سلام (قصة حول مرض الشيزوفرينيا - مرض الانفصام) - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4376 - عددالزوار : 826444 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3907 - عددالزوار : 374334 )           »          سحور 9 رمضان.. حواوشي البيض بالخضار لكسر الروتين والتجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 283 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 361 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 480 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 380 )           »          صحتك فى شهر رمضان ...........يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 376 )           »          اعظم شخصيات التاريخ الاسلامي ____ يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 382 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11482 - عددالزوار : 180165 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر > من بوح قلمي

من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25-06-2021, 04:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 130,345
الدولة : Egypt
افتراضي سلام (قصة حول مرض الشيزوفرينيا - مرض الانفصام)

سلام (قصة حول مرض الشيزوفرينيا - مرض الانفصام)
سجى رياض صالح




(مرض الانفصام Schizophrenia)


كانت سها جالسة وسط صاحباتها والبسمة مرسومة على شفتيها الورديتين الرقيقتين.. كانت هناك لمعة فرح وفخر في عينيها السمراوتين وهي تتطلع إلى ما حولها... فها هي اليوم وبفضل الله تعالى تتخرج وتتحصل على درجة الدكتوراه بعد مسيرة طالت أكثر من ست سنوات.. كانت تظن أن هذا اليوم لن يأتي أبدًا... فلطالما أطالت السهر.. ولطالما يئِسَت من قدرتها على إنهاء ما سعت إلى تحصيله، ليس لعدم ثقتها بنفسها، وإنما لأنه فعلًا الحياة صارت صعبة بهمومها ومتاعبها وأعبائها ومسؤولياتها، حتى صار إنهاء كل يوم بيوم، بل كل ساعة بساعة، فيه مشقة وجهد كبير...

نظرت سها إلى وجوه زميلاتها وزملائها من خريجي هذه الدفعة... كان ثلاثة طلبة هم الذين أنهوا رسالة الدكتوراه في علم النفس، وثلاثة آخرون في تخصصات أخرى في هذا الفصل الدراسي، أما الباقي من الخريجين فهم خريجو مرحلة الماجستير والبكالوريوس.

نظرت إلى وجوه أولئك الخريجين من حولها.. وتساءلَت في نفسها: سبحان الله! كم من الجميل أن يكون الإنسان حرًّا طليقًا بلا هموم.. يعني هذه الدفعة، وخاصة من خريجي البكالوريوس، هم مجموعة من الشابات والشبان الذين لم تَعصرهم الحياة بعد... ولا يعلمون من الحياة الواقعية إلا النزر اليسير... توقفت في مسار تفكيرها وقالت لنفسها: إنه ليس من العدل أن تحكم على خبرات مَن حولها، فما علمها بما وراء هذه البسمات، فكم من بسمة غطت وغلفت دموعًا وجروحًا عميقة لا يعلم بها إلا رب العباد... كيف لها ألا تعلم بذلك وهي نفسها من هذه النفوس... جرَّها تفكيرها إلى قبل ما يقرب من خمسة عشر عامًا، وبالتحديد عندما اقترب عمرها من السابعة عشرة...
••••

تذكَّرَت يوم ميلادها السابع عشر، وكيف أنها كانت سعيدة بفستانها الأزرق بلون السماء، وحذائها الفضي ذي الكعب العالي.. وبفرحتها وانتظارها لتوءمها سلام؛ حتى يصحبها وأختهم الصغيرة ووالديهم إلى المطعم، تذكرت كيف بدأ ذلك اليوم ببسمات حنونة من أمها، ونظرات الفخر من أبيها، وكيف أنه انتهى بدموع ونحيب وحسرة... تذكرت سها كيف أن ميلادها ذلك اليوم تحول إلى أقسى يوم في حياتها، ليس في حياتها فقط، وإنما في حياة أسرتها جميعًا.. ما زالت تحس بالدمعة في مقلتيها وهي تتذكر ذلك اليوم.. كان يومًا تاريخيًّا لا ينسى، سواء لها ولوالديها، وطبعًا لأخيها وتوءمها الحبيب سلام...
••••


لم يكن ذلك التاريخ هو البداية، ولكنه في ذاكرتها وذاكرة أهلها كان كذلك، بما أن ذلك اليوم كان هو اليوم الذي اعترفوا فيه لأنفسهم أن سلام عنده مشكلة، وأن مشكلته أكبر بكثير مما كانوا يتصورون، كان ذلك اليوم هو اليوم الذي أدخل فيها أخوها إلى المستشفى ليبقى فيها أكثر من أربعة شهور.

لطالما فكَّرَت سها في حالة أخيها وتوءمها الوحيد... تذكرت كيف بدا لمن حوله في آخر سنة له في الإعدادية وكأنه إنسان آخر.. لقد صار يتعامل مع كل ما حوله بخفة وبحيوية وبنوع من الاستهتار والاستهانة بكل ما حوله... كيف أنه بدا وكأنه لا يهتم أو يكترث بنفسه وبكل من حوله... تذكرت كيف أنه وبعد أن كان يهتم بهندامه وتسريحة شعره ونوع قميصه صار لا يهتم، بل وصل الأمر إلى أنه ولأيام عديدة لا يأخذ حمامًا، أو يغير ملابسه الخارجية، كيف أنه صار يهمل غرفته حتى صارت وكأنها زريبة تعبق فيها رائحة العرق والملابس الوسخة ونفايات الطعام... تذكرت سها كيف أنه صار كثير النسيان، وعديم الاهتمام بمواعيد الامتحانات، أو مواعيد لقاء أصحابه، كيف أنه صار منطويًا على نفسه، شاردًا، حزينًا، غاضبًا مع من حوله.

تذكرت كيف أنه كلما اشتكت أمها منه إلى أبيه قال لها والدها: "اصبري.. هو ما زال في مرحلة المراهقة، ولا بد له من أن يتصرف برعونة وطيش كحال شباب اليوم".

لكن كان أكثر ما تتذكره فاتن عن تلك الفترة السوداء من حياة عائلتهم الصغيرة تلك الشهور الممتدة من الضياع والحيرة والخوف الذي كان أخوها يتخبط فيها... لطالما تساءلت مع نفسها إن كان أخوها قد التمَّ على بعض رفاق السوء، أو أنه صار يتعاطى المخدِّرات، سواء الحشيش أو البودرة، أو أنه كان متمردًا ومريرًا بعد أن فقد سميرة ابنة الجيران التي كان يحبها في صمتٍ، ويتمنَّى أن يرتبط بها بعد أن صارت من نصيب غيره، وضاعت منه إلى الأبد... لكنه كان ينفي كل تلك الأسباب كلما سألَته عن ذلك، وهي كانت تصدقه.

لقد كان أخوها من الفئة القليلة التي وقفَت ضد الفساد والإمعية وراء تجربة الجديد... بل كان هو من مؤسسي مجموعة: "نعم أنا أختار الحرية لنفسي"، التي جمعت فيها الفئة الصالحة من الشباب والشابات في الحي القاطنين فيه حتى يساندوا بعضهم البعض ضد المخدرات والإباحية التي كانت قد انتشرَت ذلك الحين في المجتمع، تذكَّرَت سُها كيف أنه كان يجمع التبرُّعات من الخيِّرين من أهل البلد، ومن ثمَّ يسلم التبرعات لمؤسسات تسعى لنشر التوعية في صفوف الشباب، وخاصة في مراحل المتوسطة والإعدادية، تذكَّرَت كيف أنه كان إنسانًا رائعًا تغبطه العوائل، وتتمنى من أولادها أن يقتفوا أثره، لقد كان شابًّا ثائرًا على المجتمع وتقاليده الخرقاء... كان يناهض ويدافع عن حقوق الطلبة وحرية الإنسان في الحياة الكريمة الشريفة، وحريته في اختيار الطريق المستقيم، كان سلام ممن يساهم في كتابة الشعارات واللافتات التي تدعو الطلبة إلى الصبر على البقاء على الطريق السليم بعيدًا عن المخدِّرات واللهو والإباحة، التي كانت تدعو إلى الصبر في التعلم، وإلى المساهمة في مساعدة الغير والعمل التطوعي، التي توعي الشباب بألا يقعوا في مخاطر الجنس والحب الضائع قبل شرعية الزواج التي أحله الله لهم.

تذكَّرَت سُها كل ذلك في لحظات، وأحسَّت أن صدرها ضيِّق من شدة الألم، سبحان الله! من كان يتصور أن ذلك الإنسان سوف يتحول إلى شخص آخر... إنسان خائف مزعزع الشخصية، إنسان سلبي انتقادي لذاته، ذي صورة مهتزة ومدمرة لذاته... كيف أنه تحول من إنسان فعَّال في المجتمع إلى إنسان لا يبالي... كيف أنه تحول من إنسان اجتماعي يحب الرفقة إلى إنسان انطوائي، لا يحب أن يجالس أي أحد من عائلته أو أصدقائه.. كيف أنه تحول من إنسان حيويٍّ إلى إنسان خمول، لا رغبة عنده حتى في أن يفرش أسنانه.

تذكرت سُها عندما دخلَت عليه في غرفته، فوجدته جالسًا على مكتبه وأمامه كتاب الفيزياء، كان من الواضح أن ذهنه لم يكن في الدراسة، وإنما كان ينظر بخوف إلى الظلال التي حول مكتبه، ويتكلَّم بصوت خفي بكلمات غير مفهومة، تذكرت عندما سألَته عما يجري كيف أنه نظر إليها وفي عينيه نظرة رعب وخوف، وكيف أنه همس بصوت خافت خائف: "إنهم يحاولون أن يجدوني... هم يريدون أن يقبضوا علي ويقدموني للمحاكمة العسكرية... أنا أعلم أنهم يتآمرون ضدي، وأنهم يخطِّطون لقتلي"!، تذكرت سها دموعها التي جرت وهي تحاول أن تقنع أخاها الحبيب أنه في أمان، وأنه لا يوجد أي شخص يحاول اغتياله.. ولكن كان سلام يبدو وكأنه يهيم في عالم آخر... كأنه في عالم آخر يَسمع فيه أصواتًا لا تسمعها هي، ويرى أشياء لا تراها هي.. كان يتصرف كأنه يرى الخطر في ظل كل حركة ونفس، تذكرت كيف خرجت باكية من الغرفة، وكيف أسرعت إلى والديها مستنجدة أن ينقذوا "سلام" من الصراع النفسي القاتل الذي يهيم فيه.

تذكَّرَت سها كيف أنها في تلك الفترة لم تكن على علم بتطورات أخيها الصحية؛ حيث لم يشاركها والداها بأخبار وتحاليل الأطباء وفحوصات الدم والرنين المغناطيسي، وكل الفحوصات المتعددة التي مرَّ بها.. كل ما قالوه لها: إن أخاها يمر بوقت عصيب، وإنهم جميعًا يحتاجون إلى أن يصبروا معه، وألا يعارضوه في أفكاره وأوهامه، كل ما تَذكره عن والديها في تلك الفترة هو أنه كلما همَّت بأن تسأل والدها عن سبب تصرف سلام هذه التصرفات الغريبة التي تصل إلى حدِّ الجنون والهلوسة، نظرَت إلى عيني والدها، فإذا بها ترى نظرة التعب والإرهاق الجسدي والنفسي والمرارة معكوسة في عينيه، وأنها كلما كانت على وشك أن تسأل أمها عن حالة سلام رأت نظرة الحزن والخوف يغمران تقاطيع وجهها، فإذا بها تلجم لسانها، وتحبس تساؤلاتها...

تذكرت سها حال أختها الصغيرة ريما ذات الأعوام الثلاثة، وكيف أنها في تلك الفترة تغيرت معاملتها لسلام.. فبعد أن كانت شغوفة بأخيها، وكانت تركض إلى باب البيت عندما تعلم أن أخاها قد عاد إلى البيت حتى يستقبلها ويرفعها ويطيرها في الهواء ويعطيها الحلوى التي خبأها لها، تغيرَت وصارت تخاف منه وتخاف من عنفه وصراخه وعدم مبالاته بها، صارت ريما لا تركض إليه، وتخاف أن تقول له شيئًا فيصرخ فيها ويعنفها ويتهمها بسرقة أشياء من غرفته.

جرَّتها أفكارها إلى كل الاتهامات المحمومة التي كان يتكلم سلام عنها.. كان يقول: إن كل من حوله يحاول أن يغتاله ويقتله؛ لأنه شخص عصامي بطل، وإن أخته الصغيرة تسرق أقلامَه وملابسه الداخلية من غرفته، وإن الطريق إلى المدرسة مزروع بالألغام، وإنه يجب عليه أن يمشي بحذر شديد يعدُّ خطواته، وكيف أنه لا يكلم صديقه عمر الآن؛ لأنه إنسان فاسق شاذ حاول أن يَحتضنه وأن يقبِّله على شفتيه... كانت كل الاتهامات على حدة، واتهاماته لها على جانب آخر، كان يتهمها بأنها سرقت ذهنه وعقله، وأنها إنسانة أنانية تحاول أن تأخذ طاقته وتدمِّره، وأنها مشتركة مع العدوِّ في محاولة اعتقاله وتقديمه للمحاكمة، تذكَّرَت كيف كان يسهر الليل إلى وجه الفجر وهو يمشي ذهابًا وإيابًا ويفكِّر ويخطط لطرق الهرب إن تمَّ القبض عليه...

تذكرت سها تلك الأيام ولم تتمالك أن تمسح دمعتين حنونتين سرت على وجنتيها... يا الله كم كانت تلك الأيام صعبة.. بل إن كلمة صعبة كلمة ركيكة وضعيفة، ولا تصف مشاعرها ولا مشاعر عائلتها الحزينة في تلك الشهور.. وطبعًا لا تصف حالة وإحساس سلام نفسه في تلك الفترة المريرة القاتمة...

لطالما كانت عائلتها عائلة متماسكة، عائلة تخاف اللهَ تعالى، وتُعلِّم أفرادها حبَّ الله ورسوله ودينه، والسعي إلى التطور والتقدم، وهم طبعًا لم يريدوا لذريتهم أن يخسروا لا الدنيا ولا الآخرة، وإنما أن يسعوا ويتعلموا ويتطوروا، تذكرت كيف كانت النكت والطرائف تدور حول أطراف مائدة الطعام، وكيف كانت الضحكات والقهقهات شيئًا متعارفًا عليه في جدولهم اليومي...

لكن كل ذلك كان قبل ميلادهما السابع عشر... عندما اضطروا أن يأخذوا سلام إلى مستشفى الأمراض العقلية ليمكث هناك لأكثر من أربعة شهور.. إلى أن تمكَّن الأطباء من تشخيص مرضه، ويا لأسفها عندما علمت أن ما يمر فيه توءمها لم يكن نتيجة هرمونات مرحلة المراهقة، أو تعرُّضه لأزمة نفسية، أو تعاطيه للمخدرات المحرَّمة، وإنما كان مرضًا لم يسمعوا عنه حتى ذلك اليوم إلا في الأفلام، وخاصة الأفلام الراعبة... كان ذلك أول لقاء لهم مع ما يعرف اليوم بمرض الفصام أو الشيزوفرينيا.

كانت أيام وجود سلام في المستشفى من أحلك الأيام والليالي في حياة أسرتهم؛ فلطالما استيقظت في منتصف الليل وهي تسمع نحيب والدتها وهي جالسة على سجادة الصلاة تستنجد بربِّ العباد ورب الأرباب وطبيب الأطباء بأن يشفي ولدها، وأن يرده إليها سليمًا معافًى، وأن يطرد الشياطين التي صارت تتخبَّط في نفسه حتى صار إنسانًا آخر... تذكرت سُها أيضًا أن أمها كانت في النهار وأمام الجميع تتظاهر بالسكينة والهدوء والأمل وتمالك الأعصاب، ولكنها عندما كانت تنظر في أعماق عيني أمها كانت تحسُّ أن أمها ممزقة ما بين خوفها على ولدها الذي فقدته وهو في المستشفى وما بين خوفها وقلقها على سُها وريما وعائلتهم المشتتة، تذكرت سُها والدها الحبيب في سعيه المحموم في إيجاد الطبيب الصالح الواعي لما يجري من دون أن يحكم باليأس على حالة مريضه، تذكَّرَت سعي والدها في توفير مصاريف الدواء والمستشفى... وتذكرت نفسها وهي واقفة عاجزة أمام ما يجري من حولها من أحداث، ترى توءمها في صراع وحرب نفسية مع وساوسه وهواجسه وعالمه الخيالي وصراخه وخوفه ورعبه... وتذكَّرَت حال العالم والناس من حولهم وتسرعهم في الحكم بالإدانة لوالديها بأنهم السبب فيما جرى لولدهم.
••••


عندما خرج أخوها سلام من المستشفى كان كأنه شخص آخر؛ كان هادئًا أكثر من الطبيعي، صامتًا لا يعلق على ما يجري حوله من أحداث، كان هذا الأمر كما شرح لهم الطبيب النفسي المعالج لسلام هو من الأعراض الجانبية للأدوية العديدة التي يأخذها، استغرق الأمر شهورًا عدة، ولكن الحمد لله وبعد جلسات علاج عديدة واستمرار في أخذ الأدوية، تمكَّن سلام من العودة إلى أرض الواقع، لم يعُد يسمع أصواتًا تهمس في أذنيه أو يتصور خزعبلات وأوهام غير واقعية، لكنه لم ينسَ قط المرحلة التي مرَّ بها، كانت ترى أنه ما زال يتصارع مع إحساسه بالخجل من مرضه، وتفضيله بألا يلتقي بالناس الذين آذاهم بالكلام، أو بتوجيه الاتهامات في فترة مرضه، استمر على العزلة لمدة طويلة، لم يخرجه منها إلا رحمة الله تعالى أولًا، ومن ثمَّ الجلسات الطويلة التي كان يجلسها مع معالجه وطبيبه النفسي.

لم يكمل سلام سنته الدراسية في ذلك العام، رغم أنه كان آخر عام له في الدراسة، وإنما أخذ رخصة طبية بتأجيل وإعادة السنة من جديد، كان ذلك الخيار من الخيارات الموفقة في حياته؛ حيث تحول إلى مدرسة أخرى، وبدأ العام الدراسي مع دفعة جديدة وأصحاب جدد.

كان سلام يأمل في أن يكون طبيبًا، لكن بعد تجربته المريرة مع مرض الفصام، ومعرفته بأن هذا المرَض سوف يلازمه مدى الحياة، اختار أن يتوجَّه إلى تخصص آخر، لقد تخصَّص في فن إدارة الفنادق، كان يشاركها أفكاره قائلًا: "إنِّي أخاف أن أكون طبيبًا، ومن ثم تأتيني الأزمة وقد أؤذي مريضًا بغير قصد، وهذا شيء لا يمكنني أن أسامح نفسي عليه إن حدث"، أما هي فقد اختارَت علم النفس كتخصص لها، ولا عجب في ذلك؛ فعلم النفس كان من أحب المواضيع إلى قلبها، فلطالما حنَّتْ إلى فهم المزيد عن هذه النفس البشرية التي خلقها الله تعالى... ولطالما حثت نفسها على فهم ما حل بعائلتها، وبالأخص بتوءمها وحبيبها سلام.

لقد تعلمت هي وعائلتها الكثير، وما زالوا يتعلمون شيئًا جديدًا كل يوم، كان من أهم ما تعلمته سُها وتعلمه أخوها وعائلتهما الحبيبة: أن يتعايشوا مع الأمر الواقع، وأن يساندوا بعضهم البعض، وأن يستعينوا بسلاح العلم حتى يفهموا هذا المرض العصيب وكيفيه التعامل معه، نعم المصاب كبير، ولكن رحمة الله أكبر، والدتهم علمتهم الصبر والحمد على نعم الله التي لا تُحصى، وأن تتمسك بحُسن الظن بالله، كانت والدتهم دائمًا تقول لهم: "احمدوا الله تعالى أن أعاد لنا سلام سالمًا إلى البيت، بعد أن أوشكت أن أيئس من عودته لولا رحمة الله، الحمد لله أنه الآن معنا في عالم الواقع بعيدًا عن المخاوف والأوهام"، علمتهم أمهم المجاهَدة والكفاح، وهي صارت الأم والطبيبة والممرضة والمرافقة والمدرسة، وكُل شيء مهم في حياة ولدها، وخاصة في فترات مرضه التي تذهب وتأتي.

أما والدهم فقد علمهم العطف والرضا بقضاء الله تعالى، والسعي في طلب الرزق الحلال، والتوفير ليوم قد يحتاج فيه سلام للدرهم قبل الدينار، حتى أختها الصغيرة ريما علمتهم أنها ممكن أن تُحب مرة أخرى، وأن تتعلم الثقة مرة أخرى، وأن نبع حُب الأسرة نبع لا ينضب.

أما سلام فقد علمهم الكثير: علمهم معنى نعمة الصحة والعافية، علمهم أن يعيشوا ويتمتعوا باللحظة والوقت الذي هم فيه معًا، علمهم معنى المقاومة والصمود بعد أن تغلَّب على مخاوفه وخرج من أزمته ومرضه وهو أقوى من قبل وأكثر حكمة وأكثر تفهمًا لمن هم أقل منه في القدرات والمهارات، علمهم ضعف الإنسان، وقوة الإنسان! علمهم نعمة العقل.. علمهم العطاء وهو يقضي من أوقاته ساعات كُل أسبوع يعين فيه الشباب والأطفال الذين يعانون من الأمراض العقلية والنفسية، وكأنه يقول: "أريد أن يحسوا أنهم ليسوا وحدهم، وأن هناك ضوءًا في نهاية النفق، وأن الشفاء بيد الله تعالى، وأن كُل شيء مكتوب، فمن رضي له الرضا، ومن سخط فله السخط"، علمهم أن مرض الفصام يأتي ويذهب ما بين حين وآخر، وأنه في بعض الأحيان ليس للإنسان إلا أن يطأطئ وينحني وينتظر أن تذهب العاصفة ويحل السكون من جديد.. علمهم أن يُحبوا الحياة بمُرها وحلوها، بفرحها وحُزنها، بصحتها ومرضها.
••••
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 25-06-2021, 04:46 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 130,345
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلام (قصة حول مرض الشيزوفرينيا - مرض الانفصام)

تنبهت سُها إلى ما حولها عندما سمعت هتافات الطلبة وفرحهم وقد ضجَّتِ القاعة بالتصفيق والتشجيع لمدير الجامعة بعد أن أنهى كلمته مهنئًا فيها الخريجين وأهاليهم بهذا اليوم المميز... اليوم الذي يحتفلون فيه بثمرة جهدهم وصبرهم، نظرت بعينيها إلى المكان الذي اختارت عائلتها أن تجلس فيه، أمعنت النظر ورأت أخاها سلام جالسًا هناك وابتسامة مشجعة على وجهه.. رفع يده إليها بالتحية، ووجدت سُها نفسها ترد التحية بابتسامة صافية وقلب مغمور بالحب... "هذا هو أخي وتوءمي".. لقد جاء ليشاركها الفرحة ويعلمها بفخره بها... كما هي فخورة به.
انتهت القصة

تعليق:
لا بد لي أن أعترف أنني عندما فكرت في كتابة قصة حول موضوع مرض الشيزوفيرينيا (انفصام الشخصية) كنت تحت تأثير الكثير من المفاهيم الخاطئة التي تولدت لدي من مشاهدة بعض الأفلام والمسلسلات التي تتعرض لهذا المرض، ولكن بعد قراءتي واطلاعي على بعض الكتب الطبية والتعليمية المتعلقة بهذا المرض النفسي تبين لي كم أنا مخطئة في تقديري... يعني سبحان الله، معظم هذه الأفلام اعتمدت في تمثيل شخصياتها على مفهوم أن الشخص المصاب بالشيزوفيرينا هو شخص مخيف لا يمكن الثقة به، وأنه قد يكون كما يقول المثل: ذئب في جلد خروف؛ أي: يظهر للعالم شخصية تختلف عن حقيقة ما في داخله... وبعد قراءة ومراجعة كتب علم النفس التي كنت أقرأ فيها قبل عقد من الزمن في مرحلة البكالوريوس وكتب حديثة غيرها، والحوار مع بعض أهل الاختصاص تبين لي أنه هناك الكثير من الأوهام والأخطاء التي وقع فيها الناس، من مزج هذا المرض مع مرض آخر وهو مرض تعدد الشخصية (Personality Disorder)، ومن هذا الباب كانت كتابة هذه القصة صعبة نوعًا ما، حيث كنت أريد لشخصية سلام أن تتعرض، وتعرض، ما يمر به الشخص المصاب بالشيزوفرينا وعائلته، وخاصة في بداية الرحلة مع هذا المرض النفسي/ العقلي الذي يعتبر من أصعب الأمراض النفسية التي قد تصيب الإنسان، سواء في مرحلة الطفولة، المراهقة والبلوغ، أو فيما بعد... وتؤثر وبالأساس على الشخص ذاته وعلى من حوله تأثيرًا يستمر مدى الحياة...

كان من الصعب أن أتأمَّل وأحلِّل حالة هؤلاء المبتلين الذين يصابون بهذه الأمراض النفسية أو العقلية، كنت وأنا أقرأ وأتعلَّم عن هذا المرض أتذكَّر طرفة كنتُ قد سمعتها وأنا طفلة، تقول النُّكتة: إنه كان هناك رجل يخاف من الدجاجة، وإنه كلما رأى دجاجة فرَّ منها؛ لأنه يظن نفسه حبة قمح، وأن الدجاجة تريد أن تأكله، المهم عولج الرجل ولم يعد يظن أنه حبة قمح، ولكنه استمر في الهرب كلما رأى أي دجاجة، ولما سئل: لماذا يهرب وهو لم يعُدْ يحسب نفسه حبة قمح؟ قال: "أنا مقتنع أنني لست بحبَّة قمح، ولكن هل الدجاجة مقتنعة بذلك؟".

كانت هذه النُّكتة مضحكة في ذلك الوقت، وكانت مضحكة لي إلى أن قرأت وتأملت وكتبت عن هذا الموضوع، أما الآن فلم تعد مضحكة، ففي نظر هذا الرجل المسكين تصوُّر بعيد كُل البُعد عن الواقع، ولكن بالنسبة له كان أمرًا واقعًا، كان حاله مثل تصور سلام أن أخته الصغيرة ريما تسرقه، وأن توءمته سُها سرقت عقله، وأن صديقه شاذ جنسيًّا، وأنه إنسان مهم وبطل، وأن العالم كله من حوله يحاول أن يخطفه ويعذبه ويقتله....

هذا التفهم جعلني أنتبه في حواري وتعاملي مع من حولي، خاصة وأنا أتعامل مع طلبتي ذوي الحاجات الخاصة المتعددة أو ذويهم.... وسبحان الله نحن كمسلمين مأمورون بأن نَزِنَ الكلمة قبل أن تخرج من أفواهنا... ويا لها من حكمة لو كان فينا متَّعظ.

لقد أخذَت كتابة هذه القصة أكثر من أربع شهور من البحث والتدقيق والمراجعة، وبعد أن أكملت كتابتها، عدت وقرأتها، وكنت أحاول أن أكتشف إن كنت ومن دون قصد قد بالغتُ في وصف المرض من خلال شخصية سلام، ولكن وبكل أسف أقولها: يؤسفني أنه هناك قضايا وقصص حقيقة تفوق في قوتها وحزنها قصَّتي... يعني أنا حاولت في القصة أن أرسم نهاية فيها بريق من الأمل، ولكن في الواقع ينتهي الأمر بكثير من الأشخاص المصابين بهذا المرض النفسي المزمن بالانتحار.. لكني لم أكن أريد أن أنهي القصة بنهاية مأساوية... لكنها حقيقة موجودة لا بد لنا أن ننتبه إلى ما نقول، وإلى تأثيرنا الناجع أو الفاشل في محاولة تثبيت أقدام المصابين بالأمراض النفسية في أرض الواقع مع رسم صور مشرقة وواقعية للمستقبل بدل أن نترك ذلك الشخص المصاب يدور في دائرة الضياع والخوف المشلول من مستقبل مجهول.

يمكن لي أن أستمرَّ في تحليل شخصية سلام، ولكني أفضل أن أنتقل إلى هدَف أسمى من ذلك... ماذا يمكن لنا نحن كأفراد أن نعمل من أجل أن نعين الشخص المصاب بمرض الشيزوفرينا؟ وهذا ما سوف تتعرض له الفقرة التالية.

نصائح وإرشادات
الشيزوفرينيا (الشخص المصاب)
تشبَّثْ بالإيمان يا أخي أو يا أختي.. وبقضاء الله تعالى لك أنه اختارك دون غيرك لحكمة أرادها عنده، قد تعلمها وقد لا تعلمها... ثق بالله عز وجل!

لا تفقد الأمل في رحمة الله تعالى؛ فإن الله تعالى الذي خلق الداء قد خلق الدواء.. إن كان طبيبك نصحك بأدوية معينة، فحافظ على مواعيد أدويتك، ولا تتوانَ في أخذها، تصورًا منك أنك لا تحتاجها بعد أن عبرت مرحلة شدة الأزمة، اشكر الله تعالى كلما أخذت حبة أنه هناك دواء، وعلى الرغم من أن كثيرًا من أدويتك لها أعراض جانبية كبيرة المفعول، ولكن اصبر وصابر واحتسب.

من المهم جدًّا أن تجد طبيبًا نفسيًّا تثق فيه وترتاح إليه، فهو سوف يكون طبيبك ومرشدك وصمام الأمان، وطوق النجاة لك لعدة سنين.

خذ حياتك يومًا بيوم، وخطوة بخطوة، واصبر مع نفسك، إن نصحك الطبيب بأخذ إجازة من المدرسة أو العمل لفترة، حتى وإن استمرت عدة شهور، افعل ذلك.

حاول أن تتجنب الإجهاد العصبي والضغوط النفسية... حاول أن يكون شعارك في الحياة: "افعل ما يمكنك فعله، واترك الباقي على رب العباد!".

ثقِّفْ نفسك حول المرض وأعراضه الواسعة.

ادرُس شخصيتك وحاول أن تعلَم وتتفهَّمَ الأمور التي قد تبيِّنُ لك أنك تعاني من بعض أعراض المرض، تجنب هذه المسببات على قدر الإمكان.

لا تخجل من طلب المساعدة من أهلك ومن هم حولك.

أشرك من حولك من الوالدين والأقربين بهمومك ومخاوفك، لا تعزل نفسك وتقول: هم لن يفهموني؛ لأنهم لا يمرون ولا يحسون بما أمرُّ وأعاني منه.

ابحث عمن كان عنده مشاكل مثلك؛ فالطيور على أشكالها تقع، ومعرفتك بغيرك وتعلمك منهم وتشجيعكم لبعضكم البعض سوف يخفف الكثير من الإحساس بالمرارة والألم والوحدة والخوف...

أحِطْ نفسك بالأشخاص الإيجابين الذين ينظرون إلى الأمور من منظار نصف الكأس المملوء لا نصفه الفراغ.

اقرأ عن قصص الناجحين والناس الذين تغلبوا على المصاعب التي مرت في حياتهم، هذه القراءات سوف تعطيك درسًا مهمًّا في الحياة، وهي أنه "كُلٌّ مُبتلًى"، وأن "البيوت أسرار لا يعلم ما بداخلها إلا رب الأرباب"، هذه القراءة سوف تساعدك على تغلب الإحساس بالمرارة والوحدة، وتعطيك عزمًا وقوة إلى أن تنجح وتتواصل مع الآخرين.

حاول أن تَكتب في مذكرات خاصة بك لاستعمالك الخاص أحاسيسَك أثناء ما تمر به، وأن تحلِّل ما يحدث حولك وكيفية التعامل معه... سوف ترى أن هذه المذكرات سوف تعطيك إحساسًا لذيذًا بالإيجابية بعد أن تقرأ مثلًا الفترة الصعبة التي مررت بها، ومن ثم قرأت عن الفترة التي أعقبتها، عن أصحابك، عن أحلامك، ما حققت منها، وما زلت تسعى في الوصول إليه.

تعلَّم أن تكون مَرِنًا في أحلامك وأهدافك، فكِّرْ مع نفسك، إن لم أحقق الهدف الفلاني فهذا اختيار الله تعالى لي، وهو أفضل من اختياري.. تقبل وتأقلم قدر ما استطعت.

قد تكون هذه الوصية صعبة، ولكن فعلًا: تمتع بالحياة... إن كنت الآن في فترة نقاهة، ولا تعاني من المرض، ولو لبضعة شهور أو سنين (بفضل الله تعالى، ومن ثم الأدوية والمسكنات)... تمتع بكل لحظة تقضيها مع أهلك وأحبائك..

ابتسم وقبِّل والديك وإخوتك وأخواتك... أحِطْ نفسك بمن يُحبك لنفسك ولا يحكم عليك بسبب كلمة طائشة أو فعل خاطئ فعلتَه في فترة كنتَ أنت فيها غير محاسب من رب العباد، فكيف للبشر أن يحاسبوك عليها؟!

أحبب نفسك؛ فإن الله تعالى يُحبك، وإن لك لأجرًا لا يعلمه إلا الله تعالى؛ لصبرك وتقبُّلك بما قسمه الله تعالى.

نصائح وإرشادات
الشيزوفرينيا (العائلة):
تذكروا وذكروا بعضكم بعضًا أن ما أصاب ولدكم أو ابنتكم أو أخاكم أو خالتكم أو زوجكم أو جاركم من مرض هو بلاء من رب العالمين... يعني بغض النظر عن السبب، سواء كان في الجينات الوراثية، أو خلايا المخ والدماغ، أو المحيط، أو التعرض لبعض الأدوية والمخدرات... النتيجة أنه عندكم شخص عنده مرض الشيزوفرينيا وهو مرض يحتاج ممَّن يحيط بالمريض الصبر والتجلد والمثابرة والعطف والمساعدة والمرونة والقبول والمحافظة على احترام وحب هذا الشخص بغض النظر عن أي تصرف يقوم به.

أعطوا بعض الحرية لولدكم، وخاصة أثناء فترة النقاهة والخروج ما بين أزمة وأخرى، قد يكون ذلك الأمر صعبًا، ولكنه ضروري جدًّا وفعال في خطة علاج ولدكم.

عاملوا بعضكم [بعضًا] بالمثل، فإن كنتم تريدون من ولدكم أن يشارككم بما يمر في ذهنه وحياته، افتحوا قلوبكم له وأشركوه في حياتكم... أحلامكم... ومخاوفكم... هذا النوع من الحوار له هدف رئيسي، وهو فتح باب التحاور، والبقاء على صلة بأرض الواقع، تتناقشون من خلالها بما يهمكم ويهم من حولكم.

حاولوا أن تنشئوا نوعًا من الروتين في حياتكم العامة، وأن تكون منظمة، وبجدول مرن يتحمل التغيير، ولكن الخطوط الرئيسية فيه واضحة وسهلة التحوير والتطوير.

تقبَّلوا أنكم لن تستطيعوا أن تساعدوا ولدكم أو ابنتكم في كل الأمور، وأنه هناك بعض الأمور التي لا بد لكم أن تتركوها لحالها، هذه النقطة صعبة، ولكنها ضرورة لاستمرار قارب الحياة ومنعه من الغرق.

تقبَّلوا الواقع رغم مرارته، هذا لا يعني عدم محاولة تحسين الأمور إلى وضع أحسن.. تذكَّروا قولَ عمر بن الخطاب عندما قرَّر أن يترك البلد الذي فشا فيه الطاعون، لما قيل له: "أتفر من قدَر الله؟"، قال بكل يقين: "إنما أفرُّ من قدر الله إلى قدَر الله!".

اسعَوا إلى إيجاد الطبيب المناسب والأدوية الناجحة لحالة ولدكم، ولكن تذكَّروا أن الشفاء بيد الله تعالى؛ فأكثِروا من الدعاء.

أَعلِموا المقربين فقط بمشكلة ولدكم من دون الخوض في التفاصيل؛ حرصًا على خصوصية ولدكم، هذه المشاركة سوف توفر لكم العون النفسي والمادي، إن احتيج في المستقبل، وأيضًا تعطي العذر لولدكم إن أساء التصرف في المستقبل، أو تفوَّه ببعض الأفكار العجيبة أو المعوجة التي تمر بذهنه أثناء المرض، ينصح أهل الاختصاص بأن تشاركوا بالتفاصيل المهمة فقط وليس للجميع، بكل أسف نحن نعيش في عالم ينظر إلى كل ما يتعلَّق بالأمراض العقلية على أنها بؤرة لمزٍ وهمز، وغيبة وانتقاد، ونحن لا نريد هذا لا للشخص المصاب، ولا لأهله الذين يصارِعون من الوحدة والغربة في ألَمهم، ما يجعلهم في غنًى عن أي آلام أخرى.

هذه النقطة من أهم النقاط، وهي تنطبق على كل عائلة فيها أم أو أب أو غيره، على عاتقِه عبء الاهتمام بشخص مريض مرضًا مزمنًا، سواء كان نفسيًّا أو جسديًّا أو عقليًّا: اهتم بنفسك... خذ فرصة راحة... أرح ذهنك ولو لبعض الساعات من همِّ القلق... ابتسم وكن فخورًا بنفسك؛ فأنت مجاهد فضَّل أن يبقى في أرض المعركة ولم يتنازل عن أرضه وأهله وولده، وأنت شخص يفعل ذلك؛ لأن الحبَّ مغروز في قلبك (لا تقل لنفسك: أنا أعتني بولدي؛ لأنه ليس عندي حل آخر)... اسمح للحبِّ والحنان أن يكونا دافعك، والأمل في أن يعوضك الله خيرًا في الدنيا والآخرة..

أكثِر من أدعية الاستِشفاء، وخاصة دعاء: "أسأل الله العظيمَ رب العرش العظيم أن يشفيك" (سبع مرات)، والدعاء في الآية الكريمة: ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].

حاولوا أن توفِّروا بعض المال إن أمكن، يكون لولدكم في الفترات التي يمر فيها بالمرض...

اكتبوا وصيَّة تذكرون فيها مَن تأتمنونه على أمركم والعناية بولدكم إن توفاكم الله...

لا تنسوا بقية أطفالكم، ولا تجعلوهم يعيشون حياة يغلِب عليها الخوف من المستقبل، ومن أن يصيبهم ما أصاب أخاهم أو أختهم.

اضحكوا وشاركوا الطرائف والنكت، ولو نُكتة كُل يوم... الضحك ضروري للتغلب على المصاعب...

حافظوا على الأمل في قلوبكم... واحمدوا اللهَ تعالى على كلِّ خطوة تحسُّن ترونها في ولدكم.. واجعلوا ألسنتكم رطبة بذكر الله، والتضرع إليه أن يعينكم وأن يشفي ولدكم...

أسأل اللهَ العظيم، ربَّ العرش العظيم، أن يَشفي كلَّ مريض، وأن يرفع الهمَّ والغم عن كل مهموم ومكروب، وأن يرزقنا جميعًا الصحَّةَ والعفو والعافية...


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 83.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 81.09 كيلو بايت... تم توفير 2.34 كيلو بايت...بمعدل (2.81%)]