ربي، فيسارع الملك مستهجنا هذا الكلام: أولك رب غيري؟
الملك يقول: إن كل خير يأتيك أو يأتي غيرك في المملكة، مباشراً كان أو غير مباشر، فأنا وراءه وأنا ربكم وهذا يقتضي أن أكون أنا إلهكم ومعبودكم.
( ربي وربك الله):
الله خالقي وخالقك، المنعم عليّ وعليك، والملك لم يكن ينكر وجود الله تعالى، ولذلك لم يسأله من هو الله؟ ولم يقل له أين الله، وقلّ من يوجد في الواقع والتاريخ من ينكر وجود الله تعالى أو يجادل في الخالق سبحانه، وهذا القليل في مراحل متناثرة من التاريخ منها ما كان بعد انتشار الشيوعية في العصور المتأخرة، أو من أطلق عليهم الزنادقة في بعض عصور التاريخ الإسلامي، أو غيره، وهم في إنكارهم مكابرون لا جاهلون.
ربي وربك الله... لست الرب، أيها الملك، فأنت مثلي وأنا مثلك، أنا وأنت عبدان لله الواحد القهار، إنها كلمة السر إذن في حرب الفراعنة والطغاة، ضد الدين، ضد التوحيد، ضد الإيمان الحق؛ فالملوك يريدون أن يتألهوا على الناس ويتسلطوا على رقابهم، يملكوهم ويملكوا الأرض التي يحكمونها بكل ما عليها ومن عليها استعباداً وتسخيراً، ولذلك فالحرب الشعواء الضروس سببها أن المؤمنين الموحدين يرفعون رؤوسهم أمام الفراعنة المتألهين ويصرخون في وجوههم أننا وإياكم عبيد لله تعالى.

( فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام):
فأولاً تتجلى شدة قسوة النظام الكافر، وأنه لا يهمه أحد مهما كان قربه منه، فهذا الرجل جليس للملك أي أنه ليس فقط مجرد مسؤول كبير من أعوان الملك وأركان حكمه، بل هو إلى ذلك يكثر الجلوس إلى الملك، ما يعني أن الملك يكثر مجالسته ويستريح إليه ويكثر استشارته لكونه يستفيد منه، لكن ذلك كله لم يكن ليشفع له، فعندما ذكر للملك بأن الله تعالى هو ربه ورب الملك لم يحتمل ذلك منه فأوقع عليه أشد العقاب.
ترى هل تسرع الجليس بإعلان إيمانه أمام الملك وتحديه بأن الله ربهما جميعاَ، أوَما كان يسع الجليس التعريض والمداورة؟
أرى، والله أعلم، أن هذا الأمر قد تم بوعي وفهم وبتنسيق مشترك بين الجليس والغلام، ونحن لا نتحدث عن شخص مغامر فالجليس يفترض فيه أنه رجل سياسي محنك ويدرك خطورة أن يكلم الملك بهذه الطريقة، ومعنى ذهابه إلى الملك أنه ذهب قاصداً إيصال الدين إليه وتحديه به كأنما قد حان وقت: ( اذهب إلى فرعون إنه طغى).
لقد أخذت الدعوة حظها من التحرك بين الجماهير، وصار لزاماً أن تواجه الفراعنة فهم السدود والحواجز المانعة من إيمان الناس، ثم إن من حق الملك وكبراء الدولة على الدعاة أن يبلغوهم دين الله فلعل أحدهم أن يتذكر أو يخشى، فيؤمن بإيمانه خلق كثير، وإلا فقد قامت عليه الحجة، ولم يبق له عذر أمام الله تعالى.
"ويجب ألا يمنع الاستضعاف ضرورة المواجهة بين الدعوة والحكم الظالم وليس في تلك المواجهة دون اعتبار للإمكانيات المادية - أي تهور، ولهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن سيد الشهداء من يقوم إلى حاكم ظالم يأمره وينهاه، وهو يعلم أنه سيقتله فقال: (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام ظالم فأمره ونهاه فقتله) لأنه أكد مايؤكده الشهداء بقتالهم الكافرين أصحاب القوة والسلطان ويزيد عليهم أن الشهداء كانوا يقاتلون باحتمال النصر أو الشهادة، وهو يواجه باحتمال واحد وهو الشهادة" .
كان العذاب شديداً وقاسياً ومستمراً وفوق قدرته على الاحتمال، والجليس بقدر ما كان معنياً بإعلان إيمانه، فإنه وفي الوقت ذاته كان حريصاً على عدم الكشف عمن علّمه الإيمان والتوحيد، وإلا لكان اعترف به دون حاجة إلى كل هذا التعذيب، هذا يعني أن الغلام قد أوصى الجليس بما أوصاه الراهب ألا يدل عليه إذا ابتلي، وبعض العاملين للإسلام قد يصفون هذه الحالة بأنها: علانية الدعوة وسرية التنظيم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 01-09-2025, 10:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أصحاب الأخدود... عبر ودروس

أصحاب الأخدود... عبر ودروس (7)

طارق مصطفى حميدة



يعترفون ... ولكن لا يتركون دينهم




مركز نون للدراسات القرآنية/ فلسطين

( فجئ بالغلام. فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل. فقال: إني لا أشفي أحدا. إنما يشفي الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب. فجئ بالراهب. فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى. فدعا بالمئشار. فوضع المئشار على مفرق رأسه. فشقه حتى وقع شقاه. ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى. فوضع المئشار في مفرق رأسه. فشقه به حتى وقع شقاه):
أي بني ... هي الكلمة ذاتها التي قالها الراهب للغلام، لكن الراهب كان صادقاً مخلصاً في قوله بكل ما تعنيه تلك الكلمة من حب واستعداد وتقبل أن يكون هو وإياه على قدم المساواة، لا بل وأن يتفوق الغلام عليه، ثم ينبهه إلى ما سيلقاه من مخاطر الطريق وعقباتها، ومن قبل كان يتابعه ويوجهه.
أما الملك؛ فأول دليل على أنه غير صادق في مقالته مبادرته إلى تعذيب الغلام كي يكشف له من الذي علمه الإيمان ودله على طريق التوحيد.
إذن فهي كلمات تلطف وتحايل واستعطاف، ورجاء أن يقبل الغلام المساومة، ويجاري الملك بالقول أن ما يفعله وما يجريه الله على يديه كان سحراً ولا علاقة له بالدين، فتمضي الأمور على الوجه الذي خطط له الملك الذي يتمنى من كل قلبه أن يكون الأمر على هذه الصورة، وفيها ربما حالة من الإنكار والدهشة أن يكون الغلام الذي يُعدُّ ليكون ساحر الملك، فإذا به الذي يحمل لواء التوحيد والإيمان ويكون هو الذي يدعو الناس ويقودهم إلى تحدي الملك بدلاً من تطويعهم وتعبيدهم له.
"الملك الطاغوت يقول: (أي بني) كلمة كلها مكر وخبث وضغط على نفس الغلام، وإغراء لـه بالقرب منه بما يتضمن هذا القرب من مستقبل زاهر وحياة مترفة، ويقول الملك: (قد بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص وتفعل ما تفعل؟) وقد حاول الملك بهذه العبارة أن يسرق ما كسبه الغلام من تقدير في نفوس الناس بأن يعود بتفسير أعمال الغلام إلى السحر الذي تعلمه من ساحر الملك الذي أتى الملك إليه بالغلام، وهذا ما يصنعه الذين لا يريدون الاعتراف بالحق فيفسرونه بأي شيء غير الحق، وهذا ما فعله فرعون لما هزمه موسى فقال: {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} [طه:71]" .
لقد تابع الغلام الجليس بالإقرار بالإيمان أمام الملك، ما يعني أن هذا الإعلان لم يكن سلوكاً اضطرارياً فهو من جهة ضمن الخطة وهو من جهة أخرى تقدير الله تعالى لدعوته، ثم إنه ليس بوسع قائد الدعوة أن يتخفى أو أن يخفي دعوته وقد جاءته الفرصة تسعى إليه سعياً بل تطير طيراناً.
( فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له ارجع عن دينك فأبى، فجيء بالمئشار فوضع في مفرق رأسه حتى وقع شقاه):
لقد وقع ما حذر منه الراهب وانكشفت كل خيوط التنظيم حيث قد تبين للملك أن الراهب هو آخر حلقات التنظيم سواء بتعذيبه أم بالتحليل.
إن التنظيم والعمل السري مهما كان محكماً فليس عصياً على الانكشاف؛ فوسائل الأنظمة وأجهزتها في التحري والمتابعة والتحقيق والتعذيب لا يكاد يصمد أمامها سر ولا تنظيم، كما أن الضعف البشري والخطأ البشري عند كل المستويات وارد ومتوقع، وإن الاعتراف على هذا ممكن جداً وليس غريباً ولا مستحيلاً، وهو لا يعني، بالضرورة ضعف الإيمان ولا نقصان الثقة في صاحبه، بل لقد سمعنا أن إحدى الحركات المجاهدة كانت تطلب إلى أعضائها إذا أُلقي القبض على أحدهم أن يصبر لمدة أربع وعشرين ساعة فقط حتى تأخذ الحركة احتياطاتها وتدبر أمرها، وذلك من شدة التعذيب الذي يمارسه النظام.
إن الأصل والهدف هو عدم الاعتراف وكشف أوراق التنظيم وهتك أسراره، كما أن الأصل أن يُعدّ الأعضاء، ومن قبلهم القيادات، على التحمل والصبر ومواجهة أساليب التحقيق، وكذلك اتخاذ التدابير الاحتياطية في العمل والحركة والاجتماعات لمنع الانكشاف، وللحركات في الظروف الصعبة طرائق في العمل واللقاء والتواصل غاية في السرية والحذر، لكن مع كل ذلك فليس غريباً انكشاف الأسرار وحلقات التنظيم، وقد رأينا كيف لحق فرعون بموسى مع أنه خرج بقومه سراً، كما أن قريشاً قد وصلت غار ثور مع كل الاحتياطات النبوية.

(ارجع عن دينك)

إن الهدف من الحملة ومن التعذيب هو رجوع المؤمنين عن دينهم، وما حملات التعذيب إلا وسائل ومقدمات لحصر المؤمنين وتحديد أشخاصهم وأعدادهم تمهيداً لردهم عن دينهم أو إبادتهم وبالتالي إبادة الدين الذي يحملون، كما يظن الطغاة المتألهون، وهو النهج نفسه الذي يستخدمه المستعمرون والطغاة مع المعارضين والمصلحين ودعاة التحرر ورجالات الثورة، إذ يقومون بمراودتهم للتخلي عن مبادئهم وترك العمل مع جماعاتهم وحركاتهم التغييرية، ولا يظنن الثائر أن عدوه سيتوقف عن حربه بعد اعترافه ودلالته على رفاقه، بل هي الخطوة الأولى التي سيتبعها حتماً الطلب إليه أن يترك رسالته الإصلاحية وتحركه الثوري وغايته في التحرير والاستقلال، ويعود إلى حاله الأول، أو يسقط في براثن الأعداء ولياً من أوليائهم وعوناً لهم على أهله وبني قومه.

إن الهدف النهائي إذن هو الرجوع عن الدين، وما عملية التحقيق وتتبع الخيوط التنظيمية إلا وسائل في الطريق لحصر العناصر التي غردت خارج السرب الملكي ليصار بعد ذلك إلى تخييرها، بين الموت والارتداد عن الدين، إذا صح لنا أن نطلق على هذه العملية تخييراً.
وكان البدء بالراهب لأنه رأس الدعوة وقائدها والقدوة المفترضة للغلام والجليس، فإذا حدث وارتد فما أيسر أن يرتد الذين وراءه، وإن لم يفعل وقُتل فإن الملك يتوقع أو يتمنى أن يكون في ذلك تخويف وإرهاب لأتباعه.
إن وضع المنشار على الرأس والبدء بتحريكه ومنظر الدم النازل على الوجه، والجسم يكفي لتراجع الكثير عن مبادئهم وهذا يبين مقدار إيمان الراهب وأمثاله.
كما أنه في الوقت نفسه يدل على شدة نقمة الملك وجماعته ذلك أن الشخص الذي يُنشر رأسه لا تلبث روحه أن تفارق جسده بمجرد أن يصل المنشار إلى الدماغ بعد اختراق الجمجمة فما الداعي إذن للاستمرار في الشق بالمنشار حتى يقع شقا الرجل؟
إنه يدل أولا على شدة إجرام الطغاة الكفرة، وخلو قلوبهم من أي نزعة إنسانية، والذين فقدوا كل معاني الإنسانية، وصاروا إلى التوحش أقرب، فلم يبالوا أن يشقوا المؤمنين بالمناشير أو أن يحرّقوهم بالأخاديد. وإنه الحقد الشديد على أهل الإيمان، مصداق قوله تعالى: ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد)، حيث إن إيمانهم بالله العزيز الحميد، يجعل رؤوسهم في السماء، فيرفضون المذلة، حيث ملأ إيمانهم بالعزيز قلوبهم عزة وكرامة وأنفة وإباء، ولم يجدوا صفات الكمال إلا عند ربهم الحميد فرفضوا إسباغها على غيره سبحانه.

البداية كانت مع الراهب، فهو معلم الدعوة وقائدها الأصلي، ولعل الملك يرجو من وراء البدء به أن يرجع برجوعه عن الدين كل من الغلام والجليس وكل من آمن أو سيؤمن بدينه، لكن هذا الرجل العقائدي صاحب مبدأ، وحسبك أنه "راهب" ما يعني أن عمق صلته بالله تعالى، وطول تبتله بين يدي ربه تعالى، عاملان في الثبات والصمود، وهو يدرك حساسية موقعه وكونه القائد والقدوة والمعلم، ولن يقبل لنفسه التراجع عن دينه حتى ولو بالتقية، سيما وأنه لا يُقبل من الرموز والقدوات ما يمكن أن يقبل من المؤمنين العاديين.
وثمة هدف آخر من شق الراهب نصفين وهو أن يكون ذلك رادعاً للجليس والغلام، فوضع المنشار على الرأس والبدء بتحريكه، ثم منظر الدم النازل على الوجه والجسم، يكفيان لتراجع من يشاهدون الواقعة عن مبادئهم فضلاً عن تراجع من يقع عليه عملية النشر، لكن الذي جرى في القصة والذي يجري غالباً إن لم نقل دائماً، هو أن الشهداء الأوائل هم من يطلقون شرارة إشعال براكين التحدي والثورة ضد الظالمين، ولذلك لم يفلح قتل الراهب في تراجع الجليس أو الراهب.
( ثم جيء بجليس الملك، فقيل له ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه).
يراود الجليس ليرجع عن دينه لكنه يأبي فيشقه الملك مثلما فعل بالراهب، ليتأكد من جديد أن الملك ليس له صاحب ولا قريب، حيث لا يراعي هؤلاء القوم في مؤمن إلا ولا ذمة، فضلاً عن تعلق الموضوع بتهديد نظام الملك.
لقد لاحظنا كيف أن الجليس تحت التعذيب الشديد المتواصل قد دل على الغلام، كما اعترف الغلام تحت الظروف نفسها على الراهب، لكن الضعف عن تحمل السر لا يعني بالضرورة الانهيار الكامل الذي يؤدي بصاحبه إلى ترك الدين والرجوع عنه، ولعل مما ساعد الجليس على الثبات ثبات الراهب واستشهاده قبله، خلافاً لما أراده الملك، حيث تعزز لديه معنى أن الإيمان هو أعز شيء في الحياة، بل إنه أعز من الحياة ذاتها.
كما أن الخارقة التي كانت سبب إيمان الجليس هي عامل آخر في ثباته، ولعل شيئاً من الرغبة في تصحيح الخطأ والتكفير عن الاعتراف مما ساهم في ذلك الثبات.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 01-09-2025, 10:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أصحاب الأخدود... عبر ودروس

أصحاب الأخدود... عبر ودروس (8)

طارق مصطفى حميدة




نعم للشهادة ... ولكن ليس الآن


مركز نون للدراسات القرآنية/ فلسطين

( ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى):
كان المتوقع بحسب التسلسل "التنظيمي" أو الدعوي، أن يؤتى بالغلام وليس الجليس بعد الراهب، لكن الذي جرى هو العكس، ذلك أن الجليس ومن قبله الراهب ليسا بتلك الأهمية للملك بينما يُعدّ الغلام ليكون ساحره، والملك بحاجة إلى ساحر، وقد تعلم الغلام من الساحر الكثير، ثم إن الساحر نفسه لم يعد له ذكر في القصة ما يعني أنه قد غاب حقيقة عن الحياة أو عن الوجود الفاعل وإمكانية أن يعلم تلميذاً آخر بدلاً من الغلام.
ثم إن الغلام هو الذي كان يتعامل مع الجماهير ويعيش بينهم، وله حضور فاعل وعميق فيهم، ولذلك فردود الأفعال على قتله ستكون أشد خطراً على النظام من قتل صاحبيه، كما أن الملك لا يزال يتمنى بقاء الغلام حياً ليقوم بوظيفة الساحر التي كان يعد لها.
وحيث إن الغلام، وليس الراهب الذي كان معتزلاً للناس، هو رأس الدعوة الحقيقي بين الجماهير، فقد كان الملك جد حريص على أن يترك الدعوة، ويصور للناس بأنه ساحر وليس داعية إيمان، فيترك المؤمنون الدين، ويرجعوا إلى سابق عهدهم في التبعية والعبودية بالنسبة للملك، ولذلك جرى تأخير قتل الغلام عن صاحبيه لترهيبه، وأيضاً ترغيباً له حيث إنه شاب يافع له مستقبل باهر ينتظره، ولذلك لم يسارع الملك إلى شقه نصفين كما فعل بسابقيه، بل أطال مدة المراودة طيلة الطريق حتى ذروة الجبل على أمل أن يرجع عن دينه.
ومن شُراح الحديث كصاحب ( دليل الفالحين) من لفت إلى أن الضمير في أصحابه في قوله عليه الصلاة والسلام: ( فدفعه إلى نفر من أصحابه)، يحتمل أن يعود إلى الغلام أيضاً، وإن بدا هذا الاحتمال مرجوحاً لا راجحاً، خاصة مع استخدام لفظ ( نفر ) والتي تشير إلى الجنود وهم رجال الملك لا أصحاب الغلام، فضلاً عن الاحتمال المتبادر برجوعه إلى الملك، فمن الطبيعي أن يكون أولئك النفر من أصحاب الملك الذين هم طوع أمره ومحل ثقته.
لكن احتمال أن يكونوا من أصحاب الغلام له وجاهته أيضاً، فإن تسليط أصحاب الشخص وأقاربه ومحبيه وأصدقائه عليه قد يكون له تأثير أبلغ من تأثير الملك ورجالاته عليه، حيث إن الأصحاب يتكلمون بلغة النصح والحب والحرص على المصلحة كما يرونها، والإنسان ضعيف أمام مشاعر الحب وعلاقات القرابة، بينما يميل صاحب المبدأ إلى التحدي في مواجهة الخصوم والأعداء.
ولفت الأستاذ رفاعي سرور إلى:" أن أهم ملاحظة في تجربة القتل والتعذيب واللين، هي التعبير عن طلب الرجوع عن الدين أو المساومة فيه بصيغة المبنى للمجهول (فقيل ارجع عن دينك. ذلك للراهب والجليس الغلام)... وأما القتل فعلاً فجاء بصيغة الفعل المبني للمعلوم وهو الملك (فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه)، والسبب في ذلك هو أن المساومة مع أصحاب الدعوة لا يتناسب مع الإرادة السياسية العليا، ولكن الجاهلية عندما ترغب في المساومة فإنها توكل بها مجهولاً يساوم خفية لكي لا يؤثر على مهابة الدولة، أما القتل والتعذيب فهو الأمر الذي يتفق مع تلك المهابة بل يزيدها" .
ويصل "الأصحاب"، بالغلام إلى ذروة الجبل ويظل متمسكا بدينه، ويتوجه إلى ربه سبحانه بالدعاء: ( اللهم اكفنيهم بما شئت)، قمة التفويض إلى الله تعالى وغاية التوكل عليه والتسليم له سبحانه.. ( اللهم اكفنيهم بما شئت)... " بأي كيفية يرضاها الله سبحانه وتعالى وبأي سبب يختاره عز وجل، فليس التوكل على الله عند المؤمن محدوداً بخبرة الواقع ودراسة الظروف؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما استطاع الغلام أن يدعو بهذا الدعاء لأن الواقع لم يكن يحتمل أي تفكير، ولكنه التوكل بكامل حقيقته وجوهر معناه انطلاقاً إيمانياً لا يتقيد بضيق الواقع، وارتفاعاَ وجدانياً لا يهبط بشدة الظروف، وعندما يتحقق التوكل... تتحقق الاستجابة بإذن الله ".
واللافت أن الغلام لم يستسلم للشهادة في سبيل الله بل كأنه فر منها، ذلك أن الشهادة على عظم أمرها وسمو قدرها ومكانتها ليست الغاية الأهم التي قام الدعاة لأجلها، بل هم قاموا لأجل تحرير الناس وتعبيدهم لربهم وإقامة الدين فيهم وتمكينه بينهم، وإذا ما تحول كل الدعاة إلى شهداء فمن عساه يقيمها ويقوم بها؟
إن ثمة فارقاً كبيراً بين تحول جميع الدعاة والمجاهدين إلى شهداء، وبين تحركهم بنفسية الشهداء والاستعداد للشهادة في كل لحظة إن لزم الأمر، والشهداء في كل المراحل، يكون لهم الدور الفاعل، والحاسم في أحيان كثيرة، في ترسيخ معاني التضحية والفداء وتعميق الإيمان بالفكرة، ومن ثم في تحقيق الانتصارات، لكن لا بد من بقاء واستمرار من يقيم الدين في الأرض ويرفع رايته بين الناس، إن العيش في سبيل الله تعالى لا يقل أهمية عن الشهادة في سبيله، إن حياة المؤمن، وأكاد أقول حياة الإنسان بعامة، هي خير له من الموت والوفاة، وما جدوى أن يُخلق المرء اليوم لتكون وفاته أو مقتله في اليوم التالي؟ وهو المعنى الذي يرشدنا إليه الرسول عليه السلام حين نهى أن يتمنى المرء الموت لضر أصابه، وأقصى ما يجوز له من الدعاء في ذلك أن يقول: ( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)، والملاحظ تعبير أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، ما يعني أن حياته واستمراها في الأصل خير للإنسان، وأن الاستثناء أن تكون تلك الحياة شراً له.
إن الشهداء الأوائل لهم الدور الأكبر فيمن يظل خلفهم، دون أن ننسى بأن المؤمن الواعي لا يسعى للشهادة المجردة بل حيث تكون تلك الشهادة أفعل في نصرة الدعوة، ولذلك وُصف المؤمنون بأنهم? يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون? فهم حريصون على هزيمة أعدائهم وقتل جنودهم قبل أن يُقتلوا شهداء، وقد رأينا خالد بن الوليد ينسحب بجيش مؤتة حتى ليعيرهم صبيان المدينة بأنهم الفرار، لكن يرد عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم الكرار إن شاء الله، وعلى إثر تلك المعركة التي انسحب فيها خالد من المعركة لقبه الرسول صلى الله عليه وسلم بسيف الله، وقد كان بإمكان خالد رضي الله عنه أن يظل في الميدان أمام الأعداد الغفيرة من جحافل الروم والذين يبلغون عشرات أضعافهم، حتى يستشهد جنود المسلمين عن آخرهم ثم لا يتبقى لدولتهم الفتية قوة ولا شوكة، لكنه ضن بهذه الثلة أن تضيع بمثل تلك المغامرة، ثم أكرمه الله تعالى بأن كان هو نفسه من يديل دولة الروم في اليرموك.
إن حياة الداعية المجاهد هي أغلى ما يملك، والمطلوب منه أن يستثمر كل لحظة فيها لتحقيق ما هو مكلف به، ثم لا تكون شهادته إلا حيث يعتقد أنها ستؤدي إلى أعظم نصر للدعوة وإعزاز للدين، وإثخان في الأعداء وهزيمة لهم؛ ولذلك يؤجل الغلام طلب الشهادة مرة ومرة.
لقد كان بإمكان الغلام أن يغيب عن المشهد وينجو بنفسه بعد إذ نجاه الله تعالى من الملك في هذه المرة والمرة التالية، لكن مطلوب المؤمن الداعية المجاهد ليس نجاته شخصياً، بل هو يريد مزيداً من الحياة لمزيد من الدعوة وإقامة الحجة ونشر الدين ونصرته، إنه لم ينسحب كونه صاحب رسالة معنياً باستمرارها وبلوغها غاياتها، ولذلك لم يكن منه خروج من البلدة ولا قعود في بيته، بل يأتي الملك الذي يفاجأ به أمامه: ( ما فعل أصحابك؟ كفانيبهم الله تعالى)، قمة الإخلاص وعدم تضخم الذات بعطاءات الله تعالى وما يجريه على يديه لا سابقاً ولا لاحقاً، في السابق أكد: ( إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى)، واليوم أيضاً لا يقول إنه قدر عليهم أو تخلص منهم بل: ( كفانيهم الله تعالى)؛ إن الله تعالى هو الفاعل الوحيد والفعال لما يريد، هو المحيي المميت كما أنه هو الشافي وأنت أيها الملك لا حول لك ولا قوة، فلتصح من غفلتك ولتكف عن خداع نفسك والناس، فلست الرب، ولست المحيي المميت، كما أنك لست الشافي.
" وسبب عودته إلى الملك هو سبب طلبه للنجاة من أصحاب الملك فوق الجبل؛ وهو أن الدعوة لم تتم، وليست الحياة هدفاً يحرص عليه الدعاة إلا من خلال كونها ضرورة من ضرورات الدعوة، سواء أكان تحقيق هذه الضرورة يتطلب الحرص على الحياة أو الحرص على الموت.
" والذين يفسرون مصلحة الدعوة بالحرص على حياة الدعاة فحسب هم أصحاب التصور الناقص الذي لايعدو أن يكون فلسفة للجبن أو للارتداد عن سبيل الله.
" والذين يندفعون إلى الموت برغبتهم النفسية دون اعتبار لمصلحة الدعوة إنما يبددون بذلك الاندفاع والتهور طاقة الدعوة وإمكانياتها.
" وكما أن مصلحة الدعوة هي الحد الفاصل بين الجبن والشجاعة. فهي أيضاً الحد الفاصل بين الشجاعة والتهور، فالجبن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلاضرورة أو منفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة، وعلى هذا لم يكن طلب الغلام للنجاة جبناً ولم تكن عودته إلى الملك تهوراً بل كان في كلا الموقفين شجاعاً حكيماً.
" (جاء يمشي إلى الملك).. لم تؤثر محنته على منهجه.. لم يحدث التصرف الذي غالباً ما يتصرفه بعض الدعاة بعد أن يعيشوا مرحلة من مراحل الخطر.. يخرجون من هذا الخطر وقد قرروا تفاديه في كل مواقفهم.. ويصبح هذا القرار أساساً في تحديد تصور جديد ومنهج جديد.
" لم يفعل الغلام ذلك بل عاد متمسكاً بمنهجه بصورة كاملة ودقيقة.. عاد إلى نفس النقطة التي كان عليها.. نفس الموقف الذي كان فيه.. موقف المواجهة مع الملك.. فقد تحقق للغلام إمكانية تلك المواجهة فلا يجوز التراجع ولا حتى التأجيل" .
ولاحظ عبارة: ( وجاء يمشي إلى الملك)، ليس فقط بما توحيه من معاني التحدي والاستمرار على طريق الدعوة، بل كذلك ما سيؤديه مجيؤه ماشياً وعودته سالماً، بعدما ذهب به رجالات الملك إلى الجبل ثم إلى البحر، في زفة إعلامية، يسير فيها بين جماهير المملكة، من تعزيز معاني بشرية الملك وعجزه، في مقابل قدرة الله تعالى المحيي المميت والشافي، ونصرته للغلام وأحقية الدين الذي يدعو إليه.. "فالله الشافي.. والله الكافي.. والله المحيي المميت.. حقائق لم يرددها الغلام كقضايا جدلية وكلامية، ولكنه ذكرها كحقائق نهائية ثابتة في واقع قائم بحيث لا يمكن ردها أو حتى مناقشتها" .
(فدفعه إلى نفر من اصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر. فان رجع عن دينه والا فاقذفوه. فذهبوا به. فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت. فانكفات بهم السفينة فغرقوا. وجاء يمشي الى الملك. فقال له الملك: ما فعل اصحابك؟ قال: كفانيهم الله.)، هل شك الملك أن الغلام قد أفلت من أصحابه في طريق الجبل، لأنه ذهب "براً"، ما يعني أنه إن قدر على النجاة في البر فليس بمكنته أن ينجو من البحر؟ أم تراه يظن أن قدرة الله تعالى تتخلف عن الفعل في البحار، حيث يظن هو أن قوة الله تعالى مثل قوتهم وربما أقل وأضعف؟ بل نرى هذا وأمثاله، لقلة إيمانهم وعمى بصائرهم، يرون الآيات البينات ويظلون في غيهم سادرين، كما لحق فرعون بموسى وهو يجوز البحر، ومن قبل تعامى عن آيات الله الكبرى.
استوقف الكاتب في الحديث الشريف قول الملك (اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر)، وبعد دعاء الغلام يتابع الرسول عليه الصلاة والسلام: (فانكفات بهم السفينة فغرقوا)، وكان الكاتب لاحظ أن عدداً من الشراح وأصحاب المعاجم يذكرون بأن القرقور هو السفينة الطويلة، وكان السؤال لماذا يصف الرسول عليه السلام الشيء نفسه مرة باسم القرقور ومرة باسم السفينة، ثم بدا لي أن أبحث عن معنى القرقور في الشبكة العنكبوتية، فإذا هو" قفص حديدي على شكل قبة من الأسلاك قاعدته مستديرة بها عصي للمحافظة على صلابتها وحماية القرقور من الانثناء توضع القبه فوق القاعدة المستديرة وتثبت بالأسلاك وفي القبة فتحتان متقابلتان: الأولى لدخول السمك تكون وسيعة في أولها وضيقة في آخرها وتسمى ( الفج )، والفتحة الثانية تسمى باب القرقور ويتم استخراج السمك من هذه الفتحة.
ويعتبر الصيد بواسطة القراقير إحدى طرق الصيد التقليدية المنتشرة فى دول الخليج العربية وتتم عملية الصيد بواسطة القراقير على مدار السنة وهذه الطريقة تستخدم في الأماكن الصخرية أو الطينية أو أماكن تواجد الشعاب المرجانية حيث يصعب استعمال الشباك فيها، ويوضع ثقل أسفل القرقور مهمته تثبيت القرقور في القاع وهو عباره عن حجرين أو أكثر".
إن الذي ألجأ شراح الحديث وأصحاب المعاجم إلى تفسير القرقور بالسفينة، هو السياق الذي يتحدث عن حمل الغلام بالقرقور ثم إلقائه في وسط البحر، لكن معرفة حقيقة القرقور وأنه قفص حديدي ويوضع فيه ثقل من الحجارة لتثبيته في القاع، تفتح لنا آفاقاً جديدة في الفهم، حيث القرقور في السفينة والغلام محبوس بداخله كيلا يهرب، ثم يكون إلقاء القرقور وفيه الغلام في البحر كي يستقر في قاع البحر ولا يكون بإمكانه العوم ولا النجاة.
يقول الملك: (ماذا فعل أصحابك) حيث إنه لا يريد " أن ينسب الأصحاب إليه لأنهم منهزمون أمام الغلام، حتى لا يكون لهزيمته بأصحابه أمام الغلام حساسية تؤثر على ادعاء الربوبية لنفسه فقال: (ماذا فعل أصحابك؟) ولم يقل ماذا فعل أصحابي رغم أنهم أصحابه" .
" (قال الغلام: كفانيهم الله) ولعلنا نلاحظ أن قول الغلام للملك بعد النجاة: (كفانيهم الله).. كان مثل قوله قبل النجاة (اللهم اكفنيهم).
" نفس الكلمة التي قالها عند الضر فوق الجبل، قالها بعد كشف الضر واهتزاز الجبل، بلا زيادة ولا تغيير، فقد ينطلق لسان الإنسان عند الضر بكلمات اللجوء إلى الله والاستغاثة به فإذا ما انكشف الضر تتغير الكلمات والألفاظ ويدخل فيها إحساس الإنسان بنفسه وعمله ويفسر الكشف الإلهي لضره بمجهود بذله أو تصرف تصرفه" .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 01-09-2025, 10:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أصحاب الأخدود... عبر ودروس

أصحاب الأخدود... عبر ودروس (9)

طارق مصطفى حميدة



هاجس الفراعنة ... أن يؤمن الناس




مركز نون للدراسات القرآنية/ فلسطين

(فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وماهو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد. وتصلبني على جذع. ثم خذ سهما من كنانتي. ثم ضع السهم في كبد القوس. ثم قل: باسم الله، رب الغلام. ثم ارمني. فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني).
( إنك لست بقاتلي)، تأكيد بلسان المقال على واقع الحال، فالواقع والتجربة وتكرار المحاولة كلها تؤكد للملك وتجعله يوقن بعجزه عن قتل الغلام، فالغلام يؤكد هذا المعنى لدى الملك ليبني عليه ما بعده.
إن قول الغلام للملك: (إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به)، ثم تحديده الطريقة الوحيدة التي يمكنه من خلالها قتله، هو من قبيل الكرامة للغلام، وإلا فهذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وليس مخرجه الاجتهاد وتحليل المواقف.
( حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟): من جهة فإن شدة رغبة أعداء الدين في القضاء على المؤمنين، توصلهم إلى درجة من الجنون وفقدان السيطرة، والاستعداد للقيام بأي عمل، واتخاذ أي وسيلة، لبلوغ تلك الغاية، ما يجعلهم يقعون في شر أعمالهم ويرتد كيدهم إلى نحورهم، ولذلك يصبحون مسلوبي الإرادة، أسرى الرغبة في التخلص من الدعاة، حتى ليستعدون لأن يكونوا تحت الأمر، حيث يقول الغلام: ( حتى تفعل ما آمرك به، ويرد الملك بكل خضوع: وما هو؟).
إن التعليمات المفصلة التي أملاها الغلام على الملك، واستسلام الملك لها، يظهر مقدار انهيار نفسية الملك، وبلوغه حالة شديدة من العجز عن اتخاذ القرار أي قرار، ومن جهة أخرى وعي الغلام لهذا الواقع واستثماره، بل إن تسلسل الأحداث يظهر أن الغلام هو الذي أوصل الملك إلى تلك الحالة، ومن ثم ضرب ضربته.
إن عجز الكفار عن القضاء على المؤمنين، ويأسهم من إمكانية ذلك، يجعلهم أقرب للاستماع إلى الطرف الآخر، ومن ثم الامتثال لأوامره، فقريش مثلاً، لم تصبح مؤهلة للجلوس على طاولة التفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا بعد أن أيقنت بعجزها عن القضاء على دولته ودعوته، وذلك بعد خيبتها في غزوة الخندق التي تحزب فيها معهم عرب الجزيرة مع اليهود، فإذا كانت عدة قوى مجتمعة لم تقدر على القضاء على المسلمين؛ فإن قريشاً منفردة لا يمكن أن تفعل ذلك، وقد أدرك الرسول عليه السلام ذلك فأخبر أصحابه أن قريشاً لن تغزوهم بعد عامهم ذاك، ولا يضير أن يكون هذا القول وحياً أو بالتحليل، ولذلك كانت رحلة العمرة التي انتهت بصلح الحديبية، حيث أملى الرسول شروطه في الصلح عشر سنين، وأن من أراد من قبائل العرب الدخول في حلفه كان له ذلك، وكانت قريش تحول دون القبائل والقرب من الرسول عليه السلام ودولته، وقد كان هذا الصلح فتحاً مبيناً، أسلم عقبه وفي أقل من عامين، أضعاف الذين آمنوا في تسع عشرة سنة سابقة، كما أدى هذا الصلح إلى فتح مكة، ونتج عنه اعتراف رسمي بدولة الرسول صلى الله عليه وسلم، أفاد منه الرسول في بعث رسله إلى الملوك والأمراء، بينما كان الذي يشغل مفاوض قريش قضايا شكلية من مثل عودة المسلمين عن العمرة في ذاك العام وأدائها في العام التالي، وألا يقبل الرسول من يأتيه مؤمناً من قريش، وكأن الإيمان يحجزه اتفاقية، أو يمنعه وليّ أو مسؤول.
إنه بقدر ما يحرص الفراعنة على إبعاد الدعاة عن الجماهير ومواطن التأثير فيهم، يجب على الدعاة أن يحرصوا على أن يكونوا دائماً قريبين من الناس متواصلين معهم، من أجل توصيل أفكارهم من خلال اللقاءات الجماهيرية وعبر وسائل الإعلام المختلفة، والبحث عن أكثرها جمهوراً وشعبية، وبالتالي تأثيراً وفاعلية، والعمل في المناطق المركزية والعواصم والمدن الرئيسة، ويكفي أن نتذكر بأن الله تعالى قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم في مكة التي كانت أبرز حواضر الجزيرة العربية، والتي يحج إليها العرب كل عام، عدا عن رحلات العمرة المتعددة سنوياً، وبالتالي لم يكن حاجة لأن يتنقل الرسول في الجزيرة لأن وفود القبائل يصلون مكة مراراً كل عام، ويكفي أن يتحرك الرسول بينهم خلال مناسك الحج أو يزورهم حيث يخيمون، ولم يجد الرسول داعياً لمغادرة مكة أو الانتقال منها إلى غيرها حتى التقى بوفد يثرب ثم كانت بيعتا العقبة فالهجرة، علماً بأن اللقاء بهم كان في مكة في موسم الحج.

الغلام الذي يدرك ما يدور في عقل الملك، وما يشغل باله ويحرك سلوكه وتصرفاته، يأمره أن يجمع الناس في صعيد واحد ... ساحة واحدة، كيما تصل الرسالة إلى الجميع صافية نقية، وواضحة جلية في أجلى صورة وأنصعها، وهو يدرك مدى أهمية الجماهير وضرورة الوصول إليها والتواصل معها، يدرك ذلك لكونه داعية صاحب فكرة، يحال بينه وبين الناس أن يظهر الدعوة فيهم، حتى إنه ليحتال ويتخفى من أجل الوصول إليهم ودعوتهم، وهو يدرك أهمية الجماهير كذلك مما يعتقد أن الساحر لقنه إياه، لكن من أجل تعبيدهم للملك.
وكأني بالغلام قد استحضر قصة نبي الله موسى عليه السلام، حين عين موعد اللقاء بالسحرة ? يوم الزينة وأن يُحشر الناس ضحى ?، والملاحظ أن الغلام بذكائه وفطنته، صنع مثل صنيع نبي الله موسى عليه السلام، حيث قد استغل كلاهما قدرات خصومه وإمكانياتهم في حشد الجماهير لنصرة دينه وأهدافه السامية، فالملك بسلطاته أقدر على جمع الجماهير.

( فجمع الناس في صعيد واحد. وصلبه على جذع. ثم أخذ سهما من كنانته. ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله، رب الغلام. ثم رماه فوقع السهم في صدغه. فوضع يده في صدغه في موضع السهم. فمات. فقال الناس:آمنا برب الغلام. آمنا برب الغلام. آمنا برب الغلام):
ومن جهة أخرى، فإن هذه التعليمات المفصلة والتزام الملك بها تهدف إلى إظهار وتأكيد أن ليس للملك أي قدرة على الإماتة، ذلك أن الكنانة كنانة الغلام، والسهم سهمه، سيأخذه الملك من كنانته، ثم سيقول الملك: ( باسم الله رب الغلام) فيقع السهم في صدغ الغلام: بين عينه وشحمة أذنه، والموضع ليس مقتلاً، ثم يضع الغلام يده في صدغه في موضع الجرح فيموت، فإذا الجماهير المجتمعة تصرخ بصوت واحد: ( آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام).

لقد ظن الملك أنه بقتل الغلام تنحل مشكلته ويرتاح من إزعاجه وتنتهي بموته دعوته، ونسي أنه ليس أفعل ولا أقوى من الدم والشهادة ومواقف التضحية والفداء في إذكاء الثورات وتحريك الجماهير، وتفجير براكين غضبها. وهنا وفي اللحظة التي ظن الملك فيها أنه قد ارتاح من الغلام ودعوته بقتله، إذ بهذه الدعوة بعدما كانت حركة فردية خجولة متناثرة، إذ بها تتحول حركة شعبية جماهيرية عارمة، متحدية غاضبة.
لكن ما الذي جعل هذه الجماهير تؤمن بهذا الشكل الجماعي؟
لقد أيقن هؤلاء أن الله تعالى هو وحده المحيي المميت، وليس الملك الذي سقطت دعوى ربوبيته، ومن قبل ترسخ لدى الناس أن الله تعالى هو الشافي وليس ساحر الملك، فماذا عساه يبقى للملك يخدع الناس أنه ربهم الذي ينبغي أن يُخضعوا له رقابهم؟.
من الواضح أن هاتين القضيتين في غاية الأهمية من جهة إثبات توحيد الله تعالى، ورد دعاوى الملوك المتألهين، ولذلك رأينا إبراهيم عليه السلام يواجه الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك بقوله: ?ربي الذي يحيي ويميت? ولم يخجل ذاك المأفون من الادعاء بأنه كذلك يحيي ويميت، ثم إن خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يدعو قومه إلى توحيد الله تعالى ونفي الأرباب المزعومة، يؤكد أن ربه سبحانه هو المحيي المميت، بعد أن يؤكد بأنه هو الذي يشفيه إذا ما مرض: ? وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين?.
وما زلنا في العوامل التي أدت إلى الإيمان الجماعي لتلك الجماهير، والتي منها التضحية في سبيل الدين، والثبات عليه، والاستشهاد في سبيله، من قِبل الراهب والجليس والغلام، حيث تترسخ قيمة الإيمان في النفوس وأنه أغلى من الحياة ذاتها حتى لتطيب التضحية بالحياة لأجله.
ولا ننسى سيرة الغلام من حين قتل الدابة ومضى الناس، ثم حركته بين الناس مداوياً وداعياً، حيث إن الجليس لم يكن الوحيد الذي آمن مع الغلام في السابق، لكن تسليط الضوء على إيمانه دون غيره لأنه كان السبب في أن تتطور الدعوة باتجاه الاصطدام بالملك ونظامه، وتداعيات ذلك، ومن المتوقع بل المؤكد إيمان كثيرين ممن كان يعالجهم الغلام من الأدواء المستعصية وغير المستعصية، سواء اشترط عليهم الإيمان أم لم يشترط، ومن الطبيعي أن هؤلاء قد أخفوا إيمانهم، لكنهم أثروا بشكل أو بآخر في دائرة أوسع. كما أن تحول الغلام من ساحر الملك إلى داعية للإيمان مناهض للملك مما يقوي لدى الناس دواعي تصديقه ومتابعته والاقتداء به.
إن هتاف الجماهي آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام) ليشبه قول سحرة فرعون: ? آمنا برب العالمين رب موسى وهارون?، ولعل ذلك كيلا تختلط الأمور ويتزيف الوعي، فالإيمان واضح بالله، وهو خلف قائد واضح معروف، فلا يخدع الناس بالقيادة ولا بالدين، ثم إن القضية ليست قضية إيمان معرفي سلبي مجرد، بل إنه الصراع بين فكرتين وجماعتين وقيادتين، ولا يجوز في حالات الصراع بين الحق والباطل أن يكون ثمة أدنى خلط أو لبس، ومن هنا أيضاً كانت شهادة الدخول في الإسلام تتضمن أن محمداً رسول الله بعد شهادة أن لا إله إلا الله، أي على طريقة محمد صلى الله عليه وسلم في الإيمان، وخلفه في الحركة والاتباع.

( فأُتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس):
إنهم يقسمون بالله: ( قد والله نزل بك حذرك) .. فاسم الله تعالى لم يكن مجهولاً لديهم، وكان لديهم شيء من الإيمان لكن هذا الإيمان ليس هو الذي يحرك الحياة، ويوجه الأحياء.
واللافت أن المحيطين بالملك مع أنهم وإياه في ذات المركب، يشاركونه الحذر من الإيمان والحرب ضد المؤمنين، فلم يقولوا قد وقع بنا حذرنا، بل جعلوه كأنه هو الذي تلقى تلك الهزيمة وحده، وربما لمزيد التحريض ضد المؤمنين، أو لأنهم أحسوا بأن الواقع أكبر منهم ومن الملك، ولعلهم قد نفحتهم ريح الإيمان التي هبت على المكان ومن فيه.
إن هذا القول من المحيطين بالملك ( أرأيت ما كنت تحذر.. قد والله نزل بك حذرك)، يظهر المحرك الحقيقي الذي يوجه أكثر سياسات الأنظمة الفرعونية وخططها وسلوكاتها ومكائدها وقراراتها، إن لم يكن جميعها، وهو ألا يصبح الإيمان بالله تعالى أمراً عاماً وجماعياً، إنه (الحذر الدائم من إيمان الناس)، ولذلك يحال بين الدعاة وبين الوصول إليهم، وتشوه صورة الدعاة لديهم، ويلاحقون ويطاردون ويسجنون، وتسجل عليهم حركاتهم وسكناتهم، وتتخذ كل التدابير الوقائية كيلا يقع هذا المحذور، وتُفصّل القوانين لهذه الغاية.
ثم حين يؤمن الناس، ولا بد أن يؤمنوا، وقد أبى الله تعالى إلا أن يظهر دينه ويتم نوره، فإن الفراعنة وأزلامهم يضربون أخماساً بأسداس، ويشقون الجيوب ويلطمون الخدود، وتصدر مانشيتات صحافتهم متحدثة عن وقوع " زلازل" أو "براكين" انتخابية كلما اختارت الجماهير القادة الإسلاميين في الانتخابات.
وحين يقول رجال الملك له إنه قد نزل به حذره، فهذا يعني أنه كان يشن حرباً شديدة شعواء ضد الدين وأهله، وأنه كان يمارس نشاطاً دؤوباً في " تجفيف منابع التدين"، وبإمكاننا أن نفسر ما الذي يجعل الراهب يترهبن ويعتزل بدينه بعيداً عن الناس، كما نتفهم سر تحذير الراهب للغلام أن يكشف السر للساحر أو أهل الغلام، ومن ثم تنبيهه ألا يدل عليه إذا ابتلي.
والآن، ومن خلال ما يطلق عليه تفسير القرآن بالسنة النبوية ودون اللجوء إلى الإسرائيليات وأحاديث القصاص، نصبح أقدر على تفسير "الحذر" في قوله تعالى في سورة القصص: ? ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون?، وأن الذي كان يحذر منه فرعون وجنوده، هو هو الذي كان يحذره الملك في قصة أصحاب الأخدود، وهو الإيمان الذي يحرر الناس من عبودية الفرعون بل يجعلهم في مواجهته، وبالذات الإيمان الجماعي، وقد أرى الله تعالى فرعون إيمان السحرة وتحدوه قائلين:? آمنا برب العالمين رب موسى وهارون?.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 01-09-2025, 10:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أصحاب الأخدود... عبر ودروس

أصحاب الأخدود... عبر ودروس (10)

طارق مصطفى حميدة


اصبري ... فإنك على الحق




مركز نون للدراسات القرآنية/ فلسطين

( فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخدت وأضرم النيران، وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق).
لقد جن جنون الملك وفقد السيطرة نهائياً، حيث يأمر بالأخاديد أن تخد وتضرم فيها النيران، ثم يؤتى بالمؤمنين إلى الأخاديد المضطرمة الملتهبة يساومون بل يهددون بالقتل حرقاً إن لم يرجعوا عن دينهم فمن لم يرجع يلقيه الجنود في النار أو يأمروه بالاقتحام وهذه أشد على النفس من الأولى.
والملاحظة الأولى هي حالة الجنود الذين يرون كل هذه المشاهد والآيات ويظلون كأنهم مسلوبو الإرادة، أو أنهم لشدة ولائهم ومصالحهم مع النظام يفقدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم حتى لتراهم مستعدين دائماً للقيام بما لا ينبغي القيام به مهما بلغت درجة الجريمة وشدة القبح.
والأمر الثاني تكرر عبارة ( الرجوع عن الدين كشرط للبقاء على الحياة)، حيث لا تطيق الأنظمة الفرعونية من يتخذ إلها غير الحاكم الأعلى، وما يتضمنه ذلك من مشاعر انتقام عالية جداً لدى هذه الأنظمة، فهي من جهة لا تقبل ببقاء المؤمنين على قيد الحياة، وهي من جهة تختار لقتلهم أشد الطرق إيلاماً وبشاعة ولاإنسانية من مثل الشق بالمنشار والتحريق وتذبيح الأطفال، ومن جهة ثالثة لا يضيرها أن يكون هؤلاء الذين تقتلهم أفراداً أو شعوباً، آحاداً أو ألوفاً أو ملايين، ورابعاً التلذذ الذي يصاحب التقتيل والتحريق حيث يكونون شهوداً على تلك الجرائم فيستمتعون بمشاهد المؤمنين يتلظون بالنيران وبأصوات الصراخ والألم، ورائحة اللحوم المحترقة للآدميين.
وثالثة الملاحظات أن تخيير المؤمنين بين ترك الإيمان أو إلقاء أنفسهم في النار، هو عذاب فوق العذاب، والأهون على المؤمن أن يلقيه عدوه فيها حتى لا يكون كأنه هو الذي يقتل نفسه.
وحين يختار النبي صلى الله عليه وسلم لختام القصة تلك المرأة وابنها، فكأنه يقول لنا إن هذا الإيمان الجماعي، ومن بعده تلك التضحية والبطولة الجماعيتان، لم تكن فعل جماعة من الرجال فقط، بل كان فعل مجتمع مؤمن برجاله ونسائه وأطفاله.
وحين يختار النبي صلى الله عليه وسلم هذا الختام، بما يسمى في الفن والأدب: النهاية المفتوحة، فإنه أولاً يؤكد للسامعين والقراء أن المعركة لم تنته بالتحريق في الأخاديد، وأن الذي وقع للمؤمنين هو انتصار مؤزر أدركه حتى ذلك الغلام، وأن النهاية ليست هي التي أرادها الملك بإنهاء الإيمان، إن المعركة الحقيقية ليست بقاء المؤمنين على الحياة أو موتهم، بل هي ثباتهم على الإيمان أو رجوعهم عنه، وحيث قد ثبتوا على إيمانهم وهو الحق، ولم ينصاعوا للملك بالرجوع عنه، فإنهم هم المنتصرون وهو الذي حاقت به الهزيمة.
وفي سورة البروج ما يوحي بأن هناك من تاب حتى من أعوان الملك وجنوده، وذلك في قوله تعالى: )إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق(، فالآية من جهة تخبر عن حدث ماض فيه جماعة فتنت المؤمنين، ثم هي تتوعد الذين لم يتوبوا منهم، ما يشي بوجود قسم من التائبين، وهذا أمر متوقع، فأولاً إن مشهد البطولة الجماعي يحرك القلوب والمشاعر ويوقظ العقول، ثم إن الضغوط لا تبقى بالشدة نفسها ولا بالثقل ذاته على هؤلاء الأشخاص فإذا بهم يتحينون الفرصة كي يتخلصوا من عذابات الضمير، ويكفروا عن جريمتهم.
وفي رواية الإمام أحمد (فجاءت امرأة بابنٍ لها ترضعه)، وهو ما لم يرد في رواية الصحيح، ويخالف حديثاً آخر للرسول عليه السلام أنه لم يتكلم في المهد غير ثلاثة، ليس منهم صبي قصة الأخدود، فإننا نرى القول بأن الغلام كان مميزاً، ولعل ما أورده الإمام أحمد كان إدراجاً من أحد الرواة، ولا داعي للظن بأن مثل هذا القول من الصغار لا يكون إلا بمعجزة خارقة، فإن الأحداث الجسام التي تمر بالأمم والتحديات العظام التي تواجهها، تنضج الصغار وتنطقهم وتجعلهم أحكم من الحكماء وأفصح من كبار القادة العظماء، ويكون لهم مواقف وسلوكت يعجز عنها الكبار والأبطال.
واللافت أن الرسول عليه السلام قد استخدم في وصف الصغير لفظ ( صبي) ثم لفظ (غلام)، والغلام أكبر وهو الذي قارب البلوغ، والصبي أصغر منه، وكأن الرسول عليه السلام بعدما أشار إلى صغر عمره أراد أن يلفت إلى أن كلامه كلام الكبار، وقد رأى الناس في فلسطين، على سبيل المثال، للصغار خلال انتفاضة 1987، وانتفاضة الأقصى وغيرهما الكثير من الأمثلة، المؤكدة لما نقول.
" إن الناس إذا تجردوا لله وعرفوا الحق وأرادوا أن يثبتوا عليه فإن الله يثبتهم بأشياء من عنده ليست من عندهم، يمدهم الله بطاقات جديدة، هذه المرأة ما كانت تتوقع أن ينطق الغلام بهذه العبارة المثبتة ( يا أمه! اصبري فإنك على الحق )" ، ولنا أن نتخيل العديد من الخواطر والإيحاءات والمشاهد والرؤى والمواقف التي أدت إلى تثبيت تلك الجموع المؤمنة في تلك الظروف العصيبة.
لقد بدأت القصة بملك يريد أن يستمر حكمه الفرعوني القائم على القهر والزيف والخداع، وانتهت بغلام يقول لأمه: اصبري، وكأن الملك هو الماضي الآفل، والدين وأهله هم المستقبل القادم.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 167.00 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 161.15 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (3.51%)]