|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() عناية الأمة بروايات ونُسخ «صحيح البخاري» د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر الحمد لله. تميَّز كتاب الجامع الصحيح للإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ) بمكانةٍ فريدةٍ في تاريخ السُّنَّة النبوية، وقد اعتنت الأمة الإسلامية بنقله وضبطه وروايته ونُسَخِه منذ وقت مبكر. ويجدر التمييز بين رواية «صحيح البخاري» ونسخة «صحيح البخاري»؛ لما بين المصطلحين من فرق منهجي دقيق. فـ«الرواية» في اصطلاح المحدثين تشير إلى الطريقة التي نُقِل بها الكتاب عن مؤلفه بالسماع أو الإجازة أو غيرها من طرق التحمُّل، وتُعَدُّ رواية محمد بن يوسف الفربري (ت 320هـ) عن الإمام البخاري هي الرواية الأبرز والأوسع انتشارًا، وقد تفرَّعت عنها روايات أخرى؛ كـرواية الكُشْمِيْهَنِي (ت 389هـ)، ورواية المستملي (ت 376 ه)، والحمويِّي (ت 381 ه)، وكلها روايات عن الفربري، وقد تنوعت الألفاظ والزيادات الجزئية فيما بينها؛ مما شكَّل مادة غنية في مجال النقد والتوثيق. أما «النسخة»، فهي مصطلح يُطلَق على النص المكتوب للكتاب كما حُفِظ في مخطوطة معينة أو نُقل عن راوٍ بعينه، وهي تعبير عن الشكل المادي للكتاب سواء أكان مخطوطًا أم مطبوعًا. ومن أشهر نسخ «صحيح البخاري»: «النسخة اليونينية» التي كتبها الإمام اليونيني (ت 701 هـ) وضبطها قراءةً ومقابلةً مع عدة روايات على رأسها رواية الكشميهني، وقد كانت عمدة للشارحين والنُّسَّاخ؛ وكذلك «النسخة السلطانية» التي أُعِدَّت بأمر السلطان عبدالحميد الثاني، واعتمدت كذلك رواية الكشميهني؛ كما برزت «نسخة الصَّغاني» التي أعدَّها الحافظ محمد بن تاج الصَّغاني (ت 650 هـ) والتي تميزت بتصحيحات لُغَوية ونَحْويَّة دقيقة، وتنبيهات على المواضع المحتملة للخطأ، واعتمد فيها على رواية الكشميهني مع مقابلات دقيقة على عدة نسخ. لقد اعتنى علماء الأمة منذ زمن مبكر بإثبات الروايات المختلفة لـ «صحيح البخاري» ومقارنة ألفاظها؛ يمكننا القول بأن رواية أبي ذر الهروي الذي سبق اليونيني في جمع الاختلافات بين روايات شيوخه الثلاثة في نسخة واحدة، هي أقدم محاولة لجمع الروايات المتعددة. كما اعتنى العلماء بجمع النسخ الخطية وقراءتها على الشيوخ وإثبات السماع والمقابلة عليها؛ مما شكَّل ظاهرة علمية فريدة من حيث الدقة والتوثيق، حتى عدَّ بعض الباحثين «صحيح البخاري» من أكثر الكتب الإسلامية حفظًا وتحريرًا من حيث ضبط النص والرواية. وهذا التمييز المنهجي بين «الرواية» و«النسخة» لم يكن مجرد ضبط نظري؛ بل بُني عليه جهد علمي هائل في تتَبُّع الفروق وتحقيق الألفاظ، وهو ما يظهر في عناية العلماء بالفروق بين النسخ والروايات. لقد أَوْلَى علماء المسلمين عنايةً فائقةً بالفروق الدقيقة بين نسخ «صحيح البخاري»، واعتنوا برصد الاختلافات بين الروايات والنسخ المخطوطة، سواء في الألفاظ، أو التراكيب، أو ترتيب الأحاديث، أو مواضع التعليقات، أو حتى في ضبط الحروف والحركات. ولم يكن هذا الاعتناء ترفًا علميًّا أو انشغالًا جزئيًّا بالتفاصيل؛ بل كان تعبيرًا عن منهج دقيق في صيانة النصوص ونقلها بأعلى درجات الأمانة العلمية. وقد قارن العلماء بين روايات الكُشْمِيْهَنِي والمستملي والنسفي وغيرهم، ونصُّوا على اختلافات يسيرة في الألفاظ، واعتنوا بإثبات الأوجه المتعددة في مواضع التباين، بل دوَّنوا ذلك في هوامش المخطوطات وأثبتوه في الشروح والتعليقات. ومن هذه النسخ والشروح نسخة «صحيح البخاري» الخاصة بالبرهان الحلبي (ت 841 ه)، وشرحه على «صحيح البخاري»: «التلقيح لفهم قارئ الصحيح» وهو الشرح الذي استمد منه أبو ذر (ت 884 ه) كتابه «التوضيح للأوهام الواقعة في الصحيح». ويدل هذا الجهد العلمي على مكانة «صحيح البخاري» باعتباره أصحَّ كتابٍ بعد كتاب الله تعالى، وعلى الرسوخ العلمي الذي تميَّز به علماء الأمة في علوم الرواية والضبط والنقد، كما يُعَدُّ هذا الاعتناء أحد أقوى الشواهد على موثوقية نَقْل السُّنَّة النبوية، وأنها وصلت إلينا بأعلى درجات التوثيق والتدقيق، لا سيَّما في مظانِّها الكبرى، مثل «صحيح البخاري». والحمد لله رب العالمين.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |