الأحكام الفقهية من القصص القرآنية - الصفحة 5 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         كيفية التعامل مع الأعداء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 35 - عددالزوار : 1165 )           »          التربية على الإيجابية ودورها في نهضة الأمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          زخرفة المساجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 70 - عددالزوار : 16845 )           »          لماذا نحن هنا؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          يغيب الصالحون وتبقى آثارهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          الهواتف الذكية تحترف سرقة الأوقات الممتعة في حياة الزوجين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          استشراف المستقبل من المنظور الشرعي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 29 )           »          من شبهات اليهود وأباطيلهم «أن تحويل القبلة أنهى مكانـة المسـجد الأقصى عند المسلمين»!! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #41  
قديم 07-06-2021, 09:46 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (41)
- من المسائل المستفادة من قصة يوسف
-عليه السلام (مسألة القضاء بالقرائن)

د.وليد خالد الربيع




من المسائل المستفادة من آيات سورة يوسف -عليه السلام- (مسألة القضاء بالقرائن)، فمعلوم أن القاضي يستند في حكمه إلى البينات والحجج القضائية كالشهود والأيمان والنكول، كما جاء عن ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى رِجَالٌ أموالَ قَوْمٍ ودِماءَهُمْ، لَكِنِ البَيِّنَةُ على المُدَّعِي والْيَمينُ على من أَنْكَرَ». حديث حسَنٌ رَوَاهُ الْبَيْهقي وغيرُهُ هكذا، وبَعْضُهُ في الصحِيحَين.

حديث عظيم القدر

قال الشيخ ابن سعدي: «هذا الحديث عظيم القدر، وهو أصل من أصول القضايا والأحكام، فإن القضاء بين الناس إنما يكون عند التنازع، هذا يدعي على هذا حقًّا من الحقوق فينكره، وهذا يدعي براءته من الحق الذي كان ثابتًا عليه، فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أصلًا بفض نزاعهم، ويتضح به المحق من المبطل، فمن ادعى عينًا من الأعيان، أو دينًا، أو حقًّا من الحقوق وتوابعها على غيره، وأنكره ذلك الغير، فالأصل مع المنكر. فهذا المدعي إن أتى ببينة تُثبت ذلك الحق، ثبت له، وحُكمَ له به، وإن لم يأت ببينة، فليس له على الآخر إلا اليمين».

ويأتي هنا البحث في قوة القرائن في إثبات الأحكام القضائية والدلالة على الأحكام الشرعية:

أولا: تعريف القرينة

- القرينة في اللغة: من الفعل قرن الشيء بالشيء إذا ضمه إليه، قال ابن فارس: «القاف والراء والنون أصلان صحيحان أحدهما: يدل على جمع شيء إلى شيء».

- وفي الاصطلاح: القرائن :هي الأمارات والعلامات التي يستدل بها على وجود شيء أو نفيه.

قال ابن القيم موضحا أمثلة القرينة الدالة على المراد من غير أن تكون صريحة فيه: «ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار.

وهل يشك أحد رأى قتيلًا يتشحط في دمه، وآخر قائم على رأسه بالسكين: أنه قتله؟ ولاسيما إذا عرف بعداوته.

وكذلك إذا رأينا رجلًا مكشوف الرأس -وليس ذلك عادته- وآخر هارب قدامه بيده عمامة، وعلى رأسه عمامة: حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعًا، ولا نحكم بها لصاحب اليد التي قطعنا وجزمنا بأنها يد ظالمة غاصبة بالقرينة الظاهرة التي هي أقوى بكثير من البينة والاعتراف».

ثانيا: حكم العمل بالقرائن في القضاء

ذهب الجمهور إلى جواز القضاء بالقرائن في الجملة؛ حيث إن الشارع اعتبر القرائن ولم يهدرها، قال ابن القيم في كتابه النفيس (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية): «فالشارع لم يلغ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال، بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وجد شاهداً لها بالاعتبار مرتباً عليها الأحكام».

وقال: «ولم يزل حذاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات».

وقال أيضاً: «والحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ودلائل الحال ومعرفة شواهده والقرائن الحالية والمقالية أضاع حقوقاً كثيرة على أصحابها وحكم بما يعلم الناس بطلانه».

مشروعية القضاء بالقرائن

فمن الأدلة على مشروعية القضاء بالقرائن عند تعذر البينات الأقوى منها والأوضح: قوله -تعالى-: {وَجَاءُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ} (سورة يوسف:18)، فعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ: كَذَبْتُمْ، لَوْ كَانَ الذِّئْبُ أَكَلَهُ لَخَرَقَ الْقَمِيصَ».

قال ابن سعدي: «زعموا أنه دم يوسف حين أكله الذئب، فلم يصدقهم أبوهم بذلك، و{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} أي: زينت لكم أنفسكم أمرا قبيحا في التفريق بيني وبينه؛ لأنه رأى من القرائن والأحوال ومن رؤيا يوسف التي قصَّها عليه ما دلّه على ما قال».

إِعْمَالِ الْأَمَارَاتِ

قال القرطبي مبينا وجه الدلالة من الآية على المراد: «اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِعْمَالِ الْأَمَارَاتِ فِي مَسَائِلَ مِنَ الْفِقْهِ كَالْقَسَامَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ -عليه السلام- اسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ الْقَمِيصِ، وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ إِذَا تَعَارَضَتْ، فَمَا تَرَجَّحَ مِنْهَا قَضَى بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ، وَهِيَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ، وَلَا خِلَافَ بِالْحُكْمِ بِهَا».

ومن الأدلة أيضا قوله -تعالى-:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (سورة يوسف: 26، 27).

قال الشنقيطي: «يفهم من الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة».

فوائد القصة

قال ابن سعدي في فوائد القصة: «إن القرائن يعمل بها عند الاشتباه، فلو تخاصم رجل وامرأته في شيء من أواني الدار، فما يصلح للرجل فإنه للرجل، وما يصلح للمرأة فهو لها، إذا لم يكن بينة، وكذا لو تنازع نجار وحداد في آلة حرفتهما من غير بينة، والعمل بالقافة في الأشباه والأثر، من هذا الباب، فإن شاهد يوسف شهد بالقرينة، وحكم بها في قدّ القميص، واستدل بقدِّه من دبره على صدق يوسف وكذبها».

وقائع من السنة المطهرة

ومن السنة المطهرة هناك الكثير من الوقائع تدل على القضاء بالقرائن:

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذِّئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنَّما ذهب بابنك أنت. وقالت الأخرى: إنَّما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود -عليهما السَّلام- فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسِّكِّين أشقُّه بينكما. فقالت الصُّغرى: لا، يرحمك الله هو ابنها. فقضى به للصُّغرى». متفق عليه.

قال النووي: «فاستدل سليمان بشفقة الصغرى على أنها أمه، وأما الكبرى فما كرهت ذلك، بل أرادته لتشاركها صاحبتها في المصيبة بفقد ولدها».

قال ابن حجر: «فظهر له من قرينة شفقة الصغرى وعدمها في الكبرى مع من انضاف إلى ذلك من القرينة الدالة على صدقها ما هجم به على الحكم للصغرى».

قال ابن القيم: «ومن ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الملتقط أن يدفع اللقطة إلى واصفها، وأمره أن يعرف عِفاصها ووِعاءها وَوِكاءها لذلك، فجعل وصفه لها قائمًا مقام البينة، بل ربما يكون وصفه لها أظهر وأصدق من البينة.

ومن ذلك أن ابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل، فقال - صلى الله عليه وسلم - : «هل مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ «قالا: لا، قال: «فأَرِيَانِي سَيْفَيْكُمَا». فلما نظر فيهما، قال لأحدهما: «هذا قَتَلَهُ». وقضى له بسلبه. متفق عليه، قال ابن القيم: «وهذا من أحسن الأحكام، وأحقها بالاتباع، فالدم في النصل شاهد عجيب».


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #42  
قديم 07-06-2021, 09:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (42)
- من المسائل المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام
- حكم الإكراه على الفاحشة

د.وليد خالد الربيع




قال -تعالى-: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} (سورة يوسف:33-35).

قال الشيخ ابن سعدي: «هذا يدل على أن النسوة جعلن يشرن على يوسف في مطاوعة سيدته، وجعلن يكدنه في ذلك؛ فاستحب السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة توجب العذاب الشديد، {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي: أمل إليهن، فإني ضعيف عاجز، إن لم تدفع عني السوء، {وَأَكُنْ} إن صبوت إليهن {مِنَ الْجَاهِلِينَ} فإن هذا جهل؛ لأنه آثر لذة قليلة منغصة، على لذات متتابعات وشهوات متنوعات في جنات النعيم، ومن آثر هذا على ذاك، فمن أجهل منه؟ فإن العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللذتين، ويؤثر ما كان محمود العاقبة»، فمن المسائل المستفادة من الآيات الكريمة مسألة الإكراه على الزنا، وهل للمكرَه أن يقدم على الزنا؟ وإذا أكره شخص على الزنا فهل يأثم ويقام عليه الحد أم أن الإكراه يؤثر في إسقاط الإثم والحد؟

وقبل بيان مذاهب العلماء في هذه المسألة لابد من تعريف الإكراه وبيان حكمه:

أولا: تعريف الإكراه

الإكراه هو حمل الآخَر على أمر يمتنع منه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه، ويصير الآخَر خائفا به فائت الرضا بالمباشرة. أي: أن في الإكراه إلزاماً للآخر قهراً على فعل أمر لا يريده ولا يحبه.

ثانيا: حكم الإكراه

الإكراه بغير حق: هو الإكراه المحرم شرعًا لتحريم وسيلته أو لتحريم المطلوب به، وهو الذي وردت بشأنه النصوص الشرعية الدالة على عدم اعتبار ما يصدر من المكرَه بغير حق من تصرفات، ومن هذه الأدلة:

1- قوله -تعالى-: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (سورة النحل:106)، قال القرطبي: «لما سمح الله -تعالى- بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم».

2- قوله -تعالى-: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة النور:33) والشاهد في قوله -تعالى-: {فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}؛ حيث استثنى الإكراه على الزنا من الإثم والعقوبة.

3- عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» أخرجه ابن ماجه و صححه الألباني.

قال ابن حجر الهيتمي: «فجعل فعل المكره الذي وجدت فيه شروط الإكراه في كتب الفقهاء فعلا، فكل ما كان الحكم فيه مرتبا على فعل المكلف يكون بسبب الإكراه لغواً بمنزلة المعدوم».

ثالثا: حكم الإقدام على الزنى تحت تأثير الإكراه

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على مذهبين:

المذهب الأول

لا يحل للرجل الإقدام على الزنى تحت تأثير الإكراه فإن فعل فهو آثم، وهو قول الحنفية في الإكراه الملجئ والشافعية وقول بعض المالكية وأبي ثور والحسن، ودليلهم:

أن حرمة الزنا لا ترتفع بحال، فكما لا يرخص فيه في حالة الاختيار فكذلك لا يرخص فيه عند الإكراه.

المذهب الثاني

يجوز للمكرَه الإقدام على الزنى تحت تأثير الإكراه الملجئ، وهو قول ابن العربي من المالكية وقال: الصحيح أنه يجوز الإقدام على الزنى ولا حدّ عليه، خلافا لمن ألزمه ذلك؛ لأنه رأى أنها شهوة خلقية لا يتصور الإكراه عليها، وغفل عن السبب في باعث الشهوة وهو الإلجاء إلى ذلك وهو الذي أسقط حكمه، وإنما يجب الحد على شهوة بعث عليها سبب اختياري.

رابعا: أثر الإكراه في سقوط حدّ الزنى

(1) أثر الإكراه في سقوط حدّ الزنى عن المرأة: قال القرطبي: إذا استكرهت المرأة على الزنى فلا حدّ عليها لقوله -تعالى-: {إلا من أكره} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، وقوله -تعالى-: {فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد فلم يحدّها، والعلماء متفقون على أنه لا حدّ على امرأة مستكرهة.

(2) أثر الإكراه في سقوط حدّ الزنى عن الرجل: اختلف الفقهاء على مذهبين:

المذهب الأول

يجب الحدّ على الرجل إذا أكره على الزنى

وهو قول أبي حنيفة والمالكية في المشهور والشافعية في قول والحنابلة على الصحيح من مذهبهم، ودليلهم: أن الوطء لا يكون إلا بالانتشار الحادث بالاختيار؛ إذ إن الإكراه ينافي الانتشار الذي هو علامة الشهوة التي لا تحصل إلا بالطواعية والاختيار، فأصبح المكرَه على الوطء كالمختار لا فرق بينهما، فالشبهة عندهم هي عدم تصور الإكراه على الزنى.

المذهب الثاني

لا يجب الحد على الرجل إذا أكره على الزنى

وهو قول الصاحبين والمالكية في المختار والشافعية في الأظهر والحنابلة في قول، ودليلهم: عموم النصوص الدالة على إلغاء أثر التصرفات الواقعة تحت تأثير الإكراه، وأن الحدود تدرأ بالشبهات، والإكراه شبهة؛ لأن الظاهر أن المكرَه غير راض بالزنى ولا مختار له، ولا فارق بين الرجل والمرأة في ذلك؛ لأن الرجل في الخوف على حياته كالمرأة في ذلك؛ وحيث سقط الحدّ عن المستكرهة فينبغي أن يسقط عن المكرَه كذلك.

ومعلوم أن الإكراه المؤثر له شروط دقيقة وضوابط محكمة للتأكد من تحقق الإكراه الموجب لرفع أثر التصرفات، فإذا توفرت تلك الشروط فالنصوص الشرعية تدل على عذر المكرَه.


قال القرطبي: «أكره يوسف -عليه السلام- على الفاحشة بالسجن، وأقام خمسة أعوام، وما رضي بذلك لعظيم منزلته وشريف قدره، ولو أكره رجل بالسجن على الزنا ما جاز له إجماعا، فإن أكره بالضرب فقد اختلف فيه العلماء، والصحيح أنه إذا كان فادحا فإنه يسقط عنه إثم الزنا وحـدّه. وقد قال بعض علمائنا: إنه لا يسقط عنه الحد، وهو ضعيف؛ فإن الله -تعالى- لا يجمع على عبده العذابين، ولا يصرفه بين بلاءين؛ فإنه من أعظم الحرج في الدين، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.

وقال الشيخ ابن عثيمين: «فالصواب بلا شك أن الإكراه في حق الرجل ممكن، وأنه لا حد عليه، ولكن المكرِه يعزر، ولا يحد حد الزنا لأنه ما زنا».


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #43  
قديم 07-06-2021, 09:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (43)
- من الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام
- مشروعية الكفالة بالنفس

د.وليد خالد الربيع




قال -تعالى-: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} (سورة يوسف:66)، قال الطبري: «يقول -تعالى- ذكره: قال يعقوب لبنيه: لن أرسل أخاكم معكم إلى ملك مصر، (حتى تؤتون موثقًا من الله)، يقول: حتى تعطون موثقًا من الله، بمعنى «الميثاق»، وهو ما يوثق به من يمينٍ وعهد (لتأتنني به) يقول لتأتنني بأخيكم، (إلا أن يحاط بكم)، يقول: إلا أن يُحيط بجميعكم ما لا تقدرون معه على أن تأتوني به».

من المسائل المستفادة من هذه الآية الكريمة (مشروعية الكفالة بالنفس) وهي كالتالي:

أولا: تعريف الكفالة بالنفس

عرف الفقهاء الكفالة بالنفس: بأنها التزام جائز التصرف في إحضار بدن من عليه الحق، وهناك فرق بين كفالة المال والكفالة بالنفس، قال الشيخ ابن سعدي: «فالضمان: الكفالة بالمال يكون للدين، والكفالة بالنفس لإحضار بدن الغريم».

ثانيا: حكم الكفالة بالنفس

دل الكتاب والسنة على مشروعية الكفالة بالنفس:

فأما الكتاب فقوله -تعالى-: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ} (سورة يوسف:66)

قال القرطبي: «هذه الآية أصل في جواز الحمالة بالعين والوثيقة بالنفس».

وأما السنة فعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الزعيم غارمٌ «أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الألباني، قال في عون المعبود: أي: يلزم نفسه ما ضمنه، والغرم أداء شيء يلزمه، والمعنى أنه ضامن، ومن ضمن دينا لزمه أداؤه».

وذكر البخاري في صحيحه في باب (الكفالة في القرض والديون والأبدان وغيرها) تعليقا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بَعَثَهُ مُصَدِّقًا، فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَأَخَذَ حَمْزَةُ مِنَ الرَّجُلِ كَفِيلًا حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَصَدَّقَهُمْ وَعَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ».

وَقَالَ جَرِيرٌ، وَالأَشْعَثُ، لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «فِي المُرْتَدِّينَ اسْتَتِبْهُمْ وَكَفِّلْهُمْ، فَتَابُوا، وَكَفَلَهُمْ عَشَائِرُهُمْ».

قال ابن حجر في الفتح: «وَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ (خبر حمزة) مَشْرُوعِيَّةَ الْكَفَالَةِ بِالْأَبْدَانِ».

وأما أثر ابن مسعود ومشورة جرير والأشعث فقد قَالَ ابن الْمُنِيرِ: «أَخَذَ الْبُخَارِيُّ الْكَفَالَةَ بِالْأَبْدَانِ فِي الدُّيُونِ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالْأَبْدَانِ فِي الْحُدُودِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى».

وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ قَالَ بِهَا الْجُمْهُورُ قال ابن قدامة: «الكفالة بالنفس صحيحة في قول أكثر أهل العلم».

قال الشيخ ابن عثيمين: «الكفالة سنة، أي: مندوبة للكفيل؛ لما فيها من المساعدة وتفريج الكرب، بشرط أن يعلم أنه قادر على إحضار بدن المكفول أو إيفاء الدين، فإذا عرف أنه غير قادر فلا ينبغي أن يكفل».

ثالثا: شروط الكفالة بالنفس

ويشترط أهلية الكفيل ورضاه؛ لأنه سوف يلتزم بحق وإذا لم يرض لا يلزمه كالتبرع بالأعيان، قال ابن قدامة: «ولا يعتبر رضى المكفول له؛ لأنها وثيقة له لا قبض فيها فصحت من غير رضاه فيها كالشهادة، ولأنها التزام حق له من غير عوض فلم يعتبر رضاه كالنذر».

رابعا: ما يمكن الكفالة بالنفس فيه

قال ابن قدامة: «وتصح الكفالة ببدن كل من يلزم حضوره في مجلس الحكم بدين لازم، سواء كان الدين معلوما أو مجهولا، لأن الكفالة بالبدن والبدن معلوم فلا تبطل الكفالة بالجهالة».

وقال: «ولا تصح الكفالة ببدن من عليه حد، سواء كان حقا لله -تعالى- كحد الزنا والسرقة أو لآدمي كحد القذف والقصاص، وهذا قول أكثر أهل العلم» ثم علل ذلك بأن الكفالة استيثاق، والحدود مبناها على الإسقاط والدرء بالشبهات، فلا يدخل فيها الاستيثاق، ولأنه حق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول به فلم تصح الكفالة بمن هو عليه كحد الزنا».

وقال ابن حجر: «وَلَمْ يَخْتَلِفْ مَنْ قَالَ بِهَا أَنَّ الْمَكْفُولَ بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ إِذَا غَابَ أَوْ مَاتَ أَنْ لَا حَدَّ عَلَى الْكَفِيلِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ؛ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَمَا أَنَّ الْكَفِيلَ إِذَا أَدَّى الْمَالَ وَجَبَ لَهُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ مِثْلُهُ».

قال الشيخ ابن عثيمين: «القاعدة أنه متى تعذر الاستيفاء من الكفيل فإن الكفالة لا تصح لعدم الفائدة».

قال ابن قدامة: «متى تعذر على الكفيل إحضار المكفول به مع حياته أو امتنع من إحضاره لزمه ما عليه» وعلل ذلك بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الزعيم غارم»، ولأن الكفالة بالنفس أحد نوعي الكفالة فوجب بها الغرم كالكفالة بالمال.

خامسا: انتهاء الكفالة بالنفس وبراءة ذمة الكفيل

1- إذا سلم الكفيل المكفول للمكفول له برئ، سواء استوفى منه صاحب الحق أم لا، فإن عجز عن إحضاره صار ضامنا.

2- موت المكفول: إذا اشترط الكفيل ألا شيء عليه إذا مات المكفول، فمات برئ الكفيل بناء على الشرط، أما إذا لم يشترط ومات المكفول فهنا اختلف الفقهاء على مذهبين:

المذهب الأول: براءة الكفيل

إذا مات المكفول برئ الكفيل؛ لأنه التزم إحضاره وقد تعذر ذلك لموته، كما لو برئ من الدين. وهو مذهب الجمهور.

المذهب الثاني: ضمان الكفيل

يضمن الكفيل؛ لأن الكفالة بالنفس وثيقة بحق، فإذا تعذرت من جهة من عليه الدين، استوفي من الوثيقة كالرهن، ولأنه تعذر إحضاره فلزم كفيله ما عليه كما لو غاب. وهو قول الحكم والليث واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما نقله عنه المرداوي في الإنصاف.

3- إذا سلم المكفول نفسه برئ الكفيل، لحصول المطلوب من الكفيل، كما لو قضى مضمون عنه الدين.

3- إذا أبرئ المكفول برئ الكفيل؛ لأنه إذا برئ الأصل برئ الفرع.


4- إذا أبرئ المكفول له الكفيل انتهت الكفالة؛ لأنه حقه فيسقط بإسقاطه كالدين، ولم يبرأ المكفول؛ لأنه لا يبرأ الأصل ببراءة الفرع.

5- اختلف الفقهاء في انتهاء الكفالة بالنفس إذا مات الكفيل قبل تسليم المكفول على مذهبين:

- المذهب الأول: تنتهي الكفالة لتعذر إحضار المكفول، ولا شيء للمكفول له في تركته، وهو قول الحنفية والشافعية، لأنه لم يبق قادرا على تسليم المكفول بنفسه، وماله لا يصلح لإيفاء هذا الواجب وهو إحضار النفس.

- المذهب الثاني: لا تنتهي الكفالة بموت الكفيل، فيطالب ورثته بإحضار المكفول به فإن لم يقدروا أخذ من التركة قدر الدين المطلوب، وهو مذهب المالكية والحنابلة.

أما إذا مات المكفول له فلا تسقط الكفالة بالنفس، ويبقى الحق للورثة كسائر الحقوق المالية التي تورث، فيقوموا مقامه في المطالبة وبتسلم المكفول وإبراء الكفيل.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #44  
قديم 24-06-2021, 06:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (44)
- من الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام
مشروعية الجعالة


د.وليد خالد الربيع




قال -تعالى-: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (سورة يوسف:72)، من المسائل المستفادة من الآية الكريمة: (مشروعية الجعالة).

أولا: تعريف الجعالة

- الجعالة في اللغة: مصدر الفعل جعل الذي له معاني عدة، منها: جعل بمعنى وضع، وصنع، وصار، وبين قدر الأجرة كقولهم: جعلت له مبلغ كذا، أي: بينته له، قال ابن فارس:» وَالْجُعْلُ وَالْجَعَالَةُ وَالْجَعِيلَةُ: مَا يُجْعَلُ لِلْإِنْسَانِ عَلَى الْأَمْرِ يَفْعَلُهُ».

- والجعالة في الاصطلاح: هي تسمية مال معلوم لمن يعمل له عملا مباحا، ولو كان مجهولا أو لمدة مجهولة، كأن يقول: من فعل كذا؛ فله كذا من المال، فالجعالة بمنزلة وعد بعوض معين لمن يقوم بعمل مباح.

ثانيا: مشروعية الجعالة

دل الكتاب والسنة على مشروعية عقد الجعالة: فمن الكتاب الكريم قوله -تعالى-: {ولمن جاءَ بِهِ حِمل بعيرٍ وأنا به زعيم}.

أي: لمن دل على سارق صواع الملك حمل بعير، وهذا جعل فدلت الآية على جواز الجعالة، قال القرطبي:» في هذه الآية دليلان: أحدهما: جواز الجعل وقد أجيز للضرورة؛ فإنه يجوز فيه من الجهالة ما لا يجوز في غيره».

ومن السنة المطهرة حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن ناسا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينا هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنكم لم تقرونا ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم قطيعا من الشاة فجعل يقرأ بأم القرآن ويتفل فبرأ فجاء بالشاة فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه فضحك وقال: «وما أدراكم أنها رقية؟ خذوها واضربوا لي بسهم». متفق عليه.

قال الزركشي: «ويستنبط من هذا الحديث جواز الجعالة على ما ينتفع به المريض من دواء أو رقية».

قال ابن قدامة مبينا حكمة مشروعية الجعالة مع ما قد تشتمل عليه من الجهالة: «لأن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ فإن العمل قد يكون مجهولا كرد الآبق والضالة ونحو ذلك ولا تنعقد الإجارة فيه والحاجة داعية إلى ردهما، وقد لا يجد من يتبرع به، فدعت الحاجة إلى إباحة بذل الجعل فيه مع جهالة العمل؛ لأنها غير لازمة بخلاف الإجارة، ألا ترى أن الإجارة لما كانت لازمة افتقرت إلى تقدير مدة، والعقود الجائزة كالشركة والوكالة لا يجب تقدير مدتها، ولأن الجائزة لكل واحد منهما تركها فلا يؤدي إلى أن يلزمه مجهول عنده بخلاف اللازمة».

ثالثا: الفرق بين الإجارة والجعالة

يظهر من كلام ابن قدامة المتقدم أن هناك فروقا بين الإجارة والجعالة، وأثر ذلك يظهر فيما يترتب على تلك الفروق من أحكام تخالف فيها الجعالة الإجارة، فيجوز فيها ما لا يجوز في الإجارة، ولأهمية هذا التفريق ذكر العلماء السابقون والباحثون المعاصرون أوجها للاتفاق بين الإجارة والجعالة، وأوجها للاختلاف بينهما خلاصتها فيما يأتي:

أوجه الاتفاق بين الإجارة والجعالة

1- يشترك كل منهما بأنه عقد يبذل فيه عمل منفعة مقابل عوض مالي.

2- يشترط في العوض المالي في الإجارة والجعالة أن يكون معلوما، فكل ما صح عوضاً في الإجارة صح أن يكون عوضاً في الجعالة، وما لا فلا.

فإن جعل له عوضًا مجهولا كقوله: من رد ضالتي فله ثلثها، أو جعل له عوضا محرما كالخمر، فلا تصح الجعالة فإن عمل العمال فله في ذلك أجرة المثل؛ لأنه عمل بعوض لم يسلم له.

أوجه الاختلاف بين الإجارة والجعالة

قال الشيخ ابن سعدي مبينا الفرق بين طبيعة كل منهما: «الإجارة عقد لازم على عمل معلوم مع معين، والجعالة عقد جائز، والعمل قد يكون معلوما وقد يكون مجهولا، وتكون مع معين ومع غير معين، والجعالة تجوز على أعمال القرب، بخلاف الإجارة.

ولا يستحق العوض في الجعالة حتى يعمل جميع العمل، وأما الإجارة ففيها تفصيل: إن كان المانع لتكميل العمل من جهة المؤجر فلا شيء له، وإن كان من جهة المستأجر فعليه كل الأجرة، وإن كان بغير ذلك وجب من الأجرة بقدر ما استوفى».

الفروق بين الأجرة والجعالة

وهناك فروق أخرى ملخصها:

1- أن الجعالة لا يشترط لصحتها العلم بالعمل، فتصح الجعالة ولو كان العمل المباح مجهولا، كخياطة ثوب لم يصفه، ورد لقطة لم يعين موضع، بخلاف الإجارة فإنه يشترط أن يكون العمل فيها معلوماً.

2- أن الجعالة لا يشترط لصحتها العلم بمدة العمل كمن قال: من حرس زرعي فله كل يوم كذا بخلاف الإجارة فإنها يشترط فيها أن تكون مدة العمل معلومة.

3- في الجعالة لا يستحق العامل الجعل إلا بإتمام العمل، بخلاف الإجارة فيستحق الأجير العوض في الإجارة مقابل ما قدمه من عمل.

4- الإجارة قد تكون على منافع الأعيان، كالدور والدواب أو على منافع الإنسان أي على عمله كاستئجار عامل للحراسة، أما الجعالة فلا تكون إلا على منافع الإنسان وعمله.

5- تصح الجعالة سواء كان العامل معلوما أم مجهولا، فلا يشترط في العامل أن يكون معلوما؛ لأن الجعالة التزام من جانب واحد، فتنعقد بالإرادة المنفردة من طرف واحد، كأن يقول لزيد: إن رددت جملي الضائع فلك كذا، فيستحقه إن رده، ولا يستحق غيره أن رده غير زيد، أو يقول: من رد جملي الضائع فله كذا، فيصح بخلاف الإجارة فإنه لابد فيها من تعيين العاقدين.


6- إجارة الأجير الخاص تتعلق بعينه فلا يستنيب غيره، أما في الجعالة فيصح أن يستنيب العامل غيره في العمل.

7- الجعالة عقد جائز لكل من الطرفين، وفسخه يكون دون إذن الآخر، لأنها من جهة الجاعل تعليق استحقاق العامل للجعل بشرط، أما من جهة العامل فلأن العمل مجهول، وما كان كذلك لا يلزم بالعقد بخلاف الإجارة فإنها عقد لازم، فإذا فسخ العامل قبل تمام العمل فلا يستحق شيئا؛ لأنه أسقط حق نفسه؛ حيث لم يأت بما شرط عليه، وإذا فسخ الجاعل قبل الشروع في العمل فلا شيء للعامل؛ لأنه عمل غير مأذون فيه فلم يستحق شيئا، وإذا فسخ بعد الشروع في العمل فللعامل أجرة مثل عمله عوضا عما عمل قبل الفسخ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #45  
قديم 24-06-2021, 06:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (45)
- الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام -
مشروعية الكفالة المالية أو الضمان المالي

د.وليد خالد الربيع




لا نزال مع قوله -تعالى-: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (سورة يوسف:72)، قال الطبري: «قوله، (وأنا به زعيم)، يقول: وأنا بأن أوفيّه حملَ بعير من الطعام إذا جاءني بصواع الملك كفيلٌ.وذكره بإسناده عن ابن عباس أن قوله: (وأنا به زعيم)، يقول: كفيل.

يستفاد من الآية الكريمة (مشروعية الكفالة المالية أو الضمان المالي)، قال القرطبي مبينًا فوائد الآية الكريمة: «جواز الكفالة على الرجل؛ لأن المؤذن الضامن هو غير يوسف -عليه السلام- قال علماؤنا: إذا قال الرجل: تحملت أو تكفلت أو ضمنت أو أنا حميل لك أو زعيم أو كفيل أو ضامن أو قبيل، أو هو لك عندي أو عليّ أو إليّ أو قبلي فذلك كله حمالة لازمة».

أولا: تعريف الضمان والكفالة

الضمان في اللغة: الكفالة والالتزام، وهو مصدر الفعل (ضمن) يقال: ضمن الرجل ضمانا: كفله والتزم أن يؤدي عنه ما قد يقصر في أدائه، قال ابن فارس: «الضاد والميم والنون أصل صحيح، وهو جعل الشيء في شيء يحويه»، والضامن: الكفيل أو الملتزم أو الغارم.

والكفالة مصدر الفعل (كفل) بمعنى ضمن، يقال: كفل المال والرجل كفالة: ضمنه، والكفيل: الكافل والضامن، قال ابن فارس: «الكاف والفاء واللام أصل صحيح يدل على تضمن الشيء للشيء، ومن الباب: الكفيل: وهو الضامن، والكفالة تسمى ضمانا لأنه إذا ضمنه فقد استوعب ذمته».

وفي الاصطلاح الفقهي: لا يفرق الحنفية بين الكفالة والضمان؛ فكلاهما ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة بنفس أو دين أو عين، ويفرق الجمهور بينهما، فالكفالة تطلق على كفالة النفس وقد تقدم في مقالة سابقة ذكر بعض أحكامها، والضمان عندهم التزام حق في ذمة شخص آخر، قال ابن قدامة: «الضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، فيثبت في ذمتهما جميعا ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما».

قال الشيخ ابن سعدي في بيان الفرق بين الكفالة والضمان: «الضمان يكون للدين، والكفالة لإحضار بدن الغريم، وفائدتهما: إلزام الضامن بالوفاء مع إلزام صاحب الحق، فيتعلق الحق بذمة كل منهما».

ثانيا: حكم الضمان

الضمان نوع من أنواع توثيق الحقوق كالكتابة والإشهاد والرهن، وكفالة المال والضمان مشروع في الكتاب والسنة والإجماع:

(1) فمن الكتاب قـوله -تعالى-: {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} قال ابن عباس: «الزعيم: الكفيل». قال ابن كثير: «(وأنا به زعيم) وهذا من باب الضمان والكفالة».

(2) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي كان لا يصلي على رجل مات وعليه دين، فأتى بميت فسأل: أعليه دينٌ؟ فقالوا: نعم، ديناران، فقال: «صلوا على صاحبكم»، فقال أبو قتادة: هما عليَّ يا رسول الله، فصلى عليه» أخرجه أبو داود والنسائي. قال في تحفة الأحوذي: «فيه دليل على جواز الضمان عن الميت سواء ترك وفاء أو لم يترك وهو قول أكثر أهل العلم»، وقال مبينا وجه الدلالة من الحديث: «فإنه لو لم تصح الكفالة لما صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم ».

(3) عن أبي أمامة قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «العارية مؤداة، والزعيم غارمٌ، والدين مقضي» أخرجه الترمذي وأبو داود، ومعنى قوله: (الزعيم غارم) أي: الكفيل ضامنٌ، ومن ضمن دينا لزمه أداؤه.

وقال ابن قدامة: «أجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة».

قال الشيخ ابن عثيمين: «الضمان في حق المضمون عنه جائز، وفي حق الضامن مستحب؛ لأنه من الإحسان، والله يحب المحسنين، بشرط قدرة الضامن على الوفاء، فإن لم يكن قادرا فلا ينبغي أن يضر نفسه لمصلحة غيره».

ثالثا: شروط الضمان

(1) يشترط في الضامن أن يكون جائز التصرف أي: عنده أهلية الأداء، قال ابن قدامة: «يصح ضمان كل جائز التصرف في ماله، سواء كان رجلا أم امرأة؛ لأنه عقد يقصد به المال فصح من المرأة كالبيع، ولا يصح من المجنون والمبرسم ولا من صبي غير مميز بغير خلاف، لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح منهم كالنذر والإقرار».

(2) يشترط رضا الضامن، فلا يصح ضمان المكره، قال ابن قدامة: «ولابد من رضى الضامن، فإن أكره لم يصح، ولا يعتبر رضا من المضمون عنه لا نعلم فيه خلافا؛ لأنه لو قضى الدين عنه بغير إذنه ورضاه صح، فكذلك إذا ضمن عنه، ولا يعتبر رضى المضمون له، لأنه أبا قتادة ضمن من غير رضى المضمون له ولا المضمون عنه فأجازه النبي - صلى الله عليه وسلم -».

قال الشيخ ابن عثيمين: «لا يشترط معرفة المضمون عنه ولا المضمون له؛ لأنه ليس عليه ضرر، ولا الدين المضمون والعلم أحسن، فيصح ضمان المجهول إذا آل إلى العلم؛ لأن الضمان عقد تبرع، فيتسامح فيه ما لا يتسامح بالمعاوضة كهبة المجهول والجعالة».

رابعا: أحكام الضمان

إذا ثبت الضمان لزم الضامن أداء ما ضمنه، وللمضمون له مطالبته، قال ابن قدامة: «لا نعلم في هذا خلافا، وهو فائدة الضمان»، وهنا تفصيل:

- إذا شرط الضامن ألا يطالبه المضمون له إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه، فالشرط صحيح وليس له المطالبة حتى يتعذر الاستيفاء من المضمون عنه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلمون على شروطهم».

أما إذا أطلق الضمان ولم يشترط، فللعلماء مذهبان:

- الأول: لصاحب الحق أن يطالب من شاء منهما، وهو قول الجمهور، قال ابن قدامة: «لأن الحق ثابت في ذمة الضامن فملك مطالبته كالأصيل».


- الثاني: أنه لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه، وهو قول مالك، قياسا على الرهن، فكلاهما وثيقة فلا يستوفى الحق منها إلا عند تعذر استيفائه من الأصل.

قال الشيخ ابن سعدي: «الصحيح أن صاحب الحق لا يملك مطالبة الضامن حتى يعجز عن الاستيفاء من الغريم؛ لأن الضمان من التوثقات كالرهن لا يباع إلا إذا تعذر الوفاء، ولأن العرف هكذا؛ يستقبح الناس طلب الضامن قبل تعذر الوفاء من الغريم إلا إذا شرط».

وقال ابن القيم في إعلام الموقعين مبينا ترجيح هذا المذهب: «إن الضامن فرع، والمضمون عنه أصل، وقاعدة الشريعة أن الفروع والأبدال لا يصار إليها إلا عند تعذر الأصول كالتراب في الطهارة والصوم في كفارة اليمين، وشاهد الفرع مع شاهد الأصل. وقد اطرد هذا في ولاية النكاح واستحقاق الميراث، لا يلي فرع مع أصله ولا يرث معه».


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #46  
قديم 24-06-2021, 06:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (46)
من الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام -
الحيل والمخارج الشرعية

د.وليد خالد الربيع




قال الله -تعالى-: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (سورة يوسف: 76)، قال الشيخ ابن سعدي: «{فَبَدَأَ} المفتش {بِأَوعيتهم قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} وذلك لتزول الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا {اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} ولم يقل: «وجدها، أو سرقها أخوه» مراعاة للحقيقة الواقع، فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده، على وجه لا يشعر به إخوته، قال -تعالى-: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي: يسرنا له هذا الكيد، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} لأنه ليس من دينه أن يتملك السارق، وإنما له عندهم، جزاء آخر، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك، لم يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده، ولكنه جعل الحكم منهم، ليتم له ما أراد»، يستفاد من الآية الكريمة مسألة (الحيل والمخارج الشرعية)، قال القرطبي: «وفيه جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلا».

أولا: تعريف الحيلة

الحيلة في اللغة: الحذق في تدبير الأمور، وهي ما يتوصل به إلى حالة ما في خفية.

أما في الاصطلاح فلا يبعد التعريف الاصطلاحي عن التعريف اللغوي، قال ابن حجر: «هي ما يتوصل به إلى مقصود بطريق خفي»، وقال ابن القيم عن التحيل بأنه: «سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة».

ثانيا: أنواع الحيل

الحيلة نوع من التصرف الخفي للوصول إلى المقاصد والغايات، وغلب إطلاقها في عرف الناس على التوصل إلى المقاصد الممنوعة شرعا أو قانونا أو عادة، فالمتبادر من لفظ (الحيلة) أنها مذمومة وممنوعة، لكن باستقراء أدلة الشرع اتضح أن الحيلة نوعان؛ مشروعة وممنوعة، قال ابن القيم: «ليس كل ما يسمى حيلة (حراما)».

وقال ابن حجر: «وهي عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها؛ فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق أو إثبات باطل فهي حرام، أو إلى إثبات حق أو دفع باطل فهي واجبة أو مستحبة، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهي مكروهة».

فيستفاد من هذا أن الحيلة نوعان:

- النوع الأول: الحيلة المشروعة: وهو ما يسمى بالمخارج الشرعية:

قال ابن القيم مبينا هذا النوع: «نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله -تعالى- به، وترك ما نهى الله عنه، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي، فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه».

الأدلة على مشروعية هذا النوع من الحيل

(1) قوله -تعالى-: {كذلك كدنا ليوسف} قال ابن كثير: «وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة»، قال ابن القيم: «وفى ذلك تنبيه على أن العلم الدقيق بلطيف الحيل الموصلة إلى المقصود الشرعي الذي يحبه الله -تعالى- ورسوله، من نصر دينه وكسر أعدائه، ونصر المحق وقمع المبطل: صفة مدح يرفع الله -تعالى- بها درجة العبد».

(2) قوله -تعالى-: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (النساء: 98) قال ابن القيم: «أي: التحيل على التخلص من الكفار وهذه حيلة محمودة يثاب عليها فاعلها».

(3) عن أبي سعيد قال: أنَّ رَسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا علَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قالَ: لا واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِن هذا بالصَّاعَيْنِ، والصَّاعَيْنِ بالثَّلَاثَةِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: لا تَفْعَلْ، بِعِ الجَمْعَ بالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا».أخرجه البخاري، قال ابن القيم: «فأرشده إلى طريقة يتوصل بها إلى المقصود دون الوقوع في الربا المحرم».

(4) عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: كانَ بينَ أبياتِنا رجلٌ مُخدَجٌ ضَعيفٌ، فلَم يُرَعْ إلَّا وَهوَ علَى أمةٍ من إماءِ الدَّارِ يخبُثُ بِها فرفعَ شأنَهُ سعدُ بنُ عُبادةَ إلى رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ- فقالَ: اجلِدوهُ ضَربَ مائةِ سوطٍ قالوا: يا نبيَّ اللَّهِ هوَ أضعَفُ من ذلِكَ، لو ضرَبناهُ مائةَ سوطٍ ماتَ، قالَ فخُذوا لَهُ عِثكالًا فيهِ مائةُ شِمراخٍ فاضرِبوهُ ضَربةً واحدةً» أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني، قال الطيبي: «العثكال الغصن الكبير الذي يكون عليه أغصان صغار ويسمى كل واحد من تلك الأغصان شمراخا»، «والحديث دليل على أن المريض إذا لم يحتمل الجلد ضرب بعثكال فيه مائة شمراخ أو ما يشابهه ويشترط أن تباشره جميع الشماريخ، وقيل يكفي الاعتماد، وهذا العمل من الحيل الجائزة شرعا، وقد جوز الله مثله في قوله: {وخذ بيدك ضغثا} الآية» قاله الشوكاني.

النوع الثاني: الحيل الممنوعة

عرفها ابن القيم بقوله: «ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالما، والظالم مظلوما، والحق باطلا، والباطل حقا، فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمه وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، قال الإمام أحمد: «لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق مسلم».

أدلة تحريم الحيل المحرمة

(1) قوله -تعالى-: {يخادعون الله وهو خادعهم} فالله -تعالى- ذم المنافقين لأنهم يخادعون الله والمؤمنين، مما يدل على أن مخادعة الله -تعالى- حرام، والحيل في حقيقتها مخادعة لله -تعالى- فهي حرام.

(2) أخبر -تعالى- عن أهل السبت من اليهود أنه مسخهم قردة وخنازير لما احتالوا على إباحة ما حرم الله -تعالى- عليهم من الصيد بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة ورفعوا يوم الأحد.

(3) وأخبر -تعالى- عن أهل الجنة في سورة القلم أنهم لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين، فعاقبهم الله -تعالى- فكان في ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حقوق الله -تعالى.

(4) عن أبي هُرَيرَة قال: قال رسولُ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «لا تَرْتكِبوا ما ارتكبَتِ اليهودُ، فتستحلُّوا محارِمَ اللهِ بأدْنَى الحِيَلِ»رواه ابن بطة وجود إسناده الألباني.


(5) وروى ابن ماجه عن عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَار؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وحسنه الألباني قال ابن القيم: «لأن فيه استحلال الزنا باسم النكاح».

(6) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «قاتل الله اليهود؛ عن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه»متفق عليه قال الخطابي: «في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى الحرام، وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئاته وتبديل اسمه».
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #47  
قديم 07-07-2021, 05:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (47)
من الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام -
مشروعية الشهادة وبعض شروط الشاهد




د.وليد خالد الربيع



قال الله -تعالى-: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} (سورة يوسف:81)، هذه الآية الكريمة في سياق قصة يوسف -عليه السلام-، وتقدم ذكر الوسيلة التي توصل بها يوسف لإبقاء أخيه عنده، فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم {خَلَصُوا نَجِيًّا} أي: اجتمعوا وحدهم، ليس معهم غيرهم، وجعلوا يتناجون فيما بينهم، فـ{قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} في حفظه، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ}، فاجتمع عليكم الأمران، تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به أبي».

قال الشيخ ابن سعدي: «ثم وصَّاهم بما يقولون لأبيهم، فقال: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} أي: وأخذ بسرقته، ولم يحصل لنا أن نأتيك به، مع ما بذلنا من الجهد في ذلك، والحال أنَّا ما شهدنا بشيء لم نعلمه، وإنما شهدنا بما علمنا، لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله، {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} أي: لو كنا نعلم الغيب لما حرصنا وبذلنا المجهود في ذهابه معنا، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا، فلم نظن أن الأمر سيبلغ ما بلغ»، وقد دلت الآية الكريمة على مسألة (مشروعية الشهادة، وبعض شروط الشاهد)، ومن المعلوم أن الشهادة من طرق الإثبات للحقوق ومن الحجج القضائية التي يدلي بها المدعي أمام القضاء لإثبات حقه ويلزم القاضي الأخذ بها إذا توفرت شروطها ولم يطعن بها المدعى عليه.

أولا: تعريف الشهادة

الشهادة لغة: مصدر الفعل (شهد)، وله معان:

1- المعاينة: فشهد بمعنى: عاين كقوله -تعالى-: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ}.

2- الحضور: كقوله -تعالى-: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي: من حضر رمضان.

3- القسم: كقوله -تعالى-: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} أي: يحلف أربع مرات.

4- شهد بمعنى أخبر خبرا قاطعا كقوله -تعالى-: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا}.

وأما الشهادة في الاصطلاح: فهي إخبار صادق في مجلس الحكم لإثبات حق للغير على الغير.

ثانيا: مشروعية الشهادة

ثبتت مشروعية الشهادة بوصفها دليلا قضائيا بالكتاب والسنة والإجماع، فمن الكتاب الكريم قوله -تعالى-: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}، وقوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ}. فأمر -سبحانه- بالإشهاد في مواضع مختلفة مما يدل على مشروعية الشهادة لإثبات الحقوق والدعاوى.

ومن السنة المطهرة قال الأشعث بن قيس: كَانَتْ بَيْنِي وبيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ في بئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إلى رَسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ: «شَاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ» الحديث أخرجه البخاري، وانعقد الإجماع على مشروعية العمل بالشهادة كما نقله ابن قدامة وغيره.

ثالثا: شروط الشاهد

الشهادة حجة قضائية يلزم القاضي الأخذ بها متى تحققت شروطها وخلت من الموانع، ولا يجوز إهمالها أو كتمانها، وقد اشترط الفقهاء في الشاهد شروطا عديدة للتأكد من صدق خبره الذي يعتمد عليه القاضي في بناء الحكم، ومن تلك الشروط:

أولا: أن يكون الشاهد بالغا عاقلا

فلا تقبل شهادة المجنون باتفاق لأنه لا يعقل، ولا تقبل شهادة غير البالغ إلا في جناية الصغار وعدم وجود شاهد بالغ إلا صبيان مميزين فتقبل شهادتهم بشروط مشددة.

ثانيا: أن يكون عالما بما يشهد به

لقوله -سبحانه-: {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، وقوله -تعالى-: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} مما يدل على أن الشهادة يجب أن تستند إلى العلم، قال القرطبي: «تضمنت هذه الآية جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها؛ فإن الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا، فلا تسمع إلا ممن علم، ولا تقبل إلا منهم، وهذا هو الأصل في الشهادات، فكل من حصل له العلم بشيء جاز أن يشهد به وإن لم يشهده المشهود عليه قال الله -تعالى-:{إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: 86).

ثالثا الإسلام

فإذا كان المشهود عليه مسلما فيشترط أن يكون الشاهد مسلما اتفاقا لقوله -تعالى-: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ} والكافر ليس من رجالنا، وقوله سبحانه: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} والشهادة فيها نوع ولاية ولا ولاية لكافر على مسلم، وذهب الحنابلة وابن تيمية وابن عثيمين إلى أنه تقبل شهادة الكافر على المسلم استثناء من هذا الأصل في حالة المسلم تحضره الوفاة، ويريد أن يوصي وهو في السفر ولم يحضره مسلم فيجوز أن يشهد على وصيته من حضره من غير المسلمين لقوله -تعالى-: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} الآية.

رابعًا: أن يكون الشاهد عدلا

لقوله -تعالى- {وأشهدوا ذوي عدل منكم}، قال ابن قدامة:» والعدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه وأفعاله، قال القاضي: يكون ذلك في الدين والمروءة والأحكام، أما الدين فلا يرتكب كبيرة ولا يداوم على صغيرة، فإن الله أمر ألا تقبل شهادة القاذف فيقاس عليه كل مرتكب كبيرة، وأما المروءة فاجتناب الأمور الدنيئة المزرية».

خامسًا: عدم التهمة

أي: ألا يكون الشاهد متهمًا في شهادته؛ بحيث يقع الشك في صحة شهادته على وجه يرجح كذبه، وللتهمة المانعة من قبول الشهادة صور منها:

1- العداوة الدنيوية

فلا تقبل شهادة العدو على عدوه عند الجمهور لحديث: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه» أخرجه أبو داود وحسنه الألباني، والغمر هو الحقد، قال الشوكاني:» وهذا يدل على أن العداوة تمنع من قبول الشهادة لأنها تورث التهمة».

2- جلب منفعة

بأن يجلب الشاهد لنفسه منفعة أو يدفع ضررا مثل شهادة الدائنين لمدينهم المفلس بأن له دينا على غيره، وشهادة الدائنين لمدينهم الميت بدين أو مال على غيره.

3- الشركة والوكالة

لا تقبل شهادة الشريك لشريكه ولا الوكيل لموكله في موضوع الشركة أو الوكالة، قال ابن قدامة: «لا نعلم فيه مخالفا»، وتقبل فيما سواهما لانتفاء التهمة.

4- القرابة

لا تقبل شهادة الوالدين وإن علوا للولد وإن سفل، ولا شهادة الولد وإن سفل لهما وإن علوا، وهو مذهب الجمهور؛ لأنه متهم كتهمة العدو في الشهادة على عدوه، وتقبل شهادة أحدهما على صاحبه عند عامة أهل العلم.

وقال ابن المنذر:» أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة». وذك للفرق بين الوالد والأخ؛ لأن بين الوالد والولد بعضية وقرابة قوية بخلاف الأخ.

5- الزوجية
فلا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر عند الجمهور لانتفاع كل منهما بشهادته للآخر.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #48  
قديم 07-07-2021, 06:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (48)
من الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام -
لزوم صيانة الإنسان نفسه وعرضه

د.وليد خالد الربيع


قال الله -تعالى-: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} سورة يوسف82)، قال القرطبي: «قوله -تعالى-: {واسأل القرية التي كنا فيها والعير} حققوا بها شهادتهم عنده، ورفعوا التهمة عن أنفسهم لئلا يتهمهم. فقولهم: واسأل القرية أي أهلها؛ فحذف، ويريدون بالقرية مصر»، فيستفاد من الآية الكريمة (لزوم صيانة الإنسان نفسه وعرضه)، بالبعد عن أماكن التهم، ورد الاتهامات الباطلة التي تقدح في دينه وعرضه.



قال القرطبي: «في هذه الآية من الفقه أن كل من كان على حق، وعلم أنه قد يظن به أنه على خلاف ما هو عليه أو يتوهم أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه، ويصرح بالحق الذي هو عليه، حتى لا يبقى لأحد متكلم»، وفي الحديث المشهور عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الْحَلال بَيِّنٌ، وَإن الْحَرَام بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أمور مُشتبهَاتٌ لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام». الحديث متفق عليه.

قال ابن رجب: «وَمَعْنَى اسْتَبْرَأَ: طَلَبَ الْبَرَاءَةَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ مِنَ النَّقْصِ وَالشَّيْنِ، وَالْعِرْضُ: هُوَ مَوْضِعُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِذِكْرِهِ بِالْجَمِيلِ مَدْحٌ، وَبِذِكْرِهِ بِالْقَبِيحِ قَدْحٌ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ تَارَةً فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَتَارَةً فِي سَلَفِهِ، أَوْ فِي أَهْلِهِ.

اجتناب المشتبهات

فمَنِ اتَّقَى الْأُمُورَ الْمُشْتَبِهَةَ وَاجْتَنَبَهَا، فَقَدْ حَصَّنَ عِرْضَهُ مِنَ الْقَدْحِ وَالشَّيْنِ الدَّاخِلِ عَلَى مَنْ لَا يَجْتَنِبُهَا، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ الشُّبُهَاتِ، فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَدْحِ فِيهِ وَالْطَّعْنِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهَمِ، فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَلَبَ الْبَرَاءَةِ لِلْعِرْضِ مَمْدُوحٌ كَطَلَبِ الْبَرَاءَةِ لِلدِّينِ».

موقف نبوي حكيم

وتأمل هذا الموقف النبوي الحكيم في دفع التهم وتربية الصحابة الكرام والأمة على حسن الظن بالمسلمين وسلامة الصدر لهم، عن صفية بنت حيي -رضي الله عنها-، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتكفًا، فأتيته أزوره ليلًا، فحدَّثته، ثم قمتُ لأنقلب، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في بيت أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأَيَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرَعا في المشي، فقال: «على رِسلكما إنما هي صفية بنت حيي»، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خفتُ أن يقذف في قلوبكما شرًّا، أو قال: شيئًا». متفق عليه.

فوائد الحديث

قال النووي مبينا فوائد الحديث: «فيه استحباب التحرز من التعرض لسوء ظن الناس في الإنسان وطلب السلامة والاعتذار بالأعذار الصحيحة، وأنه متى فعل ما قد ينكر ظاهره مما هو حق وقد يخفى أن يبين حاله ليدفع ظن السوء، وفيه الاستعداد للتحفظ من مكايد الشيطان فإنه يجرى من الإنسان مجرى الدم فيتأهب الإنسان للاحتراز من وساوسه وشره».

حماية السمعة والعرض

وأمر - صلى الله عليه وسلم - بحماية السمعة والعرض ولو ببذل المال فقال -عليه الصلاة والسلام-: «ذبوا (أي: ادفعوا) عن أعراضكم بأموالكم» أخرجه الخطيب البغدادي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وفيه زيادة: قالوا: وكيف؟ قال: «تعطون الشاعر ومن تخافون لسانه». وصححه الألباني، وإذا تساهل الإنسان بهذا الأمر فقد عرض نفسه لسوء الظن به وللغيبة والقدح، وأسقط حقه بالاحترام وكف اللسان عنه، فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء الظن به».

وَقَالَ الْحَسَنُ: «مَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ التُّهَمَةِ لَمْ يَكُنْ أَجْرُ لِلْغِيبَةِ».

قال ابن مفلح: «وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ مَا لَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ سَقَطَ حَقُّهُ وَحَرَّمْتُهُ».

وقال محمد بن حزم الباهلي:

ومن دعا الناس إلى ذمه

ذموه بالحق وبالباطل

اجتناب سوء الظن

ومعلوم أن الله -تعالى- أمر باجتناب سوء الظن في قوله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن}، قال ابن كثير: «يَقُول -تعالى- نَاهِيًا عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ عَنْ كَثِير مِنْ الظَّنّ وَهُوَ التُّهْمَة وَالتَّخَوُّن لِلْأَهْلِ وَالْأَقَارِب وَالنَّاس فِي غَيْر مَحَلِّهِ ، لِأَنَّ بَعْض ذَلِكَ يَكُون إِثْمًا مَحْضًا فَلْيُجْتَنَبْ كَثِيرٌ مِنْهُ اِحْتِيَاطًا».

الظن أنواع

إلا أن النصوص دلت على أن الظن أنواع:

الظن الواجب

فمنه الظن الواجب كحسن الظن بالله -تعالى- وحسن الظن بالمسلم المستقيم، ومنه الظن المحرم كسوء الظن بالله -تعالى- وكذلك سوء الظن بالمسلمين، قال القرطبي: «وَأَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الظَّنّ الْقَبِيح بِمَنْ ظَاهِره الْخَيْر لَا يَجُوز».

الظن المباح

ومنه الظن المباح: وهو الذي يعرض في القلب بسبب يوجب الريبة، قال القرطبي: «وأكثر العلماء على أَنَّهُ لَا حَرَج فِي الظَّنّ الْقَبِيح بِمَنْ ظَاهِره الْقبح»، فقد عقد البخاري في صحيحه في كتاب الأدب ترجمة بعنوان (باب ما يجوز من الظن) ثم ذكر حديث عائشة قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: «ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا» وفي رواية: «ما أظن فلانا وفلانا يعرفان ديننا الذي نحن عليه «. قال الليث: كانا رجلين من المنافقين .

قال ابن حجر: «وحاصل الترجمة أن مثل هذا الذي وقع في الحديث ليس من الظن المنهي عنه؛ لأنه في مقام التحذير من مثل من كان حاله كحال الرجلين، والنهي إنما هو عن ظن السوء بالمسلم السالم في دينه وعرضه».

من الضروريات التي يجب الحرص عليها

فالحاصل أن حماية العرض والسمعة من الضروريات التي يلزم المسلم الحرص عليها باكتساب الفضائل من جهة، وبالعلم النافع والعمل الصالح والخلق القويم، وباجتناب الرذائل من جهة أخرى، بالبعد عن الفواحش والكبائر، والبعد عن مواطن التهم وأماكن الشبهة، ولو حصل لبس فيلزمه التوضيح وإزالة الريب، فلا يعطي الناس مسوغا لسوء الظن به ولا الجرأة على غيبته واستحلال عرضه بما قدمت يداه.

قال الشيخ ابن عثيمين في فوائد قوله -تعالى-: {وأدنى ألا ترتابوا} من آية الدين: «أنه ينبغي للإنسان إذا وقع في محل قد يستراب منه أن ينفي عن نفسه ذلك. لا تقل: إن الناس يحسنون الظن بي، ولن يرتابوا في أمري، لا تقل هكذا، لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فربما لا يزال يوسوس في صدور الناس حتى يتهموك بما أنت منه بريء».




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #49  
قديم 07-07-2021, 06:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (49)
من الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام -
بعض الأحكام الفقهية المستفادة من سورة الكهف




د.وليد خالد الربيع



قال -تعالى-: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} (سورة الكهف:18)، هذه الآية الكريمة في سياق قصة أصحاب الكهف واعتزالهم لقومهم بأبدانهم وأديانهم، ولجوئهم للكهف وبيان حفظ الله سبحانه لهم.

قال ابن سعدي: «{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} أي: تحسبهم أيها الناظر إليهم كأنهم أيقاظ، والحال أنهم نيام، قال المفسرون: وذلك لأن أعينهم منفتحة، لئلا تفسد، فالناظر إليهم يحسبهم أيقاظا، وهم رقود، {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} وهذا أيضا من حفظه لأبدانهم، لأن الأرض من طبيعتها، أكل الأجسام المتصلة بها، فكان من قدر الله، أن قلبهم على جنوبهم يمينا وشمالا، بقدر ما لا تفسد الأرض أجسامهم، والله -تعالى- قادر على حفظهم من الأرض، من غير تقليب، ولكنه -تعالى- حكيم، أراد أن تجري سنته في الكون، ويربط الأسباب بمسبباتها.

{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} أي: الكلب الذي كان مع أصحاب الكهف، أصابه ما أصابهم من النوم وقت حراسته، فكان باسطا ذراعيه بالوصيد، أي: الباب، أو فنائه، هذا حفظهم من الأرض. وأما حفظهم من الآدميين، فأخبر أنه حماهم بالرعب، الذي نشره الله عليهم، فلو اطلع عليهم أحد، لامتلأ قلبه رعبا».

حكم اقتناء الكلاب

ذكر الله -تعالى- أن مع أصحاب الكهف كلبا، وأضافه إليهم مما يقتضي ملكيتهم له، ولم يعقب على ذلك بعدم الجواز، مما قد يفهم منه جواز اقتناء الكلب، استنادا إلى أنه شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا: هو الأحكام التي شرعها الله -تعالى- للأمم السابقة وجاء بها الأنبياء السابقون، كشريعة إبراهيم وموسى وعيسى -عليهم الصلاة والسلام.

شرع من قبلنا

ومعلوم أنه إذا ثبت شرع من قبلنا بطريق صحيح، وثبت أنه شرع لنا فهو شرع لنا إجماعا، وما نسخته شريعتنا فليس شرعا لنا إجماعا، وما لم يرد به كتاب ولا سنة فليس شرعا لنا أيضا بالإجماع، بقي إذا محل الخلاف بين العلماء، وهو ما صح من شرعِ من قبلنا من طريق الوحي من كتاب أو سنة، وليس من كتبهم المحرفة، من غير إنكار ولا إقرار لها، فهل هذا شرع لنا أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك، وأظهر الأقوال هو قول الجمهور وهو أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، ويكون قد ورد من طريق وحي لا من طريق كتبهم المحرفة.

الاحتجاج بالآية

وعلى هذا فلا يصح الاحتجاج بهذه الآية الكريمة على جواز اقتناء الكلاب مطلقا لورود النهي الصحيح الصريح عن ذلك:

فعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان». أخرجه مسلم، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط». متفق عليه، وعن ابن عمر أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَيُّما أهْلِ دارٍ اتَّخَذُوا كَلْبًا، إلَّا كَلْبَ ماشِيَةٍ، أوْ كَلْبَ صائِدٍ، نَقَصَ مِن عَمَلِهِمْ كُلَّ يَومٍ قِيراطانِ». أخرجه مسلم.

قال القرطبي: «وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها، لا الذي يحفظها في الدار من السراق. وكلب الزرع هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار لا من السراق. وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع».

اختلاف الفقهاء

وقد اختلف الفقهاء في حكم اقتناء الكلب على مذهبين:

المذهب الأول

حرمة الاقتناء لغير حاجة، وجواز اقتنائه للصيد أو الزرع أو الماشية: وهو مذهب الجمهور، استدلالا بظاهر الأحاديث المتقدمة في ترتيب الوعيد على الاتخاذ مما يدل على الحرمة، لأن التوعد بنقصان الأجر يكون على ترك واجب أو ارتكاب محرم، فدل على حرمة اقتناء الكلب بلا حاجة.

المذهب الثاني

كراهة اتخاذ الكلاب لغير حاجة: وهو مذهب المالكية، قَالَ ابن عَبْدِ الْبَرِّ: «فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ اتِّخَاذِ الْكِلَابِ لِلصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ حَافِظٍ، وَكَرَاهَةُ اتِّخَاذِهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ»، واستدل على ذلك بقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ» أَيْ: مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَهَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ اتِّخَاذُهُ مُحَرَّمًا امْتَنَعَ اتِّخَاذُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ نَقَصَ الْأَجْرُ أَوْ لَمْ يَنْقُصْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اتِّخَاذَهَا مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ».

ولم يرتض الحافظ ابن حجر هذا الاستدلال فقال: «وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَمِ التَّحْرِيمِ وَاسْتَنَدَ لَهُ بِمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ تَقَعُ بِعَدَمِ التَّوْفِيقِ لِلْعَمَلِ بِمِقْدَارِ قِيرَاطٍ مِمَّا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنَ الْخَيْرِ لَوْ لَمْ يَتَّخِذِ الْكَلْبَ.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِاتِّخَاذُ حَرَامًا وَالْمُرَادُ بِالنَّقْصِ أَنَّ الإثم الْحَاصِلَ بِاتِّخَاذِهِ يُوَازِي قَدْرَ قِيرَاطٍ أَوْ قِيرَاطَيْنِ مِنْ أَجْرٍ فَيَنْقُصُ مِنْ ثَوَابِ عَمَلِ الْمُتَّخِذِ قدر مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الْإِثْم باتخاذ وَهُوَ قِيرَاطٌ أَوْ قِيرَاطَانِ».

حرمة اقتناء الكلب

وبهذا يترجح مذهب الجمهور بحرمة اقتناء الكلب بغير حاجة لظاهر الأحاديث المتقدمة، وكذلك لما في اقتناء الكلب من تبعات مؤسفة؛ فمن ذلك حرمان البيت من دخول الملائكة فعن أبي طلحةَ الأنصاري أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تدخلُ الملائكةُ بيتًا؛ فيه كلبٌ، ولا تماثيل».أخرجه مسلم.

قال النووي: «الملائكة الذين لا يدخلون بيتا فيه كلب أو صورة فهم ملائكة يطوفون بالرحمة والتبريك والاستغفار، وأما الحفظة فيدخلون كل بيت ولا يفارقون بني آدم في كل حال».

ومن التبعات التعرض لنجاسة الكلب المغلظة كما ثبت عن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «طَهورُ إناءِ أحدِكم، إذا ولَغ فيه الكلبُ، أن يغسِلَه سبعَ مرَّاتٍ أُولاهنَّ بالتُّرابِ».أخرجه مسلم.

قال النووي: «لا فرق عندنا بين ولوغ الكلب وغيره من أجزائه، فإذا أصاب بوله أو روثه أو دمه أو عرقه أو شعره أو لعابه أو عضو من أعضائه شيئا طاهرا في حال رطوبة أحدهما وجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب».

لا يجوز بيع الكلب ولا شراؤه


ومع القول بجواز اتخاذ الكلب للحاجة كما تقدم إلا أنه لا يجوز بيع الكلب ولا شراؤه، فعنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب، وقال: «إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا».
فقد دلت هذه الأحاديث على تحريم بيع الكلب مطلقا وهو قول الجمهور، ويجوز اقتناؤه بالهبة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #50  
قديم 28-07-2021, 10:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (50)
- الأحكام المستفادة من قصة أهل الكهف
- أحكام بناء المساجد على القبور


د.وليد خالد الربيع





قال -سبحانه-: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (سورة الكهف: 21).

قال ابن سعدي -رحمه الله-: «يخبر الله -تعالى-، أن الناس قد اطلعوا على حال أهل الكهف، وذلك -والله أعلم- بعدما استيقظوا، وبعثوا أحدهم يشتري لهم طعامًا، وأمروه بالاستخفاء والإخفاء، فأراد الله أمرًا فيه صلاح للناس، وزيادة أجر لهم، وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات الله، المشاهدة بالعيان، على أن وعد الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا بعد، بعدما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم، فمن مثبت للوعد والجزاء، ومن ناف لذلك، فجعل قصتهم زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين، وحجة على الجاحدين، وصار لهم أجر هذه القضية، وشهر الله أمرهم، ورفع قدرهم حتى عظمهم الذين اطلعوا عليهم. و{فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} الله أعلم بحالهم ومآلهم، وقال من غلب على أمرهم، وهم الذين لهم الأمر: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} أي: نعبد الله -تعالى- فيه، ونتذكر به أحوالهم، وما جرى لهم».

الأخذ بظاهر الآية

وقد أخذ بظاهر هذه الآية الكريمة بعض العلماء، وقال بجواز بناء المساجد على القبور، وجواز الصلاة فيها تبركا بالصالحين؛ منهم الشهاب الخفاجي؛ حيث قال في حاشيته على تفسير البيضاوي: «وكونه مسجداً يدل على جواز البناء على قبور الصلحاء ونحوهم»، ومنهم الزمخشري حيث قال في الكشاف: «{قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ} من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم {لَنَتَّخِذَنَّ} على باب الكهف {مَسْجِداً} يصلى فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم».

دعوى مخالفة

وقد رد كثير من العلماء على هذه الدعوى المخالفة للأحاديث الصحيحة الصريحة قديما وحديثا، فقال الألوسي: «هذا واستدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء واتخاذ مسجد عليها وجواز الصلاة في ذلك، وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد».

ومن قبله قال القرطبي: «اتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها، إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز»، وقال أيضا: «قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد».

هذه الحالة محظورة

وقال ابن سعدي في الرد على الاستدلال بظاهر الآية: «وهذه الحالة محظورة، نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذم فاعليها، ولا يدل ذكرها هنا على عدم ذمها، فإن السياق في شأن تعظيم أهل الكهف والثناء عليهم، وأن هؤلاء وصلت بهم الحال إلى أن قالوا: ابنوا عليهم مسجدا، بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم، وحذرهم من الاطلاع عليهم، فوصلت الحال إلى ما ترى».

شرع من قبلنا

فلو قيل: إن الآية في سياق شرع من قبلنا وهو شرع لنا؛ إذ لم ينكر الله -تعالى- ذلك في القرآن، فالجواب: أن شرع من قبلنا شرع لنا بشروط منها أن يثبت بشرعنا وألا يخالف شرعنا، وقد ورد في السنة من الأحاديث الصريحة الصحيحة ما يدل على نسخ ذلك والنهي عنه والتحذير منه أشد التحذير، وإنكار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إنكار الله -سبحانه-، وقد جمع هذه الأحاديث ونقل اتفاق المذاهب الأربعة على تحريم ذلك الشيخ الألباني -رحمه الله- في كتابه النفيس (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)، وذكر شبهات المجيزين وأجاب عنها، فمن تلك الأحاديث:

1 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت: فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا «متفق عليه. أي: كشف قبره ولم يتخذ عليه الحائل. والمراد دفن خارج بيته كذا في فتح الباري.

2- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» متفق عليه.

3- عن عائشة وابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه طرف خميصة له فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول: «لعنة الله على اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». تقول عائشة: «يحذر مثل الذي صنعوا «متفق عليه.

4- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما كان مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها: مارية، وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة، فذكرن من حسنها وتصاويرها قالت: فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه فقال: «أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» متفق عليه.

5- عن جندب بن عبد الله البجلي أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «قد كان لي فيكم إخوة وأصدقاء، وإني أبرأ إلى الله أن يكون لي فيكم خليل، وإن الله -عز وجل- قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» أخرجه مسلم.

حرمة اتخاذ القبور مساجد

فظاهر الأحاديث يدل على حرمة اتخاذ القبور مساجد، وقد بيّـن الشيخ الألباني -رحمه الله ومن قبله الشافعي وشراح الحديث- أن الاتخاذ المذكور في الأحاديث يشمل الصلاة على القبورـ بمعنى السجود عليها، واستقبالها بالصلاة والدعاء، وبناء المساجد عليها وقصد الصلاة فيها، وهذا من جوامع كله - صلى الله عليه وسلم -، ونقل عن الشافعي أنه قال في كتابه الأم: «وأكره أن يبنى على القبر مسجد، وأن يسوى، وأن يصلى عليه وهو غير مسوي، أو يصلى إليه»، والكراهة هنا للتحريم وليس المقصود الكراهة التنزيهية؛ لأن الشافعي يقول بمقتضى الأحاديث، وهي تدل على التحريم ولا صارف للكراهة.


وأختم بما قاله ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد: «نص الإمام أحمد وغيره على أنه إذا دفن الميت في المسجد نبش». وقال ابن القيم أيضًا: «لا يجتمع في دين الإسلام قبر ومسجد، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق».


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 185.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 179.23 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (3.28%)]