خزانة القرويين…كتب صفراء تستغيث

[ابوالوليد المسلم]

خزانة القرويين…كتب صفراء تستغيث

تعد خزانة القرويين بمدينة فاس المغربية، إحدى أغنى وأقدم الخزانات التراثية المغربية اعتبارا لتاريخ تأسيسها الذي يعود إلى سنة 750 هـ تحت إشراف السلطان أبي عنان المريني، ولرصيدها الوثائقي وعدد دورياتها ومخطوطاتها ومطبوعاتها الدينية والفقهية والأدبية النادرة والنفيسة، ولدورها المهم والبارز في ميادين العلم والمعرفة التي تتعلق بالطلبة والباحثين المغاربة والأجانب.

وعرفت هذه الخزانة، التي تحتوي على ما يفوق 21250 كتابا و618 دورية و421 مطبوعا حجريا و6 آلاف مخطوط، متضمنة في نحو 2043 مجموع الملفات الأرشيفية، مبادرات عدة للتهيئة والترميم والإصلاح وإغناء رصيدها الوثائقي بنفائس كتب العلماء وهبات أوقاف السلاطين والأمراء في عهد الملوك العلويين بالخصوص، كي تحافظ على ثراء مخزونها وتنوعه وتميزه.
غنى وثائقي وكتب نفيسة ونادرة
تزخر خزانة القرويين الواقعة في ساحة الصفارين بقلب المدينة العتيقة لفاس المصنفة تراثا عالميا، بكتب ودوريات ومخطوطات ومطبوعات حجرية تعتبر من النفائس والنوادر التي تجعل منها قبلة للباحثين في كل الميادين. وتتفاوت القيمة العلمية لمحتوياتها، وتختلف مرجعية نفاستها من نموذج إلى آخر حسب الفن أو المؤلف أو زمن التأليف أو النسخ أو مواد الكتابة.
ومن أبرز نفائس الخزانة، «المصحف الأكبر» الذي حبسه السلطان أحمد المنصور الذهبي عليها عند تدشينها عام 1011هـ، وقطعة عتيقة من مصحف كتب على الرق (جلد الغزال) بخط كوفي، و«مختصر أبي مصعب الزهري، المكتوب على ورق عتيق بقرطبة في الأندلس سنة 359هـ، وقطعة من الإنجيل بالعربية كتب على الرق بخط أندلسي عتيق، وسيرة ابن إسحق الذي يعد أقدم ما يوجد بها.
وغدت مجموعة من المطبوعات القديمة النادرة، بحكم قدمها في حكم المخطوط، ولاسيما المطبوعة منها في أوروبا أو الشرق، وبينها مطبوعات حجرية عدة طبعت في مدينة فاس، يصنف الكثير منها ضمن النوادر، فضلاً عن تجهيزات معلوماتية جديدة تروم صيانة ذاكرتها الكتبية وحفظها من التلف، ولاسيما بعد أشغال تهيئة فضاء بنايتها ومختبر ترميم المخطوطات خلال العامين الماضيين.
وتشمل موضوعات تلك المخطوطات التي تعود تواريخ تأليفها إلى أزمنة مختلفة وبينها مجموعات كتبت على الرق، وأخرى تبهر بجمالية زخارفها وجداولها الرائعة، كل العلوم والفنون، فبينها المصاحف والتفاسير والفقه والحديث والأصول والتاريخ والسير والرحلات والأدب واللغة والتصوف والفلسفة والطب والفلك والحساب.
نفائس مهداة من العلماء والملوك
من نفائس الخزانة التي يتجاوز عددها الألفين باحتساب المجاميع ومجموعة من المصورات على سبيل الإهداء أو التبادل، ما هو مكتوب بخط مؤلفه أو يعود تاريخ نسخه إلى القرن الثالث الهجري، ومنها ما هو من تأليف ملوك المغرب وسلاطينه قديما وحديثا. وكان التحبيس دوما سنّة حسنة وحميدة في تاريخ هذه الخزانة التي خضعت كتبها إلى صيانة خاصة قبل نحو 3 أعوام.
وتفيد وثائق التحبيس كسنة حسنة دشنها أمراء وملوك المغرب وسلاطينه ويجب أن تبقى كذلك بما يمكن أن يسهم في نشر المبدأ وتعميمه، وجود كل الشرائح الاجتماعية بين المحبسين، فبينهم الملوك المرينيون والسعديون والعلويون والأميرات والأمراء والقادة والعلماء والمؤلفون أنفسهم، مما كان له دور فعال في رفع رقم فهرسة الخزانة وإثرائها بالكتب والمخطوطات النفيسة القيمة.
وخرجت المكتبة من ندوة «خزانة جامع القرويين» التاريخ، والواقع، والآفاق، التي نظمتها جمعية فاس سايس يومي 22 و23 مايو 2007 بتعاون مع المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) بمناسبة إعلان فاس عاصمة الثقافة الإسلامية، غانمة بفضل هديتين ثمينتين من جمعية وكاتب ومفكر مغربي، ستغنيان محتواها من الكتب والتجهيزات.
7 آلاف كتاب هو مجموع كتب مكتبة عبدالهادي التازي عضو أكاديمية المملكة المغربية، التي وهبها للخزانة، وهبة مالية قدرها 200 ألف درهم تبرع بها لفائدتها فرع جمعية فاس سايس بالدار البيضاء. التفاتة مجدية كانت تنتظرها أقدم الخزانات التراثية المغربية، لتقوية عودها الهرم الذي نخرته حشرة الأرضة (البق) في كتبها ورفوفها بفعل واقع إهمالها في وقت من الأوقات.
شيوع الوعي بأهمية الوقف الثقافي
يشكل إهداء عبدالهادي التازي جزءا من مكتبته، مبادرة مهمة على غرار المبادرات الحسنة التي دشنها سلاطين المغرب وأمرائها وملوكها بما مكّن من إثراء وغنى أرشيفها، و«تجسد شيوع الوعي بأهمية الوقف الثقافي لدى المغاربة، ورغبتهم في تشجيع القراءة وتعميمها وتوسيع دائرتها ودعم صناعة الكتاب وترويجه» كما يقول الحسن الزين الفيلالي منسق المجلس العلمي بفاس المدينة.
ويرى التازي أن من بين العوامل المساهمة في إثراء فهرسة الخزانة إهداء شخصيات معروفة كتبا قيمة لها من قبيل المصحف الذي أهداه لها الأمير الأردني الحسن بن طلال، والنسخة النادرة من الإنجيل التي أهداها الملك الراحل الحسن الثاني إلى البابا. وتلك عادة سار عليها الكثير من الأدباء ورجال العلم المغاربة والعرب منذ غابر العصور والأحقبة.
وكان للأديب المغربي محمد بن عبدالعزيز الدباغ المحافظ السابق لخزانة القرويين لأكثر من 23 عاما الذي وافته المنية صيف 2008 عن عمر يناهز 80 عاما إثر إصابته بأزمة قلبية مفاجئة لم تمهله طويلا، دور كبير في التعريف بمحتويات هذه الخزانة وصيانتها وإيلائها الاهتمام اللازم، مستغلا منصبه على رأسها في كل ما من شأنه أن يقوي عودها ويحمي أرشيفها من التلف والضياع.
ووضع الدباغ -وهو من الأدباء المغاربة المشهود لهم بإنتاجاتهم الفكرية والثقافية-قرصا مركزا لأهم مخطوطات خزانة القرويين بفاس الذي تولت وزارة الثقافة المغربية نشره وترجمته إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. وأصدر أيضا الجزء الخامس من فهرست مخطوطات خزانة القرويين الذي تكفلت وزارة الثقافة بطبعه ووضعته رهن إشارة الطلبة والباحثين بالخزانة للاستفادة منه.
أشغال ترميم الكتب ومعالجتها
عرفت الخزانة التي تعرض الكثير من محتوياتها إلى السرقة أو الضياع، ولاسيما في مرحلة الاستعمار الفرنسي للمغرب، تدهورا كبيرا خلال العقود الأخيرة، وبدأ التلاشي يتسرب إلى كتبها ومخطوطاتها التي شوهت «الأرضة» بعضها، مما استلزم معالجتها تنفيذا لقرارات ملكية؛ حيث خضعت إلى عملية ترميم وإصلاح وتنظيف قبل تصوير تلك النفائس ووضعها في علب واقية من الرطوبة.
وللحفاظ على كنوز هذه الخزانة التي «تعد كنزا معرفيا وحضاريا خصبا ووجهة علمية فريدة للباحثين العرب والأجانب الذين يشدون إليها الرحال للنهل من علمها»، من التلف والضياع أحدث مختبر للترميم لصيانة رصيدها العلمي النفيس بدعم من البنك الإسلامي للتنمية، باستعمال معدات تساير التطور العلمي تستعمل «لتخزين المخطوطات بطريقة «الميكروفيلم» المسهلة للعملية على الباحثين».
وفي الإطار نفسه تم تجهيز المكتبة التي تتمتع بفضاءات ساحرة مزهرة بالزخرفة الإسلامية الصوفية وزينت قبتها بزخارف جبسية وخشبية منقوشة بأحدث الوسائل التكنولوجية للحفاظ على محتوياتها من الرطوبة والحراق والسرقة باعتماد استراتيجية تتماشى والمعايير الدولية، بل تحويل نسخ «الميكروفيلم» إلى أقراص تسهيلا للبحث العلمي ومحاربة القرصنة.

ومرت عملية إنقاذ المخطوطات بمراحل تنظيفها من قبل طاقم من الموظفين المؤهلين بالخزانة العامة للعاصمة الرباط، وتصويرها على «الميكروفيلم» ووضعها داخل أغلفة ورقية صحية تقيها من الرطوبة. ولأول مرة في تاريخ الخزانات المغربية، أنجز الفهرس الآلي للخزانة في قرص مدمج كطريقة مثلى للترميم الآلي يمكن أن يتقدى بها وبكل المبادرات الساعية إلى صيانة ذاكرة هذه المكتبة.

اعداد: حميد الأبيض