ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=91)
-   -   وداعاً بغداد (القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي) (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=224557)

ابوالوليد المسلم 04-02-2020 03:05 AM

وداعاً بغداد (القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي)
 
وداعاً بغداد

(القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي)


د. عبدالحكيم الأنيس







على ضفافِ دجلة في الجانب الشرقي ببغداد عاصمة العباسيين وُلِدَ عام 362 للهجرة طفلٌ كأنّه جاء بعد انتظار وترقُّبٍ فسمّاه والدُهُ (عبد الوهاب).

كان والدُه علي بن نصر التغلبي فقيهاً مالكياً، ومن أعيان الشهود المعدَّلين، ويرجع نسبُه الى الأمير مالك بن طوق من خاصة هارون الرشيد وابنه المأمون.

وما كان يُنتظَرُ من هذا الوليد إلا أن يكون له شأنٌ مذكورٌ، وقدمٌ راسخةٌ في دنيا العلم والأدب.

وقد صدّقَ الظنونَ بما آتاه اللهُ من مواهب وقدرات، وظَهَرَ عليه هذا وهو ناشئٌ يطلبُ العلم على ضفاف دجلة ويترددُ على حلقات العلم في المساجد والمحافل حتى قال الإمامُ الباقلاني لأبي عمران الفاسي الذي رحل يطلبُ العلم في بغداد: لو اجتمعتَ في مدرستي أنت وعبدُ الوهاب لاجتمعَ علمُ الإمام مالك، أنت تحفظُهُ، وعبد الوهاب ينصرُهُ، لو رآكما لسُرَّ بكما.

وكان عبد الوهاب متأثراً بشيخه الباقلاني، ويَنسِبُ إليه الفضل أنه هو الذي جعله يفتح فمَهُ ويتكلَّم.

وشاع صيتُ عبد الوهاب البغدادي المالكي بقوة الحجة وغلبة المجادلين حتى وصل الى المغرب، وأرسل له الإمامُ ابن أبي زيد القيرواني هديةً كبيرة تشجيعاً له على المضي في طريق العلم وخدمة الدين.

وسافر في طلب العلم إلى البصرة والموصل ومكة والمدينة، ولقيَ العلماء والفقهاء والأدباء.

وبينما كان شيوخ عبد الوهاب المالكي وأساتذته يرحلون إلى الله كان هو يتألقُ علماً وفهماً، وفضلاً وعقلاً، ويسدُّ مكانَهم بكل ما يستطيع.

وطُلب للقضاء فلبى الدعوة، ونهضَ بهذا المنصب خيرَ نهوض حتى لزمه لقبُ القاضي إلى يوم الناس هذا، وحَكَمَ في أماكن تتوزَّع اليوم على العراق وإيران وتركيا.

ثم على حين فجأةٍ أدارت الدنيا له ظهرَها وتنكرتْ له، فلا قضاء ولا مورد، ولا مكانة ولا مكان، على حين كان أولى أن يكون قاضي بغداد نفسِها، أليس هو ابنها الأصيل، وفقيهها المتوقد، ومجادلها المنصور، وشاعرها المرهف، ومؤلفها المكثر المبدع؟

ويتلفتُ القاضي عبد الوهاب فإذا وراءه أُسرة، ومِنْ أمامه طلاب، وهو فارغ اليد إلا مِنْ قلمٍ سيّالٍ يكتبُ في العلم فتتلقف الأيدي ما يكتب، ويكتبُ في الأدب فيسير شعرُهُ على كل لسان، ويطربُ لمشاعره وصوره كلُّ ذواق.

وتحاصرُ القاضي الهمومُ ويؤلمه التهميشُ والإحباطُ، ويؤذي قلبَه شماتةُ الأعداء وإذا به ينادي:
بغداد دارٌ لأهل المال واسعةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وللمفاليس دارُ الضنك والضيقِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أصبحتُ فيها مهاناً في أزقتها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كأنني مصحفٌ في بيت زنديقِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وما أقسى أن يُضيَّعَ العالم ويُرمى ويُنْسى، فيضيع علمُه، وينكسف فكرُه، ويذهب إبداعُه، ولكن هل يَستسلمُ عبدُ الوهاب ويعيشُ في دائرة الأحزان أم يقاوم؟ وهل في وسعه أن يستسلم؟ فلو كان الأمر مقتصراً عليه لعاش على أقل ما يكون، وكيف وهو ذو أُسرة وطلاب كثيرين يعيشون عنده، ثم هو يرى آلامَ الناس وحاجتهم فلا يستطيع إلا أنْ يقدم لهم ما بيده مهما ضاق به الحال، وفي هذا يقول بكل نبل وشهامة ومرؤة:
في النفس ضيقٌ وفي الفؤاد سعَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فآلة الجود غيرُ متسعهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

البخل لا أستطيع أفعلُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
والجود لا أستطيع أن أدعهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وتراوده فكرةُ الرحيل ولكن كيف وإلى أين ومتى؟ وها هو يشدُّه الحنينُ فيحجم، وتطرقه الأهوالُ فيقدم، ويدمدم بينه وبين نفسه:
طيبُ الهواء ببغدادٍ يشوقني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قرباً إليها وإنْ عاقتْ معاذيرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكيف أرحلُ عنها اليوم إذ جمعتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
طيب الهواءين ممدودٌ ومقصورُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وأخيراً حزم أمرَهُ وقرَّر الرحيل، فكلُّ بلدٍ ارتفع فيه الأذانُ بلده، وكلُّ أرضٍ قامت فيها المساجد أرضه، و المسلمون على اختلاف أصقاعهم أهلُهُ وعشيرتُهُ، ومصلحتُهم مصلحتُه.

رحل القاضي واسمُه قد سبقه، لكن هل كان يُعلن رحلة لا عودة معها؟ وهل أفصح عن نواياه ومخططاته فحفز مَنْ بيده الأمرُ ليأمر بالحفاظ على المواهب، وإكرامِ مَنْ يتوجب له الإكرام، وهل خرَجَ مُوَدَّعاً مُشَيَّعاً أم خرج سارياً في ليلة غاب عنها القمرُ وغفتْ فيها النجوم؟

قد لا يستطيع أحدٌ الجزمَ بشيءٍ، إلا أنَّ الذي نتخيله صورة ذلك الشيخ البغدادي الأصيل وقد غالبَ الأشواقَ فغلبته، وكاتمَ الدموعَ ففضحته، فبكى شوقاً ولوعة وأسفاً ومرارة، وقال - متمثلاً - يستعطفُ الفراقَ على قلبهِ المثخنِ بالجراح:
يأبى مقامي في مكانٍ واحدٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
دهرٌ بتفريقِ الأحبةِ مولعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كفكفْ قِسيَّكَ يا فراقُ فإنه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لم يَبْقَ في قلبي لسهمكَ موضعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


رحل القاضي وبرحيله رحلَ المذهبُ المالكي من العراق، ولنا أنْ نتصور عظمة رجلٍ يكون له هذا الأثر، ويترك بعدَهُ هذا الفراغ.
يتبع

ابوالوليد المسلم 04-02-2020 03:05 AM

رد: وداعاً بغداد (القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي)
 

وفي بلدةٍ بعيدة عن بغداد كان هناك مُعْجَبٌ بالراحل الكبير، كان قد لقيه ذاتَ يوم في بلده وموطنِ عزه، فحمدَ النأيَ و السفر لأنهما جمعاه بالشيخ، وقام بما يمليه الوفاءُ، فأثنى شعراً، وأهدى ما يستطيع معتذراً... ذلك هو فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري وقال:
إذا أسكتَ المحتجُ كلَّ مناظرٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فعند ابن نصرٍ نجدةٌ بجوابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وما أنا إلا قطرةٌ مِن سحابه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولو أنني صنَّفتُ ألفَ كتابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهذا يشير إلى أنَّ مقام الشيخ عزيز، ووجوده في عالم الإسلام جمال وبهاء، وعزٌّ ومنعة، وهذا أبو العلاء يعدُّ نفسَهُ قطرة من سحابه!

ويصلُ القاضي عبد الوهاب إلى دمشق سنة 419هـ ويقيم فيها أشهراً، ويكون له بها تلامذةٌ، وحلقات علمٍ في مساجدها.

ثم يدخل مصر ولم تكن هي محطته الأخيرة، إذ كان في كل مرحلة يجلس وينظر ويدبِّر ويفكر.

وكان لدخول الشيخ مصر دويٌّ، وهناك (حمل لواءَها، وملأ أرضَها وسماءَها، واستتبع سادتَها وكبراءَها)، وفي حلقة درسهِ في جامع عمرو بن العاص احتشد أكثرُ من خمس مئة طالب، وما طلَبَ الرئاسة ولكنها جاءته منقادة، وهذا شأنُ النَّبَغَة المتميزين الذين يصدقُ فيهم قول الأمير أبي فراس:
ونحن أناسٌ لا توسطَ عندنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وفي مصر حصل له حالٌ من الدنيا بالمغاربة، ولكنه راسلَ العلماءَ والأمراءَ للسفر إلى المغرب والأندلس ممّا يدلُّ على أنه كان متبرِّماً ممّا هو فيه، ولأمرٍ ما قال متمثلاً:
لم أكنْ يومَ خروجي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مِن بلادي بالمصيبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وتمثل قائلاً:
طلبتُ المستقرَّ بكلِّ أرضٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فلم أرَ لي بأرضٍ مُستقرّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ونلتُ من الزمان ونالَ مني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فكان منالُهُ حلواً ومُرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وقبل أن يحزم أمرَهُ في السفر إلى مكانٍ آخر، أو الرجوع إلى بغداد أدركَهُ الأجلُ المحتومُ من أكلةٍ أكلها، وغير بعيد أن يكون قد وُضِعَ له فيها ما أودى بحياته.

ولم يُفاجَئْ بالموتِ أليس هو القائل: (وإشعارُ المرءِ نفسَهُ الموت، والتشاغلُ بأمر ربه، والاستعدادِ لدعائه: أولى ما داوم عليه - المرءُ - وراضَ به نفسَهُ، وجعله همَّه).


وكان اذا ذَكَرَ الموتَ بكى.

وكأننا بالشيخ وهو على فراش الموت يفتحُ عينيه فلا يرى مَنْ يحتاجهم الإنسانُ في تلك اللحظات، ولعله ينظر إِلى الآفاق البعيدة التي حال دونَها بحارٌ وصحارى فيرتدُّ إليه بصرُهُ ندياً بالدموع، ولكن في لقاء الله ما يعوِّضُ عن كل فائت، وما يضمِّدُ كلَّ الجراح، وكان له في ربه ثقةٌ جياشةٌ وحسنُ ظن عجيب حتى إنه قال -وهو يُحْتَضرُ- لأميرٍ أعانه على مطالبه: جزاؤُك عندي أنْ أشكرك عند ربي بعد موتي.

رحل القاضي عبدُ الوهاب البغدادي غريباً، ودُفن في القرافة الصغرى بالقرب من أئمة المالكية، ووقف الأكابرُ على قبره مئات السنين.

رحل ولكنَّ ذكرَه لم يرحل، فقد ترك تلامذةً منتشرين في مدائن الإسلام، وخلَّف علماً يُنتفعُ به في كتبٍ كثيرةٍ تلقاها العلماء وتداولوها في المشارق والمغارب، ومنها كتبُهُ الشهيرة:
"المعونة على مذهب عالم المدينة".
و"الإشراف على نكت مسائل الخلاف".
و"شرح الرسالة" الذي بِيعتْ أول نسخة منه بمئة مثقال ذهباً!

وعلى فراش الموت -سنة 422هـ- قال: لا إله إلا الله لما عشنا متنا.
ويحق له أن يقول: لا إله إلا الله لما متنا عشنا.

رحم الله القاضي عبدَ الوهاب القائل:
يا لهفَ نفسي على شيئين لو جُمعا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عندي لكنتُ إذاً مِنْ أسعدِ البشرِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كفافُ عيشٍ يقيني ذُلَّ مسألةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وخدمةُ العلمِ حتى ينقضي عُمُري https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif





الساعة الآن : 04:54 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 20.96 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.83 كيلو بايت... تم توفير 0.14 كيلو بايت...بمعدل (0.65%)]