#1
|
||||
|
||||
موعظة النحو
موعظة النحو عبدالله بن عبده نعمان العواضي قلتُ لصاحبي يومًا: هلمَّ معي إلى زيارة قصيرة إلى بعض مدن النحو؛ لنعرف شيئًا جديدًا قلَّما يَنتبه له قاطنو هذه المدن ونُزلاؤها، فرَكبنا صَهوة العزم وحبَّ المعرفة، واتجهنا صوب تلك المدن، فلما وصلنا وجدنا على الباب مكتوبًا: النَّحوُ يُصلِح من لِسان الألْكَنِ ♦♦♦ والمرءُ تُكرِمُه إذا لم يَلحَنِ فعرَفنا أن هذا العنوان يكشف عن غاية هذا الفن، وهي: تقويم اللسان من اعوجاج اللحن، فقلتُ لصاحبي: ألا نتعلَّم من هذا تقويم ألسنتنا من سقَط الكلام وقبيحه؛ فغُثاء اللسان وبذاءته لحنٌ لا يُصلحه سيبويهِ ولا الكسائي. وبينما نحن نمر إذ استقبلَتنا أقسام الكلمة، فلما جلَسنا معها استفَدنا من الاسم الثباتَ على المبادئ الحقة، والمواقف الشريفة، ومن الفعل التجديد في جوانب الحياة وترك البناء على الجمود؛ فإن الجامد لا هُويَّة له في التنقل، واستفدنا من الحرف أهمية العمل مع الجماعة، ونبذ الانفراد والتفرُّق. وهناك رأينا المبتدأ رافعَ الرأس، متَّضح الهامة، له صدور المجالس، وعليه سِيمَا الأصالة، وتركُ التأثر غير المحمود، فعلَّمَنا السمو والرفعة والتجرد عن الأهواء المضلَّة؛ فإنها عواملُ هدم تلفظ مَن تأثر بها إلى مَشافي الضَّعة والتبعية، ورأينا بجانب المبتدأ رفيق دربه، وشريكَ حياته الكلاميةِ المفيدة: الخبَرَ، فنطق لنا ذلك المنظرُ الصامت: أن الحياة شركة جماعية، ابتداءً من الحياة الزوجية: الرجل والمرأة، فلا قيامَ لحياة الإنسان إلا مع غيره، وقلت لصاحبي: إننا في زمان منقلب، حتى لقد ارتفع فيه نحتُ الأخلاق وجزمُها حين وصل بعض أهله إلى تزويج المبتدأ بالمبتدأ، والخبر بالخبر! والجنونُ فنون. ثم نقلَنا مركبُنا إلى مدينة النواسخ، فمرَرنا في مَسالكها، فرأيناها كثيرة العدد، وتعمل أعمالًا تزعج كثيرًا من الأبواب حين تدقُّها، فإن ولجَت أحدثت المحدَثاتِ في الأشياء الثابتات، فقُلنا عندها للمبتدأ والخبر: أعظمَ الله عزاءكما بمُصيبتكما، مُذكِّرينهما بأن دوام الحال ليس إلا لذي الجلال سبحانه. وحينما خرَجنا من النواسخ كان أسرعُ الأبواب استقبالًا لنا: الفاعلَ، فرأيناه فقيرًا إلى غيرِه، فقلنا: لِنَستفِدْ من هذه الحال: الاستعانةَ بجهود الآخرين؛ فالفاعل لولا الفعلُ لما حصَل على هذا الاسم السامي، والإنسان فقيرٌ بنفسه غنيٌّ بغيره. ثم وجدنا العطف ينتظرُنا فعطَف علينا بحنوٍّ، فألفَيناه ذا ترتيب وتنظيم، وعدلٍ في أهل بيته، فكل حرف له موضعه ووظيفته، فقلنا: وهذه فائدة؛ فالتخصص، ووضعُ كل شيء موضعَه مهم، والغوغائية خلل. ثم دلَّنا العطف على أحد جيرانه، فكان الاستثناء، وقد وجدنا عنده الوضوح والتجرد عن الشوائب والمبهَمات، باطنه كظاهره. ومِن أعجب مَن قابلناه: الترخيم، فرأيناه - نسأل الله السلامة - غيرَ مكتمل الجسم، قد قُطع منه طرَف أو طرَفان، وبينما نحن كذلك إذ دخل إلينا التعجب، فقلت لصديقي - والتعجب حاضر -: ما أكثرَ الترخيم في الدين والأخلاق هذه الأيام! قم بنا إلى الاستغاثة والنُّدبة وقل: يا لله للمسلمين من سوء الحال التي وصلنا إليها! وتوجه إلى الله بالدعاء لهذه الأمة؛ لأن مَن تمكن فيه الشعور بمآسي أمته كان له محلٌّ من الإعراب فيها، ولم يَصِر جملة معترضة في طريق المسلمين. وقبل أن نغادر أنا وصاحبي قلنا: لا بد أن نستقصيَ في التجول، فوجدنا أخيرًا بيتًا نائيًا هو آخر العهد بالنحو: هو الوقف، فتساءَلْنا: لماذا جُعل في التُّخوم، ولم يكن في وسط الأبواب وأوائلها؟ فكَّرنا قليلًا، فقلنا: لعله يُذكِّر المودِّعَ للنحو بالوقوف عند حدود الله تعالى وعدم تجاوزها. قلت لصاحبي عند العودة: كيف وجدتَ الرحلة؟ فقال: ممتعة؛ إذ عرَّفَتني أن للنحو وغيره من العلوم النافعة معانيَ أخرى وراء الألفاظ والقوالب الجامدة.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |