التعليقات العارفية على الحديث المسلسل بالأولية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 799 - عددالزوار : 118104 )           »          شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 56 - عددالزوار : 39984 )           »          التكبير لسجود التلاوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          زكاة التمر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          صيام التطوع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          كيف تترك التدخين؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          حين تربت الآيات على القلوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3096 - عددالزوار : 366431 )           »          تحريم الاستعانة بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          فوائد ترك التنشيف بعد الغسل والوضوء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 30-06-2025, 12:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,175
الدولة : Egypt
افتراضي التعليقات العارفية على الحديث المسلسل بالأولية

التعليقات العارفية على الحديث المسلسل بالأولية

د. محمد عارف الأركاني

الحمد لله الذي تسلسلت علينا رحماته وتتابعت نعماته، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحابته الرحماء المرضيين.

قال الفقير إلى الله العزيز الحميد الغني محمد عارف بن فاروق أحمد بن عبدالقادر الأركاني ثم المدني: إن الحديث المسلسل بالأولية أرويه عن شيخي وأستاذي الشيخ أحمد جابر جبران أبي علي اليمني ثم المكي رحمه الله تعالى، وهو أول حديث أجازني به بمنزله بمكة المشرفة سنة ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة، وهو يرويه عن مشايخ كثيرين؛ منهم: الشيخ حسن بن محمد المشاط المكي، والشيخ محمد نور سيف المكي، والشيخ علوي بن عباس المالكي، والشيخ محمد ياسين الفاداني، قال: وهو أول حديث سمعته منهم، قالوا: حدثنا به شيخنا عمر حمدان المحرسي، وهو أول حديث سمعناه منه، عن العلامة الشيخ فالح بن محمد الظاهري، قال: وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا به شيخنا الأستاذ محمد بن علي السنوسي الخطابي وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثنا أبو حفص عمر العطار، وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عبدالبر الونائي وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا البرهان إبراهيم بن محمد النمرسي وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثنا الإمام عيد بن علي النمرسي وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثنا الإمام عبدالله بن سالم البصري وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثنا الشمس محمد البابلي وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثنا الشهاب أحمد بن محمد الشلبي وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا الجمال يوسف بن زكريا الأنصاري وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا البرهان إبراهيم بن علي القلقشندي وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد المقدسي الشهير بالواسطي وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا الخطيب صدر الدين محمد بن محمد الميدومي وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثنا النجيب عبداللطيف بن عبدالمنعم الحراني وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثنا الحافظ أبو الفرج عبدالرحمن بن الجوزي وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثنا أبو سعد إسماعيل بن أبي صالح النيسابوري وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثنا والدي أبو صالح أحمد بن عبدالملك المؤذن وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال البزاز وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثنا عبدالرحمن بن بشر بن الحكم العبدي وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثنا سفيان بن عيينة وهو أول حديث سمعته منه، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبدالله بن عمرو بن العاص، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"؛ رواه أبو داود والترمذي واللفظ له وأحمد والحاكم وغيرهم، وهو حديث صحيح.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل تلك السلسلة بمنِّه وكرمه.

التعليقات:
وفي هذا المقام أراني في حاجة إلى بعض التعليقات والتوضيحات حول سند هذا الحديث الشريف ومتنه ومضمونه.

التعليق الأول: تعريف بالحديث المسلسل:
قال الإمام النووي (ت 676هـ): "المسلسل: هو ما تتابع رجال إسناده على صفة أو حالة للرواة تارة وللرواية تارة"[1].

فالحديث المسلسل هو الحديث الذي يروى على حالة مخصوصة ونمط معين.

والتسلسل من لطائف الإسناد. قال الإمام أبو عمرو ابن الصلاح (ت 643هـ): "ومن فضيلة التسلسل اشتماله على مزيد الضبط من الرواة"[2]. فمن فوائد المسلسل اشتماله على الدلالة على أن رواته اتسموا بزيادة العناية بضبط الرواية. وقد صنفت في الأحاديث المسلسلة كتب عديدة، منها المسلسلات المختصرة للحافظ صلاح الدين العلائي (ت 761هـ)، والجواهر المكللة في الأحاديث المسلسلة لشمس الدين السخاوي (ت 902هـ) وجياد المسلسلات للإمام السيوطي (ت 911هـ)، والمناهل السلسلة في الأحاديث المسلسلة للشيخ محمد عبدالباقي الأيوبي الأنصاري (ت 1364هـ). وكذلك أفردت أجزاء بالحديث المسلسل بالأولية، منها الجزء المسلسل بالأولية والكلام عليه لعلاء الدين علي بن إبراهيم بن داود العطار (ت 724هـ)، والعروس المجلية في أسانيد الحديث المسلسل بالأولية لصفي الدين محمد بن أحمد البخاري (ت 1200هـ).

حديث الرحمة هذا حديث صحيح معروف، وقد ورد بأكثر من إسناد، لكنه باعتبار الإسناد الذي في هذا السياق يتميز بأنه مسلسل بالأولية بمعنى أن معظم رجال إسناده تلقوه عن شيوخهم باعتباره أول حديث تلقوه عنهم؛ فهو يندرج في نوع المسلسل بصفة الرواية والتحمل. والحرص على رواية هذا المسلسل وجعله أول حديث تحديثًا وتلقيًا حفاظ على تسلسله وتميزه بهذه اللطيفة، وإن كانت روايته كأي حديث سائغة ومباركة مطلقًا من دون تقييد بالأولية.

ويا له من شرف لمسلم أن يكون متصل السند برسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بحديث واحد.

ولا يبعد من واسع رحمة الله تعالى وعظيم إحسانه إن اعتنينا بهذا الحديث الشريف عملًا ونشرًا أن يرحمنا ويغفر لنا وينجينا من النار.

التعليق الثاني: توضيح أسماء بعض رجال الإسناد:
عمر حمدان المحرسي: نسبة إلى المحرس: بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الراء، آخره سين مهملة: مدينة في تونس، وكان مدرسًا في المسجد الحرام بمكة المكرمة، توفي في المدينة المنورة عام 1368هـ.

أبو الحسن علي بن عبدالبر الونائي: نسبة إلى وناء-كسحاب-: قرية بصعيد مصر الأدنى.

الشمس محمد البابِلي: نسبة إلى بابل، بكسر الباء الموحدة الثانية، قرية بمصر من أعمال المنوفية.

صدر الدين محمد بن محمد الميدومي: نسبة إلى ميدوم: قرية من أعمال البهنساوية في مصر[3].

أبو الفرج عبدالرحمن بن علي الجوزي: هو ابن الجوزي المعروف.

النيسابوري: نسبة إلى نيسابور، والصواب أنه بفتح النون[4].

أبو طاهر محمد بن محمد بن مَحْمِش الزيادي: محمش: بفتح الميم الأولى وكسر الثانية، بينهما حاء مهملة ساكنة، وآخره شين معجمة، كمجلس. والزيادي: بكسر أوله وفتح المثناة تحت المخففة، وبعد الألف دال مهملة مكسورة، نسبة إلى محلة كان ينزلها من نيسابور، تسمى ميدان زياد بن عبدالرحمن[5].

أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال البزَّاز: بالزاي المكررة[6].

أبو قابوس: غير منصرف للعجمة والعلمية.

التعليق الثالث: حال التسلسل في هذا الإسناد:
انتهى التسلسل بالأولية فيه إلى سفيان بن عيينة. قال شمس الدين ابن الجزري (ت 833هـ): "الصواب أن التسلسل فيه من سفيان بن عيينة إلى آخر السند منقطع، ومن رفع تسلسله بعده فقد غلط"[7]. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ): "وقد يقع التسلسل في معظم الإسناد؛ كحديث المسلسل بالأولية؛ فإن السلسلة تنتهي فيه إلى سفيان بن عيينة فقط، ومن رواه مسلسلًا إلى منتهاه فقد وهم"[8]. قال الحافظ تقي الدين بن فهد (ت 871 هـ): "وأظن أن الوهم فيه من الحميدي أو الصيمري المذكورين في سنده"[9]. قال الإمام السيوطي: "... فإنه انتهى فيه التسلسل إلى سفيان بن عيينة، وانقطع في سماع سفيان من عمرو بن دينار، وانقطع في سماع عمرو من أبي قابوس، وفي سماع أبي قابوس من عبدالله بن عمرو، وفي سماع عبدالله من النبي صلى الله عليه وسلم (على ما هو الصحيح فيه)، وقد رواه بعضهم كامل السلسلة فوهم فيه"[10].

التعليق الرابع: تخريج الحديث:
أخرجه أبو داود في سننه[11]، بلفظ: "ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء"، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن أبي داود[12]. وأخرجه الترمذي في سننه[13] بلفظ: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، وزاد في آخره: "الرحم شِجْنة من الرحمن، فمَنْ وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله"، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي[14]. وأخرجه أحمد في مسنده[15]، بلفظ: "ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء"، وفي آخره زيادة بلفظ: "والرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصلته ومن قطعها بتته"، وذكر أحمد شاكر في تحقيقه للمسند أن إسناده صحيح. وأخرجه الحاكم في مستدركه بمثل لفظ أحمد، وفي آخره زيادة كزيادة الترمذي، وصححه ووافقه الذهبي[16]. وأورده الذهبي في كتاب العلو بلفظ: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، ثم قال: "وأخرجه أبو داود والترمذي وصححه، تفرد به سفيان"[17]، وقال في معجم الشيوخ: "هذا حديث صحيح"[18]. وقال العراقي (ت 806هـ): "هذا حديث صحيح"[19]. وكلهم من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس عن عبدالله بن عمرو بن العاص مرفوعًا.

قال شمس الدين السخاوي: "أخرجه البخاري في تصنيفيه الكنى والأدب المفرد"[20]. قال عنه الشيخ محمد ياسين الفاداني (ت 1410هـ): "قوله: (والأدب المفرد) سبق قلم؛ إذ لم يكن فيه هذا الحديث"[21]. وقال أيضًا: "فنسب تخريجه للبخاري في الأدب المفرد، وهو غير صحيح؛ إذ ليس فيه أصلًا بلفظه، إلا أن يراد بمعناه"[22].

التعليق الخامس: تحقيق لفظ الحديث:
يلاحظ عند بعض من أورد هذا الحديث زيادة لفظ (تبارك وتعالى) عقب لفظ (الرحمن)، ولكن هذه الزيادة ليست جزءًا من الحديث، وفي ذلك قال ابن الطيب (ت1170هـ): "والتنزيه وهو (تبارك وتعالى) سمعناه من جميع من روينا عنه، وأسقطه ناس كثيرون؛ منهم: الشمس ابن الجزري [ت 833 هـ] في عقود اللآلي في الأحاديث المسلسلات والعوالي، والجلال السيوطي في جياد المسلسلات"[23]. وقال الشيخ محمد عبدالباقي الأيوبي الأنصاري: "هكذا سمعناه من جميع مشايخنا بزيادة لفظ (تبارك وتعالى)، وأسقطه ابن الجزري والسيوطي ومحمد عابد السندي [ت 1257هـ] وغيرهم، والأصل أنه ليس من الرواية في شيء، وإنما الأدب كتابة الثناء على الله تعالى عند ذكر اسمه، نحو: عز وجل، وتبارك وتعالى، وجل وعلا، سواء كان ثابتًا في أصل سماعه أو لا، ويتلفَّظ به القارئ؛ لأنه ثناء يثنيه لا كلام يرويه... ومن العلماء من يرى التقييد في ذلك بالرواية فيكتفي بذكره لفظًا من غير أن يكتبه في الأصل إلا عند ثبوته روايةً"[24].

ولم أجد هذه الزيادة في كتب الحديث التي سبقت في التخريج، وكذلك في مسلسلات الإمام محمد بن مسعود الكازروني (ت 758هـ) والمسلسلات المختصرة للحافظ صلاح الدين العلائي (ت 761هـ) وغيرهما.

لفظ الحديث (يرحمكم) بالجزم على جواب الأمر، هكذا وجدت في كتب الحديث المتقدمة في التخريج ومسلسلات الكازروني ومسلسلات العلائي وجياد المسلسلات للسيوطي وغيرها. والشيخ أبو الحسن السندي (ت 1138هـ) في حاشيته على مسند أحمد[25] أجاز الرفع، قال: "(يرحمكم) بالجزم على جواب الأمر، ويمكن الرفع على الاستئناف بمنزلة التعليل، على معنى: يرحمكم إن رحمتم".

وقال ابن الطيب: "(يرحمكم): رويناه بالجزم في جواب الأمر عن المتقنين، وبالرفع استئنافًا أو دعاءً عن كثير من الشيوخ، وجزم جماعة بأن الجزم هو الرواية؛ فيقتصر عليه؛ إذ لا يحتاج إلى الاستئناف والدعاء إلا بعد ثبوت الرفع روايةً، وهو غير ثابت كما نصوا عليه"[26].

ولكن الشيخ هبة الله التاجي (1224هـ) حكى رجحان الرفع، قال: "وهو بالرفع على الاستئناف البياني، كأنه قيل: إذا رحمنا من في الأرض ما يكون لنا، أو ما يحصل لنا؟ فقيل لهم: يرحمكم من في السماء. وقال ابن قاسم: مرفوعة على الدعاء...وبالجزم في جواب الأمر. والذي أخذناه عن مشايخنا بالوجهين، ومقتضاه أن الجزم رواية لكن صرح النجم الغزي [ت 1061هـ] في البدور السائرة[27] في ترجمة الشيخ محمود بن أحمد البيلوني الحلبي بأنه أملاه بالرفع على أنه جملة دعائية، ثم قال: كذلك أفادنا شيخنا العمادي [ت 954هـ]، وقال: إن الرواية بالرفع لا بالجزم على أنه جواب الأمر"[28].

وتبعه الشيخ محمد زاهد الكوثري (ت1371هـ) وصرح برجحان الرفع، قال: "والرفع أقوى من الجزم روايةً وأبلغ درايةً"، ثم قال: "وفي (مزيد النعمة في حديث الرحمة) لهبة الله التاجي تفصيل ما يتعلق بهذا الحديث روايةً ودرايةً"[29].

وقال ابن عابدين (ت 1252هـ): "قال العلامة أبو الفتوح علي بن مصطفى الميقاتي الدباغ [ت 1174هـ] في رسالة له متعلقة بهذا الحديث أن (يرحمكم) مجزوم على أنه جواب الأمر، قال: هكذا ضبطه البدر الزركشي [ت 794هـ] في تذكرته عن جزء ابن الصلاح، ثم نقل كلام النجم الغزي وأن الرواية بالرفع، ثم قال: قلت: شواهد الحديث تقتضي الجزم. والله تعالى أعلم". ثم قال ابن عابدين: "وقال شيخنا العلامة الشيخ محمد الكزبري [ت 1262هـ]: وجزم بعض المسندين المتقنين بأن الجزم في جواب الأمر هو الرواية، ومن أجاز فيه الرفع على الاستئناف أو الدعاء إنما يتم له لو ثبت رواية، وهو لم يثبت كما تلقينا عن المشايخ العظام"[30].

وقال الشيخ محمد ياسين الفاداني (ت1410هـ): " (يرحمكم) بالجزم كما هو الرواية، وأما الرفع فلم يثبت كما نصوا عليه"[31].

ولم أجد للرفع أصلًا في رواية الحديث من خلال ما وقفت عليه من كتب الحديث وأقوال المتقدمين، والذي وجدت فيها هو كما أسلفت وجه الجزم فقط. والله تعالى أعلم.

التعليق السادس: معاني بعض ألفاظ الحديث:
(من في الأرض) المراد به (أهل الأرض) كما في الرواية الأخرى.

قال شرف الدين الطيبي (ت 743هـ): "أتى بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق؛ فيرحم البر والفاجر، والناطق والبهم، والوحوش والطير"[32]. وفيه إشارة إلى أن إيراد (من) لتغليب ذوي العقول لشرفهم على غيرهم أو للمشاكلة المقابلة بقوله: (يرحمكم مَن في السماء).

(من في السماء)؛ أي: الله تعالى[33]. المراد به الله تعالى، وهذا هو المتبادر، وهو الذي يشير إليه صدر الحديث[34]؛ ولذلك أورد الذهبي هذا الحديث في كتاب العلو، كما سبق في التعليق الرابع.

ولفظ (في السماء) على هذا المعنى يكون من قبيل المتشابه، وله علاقة بقوله تعالى: ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ﴾ [الملك: 16]، فلنستعرض أولًا المراد بلفظ ﴿ مَنْ فِي السَّمَاءِ ﴾ في الآية.

قوله تعالى: ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ﴾: قال ابن عباس: أي الله[35]. أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ﴾ قال: الله تعالى[36].

وقال الألوسي: "﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ﴾ وهو الله عز وجل كما ذهب إليه غير واحد...، أو هو غيره عز شأنه، وإليه ذهب بعضهم، فقيل: الملائكة عليهم السلام الموكلون بتدبير العالم، وقيل: جبريل عليه السلام، وهو الملك الموكل بالخسف. وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره تعالى، والآية عندهم من المتشابه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "وآمنوا بمتشابهه"؛ [مستدرك الحاكم: 2057، صحيح الإسناد]، ولم يقولوا أولوه؛ فهم مؤمنون بأنه عز وجل في السماء على المعنى الذي أراده سبحانه مع كمال التنزيه... وفي فتح الباري للحافظ ابن حجر: أسند اللالكائي [ت 418هـ] عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير. وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل "[37].

فلفظ ﴿ فِي السَّمَاءِ ﴾ في هذه الآية والتي بعدها معلوم معناه من حيث اللغة العربية، ولكن مجهولة كيفيته، فهو من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها؛ أي: حقيقتها إلا الله عز وجل.

وهذا المعنى يصدق أيضًا على لفظ (من في السماء) في الحديث.

"قال ابن الصلاح [ت 643هـ] في إملائه: في هذا الحديث وأشباهه فرق ثلاث: فرقة تؤول، وأخرى تُشبِّه، وثالثة ترى أنه لم يطلق الشارع مثل هذه اللفظة إلا وإطلاقها سائغ وحسن، فنقولها مطلقة كما قال مع التصريح بالتقديس والتنزيه والتبرِّي من التحديد والتشبيه، ونتلهى عنها فلا نهتم بشأنها ذكرًا ولا فكرًا، ونَكِل علمها عند من أحاط بها وبكل شيء خبرًا، وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وسادتها، وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه، ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها..."[38].

وفي هذا المعنى ما ذكره ابن تيمية (ت 728 هـ)، قال: "... فإنه قد روي من غير وجه أن سائلًا سأل مالكًا عن قوله: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، كيف استوى؟ فأطرق مالك حتى علاه الرُّحَضاء[39]، ثم قال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء. ثم أمر به فأخرج". ومثل هذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك. وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفًا ومرفوعًا، ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه. وهكذا سائر الأئمة قولهم يوافق قول مالك في أنا لا نعلم كيفية استوائه كما لا نعلم كيفية ذاته، ولكن نعلم المعنى الذي دل عليه الخطاب، فنعلم معنى الاستواء ولا نعلم كيفيته، وكذلك نعلم معنى النزول ولا نعلم كيفيته، ونعلم معنى السمع والبصر والعلم والقدرة ولا نعلم كيفية ذلك، ونعلم معنى الرحمة والغضب والرضا والفرح والضحك ولا نعلم كيفية ذلك"[40].

وقيل: المراد بلفظ (من في السماء) في الحديث من سكن فيها وهم الملائكة، ورحمتهم للراحمين دعاؤهم لهم بالمغفرة والرحمة؛ كما قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7]. وعلى هذا يكون (من في السماء) من قبيل المحكم[41].

والمراد برواية (أهل السماء): الملائكة؛ أي: يرحمكم الملائكة في السماء بالدعاء بالمغفرة والرحمة. والبعض جعل رواية (أهل السماء) تفسيرًا لرواية (من في السماء).

(الرحم)؛ أي: القرابة[42].

(شِجْنة) بكسر المعجمة وسكون الجيم وبعدها نون، وجاء بضم أوله وفتحه روايةً ولغةً، وأصل الشجنة عروق الشجر المشتبكة... وقوله: (من الرحمن)؛ أي: أخذ اسمها من هذا الاسم، كما في حديث عبدالرحمن بن عوف في السنن مرفوعًا: "وأنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمي". والمعنى أنه أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها؛ فالقاطع لها منقطع من رحمة الله. وقال الإسماعيلي: معنى الحديث: أن الرحم اشتق اسمها من اسم الرحمن؛ فلها به علقة، وليس معناه أنها من ذات الله، تعالى الله عن ذلك[43].

(بتته) من البت، وهو القطع[44].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 117.14 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 115.42 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.47%)]