|
ملتقى القصة والعبرة قصص واقعية هادفة ومؤثرة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
بصمات في الذاكرة والوجدان
بصمات في الذاكرة والوجدان د. خالد عطية السعودي كثيرًا ما يَحار المرء حين يُطْلَب منه الحديث عن الماضي بكلِّ تداخُلاته وتناقُضاته، وامتداداته وتجاربه، وتزداد الحَيْرة عندما يكون الحديث عن تجربة تتعلَّق بما تلقَّاه المرء في طفولته من تعليم، وبِمَن تتلمذ على أيديهم من المعلِّمين، ولست بدعًا من الناس؛ فشأني في ذلك شأن كثير من الطلبة الذين ترَك فيهم أساتذتهم أثرًا بالغًا من غَثِّهم وسمينهم، ولكنني مع هذا سأتحدث عن بصمة طيبة، وأثرٍ حسنٍ ترَكه أحدُ المعلمين. وأعترف أولاً أنني أحببتُ أن أكون معلِّمًا؛ لِمَا كنت أراه في هذا المعلِّم من خُلق رفيع، وعلم غزير، وأداءٍ مهني متميِّز، جعلني وغيري من الطلبة نحبُّه ونحب مبحثَه الذي يقوم بتدريسه، وليس أدل على ذلك من أن العديد من الطلبة الذين درسَ لهم هذا المعلم، ونَهَلوا من عِلمه، أصبحوا اليوم أساتذة في الجامعات وقد تخصَّصوا في ذات المبحث الذي أحبوه وأحبوا أستاذه من قَبْلُ. أمَّا هذا الأستاذ والشيخ المعلم، فقد عرَفنا عنه فيما بعد أنه كان طالبًا متميِّزًا في المدرسة، وازدَاد تميُّزًا عندما كان طالبًا في الجامعة الأردنية، وقد تخرَّج فيها بحصوله على المرتبة الأولى بين زملائه وأقرانه، وإذا به يعمل معلِّمًا ويتفاجَأ بعد مُضي ستة أشهر من قيامه بالتعليم أنها غير مأجورة، فيحتسب أجرَه عند الله، ولا يَثنيه ذلك عن أداء الرسالة ومواصلة العمل بجدٍّ ونشاط واجتهاد. كان يرتدي لباسًا أنيقًا، فما شُوهِدَ إلا قليلاً لا يَلبس ربطة العُنق، تفوح منه روائح العطر الجميلة، ويمشي بهدوء وسكينة ووقَار، يدخل الحصة مع قرْع الجرس حاملاً أوراق الدرس المرتَّبة، وأدوات العمل المنظَّمة، كان لا يأْلُو جُهدًا في الشرْح والتوضيح، والبيان والتبيين، فإذا تكلَّم كنَّا نشعر أنَّ المفردات اللغويَّة التي كان يستخدمها تحمل طاقات إيحائيَّة بالغة التأثير في المتلقين، كنا نشعر أنه يمتلك ثقافة واسعة في الشريعة والتاريخ، والاجتماع وسائر العلوم والفنون، عكستها مؤلَّفاته الثرَّة، أما اللغة العربية فقد استودعها همومَه المتصاعدة، وأثقال رُوحه، حتى غدتْ نزفًا وجدانيًّا واضحًا. وتراه غارقًا في الدرس يكتب بـ"الطباشير" الملوَّن، يلتفت إلى طلبته سائلاً، ويُقبل عليهم معززًا، وهو بين هذا وذاك يُدْخِل البسمة على الوجوه المشدودة إليه بطُرفة أدبية، أو قصة تاريخيَّة، أو بما هو غريب ومُدهش من العلم والمعرفة، وما كان يعكر صفونا إلاَّ قرعُ الجرس إيذانًا بانتهاء الحصة. وامتدادًا لشواغله الفكريَّة والأدبية، كان يدعونا للقراءة والاطلاع، بل كثيرًا ما كان يضرب لنا أمثلة رائعة من العلماء والمفكِّرين، ويتجوَّل بنا في ردهات الزمن، ويأخذنا إلى آفاق المستقبل، ويضع أيدينا على أسباب التقدُّم الإنساني. كان طموحه المهني لا يقف عند حدٍّ، ولا يتوقَّف عند أهداف قصيرة المدى تُنمي ثقافة الذاكرة، أو نتاجات لا تقدِّم للمتعلم سوى أنها تُطيل في عُمره الطفولي؛ لهذا كله هبَّ يعلِّمنا منهجيَّة البحث العلمي، والاستقصاء المعرفي؛ بأسلوب دقيق، وبطريقة علمية عملية، غدونا خلالها نجوب المعاهد والجامعات، ومراكز البحوث منقِّبين في مكتباتها عمَّا تناثَر من القضايا البحثيَّة التي تصدَّى لها الناشئة من الباحثين الصغار بعزيمة واقتدار، ثم جاء اليوم الذي أدركْنا فيه أن تلك البحوث لا تقلُّ قيمة علميَّة عما يقدِّمه أساتذة الجامعات من دراسات مُحكمة وبحوث رصينة. وبعدُ: فإن تلك البصمات لَم تذهب سُدًى، بل قد يختفي ماء المطر؛ ليظهر بعد حين نبعًا جيَّاشًا، وعينًا جارية، وهذا ما كان من أمرِ ذاك الأستاذ؛ حيث نشأ طلبته محبِّين للقِيَم الأصيلة، والكلمة الطيبة، باحثين عن المعرفة، راغبين في العلم، وإذا هم يتبوَّؤون مراكز علمية وبحثية في أرقى مؤسَّسات التعليم، وفي أكبر هياكل التوظيف. أمَّا ذاك الأستاذ، فقد بَقِي يعلِّمنا، رغم دورة الحياة وما أحدثتْه فينا من تغيُّرات اجتماعية واقتصادية وثقافية كثيرة، فقد تعلَّمنا منه الهِمَّة والجِد عندما حصَل على درجة "الدكتوراه" بمرتبة الشرف الأولى، وتعلَّمنا منه الإبداع عندما توالتْ إصدارته العلمية: كُتبًا وبحوثًا، وتعلَّمنا منه الصبر، عندما ارتحلَ خارج الوطن يعلِّم في جامعات عربية عريقة، وتعلَّمنا منه مواصلة التعلُّم والتعليم عندما أصبحَ يستقبل طلبة العلم في بيته؛ يعلِّمهم تارة، ويقوم على خِدمتهم تارة أخرى. نعم، لقد بَقِي هذا الأستاذ الدكتور منهلاً عذبًا كثيرَ الزحام، رغم ما لَحِق به من عقوق وصدود، جعلانه رهينَ البيت، وحبيسَ القرية الوادعة، جارة الوادي، وجارة حارث، أنْعِم وأكرم به من جارٍ.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |