|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() وداعاً بغداد (القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي) د. عبدالحكيم الأنيس على ضفافِ دجلة في الجانب الشرقي ببغداد عاصمة العباسيين وُلِدَ عام 362 للهجرة طفلٌ كأنّه جاء بعد انتظار وترقُّبٍ فسمّاه والدُهُ (عبد الوهاب). كان والدُه علي بن نصر التغلبي فقيهاً مالكياً، ومن أعيان الشهود المعدَّلين، ويرجع نسبُه الى الأمير مالك بن طوق من خاصة هارون الرشيد وابنه المأمون. وما كان يُنتظَرُ من هذا الوليد إلا أن يكون له شأنٌ مذكورٌ، وقدمٌ راسخةٌ في دنيا العلم والأدب. وقد صدّقَ الظنونَ بما آتاه اللهُ من مواهب وقدرات، وظَهَرَ عليه هذا وهو ناشئٌ يطلبُ العلم على ضفاف دجلة ويترددُ على حلقات العلم في المساجد والمحافل حتى قال الإمامُ الباقلاني لأبي عمران الفاسي الذي رحل يطلبُ العلم في بغداد: لو اجتمعتَ في مدرستي أنت وعبدُ الوهاب لاجتمعَ علمُ الإمام مالك، أنت تحفظُهُ، وعبد الوهاب ينصرُهُ، لو رآكما لسُرَّ بكما. وكان عبد الوهاب متأثراً بشيخه الباقلاني، ويَنسِبُ إليه الفضل أنه هو الذي جعله يفتح فمَهُ ويتكلَّم. وشاع صيتُ عبد الوهاب البغدادي المالكي بقوة الحجة وغلبة المجادلين حتى وصل الى المغرب، وأرسل له الإمامُ ابن أبي زيد القيرواني هديةً كبيرة تشجيعاً له على المضي في طريق العلم وخدمة الدين. وسافر في طلب العلم إلى البصرة والموصل ومكة والمدينة، ولقيَ العلماء والفقهاء والأدباء. وبينما كان شيوخ عبد الوهاب المالكي وأساتذته يرحلون إلى الله كان هو يتألقُ علماً وفهماً، وفضلاً وعقلاً، ويسدُّ مكانَهم بكل ما يستطيع. وطُلب للقضاء فلبى الدعوة، ونهضَ بهذا المنصب خيرَ نهوض حتى لزمه لقبُ القاضي إلى يوم الناس هذا، وحَكَمَ في أماكن تتوزَّع اليوم على العراق وإيران وتركيا. ثم على حين فجأةٍ أدارت الدنيا له ظهرَها وتنكرتْ له، فلا قضاء ولا مورد، ولا مكانة ولا مكان، على حين كان أولى أن يكون قاضي بغداد نفسِها، أليس هو ابنها الأصيل، وفقيهها المتوقد، ومجادلها المنصور، وشاعرها المرهف، ومؤلفها المكثر المبدع؟ ويتلفتُ القاضي عبد الوهاب فإذا وراءه أُسرة، ومِنْ أمامه طلاب، وهو فارغ اليد إلا مِنْ قلمٍ سيّالٍ يكتبُ في العلم فتتلقف الأيدي ما يكتب، ويكتبُ في الأدب فيسير شعرُهُ على كل لسان، ويطربُ لمشاعره وصوره كلُّ ذواق. وتحاصرُ القاضي الهمومُ ويؤلمه التهميشُ والإحباطُ، ويؤذي قلبَه شماتةُ الأعداء وإذا به ينادي: بغداد دارٌ لأهل المال واسعةٌ ![]() وللمفاليس دارُ الضنك والضيقِ ![]() أصبحتُ فيها مهاناً في أزقتها ![]() كأنني مصحفٌ في بيت زنديقِ ![]() وما أقسى أن يُضيَّعَ العالم ويُرمى ويُنْسى، فيضيع علمُه، وينكسف فكرُه، ويذهب إبداعُه، ولكن هل يَستسلمُ عبدُ الوهاب ويعيشُ في دائرة الأحزان أم يقاوم؟ وهل في وسعه أن يستسلم؟ فلو كان الأمر مقتصراً عليه لعاش على أقل ما يكون، وكيف وهو ذو أُسرة وطلاب كثيرين يعيشون عنده، ثم هو يرى آلامَ الناس وحاجتهم فلا يستطيع إلا أنْ يقدم لهم ما بيده مهما ضاق به الحال، وفي هذا يقول بكل نبل وشهامة ومرؤة: في النفس ضيقٌ وفي الفؤاد سعَهْ ![]() فآلة الجود غيرُ متسعهْ ![]() البخل لا أستطيع أفعلُهُ ![]() والجود لا أستطيع أن أدعهْ ![]() وتراوده فكرةُ الرحيل ولكن كيف وإلى أين ومتى؟ وها هو يشدُّه الحنينُ فيحجم، وتطرقه الأهوالُ فيقدم، ويدمدم بينه وبين نفسه: طيبُ الهواء ببغدادٍ يشوقني ![]() قرباً إليها وإنْ عاقتْ معاذيرُ ![]() وكيف أرحلُ عنها اليوم إذ جمعتْ ![]() طيب الهواءين ممدودٌ ومقصورُ ![]() وأخيراً حزم أمرَهُ وقرَّر الرحيل، فكلُّ بلدٍ ارتفع فيه الأذانُ بلده، وكلُّ أرضٍ قامت فيها المساجد أرضه، و المسلمون على اختلاف أصقاعهم أهلُهُ وعشيرتُهُ، ومصلحتُهم مصلحتُه. رحل القاضي واسمُه قد سبقه، لكن هل كان يُعلن رحلة لا عودة معها؟ وهل أفصح عن نواياه ومخططاته فحفز مَنْ بيده الأمرُ ليأمر بالحفاظ على المواهب، وإكرامِ مَنْ يتوجب له الإكرام، وهل خرَجَ مُوَدَّعاً مُشَيَّعاً أم خرج سارياً في ليلة غاب عنها القمرُ وغفتْ فيها النجوم؟ قد لا يستطيع أحدٌ الجزمَ بشيءٍ، إلا أنَّ الذي نتخيله صورة ذلك الشيخ البغدادي الأصيل وقد غالبَ الأشواقَ فغلبته، وكاتمَ الدموعَ ففضحته، فبكى شوقاً ولوعة وأسفاً ومرارة، وقال - متمثلاً - يستعطفُ الفراقَ على قلبهِ المثخنِ بالجراح: يأبى مقامي في مكانٍ واحدٍ ![]() دهرٌ بتفريقِ الأحبةِ مولعُ ![]() كفكفْ قِسيَّكَ يا فراقُ فإنه ![]() لم يَبْقَ في قلبي لسهمكَ موضعُ ![]() رحل القاضي وبرحيله رحلَ المذهبُ المالكي من العراق، ولنا أنْ نتصور عظمة رجلٍ يكون له هذا الأثر، ويترك بعدَهُ هذا الفراغ. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |