|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() تأملات في الحج (1) الإحرام سلام واحترام خميس النقيب الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، الحمد لله اصطفى لحج بيته عبادًا، وجعل لهم مواسم وأعيادًا، ووطَّأ لهم على فراش كرامته ودادًا، وهيأ لهم عند بيته المحرم ذكريات وأمجادًا! الحمد لله القاهر فوق عباده فلا يمانع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، والآمر بما يشاء فلا يُراجَع، الحمد لله كتب على نفسه البقاء، وكتب على خلقه الفناء، وقدَّر ما كان قبل أن يكون في اللوح والقلم، وخلق آدم وجعل من نسله العرب والعَجَم، جعل الدنيا دار فناء، والآخرة دار بقاء ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16، 17]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نِدَّ له، ولا مِثْلَ له، مَن تكلَّم سَمِع نطقَه، ومَنْ سكَتَ عَلِم سِرَّه، ومَنْ عاش فعليه رِزْقُه، ومَنْ مات فإليه منقلبه ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227]. ونشهد أن سيدنا محمدًا عبدالله ورسوله، اعتزَّ بالله فاعَزَّه، وانتصر بالله فنَصَرَه، وتوكَّل على الله فكفاه، وتواضَعَ لله فشرح له صدره، ووضع عنه وِزْرَه، ويسَّر له أمْرَه، ورفع له ذكره، وذلَّل له رِقابَ عَدَوِّه، اللهُمَّ صَلِّي وسلِّم وبارك عليك يا رسول الله، وعلى أهلك وصحبك، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين! أيها المسلمون، وراء كل شجرة ثمرة، وخلف كل آية حكمة، ومع كل خطوة دعوة، والمؤمن يسير إلى الله بصدق الإيمان وكمال الإحسان وعين الرحمن، وما أُرسلت الرُّسُل ولا أُنزلت الكتب، ولا فُرضت الفرائض، ولا خُلق الكون إلا للذكر والعبادة، قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]. خذوا عني مناسككم: أيها المسلمون، إن الحج يربطنا بالقدوة الحسنة والأسوة الطيبة، محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم الذي قال: "خذوا عني مناسككم" فالمسلم الذي راح يسأل ويتحرَّى أن يكون حَجُّه وفق الهدي النبوي الكريم، فينوي الحج بإخلاص، ويلبس الإحرام بعناية، ويختار الحصى بدقة، ويتحرَّى الهدي كذلك بفرحة، ويرمي الجمرات بهمة، يرجو ألَّا يَحيد عن هدي نبيِّه، ولا يرجع عن أوامر دينه، ينبغي له كذلك أن يتأسَّى به في حياته كلها، وصدق الله: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163]. رحلة إيمانية: عباد الله، الحج منحة ربانية، ونفحة قدسية، ورحلة إيمانية، تشتاق لها النفوس، وتهفو لها القلوب، وتهوى لها الأفئدة ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37]. الحج رحلة إيمانية: تريح الأبدان، وتزيد الإيمان، وترضي الرحمن، وتُحقِّق الأمن والأمان ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125]. هناك السلام في أبهى صوره، والأمان في أجَلِّ معانيه، فلا يصاد الصيد، ولا يقطع الشجر، ولا يُروَّع الطير، ولا يرد فيه بإلحاد، ولا يروج فيه بظلم: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25]. الحج سمو في الأخلاق: أيها المسلمون، الحج ركن من أركان الدين، وموسم من مواسم المسلمين، وملتقى كل عام للمتقين، تهذيبًا للنفوس، وتطهيرًا للقلوب، ومَحْوًا للذنوب، وغسلًا للأدران، وثقلًا في الميزان، وهو ملتقى اجتماعي، وتعارُف إسلامي، ومنبع إيماني. الحج بركة في الأرزاق، وسمو في الأخلاق، وعلو في الأذواق، تجتمع النفوس المؤمنة على المودَّة والمحبة، وتلتقي الوجوه المتوضئة على الرأفة والرحمة، وتذوب النفوس الطاهرة في الإخلاص والعطاء. الحب المندوب: عباد الله، إنَّ تحمُّل عناء الرحلة، ووعورة الطريق، وبُعْد المسافة، ومشقة السفر، كل ذلك يذوب ويتحوَّل إلى لذَّة، وينقلب إلى فرحة، وينتهي إلى مسرَّة، إنها إيمانيات الحج، وروحانيات البيت، إنه الحب المرغوب، والجمال المحبوب، والأجر المطلوب، في ظل الحرم المكي، وفي رحاب البيت العتيق، وفي حرم الأماكن المطهرة التي شرفها الله تعالى فجعلها مثابةً للناس وأمْنًا، فيها يكون التجلي الرُّوحي، والإشراق النفسي، والتيقُّظ الوجداني، وبهذا الإشراق المتألِّق، والنور المتلألئ، والإشعاع المتقد، تلتقي الأرواح قبل الأشباح، والوجدان قبل الأبدان، والأفئدة قبل الأرصدة. كان بعض الصالحين حينما يشتاق للحج والعمرة يقول: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، طال شوقي إليك، فعَجِّل قدومي عليك، يارب طال شوقي إليك فعَجِّل قدومي عليك، ويسر لنا حجة وعمرة قريبة نحن وأهلنا وأحبتنا وكل مشتاق، لبيك اللهم لبيك، طال شوقي إليك، فعَجِّل قدومي عليك. التوفيق من الله: أخوة الإسلام، الحج رحلة إيمانية بالروحانيات التي تسيطر على مشاعر الحجيج، والإيمانيات التي تمتزج بأحاسيس المريدين، والطمأنينة التي تسكن قلوب الموحِّدين، يتجلَّى كل ذلك عندما يبدأ الحاجُّ بالتفكُّر في هذه الرحلة، يخلص النية لله، ويتحرَّى النفقة الحلال ملبيًا: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". إن الفرح من الله، والسعد من الله، والتوفيق من الله، والخير كله بيد الله: "لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، لا ملجأ ولا منجًى منك إلا إليك، تباركت ربنا وتعاليت". حياة الروح: عباد الله، يبدأ الحاج من الميقات بملابس الإحرام، مغمورًا بالأمن والسلام، صادحًا بالتلبية والإكرام، مقتديًا بالنبي عليه الصلاة والسلام، محترمًا للبيت الحرام، مقدرًا له وضيوفه الكرام، محققًا أغلى وأحلى الأحلام، إنها ملحمة تفصل بين متاع الدنيا وأعراضها، وحياة الروح ونعيمها، وكأن مكان الإحرام فاصل بين المادة والروح، والدنيا والآخرة. يتجه المؤمن نحو البيت العتيق، راكبًا أو راجلًا، أبيضَ أو أسودَ، امرأةً أو رجلًا، وهنا يحرم القلب فيتطهَّر من الرذائل والعيوب، ويتوب من الآثام والذنوب، ويتخلَّص من الضغائن والأحقاد، يرجو الخير لكل العباد، وينتمي لركب الزهَّاد، فلا يكون فيه سوى الله، متمثلًا قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده"، فكما يتجرَّد من ملابس الدنيا وزخرفها، يغسل قلبه بماء الحب والشوق، يغرس فيه بذور الصفح والسماح، راجيًا من ربِّه النجاح والفلاح، يستر نفسه بثوب أبيض، يفيض من نور الحب في الله، ويتلألأ بحق الأخوة في الله. الحج تجرُّد: أيها المسلمون، الإحرام بذلك هو التجرد من كل زينة، فلا فرق بين رئيس ولا مرؤوس، ولا غني أو فقير، فالجميع أمام الله سواء، لا يتفاضلون إلا بالإيمان والإحسان، ولا يتميزون إلا بالتقوى والعمل الصالح! نعم فالحج يقوم على التجرُّد، التجرُّد من ثقلة الأرض، التجرد من زخرف الدنيا، التجرد من مشاغل الحياة، التجرد من مشاكل العمل والبيت والأهل، فقط التجرد لله وحده، وإلا كان طريق الفسق والفاسقين، ونعوذ من ذلك بالله رب العالمين ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24]. فالقلب محل نظر الله، والله عز وجل يغار أن يرى في قلب عبده غيره، فيجب أن يتخلق العبد بأخلاق الله! ويقتدي برسول الله صاحب الخُلُق العظيم ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]. كيف لا؟! عباد الله،كيف لا؟! والذكريات هناك تجوب في القلوب كما تجوب السحب في الفضاء، وتشرق فيها كما تشرق الشمس في السماء. كيف لا؟! وهناك تجد ملحمة الحج تصل الماضي بالحاضر، وتربط الدنيا بالآخرة، وتجد التجارة والعبادة، وتجمع المساجد كلها بالمسجد الحرام، والمسلمين جميعهم بأبيهم الخليل إبراهيم عليه السلام! كيف لا؟! والحاجُّ يتجرَّد من كل شيء دنيوي، متجهًا لجمع أخروي! كيف لا؟! والحاجُّ يلبس ملابس بيضاء بدون مخيط؛ كأكفان الموتى المقبلين على ربِّهم، والقادمين على آخرتهم! كيف لا؟! والحاج يعظم المشاعر من اللحظة الأولى استجابة لأمر صاحب البيت العتيق ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]. كيف لا؟! والحاجُّ سيدخل في الضيافة الروحية في أطهر مكان وأغلى بيت، وأفضل بقعة على وجه الأرض، يستضيف الله فيه عباده المؤمنين الذين جاءوا إليه من مشارق الأرض ومغاربها، من كل حدب وصوب، بالبر والبحر والجوِّ، شعثًا غبرًا، حاسري الرؤوس، نازعين من قلوبهم وأجسامهم كل المظاهر المادية، يتجردون بأرواحهم وينالون شرف الضيافة على تلك المائدة الربانية، وذلك الغذاء الرُّوحي، منقطعين من أهواء الدنيا في حياتهم، وأهوال الحياة في بلادهم، والطبائع الأرضية في نفوسهم، محلقين في الفضاء، متعلقين بأسباب السماء، مقتدين بنبيِّهم متسلحين بالرجاء: "اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها ولا سمعة"، ليتعلموا من نبيِّهم كيف يتخلصون من السمعة والرياء، فالرياء آفة العبادة، وهو الذي يُبْعِدها عن الدرجات العالية، وهو في ذاته الشرك الخفي، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صلَّى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدَّق يرائي فقد أشرك)). كيف لا؟! وهو يلبي النداء، ويرفع الرجاء، ويدعو ربَّ الأرض والسماء: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". إعلان القدوم: عباد الله،هذه التلبية ما هي إلا إعلان للقدوم، واستجابة لأذان الحج ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27]، لتقديم القربات، وتلقي الخيرات، ومَحْو السيئات، وشهود المنافع، والذكر عند ذبح الأضاحي، وإطعام البائس والفقير ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ [الحج: 28]، روحانيات عالية، وإيمانيات سامية، وحسنات وافية، بمجرد دخول الحاجِّ في مقام الضيافة، وانتقاله من دركات الأرض إلى منازل السماء، ومن ضيافة العباد إلى ضيافة ربِّ العباد، ومن أهوال الدنيا إلى ثواب الآخرة، ومن شقاء الحياة إلى عبق الجنة! رحلة مباركة: إخوة الإسلام، إنها رحلة مباركة إلى أماكن مقدسة، في أوقات طيبة، في جموع طاهرة، وعلى قدر الصدق والإخلاص في الرحلة الأولى يكون الأجر والثواب في الرحلة الأخرى. بالإحرام دخل العبد في عبادة الحج، فليكثر التلبية ويجددها عند اجتماع الناس، وعند كل صعود وهبوط، وعند كل ركوب ونزول، رافعًا بها صوته بصورة معتدلة، فإنه لا ينادي أصمَّ ولا غائبًا؛ وإنما ينادي سميعًا بصيرًا، قريبًا مجيبًا، مع التلبية من تكبير عند كل مرتفع، والتسبيح عند كل منخفض، فتلك هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فليتذكر كلُّ حاج هذه المعانيَ عند الإحرام؛ حتى يبدأ النسك على الوجه الأكمل، وعلى النحو الْمُرضي. مساواة ومواساة: عباد الله، إن الإحرام يُعلِّمنا المساواة والمواساة، الكل في لباس أبيض من غير تمييز لأحد على أحد، الغني بجوار الفقير، والوزير جنب الخفير، والأبيض مع الأسود، الجميع سواء أمام عظمة الخالق، ولا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقوي على ضعيف، ولا لغني على فقير، فالمنع هنا قمة العطاء، والحدث أبعد ما يكون عن الفخر والخيلاء، فلا تذهب ملابس الإحرام -على هذه البساطة- بروعة المعنى، ولا تُلقي بحلاوة الرُّوح، ولا تنقص من قدر الحاجِّ ومكانته التي تتجلى أمام الله وفي ضيافته. وادي الفلاح: أيها المسلمون، بهذا التقدير يدخل المسلم وادي الفلاح، وبهذا الاحترام يدخل المؤمن فرح الأرواح، وبهذا الإحرام يوفق إلى كل نجاح، وبهذا الفهم يصل المؤمن إلى كل فلاح. اللهم ارزقنا حجًّا مبرورًا وذنبًا مغفورًا وسعيًا مشكورًا.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() تأملات في الحج (2) "الطواف أطياف وألطاف" خميس النقيب الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، الحمد لله اصطفى لحج بيته عبادًا، وجعل لهم مواسمَ وأعيادًا، ووطِئَ لهم على فراش كرامته ودادًا، وهيَّأ لهم عند بيته المحرم ذكرياتٍ وأمجادًا. الحمد لله القاهر فوق عباده فلا يُمانَع، والحاكم بما يريد فلا يُدافَع، والآمر بما يشاء فلا يُراجَع، الحمد لله كتب على نفسه البقاء، وكتب على خلقه الفناء، وقدَّر ما كان قبل أن يكون في اللوح والقلم، وخلق آدم وجعل من نسله العرب والعجم، جعل الدنيا دارَ فناء، والآخرة دارَ بقاء، ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16، 17]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ندَّ له، ولا مِثْلَ له، من تكلَّم سمع نطقه، ومن سكت علِم سرَّه، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه منقلبه، ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227]. ونشهد أن سيدنا محمدًا عبدُالله ورسوله، اعتزَّ بالله فأعزه، وانتصر بالله فنصره، وتوكل على الله فكفاه، وتواضع لله فشرح له صدره، ووضع عنه وِزْرَه، ويسَّر له أمره، ورفع له ذكره، وذلَّل له رقاب عدوه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا رسول الله، وعلى أهلك وصحبك، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها المسلمون، لقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: ((أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور))؛ [صحيح]. والحج المبرور له شروط، وله واجبات، يعيش الحاج بكل مشاعره هذه الأجواء، ويتناغم بكل إحساسه مع هذه المشاعر، وهذه تأملات إيمانية، وألطاف إلهية في الحج عمومًا، والطواف خصوصًا، نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص والقبول. البداية ورؤية الكعبة: عباد الله: يصل الحاج إلى البيت العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، فيدخل من باب السلام، يرى الكعبة فيبدؤها بالتحية والسلام، مقتديًا بنبيه عليه الصلاة والسلام، داعيًا لنفسه ولغيره من الأنام: (اللهم زِدْ بيتك هذا تشريفًا وتكريمًا، وتعظيمًا ومهابةً، ورفعةً وبرًّا، وزِدْ يا رب من شرفه وكرمه وعظمه ممن حجه واعتمره تشريفًا وتكريمًا، وتعظيمًا ومهابةً، ورفعةً وبرًّا). يصل المشعر الحرام، وينظر الركن والمقام، يتذكر نبيه في هذا المقام؛ القائد والقدوة والإمام، عليه الصلاة والسلام. يقدِّم رجله اليمنى، ويقول: (بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك)، أو: (أعوذ بوجهك العظيم، وسلطانك القديم، من الشيطان الرجيم). كيف لا؟ كيف لا، وقد بدأ نبينا دعوته من هنا، وجهر بها من أعلى الصفا، داعيًا إلى دين التوحيد وتحطيم الأوثان، صابرًا على الأذى، ومبلِّغًا بالرفق والإيمان، وداعيًا بالصبر والقرآن، مجادلًا بالحكمة والإحسان؛ ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]؟ كيف لا، وفي مكة، وعند الكعبة، تتحول الفطرة النقية، الفطرة المؤمنة إلى صورة أخرى من صور الطواف، جعلها الله تعالى من أهم مميزات الإسلام، ومن أفضل مفاخر الدين؛ الطواف حول الكعبة المشرفة الذي يعتبر من شعائر الحج والعمرة؟ كيف لا، وهو يتذكر عندما يقف عند مقام إبراهيم؛ خليل الرحمن، الذي رفع البيت، ووضع قواعده مع إسماعيلَ ولدِهِ؛ ليكون قبلة المسلمين، إلى يوم الدين، عندئذٍ تتجلى في قلبه عظمة ذلك البيت؛ حيث لا يكون بين العبد وربه حجابٌ، وليس هناك أحساب ولا أنساب، ولا تفاخر بالألقاب، فقط الإخلاص لله وحده، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد؟ كيف لا، وقد بشَّرنا النبي صلى الله عليه وسلم بإجابة الدعاء، في ذلك المقام الروحاني، وهذا الموقف الإيماني، وذلك المحفِل الرباني قائلًا: ((تُفتَح أبواب السماء، وتُستجاب دعوة المسلم عند رؤية الكعبة))؟ كيف لا، والكعبة المشرفة مركز للجاذبية الروحية التي ينبغي أن تكون بين العبد المؤمن وبيت الله العتيق، هذا البيت الذي يستقبله المسلمون، ويتجهون إليه في صلاتهم خمس مرات على الأقل كل يوم، وهم بعيدون عنه، إنها القوة الخفية التي تجعل كلَّ قادم يطوف حول الكعبة بمجرد الوصول إليها، تمامًا مثلما يطوف أي جِرمٍ سماوي بمجرد وقوعه في أسْرِ جاذبية جِرْمٍ آخرَ أكبرَ منه؟ كيف لا، والحاج يتذكر البيت العاليَ المعمور، فوق البيت العتيق المغمور؛ الكعبة في الأرض يطوف حولها الحجيج من كل البقاع، ومن كافة الأصقاع، بكل اللغات ومختلف الأنواع، وفوقه البيت المعمور في السماء، يدخله الملائكة المقربون، كل يوم سبعون ألف ملك يطوفون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ولمن في الأرض يستغفرون، ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشورى: 5]؟ كيف لا، وهنالك في ذلك الجمع الإيماني، والمجمع القرآني، والمكان الروحانيِّ الربانيِّ، تتلاقى أرواح المسلمين من كل بقاع الأرض، وتتناجى من كل أرجاء الدنيا، ويُحِسُّون بنداء الرحمن الذين هم في ضيافته يستلهمون التوفيق، ويسترشدون الهُدى، يزدادون التقوى، ويرتدون الإيمان، ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]؟ كيف لا، والمسلمون يطوفون حول الكعبة المشرفة في عكس اتجاه حركة عقارب الساعة؛ حيث يكون القلب أقربَ إلى مركز الجذب والطواف، وكذا التيامن أيضًا في اتجاه الحركة عند السعي ذهابًا وإيابًا بين الصفا والمروة، الذي هو من شعائر الله؟ كيف لا، والأعمال واحدة، والأمة واحدة، والرب واحد، كيف؟ ﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [المؤمنون: 52]؟ كيف لا، والحجيج في هذا المشهد العظيم أخلصوا لله نواياهم، وصفُّوا لله طواياهم، وقدموا لله نفقاتهم، فارتفعوا من الأرض إلى الملكوت الأعلى، مُتسامِين عن منازع الخلاف، مترفِّعين عن مواقف الجدال، قد زكَتْ نفوسهم، وطهُرت قلوبهم، وترفَّعت ألسنتهم، وقُبِلت أعمالهم، وغُفِرت ذنوبهم؛ قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((من حجَّ فلم يرفُثْ، ولم يفسُق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه))؟ كيف لا، وتلك هي الأرض التي شهدت نزول القرآن الكريم؛ كتاب السماء الأول الذي ربط الأرض بالسماء، والمخلوق بالخالق، والدنيا بالآخرة، وهو الذي فرَّق بين الحق والباطل، وبين الهدى من الضلال، وأظهر الخير من الشر؟ كيف لا، وقد نشأ هنا نبينا الصادق الأمين، على هذه الأرض درجت قدماه، وفي هذا المكان استقبل وَحْيَ الله، وحول الكعبة بدأت الصلاة، وإليها من كل الدنيا توجَّهت الجِباهُ، وهناك مُورِست الحياة؟ كيف لا، والطواف شعيرة تعبدية ترمز إلى سرٍّ عظيم من أسرار الكون، يقوم على شهادة التوحيد الخالص لله؛ تلبية للنداء الإلهي الذي أمر إبراهيم الخليل عليه السلام أن يؤذِّن في الناس بالحج: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 26، 27]؟ كيف لا، وهذه رؤية إيمانية تدلُّنا على أن الطواف سلوك كونيٌّ يشير إلى مظاهر الوحدة، ويُكْثِر التماثل والتناغم بين التكاليف الشرعية والنواميس الكونية؛ ولهذا كان شعار التلبية في الحج أثناء الطواف حول الكعبة هو النداء الناطق بالتوحيد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)؟ استلام الحجر: أيها المسلمون، يتقدم الحاج إلى الحجر، فيستلمه بيده اليمنى ويقبله، فإنْ شقَّ التقبيل، يستلمه بيده فقط، وإن شق بيده، يستلمه بعصًا أو غيرها ولا يقبلها، فإن شقَّ الاستلام، يُشِرْ إليه بيده اليمنى ولا يقبلها. فإذا تيسَّر له تقبيل الحجر، يعلم أنه عبادة، رغم أنه حجر لا يضر ولا ينفع، ولا علاقةَ له به سوى التعبد لله، بتعظيمه واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه حين قبَّل الحجر: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبِّلك ما قبَّلتك". وضع الحجر إخماد الفتنة: عباد الله، هنا يتذكر الحاج قصة وضع الحجر مكانه، وإنهاء الخلاف في قريش وإخماد الفتنة، حين همُّوا بوضع الحجر الأسود في مكانه، اختلفوا بينهم على من يقوم بوضع الحجر، فكلٌّ منهم يطمح أن ينال شرف وضع الحجر الأسود في مكانه، وكاد النزاع يدِبُّ بينهم، حتى اتفقوا في الاحتكام لأول رجل يدخل عليهم في البيت الحرام، وإذا بالرسول عليه الصلاة والسلام قادمٌ، وهتفوا جميعهم: بالصادق الأمين رضينا، وأخبروه نزاعهم، فأشار الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم بوضع الحجر الأسود على ثوب، ثم أمر كل قبيلة بإمساك طرف من الثوب ثم القيام برفعه جميعًا، وحمله الرسول عليه الصلاة والسلام بيديه الشريفتين، ووضعه في مكانه وأنهى النزاع فيما بينهم. بداية الطواف: يبدأ بالطواف، سواء كان حاجًّا فيطوف طواف القدوم وهو سُنَّة، أو معتمرًا فيطوف طواف العمرة وهو ركن، ويجب ألَّا يقل عدد أشواط الطواف حول الكعبة عن سبعة أشواط، أما الطواف الذي هو ركن الحج؛ وهو طواف الإفاضة، فيكون بعد العودة من عرفات؛ ليقضوا نُسُكهم، ويوفُّوا هَدْيَهم، ويقدموا نذورهم، ثم طواف الركن؛ ﴿ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 29]. يطوف المؤمنون وهم يهتِفون هِتافَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بسم الله، والله أكبر، اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك، ووفاءً بعهدك واتباعًا لسنة نبيك)، ثم يدعو كل منهم ما يخطر في باله من أدعية، متوجهًا بقلب صافٍ إلى رب العزة سبحانه، طالبًا منه العفو والغفران، والدعم والتأييد في كل شؤون حياته. ولقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكبر الله تعالى كلما أتى على الحجر الأسود، وكان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]. التحرر والانطلاق: أيها المسلمون، يطوف المؤمنون وفق دائرة ما انتهت حتى تبدأ من جديد، معاهدين الله بهتافهم الرائع: باسمك يا رب، يا أكبر من كل كبير، وأغنى من كل غنيٍّ، وأقوى من كل قوي، وأعز من كل عزيز، يا رب الأرباب، يا من بيده كل الأسباب، نعاهدك عهد الإسلام والإيمان، على أن نستمر معظم حياتنا بالحركة المستمرة، والجهاد الدائم، الذي يبدأ ولا ينتهي، حتى يتحرر الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَةِ الدنيا والآخرة، وسنُورِّث أهدافنا إلى ذرارينا التي ستأتي من بعدنا؛ لتستمر بعد رحيلنا عن هذه الدنيا الفانية، حركة الجهاد إلى يوم القيامة، فيبقى كتابك الكريم هو الصراط المستقيم؛ ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153]، وهو الحبل المتين؛ ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وهو الدستور الحكيم الشامل لحياة البشر؛ ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾ [الشورى: 13]، تدعمه سنة نبيك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: ((خذوا عني مناسككم))، وقال أيضًا: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي...))؛ [صحيح مسلم]. يا رب الأرباب، نعاهدك على كل ذلك عهدَ التصديق والوفاء والإيمان. الصلاة عند المقام: أيها المسلمون، يصلي الحاج ركعتين عند المقام، اتباعًا لإبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، واقتداء بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكريمًا للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، الذي وافقه الله تعالى في هذا العمل، ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125]؛ عن أنس رضي الله عنه قال: ((قال عمر بن الخطاب: وافقت الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلًّى؟ وقلت: يا رسول الله، يدخل عليك البَرُّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن، قلت: إنِ انْتَهَيْتُنَّ أو ليبدلَنَّ الله رسوله خيرًا منكن، حتى أتيت إحدى نسائه، قالت: يا عمر، أمَا في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟! فأنزل الله: ﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ﴾ [التحريم: 5]))؛ [الحديث في البخاري]. من خلال الطواف نعيش السلام، ونتعلم النظام، ونتدرب على التعاون على البر والتقوى، ونُسدي الإيثار وإنكار الذات، ونتلقى دروسًا عملية في الأدب والمروءة، والقيم والأخلاق، والحب والعطف، أي توجيه أسمى من هذا التوجيه؟ وأي جمع مثل هذا الجمع؟ وأي تناغم مثل هذا التناغم؟ وأي وحدة تكون لها مثل هذه الفعالية؟ وأي نظام مثل هذا النظام؟ النظام والسلام: إن الجيوش النظامية في العالم تحتاج إلى ربط وضبط، إلى إحكام والتزام، بعد تدريب متواصل، وعمل مستمر، وجهاد شاقٍّ، إلا أننا نرى الحجيج على كثرتهم، واختلاف أجناسهم، وتعدد لغاتهم، وتباين ثقافاتهم، يسيرون في اتجاه واحد، ويؤدون أعمالًا واحدة، في ارتباط وتآزُر، في وحدة وتُؤَدَةٍ، في أمان وسلام، لا يبغي أحد على أحد، ولا يتطاول أحد على أحد، وسط التلبية الهادرة، إذا أذَّن المؤذن سمعوا الأذان، وإذا نادى المنادي لبَّوا النداء، فإذا بالجميع وقوفٌ كأن على رؤوسهم الطير، لا تسمع حينئذٍ إلا همسًا، ولا ترى إلا جسمًا، ولا تنظر إلا قدمًا يهمِسون بذكر الله، ويتحركون بتوفيق الله، ويتقدمون بعون الله، إذا ركع إمامهم ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا قرأ أنصتوا، وإذا دعا أمَّنوا، إنها صورة من صور الجمال، ومشهد من مشاهد الجلال، ومرحلة من مراحل الكمال؛ ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]؛ فهم لقِبلة واحدة يتجهون، ولكتاب واحد يقرؤون، ولنبيٍّ واحد يتبعون، ولربٍّ واحد يعبدون؛ ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92]. حدثنا سفيان، عن ابن جدعان، قال: "سمع عمر رجلًا يقول في الطواف: اللهم اجعلني من الأقلِّين، فقال: يا عبدالله، وما الأقلون؟ قال: سمعت الله يقول: ﴿ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [هود: 40]، ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13] وذكر آياتٍ أُخَرَ، فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر". تُطِلُّ الدنيا على هذا المنظر البديع، ويشهد الوجود هذا الصنيعَ، يقف مبهورًا، وينتبه مسرورًا، ويعرف بأن الإسلام هو دين النظام، ودين التضامن، ودين الأُلفة، ودين الحب، ودين السعادة، ودين الأمل، ودين الحياة، فيدخل الناس في دين الله أفواجًا، عن طواعية، وعن ودٍّ لا بغض، وعن حب لا كره؛ ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]. أخي القارئ العزيز، كانت هذه أطيافًا من الإيمان تغزو المكان، وألطافًا من الرحمة تغمر الإنسان. إنها تأملات إيمانية في الحج، ونبضات روحية في الطواف، ووقفات مهمة مع الشعائر والمشاعر، أسأل الله تعالى أن تصِلَ مراميها، وأن ينفع المؤمنين بها، وأن يأجرهم عليها. اللهم ارزقنا وأحبابنا حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() تأملات في الحج (3) "طعام طُعْمٍ وشفاء سُقْمٍ" خميس النقيب الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، الحمد لله اصطفى لحج بيته عبادًا، وجعل لهم مواسمَ وأعيادًا، ووطِئَ لهم على فراش كرامته ودادًا، وهيَّأ لهم عند بيته المحرم ذكرياتٍ وأمجادًا. الحمد لله القاهر فوق عباده فلا يُمانَع، والحاكم بما يريد فلا يُدافَع، والآمر بما يشاء فلا يُراجَع، الحمد لله كتب على نفسه البقاء، وكتب على خلقه الفناء، وقدَّر ما كان قبل أن يكون في اللوح والقلم، وخلق آدم وجعل من نسله العرب والعجم، جعل الدنيا دارَ فناء، والآخرة دارَ بقاء، ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16، 17]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ندَّ له، ولا مِثْلَ له، من تكلَّم سمع نطقه، ومن سكت علِم سرَّه، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه منقلبه، ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227]. ونشهد أن سيدنا محمدًا عبدُالله ورسوله، اعتزَّ بالله فأعزه، وانتصر بالله فنصره، وتوكل على الله فكفاه، وتواضع لله فشرح له صدره، ووضع عنه وِزْرَه، ويسَّر له أمره، ورفع له ذكره، وذلَّل له رقاب عدوه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا رسول الله، وعلى أهلك وصحبك، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها المسلمون: إن جمال مكة، وأريج المقدسات، ونسيم المشاعر، وعبير الشعائر، تهبُّ على قلوب المسلمين هذه الأيام، فتنجذب القلوب، وتنشرح الصدور، وتُشَدُّ النفوس إلى هذا النسك العظيم، وهذا البيت العتيق، الذي جعله الله مثابةً للناس وأمنًا، ليشهدوا منافع لهم، وليذكروا اسم الله في أيام معلومات، وليوفوا نذورهم، وليطوفوا بالبيت العتيق؛ أول بيت وضع للناس. أشهر بئر وأطهر ماء: أيها المسلمون: إن أشهر بئر على وجه الأرض، وأطهر ماء على وجه الأرض، وخير ماء الدنيا - ماء زمزم، بعد الإحرام والطواف وصلاة ركعتين عند المقام، ثم النزول إلى زمزم؛ ليرتوي الحاج من مائها المبارك، ويغسل وجهه، ويغمر رأسه بهذا الماء الطاهر؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "سيد المياه وأشرفها، وأجلُّها قدرًا، وأحبها إلى النفوس، وأغلاها ثمنًا، وأنْفَسُها عند الناس". بين الصخر تدفَّق ماء زمزم: عباد الله: هناك يتأمل الحاج هذه البئر المعجزة، ويتذكر أن الله عز وجل فجَّرها إكرامًا للسيدة هاجر زوجة إبراهيم عليه السلام، وإغاثةً لها ولولدها إسماعيل عليه السلام، وما تزال هذه المياه هناك متدفقةً منذ آلاف السنين، وإلى أن يَرِثَ اللهُ الأرض والسماء، تفجَّرت في صحراءَ قاحلة، صحراءَ جرداء، لا زرع فيها ولا ماء، لا ثمر فيها ولا نفر، واستمرت إلى يومنا هذا، وستستمر ما بَقِيتِ السماء. تلك البئر المباركة التي فجَّرها جبريل عليه السلام بعقبه لإسماعيل وأمه هاجر؛ حيث تركهما خليل الله إبراهيم عليه السلام في ذلك الوادي القَفْرِ، وحين نفِد ما معهما من زادٍ وماء، وجَهَدَتْ هاجر وأتعبها البحث ساعيةً بين الصفا والمروة، ناظرة في الأفق البعيد؛ علَّها تجد مغيثًا يُغيثها، فلما أيِسَتْ من الخلق، جاء الغوث من الله تعالى بفضله ورحمته، وكرمه وجوده، ولطفه ورحمته. لم تكن خاصة بإسماعيل وحده، إنما شرِب منها إسماعيل، وشرب منها إبراهيم، وشربت هاجر، وشربت الأمة كلها، نعم شرب منها ملايين البشر، ويشرب منها ملايين أخرى ممن كتب الله لهم الحج، يتذكر الحاج كل ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، وهو وحده ناصر المؤمنين، وقاهر الجبارين، مهما بلغت قوتهم. بزوغ الأمل مع تدفق زمزم: إخوة الإسلام: لقد تفجرت زمزمُ، وتدفق الماء، وبتفجير بئر زمزمَ تفجَّر معه المستحيل، وتفجر معه الإحباط، وتفجر معه اليأس، وبزغ الأمل، ونَمَتِ الحياة، وتَرَعْرَعَ المكان، وهكذا سيبزُغ فجر الإسلام من جديد، وسيخرج المسلمون من أعماق المحنة، وينهضون من قلب الإحباط، وكما أغاث الله جل وعلا السيدة هاجر أم إسماعيل، وولدها إسماعيلَ عليه السلام، في مكان ووقت لا يمكن فيهما بالمعايير المادية أن تتم الإغاثة، فهو سبحانه وتعالى سيغيث المجاهدين في سبيله بنصر وفتح من عنده، يتحقق من أعماق المعاناة، ومن قلب الظلام، مهما اشتد ضبابًا وسوادًا، مهما احتدَّ قتامةً ورمادًا. طعام طُعْمٍ: عباد الله: قال صلى الله عليه وسلم: ((ماء زمزم لِما شُرِب له))؛ [أخرجه أحمد وابن ماجه]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((خير ماء على وجه الأرض ماءُ زمزم، فيه طعام الطُّعْمِ، وشفاء السُّقْمِ)). وطعام الطعم: أي: يشبع الإنسان من مائها إذا شربه، كما يشبع من الطعام إذا أكله، وشفاء السقم: أي: يُزِيل المرض، ويُبرِئ العلة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلَّعون من زمزمَ))؛ أي: الشرب حتى تمتلئ الأضلاع. يجوز حمل ماء زمزم ونقله: عباد الله: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل ماء زمزم في الأداوي والقِرَب، وكان يصبُّ على المرضى ويسقيهم))؛ [رواه الترمذي، والبخاري]. وعن حبيب بن أبي ثابت، قال: سألت عطاء: أحملُ ماء زمزم؟ فقال: قد حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم يُتْحِفون ضيوفهم بماء زمزم، عن مجاهد أن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا نزل به ضيف، أتحفه من ماء زمزم، ولا أطعم قومًا طعامًا إلا سقاهم من ماء زمزم؛ يقول الصحابي الجليل أبو ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه: "لقد لبثت ثلاثين بين ليلة ويوم، ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمِنتُ حتى تكسرت عُكَنُ بطني، وما وجدت على كبدي سَخْفَةَ جوع"؛ [صحيح مسلم]. خير ماء على وجه الأرض: أيها المسلمون: من فضائل ماء زمزم أنه خير ماء على وجه الأرض؛ كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خيرُ ماءٍ على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطُّعْمِ، وشفاء من السُّقْمِ))؛ [رواه الطبراني]. كيف لا؟ أيها المسلمون: كيف لا، وماء زمزم لا مثيل له في الأرض؛ إنه ثمرة دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام؟ كيف لا، وهو من أعظم النعم والمنافع، وعينه المباركة انبثقت بواسطة جبريل عليه السلام، وغُسِل به قلب أطهر الخلق نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم قبل المعراج، وماؤه لا ينضَبُ أبدًا؟ كيف لا، وحال شربه موطن من مواطن استجابة الدعاء، وشربه علامة فارقة ما بين المؤمن والمنافق، وهو ماء مبارك؛ كما جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء زمزم: ((إنها مباركة))؛ [رواه مسلم]؟ كيف لا، وزمزم من أعظم آيات الله البينات الدالة على توحيده، وعظيم قدرته ورحمته بخلقه؛ ففي أعلى البيت هدًى، وتحت أساسه شفاء، وطعام، وسُقيا تكفي الأنام، وتداوي بإذن الله من الأسقام؟ كيف لا، وبئر زمزم تكفي الشاربين ولو بلغوا الملايين، وإذا توقفوا عن الشرب توقفت عن الضخ، ولم تجرِ على وجه الأرض وتَفُر، وهذا من الإعجاز في الأرض؟ كيف لا، وقد اكتشف بعض الباحثين أن ماء زمزم ماء عجيب، يختلف عن غيره من المياه في التركيب، وكلما أُخِذَ منه، زاد عطاءً، وهو نقي طاهر، لا يوجد فيه جرثومة واحدة، إنه الاعجاز في أبهى صوره؟ كيف لا، وماء زمزم طعام طيب مبارك، يقوم مقام الغذاء في تغذية الجسم وتقويته، ويمكن أن يستغنيَ به شاربه عن الطعام، بخلاف سائر المياه؟ كيف لا، وهي غذاء للعقل والجسم والروح؟ قال ابن القيم رحمه الله عن ماء زمزم: "شاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد، قريبًا من نصف الشهر أو أكثر، ولا يجد جوعًا، ويطوف مع الناس كأحدهم، وأخبرني أنه ربما بقِيَ عليه أربعين يومًا، وكان له قوة يجامع بها أهله، ويصوم، ويطوف مرارًا"؛ [زاد المعاد]. كيف لا، وهي شفاء من الحُمَّى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الحُمَّى من فَيحِ جهنم، فابرُدُوها بماء زمزم)). وكانت زمزمُ تسمَّى وتُوصَف عند العرب بأنها "عافية"؛ لأن من شرِبها يستشفي بها، ظهرت عليه العافية الجسدية والنفسية من العلل والأمراض، وشُفِيَ بإذن الله تعالى. ماء زمزم لِما شُرِب له: أيها المسلمون: أئمة حقَّقوا ما أرادوا بماء زمزم، كيف؟ من فضائل زمزم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: ((ماء زمزم لِما شُرِب له))؛ [ابن ماجه]. قال ابن القيم رحمه الله: "جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورًا عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض، فبرِئت بإذن الله"؛ [زاد المعاد]. قال ابن العربي رحمه الله عن الاستشفاء بماء زمزم: "هذا موجود فيه إلى يوم القيامة، لمن صحَّت نيته، وسلِمت طويته، ولم يكن به مكذِّبًا، ولا شرِبه مجربًا؛ فإن الله مع المتوكلين، وهو يفضح المجربين"؛ [أحكام الأصول]. فمن أراد الاستشفاء بماء زمزم لا بد أن يكون موقنًا بصدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، من كونه شفاءَ سُقْمٍ، ولا يشربه من باب التجرِبة، مع استحضار النية الصالحة، والتوكل على الله تعالى؛ حتى ينتفع به. قال الحكيم الترمذي رحمه الله: "فالشارب لزمزم إن شرِبه لشبعٍ أشبعه الله، وإن شربه لرِيٍّ أرواه الله، وإن شربه لشفاء شفاه الله، وإن شربه لسوء خُلُق حسَّنه الله، وإن شربه لضيق صدر شرحه الله، وإن شربه لانغلاق ظلمات الصدر فَلَقَها الله، وإن شربه لغِنى النفس أغناه الله، وإن شربه لحاجة قضاها الله، وإن شربه لأمر نابه كَفَاهُ الله، وإن شربه لكربة كشفها الله، وإن شربه لنصرة نصره الله، وبأية نية شربها من أبواب الخير والصلاح وفَّى الله له بذلك؛ لأنه استغاث بما أظهره الله تعالى من جنته غِياثًا". قال ابن حجر رحمه الله: "واشتهر عن الشافعي الإمام أنه شرب ماء زمزم للرمي، فكان يصيب من كل عشرة تسعةً، وشربه الحاكم أبو عبدالله، لحسن التصنيف ولغير ذلك، فصار أحسنَ أهل عصره تصنيفًا، ولا يُحصى شاربوه من الأئمة، لأمور طلبوها فنالوها، وقد ذكر لنا الحافظ زين الدين العراقي، أنه شربه لشيء، فحصل له؛ [سير أعلام النبلاء]. وأنا – أي: ابن حجر - شربته مرةً، وسألت الله وأنا حينئذٍ في بداية طلب الحديث، أن يرزقني حالة الذهبي في حفظ الحديث، ثم حَجَجْتُ بعد مدة تقرب من عشرين سنة، وأنا أجد من نفسي طلب المزيد على تلك المرتبة، فسألته رتبةً أعلى منها، فأرجو الله أن أنال ذلك". وعن أبي بكر محمد بن جعفر قال: سمعت ابن خزيمة يقول، وسُئل: من أين أوتيت العلم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ماء زمزم لما شرب له))، وإني لمَّا شربت ماء زمزم، سألت الله علمًا نافعًا. والإمام أبو حنيفة رحمه الله شرب ماء زمزم؛ ليكون من أعلم العلماء، فكان كذلك، علمًا وصلاحًا وفضلًا. وعن سويد بن سعيد رحمه الله قال: "رأيت عبدالله بن المبارك بمكةَ أتى ماء زمزم، واستسقى منه شربةً، ثم استقبل الكعبة، فقال: اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ماء زمزم لما شرب له))، وهذا أشربه لعطش يوم القيامة، ثم شرب المنذري". أسأل الله تعالى كما أغاث هاجر وإسماعيل، وفرَّج عنهما بماء زمزم، أن يغيث الأمة، ويفرِّج عنها فيما هي فيه من أوجاع وأسقام، وشدائدَ وكرباتٍ. الله نسأل حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() تأملات في الحج "طعام طعم وشفاء سقم" إن جمال مكة، وأريج المقدسات، ونسيم المشاعر، وعبير الشعائر، تهبُّ على قلوب المسلمين هذه الأيام، فتنجذب القلوب، وتنشرح الصدور، وتُشَدُّ النفوس إلى هذا النسك العظيم، وهذا البيت العتيق، الذي جعله الله مثابةً للناس وأمنًا، ليشهدوا منافع لهم، وليذكروا اسم الله في أيام معلومات، وليوفوا نذورهم، وليطوفوا بالبيت العتيق؛ أول بيت وضع للناس. أشهر بئر وأطهر ماء: أيها المسلمون: إن أشهر بئر على وجه الأرض، وأطهر ماء على وجه الأرض، وخير ماء الدنيا - ماء زمزم، بعد الإحرام والطواف وصلاة ركعتين عند المقام، ثم النزول إلى زمزم؛ ليرتوي الحاج من مائها المبارك، ويغسل وجهه، ويغمر رأسه بهذا الماء الطاهر؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "سيد المياه وأشرفها، وأجلُّها قدرًا، وأحبها إلى النفوس، وأغلاها ثمنًا، وأنْفَسُها عند الناس". بين الصخر تدفَّق ماء زمزم: عباد الله: هناك يتأمل الحاج هذه البئر المعجزة، ويتذكر أن الله عز وجل فجَّرها إكرامًا للسيدة هاجر زوجة إبراهيم عليه السلام، وإغاثةً لها ولولدها إسماعيل عليه السلام، وما تزال هذه المياه هناك متدفقةً منذ آلاف السنين، وإلى أن يَرِثَ اللهُ الأرض والسماء، تفجَّرت في صحراءَ قاحلة، صحراءَ جرداء، لا زرع فيها ولا ماء، لا ثمر فيها ولا نفر، واستمرت إلى يومنا هذا، وستستمر ما بَقِيتِ السماء. تلك البئر المباركة التي فجَّرها جبريل عليه السلام بعقبه لإسماعيل وأمه هاجر؛ حيث تركهما خليل الله إبراهيم عليه السلام في ذلك الوادي القَفْرِ، وحين نفِد ما معهما من زادٍ وماء، وجَهَدَتْ هاجر وأتعبها البحث ساعيةً بين الصفا والمروة، ناظرة في الأفق البعيد؛ علَّها تجد مغيثًا يُغيثها، فلما أيِسَتْ من الخلق، جاء الغوث من الله تعالى بفضله ورحمته، وكرمه وجوده، ولطفه ورحمته. لم تكن خاصة بإسماعيل وحده، إنما شرِب منها إسماعيل، وشرب منها إبراهيم، وشربت هاجر، وشربت الأمة كلها، نعم شرب منها ملايين البشر، ويشرب منها ملايين أخرى ممن كتب الله لهم الحج، يتذكر الحاج كل ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، وهو وحده ناصر المؤمنين، وقاهر الجبارين، مهما بلغت قوتهم. بزوغ الأمل مع تدفق زمزم: إخوة الإسلام: لقد تفجرت زمزمُ، وتدفق الماء، وبتفجير بئر زمزمَ تفجَّر معه المستحيل، وتفجر معه الإحباط، وتفجر معه اليأس، وبزغ الأمل، ونَمَتِ الحياة، وتَرَعْرَعَ المكان، وهكذا سيبزُغ فجر الإسلام من جديد، وسيخرج المسلمون من أعماق المحنة، وينهضون من قلب الإحباط، وكما أغاث الله جل وعلا السيدة هاجر أم إسماعيل، وولدها إسماعيلَ عليه السلام، في مكان ووقت لا يمكن فيهما بالمعايير المادية أن تتم الإغاثة، فهو سبحانه وتعالى سيغيث المجاهدين في سبيله بنصر وفتح من عنده، يتحقق من أعماق المعاناة، ومن قلب الظلام، مهما اشتد ضبابًا وسوادًا، مهما احتدَّ قتامةً ورمادًا. طعام طُعْمٍ: عباد الله: قال صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لِما شُرِب له»؛ (أخرجه أحمد وابن ماجه)، وقال صلى الله عليه وسلم: «خير ماء على وجه الأرض ماءُ زمزم، فيه طعام الطُّعْمِ، وشفاء السُّقْمِ». وطعام الطعم: أي: يشبع الإنسان من مائها إذا شربه، كما يشبع من الطعام إذا أكله، وشفاء السقم: أي: يُزِيل المرض، ويُبرِئ العلة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلَّعون من زمزمَ»؛ أي: الشرب حتى تمتلئ الأضلاع. يجوز حمل ماء زمزم ونقله: عباد الله: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل ماء زمزم في الأداوي والقِرَب، وكان يصبُّ على المرضى ويسقيهم))؛ (رواه الترمذي، والبخاري). وعن حبيب بن أبي ثابت، قال: سألت عطاء: أحملُ ماء زمزم؟ فقال: قد حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم يُتْحِفون ضيوفهم بماء زمزم، عن مجاهد أن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا نزل به ضيف، أتحفه من ماء زمزم، ولا أطعم قومًا طعامًا إلا سقاهم من ماء زمزم؛ يقول الصحابي الجليل أبو ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه: "لقد لبثت ثلاثين بين ليلة ويوم، ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمِنتُ حتى تكسرت عُكَنُ بطني، وما وجدت على كبدي سَخْفَةَ جوع"؛ (صحيح مسلم). خير ماء على وجه الأرض: أيها المسلمون: من فضائل ماء زمزم أنه خير ماء على وجه الأرض؛ كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيرُ ماءٍ على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطُّعْمِ، وشفاء من السُّقْمِ»؛ (رواه الطبراني). كيف لا؟ أيها المسلمون: كيف لا، وماء زمزم لا مثيل له في الأرض؛ إنه ثمرة دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام؟ كيف لا، وهو من أعظم النعم والمنافع، وعينه المباركة انبثقت بواسطة جبريل عليه السلام، وغُسِل به قلب أطهر الخلق نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم قبل المعراج، وماؤه لا ينضَبُ أبدًا؟ كيف لا، وحال شربه موطن من مواطن استجابة الدعاء، وشربه علامة فارقة ما بين المؤمن والمنافق، وهو ماء مبارك؛ كما جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء زمزم: «إنها مباركة»؛ (رواه مسلم)؟ كيف لا، وزمزم من أعظم آيات الله البينات الدالة على توحيده، وعظيم قدرته ورحمته بخلقه؛ ففي أعلى البيت هدًى، وتحت أساسه شفاء، وطعام، وسُقيا تكفي الأنام، وتداوي بإذن الله من الأسقام؟ كيف لا، وبئر زمزم تكفي الشاربين ولو بلغوا الملايين، وإذا توقفوا عن الشرب توقفت عن الضخ، ولم تجرِ على وجه الأرض وتَفُر، وهذا من الإعجاز في الأرض؟ كيف لا، وقد اكتشف بعض الباحثين أن ماء زمزم ماء عجيب، يختلف عن غيره من المياه في التركيب، وكلما أُخِذَ منه، زاد عطاءً، وهو نقي طاهر، لا يوجد فيه جرثومة واحدة، إنه الاعجاز في أبهى صوره؟ كيف لا، وماء زمزم طعام طيب مبارك، يقوم مقام الغذاء في تغذية الجسم وتقويته، ويمكن أن يستغنيَ به شاربه عن الطعام، بخلاف سائر المياه؟ كيف لا، وهي غذاء للعقل والجسم والروح؟ قال ابن القيم رحمه الله عن ماء زمزم: "شاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد، قريبًا من نصف الشهر أو أكثر، ولا يجد جوعًا، ويطوف مع الناس كأحدهم، وأخبرني أنه ربما بقِيَ عليه أربعين يومًا، وكان له قوة يجامع بها أهله، ويصوم، ويطوف مرارًا"؛ (زاد المعاد). كيف لا، وهي شفاء من الحُمَّى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحُمَّى من فَيحِ جهنم، فابرُدُوها بماء زمزم». وكانت زمزمُ تسمَّى وتُوصَف عند العرب بأنها "عافية"؛ لأن من شرِبها يستشفي بها، ظهرت عليه العافية الجسدية والنفسية من العلل والأمراض، وشُفِيَ بإذن الله تعالى. ماء زمزم لِما شُرِب له: أيها المسلمون: أئمة حقَّقوا ما أرادوا بماء زمزم، كيف؟ من فضائل زمزم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لِما شُرِب له»؛ (ابن ماجه). قال ابن القيم رحمه الله: "جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورًا عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض، فبرِئت بإذن الله"؛ (زاد المعاد). قال ابن العربي رحمه الله عن الاستشفاء بماء زمزم: "هذا موجود فيه إلى يوم القيامة، لمن صحَّت نيته، وسلِمت طويته، ولم يكن به مكذِّبًا، ولا شرِبه مجربًا؛ فإن الله مع المتوكلين، وهو يفضح المجربين"؛ (أحكام الأصول). فمن أراد الاستشفاء بماء زمزم لا بد أن يكون موقنًا بصدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، من كونه شفاءَ سُقْمٍ، ولا يشربه من باب التجرِبة، مع استحضار النية الصالحة، والتوكل على الله تعالى؛ حتى ينتفع به. قال الحكيم الترمذي رحمه الله: "فالشارب لزمزم إن شرِبه لشبعٍ أشبعه الله، وإن شربه لرِيٍّ أرواه الله، وإن شربه لشفاء شفاه الله، وإن شربه لسوء خُلُق حسَّنه الله، وإن شربه لضيق صدر شرحه الله، وإن شربه لانغلاق ظلمات الصدر فَلَقَها الله، وإن شربه لغِنى النفس أغناه الله، وإن شربه لحاجة قضاها الله، وإن شربه لأمر نابه كَفَاهُ الله، وإن شربه لكربة كشفها الله، وإن شربه لنصرة نصره الله، وبأية نية شربها من أبواب الخير والصلاح وفَّى الله له بذلك؛ لأنه استغاث بما أظهره الله تعالى من جنته غِياثًا". قال ابن حجر رحمه الله: "واشتهر عن الشافعي الإمام أنه شرب ماء زمزم للرمي، فكان يصيب من كل عشرة تسعةً، وشربه الحاكم أبو عبدالله، لحسن التصنيف ولغير ذلك، فصار أحسنَ أهل عصره تصنيفًا، ولا يُحصى شاربوه من الأئمة، لأمور طلبوها فنالوها، وقد ذكر لنا الحافظ زين الدين العراقي، أنه شربه لشيء، فحصل له؛ (سير أعلام النبلاء). وأنا – أي: ابن حجر - شربته مرةً، وسألت الله وأنا حينئذٍ في بداية طلب الحديث، أن يرزقني حالة الذهبي في حفظ الحديث، ثم حَجَجْتُ بعد مدة تقرب من عشرين سنة، وأنا أجد من نفسي طلب المزيد على تلك المرتبة، فسألته رتبةً أعلى منها، فأرجو الله أن أنال ذلك". وعن أبي بكر محمد بن جعفر قال: سمعت ابن خزيمة يقول، وسُئل: من أين أوتيت العلم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له»، وإني لمَّا شربت ماء زمزم، سألت الله علمًا نافعًا. والإمام أبو حنيفة رحمه الله شرب ماء زمزم؛ ليكون من أعلم العلماء، فكان كذلك، علمًا وصلاحًا وفضلًا. وعن سويد بن سعيد رحمه الله قال: "رأيت عبدالله بن المبارك بمكةَ أتى ماء زمزم، واستسقى منه شربةً، ثم استقبل الكعبة، فقال: اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ماء زمزم لما شرب له»، وهذا أشربه لعطش يوم القيامة، ثم شرب المنذري". أسأل الله تعالى كما أغاث هاجر وإسماعيل، وفرَّج عنهما بماء زمزم، أن يغيث الأمة، ويفرِّج عنها فيما هي فيه من أوجاع وأسقام، وشدائدَ وكرباتٍ. الله نسأل حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا. منقول
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() تأملات في الحج (5) نسائم العشر وقسم الفجر (خطبة) خميس النقيب الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، الحمد لله اصطفى لحجِّ بيته عبادًا، وجعل لهم مواسمَ وأعيادًا، ووطِئ لهم على فراش كرامته ودادًا، وهيأ لهم عند بيته المحرم ذكرياتٍ وأمجادًا. الحمد لله القاهر فوق عباده فلا يُمانَع، والحاكم بما يريد فلا يُدافَع، والآمِر بما يشاء فلا يُراجَع، الحمد لله كتب على نفسه البقاء، وكتب على خلقه الفناء، وقدَّر ما كان قبل أن يكون في اللوح والقلم، وخلق آدم وجعل من نسله العرب والعجم، جعل الدنيا دار فناء، والآخرة دار بقاء؛ ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16، 17]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ندَّ له، ولا مثلَ له، مَن تكلَّم سمِع نطقه، ومن سكت علِم سرَّه، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه منقلبه؛ ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227]. ونشهد أن سيدنا محمدًا عبدُالله ورسوله، اعتزَّ بالله فأعزه، وانتصر بالله فنصره، وتوكل على الله فكفاه، وتواضع لله فشرح له صدره، ووضع عنه وِزْرَه، ويسَّر له أمره، ورفع له ذكره، وذلَّل له رقابَ عدوِّه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا رسول الله، وعلى أهلك وصحبك، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: أفضل أيام الدنيا: أيها المسلمون: الزمن يدور، والحياة تسير، والسفر طويل، والزاد قليل، الليالي تتسارع، الأيام تتوالى، الأعوام تتسابق، الساعات تمر، والدقائق تكُرُّ، واللحظات تفِرُّ، تشدُّنا إلى الله شدًّا، تأخذنا إلى أفضل أيام الدنيا، عشر ذي الحِجَّةِ، تلك التي أقسم الله بها؛ ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1، 2]، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، وكما أن الذي صلى الفجر يعود إلى بيته وهو في ذمة الله، فإن الحاج يرجع من حَجِّه كيوم ولدته أمُّه، وكما أن ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها، فإن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وكما أن قرآن الفجر مشهود، فإن الله يباهي الملائكة الشهود بأهل عرفاتٍ؛ ((أُشْهِدكم أني قد غفرت لهم)). إنه موسم الحج، أفضل أيام العام، مع أفضل الأماكن، مع أفضل الجموع، مع أفضل الأعمال، مع أفضل الجزاء والثواب، كيف؟ الأفضلية في كل شيء، فهل من متلقٍّ؟ هل من ملبٍّ؟ هل من مشتاق؟ قال صلى الله عليه وسلم فيما ورد عنه: ((الأيام العشر هي عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر))، عندما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، أمره الله بأن يؤذن في الناس بالحج، وأذِن في الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا رب، وما يبلغ صوتي؟ قال: عليك الأذان، وعلينا البلاغ، فنادى إبراهيم: أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فحجُّوا، فأجاب كل من كان في أصلاب الرجال، وأرحام الأمهات: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك. الجموع الهادرة: عباد الله: في هذه الأيام العشر، في قمة الصالحات، تجد الألسنة ذاكِرة، والقلوب خاشعة، والنفوس خاضعة، والجباه ساجدة، في فرح الأفراح، ومهوى الأرواح، بتلك النفوس المؤمنة، الزمان يزدهر، والأيام تحتفل، والمكان يتألق، والروح تحلِّق، والأرجاء تتَّقد. حيث يؤدي المسلمون مناسك الحج، فيتقدمون من كل حَدَبٍ وصَوبٍ، من أرجاء المعمورة، بالبَرِّ والبحر والجو، قاصدين الديار المقدسة؛ ليطوفوا بالبيت العتيق، الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، مشهد ضخم، وميدان رحِب، يعُجُّ بالْمُلبِّين، لينة في طاعة الله أعضاؤهم، خاشعة لأوامر الله قلوبهم، وتلهَج بالذكر والدعاء ألسنتهم، تعطر الجو والتاريخ أنفاسهم، نشيد ثائر، وهتاف صادق، وشعار رائع: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك، مظاهرة متلاطمة الأمواج للعباد الذين ذهبوا طاعةً لله عز وجل، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، يحبون لقاءه، ويوقنون بعطائه. كيف لا؟ إخوة الإسلام: كيف لا، والحج في أفضل أيام الدنيا؟ عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضل أيام الدنيا العشر - يعني عشر ذي الحجة - قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله، إلا رجل عفَّر وجهه بالتراب)). كيف لا، والعمل الصالح فيها محبوب عند الله تعالى؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((ما العمل في أيام أفضل منها في هذه، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء)). كيف لا، والحج ركن من أركان الإسلام، وعمود من أعمدة الدين؟ يقول النبي الأمين صلى الله عليه وسلم: ((بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان))؛ [متفق عليه]. كيف لا، والحج ولادة من جديد؛ فكما أن المولود يُولَد على الفطرة لم يرتكب ذنبًا أو خطيئةً، فكذلك الحاج؟ عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((من حجَّ هذا البيت، فلم يرفُث، ولم يفسُق، رجع كيوم ولدته أمه))؛ [متفق عليه]. كيف لا، والحج يجمع بين ثوابَيِ الدنيا والآخرة، كيف؟ ((العمرة إلى العمرة كفَّارة لِما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))؛ [متفق عليه]؛ فقد جمع بين ثواب الدنيا من الغِنى ونفي الفقر والذنوب، وبين ثواب الآخرة وهو الجنة، وهل هناك أعظم من ذلك في الدنيا والآخرة؟ كيف لا، والحج بذلك يهدم ما كان قبله من المعاصي والذنوب؟ فعن عمرو بن العاص قال: ((لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم: فقلت: يا رسول الله ابسط يمينك لأبايعك، فبسط يده فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟ قال: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قال: أن يُغفَر لي، قال: أما علِمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟))؛ [مسلم]. أيها المسلمون، كيف لا، والحج من أفضل العبادات على الإطلاق؟ فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أيُّ العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور))؛ [متفق عليه]. كيف لا، والحج من أفضل الجهاد؟ فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها قالت: ((يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور))؛ [البخاري]. لذلك كانت عائشة رضي الله عنها لا تتركه منذ أن علمت أنه جهاد؛ فقد قالت رضي الله عنها: ((قلت: يا رسول الله، ألَا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج؛ حج مبرور، فقالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ [البخاري]. كيف لا، والحج قيام أمر الناس في معاشهم ومعادهم؟ قال تعالى: ﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 97]. كيف لا، ومكةُ من الأماكن التي يحبها الله عز وجل؛ فمكة شرَّفها الله، وهي أحب البقاع إلى الله، وأفضل بقاع الأرض؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله إنكِ لَخَيرُ أرضِ الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخْرِجْتُ منكِ ما خرجت)). كيف لا، ورؤية الحجر واستلامه شهادةٌ بالإيمان؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((ليبعثن الله الحجر يوم القيامة، وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد به على من استلمه بحقٍّ))؛ [رواه ابن ماجه، والترمذي]. وكيف لا، والركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة؟ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يُطمَس نورهما، لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب))؛ [رواه الترمذي]. كيف لا، والحج إلى بيت الله؛ وهو البيت الذي طهَّره وطيَّبه للطائفين والقائمين، والركع السجود؟ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26]. كيف لا، والحج من شعائر الله؟ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158]. كيف لا، والحج مثاب الناس وأمنهم؟ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125]. كيف لا، والحج يكفيه شرفًا وفضلًا أن الله جل وعلا يباهي بأهل عرفة ملائكته؟ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يباهي بأهل عرفاتٍ ملائكةَ السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء، جاؤوني شُعْثًا غُبْرًا، أنفقوا الأموال، وأتعبوا الأبدان، أُشْهِدُكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم))؛ [صحيح ابن خزيمة]. فسبحان مَن قدَّس البيت وعظَّمه! سبحان من بارك البلد وحرَّمه! سبحان من فرض الحج وفضله! سبحان من دعا عبده وكرَّمه! سبحان من فجر البئر وعمره! سبحان الله وبحمده! سبحان الله العظيم! إنها ملحمة الحج، إنها أنوار الْمُحْرِمين، وأضواء المضحِّين، وأنغام الْمُلَبِّين، وأمواج الطائفين. أخي المسلم: هل شَمَمْتَ عبيرًا أزكى من غبار المحرمين؟ هل رأيت لباسًا أجمل من لباس الحجاج والمعتمرين؟ هل رأيت رؤوسًا أعزَّ وأكرم من رؤوس المحلقين والمقصرين؟ هل مرَّ بك ركب أشرفُ من ركب الطائفين؟ هل هزَّك نَغَمٌ أروع من تلبية الملبيين، وأنين التائبين، وتأوُّه الخاشعين، ومناجاة المنكسرين؟ جموع ملبية، وأعين باكية، وعَبَرات متوالية، وأيدٍ مرفوعة داعية. إنه حنين الأفئدة، ونماء الأرصدة، إنه شوق القلوب، وشغف النفوس، ترنو إليه الأبصار، وتمتد إليه الأعناق، تَعْلَق به الخواطر، تُمحى به الديون، وتكتحل به العيون، وتلهَج به الأفكار، وتتوجه إليه الأنظار. نفحات ورحمات: عباد الله: الحج نفحات ورحمات، حسنات ودرجات، عمدة في الأخلاق، وسَعَة في الأرزاق، إنها أسواق الحج في الأرض المقدسة، وميادين الطاعة في الأماكن المطهَّرة، ومواسم العبادة في الوفود الطاهرة، ولحظات الخشوع في الجموع الهادرة. هذه مواسم طاعةٍ ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]، ثم يُرفَع أذان الحج: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27]، كانت الإجابة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد لك والنعمة، لا شريك لك لبيك. البلد الأمين: أيها المسلمون، إنها مكة، البلد الحرام، كعبة الله، إنها بكَّة؛ من كثرة الخشوع والبكاء، إنها أم القُرى، تتجه إليها جموع القرى في أرجاء الدنيا، وكل البلدان في نواحي الأرض، إنها البلد الأمين، بلد اختاره الله واصطفاه؛ وأقسم به فقال: ﴿ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ [التين: 3]. مهبِط الوحي، ومهوى الأفئدة، ومركز الدنيا، وسُرَّة الأرض، كيف لا تحِن إليه الأفئدة؟ وهو بلد الله، وبلد رسول الله وصحبه الكرام، بلد التوحيد، بلد تضاعف فيه الحسنات، وتعظم فيه السيئات، بلد يحرُم فيه القتال، بلد مبارك لا يدخله الدَّجَّال، بلد يحرُم صيده وقطع أشجاره، بلد لا يدخله مشرك، كيف لا تحن إليه الأفئدة؟ وهو تاريخ الإسلام والمسلمين، وفخرُهم وعزُّهم ومَحْضَنهم، قلعة من قلاع الدين، وحصن من حصون الإسلام، مكة ذلك الاسم الخالد في قلب كل مسلم ومؤمن، كيف لا والقلوب تتوجه إليها كل يوم مرات ومرات، بل حتى بعد الموت؟ أسواق الحج: عباد الله: إنه أسواق لكسب الأخلاق، كيف؟ ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 197]. أيها المسلمون: إن الحج سوق للأخلاق الحسنة، والقيم العالية، والآداب الرفيعة؛ حيث يتأدب الحاج مع الشجر، فلا يقطع، ومع الطير فلا يقتل، ومع الإنسان فلا يشتم، ومع البيت فلا يلحد؛ ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25]. إنها تجمع بين الأخلاق؛ ففيها هجرة إلى الله، وفيها إخلاص لله، وفيها تضحية وفداء، وفيها عفو وصفاء، وفيها تسامح وتصالح، وفيها ود وتصافح. وهو أسواق لزيادة الأرزاق: ففيه زيادة في الأرزاق، كيف؟ ((الحج والعمرة ينفيان الفقر، كما ينفي الكير خبث الحديد؛ الذهب والفضة))؛ [صحيح]. وهو أسواق لجمع الحسنات؛ حيث يهاجر المسلم إلى ربه، تاركًا ديارَه وأولاده وعشيرته، لسان حاله يقول كما قال بكل الحج الخليل إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الصافات: 99]. وهناك يطوف كما طاف إسماعيل، ويسعى كما سعت هاجر، ويُقبِّل كما قبَّل عُمَرُ، ويقف بعرفة كما وقف محمد بن عبدالله، ويضحي كما ضحى إبراهيم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. وهو أسواق الطاعات: في الأيام العشر؛ حيث تزدان الأرض بوفود الحجيج، وتتجمل السماء بنور الملأ الأعلى، وتتألق الكعبة في سرة الأرض وفي وسط الدنيا، يطوف بها الحاج فيزداد إيمانًا، ويتألق إحسانًا، ويخفف من ذنوبه وآثامه. ملتقى العبادات: أيها المسلمون: إن الحج سوق يجمع بين الفروض كلها، ففيها إنفاق وزكاة، يجب أن تكون من حلال حتى يقبلها الله تعالى؛ جاء في الحديث: ((إذا خرج الحاج بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز - أي: ركب على دابته - وقال: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحَجُّك مبرور، غيرُ مَأْزُور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك، ولا سعديك؛ زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك مأزور، غير مبرور))؛ [الترغيب والترهيب]. نعم أسواق الزيادة والنماء، كيف؟ عن بريدة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف))، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في عمرتها: ((إن لكِ من الأجر قدر نَصَبِكِ ونفقتكِ))؛ [أخرجه الدارقطني]، وعنها أيضًا قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خرج الحاج من بيته، كان في حِرْزِ الله، فإن مات قبل أن يقضيَ نُسُكَه، وقع أجره على الله، وإن بقِيَ حتى يقضي نسكه، غفر الله ما تقدم وما تأخر من ذنبه، وإنفاق الدرهم الواحد في ذلك يعدل أربعين ألف درهم فيما سواه)). والصلاة في بيت الله الحرام مضاعفة؛ عن أبي الدرداء وجابر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي هذا ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة))؛ [أخرجه البيهقي]. وفيها صوم حتى عن الكلام، صيام العشر مستحب عدا يوم العيد وأيام التشريق، ويوم عرفة لغير الحاج، ولمن عجز عن تقديم الهدي يصوم ثلاثة في الحج، وسبعة عند الرجوع إلى بلده، وفيه الشهادتان، فضلًا عن التهليل والذكر والتكبير. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أمهات العبادة فيها؛ وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها". من استطاع ولم يحج محروم: أيها المسلمون: إن للحج فضائلَ كثيرةً، وإن من لم يحج بيت الله الحرام مع القدرة عليه، فقد حُرِم خيرًا كثيرًا؛ فعن أبي سعيد الخدري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله: إن عبدًا صَحَحْتُ له جسمه، ووسَّعت عليه في المعيشة، يمضي عليه خمسة أعوام لا يفِد إليَّ لَمحروم))؛ [البيهقي وابن حبان بسند صحيح]. زادٌ رُوحيٌّ وإيماني: عباد الله: إن أعمال الحج كلها من الإحرام حتى الوداع زاد روحي وإيماني عظيم وكبير، يجسده ويصوره لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: ((أما خروجك من بيتك تَؤُمُّ البيت، فإن لك بكل وطأة تَطَؤها راحلتك، يكتب الله لك بها حسنةً، ويمحو عنك بها سيئةً، وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثًا غبرًا من كل فج عميق؛ يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، ولم يَرَوني، فكيف لو رأوني، فلو كان عليك مثل رمل عالج، أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوبًا، غسلها الله عنك، وأما رميك الجِمار، فإنه مذخور لك، وأما حلقك رأسك، فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طُفْتَ بالبيت، خرجتَ من ذنوبك كيوم ولدتك أمك))؛ [الطبراني]. لأن هذه الذنوب سقطت وتناثرت وتبخرت هناك، وهذا هو السبب في سواد الحجر الأسود الذي كان أبيض، فسوَّدته خطايا الناس؛ فعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان الحجر الأسود أشد بياضًا من الثلج حتى سوَّدته خطايا بني آدم))؛ [الطبراني]. هناك تهفو القلوب، وتشتاق الأرواح إلى تلك البقعة الطاهرة الطيبة، حينها تنهمر الدموع، وتُسكَب العبرات، وتتقطع النفوس شوقًا إلى مغفرة رب البريات. تعجلوا بالحج، وحُجُّوا قبل ألَّا تحجوا: عباد الله: الحج فرض على كل مسلم مستطيع، يملك الزاد والراحلة التي تبلغه لحج بيت الله الحرام؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتَعرِض الحاجة))، وصدق المعصوم صلى الله عليه وسلم؛ فلقد حالت الأمراض والأوبئة وكورونا عن حج بيت الله الحرام، ووقع الناس في المحظور، وبفضل الله وحده عادت الأوضاع إلى طبيعتها، فتعجل وخُذِ الدرس مما فات، فالمؤمن كيِّسٌ فَطِنٌ، فيا مَن مَنَّ الله عليه بالمال والصحة والعافية، ولم تحج بغير عذر، اعلم بأنك محروم ورب الكعبة؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله: ((إن الله تعالى يقول: إن عبدًا أصححت له جسمه، ووسعت عليه في معيشته، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليَّ لَمحروم))؛ [رواه البيهقي وأبو يعلى بسند صحيح]. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج فحُجُّوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم، لَوجبت، ولَما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم؛ إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بالشيء، فخُذُوا به ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)). يا لها من رحلة إيمانية روحية! فهنيئًا لحجاج بيت الله الحرام، وحجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا. اللهم ارزقنا حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() تأملات في الحج (6) عرفة إكمال وإتمام ووداع خميس النقيب الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، الحمد لله اصطفى لحج بيته عبادًا، وجعل لهم مواسمَ وأعيادًا، ووطِئَ لهم على فراش كرامته ودادًا، وهيَّأ لهم عند بيته المحرم ذكرياتٍ وأمجادًا. الحمد لله القاهر فوق عباده فلا يُمانَع، والحاكم بما يريد فلا يُدافَع، والآمر بما يشاء فلا يُراجَع، الحمد لله كتب على نفسه البقاء، وكتب على خلقه الفناء، وقدَّر ما كان قبل أن يكون في اللوح والقلم، وخلق آدم وجعل من نسله العرب والعجم، جعل الدنيا دارَ فناء، والآخرة دارَ بقاء، ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16، 17]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ندَّ له، ولا مِثْلَ له، من تكلَّم سمع نطقه، ومن سكت علِم سرَّه، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه منقلبه، ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227]. ونشهد أن سيدنا محمدًا عبدُالله ورسوله، اعتزَّ بالله فأعزه، وانتصر بالله فنصره، وتوكل على الله فكفاه، وتواضع لله فشرح له صدره، ووضع عنه وِزْرَه، ويسَّر له أمره، ورفع له ذكره، وذلَّل له رقاب عدوه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا رسول الله، وعلى أهلك وصحبك، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد أيها المسلمون: فإن النفوس تتطلع إلى العشر الأُوَل من ذي الحجة؛ حيث تكفيرُ الذنوب، وستر العيوب، وتهوين الخطوب. تشتاق القلوب إلى عرفات الله؛ حيث رقيُّ الدرجات، وتضاعف الحسنات، وقبول القُرُبات، حيث أفضل العبادات، ووقفة عرفات، وخير الدعوات. تهوى الأفئدة إلى مناسك الحج؛ حيث أفضل الأيام، ومنبع السلام، ونور الإسلام. عباد الله: تبتسم القلوب لرحمة الله التي ينزلها على عباده في يوم عرفة، إنه يوم تسمو فيه الأرواح، وتزكو فيه النفوس، وتطيب فيه القلوب، وتخشع فيه الأبدان، فإذا أقبل يوم عرفة، فإن قلوب الصالحين تُضاء بنور ربها، وتنشد الحق في دربها، وتتطهر من كل ذنوبها، وتغتنم الفرصة التي سنحت لها. أيها المسلمون: يوم عرفة اليوم الذي ينشر الله فيه رحمته على عباده، ويبسط كرمه على حُجَّاج بيته، يوم ترتقي فيه النفوس، وتصفو فيه القلوب، وترتفع فيه الدرجات، وتتضاعف فيه الحسنات. إنه يوم الوقوف بعرفة؛ حيث التتويج لإعلان العبودية لله لا لأحد سواه. إخوة الإسلام: الوقت هو رأس المال، والأيام خزائن الأعمال، والصلاح أحسن الأحوال، والسعيد من وُفِّق لاغتنامها حتى ينجو يوم القيامة من الأهوال؛ قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62]؛ لذلك يجب على المسلم أن يستثمر هذه الأوقات في طاعة الله ورضوانه، كيف لا، وهو يوم إكمال الدين، وإتمام النعمة، وبلوغ القمة، ووداع الأمة؟ ففي الصحيحين، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا - معشرَ اليهود - نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية؟ قال: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة، يوم الجمعة)). كيف لا، وهو يوم الوداع؛ حيث صيانة الأعراض، وحرمة الدماء؟ ففي حجة الوداع خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمِد الله، وأثنى عليه، وذكَّر ووعظ، ثم قال: ((أي يوم أعظم حرمة؟ قالوا: يومنا هذا، قال: أي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: بلدنا هذا، قال: فأي شهر أعظم حرمة؟ قالوا: شهرنا هذا، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألَا لا يجني جانٍ إلا على نفسه، ولا يجني والد على ولده، ولا ولد على والده)). كيف لا، وهو يوم دعم الأخوة وبيان حقوقها؟ قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: ((ألَا إن المسلم أخو المسلم، فليس يحل لمسلم من أخيه شيء، إلا ما أحل من نفسه)). كيف لا، وهو يوم الخلاص من الربا ووضع الدماء؟ ((ألا وإن كل ربًا في الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون، ولا تُظلَمون، غير ربا العباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كله، ألا وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وأول دم أضع من دماء الجاهلية دم الحارث بن عبدالمطلب، كان مسترضعًا في بني ليث، فقتلته هذيل)). كيف لا، وهو يوم إظهار حقوق النساء؟ أوصى نبينا بالنساء خيرًا؛ فقال: ((ألَا فاستوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنما هنَّ عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن أطعْنَكم، فلا تبغوا عليهن سبيلًا، ألَا إن لكم على نسائكم حقًّا، ولنسائكم عليكم حقًّا، فأما حقكم على نسائكم، فلا يوطئن فُرُشكم مَن تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألَا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)). كيف لا، وهو يوم يأس الشيطان وصَغاره، يوم إذلاله واحتقاره؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((ألَا وإن الشيطان - وهو إبليس الخسيس - قد أيس أن يُطاع...))؛ قيل: معناه أن الشيطان أيس أن يعود أحد من المؤمنين إلى عبادته، ويحتمل معنى آخر؛ وهو أنه أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن المصلين من أمتي لا يجمعون بين الصلاة وعبادة الشيطان، كما فعلته اليهود والنصارى. كيف لا، وهو عيد لأهل عرفة، عيد لأهل الموقف؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب))؛ [رواه أهل السنن]. وقد رُوِيَ عن عمر بن الخطاب أنه قال: ((نزلت – أي: آية ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 3] – في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد)). إنه اليوم المشهود: ﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ [البروج: 3]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة))؛ [رواه الترمذي، وحسنه الألباني]. كيف لا، وهو الوَتر الذي أقسم الله تعالى به في قوله: ﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ [الفجر: 3]؟ قال ابن عباس: "الشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة"، وهو قول عكرمة والضحاك. كيف لا، وهو ركن من أركان الحج، بل هو ركن الحج الأعظم؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة))؛ [متفق عليه]. كيف لا، وصيامه يكفِّر سنتين؛ فقد ورد عن أبي قتادة رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم عرفة، فقال: يكفِّر السنة الماضية، والسنة القابلة))؛ [رواه مسلم]، وهذا إنما يُستحَب لغير الحاج، أما الحاج فلا يُسَنُّ له صيام يوم عرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك صومه، ورُويَ عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة. كيف لا، وهو يوم مغفرة الذنوب، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف؟ ففي صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟))، وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى يباهي ملائكته عشية عرفة، بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتَوني شعثًا غبرًا))؛ [رواه أحمد، وصححه الألباني]. كيف لا، وهو يوم خير الدعاء؟ فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))؛ [رواه الترمذي]. قال ابن عبدالبر رحمه الله: "وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره". كيف لا، وهو يوم الحج الأكبر؟ فإن شعائر يوم عرفة وأعماله تبدأ من اللقاء بالصلاة جماعةً في مسجد الزقاق، ثم صلاة الجمعة في مسجد الحي، ثم صلاة العيد في مصلَّى المدينة، أنت تجد العالم كله يلتقي في عرفات، هناك يحتشد ملايين الناس بلباس واحد، وتوجُّه واحد، وحال واحد، وتهليل واحد، وتكبير واحد، وتلبية واحدة، وذلك كله أمام رب واحد لا شريك له، يعاهدون ربهم عهد الإيمان، ويعاهدون نبيهم عهد الإسلام، ويراجعون أنفسهم على السير وفق منهج الله ودستوره، وشريعته التي شرعها لهم وهداهم إليها. هناك في عرفات، تنتهي الحدود، وتُرفَع السدود، وتتجدد العهود، وتتلاشى الفوارق بين البشر، فتزول الدرجات، وتموت المسافات، فلا تفاضل هنا إلا بالتقوى والعمل الصالح. الغني جوار الفقير، والخفير جنب الوزير، والصغير ملاصق للكبير، يهتفون كلهم بشعار الإسلام الخالد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. هو عهد دائم، يتجدد في كل خطوة، ويتحدد في كل مرحلة: سيتحقق الهدف بإعلاء كلمة الله رب الأرباب، وسيزول كل طواغيت الأرض، وستتحرر النفوس والناس جميعًا من كل ظلم واستبداد وفساد. أيها المسلمون: اغتنموا هذه الأوقات، وانتهزوا هذه الليالي، واستيقظوا في هذه الأيام؛ ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المزمل: 20]، فقد يختار إنسان الغناء الهابط، ثم يموت وتبقى أغانيه تُذاع إلى يوم القيامة، وقد يختار إنسان القرآن الكريم ثم يموت، وتبقى تلاوته تُذاع إلى يوم القيامة: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20]. هناك من يبني مسجدًا، ومن يبني ملهًى، والإنسان مخيَّر، فاختر ما شئت، وافعل ما شئت، لكن كل شيء له حسابه، سَعَةُ بيوتنا بزيادة مساحة الأرض، لكن سعة قبورنا بزيادة مساحة العمل الصالح؛ ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]. عباد الله: من فضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنْ جعل لهم مواسمَ للطاعات تتضاعف فيها الحسنات، وتُرفع فيها الدرجات، ويُغفر فيها كثير من المعاصي والسيئات، فالسعيد من اغتنم هذه الأوقات، وتعرَّض لهذه النفحات؛ لهذا حثَّنا النبي صلى الله عليه وسلم على اغتنام هذه النفحات؛ حيث قال: ((اطلبوا الخيرَ دهرَكم، وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، فاسألوا الله أن يسترَ عَوْرَاتكم، ويؤمِّن رَوْعَاتكم))؛ [أخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني]. سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أيهما أفضل: عشر ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟ فأجاب: "أيام العشر من ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة"، فاغتنموا هذه الأيام، تصالحوا، وتسامحوا، وتصافحوا، وتعاونوا على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان. اللهم إن هذه أحب الأيام إليك، فاجعلنا من أحب عبادك إليك. اللهم ارزقنا حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() تأملات في الحج (7)رمي الجمرات وذبح الأُضحيَّات خميس النقيب تأملات في الحج (7) رمي الجمرات وذبح الأُضحيَّات الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، الحمد لله اصطفى لحجِّ بيته عبادًا، وجعل لهم مواسمَ وأعيادًا، ووطِئ لهم على فراش كرامته ودادًا، وهيأ لهم عند بيته المحرم ذكرياتٍ وأمجادًا. الحمد لله القاهر فوق عباده فلا يُمانَع، والحاكم بما يريد فلا يُدافَع، والآمِر بما يشاء فلا يُراجَع، الحمد لله كتب على نفسه البقاء، وكتب على خلقه الفناء، وقدَّر ما كان قبل أن يكون في اللوح والقلم، وخلق آدم وجعل من نسله العرب والعجم، جعل الدنيا دار فناء، والآخرة دار بقاء؛ ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16، 17]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ندَّ له، ولا مثلَ له، مَن تكلَّم سمِع نطقه، ومن سكت علِم سرَّه، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه منقلبه؛ ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227]. ونشهد أن سيدنا محمدًا عبدُالله ورسوله، اعتزَّ بالله فأعزه، وانتصر بالله فنصره، وتوكل على الله فكفاه، وتواضع لله فشرح له صدره، ووضع عنه وِزْرَه، ويسَّر له أمره، ورفع له ذكره، وذلَّل له رقابَ عدوِّه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا رسول الله، وعلى أهلك وصحبك، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد أيها المسلمون: فإن الله تعالى فضَّل الشهور بعضها على بعض؛ فاختار شهر رمضان، وفضَّل الليالي بعضها على بعض؛ فاختار العشر الأوائل من ذي الحجة، واختار من العشرة يومَ عرفةَ الأكثر عتقًا من النار، ويومَ النحر أفضل أيام الدنيا، فلا يفُتْك أجرها، ولا يخطِئْك طَيفُها، ولا تغِبْ عن ظلِّها؛ لتكون في ظل الله، يوم لا ظل إلا ظله. عباد الله: إن الأيام تتسارع، والأعوام تتوالى، والليالي تتعاقب، والساعات تنقضي، والأزمان تنتهي، تشُدُّنا إلى الله شدًّا ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6]. السلطان يزول، والجاه لا يدوم، المال يفنى، والعز لا يبقى، ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27]. الشمس والقمر تتناوبان، والليل والنهار يتعاقبان، يقربان كل بعيد، ويُبْلِيان كل جديد، ويفِلَّان كل حديد؛ ﴿ ذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62]؛ ليستبين الجاحد من الشاكر، والغافل من الذاكر، والمؤمن من الكافر. إخوة الإسلام: نحن في أفضل أيام الدنيا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أفضل أيام الدنيا أيام العشر)). العشر من ذي الحجة أفضل أيام الدنيا؛ یعني: أفضل صلاة فجر تصليها طول السنة، وأفضل جلسات ضُحًى تجلسها طول السنة، وأفضل تلاوة قرآن وذكر لله طول السنة، وأفضل صيام نافلة تصومه طول السنة، وفيها يمكنك تَثْقِيلُ ميزانك. انتهى يوم عرفة، يوم يباهي الله فيه الملائكة بأهل عرفات، يوم استجابة الدعوات، وتحقق الأمنيات، وإقالة العثرات، ومغفرة السيئات، وعتق الرقاب، هناك يتبرأ المؤمن من حَولِه وقوته، فإن الله إذا وهب المقامات العليا في الطاعة، وبركة الوقت، أدهش. ثم ينزل الحاج من عرفات إلى مُزْدَلِفَةَ لجمع الحصَيَات، ورمي الجمرات، والجمرات ما هي إلا رموز تحاكي الواقع المرير، الذي يحوي الأوهام والآلام، والمكائد والشدائد، التي تنبثق من وساوس الشيطان. أيها المسلمون، خطُّ سَيرِ الحاج وضعه الشرع، وقاد نُسُكَه الصادقُ الأمين صلى الله عليه وسلم: ((خُذُوا عني مناسككم))؛ حيث يرتاح الحُجَّاج المسافرون في مِنًى، فهي محطة تفصل بين مكان العهد مع الله عز وجل في عرفات، وبين بقية أنحاء الدنيا التي سيُنفَّذ فيها ذلك العهد الوثيق. بعد أن كانوا في عرفةَ في الصباح، قضَوا يومهم في الرجاء والدعاء، في الحمد والثناء، في الذكر والشكر، ثم نزلوا إلى مزدلفة في المساء، ومن مزدلفة يجمع المؤمنون الحصياتِ التي سيرجُمون بها اللعينَ إبليسَ، الوسواس الخنَّاس، زعيم الطواغيت وربَّهم المزيف الأكبر، ومؤسِّس الخراب، ومنبت الشحناء والبغضاء، فالمؤمنون بعد أن عاهدوا الله سبحانه، وأعطَوه الميثاق الغليظ بأن يعبدوه وحده لا شريك له، يتوجهون لتأكيد عهده وميثاقه الغليظ الذي أبرمه معهم، يتوجهون للبراءة من الشيطان الرجيم، والعدو الذميم، الذي يفتن الناس، يحرفهم عن طريق الحق والخير، ويجرفهم إلى طريق الغواية والضلال، من بوابة مِنًى ما بين مكان العهد المبرَم مع الله عز وجل، وبين أمكنة تنفيذه، يلِجُ المؤمنون مؤكِّدين طاعتهم لله عز وجل، القاهر الحق، ومتهيِّئين لبراءتهم من الشيطان اللعين زعيم الباطل، وذلك بجمع الحصيات التي سيرجمونه بها. عباد الله: رميُ الجمرات هو جزء من الحج عند المسلمين يُقام سنويًّا في مكة المكرمة، يقوم الحجاج المسلمون برمي الحصى على ثلاث جمرات، في مدينة مِنًى شرق مكة المكرمة، وهي واحدة من سلسلة أعمال الحج التي يجب القيام بها في الحج، وهو تجديد رمزيٌّ لحج إبراهيم؛ حيث تُرجَم ثلاثة أعمدة تمثل إغراءً بعصيان الله، والحفاظ على النبي إسماعيل عليه السلام. وفي عيد الأضحى - اليوم العاشر من شهر ذي الحجة - يجب على الحجاج ضرب واحدة من ثلاث جمرات - جمرة العقبة أو الجمرة الكبرى - بسبع حصيات، وبعد الانتهاء من الرجم في يوم العيد، يجب على كل حاج أن يقص شعره أو يحلقه، وكأنه وُلِدَ من جديد، بل بالفعل وُلِد من جديد؛ حيث لا ذنوب، ولا شحناء، ولا بغضاء، على الفطرة مثل يوم الميلاد الفعلي، وفي كل يوم من اليومين التاليين، يجب على الحاج أن يضرب كل جدار من الجدران الثلاثة بسبع حصيات، متجهة من الشرق إلى الغرب، ومن ثَمَّ فهناك حاجة إلى ما لا يقل عن تسع وأربعين حصاة للرمي، وأكثر إذا فُقِدت بعض الرميات، يظل بعض الحجاج في مِنًى لمدة يوم إضافي، وفي هذه الحالة يجب عليهم رمي كل حجر سبع مرات؛ يقول الحاج عند الرمي: "اللهم اجعله حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، بسم الله، والله أكبر، رجمًا للشيطان ورضًا للرحمن، اللهم اجعله حجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد لا شريك له". أيها المسلمون: ثم يوم النحر إراقة للدم في سبيل الله سبحانه وحده؛ حيث يتوجه بعد ذلك الحجاج المؤمنون إلى المنحر، ليُريقوا أغلى شيء في الحياة الدنيا، ليريقوا الدم لله عز وجل؛ رمزًا لأن الدماء أرخص من المبادئ والعقيدة، فدون إسلامنا ومنهجنا، دماؤنا وأرواحنا، رخيصة في سبيل الحيِّ القيوم جل جلاله، وفي سبيل تحقيق منهجه العظيم في الأرض كلها. عباد الله: إن من شعائر ديننا الحنيف شعيرةَ الأضحيَّة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ﴾ [الحج: 36]. والأضحية: اسم لما يُذبَح من الإبل والبقر والغنم يوم النحر، وأيام التشريق؛ تقربًا إلى الله تعالى، وإحياءً لسُنَّة خليل الله ونبيه إبراهيم عليه السلام، وتذكيرًا بذلك الحدث العظيم؛ وهي من أعظم شعائر الإسلام المشروعة بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين؛ قال الله تعالى: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [الكوثر: 2]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما عمِل ابن آدم من عمَلٍ يوم النحر أحبَّ إلى الله من إهراق الدم، وإنه لَيُؤتَى يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم لَيقعُ من الله بمكان قبل أن يقع بالأرض، فطِيبوا بها نفسًا))؛ [رواه الترمذي، وابن ماجه]. ثم يتوجهون إلى مكة يطوفون ويسعَون من جديد، لتجديد العهد، وتأكيده مع الله عز وجل، بأننا على درب الحق سائرون، وإلى تحقيقه ساعون، وفي سبيلك يا رب الأرباب مستمرون، وعلى هَدْيِك ماضون. ثم العودة إلى مِنًى للاستعداد لدخول أروقة الدنيا، ودار الامتحان الكبير؛ وذلك للإقامة فيها يومين أو ثلاثة من أيام العيد، وتلك فترة أكل وشرب؛ كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها يتحلل المؤمنون من ثياب الحج الخاصة، ويرتدون ثيابهم العادية التي سيعيشون بها في دنياهم، وفيها يأكلون من لحوم ضحاياهم التي أراقوا دماءها لله عز وجل، وفيها يتعارفون، ويستعدون لدخول أبواب الدنيا المختلفة، برفض مناهج الشيطان وتلامذته من الطواغيت المتسلِّطين والأرباب المزيَّفين، وذلك برجم زعيم الباطل إبليس اللعين؛ سبعًا، سبعًا، في كل يوم عند العقبات الثلاث، يرجمونه وهم يصرخون: باسم الله، والله أكبر. فيؤكدون بذلك أن: باسم الله نرميك، ولن نعمل بما توحيه إلينا، أو توسوس به أيها الباطل اللعين، والله أكبر منك، ومن كيدك أيها المزيف الرجيم. بعد ذلك يغادرون إلى مكةَ ليطوفوا بها طواف الوداع، مؤكدين عهد الله للعمل الدائب في سبيله، مودعين بيته الحرام ورمز توحيده، متوجهين من جديد إلى بلادهم وديارهم المتناثرة في كل أرجاء المعمورة؛ حماةً لدينه، ودعاةً لمنهجه، وجنودًا لإعلاء كلمته في كل بلد وركن من بلاد الأرض وأركانها. وبذلك تمت حِجَّة الإسلام، وحُفِظ أجر الأنام، وهكذا دارت الأيام، فعاشوا جميعًا في أمن ومحبة وسلام. عادوا بعد أن تزوَّدوا بالإيمان والتقوى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197]، عادوا يجابهون الباطل، ويُؤازِرون الحق، وينشرون الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، وذلك مناط خيرية الأمة، كيف؟ ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]. أيها المسلمون: إن ذلك هو شأن الإيمان إذا تعمَّقت جذوره في القلب، وقوِيَ سلطانه على النفس، إنه يمد صاحبه بيقين لا يهون، وهمة لا تنثني، وأمل لا يخبو، ودافع لا يتوقف، وعزم لا يخور، هو يملك الدنيا ولكنها لا تملكه، ويجمع المال ولكنه لا يستعبده، وتحيط به النعمة، ولكنها لا تبطره، وينزل به البلاء، ولكنه لا يقهره، لا تزيده الشدائد إلا عزيمةً مع عزيمته، وقوة إلى قوته، كالذهب الأصيل، لا تزيده النار إلا نقاءً وصفاءً. اللهم ارزقنا حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() تأملات في الحج (8) الحج بين الفضائل والبدائل خميس النقيب الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، الحمد لله اصطفى لحجِّ بيته عبادًا، وجعل لهم مواسمَ وأعيادًا، ووطِئ لهم على فراش كرامته ودادًا، وهيأ لهم عند بيته المحرم ذكرياتٍ وأمجادًا. الحمد لله القاهر فوق عباده فلا يُمانَع، والحاكم بما يريد فلا يُدافَع، والآمِر بما يشاء فلا يُراجَع، الحمد لله كتب على نفسه البقاء، وكتب على خلقه الفناء، وقدَّر ما كان قبل أن يكون في اللوح والقلم، وخلق آدم وجعل من نسله العربَ والعجمَ، جعل الدنيا دار فناء، والآخرة دار بقاء؛ ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16، 17]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ندَّ له، ولا مثلَ له، مَن تكلَّم سمِع نطقه، ومن سكت علِم سرَّه، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه منقلبه؛ ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227]. ونشهد أن سيدنا محمدًا عبدُالله ورسوله، اعتزَّ بالله فأعزه، وانتصر بالله فنصره، وتوكل على الله فكفاه، وتواضع لله فشرح له صدره، ووضع عنه وِزْرَه، ويسَّر له أمره، ورفع له ذكره، وذلَّل له رقابَ عدوِّه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا رسول الله، وعلى أهلك وصحبك، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فإن فضائل الحج كثيرة؛ فهو أفضل الجهاد، وأفضل الأعمال، وأفضل مطهِّر؛ حيث يعود الحاج كيوم ولدته أمه، كما أنه يُكسِب الحاج أفضل الأخلاق، ويُخلِفه في أفضل الأرزاق، ودعاء يوم عرفة أفضل الدعاء، والحج يهدم ما قبله، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، كل ذلك وغيره للمستطيع الذي ارتحل إلى البيت الحرام، وتمتَّع بالحج، أما غير المستطيع، الذي لم يرتحل إلى هناك، فما له في هذه الأيام؟! ستجد الإجابة في السطور الآتية بعون الله تعالى وتوفيقه. أخي المسلم: أنت إذا كان الحج قد فاتك، فإن أفعال الخير لا تفوتك، فتلحق بركب الحجيج، وما أجمل ما قيل: من فاته في هذا العام القيامُ بعرفة، فلْيَقُمْ لله بحقه الذي عَرَفَه، ومن عجز عن المبيت بمزدلفة، فليُبيِّت عزمه على طاعة الله وقد قرَّبه وأزْلَفَهُ، ومن لم يقدِرْ على نَحْرِ هَدْيِهِ بمِنًى، فليذبح هواه هنا وقد بلغ المُنى، ومن لم يصِلْ إلى البيت لأنه منه بعيد، فليقْصِدْ ربَّ البيت فإنه أقرب إليه من حبل الوريد. أولًا: المكث في المسجد بعد صلاة الفجر حتى الشروق، ثم صلاة ركعتين. عباد الله: من صلى الفجر فهو في ذمة الله، علاوة على أنه كأنما قام نصف الليل، وقرآن الفجر مشهود من قِبَلِ الملائكة، وفوق كل ذلك وغيره من مكث بعد الفجر في المسجد يُسبِّح ويُكبِّر، ويُهلِّل ويتلو القرآن، حتى بعد الشروق، كُتِبت له حجة وعمرة تامتين، بديلًا عن عدم استطاعته للذهاب إلى الأماكن المقدسة، كيف؟! عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى الغداة - الفجر - في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلُعَ الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة))؛ [أخرجه الترمذي بسند صحيح، وصححه الألباني في الصحيحة]. ثانيًا: عمرة في رمضان: إخوة الإسلام: من فضل الله على عباده ورحمته بهم أنْ جَعَلَ لهم أوقاتًا تبلغهم العلا، وبدائلَ عن الحج ترفع قدرهم، فمن لم يقدر على الحج عليه بعمرة رمضان، فهي تعدل عند الله حِجَّة، كيف؟! فقد أخرج الإمام مسلم عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة من الأنصار يُقال لها أم سنان: ((ما منعكِ أن تكوني حَجَجْتِ معنا؟ قالت: ناضحان كانا لأبي فلان - تعني زوجها - حج هو وابنه على أحدهما، وكان الآخر يسقي عليه غلامنا، قال صلى الله عليه وسلم: عمرة في رمضان تقضي حجة، أو حجة معي))، والناضح: الجمل. ثالثًا: حضور صلاة الجماعة: أيها المسلمون: من لم يقدر على الحج، أو أن يعتمر في شهر رمضان، هناك بدائل أخرى؛ منها أن تحافظ على صلاة الجماعة، كيف؟! أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من مشى إلى صلاة مكتوبة في الجماعة، فهي كحِجَّةٍ، ومن مشى إلى صلاة تطوع، فهي كعمرة نافلة))، وفي رواية: ((ومن مشى إلى سُبْحَةِ الضحى، كان له كأجر المعتمر))؛ [صحيح الجامع]. رابعًا: حضور مجالس العلم في المساجد: عباد الله، العلم نور، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإنما تتقدم الأمم بالعلم، وترتقي البلاد بالعلماء، وفوق ذلك تلقِّي العلم بالمسجد يعطيك أجر حِجَّة، كيف؟! عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يُعَلِّمه، كان كأجر حاجٍّ تامًّا حجته))؛ [أخرجه الطبراني والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب]، فضلًا عن السكينة والرحمة والمغفرة؛ فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشِيَتْهُمُ الرحمة، وحفَّتْهُمُ الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)). خامسًا: بـرُّ الوالدين: أيها المسلمون: إن الله تعالى جعل الإحسان إلى الوالدين بعد الوصية بعبادته هو - لا غيره - مباشرة؛ فقال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23]. ثم أوصى ببرِّهما وخفض الجناح لهما، والدعاء لهما؛ فقال سبحانه: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24]. مقابل ذلك، فإن برَّ الوالدين يمنحك أجرَ الحج، كيف؟ أخرج أبو يعلى بسند جيد: ((أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، قال: هل بقِيَ من والديك أحد؟ قال: أمي، قال: قابل الله في برِّها؛ فإن فعلتَ، فأنت حاج ومعتمر ومجاهد)). سادسًا: الأذكار بعد الصلاة: عباد الله: إن ذكر الله تعالى أشرف ما يمر بالفم، وأجمل ما يمر على الخاطر، وأنبل ما يستقر في العقل الباطن، وأفضل ما يكون في العقل الواعي، لا يكون ساعة دون ساعة، أو يوم دون يوم، وإنما يجب أن يكون على الدوام، كيف؟! قال ربنا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 41 - 43]. والعبد الذاكر لربه، المسبِّح بحمده، المتوكل عليه، المتوجه إليه، يكون عند ربه مذكورًا، وسعيه مشكورًا، وكلما زاد في ذكره، زاد الله في جَبْرِهِ، وشدَّ من أزْرِهِ، وضاعف أجره؛ قال ربنا: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152]، وذِكْرُ الله تعالى بعد الصلاة يؤهِّلك لأجر الحج كاملًا غير منقوص، كيف؟! فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن فقراء المهاجرين أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدُّثُور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعْتِقون ولا نُعْتِق، ولهم فضول أموالهم يحُجُّون ويعتمرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضلَ منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبِّحون وتكبِّرون وتحمَدون دُبُرَ كلِّ صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)). سابعًا: صدق النية مع الله: إخوة الإسلام، عباد الله: إن صفاء النية وصدقها من أجَلِّ العبادات، وهو أقصر الطرق إلى الله تعالى، والأعمال إنما تُقبَل بإخلاص النية وصدق توجهها، بل إن صاحب النية السليمة المخلصة يرتقي في ثوابه وأجره إلى أجر الحج وثوابه، كيف؟! ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الدنيا لأربعة نَفَرٍ: عبدٍ رزقه الله مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربَّه، ويصِل رَحِمَهُ، ويعمل لله فيه بحقه، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقه الله علمًا، ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالًا لَعمِلت بعمل فلان، فأجرهما سواء، وعبدٍ رزقه الله مالًا، ولم يرزقه علمًا، فهو يتخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصِل فيه رحمه، ولا يعمل فيه بحقٍّ، فهذا بأخبث المنازل، وعبدٍ لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعمِلت فيه بعمل فلان، فهو ونيته، فوُزْرُهما سواء))؛ [أخرجه الترمذي بسند صحيح، وصححه الألباني في الصحيحة]، فنية العبد خيرٌ من عمله، فقد يحج ولا يُقبَل منه لسوء نيته، وقد لا يحج ويُكتَب له أجر حجة وعمرة تامتين تامتين؛ لصدق نيته؛ لذلك جاء أول حديث في البخاري: ((إنما الأعمال بالنيات)). وروى البخاري عن أنس، قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إن أقوامًا خلَّفنا بالمدينة، ما سلكنا شعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا، حَبَسَهُمُ العذر)). اللهم ارزقنا حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() تأملات في الحج (9) مضى حج البيت وبقي رب البيت خميس النقيب الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، الحمد لله لا تطيب الدنيا إلا بذكر الله، ولا تطيب الحياة إلا بشكر الله، ولا تطيب الآخرة إلا برؤياه. الحمد لله الذي وفَّق حُجَّاج بيته الحرام، فلبِسوا ملابس الاحرام، ورأوا الكعبة فبدؤوها بالتحية والسلام، واستلموا الحَجَرَ، وطافوا بالبيت، وصلُّوا عند المقام، اهتدَوا بنور القرآن، وفرِحوا بهَدْيِ الإسلام، الحمد لله أن وقف الحجيج في صعيد عرفات، وتضرعوا في الصفا والمروة بخالص الدعوات، لك الحمد ربنا غفرت لهم الذنوب، وتحمَّلت عنهم التَّبِعات، ورَمَوا وحلَقوا، وتحلَّلوا ونحروا، فتمَّت بذلك حِجَّة الإسلام، فالحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا. الحمد لله الذي جعل الأعياد في الإسلام مصدرًا للهناء والسرور، الحمد لله الذي تفضَّل في هذه الأيام العشر على كل عبدٍ شكور، سبحانه غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو، إليه المصير. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبدالله ورسوله، اعتزَّ بالله فأعزه، وانتصر بالله فنصره، وتوكَّل على الله فكَفَاه، وتواضع لله فشرح له صدره، ووضع عنه وِزْرَه، ويسَّر له أمره، ورفع له ذِكره، وذلَّل له رقاب عدوِّه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا رسول الله، وعلى أهلك وصحبك، ومن تبعك بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فيا أيها المسلمون، قد ذهب الحج إلى البيت وبقِيَ رب البيت. ذهب الإحرام، وبقِيَ التقدير والاحترام، والأمن والسلام، وعلى نبينا الصلاة والسلام، ذهب الطواف حول الكعبة، وبقِيَ الطواف حول الفقراء والمساكين، ذهب تقبيلُ الحجر وبقِيَ تقبيل الوالدين، ذهب السعيُ بين الصفا والمروة وبقِيَ السعي على الأرملة، واليتيم، وابن السبيل، ذهب رمي الجمرات رمزًا لرمي إبليس، وبقِيَ رمي الشيطان بعدم الانصياع والعصيان. وهكذا مضى موسم الحج لهذا العام، فمن كان يعبد البيت، فإن الحج قد انتهى، ومن كان يعبد رب البيت، فإن الله حي لا يموت. إن المال يفنى والملك لا يبقى، السلطان يزول والعز لا يدوم، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. قضى الحُجَّاج عبادة من أعظم العبادات، وطاعة من أجَلِّ الطاعات، وقُربة من أفضل القُرُبات، وركنًا من أركان الإسلام، وركيزة من ركائز الدين، وقيمة من قِيَمِ الشريعة، شرَّفهم ربُّهم، في رحلة من أروع الرحلات، وسياحة من أجمل السياحات، وها قد عادوا إلى أوطانهم، ورجعوا إلى أهليهم، وباشروا أعمالهم. عباد الله: ذهب الحج وبقيت الصلاة، والصلاة صلة بالله، فقد امتنَّ الله على هذه الأمة، فأعطاها هذه الفرائض؛ لكي يستقيموا إلى خالقهم، ويتطهروا من ذنوبهم، وينصروا دينهم، ويذكروا ربهم، ويحسنوا أخلاقهم، ويستمروا في طريق إيمانهم الذي رسمه الله لهم؛ ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]. أيها المسلمون، عباد الله: إن الله تعالى خلق الإنسان لعبادته، وجعل الكون في خدمته، يعبد الله من خلال فرائضه، وفرائضه خمسة هي أصول ثابتة في جميع الشرائع؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان))؛ [متفق عليه]. ثم إن الإسلام لم يشرع الفرائض والعبادات بكافة صورها طقوسًا مفرَّغة، ولا شعائرَ مجردةً، ولا حركاتٍ منزوعة المعنى والمضمون، بل إن كل عبادة تحمل في جوهرها قيمًا أخلاقية، وآدابًا عالية، وأخلاقًا سامية، مطلوب أن تنعكس على سلوك المسلم المؤدِّي لهذه العبادة، وأن تتضحَ جليًّا في شخصيته وتعاملاته مع الناس. عباد الله: ذهب حج البيت وبقِيَ رب البيت: وكأنه سوق نُصِبَ ثم انفضَّ، كسَب فيه الراكعون الساجدون، ربِح فيه الحامدون الشاكرون الذاكرون، أفْلَحَ فيه القائمون الصائمون، وخسِر فيه الغافلون المهملون، الذين لم يأخذوا من الإسلام إلا اسمه، ولا من الإيمان إلا رسمه، فهم قد وقفوا عند مرتبة الإسلام ولم يتجاوزها بعدُ إلى مرتبة الإيمان. فطُوبَى لشابٍّ نشأ في طاعة لله، وطوبى لرجلٍ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، وطوبى لفتاة أُمرت بالحجاب، فقالت: لبيك يا ألله، وطوبى لامرأة أطاعت زوجَها، وصامت شهرَها، وصلَّت خمسَها حبًّا في الله، وطوبى لمن أطعم أفواهًا، وكسا أجسادًا، ورحِم أيتامًا، ووَصَلَ أرحامًا، ونصر مظلومًا. طوبي للذين صبروا على الطاعة، صبروا على العبادة، صبروا على الصيام، صبروا على القيام، صبروا على تلاوة القرآن، لا صبرَ الاستسلام، إنما صبرُ الاستعلاء، لا صبر القُعُود، إنما صبر النهوض، لا صبر الخمول والكسل، إنما صبر النشاط والعمل: ﴿قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]؛ أي: يغرِف لهم من الحسنات غرفًا. أيها المسلمون: ذهب حج البيت وبقِيَ رب البيت: فلقد كان موسم الحج (العشر من ذي الحجة، ويوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق) ضيفًا كريمًا، لا يزورنا إلا مرة كل عام، مِن الناس مَن أحسن وِفادته، ومن الناس من أكرم زيارته، ومن الناس من أجْمَلَ ضيافته، ومن الناس من أحسن صيام التسعة وقيامها، ومن الناس من رحل عنه هذا الموسم وهو يحمل له أسوأ الذكريات. انتهى موسم الحج وهو يُسْبِغ علينا من نفحاته، ويُسْدِي علينا من رحماته، ويغمُرنا بحكمته وبيانه. مضى حج البيت وبقِيَت تقوى رب البيت: الحج من أجل التزود من التقوى؛ ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197]، والتقوى أن يجدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نَهَاك، التقوى أن تجعل بينك وبين النار ستارًا بطاعة الله لا بمعصيته، بشكر الله لا بكفره، بالإخلاص لله لا بشركه. موسم الحج انتهى وهو يعلن فينا أن تقوى الله هي خير لباس: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف: 26]. الحج انتهى وهو يعلن فينا أن تقوى الله هي خير ميراث: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾ [مريم: 63]. انتهى موسم الحج وهو يعلن فينا أن تقوى الله هي خير زاد: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197]. انتهى موسم الحج وهو يعلن فينا أن تقوى الله هي خير وصية: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء: 131]. انتهى موسم الحج وهو يعلن فينا أن تقوى الله هي خير تَرِكَةٍ تتركها لأولادك وأحفادك من بعدك: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: 9]. إن عشر ذي الحجة ذهبت وهي تعلن فينا أنه لا قيمةَ إلا بالإيمان، ولا نجاةَ إلا بالتقوى، ولا فوزَ إلا بالطاعة، ولا ينال الدرجات العلا إلا رجلٌ مجاهد ينصر العقيدة، ويحمي الحق، ويُجَابِهُ الباطل، إذا قرئ عليه القرآن يستمع، وإذا نودِيَ بالإيمان فإنه يلبي: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور: 51]. وهو يعلِّمنا أن القلب المعمور بالإيمان، المنساق إلى الحق، المنطلق إلى الصواب - لا يخرج منه إلا ما ينفع البلادَ والعباد، لا يخرج منه إلا ما يعبِّد الطريق إلى الله، لا يخرج منه إلا ما يراعي العهود. على المسلم أن يخرج منه بتجديدِ وضعِهِ مع الله، يختمه بنفس طيبة، ووجهٍ مشرق، وقلب حيٍّ، وهمة عالية، وعزيمة ماضية، على أن ما بقِيَ فرصة للعمل الصالح ينجح فيها بإذن الله، ويبلغ تقواه ورضاه. ودِّعوه بالأعمال الصالحة، والأوقات الرابحة، وتفقَّدوا أحوال الفقراء والمساكين، وأعطوا الأرامل واليتامى والمحتاجين، أغْنُوهم عن السؤال ومدِّ اليد في هذه الأيام المباركة، سُدُّوا إعوازَهم، وأطعموا جائعهم، وفكُّوا أسيرهم، واكسوا عاريَهم، وآتُوهم من مال الله الذي آتاكم، فالمال أمانة عندكم، فأرُوا الله من أنفسكم خيرًا في مثل هذه الأيام. إن السعيد من أنفق ماله في الطاعات والقربات، والشقيَّ من صرفه في الهوى والملذات، واعلموا أن المسلم أخو المسلم، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر))؛ [متفق عليه]. إخوة الإسلام: بالأمس القريب كنا ننتظر يوم عرفة بكل الحب والشوق، نرمُق ضيفًا عظيمًا، وغائبًا منتظَرًا، كنا نستقبل شهر ذي الحجة الذي يحمل بين طيَّاته الرحمةَ والمغفرة والعِتقَ من النار، كم فرح المسلمون في أصقاع الأرض على اختلاف لغاتهم وأجناسهم بتلك المنحة الربانية، والرحمة الإلهية، والهبة الربانية التي يُجْزِل بها سبحانه من الأجر بما هو أهْلٌ له! أيها المسلمون: ها أنتم تودِّعون يوم عرفة، والحج عرفة، ويوم النحر، وهو أفضل أيام الدنيا، يوم الرحمة والخير، تودِّعونه بكل الفخر، رغم ما ألمَّ بالأمة من تفرُّق وتشَرْذُم، من تقاتُل وتجاذب، من خَلَلٍ وجَدَلٍ ومَلَلٍ، فوالله ما عرَف المسلمون اجتماعًا ولا تآخيًا، ولا إحسانًا ولا تجانسًا، ولا تعاطفًا، كما هو الحال في موسم الحج، وما عرفوا للعبادة لذة، وما تذوقوا للطاعة طعمًا، كما في مثل هذه الأيام؛ أيام التشريق، أيام البِرِّ وصلة الأرحام، أيام القرآن والإحسان. الخسارة التي لا تعدلها خسارة أن يوفَّق العبد لإدراك مواسم العطاء، ثم يخرج منها صفرَ اليدين، خاليَ الوِفاض، العار والشَّنار لمن يستقبله بالطاعة، ثم ينقلب على عَقِبَيه ويودِّعه بالمعصية: ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا﴾ [النحل: 92]. بل إنك تجد مِن المسلمين مَن خرج عنه موسم الحج وحمَّله أوزارًا وآثامًا ثقالًا، تنوء بحملها الجبال الراسيات، حَمَلَها بظلمه وجهله، حملها بجحوده وعناده، بغفلته وإهماله، يشاهد المسلسلات الهابطة والأفلام الخليعة، وعقَّ والديه، وعاش بالكذب والنفاق، وآذى المسلمين في بيوتهم وأموالهم. أما الذين يعلمون أن الله باقٍ، فيودِّعون مواسمَ الطاعة – مثل: الحج وشهر رمضان - ذاكرين شاكرين مخبتين، صائمين قائمين قانتين، تائبين منيبين، ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: 18]، فهم في كَنَفِ الله ورحمته وحفظه ورعايته: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك))؛ [صحيح البخاري]. الذين يعرفون أن الله باقٍ يودِّعون مواسم الخير والطاعة بالتعاون على البر والتقوى، يجمعون الزكوات، ويوزعونها على الفقراء والمساكين، يقيمون تكافلًا لأفراد المجتمع غير القادرين، فيمثِّلون حلقة الوصل بين الأغنياء والفقراء، إنهم يبغون الأجر من الله، يعتزون بإسلامهم، ويفرحون بطاعة ربهم، فيرفع الله أعمالهم، ويصعد إلى الله كَلِمُهم: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ [فاطر: 10]. الذين يوقنون أن الله باقٍ يودِّعون يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، واصلين أرحامَهم، باذلين أموالَهم، فرِحين بعطاء الله لهم، متَّبِعين نبيَّهم، ليِّنين في طاعة ربهم، لا يتوجهون إلا لله، ولا يتوكلون إلا على الله، ولا يستعينون إلا بالله، فهم الذين يتولَّاهم الله، ويُجزل لهم العطاء، ويفتح لهم أبواب السماء، ويرفع عنهم البلاء والشقاء، ويفرحهم يوم اللقاء: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 88، 89]. الذين يؤمنون أن الله باقٍ يودِّعون موسم الحج فيُحسنون ختامه بالدعاء، يرفعون أكُفَّ الضراعة إلى خالقهم، ويطلبون حوائجهم من رازقهم، ولا يسألون إلا ربهم، فهم عباده، وهو قريب منهم يجيبهم ويرشدهم: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186]. إن الذي رُزق الحجَّ وُلد من جديد، لا ذنوب عليه ولا آثام، والذي لم يتسنَّ له الحج رُزق صوم يوم عرفة، يكفِّر سنتين، فإذا كان الحُجَّاج قد وقفوا بعرفة، فغيرهم صام يوم عرفة، وإذا كان الحجاج قد سعَوا بين الصفا والمروة، فإن غيرهم سعى على الأرملة والفقير والمسكين، وإذا كان الحجاج قد ساقوا الهَدْيَ، فغيرهم ذبح الأضاحي، وهكذا فالمسلم الحق يعلم أن الله باقٍ، ينظره ويراقبه، ويهديه ويرشده، فتجده يعمل لِغَدِهِ كما يعمل ليومه، ويعمل لمعاده كما يعمل لمعاشه، ويعمل لآخرته كما يعمل لدنياه؛ ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: 17]. اللهم اجعلنا لك ذاكرين شاكرين، منيبين مخبتين، فرحين مستبشرين يا رب العالمين. اللهم ارزقنا حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() تأملات في الحج (10) ماذا بعد الحج؟! (خطبة) خميس النقيب الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يُولَد، ولم يكن له كفوًا أحد، الحمد لله لا تطيب الدنيا إلا بذكر الله، ولا تطيب الحياة إلا بشكر الله، ولا تطيب الآخرة إلا برؤياه. الحمد لله الذي وفَّق حُجَّاج بيته الحرام، فلبِسوا ملابس الاحرام، ورأوا الكعبة فبدؤوها بالتحية والسلام، واستلموا الحَجَرَ، وطافوا بالبيت، وصلُّوا عند المقام، اهتدَوا بنور القرآن، وفرِحوا بهَدْيِ الإسلام، الحمد لله أن وقف الحجيج في صعيد عرفات، وتضرعوا في الصفا والمروة بخالص الدعوات، لك الحمد ربنا غفرت لهم الذنوب، وتحمَّلت عنهم التَّبِعات، ورَمَوا وحلَقوا، وتحلَّلوا ونحروا، فتمَّت بذلك حِجَّة الإسلام، فالحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا. الحمد لله الذي جعل الأعياد في الإسلام مصدرًا للهناء والسرور، الحمد لله الذي تفضَّل في هذه الأيام العشر على كل عبدٍ شكور، سبحانه غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو، إليه المصير. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبدالله ورسوله، اعتزَّ بالله فأعزه، وانتصر بالله فنصره، وتوكَّل على الله فكَفَاه، وتواضع لله فشرح له صدره، ووضع عنه وِزْرَه، ويسَّر له أمره، ورفع له ذِكره، وذلَّل له رقاب عدوِّه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا رسول الله، وعلى أهلك وصحبك، ومن تبعك بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فيا عباد الله: إن لكل شيء إذا ما تمَّ نقصان، ولكل خير إذا ما عم إنسان، ولكل وقت إذا ما مضى حُسْبان، ولكل توفيق إذا تحقق رحيم رحمنٌ، ولكل طاعة إذا ما انقَضَتْ حكمةٌ وبيان، كيف؟ بعد الحج أخلاقٌ والأخلاق أرزاق: أيها المسلمون: الحج ركيزة من ركائز الإسلام، وعمود من أعمدة الشريعة، وركن من أركان الدين، والدين المعاملة، والمعاملة في الإسلام بالأخلاق الحسنة، كيف؟ وهكذا تُستقَى الأخلاق من أركان الإسلام، وتسمو المعاملات بهذه الأخلاق، كيف؟ في الصلاة: قال ربُّنا مبينًا الحكمةَ العليا من الصلاة: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]. فمن لم تصرِفْه صلاته عن الفحشاء والمنكر، ومن لم تُبْعِدْه صلاته عن الغَواية والضلال، فلا صلاةَ له. إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والفحشاء والمنكر هما جِماع الأقوال البذيئة، والأفعال السيئة، وهما لا يظهران إلا في التعامل مع الناس في المجتمع. ويقول ربنا في الحديث القدسي: ((إنما أتقبَّل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، وقطع النهار في ذكري، ولم يَبِتْ مصرًّا على معصيتي، ورحِم الأرملةَ والمسكينَ وابنَ السبيل)). وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾ [المعارج: 19 - 23]؛ أي: إن المداومة على الصلاة تعالج أمراضًا كثيرة؛ منها: الهلَع، والجزَع، ومنع الخير. في الزكاة: فضلًا عن أنها طُعمة للفقير والمسكين، فإنها أيضًا تطهير النفوس من الشح والإمساك، وتطهير القلوب من الطمع والجشع، وتطهير للألسن من الكذب والنفاق، وتطهير للمجتمع من الحقد والغل والحسد، كيف؟ ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]. الصوم: شهر رمضان هو جامعة الأخلاق؛ فهو شهر الصبر والبر، شهر الإخلاص والكرم، وشهر الصلة والرحمة، وشهر الحِلْمِ والصفح، وشهر المراقبة والتقوى، وكل هذه أخلاق يغرسها الصوم في نفوس الصائمين، وهي تصب كلها في التقوى؛ قال ربنا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]. في الحج: تجد أسمى المعاني الأخلاقية التي يغرسها القرآن في نفوس الحُجَّاج والمعتمرين؛ من خلال قوله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 197]. والحج يجرِّد الحاج من ذنوبه، فيعود صفحة بيضاءَ كيوم مولده؛ عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((من حجَّ هذا البيت، فلم يرفُثْ، ولم يفسُقْ، رجع كيوم ولدته أمه))؛ [متفق عليه]. والحج يُذِيب الفقر، ويفتح للحاج أبوابَ الرزق والسَّعَةِ والغِنى، كيف؟ عن عامر بن ربيعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإن متابعةً بينهما تنفي الفقر والذنوب، كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد))؛ [المصدر: جامع المسانيد والسنن، إسناده حسن]. بعد الحج زهد في الدنيا: عباد الله: يعود الحاج زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة، كيف؟ سُئِل الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما الحج المبرور؟ قال: "أن تعود زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة"، وقال بعض السلف: "إن من ثواب الحسنة، الحسنةَ بعدها"، فما أجمل أن يعود الحاج بعد الحج إلى أهله ووطنه، وقد ازداد إيمانه، واستقام حاله، وحسُن خُلُقه، وكَمَل وقاره، ورَسَخ يقينه، وزاد وَرَعُه، وتعمَّق تقواه! فإن الحج بكل مناسكه يعرِّفك بالله تعالى، ويذكِّرك بحقوقه سبحانه، وبخصائص ألوهيته جل في علاه، وأنه لا يستحق العبادة سواه؛ وفي الأثر: (إذا عرَفْتُمُ الله حقَّ معرفته، لَزالت بدعائكم الجبال). فمن يعُدْ بعد الحج بهذه الصفات الجميلة، والخِلال الجليلة، فهو حقًّا من استفاد من الحج وأسراره، ودروسه وآثاره، وإلا فأين أثرُ الحج فيمن عاد بعد حجِّه مضيِّعًا للصلاة، مانعًا للزكاة، آكلًا للربا، عاملًا بالرُّشا، عاقًّا لوالديه، قاطعًا للأرحام، والغًا في الموبقات والآثام؟ فمن امتنع عن محظورات الإحرام أثناء حج بيت الله الحرام، يعلم أن هناك محظوراتٍ على الدوام، اليوم وغدًا وطول الأعوام، فليحذر إتيانها؛ قال تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229]. والمؤمن ليس له منتهى من صالح العمل إلا حلول الأجل؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]. بعد الحج رصيد من الأجر: إخوة الإسلام: إن الحج رصيد للحاج إلى يوم اللقاء، فالحج ليس نفقاتٍ ضائعةً بلا عائد، كلا، فإنه ذُخْرٌ باقٍ، وغنيمة مُدَّخرة، وقُرْبَةٌ في صحيفة الأعمال يَلقَى بها الحاج ربه يوم القيامة: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، وصدق الله: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96]. بعد الحج عيد المسلمين الأكبر: أيها المسلمون: إن الأعياد في الإسلام طاعة تأتي بعد الطاعة؛ فعيد الفطر ارتبط بشهر رمضانَ الذي أُنزِل فيه القرآن، وفيه الصوم الذي يُذكِّر بهَدْيِ القرآن، موسم يُختَم بالشكر والتكبير؛ ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]. وعيد الأضحى ارتبط بفريضة الحج، موسم يُختَم بالذكر والتكبير؛ ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 203]. إنها ذكريات تتجدد عبر الزمان والمكان، وتحياها الأجيال جيلًا بعد جيل، فتتعمق إيمانًا، وتتألق يقينًا، وتزداد صفاءً ولمعانًا. بعد الحج تواضع بلا افتخار: عباد الله: إن التجرد من الثياب المعتادة عند الإحرام فيه تذكرة بالآخرة؛ حيث المساواة بين الغني والفقير، والقوي والضعيف، والرئيس والمرؤوس، الحاكم والمحكوم، كلهم خاشعون متساوون أمام رب العالمين، وذاك درس يجب على الحاج التواضع عند التعامل مع من هم أقل درجة ومع البسطاء. والافتخار فقط بالإسلام: عندما يتفاخر الناس بالأنساب، ويتنابزوا بالألقاب، ويتذاكروا بالأحساب، فإن الله عز وجل يوجِّههم إلى غير ذلك، وهذا ما حدث في أعقاب فريضة الحج، عندما فرغ الناس من أعمال الحج، تفاخروا بأنسابهم وألقابهم، هذا يقول: أنا ابن فلان، وهذا يقول: أنا من قبيلة فلان، وهذا يقول: عشيرتي فلان، وهذا ما يمقته الدين، ويُبغِضه الإيمان، يجب أن يتفاخر الناس بإسلامهم، ويتذاكروا بعقيدتهم، رحِم الله من قال: أبي الإسلام لا أب لي سواه ![]() إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ ![]() ![]() ![]() وصدق الله العظيم: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]. بعد الحج ذكر وشكر: أيها المسلمون: انقضى الحج وبقِيَ الذكر، ذكر الله وما والاه، ذكره على الدوام، وشكره على نعمة الإسلام؛ فالعبد الذاكر لربه، المسبِّح بحمده، المتوجِّه إليه، المتوكل عليه - يكون عند ربه مذكورًا، ويكون سعيه مشكورًا، ويكون عمله مبرورًا، وكلما زاد في ذكره، زاد الله في أجره، وشدَّ من أزْرِهِ، وكان إليه بكل خير أسرع، كيف؟ قال الله تعالى: ((إذا تقرَّب إليَّ العبد شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب إليَّ ذراعًا، تقربت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا، أتيته هرولةً))؛ [تخريج السيوطي: عن أنس، تحقيق الألباني: ذكر في صحيح الجامع]. ولذلك قال الله تعالى في أعقاب الحج: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ [البقرة: 198 - 200]. دَعُوكم من هذه المفاخرات، اتركوا هذه المنابذات، تجنَّبوا هذه المناوشات، وعودوا إلى ربكم؛ فاذكروه واعبدوه، وادعوه وترسموا طريقه من جديد، ولا تحيدوا عنه؛ ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ [البقرة: 200]. من السبعة الذين يظلهم الله عز وجل يوم القيامة، يوم لا ظِلَّ إلا ظله: ((رجل ذكر الله في خلاء، ففاضت عيناه...))؛ [قال الشيخ الألباني: صحيح]. المسلم يجب أن يكون دائمَ الذكر لله، ليس ساعة دون ساعة، أو يومًا دون يوم، أو أسبوعًا دون أسبوع، أو شهرًا دون شهر، أو عامًا دون عام، كلا؛ وإنما يقول الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 41]، يجب أن يجعل المسلم لسانه دائمًا رطبًا بذكر الله: ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله))؛ [حديث ذُكِر في صحيح الجامع]. بعد الحج الحفاظ على العبادات، فهي ذكر، كيف؟ أخي المسلم: يجب أن تكون ذاكرًا لربك في كل أحوالك؛ في غناك وفقرك، في قوتك وضعفك، في صحتك ومرضك، في يسرك وعسرك، في سفرك ومقامك، في حَلِّك وتَرْحَالك، في حركاتك وسكناتك، حاكمًا أو محكومًا، رئيسًا أو مرؤوسًا، يجب أن تكون ذاكرًا لربك، شاكرًا لأنْعُمِهِ؛ ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ [آل عمران: 191]، يجب أن تكون دائمَ الذكر لله عز وجل، لماذا؟ ذكر الله عز وجل من أجله صلَّينا، ومن أجله صُمْنا، ومن أجله حَجَجْنا، ومن أجله تصدَّقنا، ومن أجله أُرْسِلَتِ الرسل، ومن أجله أُنْزِلَتِ الكتب، كيف؟ في الصلاة: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9]. في الزكاة: أجر وفير، وفضل كبير، وخير كثير؛ ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 274]. والصدقة تطيب النفس وتزكِّيها، كيف؟ عن عائشة أم المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما عمِل ابن آدم من عَمَلٍ يوم النحر أحب إلى الله من إهراقة دم، وإنه لَيأتي يوم القيامة في دمه بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم يقع من الله بمكانٍ قبل أن يقع بالأرض، فطِيبوا بها نفسًا)). وفي الأثر: (الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير، والله طيب لا يقبل إلا طيبًا)). في الصيام: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، لماذا يا رب؟ ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]. في الحج: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 203]. نعم، ما فُرِضت العبادات إلا لذكر الله، وما أُنزِلتِ الكتب إلا لذكر الله؛ ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]؛ أمر يسير يسَّره الله لمن أخلص وفَهِم فقه التعامل مع كلمات الله، وآيات الله، وكتاب الله. ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفتح: 8، 9]. بل إن الذين يقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكونوا أشدَّ الناس ذكرًا لربهم، وشكرًا لأنْعُمِهِ، كيف؟ ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، من هو الذي يذكر الله؟ هو الذي يخاف عذابه، هو الذي يرجو رحمته، يُكْثِر من ذكره، ويؤدي شكره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرني ربي بتسع: خشية الله في السر والعلانية، وكلمة العدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغِنى، وأن أصِلَ مَن قطعني، وأعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون صمتي فكرًا، ونطقي ذكرًا، ونظري عِبرة، وآمر بالعرف؛ وقيل: بالمعروف))؛ [مشكاة المصابيح]. الصبر بعد الحج: إخوة الإسلام: الحج مدرسة لترويض النفس على الصبر؛ صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على الكرب، وصبر على الفقد، وصبر على كظم الغيظ وتحمُّل المشاقِّ في السفر وقيام الليل والمرض، وتحمُّل أذى الناس بسبب الزحام، وكافة المتاعب التي يلقاها الحاج من أول الرحلة إلى حين عودته، وهو يقابل ذلك كله بالقول الحسن؛ قهرًا للشيطان: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53]. بعد الحج أخذ بالأسباب: عباد الله: السعي بين الصفا والمروة درسٌ نتعلم منه ضرورةَ بذلِ الجَهد لقضاء الحاجة، مع حسن التوكل على الله، مع إخلاص النية وعدم اليأس، مع اليقين بأن الخير يكون دائمًا فيما اختاره الله وعلى وَفق مشيئته؛ ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3]، كما فعلت السيدة هاجر أم إسماعيل على نبينا وعليه السلام، عندما احتاجت إلى الماء، فتركت رضيعها، وقامت تسعى بين الصفا والمروة، مشيًا وهرولة؛ سبعة أشواط، وبذلت في ذلك كل جهد، حتى خارت قواها، ولم ينبع الماء من الصفا ولا من المروة، بل من مكان آخر، وبضربة من الْمَلَكِ جبريلَ، والله يرزق من يشاء بغير حساب. بعد الحج عصيان الشيطان: أيها المسلمون: في رمي الجمرات الثلاث درس بليغ، وتذكير بوساوس الشيطان، وعداوته للإنسان، فهو لا ييأس في اتباع كل وسائل الإغراء والوسوسة لإيقاع الإنسان في المعصية؛ ﴿ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16، 17]، وقد حاول اللعين إغواءَ إسماعيل لعصيان أمر والده إبراهيم، عندما أخبره بأمر ذبحه، وحاول إغواء أمه هاجرَ لمنع زوجها من ذبح ابنها إسماعيل، وحاول إغواء إبراهيم لعصيان أمر ربه بذبح ابنه الأوحد إسماعيل، وفشِل الشيطان في المحاولات الثلاث، وأطاع إسماعيل أمر والده، وصبرت هاجر على هذا الابتلاء، وامتثل إبراهيم لأمر ربه، وكان النجاة والفداء بذبح عظيم؛ ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201]. أخي المسلم: كانت عشر ذي الحجة موسمًا للخير، وسوقًا الحسنات، كل يوم بليلته يهُبُّ على قلبك المكدود، يضخ فيه الدماء، ويُنْبِت فيه الحياء، ويجدد فيه الروح، ويزيد فيه الإيمان، كل يوم بليلته يناديك: يا باغيَ الشر أقْصِرْ، ويا باغيَ الخير أقْبِلْ، يا نفوس الصالحين افرحي، ويا قلوب المتقين امرحي، يا عشَّاق الجنة تأهبوا، ويا عباد الرحمن ارغبوا، ارغبوا في طاعة الله، وفي حب الله، وفي جنة الله. بعد الحج الاستقامة: أيها المسلمون: الخلاصة: من علامات القبول، بعد الطاعة طاعة، وبعد الحسنة حسنة، وما أجمل الاستقامة بعد الحج! يقول ربنا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]. والإمام في الصلاة يذكر المصلين خلفه: استقيموا يرحمكم الله؛ خمس مرات في اليوم. إخوة الإسلام: لا يستقيم الظل والعود أعوج؛ لذا فإن بعد الحج يجب على المسلم أن يستقيم على أمر الله، ويستمر في طاعة الله، ويداوم على ذكر الله حتى يلقاه، فيبارك له الأجر، ويفرد له الظل، وينشر له الرحمة، ويزيِّن له الجنة. اللهم ارزقنا الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل. اللهم ارزقنا الجنة وما قرب إليها من قول وعمل. اللهم ارزقنا حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |