سعاد (قصة رمزية قصيرة) - ملتقى الشفاء الإسلامي
اخر عشرة مواضيع :         واحة الفرقان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 3359 )           »          مكافحة الفحش.. أسباب وحلول (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          أي الفريقين؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          الصراع مع اليهود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 13 )           »          نكبتنا في سرقة كتبنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          كيف نجيد فن التعامل مع المراهق؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الطفل والأدب.. تنمــية الذائقة الجمالية الأدبية وتربيتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          ترجمة موجزة عن فضيلة العلامة الشيخ: محمد أمان بن علي الجامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          يجب احترام ولاة الأمر وتوقيرهــم وتحرم غيبتهم أو السخرية منهم أو تنــقّصهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 37 - عددالزوار : 1185 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر > من بوح قلمي

من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-06-2021, 03:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,014
الدولة : Egypt
افتراضي سعاد (قصة رمزية قصيرة)

سعاد (قصة رمزية قصيرة)
عبدالواحد نعمان الزعزعي






"يا سعاد، على جناب قربك الدَّافئ سأَخلع كلَّ همومي وأحزاني.. لا أدري كيف أصبحتُ أعيش لكِ وحدَك؟! عندما أراكِ أنسى كلَّ شيء سوى حبك الكبير؛ فتَنتفض عنه أتراحه وأشجانه، ويروي أشواقَه ولهفاته، فتُزهِر حدائقُه، وتَخْضوْضِر فيه الآمالُ، وتنبتُ فيه الأماني، وتَبتسم الأحلامُ".
♦ ♦ ♦


القصة:
لم يصدِّق "صلاح" عينَيه وهو يتنقَّل بسيَّارته في شوارع مدينة "ثغرينا" باحثًا عن منزل ترَكه قبل سبعة عشر عامًا نَتيجة هِجرةٍ قسريَّة.. بدَت المدينة خاليةً من السكَّان والمارَّة؛ حاراتٌ خالية، ومساكنُ مدمَّرة، وشوارعُ مقطعة، ومحلَّات مقفلة.. رهبةُ المكان تُنبئ عن خطوب وأحداث يقشعرُّ لها البدَنُ، وتشيب لهَوْلها الرؤوس؛ حيث يَظهر المكان وكأنَّه ضُرب بزلزال عنيف، فكلُّ ما يُنقل عبر الفضائيات لم يكن إلَّا جزءًا يسيرًا من المشهد الذي يَراه ماثلًا أمام عينيه.

صلاح يهمس بصوتٍ هادئ، ويناجي ذاته:
"ربَّما ضلَلتُ الطريقَ وساقَتني الأقدارُ إلى بلدَةٍ يَسكنُها الجنُّ".
ويَستدرِك حوارَه مع نفسه: "لكن يُقال: إنَّ للجنِّ مساكنَ وقصورًا ومدنًا، لا تقلُّ جمالًا وروعةً عن منازلنا ومدنِنا".. هل أنا في حلم؟
ثمَّ يمسح عينَيه ليختبر صحوتَه.

التفتَ صلاحٌ يمنةً ويسرةً، واسترَقَت عيناه بابًا لدكان ممزَّق، وعليه كلمات تقطَّعَت أحرفها وأضحَت أشبَه بقميصٍ لعبَت به الرِّياحُ في غابةٍ شائكة، لكنَّه قرأ منها:
"العم فرحان... شاهي... خمير..."، وجمع من هذه الكلمات خيطًا لعبارة متقطعة قادَته لحقيقة المكان وماهيته، ثم أوْمأ برأسِه قائلًا:
نعم، قد تكون فعلًا مَدينتي "ثغرينا".
يا إلهي، ما الذي حدَث!

وتحرَّك نحو سيَّارته ليترك المكانَ؛ حتى لا يُصاب بمكروه، لكن قبل أن يحرِّك مِقودَه سمِع صوتًا حزينًا لامرأة تردِّد كلمات رومانسيَّة جميلة:
"يا سعاد، على جناب قربِك الدَّافئ سأَخلع كلَّ همومي وأحزاني، لا أدري كيف أصبحتُ أعيش لكِ وحدَكِ؟! عندما أراكِ أنسى كلَّ شيء سوى حبِّك الكبير، فيَنتفض عنه أتراحه وأشجانه ويروي أشواقه ولهفاته، فتُزهر حدائقُه، وتخضوْضِر فيه الآمالُ، وتنبتُ فيه الأماني، وتَبتسم الأحلام".

امرأة واقِفة أمام مَنزل كما يَبدو من طابقين، لكنَّه أصبح كتلةً مجتمعةً كأنَّه فطائر بسكويت في قِرطاس عبِثَ بهنَّ طفلٌ مشاغب.. بدَت المرأة وكأنَّها في الخمسين من عمرها؛ قد احدوْدَب ظهرُها وتلبَّس السَّوادَ وجهُها.. اقترَب منها وهي تتوشَّح بذلةً أنيقةً وكأنَّها فتاة مراهِقة، تَنتظر محبوبًا استبطأَت وصولَه.

(مقرمة) حمراء و(بلوزة) بيضاء و(جنز) أسود.. تَناقُض مدهِش! امرأة تبدو إمَّا مراهقة أو أنها مسلوبة العقل! لباس جميل وامرأة عَجوز بوجهٍ كالِح، يُقرأ من تَجاعيد وجهها سطور البؤس والحرمان.

اقترَب مسلِّمًا:
السلام عليكِ يا أمَّاه.
أشاحَت بوجهها، وردَّت عليه بصوتٍ شاحِب:
وعليكم السَّلام ورحمة الله وبركاته.
سألَها والخوف يهزُّ كيانَه ويقطع أوصاله:
هل هذه مَدينة "ثغرينا" أم أنَّني أخطأتُ المسيرَ؟
نظرَت إليه بأسَف وخرَج من بين أضلاعها نهْدَةٌ عَميقة، وأومأَت برأسها قائلة:
نعم يا أخي، أنت في ثغرينا.
كلماتها أتَت عليه كعاصفة، وبدا وكأنَّه في حلم آخر، أو أنَّ شيئًا قد وقَع به، ثمَّ رفَع بصرَه للسماء مندهشًا، وبدأ يَسبح في بحرٍ من الذِّكريات لا شاطئ له، بعدها أيقَن أنَّه في ثغرينا، وأنَّ شيئًا ما قد حدث من بَعد غيابه، عاد إليه شرودُه وذكرياتُه، فتذكَّر المسجدَ والمدرسة، والسوقَ والمغسلة، تذكَّر كلَّ تفاصيل المدينة وأزقَّتها.

أعادته المرأةُ إلى وعْيِه ولم تَتنظر منه أن يَغرق في اندهاشِه وشرودِه، ثمَّ قالت له:
لقد ترك النَّاسُ بيوتَهم ومقارَّ أعمالهم وأسواقهم، واستوطنوا القرى والجِبال.. تركوا المدينةَ بعد أن سكنَتها الأشباحُ وساد فيها الوحوشُ وتكلَّم فيها الرويْبِضةُ.. تَركوها بعد أن وَجدوا الموتَ - ليس غيره - بضاعةً رائجة في أسواق المدينة وحاراتها؛ فالمدينةُ وشوارعها تُصبَغ كلَّ يوم بألوان حمراء حتى لكأنِّي أراها أشبهَ بلوحةٍ فنيَّة عبثَ بها مجنون!

لكن لماذا أنتِ هنا وحدكِ؟! لِماذا لم تغادري معهم؟!
لقد بقيتُ وحيدةً هنا في هذا البيت؛ فقد تعلَّقتُ به وأحببتُه كما أحببتُ روحي، وهانَت سَلامتي عليه، وآثرتُ البقاءَ في أطلاله.

يقلِّب صلاح ذاكرتَه مرَّة أخرى، ويسأل وشفتاه ترتعشان:
ولكن مَن أنتِ يا أمَّاه، سألتُك بالله تُخبريني، هل أنتِ منَّا بني الإنسان أم غير ذلك؟ يبدو أنَّكِ متعبة جدًّا؛ فقد اجتمع عليك كِبَر السنِّ وهوْل الفجائع، فلماذا أنتِ هنا؟!

التفتَت إليه وهي تَنظر بمقلتين مَملوءتين بالدُّموع وقالت:
أنا "سُعاد".
ثمَّ صمتَت طويلًا، وبدأَت تمسح دموعًا من وجْنتيها المثقلتين بالحزن وقالت:
لم أكن بذاك السن الذي تَقرؤه من ملامِح وجهي؛ فأنا لم أزل في الخامسة والعشرين من عمري، وفي سنٍّ تَفخر فيه الفتاهُ بجمالها وحيويَّتها وتألُّقها؛ وهو ما سُرق منِّي!
ولكن، كيف أصدِّق أنَّكِ بهذا السنِّ، وملامحُك تكذِّب أقوالَك؟!

التفتَت إليه، ثمَّ مسحَت دمعةً أفلتَت من بين أهدابها، وقالت:
لم أكن كاذبة فيما أقول، ولم أعتَد أبدًا على الحقيقة الماثِلة التي تراها في ملامحي، ولم أنسج كلامي من وهْم الخيال.. توفِّي والدايَ وأنا طفلةٌ صَغيرة؛ فقد تزوَّج والدي المولود في تشرين عام 1963م من امرأة جميلة تَكبره بسنةٍ واحدة، ووُلدَت أمِّي - كما هي في مدوناته - في أيلول من عام 1962م، وبعد حياة مليئة بالحبِّ والكِفاح، التقيا في هذا البيت كأجملِ عروسَين ازدانَت بهما المدينة، فأنا ثالِثة لأخوين يَكبراني سنًّا.. أمَّا عن سنِّي فأنا كما يقول والدي في مدوناته: من مواليد مايو 1990م، ولدتُ في هذا اليوم، وهو أجمل أيَّام المدينة؛ كما حكى لي أهلُها، لقد كان يومًا جميلًا واستثنائيًّا؛ يومها احتفل الناسُ في الشوارع، ووزَّعوا الورودَ وتبادلوا الهدايا، وملؤوا الأجواءَ بهجةً وسرورًا، غنَّوا ورَقصوا، ضَحكوا وهتفوا سرورًا وفرحًا بمولدي.

لقد كان والدي أهمَّ وُجهاء هذه المدينة وكبرائها؛ وهو ما جعله يُطلق عليَّ "سُعادَ"؛ كاسمٍ يُناسِب فرحةَ النَّاس بمولدي، وتقديرًا لمشاعرهم، وعِرفانًا لجميلهم.

لكن كيف يرضى أخواك بحالك؟
لقد كان أبي - كما تقول العمَّة لول - يردِّد دائمًا: إنَّ الإنسانَ بلا شرف ولا قِيَم أشْبَه بميِّت وإن أكَلَ وشرِب وتزعَّم.
تقول لي العمَّة لول: إنَّ والدي قبل وفاته جمعَ أهل المدينة كلَّهم، وكان في مقدِّمتهم أخواي؛ عبدالله وسالم، وقال:
"أشعر أنَّني لن أعيش طويلًا، لكنِّي في هذا المقام أسلِّم ذمَّتي إليكم جمعًا، هذه الطِّفلة "سعاد"، أيُّها الناس، عهدٌ عالِق في ذمَّتكم".

يسألها صلاح بفضول يَملأ أشجانَه:
وهل وفَّى أخواك بوصيَّة والدهما؟
تُطأطئُ سعاد رأسَها، وتكاد أن تَسقط أرضًا، لكنَّها تحاول أن تتمالَك جسمَها النَّحيل وتقول:
عندما كنتُ في الرَّابعة من عمري اختلف سالم وعبدالله على ما تَرك والداي من ثروةٍ ومالٍ كثير؛ فقد تركا من العَقار والجواهر ما لا يوصَف، لكنَّهما أطلقا لجشَعهما العِنانَ، فكان كلُّ واحد يُريد أن يَستأثِر بالثروة لنفسه دون الآخر، فتشاجرا وتقاتَلا، وانتهى الأمر باستِحواذ عبدالله على كلِّ شيء وترَك "سالم" المدينةَ ولم يعُد إليها حتى يومنا.

ماذا عنكِ أنتِ، هل عبدالله وفَّى بوصيَّة والده تجاهك؟
لقد أخذ كلَّ ما هو لي ونَسِيَ الوصيَّةَ، وجحدَ المعروفَ، ولم يفِ بوعدِه وعهدِه، لا مع الله ولا معي، بل كان يسلِّط عليَّ زوجتَه وغِلمانَه؛ فكانت سياطُهم وأحذيتهم تسلِّم على ظهري ووجْهي كلَّ صباح ومساء! أخرَجني من المدرسة وما زلتُ في الصفِّ الرابع، كان يَأكل وأبناؤه وزوجتُه ما لذَّ لهم وطابَ، ولم يكن لي مِنهم إلَّا الفتات من الطَّعام، كنتُ إذا مرضتُ أبقى في هذا البيت لياليَ وأيامًا دون أن يَسأل عنِّي أحد، ولا زلتُ أتذكَّر عمَّتي لول عندما كانت تحضر الطَّعامَ وأقراص "البرامول" وتَأتي متخفِّية؛ حتى لا يراها أحد، فيَنالها من شرِّهم وأذاهم ما يَنالني.

لكن ما زلتُ أتساءل عن هذه الحلَّة الجميلة التي تَلبسينها، إنَّها جميلة ومتناسقة؛ مقرمةٌ حمراء، بلوزةٌ بيضاء، وجنزٌ أسود!
هذه البذلة التي تراها هي أغلى ما أملِكُه، وأعظم ما بَقي لي من ثروة؛ فقد اختارها والدي يوم ولدتُ لتكون حلَّةَ زِفافي وتاجَ فرحي، لكن نالَها منهم أضعافُ ما حلَّ بي؛ من الامتهان، والعدوان، والاحتقار.

يتساءل صلاح مندهشًا:
هل بقي شيءٌ من الرُّجولة عند هؤلاء القوم؟!
أراكَ تتحدَّث عن القِيَم والرجولة عند قومٍ لا يَعرفون للمبادئ معنًى ولا يَضعون للإنسانيَّة قيمةً؛ إنَّ معيار الرجولة عندهم هو اللصوصيَّةُ والبطْش، وفنون الإجرامِ وصناعةُ الموت، فما أتعس العاجز المظلوم!

لكن يا سعاد، ومن هو مازن الذي كنتِ تردِّدين اسمَه؟
تتساقَط الدُّموع من عينيها دون توقُّف، وفي هذه المرَّة لم تتمالَك نفسَها فتسقط على الأرض، ثمَّ ترفع رأسَها وهي تَبكي كطفلٍ تائه:
مازن!
تجيب، ثمَّ تشرد بخيالٍ واسع كسعة مدينة ثغرينا المدمَّرة، تصمتُ قليلًا ثمَّ تتابع:
"مازن".. ذلك الشابُّ الذي أعاد ليَ الأملَ بعد اليأْس، والبسمةَ بعد الدَّمعة، والحريةَ بعد العبودية، "مازن" وجدتُ فيه ذاتي وكرامتي وإنسانيَّتي، "مازن" شابٌّ عشرينيٌّ، ملأ حياتي بهجةً وسرورًا، أحببتُه وأحبَّني.. كان حديثَ خلوتي وأجمل أغنياتي.. أتذكَّر عندما جلستُ وإيَّاه ذات صباح جميل بالقرب من بيتنا، وكيف كانت الطُّيور ترقب حبَّنا، وترفرِف للعاشِقين أجنحتَها، وتعزف نغماتها، كانت أعيننا تتلألأ بالنُّور، وأرواحنا تَرقص حوالينا لتَنشر بين جناحَي حبِّنا الفرحةَ والسعادة والحبور.. حكينا معًا وتبادَلنا الابتسامات، وعرَّفنا الحبَّ بأحسن الكلمات وأرقِّ العبارات.

ما زالَت كلماتُه تَرنو في أُذني وتتردَّد في خيالي.. أتذكَّر يومًا قال لي:
"يا سعاد، على جناب قربِك الدَّافئ سأخلع كلَّ همومي وأحزاني، لا أدري كيف أصبحتُ أعيش لكِ وحدكِ؟ عندما أراكِ أنسى كلَّ شيء سوى حبك الكَبير فتَنتفض عنه أتراحه وأشجانه، ويروي أشواقَه ولهفاته، فتُزهر حدائقه وتخضوْضِر فيه الآمال، وتنبت فيه الأماني، وتبتسم الأحلام، أنتِ الماء لروحي الظَّمْأى، والبلسم لجروحي المثخنة.. إنِّي أحبُّكِ يا سعاد، وأحسُّ بميلٍ جارف يَسحبني نحو شاطئك وجنابك.. يا سعاد، أمَا آن للقوى الظامئة أن تَرتوي، وللحبِّ الصَّامت اللفيف أن يصدح ويشدو...".

يقاطِع صلاح استرسالَها ويسأل مندهشًا:
وهل تركَكِ وحيدةً هو أيضًا دون البقاء بقربك؟!
قبل أربع سنوات آلَمَه ما حلَّ بي من قهرٍ وظلم واضطهاد، فما كان له أن يصمتَ ويراني مُهانةً أمام ناظرَيه، فجَمع أقرانَه ورِفاقَه في الحواري، وأخذوا على أنفسهم عهدًا للانتصار لي ولكرامتي وإنسانيَّتي، وأن يَضعوا حدًّا لعبدالله وعصابتِه، فتجمَّع حولهم الكثير، وبدأ النَّاس يَسمعون بأمرهم، فناصروهم والتفُّوا حولَهم، وساندوا جهودَهم، فانتفضَت المدينةُ وخرج الرِّجالُ والنِّساء، وخرج الشيوخُ والأطفال، ولحِق بهم ثلَّةٌ من رجال الجيش والأمن والقضاء، وما كان منهم إلَّا أن أعادوا الحقَّ لأهله، وسلَبوا من عبدالله جبروتَه، وكسروا كبرياءَه، وألجموا طغيانَه!

نعم.. لقد أعادوا الأملَ للبؤساء، ورسموا البسمةَ في وجوه الصِّغار، وانتصروا لي أنا (سعاد).
شعر صلاح بعِظَم وقوَّة ورجولة هؤلاء الفِتية، وأدرك أنَّه ما يزال للرُّجولة أهلٌ، ثمَّ سألها:
كم هم شجعان ونبلاء هؤلاء الفتية! ولكن أين مازن؟ يبدو أنَّكِ تبحثين عنه، أليس كذلك؟
بعد ثلاث سنوات عاد عبدالله بنفسيَّة منتقِمة، وصورةٍ قبيحة، وحِقد أسْود؛ ليثأَر من مازن ورفاقِه، فجمع حولَه القتلةَ واللُّصوص وقطاَّع الطُّرق، واشترى ذمَم الضُّعفاء وأثْرى السفهاء، فطاردوا الشبابَ واقتحموا البيوتَ، وهدموا المساجدَ، وأفزعوا النِّساءَ، وغزَوُا القرى والحارات، وقتلوا الأطفالَ، وقطعوا أوصالَ المدن، وتاجروا بأقواتِ النَّاس، وأخفَوا عنهم الدَّواء والغِذاء، فأصبح أهلُ هذه المدينة بين طريدٍ وشهيد، وسجينٍ وجريح، وجائع ومشرَّد، وكان قدَر مازن أن خطَفوه جريحًا، ولم أعرِف ما حلَّ به وما صَنعوا به، ولا إلى أين ذَهبوا به!

أمَّا المدينة فهي كما ترى؛ حلَّ فيها الخرابُ بعد العمران، والموتُ بعد الحياة، والخوفُ بعد الأمن، وأصوات المدافع بدلًا عن النَّغم والموسيقا، لكنِّي ما زلتُ هنا باقيةً على أطلال هذا المنزل المدمَّر، متنقلة في هذه الأزقَّة الموحِشة، منتظرةً عودة مازن؛ فهم لا يَزالون يَقتلون، وأنا لا أزال أشدو بأغنيتي الجميلة:
"يا سعاد، على جناب قربك الدَّافئ سأخلع كلَّ همومي وأحزاني، لا أدري كيف أصبحتُ أعيش لكِ وحدكِ، عندما أراكِ أنسى كلَّ شيء سوى حبك الكبير، فتنتفض عنه أتراحه وأشجانه، ويَروي أشواقه ولهفاته، فتُزهر حدائقُه وتخضوضر فيه الآمال، وتنبتُ فيه الأماني، وتبتسم الأحلامُ".


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 64.84 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 63.02 كيلو بايت... تم توفير 1.81 كيلو بايت...بمعدل (2.80%)]