الوقف في تراث الآل والأصحاب - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         أبو بكر الصديق رضي الله عنه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 22 )           »          لماذا يصمت العالم عن المجاعة في غزة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          أعمال تعدل أجر الصدقات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          البلاء في حقك: نعمةٌ أو نقمة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          شرح النووي لحديث: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          شرح النووي لحديث: ارم فداك أبي وأمي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          شرح النووي لحديث: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          أنسيت بأنك في غزة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-12-2021, 09:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي الوقف في تراث الآل والأصحاب

الوقف في تراث الآل والأصحاب (1)

البشائر النبوية للواقفين


عيسى القدومي




هذه سلسلة مقالات نسلط فيها الضوء على أوقاف آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعرضِ أنواع الأوقاف ومجالاتها، وآثارها في الدين والمجتمع، مع ذكر جملة من المقاصد الشرعية والفوائد الفقهية في أوقاف النبي -صلى الله عليه وسلم - وأوقاف آله وصحبه -رضي الله عنهم-، جمعنا فيها ما رُوي من الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، والدالة على حرص الآل والصحب الكرام -رضي الله عنهم- على الامتثال التامّ لتوجيه النبي -صلى الله عليه وسلم - في بذل المال واحتباس الأصول، وقفًا تنتفع به الأمة الإسلامية، وتنال به عظيم الأجر والثواب.

بشَّر النبي -صلى الله عليه وسلم - الواقفين بنيل الأجر وكسب الفضل العظيم من رب العالمين في الدنيا، وباستمرار الحسنات والمثوبة بعد الممات، وهذه البشارات دفعت آل بيت النبي وأصحابه -رضي الله عنهم- إلى التسابق في بذل الخيرات ووقف الأوقاف، فإنّ الوقف الخيريّ كما هو معلومٌ من جنس الصدقات، دخولُه فيها قطعيٌّ؛ لأنّ الوقف هو الصدقةُ الجارية، وألخّص أهم تلك البشائر النبوية للأعمال الوقفية فيما صحّ من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك فيما يأتي:

الوقف حياة بعد الممات

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له»، هذه الثلاثة من كَسْب العبد في الحقيقة، لأنّه متسبِّبٌ فيها، وإن كان تصرُّفُه المباشر فيها ينقطعُ بوفاتِه، فجريان الثواب بسببها جارٍ على القاعدة القرآنيّة: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلّا مَا سَعَى}(النجم: 39). قال القاضي عياض: «وذلك لأنّ عمل الميّت منقطعٌ بموتِه، لكن هذه الأشياء لما كان هو سببها؛ من اكتسابه الولدُ، وبثُّه العلمَ عند من حمله فيه، أو إيداعَه تأليفاً بقى بعده، وإيقافَه هذه الصدقة، بقيت له أجورها ما بقيت ووُجِدَتْ».

الوقف أجر لا يفارق العبد

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «سبعٌ يجري للعبد أجرهُنَّ وهو في قبره بعد موته: من علّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته»، وهذا حديثٌ يقودُنا النّظر فيه إلى أنّ السبع المذكورات ههنا، تُعدُّ تفسيراً للمجمل في قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي قبله: «صدقة جارية»، فهذا تفسيرٌ بالمثال، ذك فيه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - أشهر ما يحتاج إليه النّاس في ذلك الوقت على وفق احتياجاتهم، ويُقاس عليها ما في معناها من احتياجات النّاس اليوم في كافة المجالات.

الوقف مالُكَ الحقيقي

عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «أيكُم مالُ وارثِهِ أحبُّ إليه من ماله؟»، قالوا: يا رسول الله! ما منَّا أحدٌ إلا مالُهُ أحبُّ إليهِ. قال:«فإنَّ مالَهُ مَا قدَّم، ومَالُ وارثِه ما أخَّر»، في هذا الحديث: يؤكّد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الحقيقةِ الشرعيّة للصدقة، وعلى أنّ المؤمنَ يكون فيما عند الله أوثق منه فيما في يده في الدنيا العاجلة؛ إذ إنّ انتفاع المؤمن بالمال، يكون إذا نظر إلى أثر المال عليه في الدّارَيْن لا في دارٍ واحدة، وليس من خصال المؤمنين أن يلتفتوا عن الآخرةِ بالكليّة ليغرقوا في الدنيا وحساباتها، فإذا كان ذلك، فهم على الحقيقة يكدّون لصالح ورثتهم لا لصالح أنفسهم، فإنّ صالحهم الحقيقيّ ما ضمنوا ثمرته في حياتهم الباقية في الآخرة.

الوقف يثقل الموازين يوم القيامة

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من احتبس فرساً في سبيل الله، إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده، فإنّ شبعه وريَّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة»، في هذا الحديث أنّ صلاح النّيّة في الوقف، والتصديق بوعد الله، شرطان لحصول الأجر العظيم والثواب الكامل، ومفهومه أنّ ما لم يكن كذلك من الأحباس والصدقات لا أجر فيه، كما هو الحال في سائر الأعمال الصالحة في الظاهر، من غير أن تقترن بنيّة الامتثال والتعبُّد، ولا منبعثةً عن دافعِ الإيمان والتصديق واليقين.

الوقف برٌّ بالوالدين

عن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله، إن أُمّ سعد ماتت، فأي الصدقة أفضل؟ قال: «الماء»؛ فحفر بئراً، وقال: هذه لأم سعد، وعن عبد الله بن عباس: أنّ سعد بن عبادة (أخا بني ساعدة) توفيت أمه وهو غائب عنها، فأتي النبيّ -صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! إنّ أمّي توفيت، وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيءٌ إن تصدقت به عنها؟ قال: «نعم». قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقةٌ عليها.

وسيأتي الكلام عليه في أوقاف الصحابة إن شاء الله.

الوقف إعمار للآخرة

عن عثمان - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «من بنى مسجداً لله -تعالى- يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتاً في الجنة»، وهذا أجرٌ لا يُضاهى، ونعمةٌ لا تدانيها نعمة، وفضلٌ عظيمٌ لا يُحدّ، والجزاء من جنس العمل، عطاءٌ بعَطاءٍ، وبيتٌ ببيت، وإنْ كان الموفِّقُ إلى ذلك هو الله -سبحانه-، وهو الذي يوسّع ويرزُقُ ما يطيعُه به الصالحون من عباده.

الوقف جهاد لا مشقة فيه

عن زيد بن خالد الجهني، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جهّز غازياً في سبيل الله، كان له مثلُ أجرِه، من غير أن ينتقص من أجر الغازي شيئاً»، والوقف يدخل في عموم هذا الحديث، من جهةِ أنّ تجهيز الغزاة في سبيل الله، قد يكون بتمليكهم عُدَّة الحرب، أو هبتهم المالَ الذي يشترونها به ويتجهّزون بما ينقصهم، كما قد يكون بالوقف على جهةِ الجهاد في سبيل الله، وقد يوقف الواقفُ عتادًا يتناوب المجاهدون على الانتفاع به، كما قد يوقف شيئًا يُغِلُّ مالاً يُنْفَقُ على احتياجات المجاهدين المختلفة.

الغرس صدقة إلى يوم القيامة

عن أنس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له منه صدقة»، وهذا يتناول الوقف على سبيلِ العموم، فإنّ من وقفَ غرساً له على جهةٍ ما، يعمُّ نفعُه كلَّ حيٍّ في العادةِ، فله في كلّ ذلك أجر الصدقةِ على الجميع، ما عيَّنَه وما لم يعيّنه.

الوقف تعميمٌ للنّفع في الدنيا والآخرة

عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حفر بئرَ ماءٍ، لم يشرب منه كبد حرَّى من جنٍّ ولا إنسٍ ولا طائرٍ إلا آجرَه الله يوم القيامة»، ولا شكّ أنّ الآبار الوقفيّة التي يحفرها الإنسان في أماكن اشتدّت فيها حاجة النّاس إلى الماء، من أعظم ما يعود عليه بالأجر والثواب العظيم يوم القيامة.

الوقف يُضاعَف لصاحبه

عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لك بها، يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة»، هذه الفضيلةُ موافقةٌ تماماً لما جاء في القرآن الكريم: {مَثَلُ الذينَ يُنْفِقُونَ أموالَهُمْ في سبيلِ اللهِ كمثلِ حبّةٍ أنبتت سبع سنابلَ في كلّ سنبلةٍ مائةُ حبّةٍ} (البقرة: 261)، والحديثُ يحتملُ أن يكون معناه الإشارة إلى هذه المضاعفة، ويحتملُ أن يكون على ظاهره، أي: تكون له سبعمائة ناقةٍ مخطومةٍ في الجنّة على الحقيقةِ يركبها ويتنقّل عليها ويسعَدُ بها، بل قولُه -عليه الصلاة والسلام-: «كلُّها مخطومةٌ» فيه ترجيحٌ لإرادةِ الحقيقةِ، والله أعلم.

الوقف أفضل الصّدقات

عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الصدقات ظلُّ فسطاط في سبيل الله -عز وجل-، أو منحة خادم في سبيل الله، أو طروقة فحل في سبيل الله»، هذا الحديثُ فيه تفصيلٌ لبعض أبواب الصدقةِ التي يستحسن أن يراعيها المؤمنون، وهي يجري في معنى حديث الخصال السبع التي يجري أجرها على العبد بعد مماته في لفت النّظر إلى مجالات أخرى للصدقة والوقف، تمسّ الحاجة إليها أيضاً، بل قد تكون لها الأفضليّة عند التزاحُم.


الوقف أثر باق في سبيل الله

عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس شيء أحبَّ إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله»، فما أجمل أن يترك المسلم المتصدق أثراً له بعد موته، ينفع به نفسه والمسلمين في حياته وبعد مماته، ويرتحل إلى مولاه وقد خلف وراء ظهره من الحسنات الباقيات ما يدَّخِرُه ليوم الحساب.

ولا شكَّ أنَّ من الآثار الحميدة التي يتركها ابن آدم، وتضيء بها سجلاته، تلك الأوقاف التي أوقفها، يرجو بها ثواب الله، ويخشى عقابه، ويعمل لتستمر حسناته إلى ما بعد مماته، وتلك الآثار من هدي النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وترغيبه بالصدقة والوقف، وقد استجاب لها آل بيته الكرام وصحابته الأخيار -رضي الله عنهم- جميعاً.









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 27-12-2021, 11:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوقف في تراث الآل والأصحاب

الوقف في تراث الآل والأصحاب (2)

الوقف في حياة الآل والأصحاب رضوان الله عليهم



عيسى القدومي

هذه سلسلة مقالات نسلط فيها الضوء على أوقاف آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعرضِ أنواع الأوقاف ومجالاتها، وآثارها في الدين والمجتمع، مع ذكر جملة من المقاصد الشرعية والفوائد الفقهية في أوقاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوقاف آله وصحبه -رضي الله عنهم-، جمعنا فيها ما رُوي من الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، والدالة على حرص الآل والصحب الكرام -رضي الله عنهم- على الامتثال التامّ لتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بذل المال واحتباس الأصول، وقفًا تنتفع به الأمة الإسلامية، وتنال به عظيم الأجر والثواب.

حرص آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته -رضي الله عنهم- على الوقف الإسلامي، وسارعوا إلى حبس الدور والآبار والبساتين ووقفها، اقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته، وامتثالاً لتوجيهه وإرشاده، ورغبة في الثواب العظيم من الله -تعالى.

حضور سُنَّةِ الوقف في حياة الآل والأصحاب

ويُستدلُّ على حضورِ سُنَّةِ الوقف في حياتهم -رضي الله عنهم- في الدرجة الأولى بالفعل، فإنّهم -رضي الله عنهم- تواتر عن مجموعهم الوقف، حتى روي عن جابر - رضي الله عنه -أنّه قال: «... فما أعلمُ أحدًا كان له مالٌ من المهاجرين والأنصار إلا حبس مالاً من ماله، صدقةً مؤبّدةً لا تُشترى أبدًا، ولا تُوهب ولا تورَث». ورُوي مثلُه عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، قال: «ما أعلمُ أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل بدر من المهاجرين والأنصار إلّا وقد وقف من ماله حبسًا، لا يُشترى ولا يُورَث ولا يُوهَب حتى يرث الله الأرض ومن عليها».

مشروعيّة الوقف

وقد رضي الإمام مالك -رحمه الله- بهذا التواتر الفعليّ حجةً في الردّ على من أنكر مشروعيّة الوقف، مثل شريح بن الحارث القاضي، فقد رُوي عنه أنّه قال: «جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بمنع الحبس»، وفي رواية عنه قال: «لا حبسَ عن فرائض الله»، ووقع في مضمونِ ذلك كلامٌ بين الإمام مالك -رحمه الله- والإمام أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، فقد أخرج البيهقي -بسنده- عن الإمام الشافعي -رحمه الله- قال: اجتمع مالك وأبو يوسف عند أمير المؤمنين، فتكلّما في الوُقوف وما يحبسه الناس، فقال يعقوب: هذا باطل، قال شريح: جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بإطلاق الحبس. فقال مالك: إنّما جاء محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- بإطلاق ما كانوا يحبسونه لآلهتهم من البحيرة والسائبة، فأمّا الوقوف، فهذا وقف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؛ حيث استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «احبِسْ أصلَها وسبِّلْ ثمرتَها»، وهذا وقْفُ الزبير، فأعجبَ الخليفةَ ذلك منه.

وقد نُقِلَت كلمةُ شريح هذه لمالك -رحمه الله- فيما يبدو أنّه مناسبةٌ أخرى، فقال: «تكلّم شريح ببلدِه، ولم يَرِدْ المدينةَ فيرى أحباسَ الصّحابة باقية، فينبغي للمرءِ ألّا يتكلّم إلّا فيما أحاطَ به خُبرًا».

الاجماع على مشروعية الوقف

فهي مسألة إجماع عمليّ، أكدها القرطبي بقوله: «المسألة إجماع من الصحابة، وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص والزبير وجابراً كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة»، وبياناً لشيوع الوقف عند الصحابة -رضي الله عنهم-، قال الشافعيّ في القديم: «ولقد بلَغَنِي أنّ ثمانين نفرًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار، تصدَّقُوا بصدقاتٍ محرّماتٍ موقوفاتٍ»، كما ذكره ابن الرّفعة، «والشافعيُّ يسمّي الأوقاف: الصّدقات المحرّمة»، وقال ابن حزم: «وسائر الصحابة جملة صدقاتهم بالمدينة أشهر من الشمس، لا يجهلها أحد».

تخير الصحابة أنفس ما يملكون للوقف

وكان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخيرون لأوقافهم أثمن وأنفس ما يملكون؛ لأنهم أرادوا أن يعمروا آخرتهم بما يحبون من نفائس أموالهم وكرائمها، وكانوا -رضي الله عنهم- إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله -سبحانه وتعالى-، وهذه الأوقاف خير دلالة على امتثال الصحابة لتوجيه رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - في وقف الأوقاف التي تنوعت أصولها، وتعددت مصارف ريعها، ليعم النفع للمجتمع المسلم، فدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصدقة الجارية لاقت آذاناً صاغية، من عباد الله المخلصين، ولاسيما الصحابة -رضوان الله عليهم-، الذين عاصروا التنـزيل، وفهموا أسراره، وعرفوا ما تستهدفه الشريعة. فبادروا مستجيبين لنداء الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فأوقفوا الأراضي والحدائق والأسلحة والدروع.

ثمَّ تتابعت الأوقاف، واستمرَّ القادرون على الوقف -على مدى التاريخ الإسلامي- بوقف أموالهم، واتَّسمت هذه الأوقاف بالضخامة والتنوع، حتى غدت هذه الأوقاف من مفاخر المسلمين، ولم يَدَعُوا جانباً من الجوانب الخيِّرة إلا أوقفوا فيه من أموالهم، حتى شملت أوقافهم الإنسان والحيوان، وبلغت ما لا يخطر فِعلُه على بالِ إنسان في شرقٍ ولا غربٍ.

أنواع الوقف عند الآل والأصحاب

ينقسمُ الوقف من حيث الموقوفُ عليه، أو (جهة الوقف) إلى قسمين رئيسين، هما: الوقف الخيري، والوقف الأهلي، وقد يستخدمُ بعضُهُم تقسيمًا ثلاثيًّا، فيقول: الوقف الخيري، والوقف الأهلي، والوقف المشترك.

1- الوقف الخيري

هو ما يُصرَف فيه الريعُ ابتداءً على جهةٍ من جهاتِ البِرّ، ولو كان ذلك لمدّةٍ معيّنةٍ، ثمّ يؤولُ بعدها إلى أشخاص معيّنين، وهذا النّوع هو الأصلُ في الوقف بالنسبةِ لسائر الأنواع، وهذا كالوقف على الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل، والمشافي والمدارس والمكتبات وسائر الخدمات المشابهة.

2- الوقف الأهلي (الذُّرِّي)

هو ما يكون الاستحقاقُ فيه أوّلَ الأمرِ على معيّنٍ، واحدًا أو أكثر... ثمّ من بعد هؤلاء المعيّنين على جهةِ برٍّ.


3- الوقف المشترَك

هو ما وُقف على جهة بِرٍّ، وعلى الذّرّيّة، وكان ذلك في وقْفٍ واحدٍ، فهو جمعٌ بين الصورتين السابقتين، وقد يكون نصيبُ كلٍّ من الذريّة وجهةِ البرٍّ محدّدًا، بنصف الرّيعِ لكلٍّ منهما مثلاً، وقد يُجعَلُ مقدارٌ محدودٌ للذرّيّة، ويُطلَقُ في الباقي على أنّه لجهةِ البِرِّ، وقد يكون العكس.

على أنّ هذه الاصطلاحات والتسميات لم تكن معروفةً فيما مضى، بل كان يُعبَّر عن الوقف بلفظ «الصدقة» كما دلّت عليه الآثار، فكان يقال: هذه صدقةُ فلان.









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 31-12-2021, 11:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوقف في تراث الآل والأصحاب

الوقف في تراث الآل والأصحاب (3)

الوقف في حياة الآل والأصحاب رضوان الله عليهم


عيسى القدومي


هذه سلسلة مقالات نسلط فيها الضوء على أوقاف آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعرضِ أنواع الأوقاف ومجالاتها، وآثارها في الدين والمجتمع، مع ذكر جملة من المقاصد الشرعية والفوائد الفقهية في أوقاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوقاف آله وصحبه -رضي الله عنهم-، جمعنا فيها ما رُوي من الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، والدالة على حرص الآل والصحب الكرام -رضي الله عنهم- على الامتثال التامّ لتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بذل المال واحتباس الأصول، وقفًا تنتفع به الأمة الإسلامية، وتنال به عظيم الأجر والثواب.

أوقاف النبي - صلى الله عليه وسلم

النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس في بذل الخير والصدقة، وقد أفرد أهل العلم أبواباً خاصة في بيان صدقاته وإنفاقه في الخير؛ فكان - صلى الله عليه وسلم - سبَّاقًا إلى الصدقة، قال ابن القيم -رحمه الله-: «كان - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس صدقة بما ملكت يده، وكان لا يستكثر شيئاً أعطاه لله -سبحانه وتعالى- ولا يستقله، وكان لا يسأله أحد شيئاً عنده إلا أعطاه، قليلاً كان أو كثيراً، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر، وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة».

أول الواقفين في الإسلام

وقد حرص نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على أن يجعل جُلّ ما يملك وقفاً لله -تعالى-، فكان أول الواقفين في الإسلام، فقد بدأ بنفسه - صلى الله عليه وسلم -؛ فأول صدقة موقوفة في الإسلام كانت - على الراجح- أراضي مخيريق؛ فقد رجح كثير من أهل العلم أن أول صدقة جارية (وقف) في الإسلام هي صدقة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد حرص - صلى الله عليه وسلم - أن يبدأ بنفسه.

أول صدقة موقوفة في الإسلام

قال الحافظ في الفتح: وفي مغازي الواقدي أن أول صدقة موقوفة كانت في الإسلام أراضي مخيريق التي أوصى بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقفها النبي - صلى الله عليه وسلم »، وأورد ابن سعد في طبقاته عن محمد بن كعب القُرظي أنه قال: « كانت الحُبُسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبس سبعة حوائط بالمدينة: الأعوان، والصافية، والدلال، والميثب، وبرقة، وحسنى، ومشربة أم إبراهيم، قال ابن كعب: وقد حبس المسلمون بعد على أولادهم وأولاد أولادهم»، وعن مالك بن أَوس بن الحدثان، قال: فِيمَا احتجَّ به عمر - رضي الله عنه - أنه قال: «كانت لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثلاثُ صَفَايَا: بنُو النَّضير، وخيبر، وفدك. فأما بنو النَّضير فكانت حُبُسًا لنوَائبه، وأما فَدَكُ فكانت حُبُسًا لأبنَاءِ السَّبيلِ، وأَمَّا خيبر فجزّأَهَا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ثلاثة أجزَاءٍ: جُزأينِ بين المسلمين، وجُزءًا نَفقةً لأهله، فما فضَلَ عن نفقة أهله جعلهُ بين فُقراء المُهاجرين»، قال النووي -رحمه الله-: «الأرض التي كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر وفدك فقد سبَّلها في حياته، ونجز الصدقة بها على المسلمين»، ومن وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - ما خصّه لابن السبيل، فعن عمرو بن الحارث قال: «ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديناراً ولا درهما ولا عبداً ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقة».

اختصاص رسول الله في أرض الحجاز

قال الماوَرْدي: «... أرض الحجاز تنقسم لاختصاص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفتحها قسمين:

- أحدهما: صدقات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي أخذها بحقَّيْهِ، فإنّ أحدَ حقَّيْهِ خُمُسُ الخُمُسِ من الفيء والغنائم.

- والحقّ الثاني: أربعة أخماس الفيء الذي أفاءه الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فما صار إليه بواحدٍ من هذين الحقَّيْن، فقد رضخَ منه لبعض أصحابه، وترك باقيه لنفقته وصِلَاتِه ومصالح المسلمين، حتى مات عنه - صلى الله عليه وسلم -، فاختلف الناس في حكمه بعد موته، فجعله قوم موروثًا عنه ومقسومًا على المواريث ملكًا، وجعلَه آخَرون للإمامِ القائمِ مقامَه في حمايةِ البَيْضَةِ وجهادِ العدوّ.

صدقات النبي - صلى الله عليه وسلم - الثمانية

والذي عليه جمهورُ الفقهاءِ أنّها صدقاتٌ محرَّمةُ الرّقاب، مخصوصةُ المنافعِ، مصروفةٌ في وجوه المصالح العامّة... فأمّا صدقاتُ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- فهي محصورةٌ؛ لأنه قُبض عنها فتعيّنت، وهي ثمانية...» ثمّ عدّها، وهي:

1- أموالُ مخيريق، وهي سبعُ حوائط كما سبق.

2- أرضُه من أموالِ بني النّضير، وهي أوّل مالٍ أفاءَه الله عليه.

3- ثلاثة حُصون، من حصون خيبر الثمانية.

4- النّصف من فَدَك.

5- وقد بلغَت قيمة هذا النّصف ستّين ألف درهم بتقويمِ مالك بن التيّهان وسهْل بن أبي حَثْمَة وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم-، قال الماوردي: «فصار نصفُها من صَدَقاتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ونصفُها الآخَر لكافّة المسلمين، ومصرفُ النّصفَيْن الآن سَواء».


6- الثلث من أرض وادي القرى.

7- موضعُ سوقٍ بالمدينةِ يقالُ له (مهروذ).

ولهذا كان الإقبال والحرص الشديد من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وقف أنفس ما يملكون، فشجرة الأوقاف الخيرية تمتد جذورها إلى رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - القدوة لصحابته، وقد بادر بالوقف، وجعل مصارفه فيما يُصلح الدين والدنيا، وحينما كان يحث صحابته على فعل الخير فإنه كان يسبقهم بالفعل والعمل.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 18-01-2022, 06:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوقف في تراث الآل والأصحاب

الوقف في تراث الآل والأصحاب (4)

الوقف في حياة الآل والأصحاب رضوان الله عليهم


عيسى القدومي

هذه سلسلة مقالات نسلط فيها الضوء على أوقاف آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعرضِ أنواع الأوقاف ومجالاتها، وآثارها في الدين والمجتمع، مع ذكر جملة من المقاصد الشرعية والفوائد الفقهية في أوقاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوقاف آله وصحبه -رضي الله عنهم-، جمعنا فيها ما رُوي من الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، والدالة على حرص الآل والصحب الكرام -رضي الله عنهم- على الامتثال التامّ لتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بذل المال واحتباس الأصول، وقفًا تنتفع به الأمة الإسلامية، وتنال به عظيم الأجر والثواب.

