|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘ (1) التصدر وطلب الرئاسة شريف عبدالعزيز تمهيد الدعاة إلى دين الله -عز وجل- هم أكثر الناس اتصالاً بشرائح المجتمع، وأكثر الناس تفاعلاً وتواصلاً معهم، وأكثر الناس تأثيرًا فيهم وتأثرًا بهم، لذلك فإن طريق الدعوة طريق شاق وطويل ومليء بالآفات والمعوقات التي تعترض طريق الداعية وتعيق سيره إلى الله، ومن أهم هذه الأمراض التي تعترض طريق الدعاة الأمراض القلبية التي تصيب النفوس والأرواح والقلوب والعزائم والإرادات، وهي أشد فتكًا وأعظم خطرًا من الأمراض البدنية، فأمراض البدن تظهر أعراضها ويشعر المريض بآلامها، أما أمراض القلوب فتنمو وتستفحل يومًا بعد يوم وصاحبها لا يشعر بها ولا يعاني من آلامها، أمراض الأبدان لها أطباء وحكماء وخبراء في كل باب، أما أمراض القلوب فأطباؤها قليلون وخبراؤها نادرون، لذلك كان الوقوف على أسباب الأمراض القلبية ومعرفة دواعيها ومظاهرها وتداعياتها وآثارها على الدعوة والداعية والمجتمع بأسره من أولويات العمل الدعوي، ومن ثمّ كانت هذه السلسلة التي تتناول أشهر الآفات النفسية والأمراض القلبية التي تعتري بعض الدعاة أثناء سيرهم على طريق الدعوة. وأول مرض نبدأ به هذه السلسلة هو "التصدر وطلب الرئاسة". ولا غرابة في حرص أهل الدنيا على الإمارة والولايات؛ فذلك أمر تعوّده الناس منهم، حتى أفضى الأمر إلى نزاعات وخلافات ومفاسد وفتن كثيرة، وأدى كثير منها إلى سقوط بعض الدول، كسقوط الأندلس وغيرها. لكن المؤلم أن يتسلل هذا الداء إلى داخل التجمعات الدعوية، ويسيطر على بعض النفوس المريضة، شعرت أم لم تشعر، حتى يصـيـر همّ الواحد منهم أن يسود على بضعة أفراد، دون التفكير بتوابع ذلك وخطورته. وربما يتعجب البعض من البدء بهذا المرض تحديدًا دون غيره، ويرى أمراضًا أخرى أكثر أهمية وأشد خطرًا، ولكن الواقع يشهد أن طلب الرئاسة والبحث عن التصدر أكثر الأمراض شيوعًا بين الدعاة، بل إن طلب الرئاسة هو آخر ما يخرج من قلوب الصالحين كما قال أهل العلم، والتطلع للصدارة وطلب الرئاسة ليس مذمومًا في ذاته إذا كان الأمر متعلقًا بأمور الآخرة؛ إذ إنه البحث عن الأفضل وطلب المعالي، وفيه معاني التقدم والسبق والتنافس في مرضات الله -عز وجل- والريادة في الصالحات، وإنما المذموم منه ما اقترن بالتنافس على مناصب الدنيا والتكالب عليها طمعًا في الوجاهة، وهو ما ورد به النهي والذم في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في كتاب الأحكام ومسلم في كتاب الإمارة من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله، ولا أحدًا حرص عليه". وأيضًا حديث أبي ذر الشهير الذي قال له فيه رسول الله: "يا أبا ذر: إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها". أخرجه مسلم في الإمارة. ولا تعارض في هذا النهي مع طلب يوسف -عليه السلام- المنصب في قوله -عز وجل-: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 55]، لأن السؤال هنا ليس لحظ النفس إنما لله -عز وجل-، وسدًّا لفراغ في المنصب شغله يوسف -عليه السلام-، كما أنه سيقوم بالحق ويدافع عنه ويوصل الحقوق إلى أهلها، كما أن الإنسان لو وجد في نفسه استعدادًا وكفاءة وأحقية صادقة واستكمل أسباب الولاية عندها لا يكون ثمة موانع أو مكروهات لتوليه وطلبه، أما لو سعى للرئاسة وهو ليس لها بأهل، ولم يتحصل على أي سبب من أسبابها، وقعد عن واجباتها فعندها يكون سعيه وطلبه للرئاسة مذمومًا بذاته. والمقصود أن الداعية المخلص يكره التصدر والإمارة والشهرة بطبعه؛ لإخلاصه وبعده عن الرياء، ولكنه في نفس الوقت هو صاحب المبادرة الخيرة، وهو فارس الميدان إذا تعيّن عليه التصدر؛ وقد حكى الله من دعاء المؤمنين قولهم: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً) [الفرقـان: 74]، أي: أئمة هـدى يُقتدى بأفعالهم، وهذا لشدة محبتهم لله، وتعظيمهم لأمره، ونصحهم له، ليكون الدين كله لله، وليكون العباد ممتثلين لأمره. وهناك العديد من المظاهر والأمارات التي تدل على أن الداعية ممن يبحث عن الزعامة والتصدر مهما كانت العواقب، وتكشف مكنونات صدره وتطلعات نفسه، ومن هذه المظاهر: أولاً: العجب بالنفس، وكثرة مدحها، والحرص على وصفها بالألقاب المفخمة كالشيخ، والأستاذ، والداعية، وطالب العلم، ونحوها، وإظهار محاسنها من علم وخُلُق وغيره. ثانيًا: بيان عيوب الآخرين -وخاصة الأقران- والغيرة منهم عند مدحهم، ومحاولة التقليل من شأنهم في المحافل وأمام التلاميذ والأتباع. ثالثًا: الشكوى المستمرة من عدم نيله لمنصب ما، وكثرة سؤاله عن الأسس والمعايير لتقلّد بعض المناصب، وفي نفس الوقت يحرص على تقلّد الأمور التي فيها تصدّر وبروز؛ كالإمامة والخطابة والتدريس، وهي من فروض الكفاية، لا بد لها ممن يقوم بها، مع مراعاة أحوال القلب، والتجرد من حظوظ النفس؛ كما هو حال السلف. رابعًا: التكاسل في تنفيذ الأوامر والتكاليف، وعدم المشاركة بجدية عندما يكون مرؤوسًا، والتهرب من التكاليف التي لا بروز له فيها. خامسًا: كثرة النقد بسبب وبغير سبب، ومحاولة التقليل من أهمية المبادرات والآراء والأفكار الصادرة من غيره والعمل على إخفاقها، مع الإصرار على رأيه، وعدم التنازل عنه، وإن ظهرت له أدلة بطلانه. سادسًا: الجرأة على الفتوى، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها؛ ليشتهر أمره، ويذيع صيته بين الناس بأنه مفتي النوازل الذي عنده من الإجابات ما لا يوجد عند غيره من أهل العلم، وقد كان السلف يتدافعون الفتوى كثيرًا ويتورعون عنها أشد التورع؛ ومن ذلك ما قاله عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما كان منهم محدّث إلا ودّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ودّ أن أخاه كفاه الفتيا". ولو نظرنا إلى رغبة بعض الدعاة في الصدارة والرئاسة لوجدنا أن معظم الأسباب الداعية لهذا المرض هي أسباب نفسية مرتبطة بالغفلة عن تبعات الرئاسة والصدارة وأثرها البالغ على من طلبها وسعى من أجلها أشد السعي، فالرئيس والصدر والقائد عليه من التبعات والمهمات والواجبات أكبر من غيره، فالقائد يتحمل مسؤولية ضخمة، فهو يسهر حيث ينام الآخرون، ويجوع ويشبع الآخرون، ويتعب ويرتاح الآخرون، ثم هو مسؤول عنهم جميعًا، وفي الحديث: "إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه أحفظ أم ضيّع"، وسيرة الرسول القائد -صلى الله عليه وسلم-، كبير الدعاة إلى الله، خير دليل على معنى القيادة المسؤولة، فهذا علي -رضي الله عنه- صهره وابن عمه وألصق الناس به يصف الرسول القائد وقت الأزمات فيقول: "كنا إذا احمّر البأس، ولقي القومُ القومَ، اتّقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما يكون منا أحد أدنى من العدو منه". أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير. ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: "لن تراعوا، لن تراعوا"، وهو على فرس لأبي طلحة عري، ما عليه سرج، وفي عنقه سيفه". أخرجه البخاري في كتاب الأدب. وكان في الأزمات يربط الناس على بطونهم حجرًا ويربط الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحجرين، وعندما يأتي الطعام أو الشراب يكون -بأبي هو أمي صلى الله عليه وسلم- آخر الطاعمين. وهذه هي مسؤولية القائد وتبعات القيادة والرئاسة التي يغفل عنها بعض الدعاة الذين يلهثون خلفها ولا يبالون بمغبتها وتبعاتها. وقد تكون هناك بعض العوامل الأخرى التي تدفع بعض الدعاة لطلب الرئاسة والبحث عن التصدر، من عدم الاعتياد على الطاعة وتنفيذ الأوامر، والرغبة في التملص من التكاليف والأعباء الدعوية، ومنها العجب بالنفس والتعاظم في تقدير ملكاتها ومواهبها، والإحساس الزائد عن الحد بالنفس، ومنها الرغبة في تحصيل بعض أعراض الدنيا ومتاعها، ومنها الرغبة في التسلط على الآخرين وإذلالهم بالتكاليف الشاقة والأوامر الصارمة. وكما أسلفنا في مقدمة الحديث أن هذه الأمراض لا تؤثر على الداعية فحسب، ولكن تؤثر على الدعوة كلها والمجتمع بأسره، ومن آثارها على الداعية نفسه: أولاً: الحرمان من التوفيق الإلهي: فمن السنن الماضية أن من طلب الإمارة فإن الله -عز وجل- يسلبه التوفيق ويحرمه التأييد، ويكله إلى نفسه وتدبيرها ليرى قدره ويعرف إمكاناته على حقيقتها، ذلك أن التطلع إلى الصدارة يعني الثقة الزائدة في النفس والاعتماد عليها وعلى طاقاته وقدراته، ومن اعتمد على غير الله -عز وجل- وكله الله إلى ما يعتمد عليه، وهذا الأمر ظاهر جليّ في حديث عبد الرحمن بن سمرة الذي رواه البخاري ومسلم، وفيه قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عبد الرحمن: لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها". ثانيًا: قسوة القلب وكثرة الهموم: فإن مسؤولية القيادة تلقي على القلب ظلالاً من الهم والحزن بسبب عظم المسؤولية وجسامة التبعة، ومكابدة أعباء المناصب القيادية تحتاج إلى طاقة نفسية وإيمانية هائلة تبقي مادة حياة القلوب من إخبات وإنابة وتوكل واستعانة وتواضع، والقيادة فتنة وهموم ومسؤولية جسيمة، فالقائد في موضع اقتداء وتقليد، فإذا لم يكن محترزًا في كل أفعاله وحركاته وقراراته كان مسؤولاً عمن اقتدى به ولو على سبيل الخطأ، لذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة". ثالثًا: إيغار الصدور وإثارة الضغائن: فمن وصل إلى منصب أو رئاسة، تعرض لملامة الآخرين وسهام الناقدين، واشتعلت عليه نار الحسد والحقد، والحسد بين الأقران شهير وله آثار كثيرة، وكم من عالم وفقيه ومحدث تعرض لحسد الأقران حتى راح ضحية لهذه الأحقاد!! وما جرى للإمام البخاري -رحمه الله- خير دليل على ذلك، فما بالنا لو كان صاحب المنصب ليس له بأهل ويفتقر للكفاءة والمهارة، فعندها تكون الملامة أشد والعداوة أوثق، فيزداد التشاجر والتناحر، وربما وصل الأمر للقتال، والتاريخ حافل بآلاف النماذج التي تطلعت إلى الصدارة وطلب الريادة، ولم تنل مرادها، وانتهى بها الحال مجندلة في التراب بين نفي وتشريد وتقتيل. رابعًا: المداهنة في دين الله -عز وجل- بالسكوت عما يجب قوله والقيام به من الحق، وربما بقول الباطل من تحليل حرام، أو تحريم حلال، أو قول على الله بلا علم، وذلك باتباع الهوى الذي يدعوه لفعل كل ما يمكن فعله من أجل الحفاظ على منصبه، وقد رأينا من العلماء الرسميين والمفتين الموظفين الكثير من البلايا والرزايا ثمنًا وقربانًا لرضا الحكام والطغاة حتى يبقوهم في مناصبهم ووظائفهم الدينية والدعوية. أما عن آثار طلب الرئاسة والبحث عن الصدارة على الدعوة نفسها، فيكفي أن نعرف أن هذا الداء كفيل بأن يمنع التمكين للدعوات، ويبطل جهود المخلصين فيها، فالتمكين لا يكون إلا للدعوة الخالصة التي صفت من الأكدار والشوائب التي تعلق بقلوب العاملين فيها ومن أجلها، ولو ازدحم على طريق الدعوة الكثيرون بحثًا عن رئاسة أو زعامة فارغة فمن يبقى للعمل والسعي وخدمة الدعوة، وأنّى للصف أن يستقيم وفيه طالبو الزعامة والباحثين عن الشهرة، وهل يصح أن يكون للدعوة مئات القادة وعشرات الجنود!! وحتى تعالج هذه الآفة جيدًا وتستأصل شأفتها من قلوب الدعاة فلابد من خطة عمل تبدأ منذ الصغر عن خطورة القيادة وعظم المسؤولية عنها، ودوام التذكير بتبعاتها وعواقبها في الدنيا والآخرة، والنظر في سنته وهديه -صلى الله عليه وسلم- التي تزخر بعشرات الآثار التي تنهى عن سؤال الإمارة والرئاسة والفرار منها، وآثار السلف وسيرتهم العاطرة في التعامل مع المناصب التي كانت تعرض عليهم عرضًا فيفرون منها فرارهم من الأسد، والتربية من الصغر على التواضع وحسن الخلق والإيثار وهضم حقوق النفس وإيثار مصلحة الدعوة الإسلامية على ما سواها، والتربية على قبول التكاليف مهما صغرت كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث أغبر، ومغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفّع". البخاري في كتاب الجهاد.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (2) العجلة في الحكم وعدم التثبت شريف عبدالعزيز من الأمراض التي قلّ من سلم منها معاشر الدعاة، وخاصة في هذه الأيام التي أصبح تناقل الخبر والمعلومة فيها يتم من أقصى الكرة الأرضية إلى أدناها في طرفة عين؛ مرض "العجلة في الحكم وترك التثبت والتيقن من الأمر"، ونظرًا لخطورة هذا المرض وانتشاره وآثاره الخطيرة على الدعوة والداعية، أفردنا الحديث عنه في موضوع مستقل ولم نضعه ضمن آثار مرض الاستعجال الذي سبق أن تحدثنا عنه في مرة فائتة. عدم التثبت وترك التبيّن في اللغة يدور على ثلاثة معانٍ: الأول: طلب ما يكون به الثبات على الأمر، أي لزومه وعدم التحول عنه أو تجاوزه إلى غيره، أي طلب الدليل الموصل إلى الثبات على الأمر. الثاني: فحص الدليل الموصل إلى الثبات في الأمر، فيقال: أثبت الأمر أي حققه وصححه، فأثبت الكتاب أي سجّله، وأثبت الحق أي أقام حجته، وأثبت الشيء أي عرفه حق المعرفة. الثالث: التأني والتريث وعدم الاستعجال، والتثبت والتبيّن بمعنى واحد في اللغة، والدليل على ذلك الاستعمال القرآني للفظتين في موضع واحد للدلالة على معنى واحد، في قوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ) [الحجرات: 6]، ففي قراءة متواترة وهي قراءة أهل المدينة (فتثبتوا) بدلاً من (فتبينوا)، قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري معلقًا: "والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، متقاربتا المعنى، فأيهما قرأ القارئ فمصيب". أما في الاصطلاح فعدم التثبت وترك التبين معناه: السرعة والعجلة في إصدار الأحكام والأوصاف على الناس، وتناقل هذه الأحكام والأوصاف دون فهم أو روية أو ضوابط، ودون اعتبار للواقع، على أنها أحكام نهائية غير قابلة للنقض، وإلى هذا المعنى أشار القرآن الكريم في سورة النور واصفًا لحال من تناقل خبر الإفك، دون تثبت أو تبين، فقال -عز وجل-: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُم ْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [النور: 15]، والوصف القرآني بالغ الدقة والروعة؛ إذ من المعلوم أن التلقي يكون بالأذن ثم يعرض على العقل والقلب، بعدها يصدر الأمر إلى اللسان بالكلام أو عدمه، فإذا وصف القرآن التلقي بأنه كان بالألسن فمعناه سرعة نقل الخبر والتحدث بما سمع دون تمحيص وتفكير وتقييم، لذلك كان المتحدث بكل ما سمع أحد الكاذبين كما قال -صلى الله عليه وسلم-، ونقل الكلام دون تمحيص هو صورة من صور الإفك، وفيها من الخفة والاستهتار والجراءة على أعظم الأمور وأخطرها، وهي الأعراض والأوصاف. ولعدم التثبت وترك التيقن العديد من الصور والمظاهر التي تدل على عجلة صاحبها وتسرعه في القرار واتخاذ المواقف السلبية، من هذه الصور: أولاً: معاداة الأقران من الدعاة والأفراد والهيئات، والتفتيش عن عيوبهم، والاستجابة للحملات المغرضة ضدهم، والاشتراك في تشويه صورتهم أمام العامة، ورفض إقالة عثراتهم، وإشاعة عيوبهم، وذلك كله دون تمحيص وتحقيق للخبر الدائر والأمر الرائج. ثانيًا: اتخاذ مواقف سريعة بالسلب أو بالإيجاب تأثرًا ببعض الأخبار والإشاعات، دون بحث في مدى دقة هذه الأخبار، ودون دراسة لآثار هذه القرارات المتعجلة. ثالثًا: المبادرة بالتنفيذ لمجرد صدور التكاليف والأوامر، دون إحاطة تامة بكل ظروفه وملابساته، ودون معرفة دقيقة بمن يحق له التوجيه وإصدار التكاليف. هذه بعض مظاهر عدم التثبت من الخبر، أما عن أسبابه الدافعة له فكثيرة؛ منها: أولاً: النشأة الأولى، فقد ينشأ المرء في بيئة يغلب عليها التسرع وعدم التثبت، والعجلة في اتخاذ القرارات والمواقف، والمرء في صغره يتأثر أيما تأثُّر، وينطبع في ذهنه ومخيلته هذا السلوك، ويصبح سمتًا لازمًا له طوال حياته، لذلك قالوا قديمًا: "التعليم في الصغر كالنقش على الحجر"، والرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الكذب على الصغير عندما رأى الأنصارية تنادي على ولدها لتعطيه؛ لأن ذلك سيؤثر سلبًا على الطفل الصغير، فينشأ معتادًا على الكذب وأجوائه. ثانيًا: الصحبة الفاسدة؛ فالمرء على دين خليله، والصاحب ساحب، والطباع سرّاقة، وكلما كان المرء ضعيف الشخصية كان إمعة في سلوكه، فيحاكي ويقلد بلا روية ولا بصيرة. ثالثًا: الاغترار ببريق الألفاظ؛ فقد يقرع أذن المرء طائفة من الألفاظ المعسولة والعبارات الخلابة، وإذا بالمرء يغتر بهذه الألفاظ، فيحسبها ذهبًا وهي تراب، ولفت النبي -صلى الله عليه وسلم- النظر إلى هذا السبب حين قال: "إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها". أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، ومسلم وأبو داود في الأقضية. رابعًا: الجهل بأساليب التثبت؛ فقد يجهل الداعية أساليب وطرق التثبت، فيعجل ويتسرع في إصدار القرارات أو يحاكي المتعجلين، ذلك أن للتثبت العديد من الوسائل والطرق؛ منها: 1- رد الأمر إلى الله ورسوله وإلى أولي العلم وأهل الذكر كما قال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ) [النساء: 83]. 2- سؤال صاحب الشأن عن صحة الخبر وبواعثه وأسبابه، ولنا فيما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع حاطب بن أبي بلتعة يوم فتح مكة الأسوة الحسنة في ذلك، حيث لم يبادر بعقوبته رغم جسامة ما اقترافه، إنما أحضره وقرره بما فعل، فأقر حاطب، ثم سأله -صلى الله عليه وسلم- عن دوافعه عن الفعل ومبرراته، ورغم أن المبررات لم تكن مقنعة، إلا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد عذره، ووهب فعلته الرديئة لسالف إحسانه وتاريخه النضالي الكبير في خدمة الإسلام. 3- حسن الإصغاء والاستماع الجيد؛ وذلك بالمراجعة والاستفهام لفحوى الكلام وحقيقة الخبر، فقد يتردد كلام وأخبار لا يراد ظاهرها، ولا تدل على معناها الحقيقي، فعندها يحتاج الكلام للإيضاح، حتى لا ينتج عنه آثار ضارة وربما تكون قاتلة، مثلما حدث في قتال المرتدين عندما أمر خالد بن الوليد -رضي الله عنه- جنوده بتدفئة الأسرى من قوم مالك بن نويرة في ليلة باردة، فقال لهم: "دفئوا أسراكم"، وكان الحرس من بني كنانة، وتدفئة الأسرى في لغة كنانة معناها القتل، فقتلوهم جميعًا، فلما سمع خالد الصراخ خرج من خيمته، ولكن بعد فوات الأمر، فعنف أبو بكر الصديق الخليفة خالدًا بسبب ذلك تعنيفًا شديدًا، ودفع دية من قتل من الأسرى لأنهم قد تابوا وعادوا من الردة بعد الأسر. 4- التجربة والخبرة والمشاهدة والمقارنة، فمعايشة الأحداث، ومعرفة الأشخاص، تعطي الداعية رصيدًا كبيرًا للتجربة من الفهم والبصيرة بمرامي الكلام وطبائع الأشخاص، والمنافسة بين الأقران، وتمكنه من الحكم ببصيرة على الأخبار والآراء بحق الأشخاص والهيئات. خامسًا: الانبهار والاغترار بشخصية المتكلم، والالتفات لسمته ودله الظاهر، وترك تقييم الكلام وزنته وفحصه، فالناس من طبائعها تصديق ذوي الهيئات التي تدل على الصلاح، والثقة فيما يقولون، وقد لا يدركون أن النفوس محتقنة، والثارات قديمة بين المتكلم والمتكلم فيه، وأيضًا قد يدرون طبيعة كلام الأقران في بعضهم البعض، لذلك قال أهل العلم: إن القاضي لا يحكم بعلمه حتى يسمع الدليل ويفحص القضية، وقالوا أيضًا: إن الكلام في الناس لابد أن يكون بإنصاف وعدل وعلم. سادسًا: الولاء والبراء للمشايخ والرؤساء والكبراء زعماء الجماعات وقادة التيارات الدعوية، بحيث لا يمكن مراجعة قراراتهم وتصنيفاتهم الدعوية، لهذا الداعية أو هذا الخطيب، فيكون الدليل والحجة عند كثير من شباب اليوم "هذا ما قاله الشيخ فلان" أو "هذا ما ذهب إليه الداعية المشهور علان"، وهذا الأمر تحديدًا من أكثر أسباب شيوع حالة التنافر والتجاذب بين الجماعات والتيارات العاملة في حقل الدعوة الإسلامية، فكم من داعية أو خطيب قد وأدته الشائعات، وقتلته التصنيفات، وقُضي على علمه وخيره، بسبب الوشايات والشائعات والتسرع في الحكم عليه. سابعًا: الحماس والعاطفة غير الراشدة، فقد تؤدي الحماسة والغيرة الفطيرة إلى عدم التثبت من الخبر والمسارعة باتخاذ القرارات، والحماسة إذا لم تكن موزونة بميزان الشرع تحولت لوابل على صاحبها؛ لأنها تسلبه الحكمة والإدراك، وتجعله أهوج كثير الخطأ، مثلما حدث يوم الجسر سنة 13هـ في القتال بين المسلمين والفرس عندما قرر القائد أبو عبيد الثقفي أن يعبر النهر إلى الفرس، وبحجة أن لا يكون الفرس أجرأ على الموت من المسلمين، ورفض أن يستمع لصوت العقل من مساعديه الذين قالوا له: إن هذا القرار خاطئ من الناحية التكتيكية الحربية، ويضع المسلمين في مأزق، فأصر القائد المتحمس على قراره، والنتيجة هزيمة قاسية للمسلمين، يقتل فيها ستة آلاف مسلم وهو عدد ضخم لم يقع من المسلمين مثله في معركة واحدة في مقدمتهم القائد أبو عبيدة نفسه، فانظر إلى عاقبة الحماسة والعاطفة الطائشة. ثامنًا: الحقد والحسد؛ فقد يكون من أهم أسباب عدم التثبت الحقد والمنافسة وتصفية ثارات قديمة، أو الغلو في حب شيء، فإن حب الشيء يعمي ويصم، ويحول بين الإنسان وبين استطلاع الموقف وتبين الحقيقة، كما وقع في حادثة مقتل عامر بن الضبط على يد ملجم بن جثامة والتي أنزل الله -عز وجل- فيها قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [النساء: 94]. وخطورة هذا المرض أنه يؤدي إلى آثار مدمرة على الدعوة والداعية، فهو يؤدي إلى اتهام الأبرياء من الناس زورًا وبهتانًا، مثلما حدث مع أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، في حادثة الإفك التي تعتبر مثالاً سائرًا في عاقبة عدم التثبت والمشاركة في الشائعات وترديد الأكاذيب، وقد يؤدي لسفك الدماء وسلب الأموال، كما حدث من أسامة بن زيد مع الرجل الجهني الذي قتله بعد أن نطق بالشهادة، التعرض للعقاب في الدنيا والعذاب في الآخرة، كما حدث مع من خاض في حادثة الإفك من الصحابة مثل مسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، وحسان بن ثابت، الذين أقيم عليهم الحد، ومنها اضطراب الصف الإسلامي وكثرة الانشقاقات فيه، وتعثر سير الدعوة بسبب هذه الخلافات، وهدر الكثير من الطاقات والإمكانات في معالجة آثار هذه الانشقاقات، ومنها التراخي والفتور في همم الدعاة الذين وجدوا أنفسهم في مرمى نيران اتهامات كثيرة بسبب عدم التثبت من جانب غيرهم من الدعاة والشيوخ، ومنها فتح المجال أمام ذوي النفوس المريضة والدخلاء لارتقاء منابر الدعاة ومناصبهم، ومنها شيوع حالة التدابر والتباغض بين أنصار الشيوخ والدعاة. وإن تقوية ملكة التقوى والمراقبة لله -عز وجل- هي حجر الزاوية في القضاء على هذا المرض الخطير، والتحلي بأخلاق الإنصاف والتجرد والتروي وضبط اللسان وتقديم حسن الظن، ومطالعة سيرة الرسول الكريم وأصحابه وسلف هذه الأمة، كلها عوامل رئيسة في مقاومة هذا المرض المستشري بين صفوف كثير من دعاة هذا الزمان.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (3) اليأس والقنوط شريف عبدالعزيز من أخطر الأدواء والآفات والأمراض على طريق الدعوة إلى الله، وأكبر العقبات على سبيل التمكين؛ اليأس والقنوط من رحمة الله، فمع اليأس يرتدي الداعية منظارًا أسود يرى به كل الأمور من حوله قاتمة لا نور فيها، ميتة لا حياة فيها، بائسة لا أمل فيها، مع اليأس يتحول الداعية من شعلة نشاط إلى رماد فاتر، ومن منارة للهدى إلى حطام إنسان، لا يفكّر ولا يعمل ولا يحلم، بل لا يفكر حتى في الحلم، حاله كحال الشاعر عندما قال: يا قـوم لا تتكلـموا *** إن الكـلام محـرم ناموا ولا تستـيقظوا *** مـا فـاز إلا النُّوَّمُ وتأخروا عـن كل ما *** يقضي بأن تتقدموا ودعوا الـتفهم جانبًا *** فالخير أن لا تفهموا وتثـبتوا في جهلكم *** فالشـر أن تتعلموا أما السياسة فاتركوا *** أبـدًا وإلا تـندموا بالجملة المرء مع اليأس هو والعدم سواء، وحياته وموته سيان، لذلك كان من أهم أولويات الدعاة الحذر من مزالق هذا المرض الخطير وآثاره وتداعياته وظواهره وأسبابه. اليأس في اللغة العربية يدور على عدة معانٍ؛ منها: انقطاع الأمل من شيء، وانتفاء الطمع منه، ومنه قولنا: يئست المرأة، أي انقطع حيضها، كما في قوله: (وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ...) [الطلاق: 4]، ومنها أيضًا الذل والقهر والخضوع، واللين والتصاغر، فنقول: أيس أيسًا بمعنى ذل وخضع، وأيس فلان فلانًا أي قهره وأذله. أما في الاصطلاح فاليأس هو انقطاع الرجاء من الفرج، وانقطاع الطمع من الخروج من الشدائد، وذلك بسبب غلبة العدو، واستطالة الباطل، وتأخر النصر، وضعف النتائج، أما القنوط فهو أشد اليأس أو قمة اليأس، ومنها قوله -عز وجل-: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) [الشورى: 28]. الإسلام قد وقف من اليأس والقنوط موقفًا حاسمًا قويًا؛ إذ عدّه من الكبائر المهلكة، وذهب بعض أهل العلم لاعتبار اليأس من الكفر المخرج من الملة إذا اقترن معه شك في قدرة الله وحكمته، كما ذهب لذلك صاحب الطحاوية، وقد حرّم الإسلام الوقوع في حبائل هذا المرض الخطير، ومن باب أولى الدعوة إليه، والقرآن أفاض في التحذير من اليأس والقنوط ومظاهره وآثاره، وذلك في آيات كثيرة منها: قوله -عز وجل- (يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) [يوسف: 87]، وفي آية أخرى بيّن الله -عز وجل- أن اليأس من صفات وأخلاق الكافرين فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [العنكبوت: 23]، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) [الممتحنة: 13]، وبيّن المولى في آيات أخرى أن اليأس هو شعار من يعبد الله على حرف، فإن أصابه الخير استبشر، وإن أصابه الضر يئس وتضجر، فقال: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) [هود: 9]، وقال: (لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) [فصلت: 49]، وبيّن المولى في موضع آخر أن القنوط واليأس هو شعار الضالين الحائدين عن طريق الهداية والرشاد، فقال -عز وجل-: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) [الحجر: 55، 56]. واليأس داء نفسي خطير يصيب كثيرًا من الناس، وله عليهم آثار خطيرة، ولكن آثاره ومظاهره على الدعاة والعاملين في حقل الدعوة أشد خطورة وأعظم ضررًا، وهناك مظاهر كثيرة تدل على اليأس والقنوط في العمل الدعوي؛ من أبرزها: الأول: الهزيمة النفسية؛ وهي تعتبر من أبرز مظاهر اليأس والقنوط من رحمة الله، فاليأس يفل القلوب ويأسر النفوس ويغتال الأحلام ويقتل الآمال، فيتحول الداعية لمهزوم نفسيًّا، وينعكس ذلك على قراراته وخطواته وتحركاته وخططه ومشروعاته، وتنعكس هذه الهزيمة أيضًا على سلوكه وهديه وسمته ودله، فترى كثيرًا من المنهزمين نفسيًّا أسرى الأوهام والظن، ويتولد عندهم فقدان ثقة وشك في صحة المنهج والطريق والعاقبة. الثاني: الانبهار بما عند الغير -خاصة الغرب- من قوة وتقدم، والشعور المتنامي بالدونية أمام جبروت الخصوم وقوتهم، والثقة المطلقة بأعداء الأمة أنهم قادرون على إنفاذ مخططاتهم ومؤامراتهم ضد الأمة، وأنهم ممسكون بزمام الأمور في العالم بأسره، ويستتبع ذلك أيضًا تصديق لأعداء الأمة في كل ما يروجونه من أباطيل وأراجيف، لاسيما ما يتعلق بتاريخنا العظيم الذي تعمّد الغرب تشويهه وإهالة التراب على نقاطه المضيئة. الثالث: القعود عن العمل والدعوة والتربية والبناء، بدعوى أن لا فائدة من هذا العمل ما دام أعداء الأمة ظاهرين وقاهرين لنا، وهذا ينعكس في صور كثيرة من أبرزها التخلي عن السنن والآداب الإسلامية، امتلاء القلوب بالخوف والفزع من قوة الخصوم، الانشغال بأمور الدنيا والانغماس في مباحاتها وشهواتها، تثبت همم الدعاة والمخلصين والعاملين لدين الله، بدعوى أنه لا فائدة من كل هذه الجهود، وأنها ستذهب أدراج الرياح. وربما يتعجب البعض من هذا المرض الفتاك، كيف له أن يتسلل بين صفوف الدعاة والعاملين لدين الله، على الرغم من التحذير السماوي منه؟! وكيف يصل هذا الداء القتّال إلى القلوب المخلصة والهمم المرابطة، وهي تعيش في أجواء القرآن والسنة والالتزام بهدي الإسلام ومنهجه؟! والحقيقة أن هناك الكثير والكثير من أسباب وبواعث الوقوع في اليأس خاصة في هذا الحقل المليء بالمتاعب والهموم، ولكن ذلك كله لا يبرر مطلقًا لأحد من الدعاة أن يسمح لنفسه أن يسترسل مع هذه الآفة الخطيرة ويسمح لها بالاستيلاء على قلبه، والاستحواذ على نفسه، ومن هذه الأسباب: أولاً: عدم معرفة الله -عز وجل- حق المعرفة؛ ذلك أن من عرف ربه بأسمائه وصفاته، وأنه سبحانه منزه عن كل نقص، موصوف بكل كمال، واستقرأ هذه الصفات والمعارف الربانية في كتابه العزيز، علم أن الله ناصر المؤمنين، ومخزي الكافرين، وأن جند الله -عز وجل- هم المفلحون وهم الغالبون، علم أن من توكل على الله -عز وجل- وحده كفاه من شر كل ذي شر، وكيد كل ذي كيد، فالله كافٍ عبده، وناصر جنده، شريطة أن يكونوا أهلاً لهذا النصر، متحلين بالتقوى والقوة واليقين والصبر؛ لأن الطريق طويل، والساقطون على جنباته كثير، لا ينجو إلا المخلصون، ومن تخلّفت عنه هذه المعارف، ساء ظنه بربه -عز وجل-، كما قال الله -عز وجل-: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ...) [آل عمران: 154]، وقوله: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ...) [الفتح: 6]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فمن ظنّ بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده، ويؤيد حزبه ويعليهم، ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وبأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته". ثانيًا: كثرة الإخفاقات والفشل: تكرار الفشل، ودوام التعثر من الأمور التي تصيب الدعاة بالإحباط وتجعل اليأس يتسرب إلى قلوبهم، وما من عمل إلا وهو عرضة للفشل والنجاح، ومن منّا قضى حياته كلها في نجاحات مستمرة؟! وكذلك العكس، فالحياة ما هي إلا حلقات متواصلة من النجاح والفشل، والفوز والإخفاق، وبالنظر إلى أحوال أمتنا الإسلامية عبر العصور يجدها كانت ظاهرة منتصرة قوية في أوائل أمرها، ثم أخذت في التراجع والانحدار شيئًا فشيئًا، ولكنها في كل مرة كانت تتعرض فيها لكبوة أو نازلة، كانت سرعان ما تسرد عافيتها، وتواصل مسيرتها، ولو وقفت يومًا عند مصائبها وهزائمها، ودب اليأس إليها؛ ما ظلت على قيد الحياة لوقتنا الحاضر، وإلى قيام الساعة. أيضًا الفشل والإخفاق هذا ليس من حظ الأمة الإسلامية وحدها، فأعداء الأمة يألمون ويفشلون ويخفقون، وقمة إخفاقهم أنهم لم يستطيعوا حتى الآن القضاء على الأمة الإسلامية، ولهذا المعنى أشار المولى -جل وعلا- في كتابه الحكيم: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) [النساء: 104]، فأعداء الأمة والمتربصون بالدعاة مهما بلغت قوتهم، فهم أمام قوة الله وقضائه وقدره لا شيء مطلقًا، ومجتمعاتهم الموصوفة بالتقدم والرقي والازدهار، تعج بالجريمة والفساد والانحراف والإلحاد، بل وتعج باليأس والتيه والإحباط، ولعل معدلات الانتحار في هذه المجتمعات الراقية! خير دليل على مدى الفشل الذي عليه هذه المجتمعات. ثالثًا: الانفراد: فالعمل الجماعي الذي تتكامل فيه الجهود، وتتناسق فيه الخطط والاستراتيجيات، ويشترك فيه أطياف التيار الدعوي الكبير في الأمة، عمل تتزايد فيه فرص النجاح، ما سيحجم فرص ظهور داء اليأس بين الصفوف، وفي المقابل فإن العمل بصورة فردية، وشيوع ثقافة الاعتداد بالنفس، والانفراد بالرأي، والإصرار على العمل بصورة فردية؛ أدى لسلسلة متتابعة من الإخفاقات، دفعت ثمنها الدعوة الإسلامية والعمل الخيري والتطوعي، والنتيجة الطبيعية الشعور بالإحباط واليأس، وإذا دبّت القطيعة بين أبناء الأمة الواحدة، وعلتها الفرقة والاختلاف؛ زال الأمل في الإصلاح، وخفت صوت الرجاء والتفاؤل، وحل اليأس والإحباط. رابعًا: معايشة اليائسين: فالطباع سرّاقة، وأمراض القلوب معدية، والصاحب ساحب، ومعايشة ذوي الهمم الساقطة والعزائم الخائرة تقود حتمًا إلى الفشل واليأس، وجيش الأرانب الذي يقوده الأسد، ينتصر على جيش الأسود الذي يقوده الأرنب، فضعف الهمم وفتور العزائم ونزول الإرادات كلها مغذيات لليأس والإحباط؛ لأن الدنيا مليئة بالصعاب والعقبات التي تحتاج إلى العزيمة الصادقة والهمة العالية حتى يتجاوزها المرء، وبدونها يبقى خلف الحواجز أبد الدهر أسير ضعفه وخنوعه. اليأس والإحباط أصبح اليوم ظاهرة كونية عالمية لا يعاني منها بعض الدعاة فقط، بل يعاني منها الكثيرون من أبناء الأمة الإسلامية، لذلك فروشتة علاج هذا الداء الفتاك تبدأ من تقوية العقيدة في قلوب المسلمين، وتربيته على الصلة القوية بربهم -جل في علاه-، فالمعرفة الحقة بأسماء الله وصفاته ونعوته وآلائه وسننه في الكون والخلق والحياة تورث الإنسان يقينًا راسخًا وإيمانًا حيًّا. أيضًا لابد من مطالعة سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتعرف على أيامه ولياليه وكفاحه وجهاده في سبيل الله، كيف مرت به الشدائد والمحن والابتلاءات وهو راسخ كالطود العظيم، صابرًا محتسبًا متفائلاً موقنًا بأمر ربه، لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلاً، وعلى دربه سار الصحب الكرام، صادفتهم الشدائد والنوازل الكبرى من حركات للردة، وفتن واضطرابات وتكالب للعدو داخل الجزيرة وخارجها، ومع ذلك فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، فالقلوب بربها موصولة، وبوعده واثقة، لذلك بنوا الأمجاد وشيدوا الحضارات وأقاموا الممالك الكبرى. أيضًا يجب علينا أن ننظر إلى فضل الله وكرمه ولطفه الخفي، وكيف أن الدين ينتصر وينتشر بكل قوة رغم قلة الإمكانات وكثرة المؤامرات، والإحصائيات الحديثة عن أعداد من اعتنق الإسلام في دول الغرب تبعث في قلوب أشد الناس يأسًا أملاً في نصر الله -عز وجل- لهذا الدين.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (4) رد النصيحة ورفض النقد شريف عبدالعزيز من الأمراض الشائعة في أوساط العاملين لدين الله، والتي تعد حجر عثرة على طريق الدعوة إلى الله؛ مرض رد النصيحة ورفض النقد، ذلك الداء الخطير الذي تسبب في إصابة جسد الدعوة بالكثير من الأمراض والآفات والعيوب، بسبب إصرار البعض على رفض نصيحة إخوانهم، والتمسك بآرائهم وقراراتهم، واعتبارهم عين الصواب، ما أورث العمل الدعوي الكثير من الويلات والأزمات. النقد لغة هو نقر الشيء لاختباره أو لتميز جيده من رديئه، تقول: نقد الطائر الفخّ، ونقدت رأسه بإصبعي، ونقد الدراهم والدنانير، ومعناه أيضًا وقوع الفساد في الشيء، فتقول: نَقِدَ الشيء نقدًا أي وقع الفساد فيه، ومنها نقد الضرس أو القرن، أي وقع فيه السوس والفساد، ومنها أيضًا المناقشة في الأمر، فتقول: ناقده الأمر أي ناقشه فيه، أما في الاصطلاح فالنقد إظهار عيب الشيء بغية إصلاحه وتقويمه وبيان جيده من رديئه. أما النصيحة فلها عدة معانٍ في اللغة؛ منها: تخليص الشيء من شوائبه، ومنها قولهم نصح الثوب أي أصلحه من الخرق، ومنها نصحت العسل أي خلصته من شوائبه، ومنها التوبة النصوح أي الخالية من شوائب العودة إلى المعصية، ومن معاني النصيحة في اللغة أيضًا الآلة التي تخلص الشيء من شوائبه مثل إبرة الحائك، ومصافي النحّال، أما في الاصطلاح فالنصيحة هي كلمة جامعة معناها الإرشاد بالأسلوب المناسب والوسيلة المناسبة إلى تخلي المرء عن كل ما فيه من عيب وفساد، فهي كلمة من وجيز الألفاظ، بل هي أجمع كلمة لخير الدنيا والآخرة في العربية، قال الخطابي: "النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له". رفض النقد ورد النصيحة على قائلها عبارة عن خليط من أسوأ المركبات النفسية عند البشر، فهو خليط من التعالي والتكبر والمعاندة والعجب والغرور والازدراء، فرافض النصيحة وراد النقد إنسان تضخمت ذاته حتى رأى نفسه أعلى من مستوى من ينصحه، وفوق مستوى النقد لكمال خصاله ورجاحة عقله. وقد وقف الشارع الحكيم موقف النكير على من يرفض النصيحة ويرد النقد دون مبرر مقبول أو سبب معقول، فقال -عز وجل-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) [الكهف: 57]، قال المفسرون: "لا أحد أظلم ممن هذه صفته؛ أن يعرض عن الآيات بعد الوقوف عليها بالتذكير". وتوعد الله من أعرض عن آياته ورفضها بالانتقام فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) [السجدة: 22]، وقد ورد في معرض السياق القرآني عن حوار أنبياء الله مع أقوامهم، كيف كان رفض النصيحة من أهم أسباب هلاكهم، فقال في شأن قوم صالح: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 79]، وقال في شأن قوم شعيب: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) [الأعراف: 93]، والله -عز وجل- جعل رفض النصيحة من شيم المنافقين وخصال المجرمين المفسدين، فقال سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة: 206]، وقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 11، 12]، وقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) [المنافقون: 5]. وكان السلف -رضوان الله عليهم- أشد الناس قبولاً للنصيحة والنقد، لا يرون أية غضاضة في الاستماع إليها والعمل بها والوقوف عندها، فهذا عمر -رضي الله عنه- يقول: "رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي"، وقال رجل له: اتق الله يا عمر، وأكثر عليه، فقال له قائل: اسكت فقد أكثرت على أمير المؤمنين، فقال له عمر: "دعه؛ لا خير فيهم إن لم يقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها". وعن جبير بن مطعم أن نفرًا أثنوا بشدة على عمر -رضي الله عنه-، فقال عوف بن مالك وكان سامعًا: كذبتم والله، لقد رأيت بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا من عمر: أبا بكر، فقال عمر: "صدق عوف، وكذبتم، ولقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك، وأنا أضل من بعير أهلي". يعني قبل أن يسلم. وقال رجل لمعاوية: "والله لتستقيمنّ بنا -يا معاوية- أو لنقومنّك، فقال: بماذا؟! فقال: بالخشب، فقال: إذن نستقيم". وكان الخلفاء والأمراء والملوك يستمعون إلى نصائح الوعاظ والزهاد والصالحين فتحرك أفئدتهم وتهتز لها نفوسهم، وأخبار عمر بن عبد العزيز، وهارون الرشيد، والسلاطين الأتراك وغيرهم كثيرة وجليلة. فما هي إذًا الأسباب التي تدفع بعض الدعاة إلى رفض النصيحة ورد النقد، والتعامل بخشونة مع الناصحين والناقدين؟! الحقيقة أن هناك أسبابًا كثيرة لرفض النصيحة؛ بعضها يتعلق بالناصح، وأغلبها يتعلق بالمنصوح، ومن هذه الأسباب: الأول: افتقاد آداب النصيحة: فللنصيحة آداب وشروط وضوابط تجعلها سهلة على النفس، يسيرة على الآذان، تقبلها القلوب بسرعة وسلاسة؛ منها: اختيار الوقت المناسب، والحالة المزاجية المواتية، وانتقاء أفضل الألفاظ، والبدء بالثناء والمدح، وإبراز المحاسن، والرفق في العرض، ومنها دقة التحري والتأكد من العيب والمشكلة، ومن أهمها مراعاة السرية حتى لا تتحول النصيحة إلى فضيحة، خاصة مع أولي الفضل والخير والوجاهة، ومنها ترك الجدال واللجاجة والخصومة، ومنها الإخلاص وابتغاء وجه الله من الأمر، وإرادة الخير للمنصوح، دون شماتة أو معايرة أو إذلال، وربنا -جل وعلا- يرشدنا إلى هذه الآداب حتى مع رؤوس الكفر أنفسهم، فقال لنبيه موسى -عليه السلام-: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 43، 44]، وفي موضع آخر قال: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى) [النازعات: 18، 19]. إذا غابت تلك الآداب والشروط فإن النصيحة تتحول بحق كثير من الناس إلى فضيحة أو عداوة، ولم تؤتِ ثمارها، ورفضها السامع وأعرض عنها. ثانيًا: العجب والغرور والتكبر: وهو عادةً السبب الأكثر شيوعًا في رفض النصيحة ورد النقد، فالمنصوح أو المنتقد قد يرى نفسه أرفع وأكبر من النقد، وذاته أرقى وأعظم من النصيحة، أو أن الناصح دونه في الفضل والقدر والعلم، وبالتالي لا يقبل من نصح ولا نقد، والله -عز وجل- وصف هذه النوعية من البشر بصفات شديدة فقال: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة: 204- 206]، كما قصّ علينا قصة قارون مع قومه وماذا رد عليهم عندما نصحوه: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) [القصص: 78]، ذلك كان الحساب على هذه الآفة الخطيرة بالذرة، فقال خير المرسلين -صلوات ربي وتسليماته عليه-: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". والعجب بالنفس قد يدفع البعض للشعور بدونية ناصحه وقلة شأنه، مع أن الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، وتقبلها من صغير كان أم كبير، الإمام الداخلي شيخ الإمام البخاري قبل نصيحته وعدل إلى رأي البخاري على الرغم من كون البخاري وقتها كان في الحادية عشرة من العمر، والداخلي إمام وقته وزمانه في نيسابور. ثالثًا: العداوة والخصومة: فقد يكون ثمة عداوة قديمة وخصومة من قبل تمنع المرء من قبول النصيحة أو تفهم النقد، لأنه سيحيل هذه النصيحة والنقد إلى العداوة والخصومة القديمة، وسيظن أن ناصحه يتشفى منه، أو يفتري عليه، وهذا بديهي بالأعداء، لا يقبلون من بعضهم البعض، خاصة إذا كانت العداوة بسبب عقدي أو فكري أو منهجي، والنصيحة في نفس ذات الباب، فالمؤمنون مثلاً لا يقبلون من المشركين دعوتهم بالإلحاد أو الشرك أو الوثنية أو تبادل المعبودات، وكذلك العكس من الكافرين، قال تعالى: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) [البقرة: 145]. رابعًا: المراء والجدل واتباع الهوى: فالإنسان المجادل كثير المراء يصعب إقناعه بسهولة، فهو ذو رأس صلد، لا يتنازل عن رأيه إلا نادرًا، وهو يرفض بشدة أن يكون في موضع الضعيف أو المنهزم أو الراضخ لرأي وتوجيه غيره، قال تعالى في حق قوم نوح وما هم عليه من مراء وجدال: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ) [هود: 32]، والرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن تراك المراء وهو على حق". وفي الأثر: "ما ترك قوم العمل ألقي عليهم الجدل". أما اتباع الهوى فهو معبود الضالين ومتبوع الحائرين وشعار المعاندين، من اتبعه أرداه، وعن سبيل الهداية نحاه، ذمه الله -عز وجل- في آيات كثيرة، فقال -سبحانه وتعالى-: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص: 50]، وقال: (وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26]، وقال: (أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) [الفرقان: 43]. خامسًا: البيئة المحيطة: دائمًا ما يكون للبيئة والوسط الذي ينشأ فيه الداعية أثر واضح على سلوكياته وأخلاقياته وقراراته، فقد ينشأ الداعية في وسط أسري أو دعوي يرفض فيه أفراده مبدأ التناصح والتناقد فيما بينهم، كل واحد منهم يعيش منعزلاً في عالمه الخاص، وفي جزيرته وحده، لا يقبل نصحًا ولا نقدًا من غيره، والمحاضن الأولى عادة ما يكون لها أعظم الأثر في مسيرة الإنسان وحياته، لذلك يجب الاهتمام بإصلاح بيئة الدعاة وأوساطهم الحياتية؛ لأن هذا الداء إذا دخل في وسط أفسده، وجعله مليئًا بالآفات والعيوب والأخطاء التي لا تجد من يقومها ويبصرها باعوجاجها. إن ترك النصح ورفضه، والإعراض عن النقد ورده من الأمور الخطيرة في حياة الدعاة والدعوات؛ لأن الداعية والدعوة وقتها تفتقد أفضل آليات مواجهة الأخطاء الداخلية، والقرآن قصّ علينا مصارع الظالمين الذين رفضوا النصح والإرشاد من أنبيائهم ورسلهم، وسورة الأعراف وهود زاخرة بهذه الأخبار، كما أن رفض النصيحة ورد النقد يجعل الإنسان موضعًا لسخرية الآخرين، موضعًا للإهانة والمهانة من الله -عز وجل- ومن عباده المؤمنين، كما قال تعالى: (وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج: 18]، أيضًا هذا المرض لو تسرّب في وسط فإنه ينتشر بسرعة بين الكبار والصغار، فالناشئة قلوبهم معلقة بالكبار والشيوخ والرموز، فلو وجدوهم متلبسين بهذه الآفة، اقتدوا به دون نظر للعواقب والآثار، كما أن هذا المرض يوقف عجلة الإنتاج والتنمية والعطاء الدعوي، أو يقحم الدعوة والداعية في مواجهات متعجلة أو قرارات خاطئة تطيح بجهد وعرق سنوات، والعجلة آفة ولدت من رحم آفة أشد منها وهي رفض النصيحة ورد الانتقاد. فلابد من أن يعرف كل داعية حقيقة نفسه، ويضعها في قدرها اللائق بها، فلا هو بأفضل من الصحابة وسلف الأمة -رضي الله عنهم- الذين كانوا يقبلون النصح من كل أحد، وليكن شعاره: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف: 53]، كما عليه أن يضع بين عينيه دائمًا عواقب ومصارع ومصائر من رفض النصيحة ورد النقد من الأمم السابقة، وأن يربي نفسه على التواضع وخفض الجناح واللين والرفق مع إخوانه وأهله وأمته، لتحرر نفسه من أسر الداء الفتاك؛ العجب والكبر والغرور، وتصفية خصوماته أولاً بأول حتى لا يبقى موضع عثرة أمام نصح الآخرين والاستماع لهم، كما عليه أن يربي نفسه وغيره على استحضار مشاهدة الله ومراقبته في كل كبيرة وصغيرة، حتى تكون نفسه تواقة للخير والإصلاح دائمًا، ما سيجعله يفرح بمن ينصحه وينتقده، كفرحه بمن يمدحه ويثني عليه، وبهذه الأمور تحرّر نفسه من آفات وأدواء كثيرة، وتستقيم مسيرته الدعوية ورحلته الدنيوية وجائزته الأخروية.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (5) المراء والجدل شريف عبدالعزيز من أبرز الأمراض التي تعيق العمل وتوقف عجلة الإنتاج وتورث الخصومة والعداوة بين الناس عامة والدعاة خاصة ؛ مرض المراء والجدل في كل شيء وكل مسألة تهم الدعوة ، وهو ما سنحاول الوقوف عليه لمعرفة حقيقته وأبعاده ومظاهره وأسبابه وكيفية النجاة منها ومداواة آثاره . المراء في اللغة له عدة معان ، أهمها : الشك ، فيقال : امترى في الشيء : يعني شك فيه ، ومنه قوله سبحانه في محكم التنزيل ( الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) [ البقرة 147] ، ومنها مخالفة الغير والتلوي عليه وعدم الوضوح معه ، فيقال : مارى فلان فلانا : أي خالفه ولم يكن واضحا معه ، ومنها المناظرة ، فيقال مارى فلان فلانا : أي ناظره وجادله ، ومنها قوله سبحانه ( فلا تمري فيهم إلا مراء ظاهرا ) [ الكهف 22] ، ومنها استخراج الشيء من مكمنه ، ومنه امترى الناقة : أي حلبها واستخرج ما فيها من لبن ، ومنها التزين والتجمل ، فيقال : تمّرى بالشيء : أي تزين وتجمل به . أما الجدل في اللغة فله عدة معان ، أهمها : الصّرع والغلبة ، فيقال : جدل الرجل : أي صرعه وغلبه في الجدل ، ومنها الإتقان والحسن ، فيقال : جدل الحبل جدلا ، أي احكم فتله ، وجارية مجدولة الخلق أي حسنة الخلق ، ومنها شدة الخصومة والمناقشة ، فيقال : جادله مجادلة وجدالا أي ناقشه ومنها قوله سبحانه ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) [ العنكبوت 46] ، ومنها قوله ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ) [ المجادلة 1 ] ، ومنها مقابلة الحجة بالحجة ، فيقال : جادل فلان فلانا : أي قابل حجته بحجة من عنده . أما في الاصطلاح فالجدل والمراء : " هو كل اعتراض على كلام الآخرين بإظهار الخلل فيه ، أما من حيث الظاهر أو الباطن ، وقصد إفحام الغير ، وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه ، ونسبته إلى القصور والجهل فيما يتكلم ، والمراء أعم من الجدل ، إذ جرت العادة على أن المجادلة في الأمور العلمية والدعوية ، والمراء يشمل الأمور كلها " ومن خلال هذا التعريف يتضح لنا أن مظاهر وصور الجدل والمراء تدور على قاعدة أساسية وهي الانتقاص من الآخرين ، وتقليل مكانتهم وقدرهم وربما احترامهم ، أما في ظاهر كلامهم أو مقصده ومعناه ، ونية المتكلم ، لذلك كان حكم الإسلام في هذه الطريقة من التحاور مع الآخرين واضحا لا لبس فيه ، فهو مذموم مكروه ، وهذا ما دلت عليه نصوص الوحيين من الكتاب والسنة المطهرة : قال تعالى ( فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا ) [ الكهف 22] ، وقال ( ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ) [ الشورى 18 ] ، وقال ( بأي آلاء ربك تتمارى ) [ النجم 55] ، قال ( قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ) [ الحجر 63] وقال ( وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان نكير ) [ غافر 5 ] وقال ( الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطن أتاهم كبر مقتا عند الله ) [ غافر 35] وآيات أخرى كثيرة . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا ، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا ، وببيت في أعلى الجنة لمنم حسن خلقه " وقال " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل " وقال " أبغض الرجال الألد الخصم " ولا يستثنى من هذا الذم كله إلا الجدال بالحسنى مع من يريد أن يعرف طريق الحق والهدى إن كان متلبسا ببدعة أو شبهة أو تأويل فاسد ، قال تعالى ( ولا تجادوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) [ العنكبوت 46] وقال ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) [ النحل 125] . والمراء والجدل من الأمور المركوزة في النفس البشرية ، قل من يسلم منها ، لأنها تحتاج إلى مجاهدة ومكابدة للنفس والذات ، فهو يترك على الناس والدعوة آثارا خطيرة ويورث أضرارا عظيمة أبرزها : قسوة القلب ، فالجدل والمراء مبني على الكلام الكثير عديم الفائدة ، ولا طائل من ورائه سوى إفحام الخصم ، والغالبة عليه ولو بالباطل ، وكثرة الكلام الفارغ عديم الفائدة بغير ذكر الله يورث قسوة القلب وفي الحديث " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب ، وإن أبعد الناس من الله تعالى القلب القاسي " ، ومنها أيضا القطيعة والشقاق ؛ فإن المراء والجدل يجعل المرء كثير المشاحنات مع غيره ، وكثير الرفض لكلام الآخرين ، ودائم التسفيه والتحقير لرأي غيره ، مما يوجب البغض والقطيعة والتآمر من الآخرين ، وطبيعة البشر أنهم يكرهون ويبغضون من يسفه كلامهم ويحقر منها ، قال الإمام مالك رحمه الله " المراء يقسي القلب ، ويورث الضغائن " ، ومن آثاره الخطيرة أيضا ضياع الهيبة وسقوط المروءة ، لأن الجدل والمراء يدفع لئن يقدم المتجادل لئن يكشف كل الأسرار ويهتك كل الخصوصيات ، من أجل تحقيق الغلبة بأي سبيل ولو كانت غير مشروعة ، وربما أقدم على الكذب والشتم والسب ، فتضيع هيبته وكرامته ومكانته ، ومنها أيضا الفرقة والتمزق في الصف الدعوي بسبب كثرة المخاصمات والمجادلات ، ومنها ترك العمل والانشغال بالجدليات والمناظرات العقيمة ، وقديما قالوا " ما ترك قوم العمل إلا ضربهم الله بالجدل " . وغير ذلك من آثار المراء والجدل . ومن أهم الأسباب التي تدفع المرء لئن يدخل من مجادلات ومراء ومناقشات عقيمة مع الآخرين : أولا : عدم الالتزام بآداب النصيحة فإن من لم يلتزم بآداب النصيحة مع المتكلم ، من الإسرار بها وانتقاء الأسلوب المناسب ومراعاة الإخلاص، فإن ذلك يدفع من يتلقى النصيحة لرفضها والمكابرة فيها ، حيث يتولد في نفس المنصوح نوعا من العزة بالإثم ، يترجم في شكل جدال ومراء لا ينتهي ، حيث يؤكد على أهمية وخطورة مراعاة آداب النصيحة ، وأنها ربما ترقى لدرجات الواجبات لأن تركها وتجاهلها يولد أنواعا مختلفة من الشرور والإحن . ثانيا : تضخيم الذات فبعض الدعاة قد لنفسه فضلا وعلما ومنزلة لا يشعر بها كثير من الناس ، قد يري نفسه في منزلة ومكانة لا يليق بها في أوساط الدعاة ، أو أنه جدير أن يرقى لمصاف الكبار ، وهو لم يرش بعد ، فيحاول أن يثبت نفسه ، فيضخم ذاته بمعارضة الآخرين ، والجدل والمراء في كل قضية تظهر على الساحة ، ولا عجب لو رأينا بعض الدعاة دائم التطبيق لقاعدة " خالف تعرف " حتى ولو كان فيما أجمع عليه الناس ورضيه الدعاة والمصلحون ، ليذكر اسمه ويرى مكانه ، في زمن يبحث فيه الإعلام عن أمثال هؤلاء ، وقديما عندما بال الإعرابي في زمزم وتعجب الناس من صنيعه قال " أحببت أن أذكر ولو باللعن " . وربما يقود تضخيم الذات إلى الوقوع لما هو أعظم من ذلك وهو الغرور والعجب بالنفس والتكبر على خلق الله ، ولو نظرت لكثير ممن يجادلون بغير الحق لوجدت هذا الداء الوبيل في قلوبهم معشعشا ، وإبليس هو أول من جادل ومارى في الحق عندما أمره ربه عز وجل بالسجود لآدم عليه السلام ، فرفض الأمر ، وجادل بقوله ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) [ ص 76] ، قال تعالى في موضع آخر كاشفا العلاقة بين الجدل والكبر ( إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ) [غافر56] . ثالثا : رفض الهزيمة النفس البشرية بطبيعتها تحب الانتصار وتكره الهزيمة ، وهذه الطبيعة البشرية إذا تجاوزت حدها المعتاد فإنها تتحول إلى حائط صد مستمر نحو الإقرار بالخطأ والاعتراف بالهزيمة ، وللأسف الشديد هذا هو حال كثير من الناس ، فتجدهم يتخذون الكثير من الوسائل لتبرير مواقفهم وأرائهم ، وعلى رأس هذه الوسائل المراء والجدل ، لذلك كان الإسلام حريصا على تربية أتباعه على قبول الحق والإنصاف ولو من النفس ، قال تعالى ( يا أيها الذين كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين .. ) [ النساء 135] ، وقال ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى .. ) [ المائدة 8] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، وبذل السلام للعالم ، والإنفاق من الإقتار " ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يري الرأي فيراجعه فيه أصحابه وزوجاته ، فيرجع إلى قولهم ، وربما كان رأيه الصواب ورأي من يراجع أقل صوابا ، كما حدث يوم أحد ، ومع ذلك يرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قولهم ليؤدبهم ويعلمهم قبول الرأي الآخر . رابعا : الاشتغال بعلوم الجدل والمناظرة البناء العلمي للطلبة والدعاة من الأمور الأساسية في استقامة سير الدعاة والعلماء ، فالعلم هو الأساس المتين الذي ينطلق منه الدعاة ، وقاعدة الانطلاق الصحيح نحو التمكين ، ولو حدث أي خلل في هذه القاعدة فإن تأثيره السلبي سيمتد طوال مسيرة الداعية ، ستجلى في مواقفه وأرائه وقراراته التي سيشوبها دوما هذا الخلل ، ولو نظرت إلى الداعية المصاب بداء الجدل والمراء ، لوجدته في مرحلة الطلب قد أهمل علوم الكتاب والسنة ، وتوسع في علوم الجدل والمناظرة والمنطق والفلسفة وغيرها من علوم الكلام ، وهي علوم لا تقوم إلا على الجدل والشك والمراء وإفناء الأعمار في إثبات وجود الصانع ! ولعل هذا الخلل هو الذي أوجد في الإسلام عشرات الفرق الضالة والمذاهب المخالفة لأهل السنة والجماعة مثل المعتزلة والجبرية والقدرية والصوفية والشيعة بفرقها الكثيرة ، لذلك نهى كثير من أهل العلم عن تعلم هذه العلوم السقيمة التي تقتل الروح وتسلب الإيمان وتورث اللجاج و الخصومة والجدل والشك في كل شيء . خامسا : غياب التقوى فالقلب إذا كان فارغا من التقوى ومن معرفة الله عز وجل ، خالطته الأسقام والأحوال الرديئة ، وتاه في زحمة الشهوات ، فالتقوى تحمل النفس على قبول الحق والإذعان له والوقوف عنده ، وترك الجدل والمراء فيما استبان الحق فيه ، لذلك كان من الخطورة بمكان ترك مراقبة القلب وأحواله وتقلباته ، في الوقت الذي فيه عدو متربص ـ الشيطان ـ لا يكف عن التزيين والتضليل والإغواء ، وفي الوقت التي تطالب النفس فيه بحظها ونصيبها من شهوات الدنيا ، ومن ذات المنطلق حض الإسلام على استثمار الفراغ وتنويع العبادات ومحاسبة النفس باستمرار ، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله .. ) [ الحشر 18 ] .
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (6) هل يتقاعد الداعية؟ (القعود عن الدعوة) شريف عبدالعزيز سؤال يتردد في أذهان كثير من الدعاة ، هل ممكن أن يتأتي علىّ اليوم الذي اعتزل فيه العمل لدين الله ، وأقعد عن خدمة هذا الدين ، وأحال فيه إلى التقاعد ؟ فبعض الدعاة بعد أن تقدمت بهم السن ، وثقلت بهم الهموم ، واجتاحتهم شواغل الدنيا ، وكثرت مسئولياتهم الدنيوية ، وأعباؤهم الأسرية ، وتكاثرت عليهم ضغوط العمل الدعوي ، يهتف في آذنه هاتف يقول له : آن لك أن تستريح ، وتلتفت لنفسك وبيتك وأولادك ومصالحك ، فيغالب هذا الوسواس تارة ، ويدافعه تارة أخرى ، ولكن مع كثرة الضغوط يبدأ في الاستسلام ، وعندها يقرر بعض الدعاة أن يحيل نفسه إلى التقاعد ، ويكتفي بما قدمه من خدمات للدين والدعوة ، ويحيي بقية أيامه مجترا لذكريات الدعوة وأيامها الجميلة ، شأنه في ذلك شأن الموظفين الحكوميين الذين يبلغون سن التقاعد ، ويقضون ما بقى من أيامهم على راتبهم التقاعدي الذي نالوه في مقابل عملهم لسنوات في الحكومة . فما الذي يدفع بعض الدعاة إلى التقاعد عن الدعوة ، والقعود عن خدمة الدين، والبذل والعطاء في سبيل الله؟ القعود في لغة العرب له عدة معان منها : الجلوس بعد قيام ، ومنها الانقطاع وترك الأمر أو التأخر عنه ، يقال : قعدت المرأة عن الحيض والولد أي انقطعت ، وقعد عن الأمر أي تركة وتأخر عن القيام به ، ومنها الاحتباس عن الشيء ، ومنها عدم الاهتمام بالأمر ، ومنها أيضا الداء الذي يصيب الجسم فيقعده ، ولو نظرنا إلى هذه المعاني كلها لما وجدنا أي تعارض بينها ، فكلها تفيد معنى عام وهو الانقطاع عن الأمر بأي وصورة كان هذا الانقطاع . أما في الاصطلاح ، فتقاعد الدعاة أو قعودهم: هو مرض يصيب بعض الدعاة لدين الله من داخله يعوقه عن مواصلة السير في الطريق إلى نهايته أو الثبات عليه ، أو على الأقل هو متأخر عن الركب دون اكتراث أو مبالاة. والقعود مذموم في دين الله عز وجل ، وورد في كتاب الله عز وجل ذكر القعود والقاعدين في عدة مواضع ، ذكرت جميعها بالذم الشديد والنكير الأكيد ، إلا من كان قاعدا بعذر شرعي مقبول من فقر ومرض ، منها قوله عز وجل ( وقيل اقعدوا مع القاعدين ) [ التوبة 46] وفيها قال المفسرون المراد بالقاعدين : الذين من شأنهم القعود والجثوم في البيوت كالنساء والصبيان والزمني والرجال الذين يكون لهم عذر يمنعهم عن الخروج ، والله عز وجل جعل القعود من صفات المنافقين ( الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) [ آل عمران 168] قال ابن جرير أنها نزلت في عدو الله رأس النفاق عبد الله بن أبي. أيضا ورد القعود في ذم بني إسرائيل الرافضين لدعوة موسى عليهم السلام لجهاد الكفار ودخول بيت المقدس ، وقعودهم كان مزيجا من الاستهزاء والاستهانة والجبن والرد لأوامر الله ، قال تعالى ( قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ) [ المائدة 24] ، ومنها قوله عز وجل ( وإذا أنزلت سورة أن أمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استئذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ) [التوبة 86] وقوله ( وجاء المعذّرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ) [ التوبة 90] والآيات كثيرة وإن كان أكثرها في المنافقين واليهود إلا أنها توحي بذم القعود مطلقا بغير عذر ، سواء انتهى بصاحبه إلى أن يكون منافقا كهؤلاء الذين نزلت في شأنهم هذه الآيات ، أو يكون مسلما عاصيا معصية كبيرة . ولتقاعد الدعاة عن الدعوة عدة مظاهر وصور وأشكال ، فبعض الدعاة يتقاعد في هدوء وسكينة ، والغالبية منهم يثير قدرا كبيرا من المشاكل ، والإشكاليات في العمل الدعوي ، من أجل تبرير تركه للعمل وقعوده عنه ، حتى يبرئ ساحته من تهمة الكسل والانقطاع . ومن صور القعود عن الدعوة : أن يتقاعد الداعية عن دعوته في هدوء ودون ضوضاء ، مع بقائه على استقامته في نفسه وولده وهؤلاء قليل ، ومنها أن يتقاعد عن العمل ، ويتفرغ للهجوم على أقرانه العاملين لدين الله ، تارة بانتقاصهم ، وتارة بالطعن في أعمالهم أو ذواتهم ، أو مناهجهم ، وتارة بتأييد من ينتقصهم ، ومنها أن يتقاعد عن العمل ، ويسعى بعد ذلك لإفشال العمل بالكلية ، أما إفشاله منهجيا ، أو إفشاله حركيا ، أو إشاعة بعض أخطاء العاملين وكشف الستر عنها لتنفير الناس منهم ، ومنها ليّ أعناق النصوص ، أو استخدامها في غير موضعها ، لتبرير ما عليه من قعود وانقطاع . أما عن أسباب هذا المصير الأليم ، وهذا الموت المبكر للدعاة بقعودهم عن الدعوة ، فكثيرة ومتنوعة ، من أهمها: أولا : المعاصي والذنوب فالمعصية هي أساس كل خذلان ولب كل نقصان ، والسبب الرئيسي لكل انقطاع وفتور وقعود يصيب الإنسان ، فتلطخ المسلم بالمعاصي كبيرها وصغيرها ، ظاهرها وباطنها ، ثم لم يبادر بالتوبة والرجوع إلى الله عز وجل ، فإن هذه المعصية ستؤدي إلى مرض قلبه وربما موته والعياذ بالله ، ويفقد بعدها القلب سيطرته على الجوارح ، فتتسلط عليه الشياطين والشهوات وزخارف الدنيا ، قال تعالى واصفا سبب جرائم بني إسرائيل ( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) [ البقرة 61] ، قال ابن القيم رحمه الله " أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداءه ، ويعينهم بها على نفسه ، فيقاتلونه بسلاحه ، ويكون معهم على نفسه ، وهذا غاية الجهل ، فما يبلغ الأعداء من جاهل ، ما يبلغ الجاهل من نفسه " ثانيا : التوسع في المباحات الله عز وجل وإن كان قد أباح لنا التمتع بزينة الحياة الدنيا ، ولم يحرّمها علينا رحمة بنا ، إلا إنه قد وضع ضوابط لهذا التمتع والتنعم ، ومن أهم هذه الضوابط التوسط والاعتدال ، فقال سبحانه ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) [ الأعراف 31] ، ويوم أن تغيب هذه الحقيقة عن الداعية فإنه يغب من المباحات غباً ، خاصة إذا كان يعيش في بيئة تميل إلى هذا السلوك غير الانضباطي ، وينشغل بتحصيل لذاته وتلبية رغباته وإشباع شهواته ، ظاناً أن هذا لا يؤثر عليه ما دام مباح ومن حلال ، وبالتالي لا يقوى على مواصلة السير في طريق الدعوة المليء بالفتن والابتلاءات والمكاره ، وقد تنبه السلف رضوان الله عليهم لهذه الحقيقة ، فقالت عائشة رضي الله عنها " إن أول بلاء حدث في الأمة بعد نبيها : الشبع ، فإن القوم إذا شبعت بطونهم ، سمنت أبدانهم ، فضعفت قلوبهم ، وجمحت شهواتهم " ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه " إياكم والبطنة في الطعام والشراب ، فإنها مفسدة للجسد ، ومورثة للسقم ، ومكسلة عن الصلاة ، وعليكم بالقصد فيهما ، فإنه أصلح للجسد ، وأبعد عن السرف ، وإن الله ليبغض الحبر السمين ، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه " . ثالثا : حب الدنيا الدنيا إذا تمكنت من قلب الداعية ، فإنها تحمله على حبها والركون إليها ، والاطمئنان والرضا بها ، ونسيان الآخرة والغفلة عنها ، ومن ثم ترك الآخرة والعمل لها ، وهذا هو عين القعود ومعناه الحقيقي ، ولقد أوضح الله عز وجل أن حب الدنيا والرضا بها من أهم أسباب القعود عن نصرة الدين ، فقال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) [ التوبة 38] ، فهذه الآية نزلت في عتاب من تخلف عن الجهاد يوم تبوك بغير على ، وقد بينت أن السبب الحقيقي للتخلف هو إيثار متاع الدنيا على نعيم الآخرة . رابعا : غياب النية الصالحة فتصحيح النية واستحضار أطيبها وأنقاها عند بداية العمل ، يضفي على هذا العمل بركة وقبولا واستمرارية وذاتية تدفع صاحبها لمواصلة العمل والبذل والعطاء ، ومن كانت نيته رضا الله ونفع الدين والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن الله يوفقه ويهديه ويبصره ويثبته ويقويه ويعينه على طول الطريق ومشاقه ، كما قال تعالى ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) [ محمد 17] ، ومن كانت نيته للدنيا والمصالح الخاصة ومن كان بلا نية ، كمن يدخل طريق الدعوة مسايرة لرفاقه ، أو تجربة واختبارا لهذا العمل ، أو للتسلي وقضاء أوقات الفراغ ، فإن عمله بائر وسعيه خاسر ، وحتما سيأتي عليه اليوم الذي يقعد فيه ويتوقف عن العمل ، كما قال الله عز وجل في شأن المنافقين ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ) [ التوبة 43] والإرادة هي النية الصالحة والأخذ بالأسباب . خامسا : الجهل بطبيعة طريق الدعوة فطريق الدعوة طريق طويل وشاق مليء بالفتن والابتلاءات ، يحتاج لأولي العزم والبصيرة والقوة والثبات ، فالمعوقات كثيرة والشهوات أكثر ، والعقبات متتالية ، بيت وزوجة ، عمل وذات ، منصب وجاه ، صحبة ورفقة ، مال وعيال ، فالدعوة طريق من أوسع طرق الجنة ، وطريق الجنة محفوف بالمكاره والمصاعب ، لا مجال فيه للراحة والدعة والسكون ، ومن بدأ هذا الطريق وهو لا يعلم طبيعته فهو حتما لا يستطيع إكماله . سادسا : تغيير المناصب بعض الدعاة ينظر إلى منصب القيادة على أنه تشريف لا تكليف ، ومكافأة وتقديرا لمواهبه وإمكاناته ، غنائم لا تبعات ، وعندما يتحول الداعية صاحب هذه النظرة للقيادة ، من موقع القيادة إلى موقع آخر دونه ، قد ترك العمل بالكلية ، حيث تكبر على نفسه ، ويعتبر تحول المنصب عنه نوعا من المعاقبة والتأديب له ، فيورم أنفه ، ويشرق بريقه ، ويقعد عن العمل لدين الله ، وفي الحديث الطويل " طوبى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعَنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ ، وَإِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ ، طُوبَى لَهُ ، ثُمَّ طُوبَى لَهُ " . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ سابعا : تحميل النفس فوق طاقتها وذلك في أي عمل من الأعمال تكون له في البداية حلاوة ، وقد يلقى من الداعية إقبالا ، واستفراغا لكل ما في وسعه ، وبذلا لكل طاقته ، وربما يرى من يحيطون به هذه الهمة العالية فيلقون ما في أيديهم من واجبات وتكاليف عليه ، وهو لا يمانع في ذلك ، ويمضي في خدمة الدين ، ولكنه بعد فترة من الزمان يجد نفسه قد أنهكه العمل وأضناه ، يجد نفسه قد أهمل بيته وولده ونفسه ، ولم يعط كل ذي حق حقه ، ويصيب بدنه الوهن والمرض ، فيجد نفسه مضطرا للتقاعد والتوقف عن العمل ، فالتعمق وتحميل النفس فوق ما تطيق قصير العمر ، فالبدن مطية السير ، فإن صبرت على التشدد يوما ، فلن تصبر اليوم التالي وهكذا ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " اكلفوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب العمل إلى الله أدومه ، وإن قل " ثامنا : الجهل بحقيقة القعود بالبعض يظن أن في القعود والابتعاد عن العمل الدعوي السلامة والعافية والراحة والبعد عن الفتن ، وذلك من وسواس الشيطان لابن آدم ، وهذا الوسواس يتعاظم دوره في أيام الفتن واستطالة الباطل على الحق ، حيث تكون ضريبة العمل الدعوي عظيمة ، ولا يقوى على تحملها إلا من اصطفاه الله عز وجل ، وهذا الأمر يعد تكذيبا لوعد الله عز وجل من حيث لا يدري ، فقد وعد عباده المؤمنين والسائرين على دربه نبيه بالتمكين والنجاة والفوز والظفر في الدنيا والآخرة ، وربما يدخل عليه الشيطان من مدخل آخر ليبرر له التقاعد عن الدعوة ، فيقول للداعية : أنت كثير الذنوب والخطايا ، وترتكب آثاما عظيمة ستكون سببا في تعويق العمل ونزول البلاء عليه ، وخير لك وللعمل أن تخرج منه ، وأن تبعد عن طريق البررة الأتقياء ، لتحل عليهم السلامة والنجاح ، فإن الشيطان لا يترك سبيلا لإحالة الداعية إلى التقاعد إلا سلكها ولو كانت في ثياب الناصحين . تقاعد الداعية له آثار في غاية الخطورة على الداعية والدعوة والمجتمع الإسلامي ككل ، فالداعية عندما يتقاعد يستفرد به الشيطان ، فمن عاش وحده بعيدا عن أقرناه ، بعيدا عن الأجواء الإيمانية للدعوة ، يكون عرضة لغارات الشيطان ، وما يلبث حتى يقع صريعا في حبائل الشيطان ، وهذا ظاهر ومشاهد بكثرة في صفوف تاركي العمل الدعوي ، لذلك قال الحبيب صلى الله عليه وسلم " فمن أحب منكم بحبوحة الجنة ، فليزم الجماعة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد " ، ومن آثار التقاعد أيضا إضعاف العمل الدعوي ، وتعرضه للإجهاض خاصة إذا كان المتقاعد ممن يحمل مهام كثيرة في العمل ، أيضا مرض القعود واعتزال الدعوة ، مرض معدي تنتشر آثاره بسرعة في صفوف العاملين ، خاصة إذا كان المتقاعد ممن يقتدى بهم ، فعندها تكون الفتنة أشد وأعظم ، في أحيان كثيرة يتحول المتقاعد عن الدعوة إلى سهم في كنانة أعداء الإسلام ، يصوبونه على صدور العاملين لدين الله ، فليتق الله كل متقاعد عن الدعوة ، وليفكر مئات المرات قبل أن يأخذ هذا القرار الخطير الذي ضرره يعم الجميع ، والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين .
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (7) سوء الظن شريف عبدالعزيز من أسوأ الأمراض التي من الممكن أن تكون على طريق الدعوة الإسلامية، هو مرض " سوء الظن "، فهو المرض الذي يعتبر حجر الأساس الذي ينبني عليه كثير من الأمراض والآفات الاجتماعية والدعوية الأخرى، مثل الغيبة والنميمة والتجسس والتحسس والبغضاء والشحناء وفساد ذات البين والشائعات، فهو مرض في غاية الخطورة على المجتمعات المسلمة، فضلا على أن يكون على طريق الدعوة، وبين صفوف العاملين لدين الله عز وجل. سوء الظن في اللغة العربية مكون من كلمتين، السوء وهي كلمة جامعة لكل قبيح، وكل ما يستقبح، وأيضا السوء هو كل ما يسوء الإنسان ويغمه من أمور الدنيا والآخرة، أما الظن فله عدة معان في اللغة منها: الشك، فيقال: بئر ظنون: أي لا يدري أفيها ماء أم لا ؟، ومنها قوله عز وجل ( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ) [ الحج: 45] ومنها التهمة، فيقال: أظن به الناس يعني اتهموه، ومنها قوله عز وجل ( وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ) [ الأحزاب: 10]، ومنها الحسبان والعلم بغير يقين، فتقول: ظننت الشمس طالعة أي حسبتها طالعة، ومنها قوله تعالى ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ..) [ الأنبياء: 87] وقوله ( وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) [ الحشر: 2]، ومنها اليقين، فيقال: ظنّ فلان الشيء بمعنى تقينه، ومنها قوله ( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ) [ البقرة: 46]، وقوله ( إني ظننت أني ملاق حسابيه ) [ الحاقة 20 ]، ولا تعارض بين هذه المعاني كلها، إذ هي تصوير لمراتب الظن من بدايته إلى نهايته، فالظن هو تخمين وتكهن وخاطر يقع في النفس لأمارات تظهر، وقرائن تبدو، فإذا قويت وتأكدت هذه الأمارات والقرائن صارت يقينا جازما، وإذا ضعفت وتلاشت صارت شكا ووهما. أما سوء الظن في الاصطلاح: هو اتهام الآخرين من الدعاة وغيرهم بأوصاف سيئة من غير بينة ولا دليل ولا برهان، أو التخمين الذي ينتهي بوصف الغير بما يسوءهم ويغمهم من كل قبيح من غير دليل ولا برهان. ولقد حرّم الإسلام سوء الظن بكل صوره وجعله مذموما بالكلية، وسوء الظن ذكر في القرآن في مواطن كثيرة جاء أغلب سياقها في شأن الكافرين والمنافقين وضعاف الإيمان ومتبعي الأهواء والشبهات، فقد يقود سوء الظن إلى الكفر والعياذ بالله، والتشكيك في البعث والنشور، كما قال الله عز وجل ( ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا * وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خير منها منقلبا ) [ الكهف: 35 ـ 36 ]، وقد يقود أيضا إلى التشكيك بقدرة الله وعلمه وإطلاعه وإحاطته بالأمر، قال تعالى ( بل ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ) [ فصلت: 22 ـ 23 ]، وقد يقود لليأس والقنوط من رحمة الله، كما قال تعالى ( بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ) [ الفتح: 12]، وقد يقود لترك الجهاد ونصرة الدين، كما قال تعالى ( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) [ آل عمران: 154]، وقد يقود للتكذيب بموعود الله ورسوله كما قال الله في شأن المنافقين وضعاف الإيمان يوم الأحزاب ( وتظنون بالله الظنونا ) [ الأحزاب: 10]، وقال رسول صلى الله عليه وسلم " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث " وقال " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى " وفي الحديث القدسي " يقول الله تعالى: أنا عند حسن ظن عبدي بي " أما سوء الظن بالدعاة والمصلحين فقد أدى للوقوع في العديد من الكبائر والموبقات، فهو أولا يوقع في الغيبة والبهتان والنميمة والقيل والقال، وهذا يقود حتما إلى الشحناء والبغضاء والتدابر وفساد ذات البين، وهذه هي معظم الأمراض والآفات التي توجد في الصف المسلم والدعوي، وسببت له كثيرا من النكبات والتراجعات والهزائم، والله عز وجل قد قرن سوء الظن ببعض من هذه الأمراض لبيان خطره وشره، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن أثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) [ الحجرات: 12] . كل هذه الآفات المسئول الأول عن ظهورها في الصف الدعوي، هو ذلك الداء العظيم " سوء الظن "، الذي لم يكن له أن يظهر ويسبب كل هذه الآفات، ولو استعمل الدعاة مع إخوانهم على الدرب الأصل الإسلامي في النظرة للآخرين وهو " حسن الظن "، وأسباب الوقوع في هذا الداء الخطير كثيرة من أهمها: الأول: الذنوب والمعاصي وهما السبب الأول والأساسي وراء كل الأمراض والآفات التي تعترض طريق الدعوة، فالذنوب والمعاصي كالحصى الصغير الذي إذا ما اجتمع صار جبلا عظيما، وكالحطب الذي إذا أوقد صار نارا مهلكة، فالذنوب تؤثر في قلب صاحبها، وتجعل نظرته للحياة وللدعوة ولمن حوله تختلف بالكلية، أول ما يتغير من نظرته لمن حوله، حسن ظنه بالآخرين، حيث يصبح سوء الظن هو الأصل في نظرته لمن حوله، ويحمل كل تصرفات إخوانه على أسوأ المحامل، وأضيق المسالك. الثاني: غياب المنهج الصحيح في الحكم على الناس فالإسلام قد أقام نظاما محكما وفريدا في الحكم على الآخرين وعلى أقوالهم، ومواقفهم، وعامة ما يصدر منهم، ويتمثل هذا المنهج فيما يلي: 1 ـ النظر إلى الظاهر وترك السرائر إلى الله، لأنه سبحانه وحده الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم ما تخفي الصدور، ويعلم ما ظهر وما بطن، وهذا مقتضى أسمائه وصفاته، فهو العليم الخبير، السميع البصير، القريب المجيب، ولا يعلم ما في الصدور ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا الله عز وجل، بل إن الملائكة الكتبة الحفظة، لا تعلم إخلاص العبد من ريائه، فتكتب كل أعماله، والله عز وجل هو الذي يقبلها فضلا منه وتكرما من المخلصين، ويحبطها عدلا منه وجزاءا للمرائين والمنافقين. فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار "، وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلا فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: " أقال لا إله إلا الله، فقتلته ؟ " قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: " أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا " فما زال يكررها علىّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ " 2 ـ الاعتماد على الدليل والبرهان، فلا يقبل كلام مرسل على عواهنه، بلا خطام ولا زمام، وهذا أصل من أصول الإسلام الثابتة، فالإسلام دين البراهين الساطعة، والأدلة القاطعة، قال تعالى ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) [ البقرة 111]، وقال تعالى ( لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ) [ النور 13]. ولا يكفي مجرد سرد الدليل، لكن يجب التأكد من صحته وسلامته، حتى لا تقام التهم وتنصب العداوات وتتخذ القرارات بموجب أباطيل وترهات وأكاذيب وشائعات، والله عز وجل أمر بالتبيين في آيتين من كتابه الحكيم، فقال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ) [ النساء 94 ]، وقال ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ) [ الحجرات 6]. وبعد التأكد من صحة الدليل، يجب التأكد من عدم معارضة الأدلة بعضها بعضا، وهذه هي أهم قاعدة في قواعد الحكم على الآخرين، وبغيابها يظل الحكم ناقصا مبنيا على الظنون والأوهام، يصيب مرة ويخطئ مرات. ثالثا: اتباع الهوى وذلك لأن الداعية إذا اتبع هواه، وحكّم مزاجه، صار هذا الهوى هو إمامه وقائده ومعياره الذي يعاير به الناس ويحاكمهم إليه، وإتباع الهوى يدور بين الحب والبغض بلا سبب، والعرب تقول حبك الشيء يعمي ويصم، كما أن البغض يستوجب التماس العثرات، والبحث عن الزلات، وتصيد الأخطاء، لذلك قال تعالى ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) [ النجم: 23]، وقال أيضا ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ) [ القصص: 50] وقال ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه .. ) [ الجاثية: 23] رابعا: الوقوع في الشبهات من الأسباب التي قد تدفع البعض لسوء الظن في غيره من الدعاة ؛ الوقوع في الشبهات عن قصد، أو غير قصد، وترك التبرير والتوضيح إذا كان الوقوع عن غير قصد، فذلك من الأمور المغرية لئن يلوك سيرته الناس، ويقعون فيه ويسيئون الظن فيه من حيث لا يدري، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم " الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع حول الحمى يوشك أن يواقعه .. "، وقد أعطى صلى الله عليه وسلم الأسوة من نفسه في تجربة عملية يعلمنا فيه كيف يدفع المسلم والداعية عن نفسه ظنون الناس مهما كان قدره وفضله، فقد كان معتكفا في مسجده فأتته أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها تزوره ليلا، فحدثته، ثم قامت راجعة إلى بيتها، فقام معها رسول الله، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " على رسلكما إنها صفية بنت حيي " فقالا: سبحان الله يا رسول الله، يقصدان التعجب حيث لا مجال للشك في رسول الله والظن السيئ به، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف الله في قلوبكما شرا " فخير الخلق وأفضلهم وأكملهم يعلم الدعاة الذين هم يقومون في الأمة مكان نبيها، كيف يحفظون مقامهم ويصونون جانبهم من سوء الظانين والمشككين. خامسا: غياب آداب التناجي للتناجي في الإسلام عدة آداب بمراعاتها يتحقق صلاح الإخوة في الله، ويبتعد شبح سوء الظن بين الناس، من هذه الآداب: حرمة الانفراد بين اثنين فما فوقهما دون الآخر، حتى يوجد معه من يناجيه أو يختلط الجميع بالناس، وفي الحديث " إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه "، ومن هذه الآداب أيضا أن تكون النجوى في الطاعة والمعروف والإصلاح بين الناس، لا في المعاصي والمنكرات، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول وتناجوا بالبر والتقوى .. ) [ المجادلة: 9 ]، وبغياب هذه الآداب تصبح المناجاة سببا من أقوى أسباب سوء الظن، والتخرص بحق المتناجين. سوء الظن له عواقب وخيمة على الدعاة والدعوة والمجتمع الإسلامي كله، فسوء الظن يفتح أبواب الكبائر من عينة الغيبة والنميمة والبهتان والتجسس على مصراعيها، لذلك قرن الله عز وجل بين سوء الظن وبين الغيبة، وقرن الرسول صلى الله عليه وسلم بين سوء الظن والتجسس والتحسس، كما أن سوء الظن يصيب الجميع بحالة من التوتر والقلق النفسي والاكتئاب، فسيء الظن يوجه كل ظنونه إلى ما يعتقد أنه يبيض صفحته أو يدافع عن أهله ودعوته وطريقته ومنهجه، ومن كان موضع الظن السيئ يصيبه الهم والحزن من لوك الناس لسيرته وأخباره، ومن لم يقع في هذا ولا ذاك وقع عليه الهم في التفكير في مدى مصداقية هذه الظنون والأقاويل والشائعات، ومن آثاره الخبيثة أيضا أن الناس يكرهون من أصحاب الظنون السيئة وينفرون منهم، ويتجنبون صحبته، فيعيش منبوذا لا صاحب له، ولا يثق فيه أحد، ومن آثاره أيضا تفريق الصف الدعوي، حيث يتراشق الدعاة بالتهم، ويسحبوا الثقة من بعضهم البعض، وتنتشر البغضاء والشحناء بينهم، وتنتقل هذه الحالة لأتباع كل داعية وشيخ، وتشتعل نيران الفرقة والخلاف والتباغض بين صفوف الدعاة. ولن ينجو المجتمع والصف الدعوي وطريق الدعوة إلى الله من هذا المرض الخطير إلا ببناء العقيدة الصحيحة في القلوب والتي تحرسنا من الظنون السيئة بالآخرين، كما تلعب التربية المستمرة دورها في تغذية العقيدة بمثبتات الإيمان في القلب والنفس، بترك المعاصي والسيئات، والمواظبة على فعل الطاعات والصالحات، وتنمي في القلب أصول الورع والتقوى الرادعة من سوء الظنون وتوابعها من الغيبة والنميمة والبهتان، أيضا يجب التحرز من مواطن الشبهات والتهم، ودفعها إن وقع فيها الإنسان دون قصد، ولا يتكل الداعية فقط على وجوب إحسان الظن به، فعن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام شاب، فلما صلى إذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد، فدعا بهما فجيء بهما ترتعد فرائصهما فقال: " ما منعكما أن تصليا معنا "، قالا: " قد صلينا في رحالنا "، فقال: " لا تفعلوا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام، ولم يصل فليصل معه، فإنها له نافلة ".
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |