|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() عمود الإسلام (1) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الركوع والسجود الحمد لله رب العالمين؛ هدانا إلى الصراط المستقيم، وشرع لنا الدين الحنيف، ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، فهو الغني الحميد، الجواد الكريم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له {تسبح له السمـاوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا} وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلم الخلق بالله تعالى، وأشدهم خشية منه، وأكثرهم تعظيما له، صلى ذات ليلة فبكى فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه، وأخلصوا له دينكم، واقدروه حق قدره، واعبدوه حق عبادته {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون}. أيها الناس: الدنيا ملهاة للعباد، وزخارفها تصدهم عن ذكر الله تعالى، وتنسيهم الدار الأخرى، ومع شدة الاغترار بها وزخارفها يحتاج العباد إلى ما يذكرهم حقوق ربهم عليهم، وينبههم حال غفلتهم، ومن رحمة الله تعالى بعباده أن شرع لهم الصلوات، وفرضها عليهم خمس مرات في اليوم والليلة، تقربهم من ربهم، وتذكرهم آخرتهم .. تنشرح بها صدورهم، وتخفف همومهم وغمومهم. وإنها والله لمن أعظم النعم لمن هدي إليها، وواظب عليها. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (لما كان العبد خارج الصلاة مهملا جوارحه، قد أسامها في مراتع الشهوات والحظوظ أُمر بالعبودية والإقبال بجميع جوارحه على ربه ...واقفا بين يديه، مقبلا بكله عليه، معرضا عمن سواه، متنصلا من إعراضه عنه، وجنايته على حقه، ولما كان هذا طبعه ودأبه أُمر أن يجدد هذا الركوع إليه، والإقبال عليه، وقتا بعد وقت؛ لئلا يطول عليه الأمد فينسى ربه، وينقطع عنه بالكلية، وكانت الصلاة من أعظم نعم الله تعالى عليه، وأفضل هداياه التي ساقها إليه).اه والصلاة شأنها عند الله تعالى عظيم، ومقامها في الإسلام كبير؛ فهي عمود الإسلام، وهي آخر ما يفقد منه، ولا حظ في الإسلام لمن ضيعها. هي دليل محبة الله تعالى ورجائه وخوفه، وهي أكثر المقامات ذلا لله تعالى، في تكرارها، وفي أقوالها وأفعالها، وفي هيئة المصلي فيها. وأبين المواضع فيها ذلا لله تعالى:الركوع والسجود، وهما ركنان من أركانها لا تصح الصلاة بدونهما؛ لأمر الله تعالى بهما {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن يعلمه الصلاة (ثم اركع حتى تطمئن راكعا) وقال له في السجود( ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا) رواه الشيخان. إن الركوع والسجود عملان جليلان يستسلم بهما المصلي لربه، ويثبت أنه عبده، ويعلن كامل ذله، منزها ربه عن كل ذل ونقص، مقرا له بالكمال والعز، فما أروع هيئة المصلي حين يراغم الشيطان المستكبر بالتذلل لله تعالى فعلا وقولا. والكفار قد استكبروا عن عبادة الله تعالى، وأبوا الركوع له سبحانه {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} ولذلك يعذبون. والركوع انحناء يقصد به التعبد لله تعالى وتعظيمه وإجلاله، يسوي فيه المصلي ظهره، وقد حكت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك)رواه مسلم. وفي حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ![]() وحري بالمصلي إذا ركع أن يفهم معنى الركوع، وأن يستحضر مقامه، وليعلم أنه ما ركع إلا خضوعا لله تعالى، موقنا بأن الله تعالى مطلع عليه، قد رضي منه هذا الخضوع له، ولا يكون ركوعه مجرد حركة يؤديها في صلاته. ومن تأمل أذكار الركوع علم مكانته من الصلاة، فالراكع يسبح الله تعالى، ويصفه بالعظمة، فيقول: سبحان ربي العظيم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته. ولما نزل قول الله تعالى {فسبح باسم ربك العظيم} قال عليه الصلاة والسلام ![]() وفي حديث عائشة رضي الله عنها :أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه: ( سبوح قدوس رب الملائكة والروح) رواه مسلم. والمصلي يناجي ربه في ركوعه مقرا بربوبيته، معلنا إيمانه به، مثبتا خشوع جوارحه كلها لربه جل وعلا، كما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع قال: (اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي) رواه مسلم. والراكع وهو يستشعر عظمة من يركع له، يعلن ذله له، ويقر بفقره إليه، فيحني ظهره، ويخفض جبهته، متفكرا في عظمته سبحانه وفي كبريائه وسلطانه وملكوته وجبروته، وقد جاء في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ركوعه: (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة) رواه أبو داود. والراكع يستحضر حال ركوعه ذنوبه وخطاياه، وتقصيره في طاعة مولاه فيسبحه ويسأله المغفرة، ويقول كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده ![]() والملاحظ أن الصفة المشتركة بين هذه الأذكار العظيمة هي صفة التسبيح، فقد جاء التسبيح فيها كلها. والتسبيح هو تنزيه الله تعالى عن أي نقص، وإثبات الكمال له سبحانه وتعالى، والراكع يؤكد هذا المعنى بإضافة صفة العظمة إليه سبحانه بعد تنزيهه عن النقص ( سبحان ربي العظيم) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل) رواه مسلم. والراكع قد جمع بركوعه وذكره فيه بين التعظيم الفعلي بانحنائه، وبين التعظيم القولي بتسبيحه وذكره. وإذا كان هذا شأن الركوع فإن شأن السجود أعظم، وهو أبلغ في الذل لله تعالى، وما الركوع إلا بمثابة التهيؤ للسجود، والمقدمة بين يديه، والتوطئة له، وقد فعل السجود تعبدا لله تعالى أشرف الخلق وأكرمهم عند الله تعالى من الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون). وجاء الأمر بالسجود لله تعالى في كثير من آيات السجدات في كتاب الله تعالى {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون}. وأما الكفار فكما استنكفوا عن الركوع لله تعالى فهم كذلك يستكبرون عن السجود له سبحانه {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا}. والسجود في الصلاة ركن من أركانها، يجب أن يمكن المصلي أعضاءه السبعة من الأرض ؛ كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ![]() وكان النبي صلى الله عليه وسلم في سجوده لا يتقي الأرض بوجهه قصدا، بل إذا اتفق له ذلك فعله؛ ولذلك سجد في الماء والطين. إن أشرف شيء في الإنسان وجهه، ولذا كانت العرب إذا أهانت أحدا قبحت وجهه، وإذا أرادوا النكاية بشخص جدعوا أنفه؛ مبالغة في إهانته وتحقيره، وفي وعيد الله تعالى لمن كذب بآياته (سنسمه على الخرطوم) أي: على وجهه أو أنفه، وأشق شيء على الإنسان أن يوسم في وجهه؛ لأنه عنوان كرامته، وبه يستقبل الناس، وهو أول ما ينظر إليه، والمصلي حين يهوي بجسده على الأرض فإنه يمرغ فيها أكرم شيء عليه وهو وجهه؛ ذلا لله تعالى وتعظيما وإجلالا، ويضع جبهته وأنفه موضع الأقدام، فأي شرف يستحقه المسلم وهو يفعل ذلك في صلاته؟! ومع كون السجود سفولا بالعبد إلى الأرض، وبعدا عن التعالي والسمو، والرب جل جلاله مستو على عرشه، متعال على خلقه، منزه عن السفول، مع ذلك كله فإن العبد حال سجوده أقرب إلى ربه من حاله في قيامه أو قعوده أو ركوعه، وما كان ذلك إلا إكراما من الله تعالى لمن عبده، فوضع أكرم شيء فيه وهو وجهه موضع الأقدام؛ ذلا له سبحانه وتعظيما وإجلالا. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء). إن سجود العبد لله تعالى باب عريض من أبواب الذل والعبودية لله تعالى، ينتج عنه استجابة الدعاء؛ لأن الرب الكريم إذا رأى ذل عبده بين يديه، وافتقاره إليه، مع سؤاله وإلحاحه عليه لا يرده خائبا؛ ولذا كان الدعاء أرجى إجابة في حال السجود من أي حال أخرى، وأمر المصلي بالإكثار فيه من الدعاء، ونهي عن قراءة القرآن حال ركوعه وحال سجوده؛ لأنهما موضعا ذل وسفول، والقرآن أشرف الكلام، فلا يناسب أن يقرأ في تلك الحال، بل المناسب تنزيه الله تعالى وتعظيمه ودعاؤه؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ![]() وناسب في أذكار السجود أن يقرن الساجد بين تنزيه الله تعالى وبين إقراره بعلوه فيقول: سبحان ربي الأعلى، مستحضرا علو الله تعالى، وأنه سبحانه عليٌ بذاته، وعليٌ بأسمائه وصفاته، وأنه جل في علاه أعلى من كل شيء. وينبغي للعبد أن يتذكر حال سجوده ذله بين يدي ربه، وحاجته وفقره إليه، وهو ما تطامن بجسده، ومرغ في الأرض وجهه إلا إقرارا بذله، وعلو ربه، فليكن كذلك في قلبه كما أداه بجسده. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لما كان السجود غاية سفول العبد وخضوعه سبح اسم ربه الأعلى فهو سبحانه الأعلى، والعبد الأسفل، كما أنه الرب، والعبد العبد وهو الغنى، والعبد الفقير، وليس بين الرب والعبد إلا محض العبودية، فكلما كمَّلها قرب العبد إليه؛ لأنه سبحانه برٌ جواد محسن، يعطى العبد ما يناسبه، فكلما عظم فقره إليه كان أغنى وكلما عظم ذله له كان أعز؛ فإن النفس لما فيها من أهوائها المتنوعة، وتسويل الشيطان لها تبعد عن الله تعالى حتى تصير ملعونة بعيدة من الرحمة، واللعنة هي البعد ومن أعظم ذنوبها إرادة العلو في الأرض، والسجود فيه غاية سفولها.اه ومن عظيم أمر السجود أنه أشرف ركن في الصلاة، وتذكر الصلاة به، وكثير من النصوص التي يذكر فيها السجود إنما يراد بها الصلاة، فجعل لشرفه علامة عليها، ولما قال ربيعة الأسلمي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (أسألك مرافقتك في الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: فأعنى على نفسك بكثرة السجود) رواه مسلم. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار منه، وعده أفضل الأعمال؛ كما جاء في حديث ثوبان رضي الله عنه أنه سـأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة أو قال: أخبرني بأحب الأعمال إلى الله فقال صلى الله عليه وسلم: عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة) رواه مسلم. ومن شرف السجود عند الله تعالى أن المعذبين في النار من عصاة المؤمنين تحفظ مواضع سجودهم فلا ينالها العذاب، وإذا انتهت فترة عذابهم، وأراد الملائكة إخراجهم من النار إلى الجنة يعرفونهم بأعضاء سجودهم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يُخْرِجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحرَّم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيُخرجون من النار، فكلُ ابنِ آدم تأكله النار إلا أثر السجود) رواه البخاري. وأكثر شيء يحزن الشيطان، ويذكره بشقائه وعذابه: أن يرى ابن آدم يسجد لله تعالى، فيظل يبكي حسرة على ما فاته من طاعة الله تعالى، وما سبقه به المؤمنون من بني آدم من سجودهم لله عز وجل؛ كما روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ![]() أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب}. بارك الله لي ولكم... الخطبة الثانية الحمد حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه. أيها المسلمون: الركوع والسجود من خصائص الألوهية، فلا يصرفان إلا لله تعالى؛ ولذا نهي عن الانحناء حال التحية كما يفعله كثير من الأعاجم للكبراء والرؤساء؛ وذلك لما فيه من مشابهة الركوع، والركوع لا يكون إلا لله تعالى، وقد روى الترمذي وحسنه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم). قال ابن علان رحمه الله تعالى:من البدع المحرمة الانحناء عند اللقاء بهيئة الركوع، أما إذا وصل انحناؤه للمخلوق إلى حد الركوع قاصداً به تعظيم ذلك المخلوق كما يعظم الله سبحانه وتعالى، فلا شك أن صاحبه يرتد عن الإسلام، ويكون كافراً بذلك، كما لو سجد لذلك المخلوق. وأما السجود فأشد من الركوع؛ لأنه أقصى مراتب العبادة، ونهاية التعظيم، ولا يليق إلا بمن كان أشرف الموجودات وأعظمها، فكان لا بد من تخصيصه بالله عز وجل، والنهي عن السجود لغيره، وقد كان تحية في بعض الشرائع السابقة كما في سجود إخوة يوسف عليه السلام له، لكنه مُنِع في شريعتنا التي أكملها لنا ربنا، وختم بها الشرائع. روى قيس بن سعد رضي الله عنه فقال: (أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: رسول الله أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك، قال: أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ قال: قلت: لا، قال: فلا تفعلوا، لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق) رواه أبو داود. وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما هذا يا معاذ؟ قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تفعلوا فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) رواه ابن ماجه. إن الركوع والسجود لله تعالى نعمتان عظيمتان أنعم الله تعالى بهما على عباده المؤمنين؛ تعبدا له، وقربا منه، وهذه النعمة العظيمة قد حرمها إبليس باستكباره وعلوه، وهو يبكي لأجلها، وقد حرمها كثير من البشر بسبب استكبارهم أو جهلهم، وحقيق على من هداه الله تعالى للإسلام أن يشكر نعمة الله تعالى، وأن يحافظ على الصلوات المفروضة؛ ليكون من الراكعين الساجدين الذين أثنى الله تعالى عليهم في كتابه العزيز، وليلحق بركب السابقين الأفاضل من هذه الأمة المباركة الذين وصفهم الله تعالى بقوله سبحانه: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود). ومن كان قادرا من المسلمين على الركوع والسجود فليقدر هذه النعمة حق قدرها، وليعرف فضل الله تعالى عليه إذ هداه وعافاه فأقدره عليهما؛ فإن القدرة علىهما من أعظم النعم التي يغفل عنها كثير من الناس، قال مسروق رحمه الله تعالى: ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب وما آسى على شيء إلا السجود لله تعالى. وكم في المسلمين من عاجز عن الركوع والسجود لعلة أصابته قد عرف قدر هذه النعمة بعد أن حرمها، وود لو ركع لله تعالى، وتمنى أن يعفر وجهه في الأرض تعبدا لله تعالى، وذلا وتعظيما. وحسب من عجز عن ذلك من المسلمين أن الله تعالى مطلع على قلبه، عالم بأمنيته، وأن إيماءه للركوع والسجود يكفيه ما دام عاجزا، ويقبله سبحانه منه كما لو ركع وسجد حقيقة؛ وذلك من تخفيف الله تعالى على عباده، ورحمته بهم، {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج}. فأقيموا لله تعالى - أيها المسلمون - دينكم، واحنوا له جباهكم، وعفروا له وجوهكم، ولتركع قلوبكم ولتسجد مع ركوع أبدانكم وسجودها؛ فإن ركوع القلب لله تعالى وسجوده له تذللا ومحبة ورجاء أهم وأولى من ركوع الأبدان وسجودها، بل ما شرع ركوع الأبدان وسجودها إلا لتركع القلوب وتسجد لخالقها ومدبرها. ومن صلى لله تعالى وركع وسجد وهو مستشعر لهذه المعاني العظيمة وجد لذة في ركوعه وسجوده، ونهته صلاته عن المحرمات؛ لأن الله تعالى يقول ![]() وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم...