أوقاف رجال آل بيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم

أوّلاً: وقف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه


لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - أوقافٌ كثيرةٌ سردَها المؤرّخون وأصحابُ السِّيَر والتّواريخ وكتب البلدان، كما ذكروا أخباراً كثيرةً عن مآلاتها ووُلاتِها ومصارفها وما تعلّق بها من بعدِه من الحقوق والخُصومات والضياع والاسترجاع، وهي أخبارٌ تفيد بمجموعها القَطْعَ بأصول هذه الأوقاف، والتّحقُّق من صحّتها، وقد ذكر الإمام الحُمَيْدي (ت 219هـ) أنّه شَهِدَ في وقتِه اشتهارَ (يَنْبُع) بكونها وقفًا لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه .

أخرج البيهقي -بسنده- إلى الحُميديّ، قال: «وتصدّق عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - بأرضِه بيَنْبُعَ، فهي إلى اليوم».

وقد آلَت لعليّ - رضي الله عنه - أملاكٌ كثيرةٌ بينبُع، بعضُها، بل جزؤُها الأهمّ، أقطعَه إيّاها أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه -، ثمّ ضمّ إليها أشياء أخرى بالشراء والاستصلاح وإحياء المَوَات، فوقَفَ كثيراً منها على وجوه مختلفة وبشروط متنوّعة.

إكرام عمر - رضي الله عنه - آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم

عن جعفر بن محمّد عن أبيه: «أنّ عليّ بن أبي طالب قطع له عمر بن الخطّاب -رضي الله عنهما- يَنْبُعَ، ثمّ اشترى عليّ بن أبى طالب - رضي الله عنه - إلى قطيعة عمر - رضي الله عنه - أشياء، فحفر فيها عينًا، فبينا هم يعملون فيها إذ تفجّر عليهم مثل عنق الجزور من الماء، فأتى عليٌّ وبُشّر بذلك، قال: بشّر الوارث. ثمّ تصدّق بها على الفقراء والمساكين وفي سبيل اللّه وابن السّبيل، القريب والبعيد، وفي السّلم وفي الحرب، ليوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه، ليصرف اللّه تعالى بها وجهي عن النّار ويصرف النّار عن وجهي»، وفي هذه الرواية الثابتة بشاهدَيْ التاريخ والحسّ، دليلٌ على إكرام عمر - رضي الله عنه - آلَ بيت النبي -صلى الله عليه وسلم -، فإكرامُه عليًّا -وهو أهلٌ لكلّ كرامةٍ- بهذا الإقطاع يدلُّ على ذلك بوضوح.

وقد جاء مزيدٌ من التّفصيلِ لهذه الصدقةِ بيَنْبُعَ، وما ضُمَّ إليها، فقد أخرجَ عبد الرزّاق من طريق أيّوب السختياني، أنّه أخذَ كتابَ صدقةِ عليٍّ - رضي الله عنه - من عمرو بن دينار، وممّا ذُكر فيه موقوفًا مع يَنْبُعَ: ما يملكُه عليٌّ - رضي الله عنه - بـ (وادي القرى)، و(الأَذْنِبَة)، و(رعْد)، ووقَفَ مع هذه الأراضي ما لَه فيها من مماليك، واستثنى بعضَهُم ممّن كان قد أعتَقَ قبْلَ ذلك من العاملين فيها، قال أبو محمد ابن حزم: «إيقافه ينبع، وغيرها: أشهرُ من الشّمس»، وهذا يبرهنُ -كما أشرنا سابقاً- على أنّ هذه الأوقافَ مستغنيةٌ في أصلها عن الحاجةِ إلى صحّة السّند على رسم المحدّثين، فالشّهرة تغني عن ذلك.

الأماكن التفصيلية في أوقاف علي - رضي الله عنه


ومن الأماكن التي ذُكرَت تفصيلاً في أوقاف عليٍّ - رضي الله عنه - بيَنْبُعَ وما حولَها:

1-البُغَيْبِغَة، وعين أبي نِيْزَر، وقَفَهُمَا لسنتين من خلافته، على فقراء المدينة وابن السبيل وذوي الحاجة من ذوي القربى، وشَرَطَ أنّ الحسن أو الحسين إن احتاجا، فلهما أن يبيعا.

2-عين نولا، وهي التي يُقال إنّ عليًّا - رضي الله عنه - عَمِلَ فيها بيده.

3-عين الحدث، وعين البحير، وعين العصيبة، وكلُّها بيَنْبُع، ذكرها ابنُ شُبَّة.

وبعض المؤرّخين يقول بالجمع: البُغَيْبِغَات، وهي عيون ماء كثيرة، منها: خيف الآراك، وخيف ليلى، وخيف بسطاس.

وممّا ذُكرَ تفصيلاً في أوقافِ عليٍّ - رضي الله عنه - بوادي القرى ومدينة العلا: عين ناقة، وعين حسن، وعين سكر، وعين موات.

وممّا ذُكر تفصيلاً بخيبر وما حولها: له بِحَرَّة الرّجلاء قُرْبَ خيبر: وادي الأحمر، ووادي البيضاء، وخمسة آبارٍ أسماؤُها: (ذات كَمَّاتٍ، وذوات العُشَرَاءِ، وقُعَيْنٌ، ومُعَيْدٌ، ورَعْوَان).

وله بـ (فَدَك): وادي ترعة، ووادي الأسحن، والقُصيبة، وهو مالٌ بناحيةِ فدك.

قال ابن شبّة عن القُصيبة: «كان عبد الله بن حسن بن حسن عامل عليه بني عمير مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، على أنّه إذا بلغ ثمرُه ثلاثين صاعًا بالصّاعِ الاوّل فالصّدقة على الثلث، فإذا انقرض بنو عمير فمرجعه إلى الصدقة، فذلك اليوم على هذه الحال بأيدي وُلاة الصدقة».

وممّا ذُكر تفصيلاً بالمدينةِ وما حولَها: (الفقيرين، بالعالية، وبئر الملك، بقناة، والأَذْنِبَة في إِضَم، ودار عليّ، قرب بقيع الغرقد، والفقير، موضعٌ بالمدينة، وبئر قيس، والشجرة).

وصية علي - رضي الله عنه - بالاهتمام بوقفه

وأمّا وصيَّتُه بنظارتها وولايتها، فقال فيها -كما عند عبد الرزّاق-: «ثمّ يقوم على ذلك بنو عليٍّ بأمانةٍ وإصلاح، كإصلاحهم أموالَهم، يُزْرَعُ ويُصْلَحُ كإصلاحِهِم أموالَهم، ولا يُباع من أولادِ عليٍّ من هذه القُرى الأربعِ وَدِيَّةٌ واحدةٌ، حتى يَسُدَّ أرضَها غراسُها، قائمةً عمارتُها للمؤمنين أوّلهم وآخرِهم، فمن وَلِيَهَا من النّاسِ فأُذَكِّرُ اللهَ إلّا جَهِدَ ونصحَ وحفظ أمانتَه».

وقد تولّى أمرَها - رضي الله عنه - في حياته. قال الشافعيّ رحمه الله: «ولم يَزَلْ عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - يَلِي صدقتَه بيَنْبُعَ حتى لقي الله -عز وجل-، ولم تَزَلْ فاطمة -رضي الله عنها- تَلِي صدقَتَها حتى لقيت اللهَ -تبارك وتعالى-، أخبَرَنا بذلك أهلُ العلم من ولد فاطمة وعليّ وعمر ومواليهم»، ثمّ ولّاها من بعدِه أبناءَه الحسن والحسين كما سبق آنفًا، وقد رصد المؤرّخون توارُثَ ذرّيتهم ولايتها ونظارتَها بعد ذلك.


ثانياً: وقف العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله -رضي الله عنهما

قال ابن شبة: «قال أبو غسان: تصدق العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - بحل له كان بيَنْبُعَ على عين يقال لها: عين جساس على شراب زمزم، فذلك الحق يقال له: السقاية؛ لأنه تصدق به على زمزم، وهو الثمن من تلك العين، وهو اليوم بيد الخليفة يوكل به»، ثم قال: «وتصدق عبد الله بن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنهما- بمال بالصهوة، وهو موضع بين معن وبير حوزة على ليلة من المدينة، وتلك الصدقة بيد الخليفة يوكل بها».







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 02-02-2022, 04:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوقف في تراث الآل والأصحاب

الوقف في تراث الآل والأصحاب (5)

أوقـــاف نســـــاء آل بـــيـــــــت النبـيّ – صلى الله عليه وسلم


عيسى القدومي


هذه سلسلة مقالات نسلط فيها الضوء على أوقاف آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعرضِ أنواع الأوقاف ومجالاتها، وآثارها في الدين والمجتمع، مع ذكر جملة من المقاصد الشرعية والفوائد الفقهية في أوقاف النبي -صلى الله عليه وسلم - وأوقاف آله وصحبه -رضي الله عنهم-، جمعنا فيها ما رُوي من الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، والدالة على حرص الآل والصحب الكرام -رضي الله عنهم- على الامتثال التامّ لتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بذل المال واحتباس الأصول، وقفًا تنتفع به الأمة الإسلامية، وتنال به عظيم الأجر والثواب.

أوّلاً: أوقاف فاطمة بنت النبيّ - صلى الله عليه وسلم

ذكر الإمام الشافعيُّ - رضي الله عنه - عند حديثه عن الأوقاف التي آلت إلى ذرّيّة فاطمة -رضي الله عنها-، أنّها أوقفت في حياتها أوقافاً، فقال -كما نقل عنه البيقهي-: «الوقف بالمدينة ومكة من الأمور المشهورة العامة التي لا يحتاج فيها إلى نقل خبر الخاصة، وصدقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي- قائمة عندنا، وصدقة فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وصدقة من لا أحصي من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وأعراضها...».

وقال الإمام الشافعي في «الأم»: «أخبرني محمد بن علي بن شافع قال: أخبرني عبد الله بن حسن بن حسين، عن غير واحد من أهل بيته -أحسبه قال: زيد بن علي-: أنّ فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - تصدّقت بمالها على بني هاشم وبني عبد المطلب، وأنّ عليّاً - رضي الله عنه - تصدّق عليهم وأدخل معهم غيرهم».

أوقاف لنساءِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم

وذكر الرافعي في شرح الوجيز في معرض حديثه عن أحكام الوقف الصحيح: أنّ فاطمة -رضي الله عنها- أوقفت أوقافاً «لنساءِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولفقراء بني هاشم وبني عبد المطلب»، قال الإمام ابن حجر في (التلخيص): «قوله: «وقفت فاطمة على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وفقراء بني هاشم والمطلب»، ذكره الشافعي بسند فيه انقطاع، إلا أنهم من أهل البيت»، وذكر وقف فاطمة -رضي الله عنها- ابن حزم في معرض تعداده لأوقاف الصحابة -رضي الله عنهم-، وقال: «وحبس عثمان وطلحة والزبير وعلي بن أبي طالب وعمرو بن العاص دورهم على بنيهم، وضياعاً موقوفة، وكذلك ابن عمر، وفاطمة -بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسائر الصحابة، وجملة صدقاتهم بالمدينة أشهر من الشمس، لا يجهلها أحد...(اختصرنا الأسانيد لاشتهار الأمر)».

فهذا النص يدل على أن أوقاف فاطمة -رضي الله عنها- مشهورة شهرة بقية أوقاف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لذا ذكرها أهل الفقه والآثار.

الإشراف على صدقتها مدة حياتها

وذكر الإمام البيهقي عن الشافعي: أن فاطمة -رضي الله عنها- قد تولّت الإشراف على صدقتها مدة حياتها، ولعل هذه الصدقة كانت معلومة معروفة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لقصر حياتها بعد النبي -صلى الله عليه وسلم -؛ التي لم تتجاوز ستة أشهر، قال الإمام الشافعي: «أخبرنا بذلك أهل العلم من ولد فاطمة وعلي وعمر ومواليهم، ولقد حفظنا الصدقات عن عددٍ كثيرٍ من المهاجرين والأنصار، لقد حكى لي عدد كثير من أولادهم وأهليهم: أنهم لم يزالوا يلون صدقاتهم حتى ماتوا، ينقل ذلك العامة منهم عن العامة، لا يختلفون فيه، وأن أكثر ما عندنا بالمدينة ومكة من الصدقات كما وصفت...».

وهذا النّقل يُفضي بنا عند البحث في ثبوت هذه الأوقاف، إلى أنّ الأرجح أنّه يُكتفى في إثباتها بالنّقل التاريخيّ العامّ، وهي شواهدُ محسوسةٌ أدركَتْها أجيال كثيرة العدد من النّاس، وتوارثَ الولاية عليها أعقابٌ كثيرةٌ من ذريّة الواقفين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته، فلا يقدح في ثبوتها ما نقلناه آنفاً من حكم الحافظ ابن حجر العسقلانيّ على سند الشافعيّ بالانقطاع، فإنّ ما كان من هذا السبيل لا يُرتَهَن ثبوتُه بسندٍ خاصّ، بل يُروى روايةً عامّةً في جملةِ التاريخ المتواتر، يدلُّ على ذلك عبارة الشافعيّ رحمه الله السابقة: «لقد حكى لي عددٌ كثيرٌ من أولادِهم وأهليهم: أنّهم لم يزالوا يَلُونَ صدقاتِهم حتى ماتوا، ينقل ذلك العامة منهم عن العامة، لا يختلفون فيه...». اهـ

ثانياً: أوقاف أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم

وقف أم المؤمنين أم حبيبة -رضي الله عنها

روى الخصّاف بسنده إلى عبد الله بن بشر: «قال: قرأت صدقة أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - التي بالغابة، أنها تصدقت على مواليها، وأعقابهم، وعلى أعقاب أعقابهم، حبسًا لا تباع ولا توهب ولا تورث تخاصم من يورثها فأنفذت».

وقف أم المؤمنين صفية - رضي الله عنها

روى الخصّاف بسنده إلى منبت المزني قال: «شهدت صدقة صفية بنت حُيَيّ -رضي الله عنها- بدارها لبني عبدان صدقة حبسًا لا تباع ولا تورث حتى يرث الله -عز وجل- الأرض ومن عليها».

وقف أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها

روى الخصاف بسنده إلى هاشم بن أحمد: «أنّ عائشة -رضي الله عنها- اشترت دارًا، وكتبت في شرائها: إني اشتريت دارًا، وجعلتها لما اشتريتها له، فمنها مسكن لفلان ولِعَقبه ما بقي بعده إنسان، ومسكن لفلان (وليس فيه: ولِعَقبه)، ثم يرد بعد ذلك إلى آل أبي بكر».

وقف أم سلمة -رضي الله عنها

روى الخصّاف بسنده عن موسى بن يعقوب عن عمّته عن أبيها قال: «شهدت صدقة أم سلمة -رضي الله عنها- (زوج النبي) -[- صدقة حبسًا لا تُباع ولا تُوهب».

مجالات الوقف عند آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنواعه

إنّ من الأمور المهمّة لتصوُّر مكانة الوقف ومنافعه وقيمته في مرحلةٍ زمنيّةٍ ما، معرفةَ الوجوه التي اعتنى الواقفون بالوقف عليها، والمراد بالوجوه: الجهات والمصارف، فإنّ هذه المعرفة مع ما تقدّمه من الإضاءة التاريخيّة على طبيعة الحاجات والصعوبات الاجتماعيّة التي اهتمّ أثرياء الصحابة بمعالجتها وإعانة إخوانهم المسلمين على اجتيازها، فإنّها أيضاً تعين على إدراك منزلةِ الوقف في الحياة الاجتماعيّة عموماً، وما تعلّق به بالنسبةِ للواقفين من آمالٍ أخرويّة تتعلّق بالسعي إلى رضوان الله وطلب الأجر والحرص على جريان الثّواب بعد الموت، هذه الثنائيّة التي يمتازُ بها تصوُّر المسلم عن غيره لطبيعة هذا الوجود في الحياة الدنيا.










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 12-02-2022, 09:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوقف في تراث الآل والأصحاب

الوقف في تراث الآل والأصحاب (6)

أوقـــــاف صحابـــــــة رســـــــــول اللـــــه - صلى الله عليه وسلم


عيسى القدومي

هذه سلسلة مقالات نسلط فيها الضوء على أوقاف آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعرضِ أنواع الأوقاف ومجالاتها، وآثارها في الدين والمجتمع، مع ذكر جملة من المقاصد الشرعية والفوائد الفقهية في تلك الأوقاف، جمعنا فيها ما رُوي من الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، والدالة على حرص الآل والصحب الكرام -رضي الله عنهم- على الامتثال التامّ لتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بذل المال واحتباس الأصول، وقفًا تنتفع به الأمة الإسلامية، وتنال به عظيم الأجر والثواب.

ثبت في أحاديث صحيحة، وآثار كثيرة أن الصحابة -رضوان الله عليهم رجالاً وإناثاً- قد أوقفوا الأراضي الثمينة، والأموال النفيسة ذات الدخول العظيمة، وهذا عرض لبعض هذه الروايات والأخبار، والقصد من ذلك ذكر نماذج لهذه الأوقاف، وليس الاستقصاء والحصر.

أولا: أوقاف الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم

وقف الخليفة الراشد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه

قال الخصَّاف: «رُوي أنّ أبا بكر الصدّيق - رضي الله عنه - حبس رِباعًا كانت بمكّة وتركها، فلا يُعلم أنّها وُرثت عنه، ولكن يسكنها من حضر من ولده وولد ولده ونسله بمكة، ولم يتوارثوها»، وروى البيهقي -بسنده- عن عبد الله بن الزبير الحُمَيْدي: «وتصدّق أبو بكر الصّدّيق - رضي الله عنه - بداره بمكة على ولدِه، فهي إلى اليوم...»، وقولُ الحميدي: «فهي إلى اليوم» يدلّ على شهرةِ هذا الوقف، ومن المعلومِ أنّ قلّة ما وقَفَه أبو بكر - رضي الله عنه - يمكن أن يُعلّل بما عُلّل به كثيرٌ ممّا تركَه من الأعمالِ الخاصّة والعامّة في السنتين ونيّف اللّتين قضاهما في الخلافة، لقصر المدّة، وكثرة المشكلات، وعُمْق المخاطر التي جابهها على قصر المدّة، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، فوقف أبي بكرٍ -رضي الله عنه- كان على ذرّيّته؛ لأنّ قولَه: «يسكنها من حضر من ولده وولد ولده ونسله بمكة، ولم يتوارثوها»، يعني أنّهم اشتركوا في منفعتها وهي السُّكنى عند الحاجةِ، ولم يتوارثوها ملكًا مخصوصاً لأحدهم.

وقف الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه

بعد ما مَلَكَ عمر - رضي الله عنه- أرضًا في خيبر، وكانت من أنفس وأجود ما حاز - رضي الله عنه-، استشار النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في صفة الصدقة بها، فأشار عليه النبي -صلى الله عليه وسلم -: «‏إنْ شئت حبست أصلها وتصدقت بها»؛ ففعل، جاء في «الصحيحين» عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: أصاب عمر بخيبر أرضًا، فأتى النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أصبت أرضًا لم أصب مالًا قطّ أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: «إن شئت حبست أصلها وتصدّقت بها»، فتصدّق عمر أنّه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث في الفقراء، والقربى والرّقاب وفي سبيل اللّه والضّيف وابن السّبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا غير متموّل فيه.

أصل لمشروعيّة الوقف

وقد اشتهرت صدقةُ عمر بعد ذلك، وصارت أصلاً لمشروعيّة الوقف في أصله، ولكثيرٍ من أحكامه، روى البيهقي بسنده إلى الُحمَيْدِي: «وتصدَّقَ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - برَبْعِهِ عند المَرْوَةِ وبالثَّنِيَّةِ على ولده، فهي إلى اليوم»، وقال الإمام النووي: «والعمل على هذا (فعل عمر) عند عامّة أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من المتقدمين، لم يختلفوا في إجازة وقف الأرض وغيرها من المنقولات، وللمهاجرين والأنصار أوقاف بالمدينة وغيرها، ولم ينقل عن أحدٍ منهم أنه أنكره، ولا عن واقف أنه رجع عما فعله لحاجة أو غيرها».

أول وثيقة وقفية في الإسلام

وكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أول وثيقة وقفية في الإسلام، وقد استند كل من كتب كتاباً وقفه من الصحابة -رضي الله عنهم- على ما جاء في كتاب عمر - رضي الله عنه -، وهذا نصها: «بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما أوصى به عبد الله عمرُ أميرُ المؤمنين إنْ حدَثَ به حدَثٌ، أنّ ثَمْغًا وصِرْمَةَ بنِ الأكوع، والعبدَ الذي فيه، والمائة سهم التي بخيبر ورقيقَه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمّد - صلى الله عليه وسلم - بالوادي، تليه حفصة ما عاشت، ثمّ يليه ذو الرّأي من أهلها، ألا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السّائل والمحروم وذوي القربى، ولا حرج على من وَلِيَه إنْ أكل أو آكَلَ، أو اشترى رقيقا منه».

والجهة التي وقف عليها عمر - رضي الله عنه - قد نصّ عليها بوضوح، في السائل والمحروم وذوي القربى، وابن السبيل، وفي الفقراء والرّقاب والضّيف وفي سبيل الله، فهو وقفٌ خيريٌّ على مصالح عدّة تتسم بالعموم وشدّة الحاجة.

وقف الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه

وقف أمير المؤمنين عثمان بن عفّان - رضي الله عنه - من أبقى الوقوف، التي يراها الزائرُ للمدينةِ المنوّرة عياناً إلى يوم النّاس هذا، وقصّة وقْفه لـ «بئر رُومة» مشهورٌ، في يومٍ كان النّاس إليها أحوجَ ما يكونون، فسبق - رضي الله عنه - إلى الفضل، بما وفّقه الله إليه وفضّله به من قوّة الإيمان، والاقتدارِ الماليّ، وعندما حُصِرَ عثمانُ - رضي الله عنه - في بيتِه من الخوارجِ، ورأى أنّ الأمّة قد نبتت فيها نابتةٌ جاحدةٌ لا تعرفُ الفضلَ لأهلِه ولا تُدْرك قيمةَ السابقين الأوّلين، ورمَتْ عثمانَ - رضي الله عنه - بالعظائمِ المكذوبةِ عليه، رأى - رضي الله عنه - أنْ يذكّرهم ببعضِ مقاماتِه مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان ممّا ذكرَه حادثةُ وقْفِه لبئر رومة، استجابةً لترغيبِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحريضِه.

عن ثمامة بن حَزْن القشيري، قال: «شهدتُ الدّار حين أشرف عليهم عثمان، فقال: ائْتوني بصاحبَيْكم اللّذَيْن أَلَّبَاكم عَلَيَّ. قال: فجيء بهما، فكأنّهما جملان-أو كأنّهما حماران-، قال: فأشرف عليهم عثمان، فقال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة وليس بها ماء يُستَعْذَبُ غير بئر رُوْمَةَ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يشتري بِئْرَ رُوْمَةَ فيجعل دلوه مع دِلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟». فاشتريتُها من صُلْبِ مالي، فأنتم اليومَ تمنعوني أنْ أشربَ منها حتى أشرب من ماء البحر؟ قالوا: اللهمّ نعم. فقال: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أنّ المسجد ضاقَ بأهله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟». فاشتريتُها من صُلْبِ مالي، فأنتم اليوم تمنعوني أن أصلّي فيها ركعتين؟ قالوا: اللهمّ نعم. قال: أنشدكم بالله وبالإسلام، هل تعلمون أنّي جهَّزْتُ جيش العُسْرَةِ من مالي؟ قالوا: اللهمّ نعم. ثمّ قال: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على ثَبِيْرِ مكة، ومعه أبو بكر وعمر وأنا، فتحرّك الجبل حتى تساقَطَتْ حجارته بالحضيض، قال: فركَضَه برِجْلِه وقال: «اسكُنْ ثَبِيْر! فإنّما عليك نبيٌّ وصِدِّيقٌ وشهيدان؟». قالوا: اللهم نعم. قال: الله أكبر، شَهِدُوا لي وربّ الكعبةِ أنّي شهيدٌ -ثلاثا».

المشهورُ المجزومُ

والمشهورُ المجزومُ به أنّ عثمان - رضي الله عنه - اشتراها ووَقَفَها، فقد كانت قبل ذلك بئرًا قائمةً، وتعبيرُ بعضِ الرواةِ بأنّ عثمان قد حفرَهَا، محمولٌ على أنّ ذلك كان توسعةً وتحسينًا وتجويداً لها، قال الحافظ: «روى البغوي في «الصحابة» من طريق بِشْر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها «رُوْمَةُ»، وكان يبيع منها القِرْبَةَ بِمُدٍّ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تبيعُنِيها بعَيْنٍ في الجنّةِ؟». فقال: يا رسول الله، ليس لي ولا لعيالي غيرُها. فبلغ ذلك عثمان - رضي الله عنه- ، فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثمّ أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتجعل لي فيها ما جعلتَ له؟ قال: «نعم». قال: قد جعلتُها للمسلمين. وإنْ كانت أوّلًا عَيْنًا، فلا مانع أنْ يحفر فيها عثمان بئرًا، ولعلّ العَيْنَ كانت تجري إلى بئرٍ، فوسّعها وطَوَاها فنُسِبَ حفرها إليه».


وقد وردت عند الترمذي وغيره روايةٌ صحيحةٌ تُفيدُ الوجه الذي وَقَفَ عليه عثمانُ - رضي الله عنه -، ففيها قولُه عن بئر رُوْمَة: «فجعلتُهَا للغنيِّ والفقيرِ وابنِ السّبيل»، فهذا الحديثُ بمختلف رواياته، يتّضح لنا منه ثلاثُ مناسباتٍ عظيمةٍ بذلَ فيها عثمانُ - رضي الله عنه - مالَه في سبيلِ الله، منها اثنتان في باب الوقف، وهما بئر رُوْمَة، والبقعة التي زادها في المسجد، والثالثة كانت إنفاقاً مباشراً على الجهادِ في سبيل الله تعالى، بتجهيزِه جيشَ العُسْرَةِ، وأمّا عن قيمةِ ما بذلَه ثمنًا لبِئْرِ رُوْمَةَ، فاختلفت الروايات، فرُوي: ثلاثون ألف درهم، وعشرون ألف درهم، واثنا عشر ألف درهم، بل قيل: مائة ألف درهم!











__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 25-02-2022, 09:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوقف في تراث الآل والأصحاب

الوقف في تراث الآل والأصحاب (7)

أوقـــــاف الصحابة رضي الله عنهم


عيسى القدومي

هذه سلسلة مقالات نسلط فيها الضوء على أوقاف آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعرضِ أنواع الأوقاف ومجالاتها، وآثارها في الدين والمجتمع، مع ذكر جملة من المقاصد الشرعية والفوائد الفقهية في أوقاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوقاف آله وصحبه -رضي الله عنهم-، جمعنا فيها ما رُوي من الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، والدالة على حرص الآل والصحب الكرام -رضي الله عنهم- على الامتثال التامّ لتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بذل المال واحتباس الأصول، وقفًا تنتفع به الأمة الإسلامية، وتنال به عظيم الأجر والثواب.

وقف الزبير بن العوّام - رضي الله عنه

عن عروة بن الزبير- رضي الله عنه - قال: إنّ الزبير - رضي الله عنه - «جعل دُوْرَه صدقةً على بنيه، لا تباع ولا تورث، وأنّ للمردودةِ من بناتِه أنْ تسكن غيرَ مُضِرَّةٍ ولا مُضَرٍّ بها، فإن هي استغنت بزوج، فلا حقّ لها»، وروى البيهقي عن الحُمَيْدِي ما يُفيدُ بأنّ أوقافَ الزبير كانت كثيرةً مشهورةً وباقيةً إلى وقته، قال: «وتصدّق الزبير بن العوّام - رضي الله عنه - بداره بمكة في الحراميّةِ، ودارَه بمصر، وأموالَه بالمدينةِ على ولدِه، فذلك إلى اليوم»، وواضحٌ من هاتين الرّوايتين أنّ وقف الزبير - رضي الله عنه - كان على ذريّته.

وقف سعد بن أبي وقّاص - رضي الله عنه

عن عامر بن سعد، عن أبيه -رضي الله عنهما- قال: عادني النبي - صلى الله عليه وسلم - في حَجّة الوداع، من وجع أشفَيْتُ منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثُلُثَيْ مالي؟ قال: «لا». قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: «لا». قلت: فالثلث؟ قال: «والثلث كثير، إنّك أنْ تَذَرَ ورَثَتَك أغنياء، خير من أنْ تَذَرَهم عالَةً يتكفّفون النّاس، ولستَ تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ بها، حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك». قلت: يا رسول الله، أأخَلَّفُ بعد أصحابي؟ قال: «إنّك لن تُخَلَّفَ، فتعمل عملًا تبتغي به وجه الله، إلا ازدَدْت به درجة ورفعة، ولعلّك تُخَلَّفُ حتى ينتفع بك أقوام ويُضَرَّ بك آخرون، اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردّهم على أعقابهم، لكن البائس سعد ابن خولة»، رثى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ توفّي بمكة.

والواقعُ يشهدُ أنّ سعدًا - رضي الله عنه - أخذَ الصدقةَ على عمومها، فلم يجعل تَصَدُّقَه قاصراً على بذل المال بتمليكِ رقبتِه إلى الغير، بل أدخلَ في ذلك الوقف، فحبسَ دُوْرَه على ولدِه، قال الحميدي: «وتصدّق سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - بداره بالمدينة وبداره بمصر على ولده، فذلك إلى اليوم»، وهذا وقفٌ على الذريّة كما هو واضحٌ، وقد تعلّقت بهذا الوقف واقعةٌ ذكرها الخصاف -بسنده-، عن الواقديّ، قال: حدّثنا محمد بن نجاد بن موسى بن سعد بن أبي وقّاص، عن عائشة بن سعد قالت: صدقةُ أبي حبسٌ لا تباع ولا توهب ولا تورث، وأنّ للمردودة من ولده أن تسكن غير مُضِرَّةٍ ولا مُضَرٍّ بها، حتى تستغني، قال الواقدي: فتكلّم فيها بعض وَرَثَتِه يجعلونَها ميراثًا، فاختصموا إلى مروان بن الحكم، فجمع لها أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنفذها على ما صنع سعد.

وقف أنس بن مالك - رضي الله عنه

وقَفَ أنس - رضي الله عنه - داراً له بالمدينةِ، فكانَ إذا حَجَّ مرَّ بالمدينةِ فنزل دارَه، قال البخاري: «وأَوْقَفَ أنسٌ داراً، فكان إذا قَدِمَ نزلها». قال الحافظ -موضّحًا دَلالةَ فعلِ أنسٍ وصِلتَه بترجمة البخاري المذكورة في الهامش-: «هذه الترجمةُ معقودةٌ لمن يشترط لنفسِه من وقْفِه منفعةً، وقد قيّد بعض العلماء الجوازَ بما إذا كانت المنفعةُ عامَّةً... وهو موافق لما تقدّم عن المالكيّة أنّه يجوز أنْ يَقِفَ الدّار ويستثني لنفسِه منها بيتًا».

والحافظُ بالإحالةِ على المالكيّة يُشيرُ إلى مسألة مُثارةٍ عندهم، وهي أنّ الوقْف عندهم وعند غيرهم يحتاجُ إلى أن يُحازَ عن الواقف ويخرج عن يده، كما قال اللّخمي: «الأحباسُ تفتقرُ إلى حَوْزٍ، كالهبات»، وقال ابن رشد: «الحيازةُ من تمام التّحبيس التي لا يصحّ القضاء به دونَها؛ إذ لا يصحّ لحاكم أن يحكم بمعيَّن إلا بعد أن يتعيّن عنده بالحيازة، هذا ما لا اختلاف فيه ولا ارتياب في صحّته».

وبناءً على هذا، فقد ثارت مسألةُ ما إذا وَقَفَ الإنسانُ على من في حَجْرِهِ وتحت ولايته، فهل يلزمُ أنْ يقبضَ نيابةً عنه ويصحُّ قبضُه؟ أم لا بدّ من إخراجه عن يده؟ وممّا ترتّب على ذلك أيضاً: ما إذا وَقَفَ على وجهٍ، ثمّ أرادَ أن ينتفع مع النّاسِ في ذلك الوجه، فهل يصحُّ ذلك؟ أم يكونُ ذلكَ إبطالاً منه للحيازةِ، ومن ثم رجوعاً منه في الوقف؟ هذا الذي أشار إليه الحافظ، وهو الذي يقرّر ابن رشد وغيره صحّته، كما في قوله: «مسألة: قال مالك: من حبس دارًا في سبيل الله، أو سلاحًا، أو دابّةً، فأنفَذَ ذلك في تلك الوجوه زمانًا، ثم أراد أن ينتفع به مع الناس، قال: إنْ كان ذلك من حاجةٍ فلا أرى بذلك بأسًا. قولُه: «ثم أراد أن ينتفع به مع الناس»، معناه: ينتفع به فيما سَبَّله فيه من السبيل، لا فيما سِوى ذلك من منافعه، فلهذا لم يَرَ بذلك بأسًا إذا فعل ذلك من حاجة؛ لأن الاختيار فيما جُعِلَ في السبيل ألا يعطى فيه إلاَّ لأهل الحاجة إليه، فإذا احتاج إليه في السبيل فاستعمله فيه لم يكن ذلك رجوعًا منه فيما حبّسه، ولا عَوْدًا منه في صدقته، والله أعلم». ووقف أنسٍ هذا، لم تكشف الروايةُ ما إذا كانت دارُه موقوفةً على ذرّيّته، أو لسُكْنى المحتاجين من أبناء السبيل، ونحو ذلك، فجهة الوقف مبهمة.

وقف جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما

قال الخصّاف: «حدّثنا محمد بن عمر الواقدي، قال: حدّثنا سالم مولى ثابت، عن عمر بن عبد الله العبسي، قال: دخلتُ على محمّد بن جابر بن عبد الله في بيتٍ له، فقلت: حائطُك الذي في موضع كذا وكذا، قال: ذلك حبسٌ من أبي جابر، لا يُباع ولا يُوهب ولا يُورَث». ولم تكشف الروايةُ جهةَ الوقف، إلّا أنّ السائل قال لمحمّد بن جابر: «حائطك» بالإضافةِ إليه، يُشعر أنّه كان مختصًّا به كاختصاصِ المالكِ، وأنّه هو الذي يتولّى أمره، فالأقربُ أنّه وقفٌ من جابر - رضي الله عنه - على ذريّته، والله -تعالى- أعلم.

وقف حكيم بن حزام - رضي الله عنه

قال ابن شبة: «واتّخذ حكيم بن حزام دارَه الشّارعةَ على البلاطِ إلى جنبِ دار مطيع بن الأسود، بينَهما وبين دار معاوية بن أبي سفيان، يحجز بينهما وبين دار معاوية الطريق، فوقَفَها، فهي بأيديهم اليوم. قال أبو غسان: حدّثنا الواقدي، عن عيسى بن محمد، مولى لفاطمة بنت عبيد، عن حكيم بن حزام: أنّه حبس دارَه، لا تُباع ولا توهب ولا تورَث». وهذه الدّار ذكرها ابن شبّة في جملة دُوْر بني أسد التي بالمدينةِ.

وقف خالد بن الوليد - رضي الله عنه

امتدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد - رضي الله عنه - على وقفه أعتُدَه وأدراعه في سبيل الله تعالى، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: أمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بالصّدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، وعبّاس بن عبد المطّلب فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما ينقم ابن جميل إلّا أنّه كان فقيرًا فأغناه اللّه ورسوله، وأمّا خالد: فإنّكم تظلمون خالدًا، قد احتبس أدْرَاعه وأعْتُدَه في سبيل اللّه، وأمّا العبّاس بن عبد المطّلب، فعمّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -، فهي عليه صدقةٌ ومثلُها معها».

الأَعْتُدُ: جمعُ عَتَدٍ، وأَعْتَادٌ جمعٌ للجمعِ (أعتُدِ)، وبه جاء لفظ مسلم، والمعنى: ما يُعدُّه الرجل من الدّوابّ والسّلاح، وقيل: هو الخيل خاصّة. يُقال: فرسٌ عتيدٌ: أي صَلْبٌ، أو مُعَدٌّ للركوب، أو سريع الوثوب.

وعن عمرو بن عبد الله بن عنبسة قال: سمعت محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان يقول: «لم يزل خالد بن الوليد مع أبي عبيدة حتى توفي أبو عبيدة، واستخلف عياض بن غنم الفهري، فلم يزل خالد معه حتى مات عياض بن غنم، فاعتزل خالد إلى ثغر حمص فكان فيه، وحبس خيلاً وسلاحاً، فلم يزل مقيماً مرابطاً بحمص حتى نزل به، فدخل عليه أبو الدرداء عائداً له، فقال خالد بن الوليد: إن خيلي التي حبست في الثغر وسلاحي هو على ما جعلتُه عليه عدة في سبيل الله قوة يُغزَى عليها، وتُعلف من مالي، وداري بالمدينة صدقة حبس لا تباع ولا تورث، وقد كنت أشهدت عليها عمر بن الخطاب ليالي قَدِمَ الجابية، وهو كان أمرني بها، ونعم العون هو على الإسلام».

وقف زيد بن ثابت - رضي الله عنه


أخرج البيهقي -بسنده- عن الإمام مالك - رضي الله عنه -، أنّ زيد بن ثابت - رضي الله عنه - كان قد حبس دارَه التي في البقيع، ودارَه التي عند المسجد، وكتب في كتاب حبسه على ما حبس عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. قال مالك: وحَبْسُ زيد بن ثابت عندي. قال: وكان زيد بن ثابت - رضي الله عنه- يسكن منزلًا في دارِه التي حبس عند المسجد حتى مات فيه.

وقول مالك رحمه الله: «وحَبْس زيد بن ثابت عندي»، يعني أنّ بين يديه كتاب الحَبْس، وقد اطّلع على ما كتبَ زيدٌ - رضي الله عنه -، فهي وِجَادةٌ صحيحةٌ وإنْ لم يَلْقَ مالكٌ زيدًا ولا أدركَه، إذا صحّ السّند إلى مالك، وقد قدّمنا في مواضع سابقةٍ أنّ ثبوت الأوقافِ مبنيٌّ على شاهدَي التاريخ والحسّ والتّسامُع فضلا عن الرواية المسندةِ على رسم المحدّثين، وجهة وقفِ زيدٍ، مستفادةٌ من إحالتِه - رضي الله عنه - على وقفيّة عمر - رضي الله عنه .







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 10-08-2022, 12:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوقف في تراث الآل والأصحاب



الوقف في تراث الآل والأصحاب (8)

أوقـــــاف الصحابة رضي الله عنهم


عيسى القدومي


هذه سلسلة مقالات نسلط فيها الضوء على أوقاف آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعرضِ أنواع الأوقاف ومجالاتها، وآثارها في الدين والمجتمع، مع ذكر جملة من المقاصد الشرعية والفوائد الفقهية في أوقاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوقاف آله وصحبه -رضي الله عنهم-، جمعنا فيها ما رُوي من الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، والدالة على حرص الآل والصحب الكرام -رضي الله عنهم- على الامتثال التامّ لتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بذل المال واحتباس الأصول، وقفًا تنتفع به الأمة الإسلامية، وتنال به عظيم الأجر والثواب.

وقف أبي طلحة زيد بن سهل - رضي الله عنه
أبو طلحة الأنصاري، هو زيد بن سهل بن الأسود - رضي الله عنه -، وهو من أكثر الأنصار مالاً، كانت له مزرعةٌ تسمّى (بَيْرُحاء) من أحبّ أموالِه إلى قلبِه، في أرضٍ ظاهرةٍ مقابلةٍ لمسجدِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشربُ من ماءٍ فيها عذْبِ المذاق. تحرّكَ قلبُ أبي طلحةَ - رضي الله عنه - إلى بذلِ هذا المال في سبيلِ الله مع نَفاسَتِه، مدفوعاً بقولِه تعالى: {لَنْ تَنَالُوْا البِرَّ حتّى تُنْفِقُوا ممّا تُحِبُّون}(آل عمران: 92).
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخلٍ، وكان أحبَّ أمواله إليه بَيْرُحَاء، وكانت مستقبلةَ المسجد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوْا البِرَّ حتّى تُنْفِقُوا ممّا تُحِبُّون}، قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنّ الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوْا البِرَّ حتّى تُنْفِقُوا ممّا تُحِبُّون}، وإنّ أحبَّ أموالي إليّ بَيْرُحَاء، وإنّها صدقةٌ لله، أرجو بِرَّها وذُخْرَهَا عند الله، فضَعْهَا يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بخٍ، ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابحٌ، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين». فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله، فقَسَمَها أبو طلحة في أقاربِه وبني عمّه.
اجعلها لفقراء أقاربك
وقال البخاري في (صحيحه): قال ثابت: عن أنس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة: «اجعلها لفقراء أقاربك»، فجعلها لحسّان، وأُبَيّ بن كعب وقد بيّن الحافظُ أنّها لم تكن حكرًا على حسّان وأُبَيّ -رضي الله عنهما- فقط، بل كان معهما آخرون، قال: «وقد تمسّك به من قال: أقلّ من يُعطى من الأقارب إذا لم يكونوا منحصرين اثنان، وفيه نظر، لأنّه وقع في رواية الماجشون عن إسحاق: فجعلَها أبو طلحة في ذي رَحِمِه، وكان منهم حسّان وأُبَيّ بن كعب. فدلّ على أنّه أعطى غيرَهما معهما، وهذه الصدقةُ حملَها جماعةٌ من أهلِ العلمِ على الوقف، من غير أن ينتفي تماماً احتمالُ أن تكونَ صدقةَ تمليك، قال الخطّابي: «وفي الحديث دليل على أنّ الوقف يصحّ وإنْ لم يذكر سُبُلَه ومصارفَ دخلِه».
مشروعية الحبس والوقف
وقال الحافظ: «واستُدِلّ به على مشروعية الحبس والوقف خلافًا لمن منع ذلك وأبطلَه، ولا حجّة فيه، لاحتمال أن تكون صدقةُ أبي طلحة تمليكًا»، وواضحٌ من كلامِ الحافظِ، أنّه يردُّ الاستدلالَ به على مشروعيّةِ الوقف لأجل تطرُّق الاحتمال، لا لأجلِ أنّه يجزمُ بأنّها صدقةُ تمليك، ومن جميلِ ما أفادَه الحافظ من الحديث قولُه: «وفيه فضيلةٌ لأبي طلحة، لأنّ الآية تضمّنت الحثّ على الإنفاقِ من المحبوب، فترقّى هو إلى إنفاقِ أحَبِّ المحبوب، فصوّب - صلى الله عليه وسلم - رأيَه، وشكر عن ربّه فعلَه، ثمّ أمرَه أنْ يخصّ بها أهَله، وكَنَّى عن رضاه بذلك بقوله: بَخٍ!».
وقف سعد بن عبادة - رضي الله عنه
أراد سعد بن عبادة -رضي الله عنه - أن يبرّ أمّه بعد وفاتها، فيرتّب لها صدقةً يجري عليها أجرُهَا وثوابُها، فاسترشدَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر، فأرشدَه إلى أن يكون (الماء) هو موضوعُ صدقتِه، فإنّه من أفضل الصدقة، لا سيما إذا انضمّ إلى ذلك أنْ يوافقَ التصدُّق بالماء حاجةَ النّاس عند شُحّ الماء، أو في البلدان الحارّة التي يكثُر الطّلب فيها عليه حتى مع توفُّره. عن سعد بن عبادة - رضي الله عنه -، أنّه قال: يا رسول الله، إنّ أمّ سعدٍ ماتت، فأيُّ الصّدقةِ أفضل؟ قال: «الماء»، قال: فحفر بئرًا، وقال: هذه لأمّ سعد، ورواه الحسن رحمه الله بما يفيدُ أنّ تلك البئرَ كانت ماثلةً يستقي منها النّاسُ بعد ذلك، مشهورة معروفة، قال قتادة: سمعتُ الحسن يحدّث عن سعد بن عبادة أنّ أمّه ماتت، فقال: يا رسول الله، إنّ أمّي ماتت، أفأتصدّق عنها؟ قال: «نعم»، قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: «سَقْيُ الماء». فتلك سِقَاية سعدٍ بالمدينة، وفي لفظ أحمد: «فتلك سقاية آل سعدٍ بالمدينةِ»، والحسنُ -رحمه الله- لم يَلْقَ سَعد بن عبادة ولم يسمع منه، فهو يحدّث عمّا رآه مشهوراً في وقتِه منسوبًا إلى سعد بن عبادة من الصّدقة، وفي هذا الحديث فضيلةٌ لسعد، لحُسْن استجابتِه لما أُرشد إليه، ولحرصِه على برّ أمّه بما أجرى من الصدقةِ عنها بعد مماتها، والمشهور أنّ سعدًا - رضي الله عنه - قد أوقَفَ عن أمّه حائطًا في الأصل، فعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- أنّ سعد بن عبادة أخا بني ساعدة توفّيت أمّه وهو غائبٌ عنها، فأتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنّ أمّي توفّيت وأنا غائبٌ عنها، فهل ينفعُها شيءٌ إن تصدَّقْتُ به عنها؟ قال: «نعم». قال: فإنّي أُشهدك أنّ حائطي المخراف صدقةٌ عليها.
قال الحافظ: «قوله: المخراف، بكسر أوّله وسكون المعجمة، وآخره فاء، أي: المكان المثمر، سُمّي بذلك لما يُخْرَفُ منه، أي: يُجْنَى من الثمرة، تقول: شجرةٌ مِخْرافٌ ومِثْمَارٌ، قاله الخطابي. ووقع في رواية عبد الرزاق: المِخْرَفُ -بغير ألف-، وهو اسمُ الحائط المذكور، والحائط: البستان».
وقف أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر - رضي الله عنه
قال ابن شُبّة في وصفه لبعض دُوْر المدينة: «اتّخذ أبو هريرة الدوسيُّ، صاحبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنه دارًا بالبلاط، بين الزّقاق الذي فيه دار عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، وبين خطّ البلاط الأعظم، فباعَها ولدُه من عمر بن بزيع، وكان يسكنها موالي أبي هريرة فخرجوا منها وأرضاهم ابن بزيغ، وبناها اليوم، وقال الواقديُّ... عن نُعَيْم بن عبد الله قال: شهدت أبا هريرة - رضي الله عنه - تصدّق بدارِه حبيسًا»، فإنْ كانت هذه الدار الموقوفةُ هي التي باعها ابنُه، فالظاهر أنّه كان وقَفَها -رضي الله عنه - على ذرّيّته ومواليه، واشترطَ أنّ أولادَه إنْ احتاجوا باعوها، فكان ذلك، والله أعلم.
وقف عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما
كان من خبر عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، أنّه لا يعجبُه شيءٌ من ماله إلّا قدّمه لله. عن نافع مولى ابن عمر، قال: «كان عبد الله بن عمر يشتري السّكّر، فيتصدّق به، فنقول له: يا أبا عبد الرحمن لو اشتريتَ لهم بثمنِه طعامًا كان أنفع لهم من هذا، فيقول: إنّي أعرف الذي تقولون، ولكني سمعت الله، يقول: {لَنْ تَنَالُوْا البِرَّ حتّى تُنْفِقُوْا مِمَّا تُحِبُّوْنَ}، وإنّ ابنَ عمر يحبّ السّكّر».
وفي مناسبةٍ أخرى، بلغ من سرعةِ استجابتِه ما رواه مجاهد، قال: «قرأ ابن عمر وهو يصلّي، فأتى هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوْا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوْا مِمَّا تُحِبُّوْنَ}. قال: فأعتق جاريةً له وهو يصلّي! أشار بيدِه إليها»، وهذه الجارية كانت جاريةً روميّةً له يحبّها حبًّا جمًّا، وردت تسميتها في بعض الروايات رُمَيْثَة، وفي بعضها مرجانة.
وعلى هذا، فلم يكن ابن عمر لتفوته سنّة الوقف، فقد جعل ابنُ عمر نصيبَه من دار عمر سُكنى لذوي الحاجةِ من آل عبد الله، وقال ابن سعد -بسنده- عن نافع: «تصدّق ابن عمر بداره محبوسةً لا تباع ولا توهب، ومن سكنها من ولده لا يخرج منها، ثمّ سكنها ابن عمر»، وعلى هذا يكون وقْفُه على الذريّة، ومعنى أنّه سكنَهَا، أي سكَنَ جزءًا منها، كما تقدّم في صنيعِ زيدِ بن ثابت وأنس بن مالك، -رضي الله عنهم- جميعاً.
وقف عقبة بن عامر - رضي الله عنه
أخرج الخصّاف -بسنده- عن أبي سعاد الجهني، قال: أشهَدَنِي عقبةُ بن عامر على دارٍ تصدّق بها حبسًا، لا تُباع ولا تُوهب ولا تُورث، على ولده وولد ولده، فإذا انقرضوا فعلى أقرب النّاس منّي، حتى يرث الله الأرضَ ومن عليها، وعلى هذا يكون وقْفُه - رضي الله عنه - على الذريّة.
وقف معاذ بن جبل - رضي الله عنه
قال الخصاف: حدّثنا محمد بن عمر الواقدي حدّثنا النعمان بن معن، عن عبد الرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك، قال: وحدّثنا يحيى بن عبد الله بن أبيّ عن أبيه قالا: «كان معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أوسع أنصاريّ بالمدينة رَبْعاً، فتصدّق بداره التي يقال لها: دار الأنصار اليوم، وكتب صدقته». قالا: ثم إنّ ابن أبي اليَسَرِ خاصمَ عبد الله بن أبي قتادة فى الدّار، وقال: تتبع هي صدقتَه على من لا ندري أيكون أو لا يكون، وقد قضى أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-: لا صدقة حتى يقبض، فاختصموا إلى مروان بن الحكم، فجمع لهم مروان بن الحكم أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأَوْا أنْ تنفّذ الصدقة على ما سبّل، ورأوا حَبْسَ ابنَ أبي اليَسَرِ ليكون له أدبًا، فحبَسَه أيّامًا، ثمّ كُلِّمَ فيه فخَلَّاه، فلقد كان الصبيان يضحكون به.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 02-11-2022, 01:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوقف في تراث الآل والأصحاب

الوقف في تراث الآل والأصحاب (13)
عناية الآل والأصحاب بتوثيق الأوقاف



عيسى القدومي


هذه سلسلة مقالات نسلط فيها الضوء على أوقاف آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، نقف فيها على المقاصد الشرعية والفوائد الفقهية للوقف، جمعنا فيها ما رُوي من الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، والدالة على حرص الآل والصحب الكرام -رضوان الله عليهم- على بذل المال واحتباس الأصول، وقفًا تنتفع به الأمة الإسلامية، وتنال به عظيم الأجر والثواب.


القسم الأوّل: التوثيقُ بالإشهاد

كان الإشهادُ من الممارساتِ الشائعةِ في فعل الآل والأصحاب، فوقفُ عمر - رضي الله عنه - لأرض خيبر ثبتَ بدايةً بالإشهاد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك كتب عمر - رضي الله عنه - وثيقته، وأشهد عليها في وصيته التي كتبها في خلافته، ودعا نفراً من المهاجرين والأنصار؛ فأحضرهم لذلك، وأشهدهم عليه، فانتشر خبرها.

وعثمان - رضي الله عنه - أشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة على وقفه عندما أعلن وقفه لبئر رومة سقايةً للمسلمين، وسمع ذلك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وكلُّ من حضر من الصحابة، وذلك (إثبات بالشهادة)، وقد استند على هذا الثبوت السّابق في إبطالِه قولَ أهل الباطلِ الذين خرجوا عليه، عندما أعادَه على مسامعِ الجمعِ العظيمِ وهو محصورٌ في داره ظلمًا -صلى الله عليه وسلم -، فلم يستطيعوا أن يَفُوهوا بحرفٍ واحدٍ من الجحدِ والإنكار، لقوّة ثبوت تلك الفضائل.

وأمّا سعدُ بن عبادة، فقد جاء في حديثِ وَقْفِه حائطَه المِخْراف، أنّه قال للنبيّ -[-: «فإنّي أُشهدك أنّ حائطي المخراف صدقةٌ عليها»، أي على أمّه.

وبوَّب البخاري -رحمه الله- على هذا الحديث بقوله: «باب: الإشهادُ في الوقف والصدقة»، وقد ألحق الوقف بالصدقة، وذكر ابن حجر في إشهاد سعد أنّ قولَه: «أشهدك» يحتمل إرادة الإشهاد المعتبر، ويحتمل أن يكون معناه الإعلام.

وقال الحافظ: «واستدلّ المهلّب للإشهاد في الوقف بقوله -تعالى-: {وَأَشْهِدُوا إذا تَبَايَعْتُمْ}، قال: فإذا أُمر بالإشهاد في البيع وله عِوَضٌ، فلَأَنْ يُشرع في الوقف الذي لا عِوَضَ له أَوْلَى»، وملحظ الإمام البخاريّ -رحمه الله- في هذا التبويب، شرحه الإمام ابن المنيّر، فقال: «كأنّ البخاريَّ أرادَ دَفْعَ التّوهُّمِ عمّن يظنّ أنّ الوقف من أعمال البِرِّ فيُنْدَبُ إخفاؤُه! فبيّن أنّه يُشرع إظهارُه لأنّه بِصَدَدِ أنْ يُنازَعَ فيه، ولا سيما من الوَرَثة».

حكم الإشهادِ عند الآل والأصحاب

من خلال النّظر في الآثار والنّصوص التاريخيّة، فإنّنا لا نجد أنّ الصحابةَ الذين وقَفُوا قد صرَّحُوا بحكم الإشهادِ على الوقف خاصّة، وإنّما رُصِدَ ذلك وثبت من أفعالِهم، وعلى هذا فإنّ المأثور عنهم يندرجُ في عموم المشروعيّة الثابتةِ بنصوص القرآن والسُّنَّةِ، حيثُ إنّ الأصلَ أنّ الوقْفَ معدودٌ من عقود التبرُّعات، فالأصلُ أنّ أحكامَ هذا الإشهادِ من حيث صفتُه وهيئتُه وأحكامُ الشهودِ القائمين به، هي أحكامُ الشّهودِ ذاتُها في باقي العقود.

حكم الإشهادِ على الوقف

دلّ على مشروعية التوثيق بالشهادة: الكتاب، والسنة، والإجماع، وفعل الصحابة - رضي الله عنهم -، وقد حرص صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إثبات الأوقاف بإشهارها والإشهاد عليها.

جاء في «الموسوعة الفقهية»: «إشهاد الشهود على التصرفات وسيلة لتوثيقها، واحتياط للمتعاملين عند التجاحد... والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم؛ لأن الحاجة داعية إلى الشهادة لحصول التجاحد بين الناس، فوجب الرجوع إليها».

وفي حكم الإشهاد؛ قال ابن هبيرة: «واتفقوا على أنّ الإشهاد مستحب، وليس بواجب»، وهذا يعمّ الإشهاد على العقود وغيرها؛ سواء كتبت أو لم تكتب.

وفي الفقه الإسلاميّ، لم يُشترط الإشهادُ على الوقف لصحّته، وإنّما كما تقدّم في التمهيدِ عند الحديث عن الصيغةِ، فإنّ الوقف ينعقدُ شرعًا بمجرّد صدور لفظٍ أو فعلٍ قرّر الفقهاءُ أنّه جُعل أَمَارةً شرعيّةً على انعقادِه.

هذا من حيث انعقادُه شرعًا ولُزومُه لذمّة الواقفِ، أمّا عند الاحتياجِ إلى الإلزامِ القضائيّ به، كما لو رجعَ الواقفُ عن الوقف بعد عَقْدِه ورفض تسليمَه لمن يتولّاه ويصرفُ غلَّتَه إلى أصحاب الحقّ، فإنّ القاضي لا يقضي إلّا بالبيّنةِ المعتبرةِ التي تُبِينُ الحقّ.

قال ابن رشد: «فمن شرطِ تمامِه القبضُ والحيازةُ، كالهبة والصدقة، فإنْ لم يُقبض عنه ولا خرج عن يده حتى مات فهو باطلٌ، يكون موروثًا عنه، والعقدُ يصحّ ويلزم، وإنْ لم يقارنه القبض، وليس للمحبِّس الرجوع فيه، ويلزمه إقباضُه للمحبَّس عليه، فإنْ امتنع من ذلك، جُبر عليه».

ومعلومٌ بالبداهةِ أنّه لا سبيلَ إلى جَبْرِهِ قضاءً، إلّا بإقامةِ بيِّنَةٍ تُخَوِّلُ القاضي بذلك، وهذه البيّنة إمّا أن تكونَ إقراره، أو شهودًا على إقراره أو على خطّه، على وَفْق ما هو مقرَّرٌ عند الفقهاء في أبواب الدّعاوى والبيّنات.

بنود قانونية في العهود المتأخرة لإثبات الوقف

إلا أنّه في العهود المتأخّرة أدرجت بعض الدول الإسلامية بنوداً قانونية لإثبات الوقف؛ كاشتراط صدور إشهاد رسمي ممن يملكه أمام الجهة المختصة بسماعه، وبناءً على ذلك، فقد اعتُبر الإشهاد شرطاً لصحة الوقف، واستُثني وقف المسجد؛ فهو لا يزال على حكمه الفقهي الذي اتفق فيه الفقهاء على صحة الوقف على المسجد وتوابعه، سواء تم الإشهاد أم لا.

وقبل قانون الأوقاف المصريّ المُشار إليه بوقتٍ غيرِ بعيد، كانت أصول التقعيدات القانونيّة مستمرّةً على عدم الإلزامِ بالإشهاد، ففي المادّة (152) من «ترتيب الصُّنوف»: «ينعقدُ الوقف بصدورِ لفظٍ من الألفاظ الخاصّة به الصادرةٍ من أهلِه، مُضافً إلى محلٍّ قابلٍ لحكمِه، وهو المالُ المُتقَوَّمُ». اهـ

وفي بيان الشهادة التي تقبل في الوقف قال الخصاف: «إن شهد الشهود أنّ فلاناً أقر عندنا أنه وقف هذه الأرض وقفاً صحيحاً وحددها، وأنه كان مالكها في وقت ما وقفها قضينا بأنها وقف من قبل الواقف وأخرجناها من يدَيِ الذي هي في يديه».

الوقوف التي تقادم عهدها

وفي شأن الوقوف التي تقادم عهدها، قال: «ما كان في أيدي القضاة منها وما كان لها رسوم في دواوين القضاة، أُجريت على الرسوم الموجودة في دواوينهم استحساناً إذا تنازع أهلها فيها، وما لم يكن لها رسوم في دواوينهم يُعمل عليها، فالقياس فيها إذا تنازع القوم فيها أن يُحملوا على التثبيت، فإن ثبّت في ذلك شيئا حُكم له به».

الإعلان عن الوقف

وممّا شاع في العهود الإسلامية أنّ الواقفين كانوا يتعمدون الإعلان عن أوقافهم؛ حتى يعرف الناس -على اختلاف طبقاتهم- بالوقف وشروطه، ومن الطرائف التي نقلتها كتب التاريخ: زفُّ كتاب الوقف بالأناشيد والأشعار في شوارع القاهرة! فضلاً عن الحفلات التي تقام -عادة- عند افتتاح المنشآت الموقوفة، مثل المدرسة وغيرها.

فالوقف بعد لزومه والحكم به مآله إلى الشيوع والاشتهار أصلاً، ولن يبقى مكتوماً كصلاة العبد بالليل أو صدقته على الفقير في خلوةٍ، فإنّ الصلاة لله وحده، والصدقة على الفقير لا يضرّ صاحبها أنْ يجحدها الفقير بعد ذلك.

أمّا الوقف ففي تعريضه لإمكان الجحد إضرارٌ به وبكلّ منتفعٍ به في شأن الدّنيا أو الآخرة، فإشاعته وإذاعة خبره أصلح من كتمانه، بل الإشهار من وسائل حماية الوقف المباشرة.

القسم الثاني: التوثيقُ بالكتابةِ

ربّما لا يقفُ المتتبّع للنّصوصِ والآثار الواردةِ في أوقافِ الآل والأصحاب، على أنّ واحدًا منهم -رضي الله عنهم- قد اكتفى بالتوثيقِ بالكتابةِ وحدَها، وإنّما في العادةِ، يُذكر الشّهودُ على المكتوبِ وتُكتَب أسماؤُهم، كما سيأتي في النماذج التي سنختارها من الوقفيّات إن شاء الله.

والكتابة أبقى من الشهادة؛ لذهاب أعيان المستشهَد بهم، ففيها حفظٌ للوقف من الضياع مع مرور الأيام، وتعاقب السنين، وقطع الأطماع الحاملة على الاستيلاء على الوقف وإنكار وقفيته، باعتبار أن التوثيق يُعَدُّ من الوسائل القوية في إثبات الحقوق عند التقاضي.

وتوثيق الوقف -أي: كتابةً- هو: «تدوين ثبوت الوقف أو تسجيل إنشائه على وجه يحتج به شرعاً». وذلك دفعاً للارتياب والشكوك التي تحصل بمرور الزمان حول مصارف الوقف، والشروط الجعلية للواقف، وسائر ما يلزم مما هو موثق في صك الوقف ونحوه، مما يكون له عظيم الأثر على ضبط التصرفات من التغيير والأهواء.

فمن أعظم أسباب حفظ الأوقاف واستمرارها توثيقها من بعد الإشهاد بالكتابة، أو بالكتابة والإشهاد عليها مباشرةً، مما يدفع أيدي المعتدين والطامعين فيها، وهو السبيل الذي يحقق مقاصد الواقفين في بقاء أوقافهم مع تعاقب السنين، والحفاظ عليها من الضياع والاندثار، والتقيد بمصارفها كما نص عليها الواقف، وضبطها من التغيير والأهواء.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 08-11-2022, 02:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوقف في تراث الآل والأصحاب

الوقف في تراث الآل والأصحاب (14)
عناية الآل والأصحاب بتوثيق الأوقاف

عيسى القدومي


هذه سلسلة مقالات نسلط فيها الضوء على أوقاف آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعرضِ أنواع الأوقاف ومجالاتها، وآثارها في الدين والمجتمع، مع ذكر جملة من المقاصد الشرعية والفوائد الفقهية في أوقاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوقاف آله وصحبه -رضي الله عنهم.
توثيق عمر بن الخطاب لوقفه بالكتابة بعد الإشهاد

ممّن وثّق وَقْفَه بالكتابةِ بعد الإشهاد: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ويُعَدُّ كتاب وقف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو أول وثيقة وقفيّة في الإسلام، وقد استند كل من كتب كتابَ وَقفِه من الصحابة -رضي الله عنهم- على ما جاء في كتاب عمر - رضي الله عنه -، وعلى منوالهم سار التابعون وأتباعُهُم.

وتعد هذه الوثيقة العظيمة من أجلِّ ما وصل إلينا بطرق صحيحة، ضمن الوثائق الوقفية التي رويت عن الصحابة الكرام والتي تلقي الأضواء على تاريخ التوثيق في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، ولذلك حظيت بالعنايةِ، وتوارثَها الفقهاء والمحدّثون وتَنَاسَخُوها، قال الحافظ: «وقد أخرج أبو داود صفةَ كتاب وَقْفِ عمر من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري قال: نَسَخَهَا لي عبدالله بن عبدالحميد بن عبدالله بن عمر...»، وقد توفي يحيى بن سعيد الأنصاري سنة (143هـ).

حرص الصحابة على كتابة صكوك الأوقاف

ولا شك أن هذه الوثائق والحجج تدل على حرص الصحابة رضوان الله عليهم على كتابة صكوك الأوقاف؛ لأن الأوقاف تبقى أزمنة عديدة ولا تحفظ حقوقها إلا بالصكوك الشرعية، والواقفون من الآل والأصحاب حرصوا على تأكيد الوقف وتأبيده ولزومه؛ فتضمَّنت وثائق الوقف تلك العبارات، فقد جاء في جُلِّ الأوقاف من بعدهم عبارة: «وقفًا صحيحًا شرعيًّا مؤبدًا، وحبسًا صريحًا، حبَّسه وسبَّله للّه تعالى، دائما أبدًا حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها»، ومن المستحب تفصيلُ الواقف وقفه في وثيقته؛ لقطع احتمال المنازعةِ وإزالة اللّبس عينه وحدوده وشروطه ومصارفه، ومن يتولّى نظارتَه.

شروط الواقف بمثابة منزلة النصوص الشرعية

وقد اتفق العلماء على أن شروط الواقف -في الجملة- مصانة في الشريعة، وأنّ العمل بها واجب، وعبَّر ابن القيم - رحمه الله - عن هذا المعنى بقوله: «الواقف لم يُـخرج مالَه إلا على وجه معين؛ فلزم اتّباع ما عيّنه في الوقف من ذلك الوجه»، وأهل العلم رفعوها إلى منـزلة النصوص الشرعية؛ من حيث لزومها ووجوب العمل بها، فقالوا: «إن شرط الواقف كنص الشارع». ولكن هذه الشروط لا تكون بهذه المنـزلة إلا إذا كانت محققة لمصلحة شرعية، أو موافقة للمقاصد العامة للشريعة، وهي المتمثلة في: حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، ومع ورود التنصيص على أنّ شرط الواقف كنصِّ الشارع عن جمعٍ كبير من أهل العلم، إلا أنّهم اختلفوا في تفسير وجه الشَّبه ومدى التطابُق بين (شرط الواقف) و (نَصِّ الشارع)، ونُوْرِدُ هنا نموذجَيْن من كلامِهِم:
مستثنيات تجوزُ فيها مخالفةُ شرطِ الواقفِ

قال ابن نُجيم: «شرطُ الواقف يجب اتّباعُه لقولهم: شرطُ الواقف كنَصِّ الشارع، أي: في وجوب العمل به، وفي المفهوم والدَّلالة... إلّا في مسائل:
- الأولى: شرَطَ أنَّ القاضي لا يعزلُ النّاظر، فله عزل غير الأهل.

- الثانية: شرَطَ أنْ لا يُؤَجَّر وقفُه أكثر من سنةٍ، والنّاس لا يرغبون في استئجاره سنةً، أو كان في الزيادة نفعٌ للفقراء، فللقاضي المخالفة دون النّاظر.
- الثالثة: لو شَرَطَ أنْ يُقْرَأَ على قبره، فالتعيينُ باطل.
- الرابعة: لو شَرَطَ أنْ يُتَصَدّقَ بفاضلِ الغَلَّة على من يسأل في مسجدِ كذا كلَّ يومٍ، لم يُرَاعَ شرطُه؛ فللقيِّم التصدُّق على سائلِ غيرِ ذلك المسجدِ، أو خارجَ المسجد، أو على من لا يسأل.
- الخامسة: لو شَرَطَ للمستحقِّين خُبزًا أو لحمًا معيَّنًا كلَّ يومٍ، فللقيِّم أن يدفعَ القيمةَ من النقدِ، وفي موضعٍ آخر لهم طلبُ العَيْن وأخذُ القيمة.
- السادسة: تجوز الزيادة من القاضي على معلومِ الإمامِ إذا كان لا يكفيه، وكان عالماً تقيًّا.
- السابعة: شَرَطَ الواقفُ عدم الاستبدال، فللقاضي الاستبدالُ إذا كان أصلح».
متى يكون شرط الواقف غير واجب الاتّباع؟

نحن نلاحظُ في المستثنيات التي تجوزُ فيها مخالفةُ شرطِ الواقفِ أنّه يجمعها معنىً واحدٌ تقريباً، وهو أنّ شرط الواقف غير واجب الاتّباع إذا كان ضارًّا بمصلحة الوقف أو الموقوف عليهم، أو فيه تضييق عليهم، أو كان يُفضي إلى التحكُّم في غلّة الوقف على نحوٍ عبثيٍّ، يعطِّل المصلحة العامّة ويقتُل منافع المال المحترم شرعًا، بحيث لو تصرَّف الإنسانُ في مالِه من غير وقْفٍ على ذلك النَّحو، لكان اتِّجاه الشّرع في الغالب أن يمنعه من ذلك التصرُّف، دفعاً للضّرر، وحفظاً لمصلحته.
بينما نجد شيخ الإسلام ابن تيميّة يحمل العبارةَ على أنّ وجه الشبه هو الدَّلالةُ والمفهوم، دون وجوب العمل بالضَّرورة، وجاء عنه -رحمه الله- في «الاختيارات الفقهيّة» للبعلي: «ولا يلزمُ الوفاءُ بشرط الواقف إلا إذا كان مستحبًّا خاصّة، وهو ظاهر المذهب أخذاً من قول أحمد في اعتبار القُربة في أصلِ الجِهَة الموقوفِ عليها.
ويجوز تغييرُ شرطِ الواقفِ إلى ما هو أصلحُ منه، وإنْ اختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفيّة، واحتاج النّاس إلى الجهاد، صُرِفَ إلى الجُنْدِ.

نصوصُ الواقفِ كنصوصِ الشّارعِ

وقول الفقهاء: نصوصُ الواقفِ كنصوصِ الشّارعِ، يعني في الفهم والدَّلَالةِ، لا في وجوب العمل، مع أنَّ التحقيقَ أنَّ لفظ الواقفِ والمُوصي والنَّاذِرِ والحالفِ وكلِّ عاقِدٍ يُحمل على مذهبِه وعادتِه في خطابِه ولغتِه التي يتكلّم بها، وافقَ لغة العرب أو لغةَ الشارع أو لا، والعادة المستمرَّة والُعرف المستقِرُّ في الوقفِ يدلُّ على شرطِ الواقفِ أكثرَ ممّا يدلُّ لفظُ الاستفاضة»، قال البعلي: «وظاهر كلام أبي العبّاس في موضع آخر خلاف ذلك، وإنْ نُزِّلَ تنزيلاً شرعيًّا لم يجُز صرفُه بلا مُوجبٍ شرعيّ، وكلُّ متصرِّفٍ بولاية إذا قيل له: افعل ما تشاء فإنّما هو لمصلحة شرعية، حتى لو صرَّحَ الواقفُ بفعلِ ما يهواهُ أو ما يراهُ مطلقاً؛ فهو شرطٌ باطل لمخالفتِه الشرعَ، وغايتُه أن يكون شرطًا مباحًا، وهو باطلٌ على الصحيح المشهور، حتى لو تساوى فِعْلَانِ عُمِلَ بالقُرْعَةِ، وإذا قيل هنا بالتخيير فله وجهٌ».
ويشرح الإمام ابن القيّم -رحمه الله- هذه المسألة بقوله: «وأمّا ما قد لهج به بعضهم من قوله: «شروطُ الواقفِ كنصوص الشارع»، فهذا يرادُ به معنىً صحيحٌ ومعنى باطلٌ، فإن أُريد أنها كنصوص الشارع في الفهم والدَّلالة، وتقييد مطلقها بمقَيَّدِها، وتقديمِ خاصِّهَا على عامِّها، والأخذ فيها بعمومِ اللَّفظ لا بخصوص السبب، فهذا حقٌّ من حيث الجملةُ. وإنْ أُريد أنها كنصوص الشارع في وجوب مراعاتها والتزامها وتنفيذها، فهذا من أبطل الباطل! بل يبطُل منها ما لم يكن طاعة للَّه ورسوله، وما غيره أحبُّ إلى اللَّه وأرضى له ولرسوله منه، ويُنَفَّذُ منها ما كان قُرْبَةً وطاعةً».
والذي يظهر أنّ هذا الضّابط الذي أبرزناهُ في المنقول عن شيخ الإسلام ابن تيميّة سابقًا يمثِّل نقطة الالتقاء، والضابطَ الذي يجب الانطلاق منه عند وضع الحدِّ الفاصل بين ما تجب مراعاته وما لا تجب مراعاته من شروط الواقف، لأنّ الذين أطلقوا وُجوب مراعاة شروط الواقف، استثنَوْا من ذلك الإطلاق صوراً، فدلّ على أنّ الإطلاق ليس على ظاهره عند الجميع.

ولا ريب أنّ الأصل في المسألة هو ما عبَّر عنه أهل العلم بقولهم: «يلزم مراعاةُ الشرط بقدر الإمكان».

قال العلّامة أحمد الزّرقا: «ومراعاتُه بالوفاء به...والمراد بالشرط هنا: المُقَيَّدُ به، المُعَرَّفُ بأنَّه: التزامُ أمرٍ لم يوجَد، في أمرٍ وُجِدَ بصيغةٍ مخصوصةٍ، لا المعلَّق عليه...والفرق بين المعَلَّقِ بالشّرط والمُقَيَّدِ بالشّرط: أنّ المعلَّق بالشرط عدمٌ قبل وجود الشرط، لأنّ ما توقَّفَ حصولُه على حصول شيءٍ يتأخَّر بالطَّبع عنه، بخلافِ المقيَّد بالشرط، فإنَّ تقييدَه لا يوجب تأخُّرَه في الوجود على القيد، بل سبْقَه عليه كما هو ظاهرٌ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 186.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 180.15 كيلو بايت... تم توفير 6.08 كيلو بايت...بمعدل (3.27%)]