|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() حكم التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية، البدائل الإسلامية للمعاملات المصرفية نموذجًا د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري كما ترددت البدائل المصرفية - في مقاصدها - بين أن تحقق المقاصد الشرعية، أو الصور الشكلية، ترددت كذلك في مقاصد صانعيها بين أن يتخففوا من الضوابط الشرعية؛ طلبًا للتدرج فيها، أو قصدًا للتحايل عليها، ونبسط ذلك في مطلبين: المطلب الأول: العلاقة بين البدائل والتدرج: لم ينـزل القرآن الكريم جملةً واحدةً، وإنما نزل مفرّقًا على ضوء الحكمة الإلهية، وبحسب الوقائع والمناسبات، فبدأت الآيات القرآنية بتقرير عقيدة التوحيد، ونبذ الشرك بالله، وتوضيح حقائق اليوم الآخر، وبيان أصول الأخلاق الإسلامية، يلخص ذلك جواب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه لما سأله في بداية الإسلام: ما أنت؟ قال: "أنا نبي"، فقلت: وما نبي؟ قال: "أرسلني الله"، فقلت: وبأيِّ شيءٍ أرسلك؟، قال: "أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء".[1] وهذا التدرج في إنزال الأحكام الشرعية كان له سببان بارزان: الأول: ما بيّنه الله تعالى في قوله: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾،[2] قال الرازي: "وثالثها: أنه تعالى لو أنزل الكتاب جملةً واحدةً على الخلق، لنـزلت الشرائع بأسرها دفعةً واحدةً على الخلق، فكان يثقل عليهم ذلك، أما لما نزل مفرّقًا منجّمًا - لا جرم - نزلت التكاليف قليلاً قليلاً، فكان تحملها أسهل".[3] والثاني: ما بيّنته عائشة الصديقة رضي الله عنها فيما أخرجه البخاري أنها قالت: "إنما نزل أول ما نزل منه سورةٌ من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيءٍ لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا".[4] قال ابن حجر: "أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنـزيل، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة، وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أُنزلت الأحكام، ولهذا قالت: (ولو نزل أول شيءٍ لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندعها)، وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف".[5] ولم يكن تدرج الأحكام الشرعية خاصًا بتشريع الحكم فقط، بل شمل ذلك أيضًا تبليغه للناس،[6] يدلّ على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن، قال: "إنك تقدم على قومٍ أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاةً تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها، فخذ منهم، وتوق كرائم أموالهم".[7] وهل يشمل التدرج كذلك ما يتعلق بأمر التطبيق - وخصوصًا في هذا العصر -؟. اختلف المعاصرون في هذه المسألة على قولين: القول الأول: المنع من التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية، وإنما تطبق الشريعة جميعها جملةً واحدةً. وهو قول عددٍ من المعاصرين. واستدلوا من الكتاب، والأثر، والمعقول: (1) استدلوا من الكتاب بثلاثة أدلة: الدليل الأول: قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾[8]. ووجه الدلالة: أن الإسلام كلٌ لا يتجزأ، أتمّه الله تعالى، وارتضاه لنا في العبادات والمعاملات والقضـاء وسائر الأحكام، فيجب العمل بجميعه. ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال: أن سنة التدرج سنتها النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، فالأخذ بها أخذٌ بسنن هذا الدين. الدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ﴾[9]. ووجه الدلالة: أن اليهود كانوا يطبقون بعض الأحكام التي جاءت بها شريعتهم، ويتركون بعضها، فأنكر الله ذلك عليهم، قال أبو السعود[10] في تفسيره: "أتفعلون ذلك فتؤمنون ببعض الكتاب، وهو المفاداة، (وتكفرون ببعض)، وهو حرمة القتال والإخراج، مع أن من قضية الإيمان ببعضه الإيمان بالباقي؛ لكون الكل من عند الله تعالى، داخلاً في الميثاق، فمناط التوبيخ كفرهم بالبعض، مع إيمانهم بالبعض"[11]. ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال: بأن ترك اليهود للإيمان ببعض شرائع دينهم إنما كان عن هوىً وكبر، لا عن اتباعٍ لمسالك شرعهم. الدليل الثالث: قول الله عزوجل: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾.[12] ووجه الدلالة: أنه لا يجوز ترك بعض الشرع، ومن فعل ذلك فقد وقع في الفتنة التي حذّر الله رسوله صلى الله عليه وسلم منها.[13] ويمكن أن يناقش هذا الدليل، وكذلك ما سبقه: أن محل الخلاف في هذه المسألة ليس في ترك العمل ببعض الشرع بالكلية، وإنما هو في التدرج في التطبيق، شيئًا فشيئًا، فالساعي في التدرج ساعٍ في العمل بالدين كله، كلما تحققت له القدرة على ذلك. (2) واستدلوا من الأثر بنقلين: الأول: حرص أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم - وقد وافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم- على المبادرة بقتال مانعي الزكاة،[14] مع صعوبة الموقف، والحاجة للتدرج، والترفق بهم، لو كان ذلك سائغًا. ويمكن أن يناقش: أن الموقف كذلك كان يحتاج إلى الحزم؛ خصوصًا وهو يتعلق بركنٍ من أركان الدين، فرأى الصديق رضي الله عنه أنه ليس بحاجة إلى التدرج معهم، وإنما أخذهم بالقوة والحزم على إقامة الدين، ومسائل التدرج إنما ترجع إلى شرط القدرة، وتقدير المصالح والمفاسد. والثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم التابعون لما فتحوا البلدان والأمصار لم يتدرجوا مع أهلها، بل حكموا فيهم بحكم الله تعالى دون تدرج. ويمكن أن يناقش: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يحتاجوا إلى ذلك، وقد يحتاج إليه غيرهم، وقد عمل بالتدرج بعض التابعين؛ كما سيأتي. [15] القول الثاني: يسمح بالتدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية بحسب المصلحة الشرعية. وذهب إليه جمعٌ من العلماء المعاصرين[16]. واستدلوا من الكتاب، والسنة، والأثر، والمعقول: (1) استدلوا من الكتاب بدليلين: الدليل الأول: قوله تعـالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا ﴾،[17] وقوله تعـالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾[18]. ووجه الدلالة: أن تطبيق الشرع إنما يكون بحسب الوسع والاستطاعة، للفرد والجماعة، وهذا يعني التفاوت في التطبيق. ويمكن أن يناقش: أن ترك الفرد أو الجماعة لتنفيذ الحكم لعدم الاستطاعة، إنما يرجع لمسلك الأعذار الشرعية، لا لمنهجية التدرج. والدليل الثاني: الآيات التي تدرجت في تشريع بعض الأحكام؛ كفرض الجهاد، وتحريم الخمر[19]. ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال: بأن هذا التدرج كان في بداية الإسلام؛ لابتداء التشريع، ثم نَسخ آخر الأحكام أولها، وأُقرت الشريعة على آخر ما نزلت عليه. (2) واستدلوا من السنة بدليلين: الأول: ما أخرجه الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنهعن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال: "ليُنقَضنَّ عرا الإسلام عروةً عروة، فكلما انتقضت عروةٌ تشبث الناس بالتي تليها، وأولهنَّ نقضًا الحكم، وآخرهنَّ الصلاة"[20]. ووجه الدلالة:أن الهدم إذا كان يحصل بالتدريج، مع أنه أسهل، فالبناء أولى بالاحتياج إلى التدرج[21]. والثاني: فعل النجاشي[22] ملك الحبشة، وقد أسلم، وبقي ملكًا على قومه، ولم يحملهم على الإسلام؛ خوفًا على نفسه، وعلى المسلمين معه، وعلِم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولم ينكره عليه. ويناقش: أن النجاشي كان يحكم قومًا كافرين، لم يدخلوا في الإسلام أصلاً، فليسوا في موضع تطبيق أحكام الإسلام لا كلاّ، ولا جزءًا حتى يسلموا. (3) واستدلوا من الأثر: بسيرة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -، وقد كان يحمل الناس في عصره على أحكام الشرع شيئًا فشيئًا؛[23] فدلّ ذلك على أن التدرج سنةٌ متبعةٌ عند الحاجة إليها، وليست بمنسوخة. ويمكن أن يناقش من وجهين: الأول: أن تدرج عمر بن عبد العزيز إنما كان في ردّ مظالم بني أمية إلى مصالح المسلمين، ولم يكن في تعطيل شرع الله تعالى، يدلّ عليه قوله لابنه: "يا بني، إن قومك قد شدّوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريد مكايدتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقًا،[24] تكثر فيه الدماء"[25]. والثاني: أنه أثرٌ، لم يُنقل لنا بإسناده، فليس فيه حجة. (4) واستدلوا من المعقول: بقاعدة: يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام[26]. ووجه الدلالة: أنه يتسامح في ابتداء تطبيق الشريعة على المجتمعات التي بُعدت عن شرع الله تعالى، ما لا يتسامح فيه في مجتمعات عاشت على نهج الشريعة. ويمكن أن يناقش: بأن هذه القاعدة كالاستثناء من الأصل؛ لذا يعبر عنها بعضهم بقوله: قد يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام، ومسائلها معدودة،[27] وعكسها أشهر منها[28]. القول المخـتار: الناظر في تطبيقات النبي صلى الله عليه وسلم - وإلى آخر عهده - يجد أنه عليه الصلاة والسلام ترك تنفيذ بعض الأحكام، ترفقًا وتدرجًا بمن حوله، فمن ذلك: ترك نقض الكعبة، وبنائها على قواعد إسماعيل عليه السلام؛ رفقًا بقريش،[29] وترك قتل المنافقين، مراعاةً للصالح العام، ومنعًا للقالة بين الناس؛ "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"[30]. وفي المقابل: أقام الحد على المرأة المخزومية، ولم يراعِ غضب قريش،[31] وأمر بتأمير أسامة رضي الله عنه على جيش سيّره، غير مكترث بالقالة بين أصحابه، بل قال: "إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وايمُ الله، لقد كان خليقًا[32] بالإمارة"[33]. فعُلم من ذلك أن حكم التدرج باقٍ، لكنه يختلف باختلاف الوقائع والأحوال والأشخاص، ويضبط ذلك، ويؤطره النظر في النصوص الشرعية وكلام أهل العلم: أ- النصوص الشرعية الموجِهة لفقه التدرج: من استعرض النصوص من الكتاب والسنة، فيما يتعلق بالتدرج في تطبيق الحكم تأليفًا، وتهيئةً للقلوب، وجدها ترشد إلى بيان هذا الجانب من خلال اتجاهين: الاتجاه الأول: النصوص التي تدرجت في تشريع بعض الأحكام في جانب الإيجاب، أو التحريم: • ففي جانب الإيجاب: جاء التدرج في الأمر بالجهاد متوازيًا مع اتساع قدرة المسلمين،[34] وجاء الأمر بتطبيق الزكاة كذلك؛ بحسب قدرة الدولة الإسلامية. [35] قال القرطبي[36]: "قال بعض المفسرين: إن الله تعالى لم يدع شيئًا من الكرامة والبر إلا أعطاه هذه الأمّة، ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعةً واحدةً، ولكن أوجب عليهم مرةً بعد مرة". [37] والتدرج المشروع هنا هو تدرج التطبيق بحسب الاستطاعة، والقدرة للفرد والجماعة. وفي جانب التحريم جاء التدرج على وجهين: الأول: تأخير الحكم حتى يستقر الإيمان في النفوس، ثم ينـزل دفعةً واحدةً؛ كتحريم التبني، وتشريع عقوبة الزنا، والقذف.[38] الثاني: تهيئة النفوس بالتدرج في تشريع الحكم، ومنه تحريم الخمر، والربا، والميسر، وغيرها من العوائد المتمكنة في نفوس المدمنين عليها. [39] والتدرج المشروع هنا ما تعلق بالتطبيق لا بالتشريع، فلا يُتدرج في تحريم الخمر مثلاً، لكن قد يؤخر الإنكار على الفاعل بحسب الأصلح والأنسب،[40] ويشهد لذلك: أ- على مستوى الأمة: تركه صلى الله عليه وسلم لنقض الكعبة، وبنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام.[41] ب- وعلى مستوى الفرد: تركه صلى الله عليه وسلم للإنكار على النائحة، فقد أخرج البخاري عن أم عطية رضي الله عنها قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علينا: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ﴾،[42] ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأةٌ يدها، فقالت: أسعدتني فلانة، أريد أن أَجزيها، فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، فانطلقت، ورجعت، فبايعها.[43] وقد استعان عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - بهذا الفهم في سياسة أمر رعيته، وفي هذا يقول لابنه عبد الملك لما قال له: ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله، ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق، فقال: لا تعجل يا بُني، فإن الله ذمّ الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملةً، فيدفعوه جملةً، ويكون من ذا فتنة.[44] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالعالم في البيان والبلاغ كذلك؛ قد يؤخر البيان، والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن؛ كما أخرَّ الله سبحانه إنزال آيات، وبيان أحكامٍ إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا إلى بيانها"،[45] وقال في موضعٍ آخر: "فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها كما بيّنته، فيما تقدم، العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء، لا التحليل والإسقاط".[46] الاتجاه الثاني: ما ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المسلمين الجدد من الأفراد والقبائل: • ومن شواهد ذلك مع الأفراد: ما أخرجه الشيخان عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دَوِيّ صوته،[47] ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلواتٍ في اليوم، والليلة"، فقال: هل عليَّ غيرهنّ؟ قال: "لا، إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان"، فقال: هل عليَّ غيره؟ فقال: "لا، إلا أن تطوع"، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع"، قال: فأدبر الرجل، وهو يقول: والله، لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق".[48] فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالفرائض دون المندوبات، وكأنّ "القصد من القصّة بيان أن المتمسك بالفرائض ناجٍ، وإن لم يفعل النوافل"،[49] وهذا نوع تدرجٍ بالبدء بالواجبات من الضروريات والحاجيات، قبل الأمر بالمندوبات من التحسينيات، و"ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وهذا جارٍ على الأصل أنه لا إثم على تارك غير الفرائض، فهو مفلحٌ، وإن كان غيره أكثر فلاحًا منه". [50] قال النووي عند حديث أنس رضي الله عنه: "يسروا ولا تعسروا، وسَكِّنوا ولا تنفروا"[51]: "وفيه تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي، كلهم يتلطف بهم، ويدرجون في أنواع الطاعة قليلاً قليلاً، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج، فمتى يُسّر على الداخل في الطاعة، أو المريد للدخول فيها سهلت عليه، وكانت عاقبته غالبًا التزايد منها، ومتى عُسّرت عليه أوشك أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم، أو لا يستحليها". [52] ويبرز هنا تساؤل: هل يتدرج في صنع البدائل الإسلامية بالبدء بما يرفع الحرج، ويجنب المسلم الإثم، وإن لم يحقق المصالح الاقتصادية العليا للأمة؟. وأقول - بعد ما سجلته سالفًا - أن هذا تدرجٌ يحمد عليه سالكه، ما دام يسلك به مسلكه الصحيح،[53] وقد قررته النصوص السابقة، ويقرره كذلك فقه الأولويات، وتزاحم المصالح.[54] •ومن شواهد التدرج في التعامل مع المسلمين الجدد من القبائل: ما أخرجه أبو داود عن جابر رضي الله عنه، لما سئل عن شأن ثقيف إذ بايعت، قال: اشترطت على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها، ولا جهاد، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: "سيتصدقون، ويجاهدون إذا أسلموا"،[55] مع أن مجىء ثقيف كان مع عزة الإسلام، وقوته. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |