وداعاً بغداد (القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي) - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1074 - عددالزوار : 127017 )           »          سورة العصر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          عظات من الحر الشديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          المشي إلى المسجد في الفجر والعشاء ينير للعبد يوم القيامة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          القلب الناطق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          الظلم الصامت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          من أدب المؤمن عند فوات النعمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          عن شبابه فيما أبلاه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          بلقيس والهدهد وسليمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          غزة تتضور جوعا.. قصة أقسى حصار وتجويع في التاريخ الحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-02-2020, 03:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,699
الدولة : Egypt
افتراضي وداعاً بغداد (القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي)

وداعاً بغداد

(القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي)


د. عبدالحكيم الأنيس







على ضفافِ دجلة في الجانب الشرقي ببغداد عاصمة العباسيين وُلِدَ عام 362 للهجرة طفلٌ كأنّه جاء بعد انتظار وترقُّبٍ فسمّاه والدُهُ (عبد الوهاب).

كان والدُه علي بن نصر التغلبي فقيهاً مالكياً، ومن أعيان الشهود المعدَّلين، ويرجع نسبُه الى الأمير مالك بن طوق من خاصة هارون الرشيد وابنه المأمون.

وما كان يُنتظَرُ من هذا الوليد إلا أن يكون له شأنٌ مذكورٌ، وقدمٌ راسخةٌ في دنيا العلم والأدب.

وقد صدّقَ الظنونَ بما آتاه اللهُ من مواهب وقدرات، وظَهَرَ عليه هذا وهو ناشئٌ يطلبُ العلم على ضفاف دجلة ويترددُ على حلقات العلم في المساجد والمحافل حتى قال الإمامُ الباقلاني لأبي عمران الفاسي الذي رحل يطلبُ العلم في بغداد: لو اجتمعتَ في مدرستي أنت وعبدُ الوهاب لاجتمعَ علمُ الإمام مالك، أنت تحفظُهُ، وعبد الوهاب ينصرُهُ، لو رآكما لسُرَّ بكما.

وكان عبد الوهاب متأثراً بشيخه الباقلاني، ويَنسِبُ إليه الفضل أنه هو الذي جعله يفتح فمَهُ ويتكلَّم.

وشاع صيتُ عبد الوهاب البغدادي المالكي بقوة الحجة وغلبة المجادلين حتى وصل الى المغرب، وأرسل له الإمامُ ابن أبي زيد القيرواني هديةً كبيرة تشجيعاً له على المضي في طريق العلم وخدمة الدين.

وسافر في طلب العلم إلى البصرة والموصل ومكة والمدينة، ولقيَ العلماء والفقهاء والأدباء.

وبينما كان شيوخ عبد الوهاب المالكي وأساتذته يرحلون إلى الله كان هو يتألقُ علماً وفهماً، وفضلاً وعقلاً، ويسدُّ مكانَهم بكل ما يستطيع.

وطُلب للقضاء فلبى الدعوة، ونهضَ بهذا المنصب خيرَ نهوض حتى لزمه لقبُ القاضي إلى يوم الناس هذا، وحَكَمَ في أماكن تتوزَّع اليوم على العراق وإيران وتركيا.

ثم على حين فجأةٍ أدارت الدنيا له ظهرَها وتنكرتْ له، فلا قضاء ولا مورد، ولا مكانة ولا مكان، على حين كان أولى أن يكون قاضي بغداد نفسِها، أليس هو ابنها الأصيل، وفقيهها المتوقد، ومجادلها المنصور، وشاعرها المرهف، ومؤلفها المكثر المبدع؟

ويتلفتُ القاضي عبد الوهاب فإذا وراءه أُسرة، ومِنْ أمامه طلاب، وهو فارغ اليد إلا مِنْ قلمٍ سيّالٍ يكتبُ في العلم فتتلقف الأيدي ما يكتب، ويكتبُ في الأدب فيسير شعرُهُ على كل لسان، ويطربُ لمشاعره وصوره كلُّ ذواق.

وتحاصرُ القاضي الهمومُ ويؤلمه التهميشُ والإحباطُ، ويؤذي قلبَه شماتةُ الأعداء وإذا به ينادي:
بغداد دارٌ لأهل المال واسعةٌ
وللمفاليس دارُ الضنك والضيقِ

أصبحتُ فيها مهاناً في أزقتها
كأنني مصحفٌ في بيت زنديقِ


وما أقسى أن يُضيَّعَ العالم ويُرمى ويُنْسى، فيضيع علمُه، وينكسف فكرُه، ويذهب إبداعُه، ولكن هل يَستسلمُ عبدُ الوهاب ويعيشُ في دائرة الأحزان أم يقاوم؟ وهل في وسعه أن يستسلم؟ فلو كان الأمر مقتصراً عليه لعاش على أقل ما يكون، وكيف وهو ذو أُسرة وطلاب كثيرين يعيشون عنده، ثم هو يرى آلامَ الناس وحاجتهم فلا يستطيع إلا أنْ يقدم لهم ما بيده مهما ضاق به الحال، وفي هذا يقول بكل نبل وشهامة ومرؤة:
في النفس ضيقٌ وفي الفؤاد سعَهْ
فآلة الجود غيرُ متسعهْ

البخل لا أستطيع أفعلُهُ
والجود لا أستطيع أن أدعهْ


وتراوده فكرةُ الرحيل ولكن كيف وإلى أين ومتى؟ وها هو يشدُّه الحنينُ فيحجم، وتطرقه الأهوالُ فيقدم، ويدمدم بينه وبين نفسه:
طيبُ الهواء ببغدادٍ يشوقني
قرباً إليها وإنْ عاقتْ معاذيرُ

وكيف أرحلُ عنها اليوم إذ جمعتْ
طيب الهواءين ممدودٌ ومقصورُ


وأخيراً حزم أمرَهُ وقرَّر الرحيل، فكلُّ بلدٍ ارتفع فيه الأذانُ بلده، وكلُّ أرضٍ قامت فيها المساجد أرضه، و المسلمون على اختلاف أصقاعهم أهلُهُ وعشيرتُهُ، ومصلحتُهم مصلحتُه.

رحل القاضي واسمُه قد سبقه، لكن هل كان يُعلن رحلة لا عودة معها؟ وهل أفصح عن نواياه ومخططاته فحفز مَنْ بيده الأمرُ ليأمر بالحفاظ على المواهب، وإكرامِ مَنْ يتوجب له الإكرام، وهل خرَجَ مُوَدَّعاً مُشَيَّعاً أم خرج سارياً في ليلة غاب عنها القمرُ وغفتْ فيها النجوم؟

قد لا يستطيع أحدٌ الجزمَ بشيءٍ، إلا أنَّ الذي نتخيله صورة ذلك الشيخ البغدادي الأصيل وقد غالبَ الأشواقَ فغلبته، وكاتمَ الدموعَ ففضحته، فبكى شوقاً ولوعة وأسفاً ومرارة، وقال - متمثلاً - يستعطفُ الفراقَ على قلبهِ المثخنِ بالجراح:
يأبى مقامي في مكانٍ واحدٍ
دهرٌ بتفريقِ الأحبةِ مولعُ

كفكفْ قِسيَّكَ يا فراقُ فإنه
لم يَبْقَ في قلبي لسهمكَ موضعُ


رحل القاضي وبرحيله رحلَ المذهبُ المالكي من العراق، ولنا أنْ نتصور عظمة رجلٍ يكون له هذا الأثر، ويترك بعدَهُ هذا الفراغ.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 04-02-2020, 03:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,699
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وداعاً بغداد (القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي)


وفي بلدةٍ بعيدة عن بغداد كان هناك مُعْجَبٌ بالراحل الكبير، كان قد لقيه ذاتَ يوم في بلده وموطنِ عزه، فحمدَ النأيَ و السفر لأنهما جمعاه بالشيخ، وقام بما يمليه الوفاءُ، فأثنى شعراً، وأهدى ما يستطيع معتذراً... ذلك هو فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري وقال:
إذا أسكتَ المحتجُ كلَّ مناظرٍ
فعند ابن نصرٍ نجدةٌ بجوابِ

وما أنا إلا قطرةٌ مِن سحابه
ولو أنني صنَّفتُ ألفَ كتابِ



وهذا يشير إلى أنَّ مقام الشيخ عزيز، ووجوده في عالم الإسلام جمال وبهاء، وعزٌّ ومنعة، وهذا أبو العلاء يعدُّ نفسَهُ قطرة من سحابه!

ويصلُ القاضي عبد الوهاب إلى دمشق سنة 419هـ ويقيم فيها أشهراً، ويكون له بها تلامذةٌ، وحلقات علمٍ في مساجدها.

ثم يدخل مصر ولم تكن هي محطته الأخيرة، إذ كان في كل مرحلة يجلس وينظر ويدبِّر ويفكر.

وكان لدخول الشيخ مصر دويٌّ، وهناك (حمل لواءَها، وملأ أرضَها وسماءَها، واستتبع سادتَها وكبراءَها)، وفي حلقة درسهِ في جامع عمرو بن العاص احتشد أكثرُ من خمس مئة طالب، وما طلَبَ الرئاسة ولكنها جاءته منقادة، وهذا شأنُ النَّبَغَة المتميزين الذين يصدقُ فيهم قول الأمير أبي فراس:
ونحن أناسٌ لا توسطَ عندنا
لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ


وفي مصر حصل له حالٌ من الدنيا بالمغاربة، ولكنه راسلَ العلماءَ والأمراءَ للسفر إلى المغرب والأندلس ممّا يدلُّ على أنه كان متبرِّماً ممّا هو فيه، ولأمرٍ ما قال متمثلاً:
لم أكنْ يومَ خروجي
مِن بلادي بالمصيبِ


وتمثل قائلاً:
طلبتُ المستقرَّ بكلِّ أرضٍ
فلم أرَ لي بأرضٍ مُستقرّا

ونلتُ من الزمان ونالَ مني
فكان منالُهُ حلواً ومُرا


وقبل أن يحزم أمرَهُ في السفر إلى مكانٍ آخر، أو الرجوع إلى بغداد أدركَهُ الأجلُ المحتومُ من أكلةٍ أكلها، وغير بعيد أن يكون قد وُضِعَ له فيها ما أودى بحياته.

ولم يُفاجَئْ بالموتِ أليس هو القائل: (وإشعارُ المرءِ نفسَهُ الموت، والتشاغلُ بأمر ربه، والاستعدادِ لدعائه: أولى ما داوم عليه - المرءُ - وراضَ به نفسَهُ، وجعله همَّه).


وكان اذا ذَكَرَ الموتَ بكى.

وكأننا بالشيخ وهو على فراش الموت يفتحُ عينيه فلا يرى مَنْ يحتاجهم الإنسانُ في تلك اللحظات، ولعله ينظر إِلى الآفاق البعيدة التي حال دونَها بحارٌ وصحارى فيرتدُّ إليه بصرُهُ ندياً بالدموع، ولكن في لقاء الله ما يعوِّضُ عن كل فائت، وما يضمِّدُ كلَّ الجراح، وكان له في ربه ثقةٌ جياشةٌ وحسنُ ظن عجيب حتى إنه قال -وهو يُحْتَضرُ- لأميرٍ أعانه على مطالبه: جزاؤُك عندي أنْ أشكرك عند ربي بعد موتي.

رحل القاضي عبدُ الوهاب البغدادي غريباً، ودُفن في القرافة الصغرى بالقرب من أئمة المالكية، ووقف الأكابرُ على قبره مئات السنين.

رحل ولكنَّ ذكرَه لم يرحل، فقد ترك تلامذةً منتشرين في مدائن الإسلام، وخلَّف علماً يُنتفعُ به في كتبٍ كثيرةٍ تلقاها العلماء وتداولوها في المشارق والمغارب، ومنها كتبُهُ الشهيرة:
"المعونة على مذهب عالم المدينة".
و"الإشراف على نكت مسائل الخلاف".
و"شرح الرسالة" الذي بِيعتْ أول نسخة منه بمئة مثقال ذهباً!

وعلى فراش الموت -سنة 422هـ- قال: لا إله إلا الله لما عشنا متنا.
ويحق له أن يقول: لا إله إلا الله لما متنا عشنا.

رحم الله القاضي عبدَ الوهاب القائل:
يا لهفَ نفسي على شيئين لو جُمعا

عندي لكنتُ إذاً مِنْ أسعدِ البشرِ

كفافُ عيشٍ يقيني ذُلَّ مسألةٍ
وخدمةُ العلمِ حتى ينقضي عُمُري



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 64.96 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 62.83 كيلو بايت... تم توفير 2.13 كيلو بايت...بمعدل (3.28%)]