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() عمود الإسلام (2) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل فرضها في كافة الشرائع الحمد لله رب العالمين؛ هدى عباده إلى دينه القويم، ودلهم على صراطه المستقيم، فمنهم من قَبِلَ عن الله تعالى هداه فكان من المهتدين، ومنهم من زاغ عنه فحقت عليهم الضلالة {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [الأنعام:161] نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ فرض علينا من الفرائض ما يصلحنا في الدنيا، وينجينا في الآخرة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ جعل الله تعالى قرة عينه في الصلاة، فيرتاح بها، وإذا حزبه أمر فزع إليها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان. أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه واعلموا أن أعماركم مستودع أعمالكم، وأن أعمالكم لا تنتهي إلا بموتكم، فلا تتركوا العمل بعد رمضان؛ فإن الله تعالى يعبد في كل زمان ومكان {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر:99]. أيها الناس: خلق الله تعالى الخلق لعبادته، وشرع لهم من الدين ما يقربهم إليه، وينجيهم من عذابه، وشرائع الله تعالى متنوعة متفاضلة: فمنها ما يجب في العمر مرة واحدة كالحج، ومنها ما يجب في الحول كالزكاة والصيام، ومنها ما يعود في الأسبوع كالجمعة، ومنها المتكرر في اليوم والليلة كالصلاة، وما شرع الله تعالى هذه الشرائع إلا لمصالح العباد في معاشهم ومعادهم. والصلاة المفروضة أمرها عظيم، وشأنها كبير، وهي عمود الإسلام، وآخر ما يفقد الناس من دينهم.. هي الشعيرة الظاهرة المتكررة في اليوم والليلة، يتميز بها المسلم عن غيره.. هي برهان الإيمان، ودليل الإسلام، وما كان الصحابة رضي الله عنهم يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، ولو علم الناس ما في الصلاة لحافظوا عليها، وما تهاونوا بها، ولا قدموا شيئا عليها. إن الصلاة أجلُّ عمل يُتَقرب به إلى الله تعالى، قد جمعت من الأقوال أجلها وأعلاها، ومن الأفعال أكثرها ذُلّاً وخضوعا لله تعالى، مع ما فيها من أعمال القلب، كالتدبر والخشوع والرجاء والخوف والمناجاة، ولا يحافظ عليها إلا مؤمن، ولا يتركها إلا كافر أو منافق، وهي أحب الأعمال إلى الله سبحانه.. وفي السماء ملائكة لا يحصيهم إلا الله تعالى يصلون له فيقنتون ويركعون ويسجدون وفي حادثة الإسراء والمعراج قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فَرُفِعَ لي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ، فقال: هذا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فيه كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إذا خَرَجُوا لم يَعُودُوا إليه آخِرَ ما عليهم) رواه الشيخان واللفظ للبخاري. والصلاة أهم أعمال الأنبياء عليهم السلام، وأولى شيء دعوا الناس إليه بعد توحيد الله تعالى؛ ولذا جاءت في شرائعهم، وأثنى الله تعالى بها عليهم، ودعاهم إليها، وبشر بعضهم بمرادهم فيها. وقد جاء في الحديث ما يدل على أن الأنبياء قبل النبي عليه الصلاة والسلام قد فرضت عليهم الصلاة، وأنهم كانوا يصلون في أوقات وقتها الله تعالى لهم؛ كما روى ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فقال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (أمَّنِي جِبْرِيلُ عليه السَّلاَمُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قال: يا محمد، هذا وَقْتُكَ وَوَقْتُ النَّبِيِّينَ قَبْلَكَ) رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن خزيمة. وفي القرآن الكريم ما يدل على أنهم عليهم كانوا يسجدون لله تعالى، والسجود من أعظم أركان الصلاة وأخصها {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]. ثم لما أثنى سبحانه وتعالى عليهم ذم الخلوف التي تضيع الصلاة {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]. وشعيب عليه السلام كان مصليا، وأنكر قومه عليه ما يدعوهم إليه من الإيمان وقالوا {يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87]. وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لما وضع هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام في مكة وهي مقفرة دعا الله عز وجل أن تُعْمَر ويئوب الناس إليها، وتجبى إليها الثمرات والأرزاق، وعلل دعوته بإقامة الصلاة فيها، فقال عليه السلام {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] قال محمد بن نصر رحمه الله تعالى: ولم يذكر عملا غير الصلاة، فدل ذلك على أنه لا عملَ أفضلُ من الصلاة ولا يوازيها.اهـ. وهذا يدل على فخامة الصلاة، وعظيم شأنها، وعلو مكانتها، وأن من مقاصد بناء البيت الحرام إقامَ الصلاة فيه وإليه، واستجاب الله سبحانه دعوة الخليل عليه السلام؛ فمن يؤمون البيت الحرام في هذا الزمن للصلاة فيه خلق كثير جدا، ولا سيما في المواسم الفاضلة كرمضان والحج، ومن يفدون إليه منذ دعوة إبراهيم عليه السلام إلى قيام الساعة لا يحصيهم إلا الله تعالى، وعيسى عليه السلام حين ينزل في آخر الزمان سيقصد البيت الحرام حاجا أو معتمرا، ومصليا فيه. بل إن الله تعالى ذكر أن إقام الصلاة مقصد من مقاصد بناء البيت الحرام، وتطهيره من عبادة غير الله تعالى {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] وفي الآية الأخرى {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] والقائمون هم المصلون كما قال قتادة رحمه الله تعالى. ومن عظيم أمر الصلاة أن الخليل إبراهيم عليه السلام دعا ربه لنفسه ولذريته من بعده بإقامتها؛ فمن أصابته دعوة الخليل وفق لها، فأقامها، وحافظ عليها، ومن لم تصبه لم يوفق لها، ولم يحافظ عليها. قال إبراهيم عليه السلام {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:40]. وخلف إبراهيمَ عليه السلام في البيت الحرام ابنُه الذبيحُ إسماعيلُ عليه السلام، وكان من المصلين، الآمرين بالصلاة، أثنى الله تعالى عليه بذلك فقال سبحانه {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54-55]. كما خلف إبراهيمَ عليه السلام في بيت المقدس ولدُه إسحاقُ وآلُه عليهم السلام، وقد كانوا أئمة مصلين، قال الله تعالى ممتنا عليهم {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73]. ومن نسل إسحاق عليه السلام بُعث الكليم موسى عليه السلام، فاصطفاه ربه عز وجل برسالاته، واختصه بكلامه؛ فساقه إلى الوادي المقدس، فأمره سبحانه بعبادته، ونص على الصلاة بخصوصها -وإن كانت داخلة في مسمى العبادة- وما ذاك إلا لعظيم شأنها عند الله تعالى {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:11-14]. ولما اشتد أذى فرعون وجنده على بني إسرائيل لم يرخص الله تعالى لهم في ترك الصلاة اتقاء للعذاب، بل أمر الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام أن يتخذا من بيوت بني إسرائيل مكانا للصلاة بدل البيع والكنائس، وأمرهم بها {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [يونس:87]. وفي المناظرة الكبرى بين موسى والسحرة لم يُلْهَم السحرةُ بعد توبتهم طاعةً يرجعون بها إلى الله تعالى ويترضونه بها ظنا أن يغفر لهم عما كان منهم إلا السجود وهو أعظم هيئات الصلاة قال الله عز وجل {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:46-48] فعفروا وجوههم في التراب خضوعا لله تعالى، فلم يجعل الله تعالى لهم مفزعا إلا إلى الصلاة مع الإيمان به، وهي مفزع كل منيب. ومن أنبياء بني إسرائيل زكريا عليه السلام، سأل الله تعالى الولد، فبشر به وقد بلغ من الكبر عتيا فجاءته البشارة وهو يصلي {فَنَادَتْهُ المَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:39]. قال ثابت البُنَاني رحمه الله تعالى: الصلاة خدمة الله تعالى في الأرض ولو علم الله تعالى شيئا أفضل من الصلاة ما قال: فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب.اهـ. ومريم عليها السلام لما بُشرت بتطهير الله تعالى لها، واصطفائه لها على نساء العالمين أُمرت بالصلاة؛ لأن الاصطفاء لا يناله إلا من يستحقه، وكانت مريم ممن يستحقه؛ طاعة لله تعالى، وكثرة ركوع وسجود {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] لقد كانت مريم عليها السلام كثيرة التعبد لله تعالى كثيرة الصلاة، قد اتخذت لها محرابا عرفت به، لا تكاد تبارحه من كثرة صلاتها وتعبدها، ورزقها يساق إليها في محرابها؛ كرامة من الله تعالى لها {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]. أسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يرزقنا المحافظة على ما به يرضى عنا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول ما تسمعون وأستغفر الله.... الخطبة الثانية الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وثقلوا موازين حسناتكم بالأعمال الصالحة، وخففوا موازين سيئاتكم باجتناب المعاصي {وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:8-9]. أيها المسلمون: تتابع رسل الله تعالى عليهم الصلاة والسلام على العناية بالصلاة، والاهتمام بها، وجاءت بها شرائعهم، وأوحى الله تعالى إليهم بها؛ حتى كانت الصلاة مما أجمعت عليه الشرائع. ومن أولي العزم من الرسل بُعِث عيسى بعد موسى عليهما السلام، وتكلم في المهد آية من الله تعالى؛ ليدرأ عن أمه عليها السلام أي تهمة، وأخبر أن الله تعالى قد اصطفاه بالنبوة، وآتاه الكتاب، وأوصاه بالصلاة، والوصية إنما تكون بما هو مهم، وهذا يدل على عظيم أمر الصلاة عند الله تعالى؛ إذ وصاه الله تعالى بها {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آَتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:29-31]. ونبي الله تعالى داود عليه السلام لما جاءه الخصمان للحكم بينهما إنما تسورا عليه محرابه، وهو مكان عبادته وصلاته، وهذا يدل على أنه كان كثير الصلاة {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ} [ص:21]. ثم لما أخطأ عليه السلام فحكم بينهما وقد سمع حجة أحدهما دون الآخر، وعلم أن الله تعالى قد ابتلاه بهما، وأراد التوبة من ذلك؛ لم يجد لتوبته مفزعا إلا إلى الصلاة، قال الله تعالى واصفا إياه {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24]. وورث الملك من بعده ابنُه سليمانُ عليه السلام، وكان محبا للخيل حبا شديدا، فعُرضت عليه فانشغل بها حتى فات وقت الصلاة، فتنبه وأَسِف لذلك، فأمر بإرجاعها وهي أحب ما تكون إليه، فعقرها وضرب أعناقها لأنها شغلته عن صلاته {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:30-33]. وقد سخرت الجن لخدمته وطاعته، فلما قبضه الله تعالى إليه قبضه وهو قائم يصلي قد توكأ على عصاه، فما علمت الجن بذلك إلا لما أكلت الأرضة عصاه فخرَّ إلى الأرض {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ} [سبأ:14]. ويونس عليه السلام نجاه الله تعالى من بطن الحوت بكثرة تسبيحه وصلاته {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصَّفات:143-144] قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان من المصلين، وقال قتادة رحمه الله تعالى: كان كثير الصلاة في الرخاء فنجا. وأهل الكتاب من اليهود والنصارى أمروا بالصلاة مع التوحيد؛ كما قال الله تعالى {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} [البيِّنة:4-5]. وأخذ الله تعالى عليهم الميثاق للقيام بجملة من الشرائع من أجلها وأعظمها الصلاة، ووعدهم بتكفير سيئاتهم، وإدخالهم الجنة إن وفوا بما عاهدوا الله تعالى عليه {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المائدة:12]. ثم كانت الصلاةُ في الإسلام ثانيَ أركانه بعد الشهادتين، وأعظمَ عملٍ يَتقربُ به العبدُ لربه جل جلاله، وكلَّم اللهُ تعالى بها نبيَه محمدا عليه الصلاة والسلام لما عُرج به إلى السماء، ولم يكن بينه عز وجل وبين نبيه عليه الصلاة والسلام أيُّ واسطة في فرضها، وهذا يدل على عظيم شأنها في الإسلام، وعلو منزلتها. وإذا كانت الصلاة كذلك في كل الشرائع الربانية، وقد توارد الرسل عليهم السلام كلهم على العناية بها، حتى كانت شريعة خاتمهم عليه الصلاة والسلام التي تكررت الصلاة فيها خمس مرات في اليوم والليلة.إذا كان الأمر كذلك فهل يليق بأتباع الرسل عليهم السلام أن يفرطوا فيها، أو يتهاونوا بها، أو يخلوا بما يجب لها؟! والله تعالى قد أمرنا بالاقتداء برسله عليهم السلام {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]. وتعظيمُ أمر الصلاة، والعنايةُ بها، والمحافظة عليها، والإتيان بما يجب لها هو من الاقتداء برسل الله تعالى الذين دلَّت قصصهم في القرآن الكريم على تعظيمهم لقدر الصلاة، وعنايتهم بها. إن المساجد في رمضان كانت تكتظ بالمصلين، وهكذا في كل عام، ولكن ما أن ينتهي رمضان حتى يتهاون كثير من المسلمين بالصلاة، فربما هجروا المساجد، أو أخروا الصلاة عن وقتها، وهذا من التهاون بها، وهو يدل على عدم تعظيمهم لشأنها. ومنهم من يضيع فروضا ويأتي بفروض، ومنهم من يتركها كلية إلى رمضان القابل، وكل هذا من الخذلان والحرمان، وإلّا فهل يفرط فيما هو صلة بينه وبين ربه أحد؟! ألا فاتقوا الله ربكم في صلاتكم، حافظوا عليها، وأقيموها في أوقاتها مع جماعة المسلمين حيث ينادى بها في المساجد، ولا تلهينكم عنها الدنيا؛ فإنها متاع الغرور. وصلوا وسلموا....
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() عمود الإسلام (3) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل مكانتها وتاريخ فرضها الحمد لله العليم الحكيم؛ شرع لعباده من العبادات ما به سعادتهم في الدنيا، وفوزهم في الآخرة، نحمده على عظيم مَنِّه وإحسانه، ونشكره على تتابع نعمه وجزيل عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وسع كل شيء رحمة وعلما ففتح أبواب الرحمة لخلقه وعلمهم ما ينفعهم {فَاذْكُرُوا الله كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:239] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله الله تعالى بالنور والهدى، ففتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم -عباد الله- بتقوى الله تعالى؛ فإن النجاة والفلاح في التقوى {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزُّمر:61]. أيها المسلمون: نعم الله تعالى على عباده لا تحصى؛ خلقهم من العدم، ورباهم بالنعم، وهداهم إلى ما ينفعهم، وصرف عنهم ما يضرهم، وحذرهم مما يوبقهم ويهلكهم {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]. وكثير من الناس لا يبصرون من نعم الله تعالى إلا النعم الدنيوية الحسية كالصحة والعافية والمال والولد والتمتع بالمآكل والمشارب والملابس والمراكب وغيرها من المتع والملذات الزائلة، ويغْفُلُون عن النعم الدينية التي شرعها الله تعالى لهم، وهداهم إليها، وهي أعظم أثرا على العباد، وأكثر نفعا لهم، فلا يرون فيها إلا أنها تكاليفُ شرعية، وفرائض ربانية يؤجرون على أدائها، ويعاقبون على التفريط فيها. وقليل من الناس من يدرك المعاني العظيمة لهذه الفرائض والعبادات، وأثرها في صلاح قلوب العباد، واستقامة أمورهم، وهناء عيشهم بها، فهي جنة الدنيا الموصلة إلى جنة الآخرة، وواجب على العباد أن يشكروا الله تعالى حين شرعها لهم، وأوجبها عليهم، ثم يشكروه سبحانه على ما هداهم لمعرفتها، ووفقهم لأدائها؛ فكم من جاهل لم يعلمها، وكم من محروم فرط في أدائها، وكم من مستكبر أعرض عنها؟! والصلاة أعظم الفرائض في الإسلام بعد الشهادتين، وهي عموده الذي لا قوام له إلا بها، ولا حظَّ في الإسلام لمن تركها، ومن ضيَّعها فقد ضيَّع دينه، وهو لما سواها أضيع فلا أمانة له. والصلاة مشتملة على أحسن الأقوال وأفضل الأفعال، فمن أقوالها التكبير وقراءة القرآن والتسبيح وأنواع الذكر والدعاء، ومن أفعالها القنوت والركوع والسجود وقد بلغت الغاية في الذل والتعظيم لله تعالى. ومما يدل على مكانة الصلاة، وعظيم منزلتها عند الرب جل جلاله: أن الملائكة والنبيين يتقربون إلى الله تعالى بها ، وهم أفضل خلق الله تعالى، وأعلمهم به سبحانه. والبيت المعمور في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يصلون فيه لله تعالى؛ كما في حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء: (فَرُفِعَ لي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فقال: هذا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فيه كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إذا خَرَجُوا لم يَعُودُوا إليه آخِرَ ما عليهم) متفق عليه. فسبحان من تعبَّدوا له، وسبحان من أحصاهم عددا، وأحاط بهم علما. وأما الأنبياء عليهم السلام فإن القرآن مليء بذكر قنوتهم وسجودهم وركوعهم وصلاتهم. وفي الإسلام كانت الصلاة من أوائل الأعمال التي دُعي النبي عليه الصلاة والسلام لإقامتها، وجاء في بعض السور المكية الأمر بها؛ كما في سورة الروم {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ} [الرُّوم:31]. بل إن أول سورة نزلت وهي اقرأ، جاء في تكملتها بعد نزول المدثر {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] فأَطلق سبحانه السجود وأراد الصلاة؛ لأن السجود أخص صفاتها، ورَبَط بين السجود والاقتراب من الله تعالى، وهذا مما يدل لأول وهلة أن الصلاة أعظم قربة إلى الله تعالى؛ إذ وجَّه إليها رسوله صلى الله عليه وسلم من أول الأمر. ودلت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم على أنه كان يصلي هو ومن آمن معه في أول الإسلام وهم قليل، وورد في مسند الإمام أحمد أن أول شيء جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن علمه الوضوء والصلاة، وأخبر عَفِيفٌ الكنديُ رضي الله عنه أنه قدم إلى مكة عند العباس رضي الله عنه في أول مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال عفيف (فَوَ الله إني لَعِنْدَهُ بِمِنًى إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ من خِبَاءٍ قَرِيبٍ منه فَنَظَرَ إلى الشَّمْسِ فلما رَآهَا مَالَتْ يَعْنِى قام يصلي، قال: ثُمَّ خَرَجَتِ امْرَأَةٌ من ذلك الْخِبَاءِ الذي خَرَجَ منه ذلك الرَّجُلُ فَقَامَتْ خَلْفَهُ تُصَلِّى، ثُمَّ خَرَجَ غُلاَمٌ حين رَاهَقَ الْحُلُمَ من ذلك الْخِبَاءِ فَقَامَ معه يصلي، قال فقلت لِلْعَبَّاسِ: من هذا يا عَبَّاسُ؟ قال: هذا محمد ابنُ أخي، قال: فقلت: من هذه الْمَرْأَةِ؟ قال: هذه امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ ابْنَةُ خُوَيْلِدٍ، قال: قلت: من هذا الْفَتَى؟ قال: هذا علي بنُ أَبِى طَالِبٍ ابن عَمِّهِ، قال: فقلت: فما هذا الذي يَصْنَعُ؟ قال: يصلي، وهو يَزْعُمُ أنه نبي ولم يَتْبَعْهُ على أَمْرِهِ إلا امْرَأَتُهُ وابن عَمِّهِ هذا الْفَتَى، وهو يَزْعُمُ أنه سَيُفْتَحُ عليه كُنُوزُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، قال: فَكَانَ عَفِيفٌ يقول: لو كان اللهُ رزقني الإِسْلاَمَ يَوْمَئِذٍ فأكون ثَالِثاً مع علي بن أَبِى طَالِبٍ رضي الله عنه) رواه أحمد وصححه الحاكم. وجاء في السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه كانوا يصلون صلاتين: الأولى في أول النهار والثانية في آخره قبل أن تفرض الصلوات الخمس. ثم كان تتويج الصلاة ما وقع في الإسراء والمعراج؛ إذ صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما فوق السماء السابعة حتى سمع صريف الأقلام تكتب القدر، فأخذ فريضة الصلاة عن ربه جل جلاله مباشرة بلا واسطة، وكلَّمه الله تعالى بها خمسين صلاة ثم خففها إلى خمس في الأداء، خمسين في الأجر والمثوبة؛ كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فَفَرَضَ الله على أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً قال: فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حتى أَمُرَّ بِمُوسَى فقال مُوسَى عليه السَّلَام: مَاذَا فَرَضَ رَبُّكَ على أُمَّتِكَ؟ قال: قلت: فَرَضَ عليهم خَمْسِينَ صَلَاةً، قال لي مُوسَى عليه السَّلَام: فَرَاجِعْ رَبَّكَ فإن أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذلك، قال: فَرَاجَعْتُ رَبِّي فَوَضَعَ شَطْرَهَا، قال: فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى عليه السَّلَام فَأَخْبَرْتُهُ، قال: رَاجِعْ رَبَّكَ فإن أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذلك، قال: فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فقال: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، قال: فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى فقال: رَاجِعْ رَبَّكَ، فقلت: قد اسْتَحْيَيْتُ من رَبِّي) متفق عليه. وفي رواية للبخاري ![]() وجاء في سنن النسائي من حديث جابر رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام نزل من السماء يُعلِّم النبي صلى الله عليه وسلم مواقيت الصلاة، ويصلي به كلَّ صلاة في وقتها، والناسُ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتمون به، وهو يأتم بجبريل عليه السلام. وكانت الصلاةُ الرباعية في أول الأمر ركعتين ثم أُتمت صلاةُ الحضر إلى أربع، وبقيت صلاة السفر ركعتين؛ كما في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت: (فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ في الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ في صَلَاةِ الْحَضَرِ) رواه الشيخان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: روي أن الصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، ثم فُرضت الخمسُ ليلة المعراج وكانت ركعتين ركعتين، فلما هاجر أُقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر، وكانت الصلاة تُكْمَلُ شيئا بعد شيء، فكانوا أولا يتكلمون في الصلاة ولم يكن فيها تشهد، ثم أُمروا بالتشهد وحُرِّم عليهم الكلام، وكذلك لم يكن بمكة لهم أذان وإنما شُرِع الأذان بالمدينة بعد الهجرة.اهـ هذا؛ وقد استقرت صلاةُ المسلمين على ما هي عليه، وكانت مساجد المسلمين معمورة بها في شتى الأقطار منذ أن فرضها الله تعالى عليهم قبل أربعة عشر قرنا وزيادة، ولا زالت كذلك بحمد الله تعالى، ولم يُنقِص المسلمون منها شيئا، أو يزيدوا فيها شيئا، ولم يختلفوا في هيئتها أو عددها أو عدد ركعاتها أو أفعالها، فهي هي كما فرضها رب العالمين؛ فالحمد لله الذي شرعها وفرضها، والحمد لله الذي حفظها، والحمد لله الذي هدانا لها، ونسأله عز وجل أن يعيننا على القيام بها كما يحب ربنا ويرضى... أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.... الخطبة الثانية الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]. أيها المسلمون: إن من أعظم النعم التي هُدينا إليها الصلاة المفروضة، وواجبٌ علينا أن نشكر الله تعالى عليها دائما وأبدا، ومن شكره عز وجل المحافظة عليها، وتعظيم شأنها، والقيام بما يجب لها. وإن مما يلاحظ -أيها الإخوة- أن بين حادثة المعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء وتكليم الرب عز وجل له وبين الصلاة ارتباطا وثيقا؛ إذ الصلاة قد فرضت خمس صلوات في هذه الحادثة العظيمة، وقبل رحلة الإسراء والمعراج شُقَّ صدر النبي صلى الله عليه وسلم واستخرج قلبه وغسل بماء زمزم؛ استعدادا للصعود إلى السماء، وتهيئة لمناجاة الرب جل جلاله، التي ينبغي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فيها على أطهر حال وأكمله. والمسلم قبل أن يناجي ربه في صلاته فُرِض عليه أن يتطهر بالوضوء الذي شرعه الله تعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم قد أكرمه ربه عز وجل ليلة الإسراء فناجاه وكلمه، والمصلي إذا أحرم بصلاته فإنه يناجي ربه عز وجل؛ فشُرِع له القنوت والخشوع، ومُنِع من الالتفات ومن الحركة ومن رفع بصره إلى الأعلى، كما مُنِع من الكلام بغير أذكار الصلاة، ومن أيِّ فعل سوى أفعال الصلاة، روى أَنَسٌ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إذا قام في صَلَاتِهِ فإنه يُنَاجِي رَبَّهُ أو إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ) رواه البخاري. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاور الرب جل جلاله ليلة الإسراء في تخفيف الصلاة من خمسين إلى خمس؛ فإن المصلي إذا شرع في قراءة الفاتحة فإنه يحاور ربه عز وجل؛ كما جاء في حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي ما سَأَلَ فإذا قال الْعَبْدُ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي وإذا قال الرحمن الرَّحِيمِ قال الله تَعَالَى أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وإذا قال مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال مَجَّدَنِي عَبْدِي وقال مَرَّةً فَوَّضَ إلي عَبْدِي فإذا قال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال هذا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي ما سَأَلَ فإذا قال اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عليهم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ قال هذا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي ما سَأَلَ) رواه مسلم. فإذا كانت هذه عظمة الصلاة، وفخامة شأنها، وتلك هي منزلتها عند رب العالمين فحري بكل مسلم ومسلمة أن يولوها جُلَّ عنايتهم، وعظيم اهتمامهم، وأن يؤدوها كما أمرهم الله تعالى، وأن يقدموها على كل أمر من أمور الدنيا مهما عظم شأنه؛ فإن ثوابها يبقى وإن الدنيا تزول. مَنْ مِنَ المصلين إذا أراد الإحرام بها استحضر أنها عمود الإسلام، وركنه الأول بعد الشهادتين، وأن الله تعالى فرضها من فوق سبع سموات، وكلَّم بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم مباشرة؟! مَنْ مِنْ المصلين يستشعر أنه متى ما كبر تكبيرة الإحرام فإنه قد دخل في مناجاة مع رب العالمين، وخالق الخلق أجمعين، ومن بيده أرزاق العباد وآجالهم، ومن عنده خزائن كل شيء؟! فمن استشعر ذلك أعطى الصلاة حظها من الخشوع والذل لله تعالى، وحضر قلبه فيها، ولم يشغله شيء عنها، فكان من المفلحين الذين هم في صلاتهم خاشعون...وصلوا وسلموا..
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() عمود الإسلام (4) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل {وَقُومُوا لله قَانِتِينَ} الحمد لله الولي الحميد؛ أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهدانا لدينه وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، نحمده على نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يستحق العبادة سواه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بشرنا وأنذرنا ورغبنا ورهبنا، وتركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله ربكم، وأسلموا له قلوبكم، وأقيموا له صلاتكم، وأخلصوا له في أعمالكم؛ فإن الجزاء على دينه عظيم، وإن العذاب على تركه شديد {فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} [الحج: 50-51]. أيها الناس: خلق الله تعالى الخلق ودبرهم، وأحياهم وأماتهم، فلم يكن لهم اختيار في خلقهم، ولا خيار لهم في موتهم وبعثهم وحسابهم، بل كل ذلك بأمر الله تعالى وقهره ولكنه سبحانه بيَّن لعباده دينه، وأوضح لهم شريعته، وهداهم صراطه المستقيم، فمن قَبِل عن الله تعالى هدايته كان من السعداء المنعمين، ومن ردَّها كان من الأشقياء المعذبين. لقد خضعت كل الموجودات لأمر الله تعالى وحكمه، ولا يستطيع أحد الخروج عن ذلك كائنا من كان {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الرُّوم: 26] وهذا هو القنوت القهري للأمر القدري الرباني، فلا يخرج عنه مؤمن ولا كافر، بل الكل لله تعالى قانتون. ولكن أهل الإيمان لما عرفوا ذلك أذعنوا لله تعالى وانقادوا، واستسلموا لأمره الشرعي، ورضوا به دينا يدينون به، وشريعةً يعملون بها؛ فكانوا هم أهلَ القنوت والطاعة فامتدحهم الله تعالى بذلك {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالقَانِتِينَ وَالمُنْفِقِينَ وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] وفي آية الأحزاب قال سبحانه {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ} ثم ذكر جملة من صفاتهم ثم بين سبحانه أنه {أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]. والعبادات التي يقوم بها المسلم لله تعالى سواء كانت فعلا لمأمور، أو اجتنابا لمحظور هي من دلائل قنوت العبد لربه سبحانه؛ لأن من معاني القنوت الطاعة، وكلما كان العبد طائعا لله تعالى، خاضعا لأمره، مجتنبا لنهيِّه؛ كان أكثر قنوتا لربه جل وعلا. والصلاة أعظم ميدان للقنوت لله تعالى وأبينه وأوضحه؛ لأن فيها من الخضوع لله تعالى في أفعالها وأقوالها ما ليس في غيرها من العبادات، وفيها إمساك عن كل الشهوات، وفيها انتصاب لله تعالى، فيُمنع فيها الأكل والشرب والنوم والمشي والكلام والالتفات والحركة، وليس في الإسلام عبادة يمنع فيها من كل هذا إلا الصلاة؛ مما يدل على حقيقة كونها قنوتا لله تعالى، ويشي بفخامتها ومنزلتها عند الرب جل جلاله. والوقوف في الصلاة بين يدي الله تعالى يسمى قنوتا؛ لأن هيئة المصلي وهو واقف لا يتحرك، وثابت لا يتزحزح، ورامٍ ببصره في موضع سجوده لا يرفعه ولا يتلفت هي أدلُّ هيئة على القنوت، وبهذه الهيئة العظيمة أَمر الله تعالى المصلين في كتابه الكريم {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. قال مجاهد رحمه الله تعالى: فمن القنوت الركودُ والخشوع، وغض البصر، وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل، كان إذا قام أحدهم يصلى يهاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه من شأن الدنيا إلا ناسيا ما دام في صلاته. وروى زَيْدُ بن أَرْقَمَ رضي الله عنه قال: ((كنا نَتَكَلَّمُ في الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وهو إلى جَنْبِهِ في الصَّلَاةِ حتى نَزَلَتْ وَقُومُوا لله قَانِتِينَ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عن الْكَلَامِ)) متفق عليه. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ((كنا نُسَلِّمُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فلما رَجَعْنَا من عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عليه فلم يَرُدَّ عَلَيْنَا فَقُلْنَا: يا رَسُولَ الله، كنا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ في الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا فقال: إِنَّ في الصَّلَاةِ شُغْلًا)) متفق عليه.وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ الله يُحْدِثُ من أَمْرِهِ ما يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا في الصَّلَاةِ)). ولما تكلم معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه في الصلاة وانتهره الصحابة رضي الله عنهم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ هذه الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فيها شَيْءٌ من كَلَامِ الناس إنما هو التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)) رواه مسلم. إن القنوتَ هيئةُ ذلٍ وخشوع لا يستشعرها كثير من الناس، ولا يدركون معانيها العظيمة، ولم كانت هكذا!! إن الواقف في صلاته يقف لله تعالى فوقوفه قنوت، ولهذا القنوت هيئةٌ أُمر المصلي بها لتعينه على قنوت قلبه مع قنوت جسده، فيضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره، وتلك الهيئة أُمر بها النبيون عليهم السلام في صلاتهم؛ كما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنا معشر الأنبياء أُمرنا أن نؤخر سحورنا ونعجل فطرنا وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في صلاتنا)) صححه ابن حبان. وأُمرنا نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الهيئة في صلاتنا كما أُمر بها النبيون عليهم السلام من قبلنا، قال سَهْلِ بن سَعْدٍ رضي الله عنه: ((كان الناس يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى على ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى في الصَّلَاةِ)) رواه البخاري. ورَفْعُ البصر إلى السماء ينافي الذل والخضوع والقنوت؛ ولذلك كان أتباع الملوك والرؤساء والكبراء يخفضون أبصارهم عندهم ولا يرفعونها، فالله تعالى أولى وأحق أن يخضع العباد له ويقنتون ويذلون، فنهي المصلي عن رفع بصره إلى السماء؛ كما في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلى السَّمَاءِ في صَلَاتِهِمْ فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ في ذلك حتى قال: لَيَنْتَهُنَّ عن ذلك أو لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ)) رواه البخاري. وفي حديث جَابِرِ بن سَمُرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلى السَّمَاءِ في الصَّلَاةِ أو لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ)) رواه مسلم. ونُهي المصلي عن الالتفات لأنه ينافي كمال القنوت لله تعالى؛ كما في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: ((سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الِالْتِفَاتِ في الصَّلَاةِ فقال: هو اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ من صَلَاةِ الْعَبْدِ)) رواه البخاري. وخطب يحيى بن زكريا عليهما السلام في بني إسرائيل فقال: ((وَإِنَّ الله أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ فإذا صَلَّيْتُمْ فلا تَلْتَفِتُوا فإن الله يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ في صَلَاتِهِ ما لم يَلْتَفِتْ)) صححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم. وقال الحسن رحمه الله تعالى: ((إياك والالتفات في الصلاة، الله ينظر إليك وتنظر إلى غيره)). وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ((الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان: أحدهما: التفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالى. الثاني: التفات البصر، وكلاهما منهي عنه، ولا يزال الله مقبلا على عبده ما دام العبد مقبلا على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله تعالى عنه)). ورغم أن الركوع والسجود فيهما من الانحناء والتعظيم لله تعالى ما لا يخفى؛ فإن في هيئة الوقوف الواردة من الذل والتعظيم لله تعالى ما لا يقصر عن الركوع والسجود، وإلا لما كانت هيئةً مخصوصةً بالصلاة لها أحكامها ومحظوراتها، ثم إن هذا الوقوف بين يدي الله تعالى قد فُضِّل على سائر أركان الصلاة بأشرف الكلام وأفضله، فكان الوقوف محل قراءة القرآن دون غيره من الأركان؛ ولذا كان تطويله أفضل أنواع الصلاة؛كما في حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قال: ((سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قال: طُولُ الْقُنُوتِ)) رواه مسلم. وهذا الوقوف في الصلاة بذلٍ وقنوتٍ لله تعالى هو المهيِّئُ لذلِّ الانحناء في الركوع، والهَوْيِّ إلى الأرض في السجود، وتمريغ الجبين والأنف في الأرض ذُلَّاً لله تعالى، وتعظيما ومحبة ورجاء وخوفا. فهنيئا لعبد قنت قلبه مع قنوت جسده لله تعالى، فأقبل بكليته على صلاته، فذاك الذي يجد لذة الصلاة، وذاك الذي تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزُّمر: 9] بارك الله لي ولكم في القرآن.... الخطبة الثانية الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 123]. أيها المسلمون: الوقوف تعظيما وذُلَّاً يجب أن لا يصرف إلا لله تعالى؛ لأنه ركن من أركان الصلاة؛ ولأن النهي صريح في تعظيم غير الله تعالى بالوقوف له أو عليه؛ كما في حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قال: ((اشْتَكَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وهو قَاعِدٌ وأبو بَكْرٍ يُسْمِعُ الناس تَكْبِيرَهُ فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا فلما سَلَّمَ قال: إن كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ على مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ فلا تَفْعَلُوا ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إن صلى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صلى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا)) رواه مسلم. وقال أَنَس رضي الله عنه: ((ما كان شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وَكَانُوا إذا رَأَوْهُ لم يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُوا من كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ)) رواه الترمذي وصححه. وعن أبي مِجْلَزٍ رحمه الله تعالى قال: ((خَرَجَ مُعَاوِيَةُ فَقَامُوا له فقال: سمعت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سَرَّهُ أن يَمْثُلَ له الرِّجَالُ قِيَاماً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)) رواه أحمد. ومن قنت في صلاته حق القنوت، وعظَّم الله تعالى في صلاته كما ينبغي له أن يُعظَّم لم يُعظِّم أحدا من البشر كائنا من كان، ولا يقوم له أو عليه تعظيما له، أو خوفا منه، ولما حج الخليفة المهدي العباسي دخل المسجد النبوي فلم يبق أحد إلا قام إلا ابن أبى ذئب فقال له المسيب بن زهير: ((قم، هذا أمير المؤمنين، فقال ابن أبى ذئب: إنما يقوم الناس لرب العالمين، فقال المهدي: دعه فقد قامت كل شعره في رأسي)). لقد كان للسلف الصالح شأن عظيم مع القنوت في الصلاة، قدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يطيل القيام حتى تتفطر قدماه، قال سعد بن معاذ رضي الله عنه: ((ما كنت في صلاة قط فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها)). وقال أحمد بن سنان الواسطي: ((رأيت وكيعا إذا قام في الصلاة ليس يتحرك منه شيء لا يزول ولا يميل على رِجْلٍ دون الأخرى، لا يتحرك كأنه صخرة قائمة)). ولما توفي منصور بن المعتمر رحمه الله تعالى قالت ابنة لجاره: ((يا أبت أين الخشبة التي كانت في سطح منصور قائمة؟ قال: يا بنية، ذاك منصور كان يقوم الليل)).قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: ((لو رأيت منصورا يصلي لقلت يموت الساعة)). ولما مرض أبو إسحاق السَبِيْعِي قال: ((ذهبتْ الصلاةُ مني وضعفت وإني لأصلي فما أقرأ وأنا قائم إلا بالبقرة وآل عمران)) قال العلاء العبدي: ((ضَعُفَ أبو إسحاق قبل موته بسنتين فما كان يقدر أن يقوم حتى يقام، فكان إذا استتم قائما قرأ وهو قائم ألف آية)). رحمة الله تعالى على سلفنا الصالح، ما أكبر هممهم! وما أعظم فهمهم! وما أمضى عزائمهم، وما أقوى صبرهم في طاعة ربهم جل وعلا!! إن أولئك القوم وجدوا لذةً في القنوت لله تعالى فقنتت قلوبهم وأجسادهم تعظيما لله تعالى ومحبة وخوفا ورجاء.. تذكروا طول الوقوف يوم القيامة بين يدي الله تعالى فهان عليهم طول وقوفهم في صلاتهم، ولم يجدوا مشقة في ذلك، جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه ((أنه قرأ ويل للمطففين حتى بلغ: يوم يقوم الناس لرب العالمين، فبكى حتى خر وامتنع من قراءة ما بعدها)). ووقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: ((يا ابن رسول الله، النار النار، فما رفع رأسه حتى أُطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ فقال: ألهتني عنها النار الأخرى)). اللهم ارحم ضعفنا وعجزنا، وأصلح ما فسد من قلوبنا وأعمالنا، واجعلنا من القانتين. وصلوا وسلموا على نبيكم...
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() عمود الإسلام (5) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] الحمد لله الولي الحميد؛ أسبغ علينا نعمَه ظاهرة وباطنة، وهدانا لدينه، وما كنَّا لنهتديَ لولا أن هدانا الله، نحمدُه على نعمِه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له؛ لا يستحق العبادة سواه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كَرِه الكافرون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ بشَّرَنا وأنْذَرَنا، ورغَّبنا ورهبنا، وتَرَكَنا على بيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلَّى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتْباعه إلى يوم الدِّين. أما بعد: فاتَّقوا الله ربكم، وأسلموا له قلوبكم، وأقيموا له صلاتكم، وأخلصوا له في أعمالكم؛ فإنَّ الجزاء على دينه عظيمٌ، وإنَّ العذاب على ترْكه شديد؛ {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحج: 50، 51]. أيها الناس: خَلَق الله تعالى الخلْق ودبرهم، وأحياهم وأماتهم، فلم يكنْ لهم اختيار في خلْقهم، ولا خيار لهم في مَوْتهم وبعثهم وحسابهم، بل كل ذلك بأمْر الله تعالى وقهْره؛ ولكنَّه سبحانه بيَّن لعبادِه دينَه، وأوضح لهم شريعته، وهداهم صراطه المستقيم، فمَن قَبِل عن الله تعالى هدايته كان منَ السُّعَداء المنعَّمين، ومَن ردَّها كان من الأشقياء المعذَّبين. لقد خضعتْ كلُّ الموجودات لأمر الله تعالى وحكمه، ولا يستطيع أحدٌ الخروج عن ذلك كائنًا مَن كان؛ {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26]، وهذا هو القُنُوت القهري للأمر القدري الربَّاني، فلا يخرج عنه مؤمن ولا كافر، بل الكلُّ لله تعالى قانتون. ولكن أهلَ الإيمان لَمَّا عرفوا ذلك أذْعنوا لله تعالى وانْقادوا، واستَسْلَموا لأمْرِه الشرْعي، ورضوا به دينًا يدينون به، وشريعةً يعمَلون بها؛ فكانوا هم أهلَ القنوت والطاعة، فامْتَدَحَهُم الله تعالى بذلك؛ {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]، وفي آية الأحزاب قال سبحانه: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب: 35]، ثم ذكر جملة من صفاتهم، ثُمَّ بيَّن سبحانه أنه {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]. والعبادات التي يقوم بها المسلم لله تعالى - سواء كانت فعلاً لمأمور، أم اجتنابًا لمحْظور - هي من دلائل قنوت العبد لربِّه سبحانه؛ لأنَّ الطاعة من معاني القنوت، وكلما كان العبدُ أكثر طاعة لله تعالى، وخضوعًا لأمره، كان أكثر قنوتًا لربه - جل وعلا. والصلاة أعظم ميدان للقنوت لله تعالى وأبينه وأوضحه؛ لأنَّ فيها من الخضوع لله تعالى في أفعالها وأقوالها ما ليس في غيرها من العبادات، وفيها إمساكٌ عن كلِّ الشهَوات، وفيها انتصاب لله تعالى، فيُمنع فيها الأكْل والشرْب، والنَّوْم والمَشْي والكلام، والالتفات والحركة، وليس في الإسلام عبادة يُمنَع فيها كل هذا إلا الصلاة؛ مما يدلُّ على حقيقة كونها قنوتًا لله تعالى، ويشير إلى فخامتها ومنزلتها عند الرَّبِّ - جل جلاله. والوقوف في الصلاة بين يدي الله تعالى يسمى قنوتًا؛ لأن هيئة المصلي وهو واقف لا يتحرك، وثابت لا يتزحزح، ورامٍ ببصره في موضع سجوده لا يرفعه ولا يتلفَّت - هي أدلُّ هيئة على القنوت، وبهذه الهيئة العظيمة أَمر الله تعالى المصلِّين في كتابه الكريم: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. قال مجاهد - رحمه الله تعالى -: فمنَ القنوت الركودُ والخشوع، وغضُّ البصر، وخفْض الجناح من رهبة الله - عز وجل - كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء، أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدِّث نفسه من شأن الدنيا إلا ناسيًا، ما دام في صلاته. وروى زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: "كنَّا نتكلَّم في الصلاة يُكَلِّم الرجلُ صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، فأُمِرْنا بالسكوت، ونُهينا عن الكلام"؛ متَّفق عليه، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "كنا نسلِّم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصَّلاة، فيرُد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشيِّ، سلمنا عليه، فلم يَرُدَّ علينا، فقلنا: يا رسول الله، كنا نُسَلِّمُ عليك في الصَّلاة، فَتَرُد علينا، فقال: ((إنَّ في الصَّلاة شُغلاً))؛ متفق عليه، وفي رواية: أنَّ النبي قال: ((إِنَّ الله يُحْدِثُ مِن أَمْرِهِ ما يَشَاء، وإنَّ ممَّا أَحْدَثَ ألا تَكَلَّمُوا في الصَّلاة)). ولما تَكَلَّم معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - في الصلاة، وانتهره الصحابة - رضي الله عنهم - قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ هذه الصَّلاة لا يَصْلُحُ فيها شَيْءٌ من كلام الناس، إنما هو التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ))؛ رواه مسلم. إن القنوتَ هيئةُ ذُلٍّ وخشوع، لا يستشعرها كثير من الناس، ولا يدركون معانيها العظيمة، ولم كانت هكذا؟ إن الواقف في صلاته يقف لله تعالى، فوقوفه قنوت، ولهذا القنوت هيئةٌ، أُمر المصلِّي بها لتعينه على قنوت قلْبه مع قنوت جسده، فيضع يده اليُمنى على يده اليسرى على صدره، وتلك الهيئة أُمِر بها النبيون - عليهم السلام - في صلاتهم؛ كما روى ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنا معشر الأنبياء أُمرنا أن نؤخر سحورنا، ونعجل فطرنا، وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في صلاتنا))؛ صحَّحه ابن حبان. وأُمرنا نحن - أمةَ محمد، صلى الله عليه وسلم - بهذه الهيئة في صلاتنا، كما أُمِر بها النبيون - عليهم السلام - من قبلنا، قال سهل بن سعد - رضي الله عنه -: "كان الناس يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ اليَدَ اليُمْنَى على ذِرَاعِهِ اليُسْرَى في الصَّلاة"؛ رواه البخاري. ورَفْعُ البصر إلى السماء يُنافِي الذُّل والخضوع والقنوت؛ ولذلك كان أتباع الملوك والرؤساء والكبراء يخفضون أبصارهم عندهم ولا يرفعونها، فالله تعالى أَوْلَى وأحق أن يخضع العباد له ويقنتوا ويذلوا، فنُهِيَ المصلِّي عن رفْع بصره إلى السماء؛ كما في حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلى السَّمَاءِ في صَلاتِهِمْ؟! فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ في ذلك حتى قال: لَيَنْتَهُنَّ عن ذلك، أو لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ))؛ رواه البخاري. وفي حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلى السَّمَاءِ في الصَّلاة، أو لا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ))؛ رواه مسلم. ونُهيَ المصلِّي عن الالتفات؛ لأنه يُنافي كمال القنوت لله تعالى؛ كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: سَأَلْتُ رَسُولَ الله عن الالتفات في الصَّلاة فقال: ((هو اختلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ من صلاة العَبْدِ))؛ رواه البخاري. وخطب يحيى بن زكريا - عليهما السلام - في بني إسرائيل فقال: "وَإِنَّ الله أَمَرَكُمْ بِالصَّلاة، فإذا صَلَّيْتُمْ فلا تَلْتَفِتُوا؛ فإن الله ينصب وَجْهَهُ لِوَجْهِ عبده في صلاته ما لم يَلْتَفِت"؛ صححه الترمذي، وابن خُزَيْمة، والحاكم. وقال الحسن - رحمه الله تعالى -: "إياك والالتفاتَ في الصلاة، الله ينظر إليك وتنظر إلى غيره؟!". وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "الالتِفات المنهِي عنه في الصلاة قسمان: أحدهما: التِفات القلب عن الله - عز وجل - إلى غير الله تعالى، الثاني: التفات البَصَر، وكلاهما منهِي عنه، ولا يزال الله مُقبلاً على عبده ما دام العبد مقبلاً على صلاته، فإذا التفتَ بقَلْبه أو بصره، أَعْرَض الله تعالى عنه". ورغم أنَّ الركوعَ والسجود فيهما منَ الانحناء والتعظيم لله تعالى ما لا يخفَى؛ فإن في هيئة الوقوف الواردة من الذل والتعظيم لله تعالى ما لا يقصر عن الركوع والسجود، وإلا لما كانت هيئةً مخصوصةً بالصلاة لها أحكامها ومحظوراتها، ثم إن هذا الوقوف بين يدي الله تعالى قد فُضِّل على سائر أركان الصلاة بأشرف الكلام وأفضله، فكان الوقوف محل قراءة القرآن دون غيره من الأركان؛ ولذا كان تطويله أفضل أنواع الصلاة؛ كما في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ الصَّلاة أفضل؟ قال: ((طول القنوت))؛ رواه مسلم. وهذا الوُقُوف في الصلاة بذل وقنوت لله تعالى هو المهيِّئُ لذلِّ الانْحِناء في الركوع، والهوي إلى الأرض في السجود، وتمريغ الجبين والأنف في الأرض ذُلاًّ لله تعالى، وتعظيمًا ومحبة ورجاء وخوفًا، فهنيئًا لعبْدٍ قَنَتَ قلبُه مع قنوت جَسَده لله تعالى، فأقبل بكُلِيَّتِه على صلاته، فذاك الذي يجد لذة الصلاة، وذاك الذي تنْهاه صلاتُه عن الفحشاء والمنكر. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. بارك الله لي ولكم في القرآن.. الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مبارَكًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحْده لا شريك له، وأشْهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداهم إلى يوْم الدِّين. أما بعد: فاتَّقوا الله تعالى وأطيعوه؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 123]. أيها المسلمون: الوقوف تعظيمًا وذُلاًّ يجب ألاَّ يصرف إلا لله تعالى؛ لأنه رُكْن من أركان الصلاة؛ ولأنَّ النَّهْي صريحٌ في تعْظيم غير الله تعالى بالوُقُوف له أو عليه؛ كما في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلينا وراءه وهو قَاعِدٌ، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، فالتفتَ إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا، فصلَّينا بصلاته قعودًا، فلمَّا سَلَّمَ، قال: ((إن كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِس والرُّوم، يَقُومُونَ على مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ، فلا تَفْعَلُوا، ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ؛ إنْ صلى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صلى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا))؛ رواه مسلم. وقال أَنَس - رضي الله عنه -: "ما كان شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَكَانُوا إذا رَأَوْهُ لم يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ من كَرَاهِيَتِه لذلك"؛ رواه الترمذي وصححه. وعن أبي مِجْلَز - رحمه الله تعالى - قال: "خرج معاوية، فقاموا له، فقال: سمعتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن سَرَّهُ أن يمثل له الرِّجَالُ قِيَامًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مقْعَدهُ مِنَ النَّارِ))؛ رواه أحمد. ومَن قنت في صلاته حق القنوت، وعظَّم الله تعالى كما ينبغي له أن يُعظَّم، لَم يُعظِّم أحدًا من البشر كائنًا من كان، ولا يقوم له أو عليه تعظيمًا له، أو خوفًا منه، وَلَمَّا حَجَّ المهديُّ العباسي، دخل المسجد النبوي، فلَم يبقَ أحدٌ إلا قام، إلا ابن أبى ذئب، فقال له المسَيَّبُ بن زُهَيْرٍ: "قُمْ، هذا أَمِيرُ المؤمنين، فقال ابنُ أبي ذِئْبٍ - رحمه الله تعالى -: إنما يَقُومُ الناس لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فقال المهدي: "دَعْهُ، فَلَقَدْ قَامَتْ كُلُّ شَعْرَةٍ في رَأْسِي". لقد كان للسلف الصالح شأنٌ عظيم مع القنوت في الصلاة، قدوتهم في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يطيل القيام حتى تتفطر قدماه؛ قال سعد بن معاذ - رضي الله عنه - : "ما كنت في صلاة قط فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها". وقال أحمد بن سنان الواسطي: "رأيت وكيعًا إذا قام في الصلاة ليس يتحرَّك منه شيء لا يزول ولا يميل على رِجْلٍ دون الأخرى، لا يتحرَّك كأنه صخرة قائمة". ولما توفِّي منصور بن المعتمر - رحمه الله تعالى - قالت ابنة لجاره: "يا أبت، أين الخشبة التي كانت في سطح منصور قائمة؟ قال: يا بنية، ذاك منصور كان يقوم الليل"، قال سفيان الثوري - رحمه الله تعالى -: "لو رأيتُ منصورًا يصلِّي، لقُلت: يموت الساعة». ولما مرض أبو إسحاق السَّبِيعي قال: "ذهبت الصلاةُ مني وضعفتُ، وإنِّي لأصلِّي فما أقرأ وأنا قائم إلا بالبقرة وآل عمران"، قال العلاء العبدي: "ضَعُفَ أبو إسحاق قبل موته بسنتين، فما كان يقدر أن يقومَ حتى يقام، فكان إذا استتم قائمًا قرأ وهو قائم ألف آية". رحمة الله تعالى على سلفنا الصالح، ما أكبر هممهم! وما أعظم فهمهم! وما أمضى عزائمهم! وما أقوى صبرهم في طاعة ربهم - جل وعلا! إنَّ أولئك القوم وجدوا لذَّةً في القنوت لله تعالى، فقنتت قلوبهم وأجسادهم تعظيمًا لله تعالى، ومحبة وخوفًا ورجاء، تذكروا طول الوقوف يوم القيامة بين يدي الله تعالى، فهان عليهم طول وقوفهم في صلاتهم، ولم يجدوا مشقَّة في ذلك، جاء عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنه -: أنه قرأ ويل للمطففين حتى بلغ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِين}، فبكى حتى خرَّ وامتنع من قراءة ما بعدها. ووقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: يا ابن رسول الله، النارَ النارَ، فما رفع رأسه حتى أُطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ فقال: ألهتني عنها النار الأخرى. اللهم ارحم ضعفنا وعجزنا، وأصلح ما فسد من قلوبنا وأعمالنا، واجْعَلْنا من القانتين. وصلوا وسلموا على نبيكم
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() عمود الإسلام (7) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل صلاة الفجر: فضلها وذم تركها الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم؛ يتقرب إلى عباده أكثر مِن تقرُّب العباد إليه ((إذا تقرَّب عبدي منِّي شبرًا، تقرَّبْتُ منه ذراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا، تقربتُ منه باعًا، وإذا أتاني يمشي، أتيته هرولةً)). نحمدُه على فضله وإحسانه، ونشكره على جزيل عطائه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له؛ فتَحَ لعباده أبواب الخيرات، ونوَّع لهم الطاعات؛ ليكفِّروا السيِّئات، ويتزوَّدوا من الحسنات، ويرتَقُوا في الدرجات. وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ لا خيرَ إلا دلَّنا عليه، ولا شرَّ إلا حذَّرنا منه، تركَنا على بيضاءَ، ليلُها كنهارها، لا يَزِيغ عنها إلا هالك، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، وقدِّموا في يومكم ما تجدونه في غَدِكم، واعملوا في دنياكم ما يكون ذخرًا لكم في أُخْراكم، ونافِسُوا أهل الخير في الخير، وإياكم والانغماسَ في الدنيا وزينتها، ï´؟ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ï´¾ [الحديد: 21]. أيها الناس: أمْرُ الصلاة عند الله - تعالى - عظيم، وشأنها في شريعته كبير، وهي أوَّل ما يُحاسَب عليه العبد من حقوق الله - تعالى - ومَن ضيَّعها كان لما سواها أضْيَع، ولا حظَّ له في الإسلام. جعلها الله - تعالى - لعباده زادًا يتكرَّر معهم في اليوم والليلة خمس مرات، وهذه العناية الربانيَّة بها تدل على عظيم أثرها على العباد، في صلاح قلوبهم، واستقامة أحوالهم ï´؟ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ï´¾ [العنكبوت: 45]. وأعظم الصلوات الخمس وأفضلُها صلاتَا العصْرِ ثُم الفجر، وجاء في الفجر مِن الفضل ما لم يأتِ في غيرها، وكُرِّر التأكيد عليها، وجُعِلت فرقانًا بين أهل الإيمان وأهل النفاق. وفي أول الإسلام شُرعت صلاتان؛ صلاة أول النهار، وصلاة آخره، ممَّا يدل على أن المسلمين كانوا يصلُّون صلاةَ الفجر قبل فرْضِ الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج. ثم أُكِّد الأمر بها في القرآن بعد حادثة المعراج: ï´؟ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ ï´¾ [هود: 114] ï´؟ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ï´¾ [الروم: 17] ï´؟ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ï´¾ [الأحزاب: 42] ï´؟ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ï´¾ [الفتح: 9] ï´؟ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ï´¾ [الإنسان: 25]. وصلاة الفجر تَدخل في كلِّ هذه الآيات؛ بل جاء في القرآن أنها سبب لذهاب الهموم والغموم، وتقويةِ العَزْم والصبر؛ ولِذَا أمر الله - تعالى - بالتسبيح الذي تدخُل فيه صلاةُ الفجر، مع الأمر بالصبر في مواجهة أذى المؤْذِين: ï´؟ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ï´¾ [ق: 39] وتكرَّر الأمر به في سور طه. ووقْتُ صلاة الفجر يسمى غُدُوًّا، وقد أثنى الله - تعالى - على مَن ارتادوا المساجد فيه: ï´؟ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ ï´¾ [النور: 36 - 37]. وصلاة الفجر وما فيها من أقوال، وما بعدها من أذكار، هي من التسبيح المأمور به في وقت الغدُو؛ بل إن الله - تعالى - أمر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يَعتنِي بأهل هذه الصلاة العظيمة: ï´؟ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ï´¾ [الأنعام: 52]. وصلاتُهم الفجرَ هي من دعائهم بالغدو، وفي آية أخرى أمره - عزَّ وجلَّ - أن يصابر معهم: ï´؟ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ï´¾ [الكهف: 28]. فما أعظمَ مكانةَ رُوَّاد المساجد في الفجر! يسبِّحون الله - تعالى - ويَدْعونه والناسُ نِيَام. فيأمر الله - تعالى - بصبْر النفس معهم ولو كانوا فقراءَ ضعفاء، وعدمِ الالتفات إلى مَن ضيَّعوا صلاة الفجر وما في وقتها مِن تسبيح ودعاء، ولو كانوا ذَوِي جاه وقوَّة ومال. ويُتوَّج فضل صلاة الفجر في الكتاب العزيز بالإخبار أنها القرآن المشهود: ï´؟ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ï´¾ [الإسراء: 78]. فسميت قرآنًا؛ لمشروعية إطالة القرآن فيها أطول من غيرها، ولفضل القراءة فيها؛ لأن ملائكة الليل والنهار تشهدها في مساجد تعِجُّ بالقرآن في وقتها، كما في حديث أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الملائكة يتعاقبون؛ ملائكةٌ بالليل، وملائكةٌ بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر والعصر، ثم يَعْرُج إليه الذين باتوا فيكم، فيسألهم - وهو أعْلَمُ - فيقول: كيف ترَكْتُم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يصلُّون، وأتيناهم يصلُّون))؛ رواه الشيخان. فما أعظمَ مشهدَ المصلِّين وهم مُتراصُّون في صلاة الفجر، والملائكة يحفُّون بهم في مساجدهم! والمحافظةُ على صلاة الفجر سببٌ لحفظ العبد في الدنيا والآخرة؛ لما رَوى مسلم عن جُندب بنِ عبدالله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((مَن صلَّى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنَّكم الله مِن ذمَّته بشيء، فيدْرِكَه؛ فيكبَّه في نار جهنم)). قال العلماء: "أيْ: في عهدِه وأمانِه في الدنيا والآخرة". والمُحافظ على صلاة الفجر كأنه يقوم الليل؛ لما في حديث عثمان - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من صلى العشاء في جماعة، فكأنَّما قام نصف الليل، ومَن صلَّى الصبح في جماعة، فكأنما صلَّى الليل كلَّه))؛ رواه مسلم. ولأجْلِ هذا الفضْل العظيم كان عمرُ - رضي الله عنه - يقول: ((لأَنْ أشهدَ الفجر والعشاء فِي جماعة أحبُّ إليَّ مِن أن أُحْيِيَ ما بيْنَهما)). والمشي إلى المساجد لأَداء صلاة الفجر سببٌ للنور يوم القيامة؛ كما في حديث بُريْدة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: ((بشِّرِ المشَّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التامِّ يوم القيامة))؛ رواه أبو داود، وفي حديث آخر: ((من مَشَى في ظلْمة ليْل إلى صلاةٍ، آتاه الله نورًا يوم الْقيامة))؛ رواه الدَّارِمي. والمحافظة على الفجر سبب للنجاة من عذاب النار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: ((لن يَلِج النارَ أحدٌ صلَّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها))؛ يعني: الفجر والعصر؛ رواه مسلم. وهي سبب لدخول الجنة كما في حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صلى البَرْدَين دخل الجنة))؛ رواه الشيخان. وهي كذلك سبب لنَيْل أعلى المقامات برؤية الله - تبارك وتعالى - لِما رَوى جرير بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذْ نَظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: ((أمَا إنكم سترَون ربَّكم كما ترون هذا، لا تضامون - أو لا تضاهون - في رؤيته، فإن استطعتم ألاَّ تُغْلَبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا))، ثم قال: ((ï´؟ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ï´¾ [طه: 130]))؛ رواه الشيخان. فذِكْرُه - صلى الله عليه وسلم - لرؤية الله - تعالى - ثم أمْرُه إياهم بصلاتي الفجر والعصر، يدلُّ على أن المحافظة عليهما سبب لحصول الرؤية. قال الخطابي - رحمه الله تعالى -: "هذا يدل على أن الرؤية قد يُرجى نَيلُها بالمحافظة على هاتين الصلاتين". ومَن حافظ على الفجر والعشاء تباعَدَ عن النفاق؛ لأن الصلاة ثقيلة على المنافقين ï´؟ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى ï´¾ [التوبة: 54]، وأثقلُها عليهم الفجر والعشاء، والفجر أثقل الصلاتين؛ للاستغراق في النوم، فلا يفزَعُ لها مِن نومه إلا مَن قوي إيمانُه، فقهر نفسه على أدائها مع المصلِّين في المساجد. رَوى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس صلاةٌ أثقَل على المنافقين مِن الفجر والعشاء، ولو يعْلَمون ما فيهما لأتَوْهما ولو حبْوًا))؛ رواه الشيخان. ولذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - يَعْلَمون بعض المنافقين بتخلُّفِهم عن الجماعة في العشاء والفجر؛ حتى جاء في مراسيل سعيد بن المسيب - رحمه الله تعالى -: "بيننا وبين المنافقين شُهود العشاء والصبح؛ لا يَستطيعونهما"؛ رواه مالك. وجاء عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كنَّا إذا فقَدْنا الرجل في الفجر والعشاء، أسَأْنا به الظن"؛ رواه الطبراني. فلْيحذر كل مؤمن أن يُنظَم في سلك المنافقين وهو لا يَشعر؛ وذلك بتضْيِيعه صلاةَ الفجر مع الجماعة، وكل واحد أدْرَى بنفْسه، ولن يَحمل عملَه غيرُه ï´؟ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ï´¾ [المدثر: 38]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ï´؟ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ï´¾ [النساء: 142]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مبارَكًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهُداهم إلى يوم الدِّين. أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، وعظِّموا حرماته، وأدُّوا فرائضه؛ فإن بين أيديكم موتًا وقبرًا، وحسابًا وجزاءً، فأعِدُّوا لذلك عُدَّته ï´؟ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ï´¾ [آل عمران: 30]. أيُّها المسلمون: كانت عناية النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلاة الفجر شديدةً جدًّا، ومما يدل على ذلك أنهم كانوا في سفر فقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه - رضي الله عنهم -: ((مَن يكْلؤُنا الليلةَ؛ لا نرقد عن صلاة الصبح؟))؛ رواه النَّسائي. وكان مِن حرصه - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الفجر أنه يتفقَّد أصحابه فيها؛ كما في حديث أُبَيِّ بن كَعْبٍ - رضي الله عنه - قال: "صلى بِنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا الصبحَ، فقال: ((أشاهِدٌ فلانٌ؟))، قالوا: لا، قال: ((أشاهد فلان؟))، قالوا: لا، قال: ((إنَّ هاتين الصلاتين أثقَلُ الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتُموهما ولو حبْوًا على الرُّكَب))؛ رواه أبو داود. وأخَذَ الصحابة - رضي الله عنهم - هذا الحرْصَ الشديد على صلاة الفجر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأبو الدرداء - رضي الله عنه - أبَى في مرض موته إلا أن يُحمل لحضور الجماعة، مع شدَّة ما يجد، فقال - رضي الله عنه -: "ألا احْمِلوني"، فحملوه فأخرجوه، فقال: "اسمعوا وبلِّغوا مَن خلفكم، حافظوا على هاتين الصلاتين؛ العشاء والصبح، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبْوًا على مَرافقكم ورُكَبكم"؛ رواه ابن أبي شيبة. وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "لَوْ يعلم القاعدون مَا للمشَّائين إلى هاتين الصلاتين - صلاة العشاء والفجر - لأتوهما ولو حبْوًا". وجاء عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يُوقِظ الناس لصلاة الفجر، وينادِي: "الصلاةَ الصلاة". وعليٌّ - رضي الله عنه - حين قتَلَه الخوارجُ كان يَدور على الناس يُوقِظُهم، فيقول: "أيها الناس، الصلاةَ الصلاة"، قال الراوي: "كذلك كان يَصنع في كل يوم، يَخرج ومعه دِرَّتُه يُوقظ الناس". وخلَفَهم التابعون على ذلك، فبالَغوا في المحافظة على صلاة الفجر وتعظيمِها، حتى إن سعيد بن المسيب - رحمه الله تعالى - اشتكى عينه، فقالوا له: "لو خرجتَ إلى العقيق فنظرت إلى الخُضرة لوجدتَ لِذلك خِفَّةً، قال: فكيف أصنع بشهود العَتمة والصُّبح؟!". وبعْدَ كل هذه النصوص والآثار في العناية بصلاة الفجر وشهودِها مع الجماعة، نَسمع في زمَنِنا هذا مَن يرفع عقيرتَه، ويسوِّد صحيفته؛ يَدعو الناس إلى الزُّهْد في حضور الجماعة، ويهوِّن مِن أمر الصلاة في قلوبهم، ويصدِّقه ويتبعه مَن كان له هوًى في ذلك، وإلا فكثرة النصوص المشدِّدة في الجماعة تغْنِي عن الاستماع إلى الأفَّاكين، وما فِعْلُهم هذا إلا مِن برودة الدين في قلوبهم، وقلَّة الفقه في أمورهم، والفتنة بالدنيا وزينتها - نعوذ بالله تعالى من الخِذْلان. تأمَّلوا - يا عباد الله - قولَ الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: ((ولو تعْلَمون ما فيهما لأتيتُموهما ولو حبْوًا على الرُّكَب))، فإنه يدُلُّ على أنَّ ما في الفجر والعِشاء من الأجر والمنفعة عظيم جدًّا، لا يمكن عدُّه، فأبهمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لِكثرته وعظمته. ولو طُلب من الناس أن يَحْبُوا على مَرافقهم ورُكبهم مسافةً طويلةً مُقابلَ منصب دُنيوي، أو مبلغ من المال مُجْزٍ، أو أراضٍ في موقع مميَّز - لَرَأينا الناس يَحْبون لنَيْل ذلك. وربُّنا - جلَّ جلالُه - ما أمرَنَا أن نحْبُوَ للمساجد لنَيل الأجْر، ومتَّعَنا بأقدام تحملنا إليها، وأنعَمَ علينا بصحَّة تبلِّغنا إياها، وأمَّن طريقنا إليها، وأخبرنا على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أجرها يستحقُّ لو عجزْنا عن المشي أن نحبُوَ لأدائها مع المسلمين. فما بالُ كثير من الناس يُحْرَمون هذا الخيرَ العظيم، ويفَرِّطون في هذا الأجر الكبير، وهم يسْعَون جادِّين في عرَضٍ من الدنيا قليل؟! إنَّ هذا لهو الخسران المبين. ألا فاتَّقوا الله ربَّكم، واعْمُروا بالصلاة مساجدَكم، وأَلْزِموا بشهود الجماعة مَن تحتَ أيديكم مِن ولدٍ وخدَم؛ فإنهم مِن رعيَّتكم التي تُسألون عنها يوم القيامة، وكلُّكم راعٍ ومسؤول عن رعيته؛ ï´؟ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ï´¾ [طه: 132]. وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() عمود الإسلام (8) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل التفريط في صلاة الفجر ï´؟ الحَمْدُ لله فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ {فاطر:1} نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خلق عباده ورزقهم وعافاهم، وأمرهم بعبادته وطاعته، ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ï´¾ {فاطر:3} وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ كان أحرص الناس على الصلاة، وكانت الصلاة قرة عينه، وراحة باله، ومفزعه في همه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وحافظوا على فرائضه، وقفوا عند حدوده؛ فإن أمامكم موتا وقبرا وحسابا وجزاء، ويوما عبوسا قمطريرا، لا ينجو فيه إلا من نجاه الله تعالى ووفقه للأعمال الصالحة في الدنيا ï´؟ وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى الله وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ï´¾ {الزُّمر:60-61}. أيها الناس: من توفيق الله تعالى للعبد، وهدايته له؛ محافظته على فرائضه. وكلما كان أداء الفريضة شاقا وحافظ العبد على أدائها في وقتها كان ذلك دليلا على توفيق الله تعالى له، وهدايته لما ينفعه، وإعانته على أخذ الدين بقوة، والحزم مع النفس في إتيان الطاعات. فالانتصار الحقيقي هو انتصار الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء، والهزيمة الحقيقية هي هزيمة المرء مع نفسه. وصلاة الفجر علامة على ذلكم الانتصار أو الهزيمة؛ فمن قطع نومه في الفجر، ودحر هوى النفس، وهب فزعا يلبي النداء، وصدّق بفعله قول المؤذن (الصلاة خير من النوم) فقد انتصر على الشيطان الذي يعقد على ناصية النائم ثلاث عقد يضرب على كل واحدة: عليك ليل طويل فنم، وانتصر على شهوته حين قطع لذة النوم، وهو أعسر شيء يقطع على الإنسان، وخليق به أن ينتصر على شهواته كلها، وحقيق به أن يبذل نفسه لله تعالى. وأما من عجز عن حضور الفجر مع الجماعة -وهم الأكثر في أهل الإسلام اليوم- فإنه ضعيف الإرادة، منحط الهمة، مهزوم أمام الشيطان وجنده. ومن بخل على ربه سبحانه ببذل بعض نومه له أتراه يبذل دمه ويضحي بنفسه لأجله سبحانه؟! وما ظفر الأعداء بالمسلمين في الأزمان المتأخرة إلا لأن أكثرهم يحمل هذه النفوس الضعيفة، التي لا تضحي برقدة في مرضاة الله تعالى، فكيف ستضحي بما هو أكبر منها في سبيله عز وجل. ولقد قال قائل اليهود يوما وهم ينتصرون على المسلمين في معاركهم: نحن لا نخاف من المسلمين إلا عندما يصلون الفجر في المسجد كما يصلون الجمعة. كيف يفرط مؤمن في حضور الفجر مع الجماعة وهو يعلم أنها صلاة مشهودة يشهدها الملائكة عليهم السلام ليخبروا الله تعالى بالمصلين، وهو سبحانه أعلم بمن صلى ومن لم يصل ï´؟ إِنَّ قُرْآَنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ï´¾ {الإسراء:78}. ولو علم الناس ما في شهود الفجر من اللذة والراحة، وطمأنينة القلب وصلاحه لما فرط فيها أحد منهم. وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن: «مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ الله»رواه مسلم. ومن عاش يومه في ذمة الله تعالى هل يخاف من شيء، أو يحزن على فوات شيء؟! ولو أن المسلمين كلهم أو جلهم حافظوا على الفجر في المساجد هل يقدر العدو منهم على شيء وهم في ذمة الله تعالى؟! ويوم أن كان الصحابة رضي الله عنهم في ذمة الله تعالى بمحافظتهم على الفجر ما وقف لهم عدو، ولا هزم لهم جيش، ولا سقطت لهم راية، ولا استعصى عليهم حصن، ولا خافوا أحدا من البشر، فهم في ذمة الله تعالى، حتى عمت فتوحهم مشارق الأرض ومغاربها. ودليل محافظتهم على صلاة الفجر أنها فاتتهم ذات مرة في غزوة الحديبية، وهم في سفر طويل مرهق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، فلم يتكلوا على ذلك، بل جَعَلَ بَعْضُهم يَهْمِسُ إلى بَعْضٍ: ما كَفَّارَةُ ما صَنَعْنَا بِتَفْرِيطِنَا في صَلَاتِنَا؟! وكانوا قد عزموا على الاستيقاظ لكن النوم غلبهم من شدة التعب وطول السفر، ومع ذلك أحسوا بالذنب، وشعروا بالمسئولية، ولم يتعللوا بالأعذار، ولم يقولوا رسول الله معنا وقد فاتته الصلاة كما فاتتنا. يتهامسون بينهم بفداحة ما فاتهم، ويتساءلون عن كفارته، وما ذاك إلا لأنهم يعرفون عظمة صلاة الفجر ومنزلتها عند الله تعالى، وعظم جرم التخلف عنها أو تأخيرها عن وقتها، والنبي صلى الله عليه وسلم يربيهم على ذلك؛ كما روى جُبَيْر بن مطعم رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَفَرٍ لَهُ:«مَنْ يَكْلَؤُنَا اللَّيْلَةَ لَا نَرْقُدُ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ»رواه أحمد. وربما كلف عددًا من الناس بهذه المهمة، ولا يكلها لواحد خشية أن ينام فتضيع الصلاة، أخبر أَبُو قَتَادَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ فِي سَفَرٍ لَهُ، قال: فَمَالَ وَمِلْتُ مَعَهُ، قَالَ: انْظُرْ، فَقُلْتُ: هَذَا رَاكِبٌ، هَذَانِ رَاكِبَانِ، هَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ، حَتَّى صِرْنَا سَبْعَةً، فَقَالَ: احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا، يَعْنِي: صَلَاةَ الْفَجْرِ» رواه أبو داود. بالله عليكم أيها المسلمون: من منا خشي أن تفوته صلاة الفجر ذات مرة؛ لأنه سهر وتعب فوصى سبعة أن يوقظوه؟ بل خمسة؟ بل ثلاثة؟ لا أظن أن أحدًا فعل ذلك إلا النادر من المسلمين. يهب الطالب من فراشه فزعا يخشى فوت الامتحان، ويقطع الموظف لذة نومه ليكون على كرسيه في موعده فلا يخاصم ويساءل. وإذا كان الواحد منا يستقبل في صباحه الباكر سفرا بالطائرة، أو ينتظر موعدا في مستشفى، أو له مقابلة مع ذي جاه في حاجة؛ فإنه لا يستغرق في نومه، ويفزع المرة بعد المرة يرقب الوقت، وربما جفاه النوم فتجهز لما يريد قبل الفجر، لكن أكثر المسلمين يسترخون في فرشهم، ويغطون في نومهم، ولا يبذلون جهدا يذكر للحفاظ على صلاة الفجر.. بل من الناس من يتمنى لو تعطل المنبه، أو وضعه خطأ بعد وقت الفجر، ويفرح بنومه؛ لأنه يرى أنه غير مؤاخذ بالخطأ، ولم ينظر لعظيم ما فاته من الأجر، والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقُولَ:«رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»رواه مسلم. وهاتان الركعتان هما سنة الفجر الراتبة، فإذا كانتا خيرا من الدنيا بأجمعها فماذا في ركعتي الفريضة من الأجر، وهما خير من السنة الراتبة؟! يا أمة صلاة الفجر: اشكروا الله تعالى على هذه الصلاة التي أعطاكم، وأحيوها فيكم؛ فليس في أمم الأرض أمة قد أعطيت ما أعطيتم، ولا صلاة تقرب إلى الله تعالى إلا صلاتكم؛ فكثير من أهل الملل والفرق يصلون حسب ما شرع لهم شياطينهم وأهواؤهم، وبما اخترع لهم أئمة الضلال منهم، وليس لهم حظ من صلاتهم إلا التعب والخسران.. أما وقد هديتم للحق فحافظوا عليه، وتمسكوا به، وأدوا شعائره، وأثبتوا أنكم أهل لما حباكم الله تعالى من الخير ï´؟ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ï´¾ {آل عمران:110}. وحري بمن كان يضيع صلاة الفجر أن يعرف عقوبة ذلك، ويضعها أمام عينيه؛ فإن كان له قلب حي خاف مما فعل، وندم على ما فرط، وثاب إلى رشده، ورجع إلى ربه سبحانه قبل أن يموت وهو يؤخر الفجر عن وقتها، أو وهو لا يحضرها في المسجد مع المسلمين، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤيا عما رأى من عذاب من ينامون عن الصلاة فقال: وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ، فَيَتَدَهْدَهُ الحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ، فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ المَرَّةَ الأُولَى» ثم ذكر في آخر الحديث أن هذا الرَّجُلَ يعذب هكذا لأنه يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ المَكْتُوبَةِ. رواه البخاري. قال ابن العربي رحمه الله تعالى: يأخذ القرآن فيرفضه، يعني: قد قرأ وجوب الصلاة في الكتاب، وعلمها فرضا ثم فرط فيما علم، وترك ما أمر. وقال أيضا: جعلت العقوبة في رأس هذه النومة عن الصلاة والنوم موضعه الرأس. وكم في القبور من رؤوس ترضخ الآن بالحجارة لنومها عن صلاة الفجر، دهمت الآجال أصحابها وهم لم يتوبوا؛ لأنهم ما توقعوا الأجل. وحق على كل مسلم علم هذا الحديث الصحيح، وما فيه من العقوبة الشديدة أن يخاف ويفزع، ويعمل على النجاة من العذاب، ويحافظ على رأسه من رضخ بالحجارة، لطالما طلب لهذا الرأس علاجا من الصداع والآلام، وبذل الأموال في ذلك، فليس له طاقة أن يرضخ بالحجارة، ويكون هذا عذابه إلى قيام الساعة. نعوذ بالله تعالى من غضبه وعذابه، ونسأله الهداية لنا ولذرياتنا وللمسلمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله... الخطبة الثانية الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ï´؟ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ï´¾ {البقرة:281}. أيها الناس: فرائض الله تعالى ثقيلة على النفوس بثقل الوحي المتنزل بها ï´؟ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ï´¾ {المزمل:5} وجاء في الصلاة قول الله تعالى ï´؟ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ï´¾ {البقرة:45-46}. وصلاة الفجر هي أشق الصلوات على الناس، ولا يحافظ عليها إلا مؤمن. وأعظم ما يعين المسلم على الحفاظ عليها الاستعانة بالله تعالى على أدائها، فلا حول ولا قوة للعبد إلا بالله، فإياه نعبد وإياه نستعين، مع كثرة دعائه والإلحاح عليه سبحانه في هذا الأمر العظيم. وبذل الأسباب في ذلك: من تجنب السهر، ولا سيما إذا كان على محرم أو لهو وعبث، وما أكثر وقوع ذلك في هذا الزمن، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم كره الحديث بعد العشاء الآخرة لئلا يؤدي إلى السهر، فيفوت بسببه قيام الليل وصلاة الفجر. وعلى المسلم أن يتذكر أنه إن ضيع صلاة الفجر فقد فاته خير كثير، ليست الدنيا بأجمعها شيئا يذكر عند صلاة واحدة أضاعها. وعليه إن فاتته صلاة الفجر أن يخشى أن يكون داخلا في قول الله تعالى ï´؟ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ï´¾ {الأحقاف:32}. ومما يعينه على أداء صلاة الفجر مع الجماعة قراءة الأحاديث الواردة في فضلها، والمحذرة من تركها، والمبينة لعذاب من ضيعها، ومراجعتها بين حين وآخر؛ فإن الجهل بهذه الأحاديث ونسيانها يؤدي إلى الغفلة وعدم المبالاة. وعلى جماعة المسلمين أن يوصي بعضهم بعضا بالمحافظة على صلاة الفجر، ويتعاهدوا المتخلفين عنها بالزيارة والنصيحة والموعظة الحسنة، ويعين بعضهم بعضا في هذا الأمر العظيم الذي خف وزنه عند كثير من الناس، ولأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم. وصلوا وسلموا على نبيكم...
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() عمود الإسلام (9) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل قدرها عند النبي الحمد لله الولي الحميد، الغفور الرحيم؛ علم ضعف عباده وعصيانهم فشرع لهم من العبادات ما يكفر ذنوبهم، ويمحو خطاياهم، ويرفع درجاتهم، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظم أمر الصلاة فجعلها صلة العبد به سبحانه، وفرضها من فوق سمواته، وخاطب بها نبيه، ولا عظيم إلا ما عظمه، ولا شرع إلا ما شرعه ï´؟ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ï´¾ [محمد: 24] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، علم قدر الصلاة عند الله تعالى فاحتفى بها، وعظم شأنها، ورفع قدرها، وغرس في أمته العناية بها؛ فكان كثير الصلاة، وكان يطيلها فيقرأ طوال السور فيها، ومن ائتم به في صلاته لا يطيقها، فمن يطيق أن يقف حتى تتفطر قدماه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وإياكم وتضييع فرائضه، والاستهانة بأوامره؛ فإن فوز العبد منوط بها، وعُلق خسرانه على التفريط فيها ï´؟ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ï´¾ [الأنعام: 155]. أيها الناس: إذا كثرت النصوص في عبادة من العبادات، وتكرر فعلها كثيرا دل ذلك على منزلتها عند الله تعالى، وعلو مكانتها في شريعته، وأهميتها في صلاح عباده. ومن تأمل الصلاة وجدها أكثر العبادات تكرارا، وأغزرها نصوصا، وهي متنوعة تنوعا كثيرا؛ ففيها فروض عين كالصلوات الخمس والجمعة، وفيها فروض كفاية كصلاة الجنائز، وفيها سنن مؤكدة كالكسوف والتراويح. وكما أن في الصلوات أنواع جماعية ففيها أيضا أنواع فردية كتحية المسجد والسنن الرواتب وسنة الطواف والاستخارة وغيرها، هذا غير النفل المطلق، والصلاة من أفضل القربات. وأما النصوص فيها فذكرت الصلاة في القرآن أكثر من ستين مرة، وفي السنة أحاديث كثيرة جدا، ومن قرأ قصص الأنبياء عليهم السلام في القرآن وجد الصلاة حاضرة في شرائعهم، مذكورة في أحوالهم، وكأنها لا تنفك عنهم. وما رتب من العقوبات على ترك الصلاة أو تأخيرها عن وقتها لم يرتب مثله على ترك غيرها من العبادات؛ حتى كان ترك الصلاة بالكلية كفرا ولم يكن ذلك في الزكاة والصيام والحج رغم أنها من أركان الإسلام. كل ذلك يدل على عظم قدر الصلاة عند الله تعالى، وفخامة شأنها، وعلو منزلتها.. ثم إذا نظرنا إلى اهتمام النبي عليه الصلاة والسلام بالصلاة المفروضة وجدنا أنه اهتمام يوازي منزلتها في النصوص. كانت الصلاة من أوليات الفرائض، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مكة، حتى حلف أبو جهل باللات والعزى ليطأن رقبته، أو ليعفرن وجهه بالتراب إن رآه يصلي، ولكن الله تعالى حمى نبيه بجند من الملائكة. وَكَانَ أَصْحَابُه - رضي الله عنهم إذَا صَلَّوْا، ذَهَبُوا فِي الشِّعَابِ، فَاسْتَخْفَوْا بِصَلَاتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ. ولما فرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء، كثر قول النبي عليه الصلاة والسلام فيها، وكثر فعله لها، وبمطالعة أبواب الصلاة في كتب الحديث ندرك هذه الكثرة قولا وفعلا، ويظهر لنا حرص النبي عليه الصلاة والسلام على الصلاة، حتى ما تركها ولا رخص في تركها لا في حضر ولا سفر، ولا في سلم ولا حرب، ولا في أمن ولا خوف، ولا في صحة ولا مرض، ولا في قدرة ولا عجز، بل يأمر بها في كل الأحوال فيصليها المؤمن على حسب استطاعته، ويأتي بما أمكنه من شروطها وأركانها وواجباتها، ولكن لا يتركها أبدا ما دام عقله معه، ولا يجزئ شيء عن الصلاة، ولا تغني عنها النيابة ولا الجبر ولا الكفارة وإن دخلت في الصيام والحج. وكان النبي عليه الصلاة والسلام لا ينام حتى يستوثق من استيقاظه للصلاة يخاف أن يفوت وقتها؛ ففي حديث أَبِي قَتَادَةَ - رضي الله عنه - قال:«سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةً، فَقَالَ: بَعْضُ القَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنِ الصَّلاَةِ، قَالَ بِلاَلٌ: أَنَا أُوقِظُكُمْ...»رواه البخاري. وفي رواية لأحمد قال صلى الله عليه وسلم:«احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا». وفي حادثة أخرى قال جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ - رضي الله عنه -:«كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، فَقَالَ:مَنْ يَكْلَؤُنَا اللَّيْلَةَ لَا نَرْقُدُ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ؟ " فَقَالَ بِلَالٌ: أَنَا...»رواه النسائي. وناموا مرة في سفر فلم يوقظهم إلا حر الشمس، وتحسر الصحابة - رضي الله عنهم - على ما فاتهم من أجر الصلاة وخافوا الإثم، رغم أنهم كانوا متعبين جدا، وقد حرصوا على الاستيقاظ لكن ضُرب على آذانهم، فطمأنهم النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم لم يفرطوا، وأمرهم بالارتحال عن مكانهم الذي فاتتهم الصلاة فيه فقال:«تَحَوَّلُوا عَنْ مَكَانِكُمُ الَّذِي أَصَابَتْكُمْ فِيهِ الْغَفْلَةُ»رواه أبو داود. وأخذ العلماء مِنْهُ أَنَّ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ غَفْلَةٌ فِي مَكَانٍ عَنْ عِبَادَةٍ اسْتُحِبَّ لَهُ التَّحَوُّلُ مِنْهُ. وظل الحرص على الصلاة حاضرا في أقوال النبي عليه الصلاة والسلام وفي أفعاله إلى آخر لحظة من حياته، ولما ثقل في مرضه الذي مات فيه كان يغمى عليه من شدة المرض فإذا استيقظ لا يسأل إلا عن الصلاة، وهاكم خبر ذلك في هذا الحديث العجيب؛ لنعلم أهمية الصلاة المفروضة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، قالت عَائِشَةَ - رضي الله عنها: «ثَقُلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ. قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ، قَالَتْ: فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ، فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ فَقُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي المَسْجِدِ، يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لِصَلاَةِ العِشَاءِ الآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ... فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا العَبَّاسُ لِصَلاَةِ الظُّهْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ لاَ يَتَأَخَّرَ، قَالَ: أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ يَأْتَمُّ بِصَلاَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالنَّاسُ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاعِدٌ»رواه الشيخان. وفي رواية للبخاري:أن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنما حدثت بهذا الحديث لما تذاكروا عندها المُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلاَةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا، أرادت أن تبين قدر الصلاة عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى في شدة مرضه. لنتأمل هذا الحديث جيدا، ففيه يُغمى على النبي عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات، وفي كل إفاقة له لا يكون سؤاله إلا «أَصَلَّى النَّاسُ؟» ويتوضأ وهو ثقيل مريض ثلاث مرات يريد أن يصلي المفروضة معهم حتى أيقن بثلاث تجارب أنه لا يقدر فوكّل أبا بكر بذلك. وبعد أيام وجد في نفسه خفة فخرج للظهر يصلي معهم فصلى بهم جالسا من ثقل مرضه. فوالله لا يفرط في الصلاة المفروضة، ولا يتهاون بصلاة الجماعة بعد هذا الحديث إلا مخذول محروم. هذا فعله عليه الصلاة والسلام الذي ودَّع به الأمة حين غرس في وجدانها أهمية الصلاة، وأما قوله فالصلاة آخر وصيته، وغرغر بها وهو يلفظ أنفاسه؛ ففي حديث أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ:«الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا، حَتَّى مَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ»رواه ابن ماجه. وفي رواية أحمد:«حَتَّى جَعَلَ نَبِيُّ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَجْلِجُهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا يَفِيصُ بِهَا لِسَانُهُ» وقال أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -:«كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَهُوَ يُغَرْغِرُ بِنَفْسِهِ: الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»رواه ابن ماجه، وفي رواية ابن حبان أنها كانت آخر وصيته عليه الصلاة والسلام. وجاء عن علي - رضي الله عنه - أنها كانت آخر كلامه عليه الصلاة والسلام. ومن طالع أحاديث وفاته عليه الصلاة والسلام وجد تضافر الأحاديث والروايات على عنايته بالصلاة، وأنه أوصى بها وكرر ذلك، وفاضت روحه وهو يوصي بها. وهو عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بالله تعالى وبما يرضيه، وهو أنصح الخلق للخلق، فلا نظن إلا أنه أوصى بأهم شيء وأعظمه وأكبره، فمن يفرط في وصيته بعد هذا؟! نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، وأن يمن علينا بتعظيم شعائره، والمحافظة على فرائضه، والانتهاء عن معصيته، إنه سميع مجيب. أقول قولي هذا... الخطبة الثانية الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ï´؟ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ï´¾ [محمد: 24]. أيها الناس: من نظر في واقع كثير من المسلمين اليوم يجد تفريطا كثيرا في الصلاة رغم أنها ركن الإسلام الأعظم بعد الشهادتين؛ فكثير منهم ينامون عن صلاة الفجر ويستيقظون لدراستهم وأعمالهم، وهذا دأبهم في أغلب أحوالهم لا يصلون الفجر إلا بعد طلوع الشمس، ولا سيما مع السهر، وقلة الحرص على الصلاة، ومع قصر الليل وطول النهار، حتى استوحشت المساجد في الفجر من قلة المصلين فيها، فيا للخسران العظيم لمن ضيع الفجر وهي الصلاة المشهودة ï´؟ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ï´¾ [العنكبوت: 45] وبعضهم يضيع الصلاة المشهودة الأخرى، وهي الصلاة الوسطى صلاة العصر، والله تعالى يقول ï´؟ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ï´¾ [الأنعام: 155]. ومن كان ينام عن الصلاة المكتوبة فعقوبته في القبر أن يرضخ رأسه بالحجارة كما جاء في حديث الرؤيا.. فمن يطيق ذلك؟! إن الدنيا بأجمعها تزول، ولا يزول أثر الصلاة وثوابها؛ ولذا جاء في الحديث أن ركعتي الفجر خير من الدنيا وما عليها، وقد نزع ملوك من عروشهم، وزالت ممالك واندثرت، ومات أثرياء تمنى الناس بعض ثرواتهم، ولم يبق للواحد منهم إلا عمله فقط، وصلاته من أهم عمله، بل هي أهم عمله. كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ:«إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ...»رواه الترمذي. ونحن نرى الموت يتخطف الناس في غرق أو حوادث سيارات، أو جلطات دماغية، أو سكتات قلبية. والحوادث الكونية من زلازل وفيضانات ونحوها تلتهم جموعا من البشر، وأصحاب القلوب الحية إن رأوا موت الفجأة لا يطرأ عليهم إلا تمني أن من مات فيها كانوا من المحافظين على الصلاة؛ لعلمهم بمكانتها في شريعة الله تعالى. فيا أيها المفرطون في الصلوات المفروضة.. ويا من ينامون عن صلاة الفجر أو العصر: تَعِدون أنفسكم بالتوبة والمحافظة على الصلاة وتؤجلون.. وأنتم تبصرون الموت يتخطف الناس من حولكم، فمن يؤمنكم أن تكون في عداد الأموات قريبا؛ فإن الموت قد خطف شبابا وأطفالا، وخطف أصحاء أقوياء، فلا يغرنكم طول الأمل، واكتمال النعم، وتمام الصحة ï´؟ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ï´¾ [لقمان: 33].. وصلوا وسلموا على نبيكم...
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |