العمل والإتقان - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4954 - عددالزوار : 2057198 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4529 - عددالزوار : 1325307 )           »          الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 65 - عددالزوار : 52134 )           »          الحرص على الائتلاف والجماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 80 - عددالزوار : 45913 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 196 - عددالزوار : 64250 )           »          فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 374 - عددالزوار : 155317 )           »          6 مميزات جديدة فى تطبيق الهاتف الخاص بنظام iOS 18 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          إيه الفرق؟.. تعرف على أبرز الاختلافات بين هاتف iPhone 12 و Google Pixel 9 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          برنامج الدردشة Gemini متاح الآن على Gmail لمستخدمى أندرويد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 31-05-2022, 02:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,565
الدولة : Egypt
افتراضي العمل والإتقان

العمل والإتقان (1)
خميس النقيب


الحمد لله الواحدِ الأحد، الفردِ الصمد الذي لم يلِد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحدٌ، لك الحمدُ ربي على فضلك، لك الحمدُ ربي على نعمك، لك الحمدُ ربي على هديك، اشكرك ربي على آلائك وكرمك!

الحمدُ لله قامت بربِّها الأشياء، وسبَّحت بحمده الأرضُ والسماء، ولا زال الكون محكومًا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، فما من شيءٍ إلا هو خالقه ولا من رزقٍ إلا هو رازقُه، ولا من خير إلا هو سائقه، ولا من أمر إلا هو مدبِّره: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ [الرعد: 2].

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قديرٌ، ونشهد أن سيدنا محمد بن عبد الله ورسوله، اعتز بالله فأعزَّه، وانتصر بالله فنصره، وتوكَّل على الله فكفاه، وتواضع لله فشرَح له صدره، ووضع عنه وزرَه، ويسَّر له أمرَه، ورفع له ذكرَه، وذلَّل له رقاب عدوَّه. اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا رسول الله وعلى أهلك وصحْبك، ومن تبِعك بإحسان إلى يوم الدين!

أيها المسلمون، الإتقان صنعة الرحيم الرحمن، صنعة الله رب الإنسان ورب الأكوان " ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النمل: 88].

صَنع الله كلَّ شيءٍ في هذا الكون بإتقان وإبداع، بل خلق الإنسان وأمره على لسان حبيبه ومصطفاه بالإتقان: "إن الله يحب إذا عمِل أحدكم عملًا أن يتقنه"؛ متفق عليه، جعله خليفة في الأرض وأمره بالسعي فيها وإعمارها، وأوجب عليه الإحسان: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، بل وعد سبحانه بحفظ أجر المحسنين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30]، تحفيزًا لهم وترغيبًا لهم في الإحسان والإتقان.

وإذا نظرت - أخي المسلم - في الكون، لوجدت إبداع الله تعالى في كل مكوناته وكل أركانه وكل ذراته، وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد.

أرض وسماء، بحار وأنهار، أشجار وثمار، ليل ونهار، إنس وجان، طائر وحيوان، سهول ووديان، حجر ومدر، شمس وقمر: ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يس: 40].

إبداع في الخلق: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21].

إبداع في السماء: ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴾ [النازعات: 27، 28].

وإبداع في مداها الواسع: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [الذاريات: 47].

بل جمال وزينة تستدعي النظر والتفكر: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ﴾ [ق: 6].

إبداع في الأرض: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 31]، إنه: ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 88].

انظر لتلك الشجرة ذات الغصون النضرة
من شادها من بذرة حتى استقامت شجرة
انظر إلى النحلة في بستانها منقعرة
من الذي علمها مصَّ رحيق الثمرة
إنه صنع الله الذي أتقَن كل شيء

عباد الله، كون مصنوع بإتقان عجيب عبر عنه إمام أهل السنة أحمد بن حنبل طيب الله ثراه حينما أمسك البيضة يومًا وقال: هنا حصن حصين، أملس ليس له باب، وليس له منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، وبينما هو كذلك إذ انصدع جداره، فخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن، وصوت مليح.

إنه صنع الله الذي أتقَن كل شيء.

إنه قانون إتقان الصنعة الذي عبَّر عنه الشافعي عندما أمسك ورقة التوت يومًا، فقال: ورقة التوت، تأكلها الغزالة تعطينا مسكًا، وتأكلها الشاة تعطينا لبنًا، تأكلها دودة القز تعطينا حريرًا،

إن النتائج مختلف لكن الطعام واحد فسبحان الواحد إنه "صنع الله الذي أتقن كل شيء.

في تفسير ابن كثير - رحمه الله - أنه سُئل أحد الأعراب، فقيل له: ما الدليل على وجود الرب تعالى، فقال: يا سبحان الله، إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام ليدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!

إنه صنع الله الذي أتقن كل شيء.

أبدَع الله تعالى الكون، وأتقن فيه كل شيء، وأمر الإنسان فيه بالإتقان والإحسان، بل يكون معهم، يحفظهم ويرعاهم ويوفقهم إذا اتَّقوا وأتقنوا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128].

أيها المسلمون، الدافع الأساسي للعمل والإتقان هو الايمان، فالعمل بلا إيمان منقوص، والإيمان بلا عمل كذلك منقوص، وأكثر آيات الإيمان في القرآن مقرونة بالعمل كيف؟!

﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [البقرة: 25].

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 82].

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 277].

عباد الله، قال المفسرون، إن الصالحات كلمةً جامعةً في القرآن الكريم، إذ إنها تشمل ما يصلح به الدين والدنيا، والفرد والمجتمع، والمادة والروح.

إن المؤمن يندفع إلى العمل بحافز من نفسه، وباعث من ذاته، ولا يُساق إلى العمل مثل القطعان، لا يدفعه إليه ذل قوي، ولا قهر عفيف، ولا ضغط خارجي، هذا الباعث هو الإيمان بالله، ورسالة السماء، ومهمة الإنسان في إعمار هذه الأرض: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61].

الإنسان لا يَمل من العمل ولو تقدم به العمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة (نخلة صغيرة)، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها"؛ أخرجه أحمد.

إنه الثواب الكبير والأجر العظيم والنفع الكثير للفرد والمجتمع كيف؟! قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة"؛ رواه البخاري.

إن الإيمان ليس مجرد إدراك ذهني، أو تصديق قلبي، غير متبوع بأثر عملي، إن الإيمان الحقيقي اعتقاد، وعمل، إخلاص وأمل، من هنا قال عليه الصلاة والسلام: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكنْ ما وقر في القلب وصدقه العمل"؛ روي البيهقي والطبراني.

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدَانَ: "الشَّابَّ الْمُحْتَرِفَ".

أيها المسلمون، كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا رأى غلامًا أعجبه سأل: هل له حرفة؟ فإن قيل: لا، سقط من عينه.

وذلك أيها المسلمون هو ما حثَّ عليه نبيُّنا محمد حين رغب أصحابه في أن يَحترفوا حرفة تغنيهم عن السؤال، فعَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا، فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ"؛ متفق عليه.

ويعالج النبي صلى الله عليه وسلم البطالة بطريقته، حتي يتسنَّى للناس حياة كريمة وعيشة هنية بعيدًا عن ذل السؤال وقهر المسألة! فعن أنس بن مالك أن رجلًا من الأنصار - حكيم بن حزام - أتى النبي يسأله مالًا، فقال: "أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟" قال: بلى، حِلْس (فرش غليظ)، نلبس بعضه (نتغطى به)، ونبسط بعضه (نفرشه)، وقَعْب (قدح) نشرب فيه من الماء، قال: "ائْتِنِي بِهِمَا"، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله بيده، وقال: "مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟" قال رجل: أنا أخذهما بدرهم، قال: "مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟" مرتين أو ثلاثًا، قال رجل: أنا أخذهما بدرهمين، فأعطاهما إيَّاه وأخذ الدرهمين، فأعطاهما الأنصاري، وقال: "اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا، فَانْبذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ"، فأتاه به، فشدَّ فيه رسول الله عودًا بيده، ثم قال له: "اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ، وَلا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا"، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسول الله: "هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَصْلُحُ إِلاَّ لِثَلاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، وَلِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ (الدية)؛ رواه أبو داود، وقال صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى"؛ متفق عليه.

إن الإتقان لا يستقيم إلا بالإخلاص والأمانة، والكفاءة، انظر إلى موسى عليه السلام، رغم أنه خرج من مصر إلى مدين مطارد، ومجهد، ومتعب وغريب، ولا يملك أي شيء، في بلد فر إليه من البطش والظلم والقتل: ﴿ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص: 20].

إلا أنه كان مخلصًا أمينًا، ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26].

بل إنه راح إلى الظل لم ينس ربه، ولم ينس خالقه: ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24].

كانت النتيجة، بيت وزوجة ووظيفة، البيت عند شعيب عليه السلام، والزوجة بنت شعيب عليه السلام، والوظيفة، استأجره شعيب عليه السلام، كل ذلك نتيجة إخلاصه وأمانته ومروءته وإتقان عمله وهو يسقي لبنتي شعيب!

إن الرسول صلوات ربي وسلامه عليه حثنا على إتقان وإحسان الذبح رأفة ورحمة بالطير والحيوان، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن اللهَ كَتَبَ الإحْسَانَ علَى كُل شيءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"، في صحيح مسلم.

عباد الله، في العبادة حثنا الإسلام على إتقانها وأدائها كاملة الأركان والشروط والواجبات، وإلا كانت هباءً منثورًا، كيف؟!

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام قال: "ارْجِعْ فَصَلِّ فإنكَ لَمْ تُصَلِّ"، فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعَلَيْكَ السلَامُ"، ثم قال: "ارْجِعْ فَصَلِّ فإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا علمني، قال: "إذَا قُمْتَ إلى الصلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُم اقْرَأْ ما تَيَسَّرَ معكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُم ارْكَعْ حتى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُم ارْفَعْ حتى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُم اسْجُدْ حتى تَطْمَئِن سَاجِدًا، ثُم ارْفَعْ حتى تَطْمَئِن جَالِسًا، ثُم افْعَلْ ذلكَ في صَلَاتِكَ كُلهَا"؛ صحيح مسلم.

أتقن عملًا واحدًا تتميز به أفضل من قيامك بأعمال عدة ظاهرة للجميع قد تُصنفك في عِداد الفاشلين؛ إن الإتقان مطلوب حتى في الأمور التي لا يتوقف عليها نفع أو ضرر للميت، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا كفنَ أحَدُكم أخاهُ، فلْيُحسِنْ كفَنَه"؛ صحيح مسلم.

حتى في الدفن واللحد أُمرنا بالإتقان؛ ففي دفن أحد الصحابة تركوا فرجة في القبر، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سوُّوا لَحْدَ هذا"، حتى ظن الناس أنه سنة، فالتفت إليهم، فقال: "أما إن هذا لا ينفع الميت ولا يضره، ولكن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يُتقنه"؛ رواه البيهقي.

أيها المسلمون، هذه قصة رمزية: في يوم من الأيام استدعى الملك وزراءه الثلاثة، وطلب من كل وزير أن يأخذ كيسًا ويذهب إلى بستان القصر، ويملأ هذا الكيس له من مختلف طيبات الثمار والزروع، وطلب منهم ألا يستعينوا بأحدٍ في هذه المهمة، وألا يسندوها إلى أحد آخر؛ فاستغرب الوزراء من طلب الملك، وأخَذ كلُّ واحد منهم كيسه، وانطَلق إلى البستان، الوزير الأول حرص على أن يُرضِيَ الملك، فجمع من كل الثمرات من أفضل وأجود المحصول، وكان يتخيَّر الطيب والجيد من الثمار حتى ملأ الكيس، أما الوزير الثاني فقد كان مقتنعًا بأن الملك لا يريد الثمار ولا يحتاجها لنفسه، وأنه لن يتفحص الثمار، فقام بجمع الثمار بكسل وإهمال، فلم يتحرَّ الطيب من الفاسد، حتى ملأ الكيس بالثمار كيفما اتَّفق، أما الوزير الثالث فلم يعتقد أن الملك سوف يهتم بمحتوى الكيس أصلًا، فملأ الكيس بالحشائش والأعشاب وأوراق الأشجار وفي اليوم التالي، أمر الملك أن يُؤتى بالوزراء الثلاثة مع الأكياس التي جمعوها، فلما اجتمع الوزراء بالملك أمر الملك الجنود بأن يأخذوا الوزراء الثلاثة، ويسجنون كل واحد منهم على حده مع الكيس الذي معه لمدة ثلاثة أشهر في سجن بعيد لا يصل إليهم فيه أحد كان، وأن يمنع عنهم الأكل والشراب، فالوزير الأول بقي يأكل من طيبات الثمار التي جمعها حتى انقضت الأشهر الثلاثة، والوزير الثاني عاش الشهور الثلاثة في ضيق وقلة حيلة معتمدًا على ما صلح فقط من الثمار التي جمعها، أما الوزير الثالث فمات جوعًا قبل أن ينقضي الشهر الأول.

والحكمة هي أن نسأل أنفسنا: أي نوع نحن؟! فنحن الآن في بستان الدنيا، نغش وتتكاسل ونهرب من أعمالنا إلا ما رحِم ربي وعصم! انتشرت الرشوة على حساب مجتمعاتنا! نجمع من الأعمال الطيبة، أو الأعمال الخبيثة، ولكن غدًا عندما يأمر ملك الملوك أن تسجن في قبرك، في ذلك السجن الضيق المظلم وحدك، ماذا تعتقد أنه سوف ينفعك غير طيبات الأعمال التي جمعتها في حياتك الدنيا! العودة إلى الله والحساب عند الله: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 25، 26].

وما زرعته ستجد نتائجه: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].

يقول الله تعالى في الحديث القدسي: إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثم أوفيها لكم، فمن وجد خيرًا، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه".

وهذه قصة أخرى تقرب المعنى: يحكى أنه حدثت مجاعة بقرية، فطلب الوالي من أهل القرية طلبًا غريبًا كمحاولة منه لمواجهة خطر القحط والجوع، وأخبرهم بأنه سيضع قِدرًا كبيرًا في وسط القرية، وأن على كل رجل وامرأة أن يضع في القِدر كوبًا من اللبن، بشرط أن يضع كل واحد الكوب متخفيًا دون أن يشاهده أحد، فهُرِعَ الناس لتلبية طلب الوالي، فكل منهم تخفى بالليل وسكب الكوب الذي يخصه، وفي الصباح فتح الوالي القدر، وماذا شاهد؟! شاهد القدر وقد امتلأ بالماء، أين اللبن؟! ولماذا وضع كل واحد من الرعية الماء بدلًا من اللبن؟!

لأن كل واحد من الرعية قال في نفسه: إن وضعي لكوب واحد من الماء لن يؤثر على كمية اللبن الكبيرة التي سيضعها أهل القرية، وكل منهم اعتمد على غيره، وكل منهم فكر بالطريقة نفسها التي فكر بها أخوه، وظن أنه هو الوحيد الذي سكب ماءً بدلًا من اللبن، والنتيجة التي حدثت أن الجوع عم هذه القرية ومات الكثيرون منهم ولم يجدوا ما يعينهم وقت الأزمات!

أنت تغش وتخدع عندما لا تُتقن عملك، عندما تملك العلم وتبخل به عن الآخرين! عندما تبيع للناس الوهم والأوهام! عندما تزرع الفتن وسط المجتمع من أجل مصالحك الشخصية! أنت تغش عندما تسفك دماء الأبرياء بغير حقٍّ! عندما تهدم الكفاءات والقدرات وتضع الحسالى والكسالى في مناصب القيادة! عندها تضيع الأمانة ويفشل العمل، "إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل: متى الساعة؟ قال: إذا وُسِّد الأمر لغير أهله، فانتظر الساعة!

عباد الله، إن المسلمين اشتكوا للخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من غشِّ بائعي اللبن بالماء، فأمر أحد رجاله بأن ينادي في بائعي اللبن بألا يغشون اللبن، فدخل المنادي إلى السوق ونادى: "يا بائعي اللبن، لا تَشُوبوا اللبن بالماء، فتغُشُّوا المسلمين، ومن يفعل فسوف يعاقبه أمير المؤمنين عقابًا شديدًا".

وفي ذات ليلة خرج الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مع خادمه - أسلم - ليتفقد أحوال المسلمين في جوف الليل، وفي إحدى الطرق جلس ليستريح من التجوال إلى جانب أحد الجدران، فإذا به يسمع امرأة تقول: قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه - أي اخلطيه - بالماء، فقالت الابنة: يا أُماه، وما علمتِ ما كان من عَزْمَة أمير المؤمنين اليوم؟! قالت الأم: وما كان من عزمته؟ قالت: إنه أمر مناديًا فنادى: لا يُشَابُ اللبن بالماء، فقالت الأم: يا بُنيَّتي، قومي إلى اللبن فامْذقيه بالماء فإنك في موضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر، فقالت الصبية: والله ما كنت أطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، إن كان عمر لا يرانا، فربُّ أمير المؤمنين يرانا، ولَما سمع عمر بن الخطاب ذلك أُعجِب بالفتاة لمراقبتها وخشيتها لله، وقال: يا أسلم، حدِّد الباب بعلامة، واعرِف الموضع، ثم مضى، فلما أصبح قال: يا أسلم، امضِ إلى الموضع فانظر من القائلة؟ ومن المقول لها؟ وهل لهما من بعل - زوج - فذهب أسلم إلى المكان، فوجد امرأة عجوزًا، وابنتها أم عمارة، وعلم أنْ ليس لهما رجل، ثم عاد فأخبر عمر بن الخطاب.

دعا عمر بن الخطاب أولاده، فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوِّجه، ولو كان بأبيكم حَركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه الجارية، فقال عبد الله بن عمر: لي زوجة، وقال أخوه عبد الرحمن: لي زوجة، وقال ثالثهما عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني، فبعث إلى الجارية فزوَّجها من عاصم، فولدت لعاصم بنتًا، ولدت هذه البنت ابنة صارت أم "عمر بن عبد العزيز"، خامس الخلفاء الراشدين - رضي الله عنه – إنها أم عمارة بنت سفيان بن عبد الله بن ربيعة الثقفي، فأكرمها الله في الدنيا بزواجها من ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وجعل من نسلها أميرًا للمؤمنين هو الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الذي ملأ الأرض عدلًا ورحمة، زوج الشباب حتى لا يبقى بدون زواج شاب، قضى الديون حتى لا يبقى دين على أحد، نثر الحبوب على أسطح المنازل، فلما سُئل في ذلك قال: حتى لا يقال: إن الطيور جاعت في عهد عمر بن عبد العزيز.

عباد الله، إننا في حاجة ماسة إلى إتقان العمل، وعدم الغش والخداع، وخاصة في عصر ضاعت فيه القيم، وضاعت الثقة بين الناس، وأصبحنا وكأننا في غابة، يأكل القوي فيها الضعيف، ويتهم الخائن فيها الشريف، ويتسلط فيها المجرم على العفيف، ويختلط الحابل فيها بالنابل، ولا يهم معظم الناس إلا المصلحة الشخصية والمنفعة المادية، لا يهمهم إلا جمع المادة وتعداد ساعات العمل، دون النظر إلى الجودة والإتقان!

إننا يجب أن نغرس مراقبة الله في نفوسنا ونفوس أبنائنا، في جميع أحوالنا وأعمالنا، في ضعفنا وقوتنا، في غنانا وفقرنا، في حركاتنا وسكناتنا.

أيها المسلمون، إن سنة الله لا تتبدل ﴿ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 62]، إن سنة الله لا تتحول ﴿ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43].

إن سنة الله لا تسمح لفارغ، أو قاعد، أو متبطل، أو كسول، أن يظفر بما يريد، أو أن يحقق ما يأمل، بل إن سنن الله تعالى في الدنيا والآخرة لا تفرق في الجزاء عن العمل بين إنسان وإنسان، فمن عمل أجر، ومن قعد حُرم، ولو طبق إنسان ملحد منهج الله عز وجل لقطف ثماره في الدنيا، وما له في الآخرة من خلاق، وانظروا إلى اليابان وصناعة اليابان، إن منهج الإسلام منهج تفصيلي، منهج شامل، منهج كامل، تنطبق نتائجه على مقدماته، ومن زرع وجد، ومن جد حصد!

إن الجنة لا تُعد للكسالى أو الغافلين، أو أصحاب العاهات، وإنما الجنة لمن عمل وأتقن عمله: ﴿ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الزخرف: 72].

اللهم تقبَّل أعمالنا واشرح صدورنا.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 27-06-2022, 12:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العمل والإتقان

العمل والإتقان (2)
خميس النقيب
الحمد لله الواحدِ الأحد الفردِ الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، الحمد لله الذي أتقَن كلَّ شيء خلقه، وبدأ خلقَ الإنسان من طينٍ، وسخر له الكون، وفضَّله على الخلق أجمعين، ورزقه من الطيبات، وهداه النجدين، وأرسَل له الصادق الأمين، رزقه الهدى، وأرشده للعمل، وأجل حسابه ليوم الدين.

لك الحمد ربي على فضلك، لك الحمدُ ربي على نعمك، لك الحمد ربي على هديك، أشكرك ربي على آلائك وكرمك.

الحمد لله قامت بربها الأشياء، وسبحت بحمده الأرض والسماء، ولا زال الكون محكومًا بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، فما من شيء إلا هو خالقه، ولا من رزق إلا هو رازقه، ولا من خير إلا هو سائقه، ولا من أمر إلا هو مدبره، ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ [الرعد: 2].

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، اعتزَّ بالله فأعزه، وانتصر بالله فنصره، وتوكل على الله فكفاه، وتواضع لله فشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ويسر له أمره، ورفع له ذكره، وذلل له رقابَ عدوِّه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليك يا رسول الله، وعلى أهلك وصحبك، ومن تبعك بإحسان إلى يوم الدين.

١- قيمة الوقت والإتقان:
أيها المسلمون عباد الله، إن المؤمن الذي يحس بقيمة الوقت، يسلُك طريق العمل والإتقان، يرتسم طريق الجد والإحسان، فالوقت هو رأس مال الإنسان، بل الوقت هو الحياة التي منحها له الرحمن.

وكلما مضى الوقت فإنه ينقص من عمره، ويقرِّبه من لقاء الله خطوة، ولا يدري كم بقي من عمره بعض خطوة، أم خطوة، أم خطوات؟ يقول الحسن البصري رضي الله عنه: "إنما أنت أيها الإنسان أيامٌ مجموعةٌ، فإذا ذهب يومُك فقد ذهب بَعْضُك".

أيها الإنسان، إذا مر يوم من حياتك فقد وقعت ورقة من شجرتك، وطويت صفحة من صفحاتك، وسقط جدار من بنيانك.

يقول عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، نعم الليل والنهار يعملان فيك كيف؟ يقربان كل بعيد، ويُبليانِ كل جديد، ويَفُلَّانِ كل حديد، يقول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن تُوزَن عليكم، ويقول أيضًا: لو قيل: إن كل الناس يدخلون الجنة إلا واحدًا، لظننت أني ذلك الواحد؛ بينما يقول الصديق أبو بكر رضي الله عنه: والله لا آمَنُ مكرَ الله وإن كانت إحدى قدمي في الجنة، المسلم يعلم ذلك فيتجه من فوره إلى العمل لإعمار الأرض طالما بقي على قيد الحياة.

عباد الله، المسلم يعلم أن الله سائلٌ الإنسانَ يومَ القيامة، يوم الجزاء، يوم الحساب، ((عن عمره فيمَ أفناه؟ وعن شبابه فيمَ أبلاه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟))؛ لذلك يضنُّ بوقته من أن يضيع عبثًا دون فائدة، أو أن يُبعثر سُدًى دون ثمرة، يعلم أن الوقت نعمة كبرى، نعمة من الله يجب أن تُشكَر بالانتفاع بها، ولا ينبغي أن تُكفَر بالتفريط فيها، فيكون الخسران لبني الإنسان في كل الأحيان، قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3]، قال الشافعي رضي الله عنه: لو لم ينزل للناس من القرآن إلا هذه السورة لَكَفَتْهم.

لذلك فالوقت هو الحياة، واستغلاله في العمل والإتقان طريق النجاة، وهذا يتسق مع القول المأثور: "اعمَلْ لآخرتِكَ كأنك تموتُ غَدًا، واعمَلْ لدُنْياك كأنك تعيشُ أبدًا".

الزمن من أثمن الأشياء التي لا يستطيع الإنسان شراءها، وإنْ مرَّ لا يعود إلى الوراء، للوقت قيمة عظيمة في الإسلام، وخاصة عند أهل العلم، ومن فرَّط في وقته فقد فرط في حياته.

ومن الناس من يضيِّع وقته في الغفلة واللهو والغِيبة والنميمة، ولا يحسن استثماره، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كَمَا فِي الصَّحِيحِ: ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ))، فالخاسر وقته مغبون؛ كالذي يبيع سلعته بأقل من ثمنها، أو يشتريها بأكثر مما تستحق، والحسرة الكبرى في الآخرة حتى وإن كان الإنسان في الجنة يتحسَّر على ساعةٍ فاتَتْه لم يعمل فيها لنفسه، ولم يذكر فيها ربَّه.

الذي لا يشعر بقيمة الوقت لا يعمل، ومن لا يعمل لا يتقن، ومِنْ ثمَّ يضيع نفسه، ويُضيِّع مَنْ يقُوتُ أو يعول من أولاد أو رعية، قال رسول الله صلى الله عليه وسم: ((كفَى بالمرء إِثمًا أن يُضَيِّع مَنْ يقُوتُ))؛ رواه أبو داود، وفي رواية: ((مَنْ يعُول)).

قالَ ابنُ القيم رَحِمَه الله تعالى: "وأعظمُ هذِهِ الإضاعاتِ إضاعتانِ، هُمَا أصْلُ كُلِّ إضاعةٍ: إضاعةُ القلبِ، وإضاعةُ الوقتِ؛ فإضاعةُ القَلْبِ مِنْ إيثارِ الدنيا على الآخِرَةِ، وإضاعةُ الوقتِ مِنْ طولِ الأمَلِ، فاجتمعَ الفسادُ كُلُّهُ في اتِّباعِ الهوى وطولِ الأمَلِ، والصلاحُ كُلُّه في اتِّـباعِ الهُدى، والاستعدادِ لِلقاءِ".

المؤمن الحق لا يؤخِّر عمل اليوم إلى الغد؛ لأن للغد عملًا لا يتَّسِع لغيره، هو حريص على أن يكون يومُه خيرًا من أمسه، وأن يكون غدُه خيرًا من يومه، وأن يطيل حياته بالعمل الصالح، فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: ((مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ))؛ رواه الترمذي.

أيها المسلمون، المؤمن الحق حريصٌ على أن يخلف من عنده علمًا نافعًا، أو عملًا طيِّبًا، أو مشروعًا مثمرًا، أو صدقةً جارية، أو ذرية صالحة؛ أبو الدرداء صحابي جليل، رأوه وهو في أواخر حياته يغرس جوزةً، وهو في الشوط الأخير من حياته، فتعجبوا فقال: وما لي لا أغرسها ولي ثوابها، ولغيري ثمرها.

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ وَفِي يَدِهِ فَسْلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا))؛ رواه أحمد.

٢ - العمل مرئي والإتقان قربة:
عباد الله، مما يسوق الإنسان إلى العمل، ويشجع على الإتقان أن العمل مرئي لله، والإتقان معروف عند مولاه؛ بل يشاهده رسول الله وأولياء الله قال تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105].

الذين يعلمون ذلك يعملون ويتقنون، وهناك فرق بين جاهلية مقيتة مظلمة، وإسلام معمر مضيء، حينما بُعث النبي عليه الصلاة والسلام قال عنه سيدنا جعفر لملك الحبشة: "كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونسيء الجِوار، ونقطع الرَّحِم، حتى بعث الله فينا رجلًا نعرف أمانته، وصدقه، وعفافه، ونسبه".

أيها المسلم، إن عملك الذي تعمله، إن حِرفتك التي تحترفها، إن مهنتك التي تمتهنها- تجارة، أو صناعة، أو زراعة، أو وظيفة - إن هذا العمل وحده إذا كان في الأصل مشروعًا، وسلكت فيه الطرق المشروعة، وأردت منه كفاية نفسك، وأهلك، وخدمة المسلمين، ولم يشغلك عن فريضة، ولا عن عمل صالح، هذا العمل الحرفي، المهني، الذي ترتزق منه، إتقانه وأداؤه على وجه صالح هو قربة من الله عز وجل، وهو عمل صالح يستحق صاحبه دخول الجنة.

٣- العمل والإتقان طريق الأنبياء: كل الأنبياء كان لهم عمل، كانت لهم حِرفة، كانت لهم مهنة، كان عندهم إتقان، كيف؟!

آدم عليه السلام عمِلَ في الزّراعة، كما نُقل عن أنس رضي الله عنه أنه كان يعمل بالحياكة، ورُويَ أنه أوَّل من عمل بالحِياكة.

إدريس عليه السلام، فقد ذكر الشيباني في كتابه "كسب الأنبياء" أن إدريس عليه السلام كان يعمل بالخياطة، وقيل: هو أول من خطَّ بالقلم، وخاط الثوب.

نوح عليه السلام كان متقنًا في صنعته بدليل صناعتهِ للسفينة بإتقان؛ لِقولهِ تعالى: ﴿ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ﴾ [هود: 37- 38].

إبراهيم ولوط عليهما السلام؛ حيث جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنهما اشتغلا بالزراعة.

إبراهيم عليه السلام بنى الكعبة مع ابنه إسماعيل، فأتقنها وحملا الحجارة بإخلاصٍ، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127]، وهو أول من اختتن، وضاف الضيفين، وقيل: كان يتاجر بالقماش.

داود عليه السلام فقد كان حدادًا، وألانَ اللهُ له الحديدَ، وعلمه ربُّه صنعة تعلَّمها وأتقنها أيَّما إتقان، ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ﴾ [الأنبياء: 80]، وكان يصنع الدروع الحربية.

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾ [سبأ: 10، 11].

إن الله وصف الدروع بأنها صنعة لبوس، فمجرد وصفها بأنها صنعة يدل على الإتقان، علاوة على ذلك، فقد أرشد داود عليه السلام إلى نقاط فنية تزيد من الإتقان في هذه الصنعة فقال: ﴿ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ ﴾ [سبأ: 11]، والدرع السابغة؛ أي: الطويلة الساترة غير القصيرة، ﴿ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾ [سبأ: 11]؛ أي: اجعل حلقاتها بقدر محدد، لا هي بالواسعة تسمح بدخول السلاح في مسامها، فينال المحارب منها الأذى، ولا هي بالضيقة تعيق حركته، لا هي بالدقيقة تضعف عن الحماية، ولا بالغليظة المرهقة.

وخصَّ النبيُّ عليه الصلاةُ السلام داودَ عليه السلام بقوله: ((ما أكَلَ أحَدٌ طَعامًا قَطُّ، خَيْرًا مِن أنْ يَأْكُلَ مِن عَمَلِ يَدِهِ، وإنَّ نَبِيَّ اللَّهِ داوُدَ عليه السَّلامُ، كانَ يَأْكُلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ))، وقد خصه بالذِّكر؛ لأنّه كان ملكًا، ونبيًّا، وصانعًا في نفس الوقت، وهو من الأنبياء الذين عملوا بالحُكمِ والمُلك، قال تعالى: ﴿ يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ﴾ [ص: 26]؛ حيثُ كان خليفةً في الأرض.

سليمان عليه السلام؛ حيث جاء عن الإمام الثعالبي أن سُليمان عليه السلام كان أوَّل من عمل في صناعة الصابون.

والله تعالى قال في حق سليمان والجن: ﴿ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾ [سبأ: 12، 13].

الجن تصنع له أشياء بإتقان؛ "المحاريب": أماكن العبادة، "والتماثيل": صور، وكانت الصور جائزة في شريعتهم، ﴿ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ ﴾: آنية الطعام؛ مثل حياض الماء من ضخامتها، ﴿ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾ قدور جمع قدر، وهي عظيمة ثابتة لا تتحرك من ضخامتها.

كان سُليمان عليه السلام وريثًا للحُكم بعد أبيه داود عليه السلام، فقد كان يُشاورهُ في الحُكم؛ لوفرة عقله، فقال تعالى عن ذلك: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ [النمل: 16]؛ أي: ورثهُ في النبوة والمُلك والحُكم، وكان ملكًا على الشام، وقيل: إنه مَلَكَ الأرض جميعها، وكان في حُكمهِ ربَّانيًّا، وعادلًا، بعيدًا عن الطُّغيان والظُّلم، وقد أعطاه الله تعالى مُلكًا عظيمًا وكبيرًا.

ورويَ أن سُليمان عليه السلام كان يصنع المكاييل.

كان نبي الله عيسى عليه السلام يعمل بالطب لعلاج المرضى، يقول الله تعالى في كتابه العزيز في سورة آل عمران: ﴿ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ﴾ [آل عمران: 49].

يوسف عليه السلام فقد كان وزيرًا للمالية أو التموين، وهو منصبٌ يتعلَّق بالأموال، والإحصاءات، والتخزين والتوزيع، ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55].

زكريا عليه السلام فقد كان يعمل بالنِّجارة، بدليل ما جاء عن النبي عليه الصلاةُ والسلام: ((كان زكريا نجارًا)).

إلياس عليه السلام كان يعمل في الغزل.

موسى عليه السلام فقد كان يعمل برعي الغنم، إضافةً إلى عمله بالتجارة؛ مما يدل على إعلاء شأن العمل، وتشريف للعاملين، وقد عمل بالكتابة؛ حيث كان يكتب التوراة بيده.

وسيد البشرية سيدنا مُحمد عليه الصلاةُ والسلام، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرعى الغنم لأهل مكة بالقراريط، قال سويد: يعني كل شاة بقيراط، فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ))، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: ((نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ))، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ , فإتقان العمل يدل على كمال العامل.

وعمل النبي صلي الله عليه وسلم بالتجارة بعد عمله برعي الغنم، وذلك بعد أن طلب من عمه أبي طالب، وهو في سن الثانية عشر من عُمره أن يصحَبَهُ معه في تجارتهِ إلى بلاد الشام، وهناك التقوا بالراهب "بَحيرا" الذي أخبر أبا طالب أن ابن أخيه محمدًا سيكون له شأنٌ عظيمٌ، ثُمّ كانت رحلته الثانية إلى بلاد الشَّام في تجارةٍ للسيدة خديجة رضي الله عنها مع غُلامها ميسرة، وما قاله عن صدقه وأمانته وإتقانه، وظل يتاجر حتى لحق بالرفيق الأعلى.

٤- عدم الإتقان خسران وخذلان: إتقان العمل يعود نفعه على صاحبه، ومن لم يعمل يبقى في الخذلان، ومن لم يتقن يتعرض للخسران، كيف؟!

يُروى أن هناك رجلًا بنَّاءً يعمل في إحدى الشركات سنوات طويلة، فبلغ به العمر أن أراد أن يقدم استقالته ليتفرغ لعائلته، فقال له رئيسه: سوف أقبل استقالتك بشرط أن تبني منزلًا أخيرًا، فقبل رجل البناء العرض، وأسرع في الانتهاء من بناء المنزل دون تركيز وإتقان، من ثم سلم مفاتيحه لرئيسه، فابتسم رئيسه، وقال له: هذا المنزل هدية مني لك بمناسبة نهاية خدمتك للشركة طول السنوات الماضية، فَصُدِمَ رجل البناء، وندم بشدة أنه لم يتقن بناء منزل العمر.

وأنت أخي المسلم، لماذا تَرضَى للآخرين ما لا ترضاه لنفسك؟!

لماذا تهتم بعملك الخاص ونفعك الخاص غير المتعدي، ولا تهتم بأعمال الآخرين؟!

الله تعالى غني عن أعمالك وعبادتك، وليس بحاجة إليها، فأنت الذي بحاجة إليها، وإلى أجرها العظيم، وكل عمل تقدمه خيرًا أو شرًّا، مُتقَنًا أو غير متقنٍ فهو لك، فاتقِ ربك، وأتقن عملك.

٥- اليد العليا خير من اليد السفلى: لتكن يدك ممرًّا لعطاء الله، وفاقد الشيء لا يعطيه؛ لذلك لا بد من السعي والعمل، لا بد من الجد والاجتهاد، لا بد من الإحسان والإتقان، بعيدًا عن الكسل والتواكل والخذلان، ذكر صاحب كتاب موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق، قال: ورد أن شقيق البلخي ودع صديقه إبراهيم بن أدهم، لسفره في تجارة، ولم يلبث إلا مدة يسيرة، ثم عاد ولقيه إبراهيم، فعجب لسرعة إيابه من رحلته، فسأله: لِمَ رجع؟ فقص عليه قصة شهدها أنه رأى طائرًا أعمى كسيحًا، وجاء طائر آخر يحمل إليه الطعام ويمده به، حتى يأكل ويشبع، فقال شقيق: إن الذي رزق هذا الطائر الأعمى الكسيح في هذه الخربة لقادر على أن يرزقني، وقرر العودة، فقال له إبراهيم بن أدهم: سبحان الله، يا شقيق، ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى العاجز الكسيح، ولا تكون أنت الطائر الذي يسعى ويكدح، ويعود بثمره على العُمْي من حوله، أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اليدُ العُليا خيرٌ من اليدِ السُّفلى))؛ متفق عليه.

٦- اليوم عمل وغدًا الجزاء: يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((إنما هي أعمالُكم أُحصيها لكم، ثم أوفيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه)).

إن اتباع الهوى يفسد العمل، ويقتل الوقت، بل يعطله ويفقده قيمته، وطول الأمل ينسيك نفسك، ويلهيك عن آخرتك ومصيرك، كيف؟! قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن أخوف ما أخاف اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة".

الليالي تتوالى، والأيام تتسارع، والساعات تنقضي، تشدنا إلى الله شدًّا، تقربنا من مَنْهانا المعلوم، ومصيرنا المحتوم، قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ارتحلت الدنيا وهي مدبرة، وارتحلت الآخرة وهي مقبلة، ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، اليوم العمل ولا حساب، وغدًا الجزاء ولا عمل"؛ رواه البخاري.

إن العامل المتقن ضرورة حياتية، والصانع المتقن ظاهرة حضارية، والزارع المتقن صنعة بشرية، وعلى سواعد كل هؤلاء يقوى المجتمع، ويتحضَّر الناس، وترتقي البشرية، وتستقر الحياة، فلا خلل ولا ملل ولا كسل؛ بل أمل وكفاح وعمل، هؤلاء يهديهم ربهم السُّبُل القويمة، ويفتح لهم الأبواب المغلقة، ويكون معهم بالإرشاد والتوفيق والسداد، قال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

اللهم ارزُقنا الإخلاص في العمل، والستر والتوفيق في الدنيا والآخرة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 86.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 84.56 كيلو بايت... تم توفير 2.13 كيلو بايت...بمعدل (2.46%)]