عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12670 - عددالزوار : 222088 )           »          يوم المرأة العالمي وعيد الأم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          نحو مجتمع إسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الأم نبع الحنان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          عَدي بن حاتم - قصة إسلامه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          الأخبار المستقبلية في القرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          كيف نقرأ قرناً من الصراع؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          الإمام أبو حنيفة قادح زناد الفكر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          صرخة في وجه الفساد الاجتماعي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          من حسنت بدايته حسنت نهايته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-02-2020, 03:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,464
الدولة : Egypt
افتراضي عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن

عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن (1)


د. عباس حسني محمد





فصل تمهيدي
التعريف بالتأمين والمشاكل الفقهية التي يثيرها

المطلب الأول: التعريف بالتأمين
1- تعريف عقد التأمين: لما كان عقد التأمين من العقود التي نظمتها التشريعات الوضعية فانه من المنطقي أن نعرض أولا تعريف القانون الوضعي للتأمين لنعرف رأي الفقه الإسلامي فيه. ولقد عرفت المادة 747 من القانون المدني المصري[1] التأمين بأنه (عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي للمؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال أو إيرادا. مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقيق الخطر المبين بالعقد وذلك في نظير قسط أو أي دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن).

ونصت المادة 749 مدني على أنه (يكون محلاً للتأمين كل مصلحة اقتصادية تعود على الشخص من وقوع خطر معين).

ونصت المادة 751 مدني على أنه (لا يلتزم المؤمن في تعويض المؤمن له إلا عن الضرر الناتج من وقوع الخطر المؤمن منه بشرط ألا يجاوز ذلك قيمة التأمين).

2- عقد التأمين التجاري وعقد التأمين الاجتماعي:
عقد التأمين قد يكون تجاريا أي يكون المؤمن شخصا طبيعيا أو معنويا يبتغي أصلا الربح كما هو حاصل بالنسبة لشركات التأمين.

وقد يكون عقد التأمين اجتماعياً أي تعاونيا بمعنى أن المؤمن لا يبتغي أصلا تحقيق ربح ومثاله تأمين الحكومة لمعاش الموظف.

3- صور عقد التأمين التجاري:
لقد تنوعت صور التأمين التجاري حتى أصبحت الآن عديدة متشعبة. فهناك عقود التأمين على الحياة وهي تعتبر من أهم عقود التأمين في الدول الحديثة. وهناك عقود التأمين ضد حوادث الحريق مثلا وضد السرقات وحوادث السيارات وهناك أيضا عقود التأمين البحري ولها نظام خاص بها يتفق وطبيعتها.

هذا وقد تطور عقد التأمين التجاري فأصبح كل نوع منه يأخذ صوراً عديدة وأشكالاً متباينة. ففي عقد التأمين على الحياة نجد على سبيل المثال الصور الآتية:

صورة أولى:
يتعهد المؤمن بأن يدفع مبلغاً متجمدا أو إيرادا مرتبا عند وفاة المؤمن عليه في أي وقت كان مقابل أن يدفع المستأمن أقساط التأمين لمدى الحياة أو لمدة محددة وفي هذه الحالة الأخيرة يقف دفع الأقساط عند حلول الأجل المحدد في العقد (وهو يتراوح عادة بين عشر سنوات وثلاثين سنة) وعند الوفاء بالأقساط تصبح وثيقة التأمين ذات قيمة مالية مساوية للمبلغ المؤمن به إذ يكون هذا المبلغ مستحق الأداء عند وفاة المؤمن عليه وفي حالة وفاته قبل أداء الأقساط يستحق مقابل التأمين فورا دون أن يلزم المستفيد بتكملة باقي الأقساط.

صورة ثانية:
ما يسمى بالتأمين المؤقت وهو أن يتعهد المؤمن بأن يدفع للغير (المستفيد) مبلغا معينا إذا توفي المؤمن عليه في خلال مدة محددة في العقد فإذا حل الأجل المحدد في حياة المؤمن عليه برئت ذمة المؤمن من الوفاء بمقابل التأمين ولا يحصل الغير على شيء فحق الغير هنا معلق على شرط وفاة المشترط قبل الأجل المحدد في العقد.

صورة ثالثة:
أن يتعهد المؤمن بأن يدفع مبلغا متجمداً أو إيرادا مرتبا إذا بقى المؤمن عليه على قيد الحياة عند حلول الأجل المحدد في العقد فإذا توفى سقط عن المؤمن التزامه بدفع مقابل التأمين مع احتفاظه بالأقساط المدفوعة. وقد يأخذ هذا التأمين صورة الاشتراط لمصلحة الغير إذا كان المؤمن عليه شخصاً آخر غير المستأمن كما في حالة الأب الذي يريد تكوين رأسمال لابنه عند بلوغه سن الرشد أو مهر لابنته عند زواجها. هذا ويلاحظ أن القانون المصري يشترط في حالة التأمين على حياة الغير أن تكون موافقة الغير كتابة وإذا كان الغير ناقص الأهلية فإنه يشترط موافقة من يمثله قانونا, وفي هذه الصورة يقف دفع الأقساط عند وفاة الأب ولكن مبلغ التأمين لا يدفع إلا حال حياة الابن عند بلوغه سن الرشد أو البنت عند زواجها مثلا, فإذا توفى أحدهما قبل ذلك سقط عن المؤمن التزامه بدفع التأمين وضاعت بذلك الأقساط المدفوعة لعدم إمكان المطالبة بردها فلا يستطيع ورثة الأب أو الابن المطالبة بها.

صورة رابعة:
أن يتعهد المؤمن بدفع مقابل التأمين للمؤمن عليه شخصيا أن كان حيا بعد مضى مدة محددة (عشرون سنة مثلا) فإن توفى قبل مضى المدة المحددة وجب دفع المبلغ بمجرد وفاته إلى الغير المستفيد من العقد.

صورة خامسة:
أن يتعهد المؤمن بدفع مبلغ معين عند حلول الأجل المحدد في العقد سواء أعاش المؤمن عليه بعد أم توفى قبله وفي حالة الوفاة قبله يقف دفع الأقساط حتى يحل ميعاد الوفاء.

وهناك صور أخرى للتأمين على الحياة كما أن هناك صورا أخرى لأنواع التأمين في شتى النواحي فقد يؤمن أمين النقل لمصلحة مرسل البضاعة فيدفع مبلغا معينا دفعة واحدة فإذا أصاب البضاعة حادث فإن المرسل يستحق مبلغ التأمين المتفق عليه في العقد.

وقد يؤمن المدين الراهن على المنزل المرهون من الحريق لمصلحة الدائن المرتهن, وهكذا تتنوع أشكال التأمين في شتى النواحي.

4- التأمين الاجتماعي أو التعاوني:
وهو يفترق عن التأمين التجاري من ناحية أنه لا يهدف إلى الربح فعلى حين أن الشركات المؤمنة تبتغي من وراء عمليات التأمين التي تعقدها تحقيق الربح فإن المؤمن في التأمين الاجتماعي لا يهدف إلى تحقيق أي ربح وإنما يهدف إلى التعاون وتحقيق مصلحة عامة للمجتمع أو لطائفة معنية من طوائف المجتمع.

ومن أمثلة هذا النوع: التأمين الذي تقوم به الحكومة لصالح الموظف وأسرته لكي يحصل على معاش حين يبلغ السن القانونية أو يتوفى بعد فترة محددة فالحكومة هنا هي المؤمنة وهي تتعاون مع الموظف لكي يحصل على معاش ثم لكي تحصل أسرته من بعده على معاش أيضا.

المطلب الثاني: المشاكل الفقهية التي يثيرها التأمين
5- مسألة التوكل على الله تعالى:
قد يقال أن التأمين يعارض التوكل على الله تعالى لأنه نوع من الاحتياط للقدر, والحقيقة أن هذا القول غير صحيح كما سنبين هذا في الفصل الأول إن شاء الله تعالى.

6- مسألة الغرر:
يثير عقد التأمين مشكلة الاصطدام بحديث النهي عن الغرر في العقود ولا ريب أن عقد التأمين فيه قدر كبير من الغرر ولذلك نجد أن القانون المدني المصري ذكره تحت عنوان عقود الغرر ولكن المسألة تحتاج إلى تفصيل.

7- مسألة التعليق:
يثير عقد التأمين أيضا مشكلة التعليق في عقود التمليك ومدى جواز ذلك في الفقه الإسلامي.

8- مسألة الربا:
يثير عقد التأمين أيضا مشكلة التصادم مع تحريم الربا شرعا وعلينا أن نبحث مدى صحة ذلك.

وهذه المسائل الثلاث الأخيرة (الغرر والتعليق والربا) تثير بصفة أولية مسألة تكييف عقد التأمين أخصص له فصلا خاصا بإذن الله تعالى.

الفصل الأول
عقد التأمين والتوكل على الله
9- المقصود بالتوكل:
التوكل لغة هو إظهار العجز والاعتماد على الغير[2].

والتوكل شرعا هو الشعور بالعجز أمام قدرة الله تعالى والاعتراف بأن الله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات وأنه وحده القادر على تعطيل الأثر الطبيعي لأعمال العباد ولذلك فإن العبد المؤمن لا يكتفي بالعمل بل هو يدعو الله تعالى بالتوفيق لأنه يعلم أنه تعالى وحده القادر على أن يمنع عنه النجاح ويصيبه بالفشل مهما جد واجتهد كما أنه هو وحده الذي وهبه العقل ووهبه القدرة على العمل وعلى الاستمرار في العمل حتى يحين أجله.

ومن جهة أخرى فإن العبد المتوكل لا يقتصر على دعاء الله بل عليه أن يبذل كل ما في طاقته لكي يحصل على حاجته ولا يجوز له أن يعطل جوارحه التي وهبها الله له مقتصرا على دعاء الله لأن في هذا تعطيل لجوارحه وهي من نعم الله عليه لأن الله تعالى خلق للناس هذه الجوارح لكي يستخدموها فيما ينفعهم وأمر الله تعالى الناس بالعمل وبإتقان العمل وبأخذ الحذر والحيطة والأهبة لكل شيء, فهذه الأوامر الشرعية تبين لنا حقيقة التوكل لأن الأمر بالعمل وأخذ الحيطة والحذر والاستعداد للحرب بالعدد والعدة إنما هي أوامر شرعية تؤكد أن الاحتياط للحاضر والمستقبل وأخذ التجربة والعبرة من الماضي لا تنافي الاعتماد على الله تعالى والشعور بالعجز أمام قدرته بل على العكس فإن هذا الاحتياط وذاك الاعتبار هما عين التوكل على الله تعلى إذا اقترنا باللجوء إلى الله تعالى ودعائه والإلحاح في الدعاء دائما.

10- استعراض النصوص الشرعية المتعلقة بالتوكل:
لقد جاء القرآن الكريم حافلا بالآيات الدالة على حقيقة التوكل فقد أمر الله تعالى الناس بدعائه وسؤاله من فضله وبين أن من استغنى عن دعاء الله فهو مستكبر مصيره إلى جهنم حتما.

قال تعالى: ﴿ وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ﴾[3].

وقال تعالى: ﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ﴾[4].

وقال تعالى: ﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾[5].

وقال تعالى: ﴿ وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾[6].

وقال تعالى: ﴿ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم * الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم * إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ﴾[7].

وقال تعالى: ﴿ وفي السماء رزقكم وما توعدون ﴾[8].

فهذه الآيات وغيرها تدل دلالة واضحة على أنه لا بد للمؤمن من أن يستعين بالله تعالى ويعتمد على قدرته ويدعوه في كل صغيرة وكبيرة ومن أجل ذلك سن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الاستخارة في الأمور كلها وكان يعلم الصحابة إياها كما يعلمهم السورة من القرآن[9].

ولكن من جهة أخرى فإن الذي يقتصر على الدعاء ويتكاسل ولا يعمل فإنه عاص لله تعالى فلا يقبل منه دعاء. ولقد حرض القرآن الكريم على العمل، قال تعالى:

﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كمنتم تعملون ﴾[10] فهذا أمر صريح من الله بوجوب العمل.

وقال تعالى: ﴿ انفروا خفافًا وثقالًا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعملون ﴾[11] فهذا أمر صحيح من الله بوجوب الاجتهاد في الجهاد.

وقال تعالى: ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ﴾[12] فهذا أمر صريح ببذل الجهد لإعداد القوة المادية وقد عرف الرسول صلى الله عليه وسلم القوة هنا بأنها الرمي فقال: (ألا إن القوة الرمي) وكرر هذه العبارة أكثر من مرة مما يفهم منه أن القوة قد انحصرت تقريبا في الرمي إلى يوم القيامة مع أن السيف ليس من باب الرمي ولكن علم الله ورسوله أن القوة ستكون أساسا هي الرمي لأن ما تقذفه جميع الأسلحة الآن إنما هي من قبيل الرمي فضرب البنادق وقذف المدافع والصواريخ المختلفة والقنابل التي تقذفها الطائرات فكل هذه القوى المختلفة ما هي إلا رمي.

وقال تعالى: ﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ﴾[13].

فهذه الآية أمرت النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه أن يحتاطوا أشد الاحتياط من الكفار, والنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه هم سادة المتوكلين على الله تعالى وأوضحت هذه الآية بجلاء أن من لا يأخذ احتياطاته فهو مقصر وأما من لم يستطع لعذر فلا جناح عليه وهذا واضح من سياق الآية إذ بينت أن لا جناح على من لم يستطع أن يحمل السلاح بسبب المطر أو المرض (أو أي عذر آخر يقاس عليهما) ولقد أمرت الآية مع ذلك باتخاذ كافة الاحتياطات الممكنة.

وفي نطاق المعاملات بين الناس فقد أمر الله تعالى المؤمنين بالاستيثاق وألا يسأموا من عملية التوثيق: قال تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأبى كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوه فهو فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ﴾[14].

فهذه الآية العظيمة تأمر المؤمنين بالحيطة الشديدة للمستقبل حتى لا تضيع حقوقهم مع أن ضياع هذه الحقوق أو بقاؤها أمر مقدر ولا ريب ومع هذا فإن المؤمن مأمور بأن يجتهد في هذه الدنيا ولا شأن له بما كتب عليه في اللوح المحفوظ أو ما سبق في علم الله تعالى وقدره بالنسبة لكل مخلوق.

فهذه الآية تأمر المؤمنين بتوثيق الديون حتى لا تضيع وتحدد طرق التوثيق بالكتابة وبالشهادة ولا تكتفي بالشهادة وحدها بل تحرص على التوثيق بالكتابة مع أن الكتابة كانت في عصر نزول الآية من الأمور العسيرة إذ كانت العرب أمة أمية وكانت الكتابة بصفة عامة ليست ميسرة كاليوم, ومع هذا يأمرهم الله تعالى بألا يسأموا من كتابة الدين صغيرا أو كبيرا تأميناً للدائن ومحافظة على حقه من الضياع مستقبلا.

ولو كان التوكل كما يزعم بعض الناس - تغافلا عن الأسباب وتكاسلا اعتمادا على عون الله بدون عمل لما أمر الله تعالى المؤمنين بأن يأخذوا كافة احتياطاتهم في معاملاتهم سواء في الحرب أم في السلم.

ويبين النبي صلى الله عليه وسلم أن التوكل ليس معناه ترك التكامل عن العمل وتعمد ترك الأسباب:
فعن أنس أن رجلا قدم على راحلته فنزل عنها وأقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال (يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل قال اعقلها وتوكل)[15] أي عليه أن يربط الدابة ويتوكل.

وقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)[16].

وهذا الحديث يدل على أن التوكل يشمل العمل والسعي لكسب الرزق لأن الطير تخرج من أوكارها صباحا للسعي في طلب أرزاقها ثم تعود وبطونها مليئة ولو أنها مكثت في أوكارها لما رزقت لأن تلك سنة الله في خلقه.

ومن هذا كله نعلم حق العلم أن التوكل على الله تعالى معناه اقتران العمل الجاد المثمر بالدعاء ويدخل فيه الاحتياط للمستقبل بكل الطرق المباحة شرعا والوقاية من كل ما هو ضار كما فهم ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حينما أراد أن يدخل بلاد الشام وجاءه أبو عبيدة بن الجراح وأخبره بأن الشام قد وقع بها الطاعون فاستشار عمر أصحابه واستقر رأيه على عدم دخول بلاد الشام خوفا من أن يصاب هو ومن معه بالطاعون فأنكر عليه أبو عبيدة هذا التصرف وقال له: (أفرار من قدر الله؟) فقال عمر: (لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله) وجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجته فقال: (إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض - أي الطاعون - فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه)[17].

وهذا حتى لا يخرجوا وقد حملوا معهم (الميكروب) فينتشر الطاعون في كافة البلاد, وهذا هو الحجر الصحي الذي سبق به النبي صلى الله عليه وسلم الأمم الحديثة.

11- التأمين والتوكل:
ومن هذا كله نستطيع أن نقول بكل اطمئنان أن نظام التأمين بقصد الاحتياط للمستقبل ليس فيه - من هذه الناحية - أية مخالفة للتوكل على الله تعالى.

بل هو يعتبر من قبيل التوكل الصحيح بشرط أن يخلو من الحرام أي من الغرر ومن الربا اللذان قد يخالطانه كما سيبين مما يلي إن شاء الله تعالى.


[1] صدر القانون المصري الحالي في 16/7/1948 ونشر في الجريدة الرسمية في 29/7/1948 ونفذ في 15/10/1949 وهو تاريخ إلغاء القضاء المختلط في مصر ويعتبر القانون المدني المصري من أحدث التشريعات المدنية المتقدمة ففي فرنسا لا يزال قانون نابليون هو التشريع المدني المطبق إلى الآن رغم أنه صدر في بداية القرن التاسع عشر الميلادي وقد زعم واضعو القانون المدني المصري أنه جاء في أرقي صوره لأنه جمع بين الفقه الإسلامي وبين التشريعات الحديثة في صعيد واحد والحقيقة أن هذا القانون إنما هو من قبيل الأخذ ببعض الكتاب وترك بعضه فالشريعة الإسلامية هي المصدر الأوحد للمسلمين وفيها الكفاية. هذا ولا ريب أن القانون المدني المصري فد استفاد بالأسلوب العصري في التنظيم والصياغة إلا أنه تنكب الطريق من الناحية الموضوعية .
وقد أخذ القانون المدني عن الفقه الإسلامي مواضيع كثيرة كبيع المريض مرض الموت والأهلية والشفعة والهبة وسداد الدين قبل أيلولة التركة للورثة والقيمة في بيع القاصر وخيار الرؤية عند الأحناف وفي رواية عند الحنابلة أيضا، وتبعة الهلاك في البيع.
وغرس الأشجار في العين المؤجرة والإحكام المتعلقة بالعلو والسفل وبالحائط المشترك ومدة التقادم .
هذا وأخذ القانون المدني بأحد رأيين في الفقه الإسلامي بخصوص عدم انتقال الالتزام بسبب الموت وهو مبدأ ألا تركة إلا بعد سداد الديون, ونلاحظ هنا أن هناك رأيا آخر في الفقه الإسلامي يفيد انتقال الالتزام بسبب الموت وقد ظن واضعو القانون المدني خطأ أن مبدأ لا تركة إلا بعد سداد الديون هو المبدأ الوحيد في الفقه الإسلامي (فقد ظن الدكتور السنهوري هذا الظن الخاطئ وسجله في الوسيط جزء 3 ص 421) .
هذا وقد أخذ القانون المدني بالنزعة الموضوعية المعروفة في الفقه الإسلامي والقوانين الجرمانية وغلبها على النزعة الذاتية أو الشخصية التي هي طابع القوانين اللاتينية.
وأخذ القانون أيضا بنظرية التعسف في استعمال الحق وهي الفكرة التي سبقت إليها الشرعية الإسلامية قبل سائر التشريعات الوضعية, وأما نظرية الحوادث الطارئة فهي مأخوذة أيضا عن نظرية الضرورة ونظرية العذر في الفقه الإسلامي وأخذ القانون المدني أيضا عن الفقه الإسلامي الأحكام الخاصة بمجلس العقد وبإيجار الوقف والحكر وإيجار الأراضي الزراعية وهلاك الزرع في العين المؤجرة وانقضاء الإيجار بموت المستأجر وفسخه للعذر وبوقوع الإبراء من الدين بإرادة الدائن وحده.
وقد راجع واضعو هذا القانون إلى التقنينات الوضعية المعاصرة وهي ثلاثة أقسام: القسم الأول: التقنينات اللاتينية قديمها وحديثها. والقديم: يأتي على رأسه التقنين الفرنسي ثم التقنين الإيطالي القديم والتقنين الأسباني والتقنين البرتغالي والتقنين الهولندي. والحديث: يشتمل على التقنينين التونسي والمراكشي والتقنين اللبناني والمشروع الفرنسي الإيطالي والتقنين الإيطالي الجديد.
والقسم الثاني: التقنينات الجرمانية وأهمها التقنين الألماني والتقنين السويسري والتقنين النمساوي.
والقسم الثالث: تقنينات متخيرة استقت من كلتا المدرسين اللاتينية والجرمانية ويشتمل هذا القسم التقنين البولوني والتقنين البرازيلي والتقنين الصيني والتقنين الياباني.
(يراجع مجموعة الإعمال التحضيرية للقانون المدني المصري جزء 1 ص 133 والوسيط للسنهوري جزء 1 ص 51).
ويلاحظ هنا الإغفال التام للنظام الأنجلو سكسوني لأن النظام الإنجليزي يتميز بأنه غير مكتوب أصلا ويعتمد على العرف القضائي بصفة عامة.
هذا ويلاحظ أن التشريعات الوضعية بصفه عامة (حديثها وقديمها) لا زالت تأخذ بفكرة بالية ورثتها عن القانون الروماني وهي تفيد أن العقد إنما هو توافق إرادتين على الأقل فهي لا تعرف إلى يومنا هذا العقد بالإرادة المنفردة الذي سبقت إلى معرفته الشريعة الإسلامية وطبقته عدة تطبيقات مختلفة كما في الوقف والوصية والهبة عند جواهر زادة والكدساني من الأحناف والحوالة عند الحنابلة والضمان وعقد الأمان كما أن الشريعة الإسلامية سبقت هذه التشريعات الحديثة جمعاء في معرفة نظرية التعسف في استعمال الحق ولم تكن هذه التشريعات تعرف إلى وقت قريب إلا نظرية الاعتداء على الحق فقط. كما أن الشريعة سبقت إلى معرفة الزاوية المالية والموضوعية للالتزام ورتبت على ذلك آثاراً فقهية هامة كجواز انتقال الالتزام من ذمة إلى ذمة وجواز الالتزام بالإرادة المنفردة لدائن غير معين, ولم تعرف التشريعات الحديثة هذا إلا مؤخرا.

[2] مختار الصحاح تحت (وكل).

[3] سورة غافر.

[4] سورة البقرة.

[5] سورة آل عمران.

[6] سورة البقرة.

[7] سورة آل عمران.

[8] الذاريات.

[9] عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل ((اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال عاجل أمري وآجله) فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال عاجل أمري وآجله) فاصرفه عني واصرفني عنه وأقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به)) رواه البخاري وغيره.
وبعد هذا الدعاء فإن المسلم يمضي في عمله والله تعالى يوفقه لما فيه الخير له في الدنيا والآخرة.

[10] التوبة.

[11] التوبة.

[12] الأنفال.

[13] النساء.

[14] من سورة البقرة.

[15] رواه الترمذي.

[16] رواه الترمذي بسند صحيح وأحمد والحاكم.

[17] رواه البخاري و مسلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 12-02-2020, 03:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,464
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن

عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن (2)
د. عباس حسني محمد




الفصل الثاني

تكييف عقد التأمين

11- تمهيد:
ينبغي أن نكيف عقد التأمين التجاري الذي تبرمه الشركات لكي نستطيع أن نحدد بدقة مدى تأثر هذا العقد بالغرر، وبالربا.

12- تكييف خاطئ لعقد التأمين:
ذهب بعض الكتاب المعاصرين[1] إلى أن عقد التأمين يتضمن عقدين:
العقد الأول: عقد المشاركة في دفع الضرر والتكافل عند الملمات.
العقد الثاني: عقد الوكالة والمضاربة[2].

فهو يقول: (إن عقد التأمين ليس عقد بيع وإنما هو عقد تضامن وتكافل بين المؤمنين جميعا في دفع الكوارث والتخفيف من آثارها سواء أكانت في الأنفس أم في الأموال أم في مواجهة العجز عن العمل بسبب الاصابة أو المرض أو الشيخوخة - فهو تكافل جماعي: المجموع مع الفرد والفرد مع المجموع..

وكل فرد يعلم مقدما أن العائد الناشئ عما يدفعه وعن أقساط الآخرين لا يفي بسد حاجات من يتعرضون للكوارث... فهو متنازل عن جزء مما له جملة للمشاركة في تغطية هذه الحاجات فإن كان من الذين أصيبوا عوض عن إصابته على أن يدخل في هذا العوض طبعا ما يكون قد دفعه من قسط أو أقساط وإن كان من الذين سلموا فليحمد الله على سلامته و يحلل الآخرين مما له ببعضه أو بكله وهو بمثابة دين عندهم.

وثانيا: إنه يتضمن بجانب عقد تكافل جماعي - أنه عقد مضاربة من جانب المؤمنين جميعا كطرف، وشركة التأمين أو الحكومة مثلا من جانب كطرف آخر.

فالأفراد في عقد التأمين - فرادى ومجموعات - يتعاقدون في الواقع فيما بينهم على الإسهام بنصيب معلوم متساو من المال في كل نوع من أنواع التأمين على فترات محددة وعلى التكافل على دفع العوض (قسط التأمين) فيدفع من حصيلة الأنصبة المحصلة فعلا من جميع المشتركين في عقد النوع المعين من التأمين وعلى أن تكون الأولوية في تسلم العوض أو المعونة بين المشتركين في العقد لمن أصابه الضرر أولا منهم. وعلى من يسلم بنفسه كعقد التأمين على الحياة أو بماله كبقية العقود الأخرى يحلل الآخرين المشتركين مما له كلا أو بعضا وشركة التأمين ليست إلا وكيلة عن طرفي عقد التكافل أو مفوضة منهما في تنفيذه.

وتنفيذه يقتضي: تحصيل الأقساط من المشتركين واستثمار الأموال المحصلة أو المضاربة فيها وتسوية التعويضات لمن أصيب من المؤمنين وهي في نظير ذلك لها جعل تقتطعه مما هو تحت يدها من أموال المشتركين وغلات هذه الأموال وهذا الجعل متفق عليه ضمنا في عقد التوكيل والإنابة بين المؤمنين جميعا كطرف والشركة كطرف آخر وهو أن لم يكن متفق عليه ضمنا لكن متفق عليه بحسب العرف تبعا لقيمة النشاط في الاستثمار، وعقد التأمين كأنه يتضمن عقدين:
العقد الأول: عقد المشاركة في دفع الضرر والتكافل عند الملمات.
والعقد الثاني: عقد الوكالة والمضاربة[3].

هذا هو رأي الدكتور البهي الذي أعلنه في كتابه عن نظام التأمين.

13- أخطاء متعددة في هذا الرأي:
إذا طبقنا القواعد الفقهية الواردة في الفقه الإسلامي فإننا سنجد - دون أدنى ريب - أن هذا التكييف لعقد التأمين بعيد عن الحقيقة تماما. وهاكم البيان.

أولا - بالنسبة لعقد المشاركة والتكامل:
إن التأمين التجاري الذي تعقده شركات التأمين مع الأفراد أو الجماعات - بكافة أنواعه - بعيد تماما عن فكرة التكافل الاجتماعي لأن هدف الأفراد من التأمين هو الحصول على المال في حالة تحقق الخطر وهدف الشركات هو تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح من جراء عمليات التأمين.

وإنما يظهر التعاون والتكافل في العقود التي يشترك فيها أصحاب المصلحة معا في تخصيص مبلغ من المال للإنفاق منه على من منهم تحصل له كارثة محددة وينطبق أيضا على ما تقوم به الدولة من تأمين معاش للموظف ولأسرته لأن الدولة هنا لا تبتغي الربح ولا يجوز لها أن تجني ربحا من وراء هذا التأمين وإنما هي على العكس تعاون الموظف وتشترك معه في دفع أقساط التأمين ولكن يتعين في هذه الحالة أن تنفق كل حصيلة صندوق التأمين للمعاشات على أصحاب المعاشات ولا تأخذ الدولة منها شيئا. وأما ما تفعله شركات التأمين فهو بعيد تماما عن التكافل والتعاون ولذلك نجد أن شركات التأمين لا تقبل التأمين على الحياة مثلا إلا بعد إجراء كشف طبي دقيق على طالب التأمين فإذا كان هذا متهالكا فهي لا تقبل إبرام التأمين معه إلا بقسط مرتفع للغاية وقد ترفض هذا الشخص ولا تقبل التأمين على حياته مع أنه أولى من الصحيح بالمعونة إن كان القصد هو التعاون وهذا بعكس الحال بالنسبة لتأمين الحكومة لمعاش الموظف فالتأمين يسري على جميع الموظفين بغير تفرقة بين من يتمتع بصحة جيدة أو من هو متهالك يخشى عليه من الموت في أية لحظة لأن تأمين الحكومة لمعاش الموظف هو الذي يقوم على فكرة التكافل والتعاون بعكس التأمين التجاري الذي تقوم به الشركات التجارية التي لا تبغي من ورائه إلا الربح.

15- ثانيا بالنسبة لعقد الوكالة المزعوم:
الواقع أن شركة التأمين ليست بوكيلة عن المستأمنين لديها وإنما هي في الواقع تدير عملية قمار ضخمة بينها وبين المستأمنين فعملية التأمين بالنسبة لكل مستأمن تعتمد على الحظ وحده لأن المستأمن قد يدفع قسطا واحدا ثم يموت فتدفع الشركة لورثته مبلغا لا يتناسب مع القسط المدفوع ومن جهة أخرى قد يدفع المستأمن الأقساط جميعا. ثم يموت الشخص المشترط التأمين لصالحه قبل الأجل المحدد لدفع المبلغ (كما هو الحال في بعض صور التأمين)

فتحصل الشركة على جميع الأقساط دون أن تخسر شيئا.

ولو تمعنا قليلا لوجدنا أن دور شركة التأمين لا يختلف عن دور الشخص الذي يدير منزلا للقمار فهو يكسب دائما ولا يخسر أبدا والذي يخسر هم اللاعبون دائما. فالشركة تستخدم علم الإحصاء وتستخدم الحاسب الإلكتروني لكي تعرف على وجه التقريب النسب المئوية للحوادث بالنسبة لأنواع التأمين المختلفة.

وتعمد الشركات أيضا إلى إجراء آخر تحمي به نفسها من الخسارة ولكي تحقق أرباحا طائلة بغير أدنى مشقة فتلجأ إلى نظام إعادة التأمين أي أن كل شركة تعيد التأمين لدى الشركات الأخرى حتى إذا وقعت كارثة فإن الخسارة تتوزع على عدد كبير من الشركات.

وإنه لمن الواضح إن المستأمن لا يوكل الشركة في أي عمل إنما هو يتفق معها على تعليق حصوله (هو أو غيره) على مبلغ التأمين على حدوث كارثة أو حادث معين وهو أمر احتمالي دائما أي قد يقع وقد لا يقع.

فأين هو عقد الوكالة هذا إن عقد الوكالة إنما هو عقد يتفق فيه الموكل مع الوكيل على أن يقوم الوكيل بمباشرة عمل لمصلحة الموكل ينوب فيه عنه وينصرف أثره إلى الموكل ولا يشترك الوكيل في أثار هذا العمل على الإطلاق وإذا تسلم الوكيل من الموكل شيئا متعلقا بمباشرة العمل المطلوب فإن عليه أن يقدم حسابا عن هذا الشيء ويرد للموكل ما تبقى منه. وهذه الأحكام كلها تتنافى مع عقد التأمين، فالشركة لا تباشر أي عمل نيابة عن الوكيل بحيث يتصرف أثره إلى الوكيل وإنما هي تنتظر وتتربص حتى إذا حصل الحادث المتفق عليه قامت بدفع مبلغ التأمين من مالها الخاص للمتعاقد معها وإن لم يحصل الحادث المتفق عليه لم تدفع شيئا وهي في كلتا الحالتين لا ترد إلى المتعاقد ما أخذته من أقساط ولا تقدم له أي حساب عن هذه الأقساط. وأما الزعم بأن الأفراد في عقد التأمين يتعاقدون في الواقع فيما بينهم على الإسهام بنصيب معلوم متساو من المال في كل نوع من أنواع التأمين على فترات محددة وعلى التكافل في دفع قسط التأمين وإن شركة التأمين ليست إلا وكيله عن طرفي عقد التكافل أو مفوضة منهما في تنفيذه فإن هذا الزعم ما هو إلا مجرد وهم لا أساس له من الواقع لأن كل فرد لا يتعاقد إلا مع شركة التأمين وحدها ولا يعرف أي شيء عن باقي المتعاقدين ولا شأن له بهم ولم يحصل بينه وبينهم أي اتفاق. ثم أننا لو تمشينا جدلا مع هذا الوهم لوصلنا إلى نتيجة لا يمكن أن يقرها نظام التأمين التجاري وهذه النتيجة هي أنه ما دامت الشركة وكيله عن جميع المستأمنين في تنفيذ العقد المزعوم فإنه يتعين عليها طبقا لأحكام الوكالة (سواء في القانون أم في الشريعة) أن تقدم حسابا لجميع المستأمنين عن أقساط التأمين المدفوعة وأن ترد لهم الباقي كل بحسب نصيبه وليس للشركة إلا أن تأخذ أجرا على عملها يتفق عليه في العقد. ولكن الذي يحصل عكس ذلك تماما فالشركة تمتلك جميع أقساط التأمين ملكية تامة وتدفع من مالها الخاص مبالغ التأمين للأشخاص الذين تحصل لهم الكوارث المتفق عليها. فكيف يمكن اعتبار الشركة وكيلة والوكيل لا يحق له (شرعا ولا قانونا) أن يستولي على أي مال يأخذه من موكله ثم يتبادل معه مالا آخر مقابل هذا المال الذي أخذه فالشركة تبادل أقساط التأمين المأخوذة من جميع المستأمنين بمبالغ التأمين التي تدفع لبعض المستأمنين فقط وتحتفظ بالفرق كربح لها.

فالشركة هنا أصيلة في العقد وليست نائبة وهي تعمل لحسابها وتحقق ربحا من جراء هذه المبادلة المالية التي تجريها بينها وبين كل مستأمن على حدة. ومن هذا يتضح أن القول بأن الشركة وكيلة إنما محض مغالطة لا تتفق البتة مع طبيعة عقد الوكالة بل العقدان هنا على طرفي نقيض.

16- ثالثا بالنسبة لعقد المضاربة المزعوم:
عقد المضاربة في الفقه الإسلامي إنما هو عقد بين صاحب مال وصاحب عمل أي أن رب المال يدفع ماله للعامل على أن يتجر فيه ثم يرد إليه رأس المال ويتفقان على نسبة معينة من الربح وهناك فروق جوهرية بين عقد المضاربة وعقد التأمين تتلخص فيما يلي:
1- العامل في عقد المضاربة يقبض رأس المال للعمل به ثم يرده بعد ذلك كاملا ويأخذ هو مقابل عمله نسبة معينة من الربح الناتج ولكن شركة التأمين تأخذ المال من المستأمن ولا ترد له - على الإطلاق - هذا المال أو أرباحه فهي تمتلكه امتلاكا نهائيا بمجرد تسلمه وإذا لم يحصل له ا لحادث المتفق عليه فهو لا يحصل على أي شيء من الشركة وإذا حصل الحادث فهو يحصل على مبلغ التأمين المتفق عليه وهذا المبلغ يختلف تماما عن أقساط التأمين التي دفعها للشركة وهو لا يعتمد إلا على مجرد الحظ فقد يدفع المستأمن قسطا واحدا ويحصل الحادث فيقبض مبلغ التأمين ولا يكون هناك أي تناسب في هذه الحالة بين ما قبضه وما أعطاه.

2- العامل في عقد المضاربة ملتزم بأن يستثمر رأس المال لحساب رب المال وأما شركة التأمين فهي لا تقوم بأي عمل لحساب المستأمن فهي تستثمر رؤوس الأموال المجتمعة لحسابها الخاص وهي لا تؤدي عملا معينا للمستأمن أكثر من الانتظار والتربص حتى يحصل الحادث المتفق عليه أو لا يحصل في الفترة المحددة في العقد وهذا الانتظار إنما هو نوع من القمار يعتمد اعتمادا كليا على الحظ بالنسبة لكل متعاقد على حده. ويلاحظ أن شركة التأمين تضمن لنفسها الربح دائما لأنها أشبه بمن يدير منزلا للقمار فهو يربح دائما وبعض اللاعبين يخسر والبعض الآخر يكسب والشركة تستخدم العلم الحديث (الحاسب الإلكتروني والإحصاء) لتحدد مقدار الأقساط بالنسبة لكل نوع وذلك لكي تحقق أكبر قدر ممكن من الأرباح بغير عمل وهذا أبعد ما يكون عن عقد المضاربة.

3- من شروط عقد المضاربة أن يكون رأس المال معلوم المقدار محددا على وجه الدقة أي موصوفا نافيا للجهالة فلا يجوز أن يكون مجهولا ولا جزافا وهذا على رأي الحنابلة والشافعي[4] وأما على رأي أبي ثور والأحناف فإنه يصح مجهولا إذا شاهداه وظاهر أن هذا غير متأت بالنسبة لما يدفعه المستأمن للشركة ولا ما تدفعه الشركة في حالة حصول الحادث فهو مجهول تماما وكما أنه ليس عرضا موجودا يمكن مشاهدته حتى لو أخذنا برأي الأحناف وأبي ثور.

4- اتفق الفقهاء[5] على أنه لا يجوز في المضاربة الاتفاق على أن يكون لأحد المتعاقدين دراهم معلومة تمثل ما سيأخذه أو بعضه بل يجب أن تتفق على نسبة معينة من الربح الناتج من المضارب وإذا اتفق على دراهم معلومة بدلا من نسبة معينة من الربح فإن المضاربة تكون باطلة. وهذا بإجماع الفقهاء[6] لأنه أمر يخالف طبيعة عقد المضاربة.

ويترتب على بطلان المضاربة هنا بسبب تحديد دراهم معلومة كربح هو أن رب المال يسترد ماله وجميع الأرباح ويأخذ المضارب أجرا على عمله وهو أجر المثل.

وأما عقد التأمين فهو يقوم على عكس ما تقوم عليه المضاربة تماما لأنه لا يتصور في عقد التأمين الاتفاق على الحصول على نسبة معينة مما يدفعه المستأمن للشركة سواء بالنسبة للمستأمن أم بالنسبة للشركة.

5- في عقد المضاربة إذا حدثت خسارة فإن الذي يتحمل الخسارة هو صاحب رأس المال وأما العامل فهو وإن كان لا يشترك في الخسارة إلا أنه يعتبر أنه قد خسر عمله أي عمل بغير أجر وهذه الأحكام بعيدة تماما عن نظام التأمين فالمستأمن لا يشترك مع الشركة في الربح كما أنه لا يتحمل خسارة مال تتجر فيه الشركة كما أن الشركة لا تقوم بأي عمل معين لأن المال الذي تقبضه من المستأمنين إن كانت ستستثمره فهي تستثمره لحسابها الخاص وعلاقة الدفع بين الشركة والمستأمن لا شأن لها على الإطلاق بنتيجة العمليات التجارية التي تقوم بها شركة التأمين وإنما تتوقف على أمر احتمالي قد يحصل أو لا يحصل وهو الحادث المبين بالعقد.

ومن هذا كله يبين لنا أن لا صلة بين عقد التأمين وعقد المضاربة وإن وصف عقد التأمين بأنه مضاربة إنما هو محض مغالطة لا تجوز.

17- التكييف الصحيح لعقد التأمين:
إن عقد التأمين في الحقيقة ما هو إلا بيع مال آجل بمال معلق فهو عقد على بيع مال منجم أي يدفع على أقساط مقابل مال آخر معلق على أمر احتمالي فالمالان مؤجلان أحدهما مقسط على أقساط معينة والآخر مؤجل إلى أجل غير معلوم وقت العقد ولا محقق الحصول وهذه هي طبيعة التعليق. وشركة التأمين لا دخل لها على الإطلاق في منع الكارثة أو في حصولها وكذلك المستأمن المفروض فيه طبقا للعقد ألا يكون له أي يد في حصول الكارثة وإلا بطل حقه.

فالشركة لا تقوم بأي عمل لحساب المستأمن وإنما هي تبيع للمستأمن تعويضا محددا إذا فرض وحصلت الكارثة المتفق عليها والمستأمن يدفع الثمن مقدما ومقسطا في صورة أقساط التأمين والشركة لا تقوم بأي عمل للمستأمن بل هي تقوم بأعمال أخرى كلها لحسابها الخاص لكي تحقق أكبر ربح ممكن من عمليات البيع المتعددة التي تقوم بها فالشركة تستعين بعدة أجهزة متخصصة تعمل لصالح الشركة فقط فهناك أجهزة للإحصاء تقوم بإحصاء جميع الحالات المتشابهة التي تبرم الشركة عقودا للتأمين بشأنها وذلك لكي تخرج بقوانين تقريبية تستطيع بواسطتها أن تحدد قيمة أقساط التأمين بالنسبة لكل نوع من أنواع التأمين ومبلغ التأمين الذي يتناسب مع قيمة الأقساط والفترة الزمنية التي تتناسب مع قيمة الأقساط ومبلغ التأمين بالنسبة لكل نوع من أنواع التأمين والهدف من هذا كله هو الحصول على أكبر ربح ممكن من عمليات التأمين المختلفة عن طريق ترغيب أكبر عدد ممكن من الناس للدخول في التأمين وتملك شركات التأمين على الحياة أجهزة طبية للكشف على المتقدمين للتأمين لكي تستبعد من ترى أن صحته متهالكة ولكي ترفع من أقساط التأمين كلما كانت صحة المتقدم أكثر تدهورا فكل العمليات التي تقوم بها الشركة إنما هي لحسابها الخاص لكي تحقق أكبر ربح ممكن من عمليات البيع والشراء التي تقوم بها لحسابها الخاص وتعلقها على حادث محتمل الحصول.

ولذلك فإن المستأمنين لا شأن لهم باستثمار الشركة للأموال التي تأخذها منهم لأنه هذه الأموال تثبت ملكيتها نهائيا للشركة بمجرد قبضها من المستأمنين. والمستأمن لا يبتغي من التأمين أن تقوم له الشركة بعمل لحسابه وإنما هو يستهدف الحصول على مال مقابل الأقساط التي يدفعها فهو يشتري مبلغ التأمين المعلق دفعه على حصول الحادث مقابل الأقساط التي يدفعها للشركة.

فعقد التأمين إذن هو عقد بيع مال قسط بمال معلق ومحل العقد هنا غير معلوم بسبب تعليق دفع أحد المالين على أمر محتمل الحصول مما يجعل كل متعاقد لا يدري كم سيدفع وكم سيقبض حين إبرام العقد.


[1] الدكتوربهي في كتابه نظام التأمين في هدى أحكام الإسلام وضرورات المجتمع المعاصر ص42، 43، 44.

[2] يلاحظ أن عقد الوكالة غير عقد المضاربة أي أن العقد الثاني يتضمن بدوره عقدين طبقا لزعمه.

[3] انتهى كلام الدكتور محمد البهي.

[4] المغني لابن قدامة جزء 5 ص62.

[5] المغني لابن قدامة جزء5 62.

[6] (قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض إذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة ومن حفظنا عنه ذلك: مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور والأحناف) المغنى لابن قدامة جزء 5 ص32.
وهذا هو كلام الحنابلة أيضا (يراجع المغنى لابن قدامة جزء 5 ص32).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 12-02-2020, 03:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,464
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن

عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن (3)
د. عباس حسني محمد





عقد التأمين والغرر


المطلب الأول: الغرر في الفقه الإسلامي:

18- المقصود بالغرر لغة[1]:
الغرر ينطق كالضرر وهو لغة يقصد به الخطر وهو مشتق من الغرة وهي الغفلة والغر هو الغافل واغتر بالشيء خدع به.

19- الغرر شرعا:
المعنى الشرعي قريب من اللغوي وهو أن يكون محل العقد مجهولا أو معجوزا عنه أي غير مقدور على تسليمه كعبد آبق أو البعير شارد أو كالطير في الهواء أو السمك في الماء أو أي غائب مجهول مكانه فيكون المتعاقد غافلاً عن محل العقد. وعن أبي هريرة قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر)[2].

والحديث انتقل من التخصيص إلى التعميم لأن بيع الحصاة نوع من الغرر ويقصد به أن يقول بعتك من هذه الثياب ما تقع عليه الحصاة التي أرميها أو بعتك من هذه الأرض من هنا إلى ما تقع عليه الحصاة أو بعتك وأنت بالخيار إلى أن أرمي هذه الحصاة وبعد رميها يصير البيع لازما.

فهذا النوع من البيوع فيه جهالة من ناحية محل العقد فهو من بيوع الغرر. والعلة من النهي هنا هو أن بيع الغرر يؤدي عادة إلى النزاع وإلى إشاعة العداوة والبغضاء بين المتعاقدين ومن صور بيع الغرر بيع حبل الحبلة وهو من بيوع الجاهلية كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها والغرر هنا ناتج من الجهالة الفاحشة في الأجل. وعن عبد الله بن عمر (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة)[3] وهذا اللفظ عام فهو يشمل بيع الجاهلية آنف الذكر ويشمل أيضا أن يبيع ما في بطن الحبلة والجهالة هنا ترجع إلى المبيع ذاته وليس إلى الأجل.

ومن صور بيع الغرر أيضا حديث: نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة وبيع المنابذة[4].

والملامسة هي لمس الرجل ثوب الآخر بيده ليلا أو نهارا ولا يقلبه إلا بذلك، والمنابذة أن ينبذ بثوبه (أي يطرحه) إلى الرجل وينبذ الآخر إليه بثوبه ويكون ذلك بيعا من غير نظر إلى الثوبين.

20- الغرر والقمار:
قال الله تعالى: ï´؟ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ï´¾[5] وروى عقبه بن نافع عن ابن عمر قال: (الميسر هو القمار) وقال الضحاك عن ابن عباس قال: (الميسر هو القمار كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة)[6].

وقال مالك عن داود بن الحصين أنه سمع سعيد بن المسيب يقول (كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين). فالقمار أو الميسر لا يقتصر على اللعب بل هو يشمل البيوع أيضا. إذ كانوا يبيعون اللحم بالشاة والشاتين دون معرفة قدر اللحم فهذه جهالة فاحشة وهو ميسر أهل الجاهلية. ومن ميسر الجاهلية أيضا الضرب بالقداح على الأموال والثمار وهذا يؤدي إلى الجهالة الفاحشة في هذه الأموال.

ومن هنا نستطيع أن نقول أن القمار إنما هو غرر فاحش بطبيعته وهو يؤدي عادة إلى العداوة والبغضاء بين الناس كما ذكر ذلك القرآن الكريم ï´؟ إنما يريد الشيطان إن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ï´¾[7] فالقمار نوع من الغرر لأن الغرر قد يكون يسيرا وقد يكون فاحشا والقمار غرر فاحش ولذلك يؤدي إلى العداوة والبغضاء بين الناس.

21- عقود لا تتأثر بالغرر:
إن المتتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجد أن هناك عقودا لا تتأثر بالغرر مهما كان فاحشا فالحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أبرم عقودا وفيها غرر فاحش مما يدل على أن الغرر لا يؤثر على هذا النوع من العقود لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبرم عقودا باطلة.

ومن هذه العقود عقد هوازن[8] فإنه لما قدم وفد هوازن على النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين بعد أن كان قد هزمهم وأخذ منهم سبيا وأموالا كثيرة فطلبوا بعد إسلامهم استرداد السبي والأموال فخيرهم صلى الله عليه وسلم بين السبي وبين المال فاختاروا السبي فخطب المسلمين المنتصرين (الذين وزعت عليهم السبي) فقال: (إني رددت على هؤلاء سبيهم فمن شاء طيب ذلك ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفيء الله علينا) فهذه معاوضة عن الإعتاق كعوض الكتابة بإبل مطلقة في الذمة إلى أجل متفاوت غير محدود فهنا الغرر الفاحش وقع في الإبل موضوع العقد لأنها لم توصف وصفا نافيا للجهالة ووقع أيضا في الأجل لأنه لم يحدد.

ومن هذا أيضا ما رواه ابن عمر في حديث حنين[9] من أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل المشركين حتى ألجأهم إلى قصرهم وعاملهم على الأرض والزرع والنخل فصالحوه على أن يخلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة (وهي السلاح) ويخرجون منها فهذه مصلحة على مال متميز غير معلوم أي فيه غرر فاحش.

وعن ابن عباس[10] قال: صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من السلاح يغزون بها. فهذه مصالحة على ثياب مطلقة معلومة الجنس ولكنها غير موصوفة بصفات السلم أي فيها غرر فاحش.

22- تقسيم العقود من ناحية التأثر بالغرر إلى عقود معاوضات مالية وعقود معاوضات غير مالية:
هذا التقسيم أساسه القصد من العقد (فالقصود في العقود معتبرة وتؤثر في صحة العقد وفساده وحله وحرمته[11] وباستقراء العقود التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم وفيها غرر فاحش نجد أنها جميعها من عقود المعاوضات غير المالية أي أن المال ليس المقصود الأعظم منها بل هو أمر ثانوي.

والفقه الإسلامي يقسم بكل دقة عقود المعاوضات إلى عقود معاوضات مالية وعقود معاوضات غير مالية فالمالية هي مبادلة مال بمال كالبيع والسلم والصرف والقرض والصلح عن إقرار ويدخل فيها أيضا مبادلة المال بمنفعة المال لأن المنفعة تعتبر مالا عند الفقهاء ما عدا الأحناف[12] ومثال هذه العقود الإجارة والاستصناع والمزارعة والمساقاة والمضاربة.

وأما عقود المعاوضات غير المالية فهي مبادلة مال بما ليس بمال ولا منفعة مال كعقد الزواج وعقد الخلع وعقد الكتابة وعقود الصلح عن القصاص والجزية والصلح مع أهل الحرب فهذه العقود يدخلها عنصر آخر هام غير المال ولذلك فإنه إذا وقع الغرر الفاحش في المال (المقابل لذلك العنصر الهام غير المالي) فإنه لا يضر هذه العقود كما رأينا في عقود الصلح التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل الحرب وكعقد هوازن آنف الذكر.

وبالمثل فإن عقد الزواج عند بعض الفقهاء مبادلة مال بما ليس بمال وهو منافع البضع ولذلك فإن المهر يجوز عدم تحديده.

ويلاحظ أن بعض الفقهاء قد رأى بحق أن المهر إنما هو أثر من آثار عقد الزواج[13] وليس عوضا في عقد الزواج لأن العقد قد يبرم بدون ذكر المهر ويعتبر صحيحا.

وعلى كلا الرأيين يكون عقد الزواج بعيداً عن المعاوضة المالية لأن المال ليس عوضا هاما فيه أو ليس عوضا على الإطلاق.

وعقد الخلع هو عقد بين الزوجين تدفع بموجبه الزوجة مبلغا من المال مقابل أن يطلقها زوجها فقصد الزوجة هنا من دفع المال هو الحصول على الطلاق وهو المقصد الهام في العقد ولذلك جاز هنا وقوع الغرر الفاحش في المال المقابل لهذا المقصد غير المالي والهام في العقد.

وكذلك الحال في عقد الكتابة فإن المال ليس المقصود الأعظم من العقد ولكن المقصود هو تخلص الفرد من الرق ولذلك فإن مال الكتابة يجوز فيه الغرر الفاحش ويقال مثل هذا بالنسبة للصلح عن القصاص فإن المقصود هو أن يفتدي الجاني نفسه من المجني عليه أو وليه ولذلك فإن ما يدفعه يجوز فيه الغرر الفاحش وبالنسبة للصلح مع أهل الحرب فقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتصالح مع أهل الحرب بموجب عقود فيها غرر فاحش مما يقطع بعدم تأثر هذه العقود بالغرر.

ومن هذا يبين لنا أن العقود التي تتأثر بالغرر الفاحش إنما هي عقود المعاوضات المالية فقط. أما عقود المعاوضات غير المالية فإنها لا تتأثر بالغرر ومن باب أولى عقود التبرعات كالهبة والإبراء فإن المقصود منها هو نية التبرع أو النزول عن المال للغير بلا مقابل وهذا عكس تحقيق الربح ولذلك فهي لا تتأثر بالغرر من باب أولى.

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
(ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر لأن الأموال إما أن لا تجب في هذه العقود أو ليست هي المقصود الأعظم فيها وما ليس هو المقصود الأعظم إذا وقع فيها غرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع بل يكون إيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر والحرج المنفى شرعا يزيد على ضرر ترك تحديده)[14].

والمالكية[15] قريبون من رأى ابن تيمية يجيزون هبة المجهول لأن التبرعات إحسان صرف كما يقولون والجهالة فيها لا تفضي إلى المنازعة وأما الأحناف فهم يشترطون عدم الغرر في جميع العقود حتى التبرعية ولكنهم يغتفرون في التبرعية مالا يغتفرونه في غيرها كالإبراء من المجهول[16] وهم يفتحون باب العرف لتصحيح عقود معاوضات مالية فيها غرر يسير.

وأما الشافعية[17] فهم أشد الجميع فيشترطون عدم الغرر في جميع عقود المعاوضات المالية وغير المالية والتبرعات.

23- لا تلازم بين الانعدام والغرر:
خلط الأحناف[18] والشافعية[19] بين الانعدام والغرر وجعلوا بينهما تلازما لا ينفك أبدا فذهبوا إلى عدم جواز التعاقد على المعدوم لأنه من قبيل الغرر واستندوا في ذلك إلى أحاديث صحيحة[20] حملوها على غير وجهها الصحيح فقد فهم الأحناف من هذه الأحاديث أن المعدوم بصفة عامة لا يصلح أن يكون محلا للتعاقد سواء أوجد فيه الغرر أم انتفى.

وقد توسع ابن تيمية[21] وابن القيم[22] من الحنابلة فأجازوا بيع المعدوم في جميع أنواع العقود بشرط ابتفاء الغرر الفاحش في عقود المعاوضات المالية وهذا يحصل بوصف المعدوم وصفا نافيا للجهالة ومن ثم فإن عقد الإجارة وهو بيع للمنفعة عقد صحيح أصلا وليس على خلاف القياس كما يزعم الأحناف والشافعية مستندين إلى أن المنفعة معدومة وقت التعاقد بالإضافة إلى أنها ليست بمال عند الأحناف. ولا جدال في أن المنفعة تكون معدومة وقت التعاقد ولكن العقد عليها صحيح ما دامت قد وصفت وصفا نافيا للجهالة وإذا كان التعاقد على ملك المنفعة فهو يشتمل هنا[23] على حق انتفاع المتعاقد بنفسه واستغلال المنفعة بالتصرف فيها.

وإذا اقتصر العقد على انتفاع المتعاقد بنفسه فإنه يبين هل العين للسكنى أم للتجارة مثلا.

ومن هذا يبين أنه يمكن تحديد المنفعة تحديدا ينفي الغرر رغم أن المنفعة وقت التعاقد تكون معدومة.

هذا وقد فرق الأحناف[24] بين الغائب الكائن وبين المعدوم فأجازوا بيع الغائب الكائن حتى ولو لم يوصف ولكنهم جعلوا للمشتري في هذه الحالة خيار الرؤية أي الحق في الفسخ حينما يرى المبيع الغائب واتفق بعض الحنابلة مع الأحناف في صحة خيار الرؤية. ولا ريب أن خيار الرؤية ينفى الغرر الفاحش الناتج عن عدم وصف الغائب الموجود.. هذا ومما يؤكد صحة الرأي الذي يقول ببيع المعدوم هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح عقد السلم[25] وهو عقد على معدوم وقت التعاقد ولكنه موصوف وصفا نافيا للجهالة.

وخلص من هذا إلى أن الرأي الصحيح في الفقه الإسلامي أنه يجوز التعاقد على المعدوم في جميع أنواع العقود لأنه لا تلازم بين الانعدام والغرر.

هذا ويشترط في حالة المحل المعدوم أن يوصف وصفا نافيا للجهالة إذا كان العقد من المعاوضات المالية وإذا كان العقد تبرعا أو معاوضة غير مالية فإنه لا يشترط وصفه وصفا نافيا للجهالة ويكفى تسميته لأن الغرر لا يؤثر على هذين النوعين من العقود طبقا للرأي الصحيح الذي نأخذ به هنا وهو رأي ابن تيمية.

24- مقرار الغرر المؤثر:
ذهب ابن تيمية إلى أن الغرر اليسير لا يؤثر على عقود المعاوضات المالية أي لابد أن يكون الغرر فاحشا وبنى على هذا جواز بيع المغيبات والمدفونات في الأرض كالجزر والفجل. ويجوز أيضا بيع الحب والثمر في قشره كالجوز واللوز في قشره الأخضر والحب في سنبله والبازلاء في قشرها الأخضر. لأن الغرر هنا يسير فيعفى عنه.

ومالك يجوز أيضا بيع هذه الأشياء لأن رأيه أن الغرر اليسير لا يؤثر. ولكن الشافعي لا يجيز هذه الأشياء في قوله الجديد.

وأبو حنيفة يجوز الغرر اليسير على أساس العرف فقط أي إذا تعارف الناس على عقود معاوضات مالية فيها غرر يسير فهي جائزة عنده للعرف ولذلك فهو يجوز بيع الباقلاء واللوز والجوز في قشورها لأن العرف جرى بذلك. والرأي الصحيح هنا هو أن الغرر اليسير يجب أن يعفى عنه في جميع العقود حتى عقود المعاوضات المالية وذلك لأن توقي الغرر اليسير يؤدي إلحاق الحرج والمشقة بالناس وهذا مخالف لأصل شرعي وهو أن الحرج مرفوع شرعا.

وأما الغرر الفاحش فلا خلاف في أنه يؤثر على عقود المعاوضات المالية ولكنه لا يؤثر على عقود المعاوضات غير المالية والتبرعات من باب أولى وهذا على الرأي الصحيح عند ابن تيمية ويوافقه في ذلك المالكية. وهو قريب من رأي أحمد. كما أسلفنا.

25- مسألة بيع كالئ بكالئ:
إذا اتفق المتعاقدان في عقد معاوضة مالية على بيع معدوم بمعدوم وقت التعاقد أو بيع دين في الذمة بدين في الذمة فالغالبية العظمى من فقهاء الإسلام يرون عدم صحة هذا حتى ولو وصف المعدوم وصفا نافيا للجهالة وهم يحتجون بحديث ضعيف رواه الدارقطني والطبراني فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ[26]. وعن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع كالئ بكالئ أي دين بدين[27].

ويقول الشوكاني في نيل الأوطار عن هذا الحديث: (إن الحاكم صححه على شرط مسلم وتفرد به موسى بن عبيد الربذي وقال فيه أحمد بن حنبل لا يحل الرواية عنه عندي ولا أعرف هذا الحديث من غيره وقال أيضا ليس هذا حديث يصح ولكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع الدين بالدين. وقال الشافعي أهل الحديث يوهنون هذا الحديث وفسروا الكالئ بالكالئ بالنسيئة بالنسيئة فلا يجوز بيع معدوم بمعدوم).

وقد ذهب ابن عمر والأوزاعي والثوري ومالك والأحناف والشافعية والحنابلة إلى أنه لا يصح بيع الدين بالدين أي بيع المعدوم بالمعدوم رغم إقرارهم بأن الحديث ضعيف لا يحتج به.

وأما المالكية فقد تخففوا عن غيرهم في بيع الكالئ بالكالئ.

فقد ذهب المالكية إلى اشتراط كون الثمن حالا في السلم لأنه إذا كان متعلقا بالذمة وتأخر المدة الطويلة وكان المسلم فيه مؤجلا إلى أجل بعيد فإن هذا من باب بيع الكالئ بالكالئ وهو غير جائز إلا أنهم مع هذا ذهبوا إلى أن قبض الثمن في مجلس السلم ليس بشرط فيجوز تأخيره اليوم واليومين بالشرط أي مع اشتراط ذلك خلافا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما أن من شرط صحة السلم التقابض في المجلس ويرى المالكية أن تأخير اليوم واليومين لا يدخل في حكم الكالئ بالكالئ[28]. ولكن الحقيقة أن اشتراط ذلك يوما أو يومين إنما هو من قبيل بيع الدين بالدين.

ولا يكتفي المالكية بهذا بل إنهم ذهبوا أيضا إلى أن بيع المعدوم بالمعدوم بغير شروط جائز فقد قرروا أنه إذا لم يشترط الأجل (الأكثر من يومين) في رأس مال السلم وكان المتعاقد آخره فعلا مدة طويلة فإن السلم لا يفسد لأن العقد ليس به شرط الكالئ بالكالئ وهو في نفس الوقت لا يفسده التفرقة قبل القبض فلا مانع إذن من التأجيل.

وقال ابن وهب (من المالكية أيضا) أنه إذا تعمد أحد المتعاقدين تأخير رأس مال السلم لم يفسد وإن لم يتعمده أحدهما فسد ذلك لأنه في حالة ما إذا تعمد أحدهما هذا رغم أن حق الآخر قد تعلق بالعقد فإننا لو قلنا بفساد السلم هنا فإننا نمكن أحد المتعاقدين من الانفراد بإفساد العقد[29] وهذا مبنى على قول المالكية بأن الغرار من الأداء في الصرف لا يبطل الصرف وأما إذا لم يغر أحدهما فقد رضيا بإفساد العقد فيجب أن يفسد.

ولابن القيم هنا رأي يخالف أصوله لأنه يرى أصلا جواز بيع المعدوم طالما انتفى عنه الغرر فهو يقرر بصراحة أنه لا تلازم بين الانعدام والغرر ومع هذا فهو يقرر (أن إباحة السلم على وفق القياس والمصلحة وشرع على أكمل الوجوه وأعدلها فشرط فيه قبض الثمن في الحال إذ لو تأخر لحصل شغل الذمتين بغير فائدة ولهذا سمي سلما ليسلم الثمن فإذا أخر الثمن دخل في حكم الكالئ بالكالئ بل هو نفسه وكثرت المخاطرة ودخلت المعاملة في حد الغرر)[30].

وأما ابن تيمية فهو يرى - كما أسلفنا - جواز التعاقد على المعدوم مع انتفاء الغرر الفاحش وطبقا لأصوله لا يوجد ما يمنع من بيع الكالئ بالكالئ لأن بيع المعدوم عنده لا غرر فيه ما دام قد وصف وصفا نافيا للجهالة.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 12-02-2020, 03:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,464
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن

عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن (3)
د. عباس حسني محمد




26- نقد كلام الشوكاني في بيع الكالئ بالكالئ:
ذكر الشوكاني أن الحديث ضعيف وهذا حق نص عليه علماء الحديث ولكنه حكى الإجماع على الحكم الذي جاء به الحديث وهذا الإجماع مبهم ولا دليل عليه ولم يبين لنا في أي عصر من العصور تم هذا الإجماع ولقد سبق أن بينا أن الشرعية لم تمنع بيع المعدوم بالمعدوم وإنما نهت عن الغرر الفاحش وأن الرأي الصحيح هنا أنه لا تلازم بين الغرر وبين الانعدام فقد يكون الشيء موضوع التعاقد معدوما وليس فيه غرر وذلك بأن يوصف وصفا نافيا للجهالة. وقد يكون الشيء موجودا وفيه غرر فاحش لأنه لم يوصف. وأما هذا الإجماع الذي حكاه الشوكاني فلا دليل عليه ولم يبين لنا في أي زمن تم هذا الإجماع المزعوم والذي يستند إلى حديث ضعيف باعتراف الذين قالوا بمنع بيع المعدوم بالمعدوم.

27- نقد رأي الأحناف والشافعية وجمهور الحنابلة في مسألة بيع الكالئ بالكالئ:
من الواضح أن هذه المذاهب الفقهية الثلاثة تتفق مع أصولها إذ تمنع بيع كالئ بكالئ لأنها تمنع أصلا بيع المعدوم بالموجود فمن باب أولى لا بد أن تمنع بيع المعدوم بالمعدوم. ولكننا سبق أن بينا أن أصلهم في بيع المعدوم غير صحيح.

28- نقدر رأي المالكية في مسألة بيع كالئ بكالئ:
من الواضح أن المالكية رغم أخذهم بحكم الحديث الضعيف آنف الذكر فإنهم قد توسعوا أكثر من المذاهب الأخرى من عدة نواحي فأجازوا بيع المعدوم بالمعدوم في ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أجازوا بيع الدين بالدين إذا كان أجل أحد الدينين قريبا أي اشترط له اليوم واليومين.

الحالة الثانية: أن منهم من أجاز عملا بيع الدين بالدين لأجل طويل عن طريق عدم اشتراط ذلك ثم يتأجل العاجل أجلا طويلا من الناحية العملية بعد ذلك فإن هذا يصح عند بعضهم.

الحالة الثالثة: لجأوا إلى مبدأ سد الذرائع لتصحيح بيع الدين بالدين فعلا وذلك إذا فر أحد المتعاقدين وتعمد تأخير رأس مال السلم وذلك على رأي ابن وهب كما مر.. ومن هذا يتضح أن المالكية أقرب إلى تصحيح بيع الكالئ بالكالئ رغم أن الأصل عندهم هو المنع.

29- نقد رأي ابن القيم:
من الغريب حقا أن ابن القيم - رحمه الله تعالى - قد أخذ بحكم الحديث آنف الذكر رغم أنه ضعيف لا يحتج به وهو في نفس الوقت يتعارض مع أصوله لأنه يقول في شأن بيع المعدوم:
ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز بلفظ عام ولا بمعنى عام وإنما في السنة النهي عن بيع الأشياء التي هي معدومة كما في النهي عن بعض الأشياء الموجودة فليست العلة في المنع العدم ولا الوجود بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر وهو ما لا يقدر على تسليمه سواء أكان موجودا أم معدوما كبيع العبد الآبق والبعير الشارد وإن كان موجودا إذ موجب البيع تسليم المبيع فإذا كان البائع عاجزا عن تسليمه فهو غرر ومخاطره وقمار[31].

ومن هذا الكلام الواضح لابن القيم يتبين لنا أنه يرى بحق عدم وجود أدنى غرر في بيع المعدوم في حد ذاته أي أنه لا تلازم بين الغرر والانعدام إنما التلازم بين الغرر وتجهيل الشيء محل التعاقد سواء أكان موجودا أم كان معدوما كما يصرح هو نفسه بهذا. ومن هنا نستطيع أن نقرر أن ابن القيم رحمه الله قد جاء متناقضا مع أصوله حينما قرر أن بيع المعدوم بالمعدوم فيه غرر كبير ومخاطرة.

30- الرأي الصحيح هنا هو رأي ابن تيمية رحمه الله تعالى:
وهو أن بيع المعدوم بالمعدوم صحيح طالما أن الغرر الفاحش منتف. بل إنه يبدو لي - والله تعالى أعلم بالصواب - أن بيع المعدوم بالمعدوم فيه من الضمان ومنع التنازع ما ليس في بيع المعدوم بالموجود؛ ذلك أننا إذا تعمقنا قليلا فإننا سنجد أنه في حالة بيع المعدوم بالموجود إذا لم يستطع المتعاقد الوفاء بالشيء (المعدوم وقت التعاقد) فإن النزاع سيشتد لأنه في هذه الحالة يكون أحد المتعاقدين قد حصل على كل ما يريده (وهو الموجود العاجل) والآخر لم يحصل على شيء وعليه أن يطالب الآخر برد ما أخذه بدون مقابل وهو معرض في هذه الحالة لاعساره وبالتالي يضيع حق المطالب.

وأما في حالة بيع الدين بالدين أو المعدوم بالمعدوم فإنه إذا تأخر أحدهما في الوفاء فإن الثاني يستطيع أن يطالب بحبس الدين الذي عليه حتى يستوفي حقه ويستطيع أن يطلب الفسخ إذا تأخر في الوفاء ولا ضرر على أحد منهما في أي الحالين وإذا استحال تنفيذ التزام أحدهما على الأقل فإن العقد سيعتبر مفسوخا من تلقاء نفسه ولن يوجد نزاع بينهما لأن كليهما لم يحصلا على شيء من العقد. ومن هذا يتضح أن رأي ابن تيمية هو الصحيح وأن ما قرره ابن القيم -رحمه الله تعالى- من أن بيع الدين بالدين فيه غرر ومخاطرة كبيرة إنما هو رأي غير صحيح فضلا عن أنه يتناقض مع أصوله كما أسلفنا.

ومن هذا كله يتبين لنا أن الرأي الصحيح هو صحة بيع المعدوم بالموجود وصحة بيع المعدوم طالما انتفى الغرر الفاحش في عقود المعاوضات المالية، وأما عقود المعاوضات غير المالية والتبرعات فالغرر الفاحش لا يؤثر فيها أصلا كما قدمنا.

المطلب الثاني: الغرر في القانون:
31- الغرر في القانون المدني المصري:
عرفت القوانين الوضعية - ومن بينها القانون المدني المصري - الغرر في العقود وقد فرق القانون المصري بين الانعدام والغرر (كرأي ابن تيمية) ولذلك فهو يجيز بصفة عامة التعامل في الأشياء المستقبلة أي الغير موجودة وقت العقد[32]. وأوجب القانون المصري بصفة عامة أن يكون محل الالتزام معنيا بذاته[33].

فإذا لم يكن معينا بذاته وجب أن يكون معينا بنوعه ومقداره وإلا كان العقد باطلا كما نص أيضا على أنه يكفي أن يكون المحل معينا بنوعه ومقداره فقط إذا تضمن العقد ما يستطاع به تعيين مقداره وإذا لم يتفق المتعاقدان على درجة الشيء من حيث جودته ولم يمكن استخلاص ذلك من العرف أو من أي طرف آخر التزم المدين بأن يسلم شيئا من صنف متوسط.

ويكفى في المحل المعدوم وقت التعاقد أن يكون ممكن الوجود وأما إذا كان مستحيلا فإن العقد يكون باطلا. ولكن القانون لم يعرف التقسيم الذي عرفه الفقه الإسلامي وهو تقسيم عقود المعاوضات إلى مالية وغير مالية فالغرر في القانون بصفة عامة يؤثر على جميع عقود المعاوضات سواء أكانت مالية أم غير مالية.

32- تناقض القانون بالنسبة لعقود التبرع:
وأما بالنسبة لعقود التبرع فقد وقف القانون موقفاً شاذا فيه تناقض مع طبيعة هذه العقود إذ اشتط في محل التعاقد أن يكون موجودا وذلك بالنسبة لعقد الهبة. وأنه لمن الغريب حقا أن يمنع القانون هبة المال المستقبل[34] ويجيز التعامل بعوض في المال المستقبل رغم أن الهبة الأصل فيها عدم وجود مقابل لها فلا خطر من انعدام الشيء الموهوب وقت التعاقد ولا خسارة تعود على الموهوب له إذا لم يوجد الشيء عند التنفيذ بعكس الحال في عقود المعاوضات المالية. فكان الأليق وقد أجاز القانون التعامل بعوض في الأموال المستقبلة (المعدومة وقت التعاقد) أن يجيز التعامل بغير عوض من باب أولى.

وقد زعمت المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي للقانون المدني أن بطلان هبة المال المستقبل إنما هو تطبيق لأحكام الشريعة الإسلامية في مبدأها العام الذي يقضي بعدم جواز التعامل في المعدوم[35]. وإني أرى أن هذا الكلام محض مغالطة لأنه لو صح هذا لكان الواجب تحريم التعامل في المعدوم بعوض وبغير عوض ولكن القانون المدني أباح صراحة التعامل بعوض في المال المستقبل ومنعه في الهبة وهذا أمر بعيد عن الشريعة تماما إذ أن الفقهاء الذين اعتبروا التعاقد في المعدوم حرام إنما اعتبروا ذلك بصفة مطلقة أي سواء أكان العقد بعوض أم بغير عوض وتخففوا في حالة عقود التبرع[36] إلى حد ما وأما الفقهاء الذين أجازوا مطلقا سواء في عقود المعارضة أم في عقود التبرع.

فالأصل في الشريعة هو التساهل في عقود التبرع بعكس الحال في عقود المعاوضات المالية ومن هذا يتضح أن مسلك القانون مخالف تماما لمسلك الشريعة على أي المذاهب في هذه المسألة.

وكان الأجدر أن يقال هنا أن القانون قد جرى وراء التشريع الفرنسي الذي يمنع المال المستقبل (م 942 مدني فرنسي).

هذا ويلاحظ أنه إذا كان القانون يخشى الاستغلال فكان يكفيه نص المادة 129 مدني[37].

33- تناقض القانون مع نفسه فيما يتعلق بالغرر:
الواقع من الأمر أن الذي يتصفح القانون المدني المصري وغيره من القوانين الوضعية يجد أن فيه تناقضا واضحا بين قواعده العامة وبين أحكامه بشأن بعض العقود فالمواد من 132 إلى 134 من القانون المدني المصري جاءت واضحة في منع الغرر في جميع العقود بدون استثناء.. وهذه المواد إنما هي من القواعد العامة للقانون لأنها واردة بالفصل الأول من الباب من الكتاب الأول وهو عن الالتزامات بوجه عام ورغم هذه القواعد العامة نجد أن الكتاب الثاني (وهو الخاص بالعقود بالمسماة) قد احتوى على باب خاص بعقود الغرر وهو الباب الرابع، وقد نص في الفصل الأول هذا الباب على عقود المقامرة والرهان وقد أباح القانون من هذه العقود عقود المقامرة والرهان التي يجريها المتبارون في الألعاب الرياضية وعقود المقامرة الخاصة بأوراق النصيب. وهذه العقود فيها غرر فاحش وهي من عقود المعارضة المالية لأنها لا تخرج عن كونها مبادلة مال بمال.

ويلاحظ فوق ما تقدم أن القانون الوضعي لا يعرف التفرقة بين المعاوضة المالية وغير المالية فأحكامه العامة تبطل الغرر سواء أكان العقد معاوضة مالية أم كان معاوضة غير مالية.

وخصص الفصل الثاني لعقد المرتب مدى الحياة وهو عقد فيه غرر فاحش أيضا لأن المرتب مرتبط بأجل المتعاقد وهو غير معلوم بطبيعة الحال وهذه العقود قد تكون تبرعية وقد تكون من عقود المعاوضات المالية، والقواعد العامة للقانون تمنع الغرر في جميع أنواع العقود سواء أكانت تبرعية أم بعوض مالي أو غير مالي بل هي تتشدد في عقود التبرع وتمنع بالنسبة لها التعاقد في المعدوم وذلك على عكس الفقه الإسلامي[38] الذي يتخفف في عقود التبرع.

وخصص القانون الفصل الثالث لعقد التأمين وهو يقوم على الغرر الفاحش لأن المبلغ الذي ستدفعه شركة التأمين غير معلوم المقدار وهو معلق على حصول أمر احتمالي.

ومن هذا كله يتضح أن القانون المدني المصري (شأنه شأن التشريعات الموضعية الحديثة) قد جاء متناقضا مع نفسه بالنسبة للغرر وهو أشد تناقضا بالنسبة للانعدام في عقود التبرع الذي منعته قواعده العامة وأباحته القواعد الخاصة بعقود الغرر آنفة الذكر.

المطلب الثالث: أثر الغرر على التأمين:
34- عقد التأمين التجاري باطل للغرر الفاحش:
يبين مما سبق أن عقد التأمين هو عقد بيع مال بمال وفيه غرر فاحش فهو إذن باطل لأننا نعلم أن الغرر الفاحش يؤثر على عقود المعاوضات المالية وعلى رأسها عقد البيع.

ويلاحظ فوق ما تقدم أن التأمين التجاري يدخل تحت بيع كالئ بكالئ وهو طبقا لرأي جميع الفقهاء - ماعدا ابن تيمية - باطل لأنه بيع دين مقسط بدين احتمالي معلق.

ولكننا لا نرى الأخذ بهذا السبب لأن حديث بيع كالئ بكالئ ضعيف ولا يحتج به.

ويكفي هنا أن العقد باطل للغرر الفاحش طبقا لصريح النص النبوي وبإجماع الفقهاء في تفسير هذا النص فقد أجمع في جميع العصور على أن الغرر الفاحش مبطل لعقود المعاوضات المالية ولم يختلفوا إلا بالنسبة لعقود المعاوضات غير المالية.

35- رد على صاحب رسالة الغرر وأثره في العقود:
جاء في رسالة الغرر وأثره في العقود[39] في الفقه الإسلامي:
أن التأمين ليس قمارا وإن كان فيه غرر لأن المقامر لا يتحصن من خطر وإنما يوقع نفسه في الخطر وأما المستأمن فهو يحاول التحصن عن خطر محتمل لا يقوى على تحمله.. ويبدو أن صاحب هذه الرسالة قد تأثر بأقوال شراح القانون في هذه المسألة[40]، فالحق أن التأمين مغامرة بصرف النظر عما إذا كان الباعث على التأمين هو التحصن من الخطر أو الوقوع في الخطر وتفصيل ذلك أنه ورد عن ابن عمر أنه قال: الميسر هو القمار وقال الضحاك عن ابن عباس قال: الميسر هو القمار وكانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة وقال مالك عن داود بن الحصين أنه سمع سعيد بن المسيب يقول كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين[41] فالقمار قد يأخذ صورة البيع أي عقد المعاوضة المالية والحقيقة أن الذي يميز القمار عن غيره هو لجوء المتعاقدين إلى الاعتماد على الحظ في تحديد ما سيحصل عليه كل منهما في النهاية وهذا أمر ظاهر في عقد التأمين فالمشترط (المستأمن) يدفع الأقساط مقابل أن يقوم المؤمن (شركة التأمين) بدفع المقابل للمستأمن أو للغير فإذا كان المؤمن محظوظا لم يمت المستأمن حتى يدفع الأقساط كاملة. ومما يلاحظ هنا أن شركة التأمين محظوظة دائما لأنها تتخذ وضع من يدير بيتا للقمار لأنها تستخدم فن الإحصاء قبل أن تقدم على قبول أي نوع من أنواع التأمين كما أنها تلجأ إلى نظام إعادة التأمين لتوزيع الخسائر على شركات التأمين المختلفة.

وإذا كان المستحق للتأمين محظوظا مات المستأمن أو تحقق الخطر قبل أن يفي المستأمن بالأقساط كلها وعلى الشركة في هذه الحالة أن تدفع مبلغ التأمين كاملا فالعقد يعتمد على مجرد الحظ وهذا هو عين القمار.

وأما الزعم بأن المستأمن يتحصن من الخطر فإن التحصن من الخطر يكون بحسن التوكل على الله تعالى ومقتضاه أن يبتعد المسلم عن الحرام لا أن يتحصن به لأن من تحصن بالحرام مثله كمثل العنكبوت.. قال تعالى: ï´؟ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ï´¾ [42].

وتعاطي الحرام لا يكون إلا في حالة الضرورة وبقدر ولا يوجد هنا ضرورة وفضلا عن ذلك فإنه توجد صور شرعية للتأمين كما سنرى إن شاء الله تعالى.


[1] انظر مختار الصحاح (غر).

[2] رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.

[3] رواه البخاري ومسلم.

[4] رواه البخاري ومسلم.

[5] من سورة المائدة.

[6] يراجع تفسير ابن كثير لآية المائدة آنفة الذكر.

[7] من سورة المائدة.

[8] يراجع في هذا الفتاوى الكبرى لابن تيمية جزء 3 ص 431 وما بعدها.

[9] رواه البخاري.

[10] رواه أبو داود.

[11] اعلام الموقعين لابن القيم جزء ص69.

[12] وقد صحح الأحناف عقود بيع المنافع (كالإجارة) على أساس العرف فهي صحيحة على خلاف الأصل عندهم.

[13] مقال للشيخ أحمد إبراهيم بمجلة القانون والاقتصاد السنة الرابعة العدد السادس.

[14] الفتاوى الكبرى لابن تيمية جزء 3 ص 432.

[15] الفروق للقرافي جزء 1 ص194.

[16] المبسوط للسرخسي جزء 12 ص195 – 196، البدائع جزء ص 138.

[17] شرح صحيح مسلم للنووي جزء 9ص 158 وما بعدها.

[18] المبسوط للسرخسي جزء 12 ص 194، الفتح والعناية جزء 5 ص192 وما بعدها.

[19] حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب جـ2، ص188 وما بعدها.

[20] عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة فنهى البائع والمشتري.
وفي رواية نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن الحب حتى يشتد (رواه البخاري ومسلم).
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع حبل الحبلة فكان بيعا في الجاهلية).
رواه البخاري ومسلم.

[21] الفتاوى الكبرى لابن تيمية جزء 3 ص422.

[22] اعلام الموقعين لابن القيم.

[23] عند المالكية وبعض الحنابلة والشافعية.

[24] البدائع للكاساني جزء 5 ص 92 ، حاشية ابن عابدين جزء 4 ص 592 وما بعدها.

[25] هذا عند الحنابلة والمالكية والشافعية وأما عند الثوري والأوزاعي والأحناف فإنه لا بد أن يكون جنس المسلم فيه موجودا حال العقد إلى حين التسليم. ورأي الأحناف لا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم إلى المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم وأجل معلوم ولم يذكر الوجود ولو كان شرطا لذكره ولنهاهم عن السلف سنتين لأنه يلزم منه انقطاع المسلم فيه في وسط السنة.
(يراجع في هذا المغنى لابن قدامة جزء 4 ص236).

[26] رواه الدارقطني.

[27] أخرجه الطبراني.

[28] المنتقى شرح الموطأ لابن الباجي جزء 4 ص300.

[29] المنتقى جزء 4 ص301 (لابن الباجي).

[30] اعلام الموقعين لابن القيم جزء 2 ص104.

[31] اعلام الموقعين لابن القيم جزء 2 ص113.

[32] نصت المادة 131 مدني على أنه يجوز أن يكون محل الالتزام شيئا مستقبلا.

[33] مادة 133 مدني.

[34] نصت المادة 492 على أنه تقع هبة الأموال المستقبلة باطلة.

[35] الوسيط للسنهوري جزء 5 المجلد الثاني ص117 هامش.

[36] فأجاز أبو حنيفة الإبراء من الدين المجهول.

[37] نصت المادة 129 مدني على الآتي: (إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا ا لمتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر وتبين أن المتعاقد المغبون لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشا بينا أو هوى جامحا جاز للقاضي بناء على طلب المتعاقد المغبون أن يبطل العقد أو ينقص التزامات هذا المتعاقد).

[38] انظر ما سبق فقرة 64.

[39] رسالة الدكتوراه للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير 648.

[40] انظر في نفس المعنى الذي ذكره الدكتور الضرير العقود الصغير لمحمد علي عرفة: عقد التأمين ص317.

[41] يراجع في هذا كله تفسير ابن كثير جزء 2 ص91 (من سورة المائدة).

[42] من سورة العنكبوت.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 12-02-2020, 03:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,464
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن

عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن (4)
د. عباس حسني محمد



الفصل الرابع
عقد التأمين والتعليق

36- عقد التأمين عقد معلق دائما:
الواقع من الأمر أن عقد التأمين من العقود المعلقة على شرط دائما والشرط أمر احتمالي بطبيعته وهو هنا حصول الخطر المؤمن عنه. ولقد سبق ورأينا أن التكييف الصحيح لعقد التأمين التجاري أنه عقد بيع مال بمال[1] فهو إذن عقد بيع معلق على شرط.

37- رأي الفقه الإسلامي في تعليق عقود التمليكات:
يرى جميع الفقهاء[2] - ماعدا ابن تيمية وابن القيم فقط - أن عقود التمليك لا تقبل التعليق على الإطلاق, وهذه العقود هي البيع والهبة والإجارة ويلحقون بعقود التمليك في هذا الحكم عقود الإسقاطات التي فيها معنى التبرع كالوقف[3] ويلحقون بها أيضا عقود التقييدات كعزل الوكيل (من الوكالة) وناظر الوقف والوصي والحجر على الصبي المميز المأذون له بالتجارة[4] وعلل الفقهاء عدم جواز تعليق هذه العقود بأن الأصل في هذه العقود أن يترتب أثرها عليها في الحال والتعليق يمنعه[5].

ويضيف هؤلاء أن التعليق فيه معنى المقامرة والغرر لأن العقد مع التعليق يحتمل الوجود والعدم وعلى افتراض وجوده عند تحقق الشرط قد تكون رغبته في العقد قد زالت فيتزعزع الرضى أو يزول عن نفسه وأساس العقود هو الرضى فالأصل إذن هو النهي عن تعليقها[6].

38- رأي ابن القيم في تعليق العقود بصفة عامة:
يقول ابن القيم: (تعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات بالشروط أمر قد تدعو إليه الضرورة أو المصلحة فلا يستغنى عنه)[7].

والواقع أنه لا وجه لما ذهب إليه الفقهاء من منع تعليق عقود التمليكات وما في حكمها لأن التعليق لا يؤدي إلى النزاع فالعقد قد يتم وقد لا يتم هذا هو كل ما في الأمر أي أن العقد يكون غير تام حتى يحدث الأمر المحتمل المعلق عليه العقد. ولقد قرر الفقهاء أن عقد البيع الذي يقع على مكيل أو موزون أو مبيع بالصفة أو برؤية متقدمة لا ينقل للمشتري حق التصرف في المبيع حتى يقبضه وإذا تلف المبيع قبل القبض فضمانه على البائع فهنا نجد أن العقد وإن كان لازما قبل القبض إلا أنه لم يتم في الحقيقة لأنه لم ينقل الملكية كاملة للمشتري ولم يقل أحد أن هذا فيه غرر على أساس أن القبض قد يتم وقد لا يتم.

ومن جهة أخرى فقد علق النبي صلى الله عليه وسلم هبته لأم سلمة على موت النجاشي ورد هديته للنجاشي إليه ليهبها من جديد لأم سلمة[8] والهبة من عقود التمليك كما هو واضح.

ولهذا فإن الرأي الصحيح - والله تعالى أعلم بالصواب - هو ما ذهب إليه ابن تيمية وابن القيم من صحة تعليق العقود بكافة أنواعها ولا يستثنى من هذا إلا عقد الزواج لخطورته فهو لا يجوز معلقا ولا مؤجلا ولا مؤقتا. وعلى هذا فإن التعليق يبطل عقد التأمين التجاري طبقا لرأي جميع الفقهاء ما عدا ابن تيمية وابن القيم ورأيهما هو الصحيح في نظري وعلى هذا فإن التعليق – في رأيي – لا يؤثر على عقود التأمين التجاري باعتبارها من عقود التمليكات.


[1] انظر بند 17من هذا البحث.

[2] يراجع في هذا كتاب المدخل للفقه الإسلامي للدكتور سلام مدكور ص62 وما بعدها.

[3] هناك إسقاطات محضة كالطلاق المجرد والتنازل عن الشفعة والعفو عن القصاص من غير عوض عن الجاني وما شابه ذلك من إسقاط حق بدون مقابل.

[4] يراجع في هذا كتاب المدخل للفقه الإسلامي للدكتور سلام مدكور ص618.

[5] كشاف القناع جزء 2 ص41، منتهى الإرادات على الكشاف جزء 2 ص27.

[6] نقلا عن كتاب المدخل للفقه الإسلامي للدكتور سلام مذكور ورجع حاشية ابن عابدين جزء 4 ص245 وما بعدها والزيلعي جزء 4 ص41 والمغنى لابن قدامه جزء 6 ص256.

[7] اعلام الموقعين لابن القيم جزء 3 ص288.

[8] انظر في هذا المعنى المرجع السابق للدكتور سلام مدكور ص621.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 12-02-2020, 03:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,464
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن

عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن (5)
د. عباس حسني محمد




الفصل الخامس
عقد التأمين والربا

39- علة الربا في الذهب والفضة:
الذي عليه أكثر الفقهاء هو أن علية الربا في الذهب والفضة هو الثمنية أي أنها ثمن للمثمنات كلها وقيم للمتلفات وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد في رواية عنه[1].

40- قياس العملات المعاصرة على الذهب والفضة:
لما كانت العلة في الذهب والفضة هي الثمنية ولما كان هذان النقدان قد تراجعا الآن وحل محلهما في جميع أسواق العالم – فيما عدا بعض الحالات الدولية – العملات الورقية والمعدنية فهي التي أصبحت على اختلاف جنسياتها ثمنا للمثمنات كلها وقيما للمتلفات فالثمنية متوافرة تماما في جميع عملات العالم ولذلك يجري على هذه العملات الآن ما يجري على الذهب والفضة من أحكام شرعية. وهذه الثمنية غير مرتبطة بالذهب والفضة وإن كان الذهب يعتبر غطاء لهذه العملات إلا أن هذا الغطاء الذهبي لا أثر له على الإطلاق في كون هذه العملات تتمتع بعلة الثمنية تماما كالذهب في الماضي.

ومن ثم فإنه لا يجوز مبادلة هذه العملات في حالة اتفاق الجنس (بين العملات المتبادلة) إلا مثلا بمثل أي لا يجوز فيها ربا الفضل تماما كما في مبادلة الذهب بالذهب.

وإذا اختلف جنس العملات (كمبادلة دينارات كويتية بريالات سعودية مثلا) فإن التفاضل يجوز فيها ولا يعتبر حراما ولكن لا يجوز فيها النسيئة. لأنها في حالة اختلاف الجنس تعتبر صرفا وعقد الصرف يشترط لصحته التقابض في مجلس العقد.

وهذا كله واضح من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل والتمر بالتمر مثلا بمثل والبر بالبر مثلا بمثل والملح بالملح مثلا بمثل والشعير بالشعير مثلا بمثل فمن زاد أو ازداد فقد أربى بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد)[2].


41- عقود التأمين والربا:
لقد رأينا أن التكييف الصحيح لعقد التأمين التجاري هو أنه عقد بيع نقود بنقود[3] ولهذا فإنه لا يجوز فيه ربا الفضل إذا كان النقد من جنس واحد ولا يجوز فيها ربا النسيئة إذا اختلف النقدان في الجنس.

ومن هذا يبين أن الربا لا بد حاصل في عقود التأمين التجاري سواء اتفق النقدان في الجنس أم اختلفا؛ وذلك لأنه إذا اتفق جنس النقدين وهو الحاصل فعلا فإن التفاضل لا بد حاصل فيهما لأن مبلغ التأمين يندر أن يساوي مجموع الأقساط التي يدفعها الشخص المستأمن بل إن أحدا لا يعرف وجه التحقيق ما الذي سيدفعه كل من المستأمن وشركة التأمين فقد يدفع المستأمن قسطا واحدا يساوي مثلا مائة جنيه مصري وتحصل الكارثة فتدفع شركة التأمين مبلغ التأمين كاملا وقد يكون بضعة آلاف من الجنيهات المصرية فربا الفضل هنا متحقق وربا النسيئة أيضا متحقق. لأن النقدين لم يسلما في مجلس العقد. وكل ما يحرم فيه البيع بالتفاضل يحرم فيه البيع نساء وفي هذا يقول ابن قدامة:

(وكل ما حرم فيه التفاضل حرم فيه النساء بغير خلاف نعلمه ويحرم التفرق قبل القبض لقول النبي صلى الله عليه وسلم (عينا بعين) وقوله (يد بيد) لأن تحريم النساء آكد ولذلك جرى في الجنسين المختلفين فإذا حرم التفاضل فالنساء أولى بالتحريم)[4].

ويجب أن يلاحظ هنا في هذه النقطة بالذات أن هناك فارقا كبيرا بن عقد البيع وعقد القرض، ففي عقد البيع يحرم التفاضل ويحرم النساء أيضا في حالة اتفاق جنس النقدين المتبادلين وأما في عقد القرض فإن التفاضل هو الذي يحرم فقط ولكن النساء لا يحرم ولكن بشرط اتفاق الجنس فإذا اقترض ذهبا لمدة عام فلا بد أن يرده ذهبا بنفس الوزن أي بغير اختلاف في الجنس وبغير تفاضل، فلا يجوز أن يرد بدلا من الذهب فضة.

ولا يجوز أن يرد إلا قدر الذهب الذي اقترضه بغير زيادة وهذا مصدق أيضا على العملات المعاصرة التي حلت الآن محل الذهب والفضة.

ولما كان عقد التأمين إنما هو عقد بيع أقساط التأمين بمبلغ التأمين مع تعليق أحد النقدين وهو مبلغ التأمين على حصول الكارثة أو الحادث المتفق عليه ومن ثم فإن الربا لابد حاصل في هذا العقد وهو ربا فضل وربا نسيئة في آن واحد لأن النقدين من جنس واحد والتفاضل حاصلا بينهما قطعا كما أنهما لا يتصوران إلا نسيئة لأن مبلغ التأمين معلق على حصول الحادث وما يدفعه المؤمن مقسط على عدة سنوات.

وأما إذا اختلف جنس النقدين بأن اتفقت الشركة على أن تدفع مبلغ التأمين من جنس مختلف عن جنس أقساط التأمين حتى يصبح التفاضل بين النقدين حلالا فإن العقد رغم ذلك سيكون باطلا بسبب ربا النسيئة لأن بيع أحد النقدين بنقد آخر مختلف معه في الجنس لا يصح أبدا إلا إذا كان التبادل في مجلس واحد وهو مجلس العقد وهذا مستحيل التصور بالنسبة لعقد التأمين الذي يقوم أساسا على تقسيط أحد النقدين وهو ما يدفعه المستأمن وعلى تعليق النقد الآخر على حصول الكارثة أو الحادث.

ومن هذا يبين بجلاء أن عقد التأمين التجاري الذي يعتبر في الحقيقة عقد بيع نقد بنقد إنما هو عقد باطل بسبب ربا الفضل وربا النسيئة معا إذا كان النقدان من جنس واحد وبسبب ربا النسيئة إذا كان النقدان من جنسين مختلفين.


[1] المغنى لابن قدامة جزء 4 ص5، 6، 7.

[2] رواه مسلم ويراجع في هذا المعنى المغنى لابن قدامة جزء 4 ص5 وما بعدها.

[3] انظر فقرة 17 من هذا البحث.

[4] المغني لابن قدامة جزء 4 ص9، 10.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 12-02-2020, 03:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,464
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن

عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن (6)
د. عباس حسني محمد



الفصل السادس

تحريم وبطلان التأمين التجاري


42- أسباب تحريم وبطلان التأمين التجاري تخريجا على إجماع الفقهاء بدون استثناء:
لقد رأينا أن عقد التأمين إنما هو عقد بيع نقد بنقد فهو عقد معاوضة مالية.

ولقد أجمع فقهاء الإسلام كما سبق وبينا على ما يأتي:
1- أن الغرر الفاحش يبطل عقود المعاوضات المالية ومن ثم فإن عقد التأمين التجاري باطل وحرام شرعا بسبب ما فيه من غرر فاحش يصل به إلى حد القمار.
وهذا بالإجماع..
2- أن ربا الفضل والنسيئة حرام في حالة بيع نقد بنقد من جنس واحد وهذا هو حال عقد التأمين التجاري فهو من ثم باطل وحرام شرعا لما فيه من ربا الفضل وربا النسيئة وهذا أيضاً بالإجماع..

43- أسباب تحريم وبطلان عقد التأمين التجاري تخريجا على رأي الغالبية العظمى من الفقهاء:
تشمل هذه الأسباب السببين آنفة الذكر واللذين قلنا أنهما تخريجا على إجماع الفقهاء وهما الغرر الفاحش والربا. ويضاف إلى هذين السببين أسباب أخرى لأن دائرة الإبطال والتحريم هنا تتسع لأنها جاءت تخريجا على رأي غالبية الفقهاء وليس الإجماع.

وهذه الأسباب الزائدة هي:
1- يبطل التأمين لأنه من قبيل بيع الكالئ بالكالئ وقد رأينا أن جميع الفقهاء – ما عدا ابن تيمية وحده - لا يجيزون بيع الكالئ بالكالئ والتأمين لا يتصور إلا على سبيل بيع الكالئ بالكالئ لأنه بيع دين مقسط بدين معلق على شرط أي على أمر احتمالي.

2- يبطل التأمين طبقا لرأي جميع الفقهاء – ما عدا ابن تيمية وابن القيم - بسبب تعليقه لأنه عقد بيع نقد بنقد وقد رأينا أن تعليق التمليكات باطل عند الفقهاء والتأمين لا يتصور إلا معلقا.

44- مضار التأمين الخطيرة التي تؤكد تحريمه وبطلانه:
الحق أن التأمين التجاري إنما هو نوع من القمار. لأنه يحتوي على غرر فاحش يؤدي إلى إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس بل إلى أن يقتل الابن أباه وتقتل الزوجة زوجها كما هو حاصل في البلاد الأوربية والأميركية التي شاع فيها التأمين.

وقد ظهرت هذه الجرائم أخيرا في البلاد الإسلامية التي شاع فيها التأمين. ونوضح فيما يلي هذه الأضرار المتعددة:
45- أولا تربص الابن بأبيه والزوجة بزوجها:
إذا كان مبلغ التأمين ضخما ولصالح الأولاد فقد يلجأون إلى قتل أبيهم حتى يقبضوا فورا - وبدون أي مقابل - هذا المبلغ الضخم الذي لا يمكن الحصول عليه فورا إلا بموت الأب وفي هذا فساد كبير وشر مستطير.

ويحدث مثل هذا مع الزوجين أيضا, ولا ريب أن حوادث التأمين في أوروبا وأمريكا كثيرة للغاية مما أثر على أدبائهم فاتخذوها مادة لقصصهم في أحيان كثيرة.

46- ثانيا: اللجوء إلى الانتحار:
قد يعمد المستأمن نفسه إلى الانتحار إذا كان في حالة بأس وما أكثر حالات البأس والقلق في أوربا وأمريكا بسبب بعدهم عن ذكر الله تعالى فمن إحصائيات هذه البلاد سنجد أن الولايات المتحدة الأميركية والسويد والدانمرك والنرويج ترتفع فيها نسب الجنون والانتحار والانهيار العصبي رغم ارتفاع مستوى المعيشة في هذه البلاد ومما يشجع على الانتحار التأمين لأنه يتيح للمنتحر أن يترك لأولاده مبلغا ضخما من بعده لا يمكنهم الحصول عليه إلا بموته بعد التأمين على حياته لصالحهم.

47- ثالثا: افتعال الحوادث الوهمية كالسرقات والحرائق وغيرها:
ومن يراجع أحكام القضاء يجد أن التأمين قد ينتج عنه افتعال حوادث خطيرة فالذي يؤمن على أشياء ثمينة مثلا ضد السرقة أو الحريق قد يلجأ إلى افتعال السرقة أو إلى إشعال حريق هائل في مؤسسة لكي يحصل على مبلغ التأمين سحتا.

ومن هذا على سبيل المثال حكم محكمة النقض المدنية المصرية الصادر بجلسة 28/4/966[1] في قضية رفعها مستأمن ضد شركة التأمين التي كان قد أمن لديها على مجوهرات مملوكة له وطلب من الشركة أن تؤدي له مبلغ التأمين على زعم أن المجوهرات سرقت من سيارته فقضت محكمة النقض بأن محكمة الاستئناف قد أصابت إذ انتهت إلى أن المستأمن قد افتعل السرقة. ولا ريب أن الحريق أشد خطرا.

48- رابعا إشاعة الإهمال وعدم الاكتراث:
أقر شراح القانون[2] بأن التأمين ضد السرقة يدفع إلى عدم الاكتراث بالمحافظة على الأشياء المؤمن عليها وأن التأمين ضد الحرائق يجعل المستأمن أقل حرصا على اتخاذ طرق الوقاية منها والتأمين ضد الحوادث كالحرائق وغيرها يؤدي إلى كثرتها بسبب الإهمال أم بسبب التعمد. والتأمين ضد البطالة يضعف اهتمام العامل بتفادي أسباب التوقف عن العمل وبالمثل يجعل رب العمل أقل اكتراثا بحوادث العمل لشعوره بأن الشركة هي التي ستدفع.

49- خامسا: تجمع رؤوس الأموال بكثرة رهيبة في أيدي قليلة أدت إلى الاحتكار والاستعمار.
لقد أدى نظام التأمين في الدولة الأوروبية والأمريكية إلى حصول شركات التأمين على أموال بالغة الضخامة خصوصا بعد أن ابتدعوا نظام إعادة التأمين فأصبحت الأخطار تتوزع على الشركات التي تجني أرباحا خيالية دون أي مقابل في الحقيقة وقد أدى هذا إلى تمتع الشركات بنفوذ ضخم خصوصا في بلد كالولايات المتحدة الأمريكية وأصبحت هذه الشركات تتحكم في الحياة السياسية لأكبر دولة في العالم وبالتالي تسيء إلى العالم بأسره إساءة بالغة عن طريق هذا التحكم لأن كثيرا من هذه الشركات يملكها اليهود ولقد اعتمد الاستعمار الأوربي على رؤوس الأموال الضخمة التي تحصل عليها شركات التأمين وغيرها – عن طريق الربح الحرام – وكان في هذا التعاون بين الاستعمار وبين هذه الأموال الحرام ضرر بالغ بالناس أفرادا وجماعات ودولا.

ولقد كرهت الشريعة الإسلامية تداول المال بين الأغنياء وحدهم فما بالنا بهذا التداول الرهيب الذي أدى إلى احتكار أقوات الناس في العالم بأسره وإلى الاستعمار الذي عانى منه العالم ولذا نجد أن القرآن الكريم يحرض على عدم تداول المال بين أيدي قليلة ويحبذ تداول المال على نطاق واسع، قال تعالى: ï´؟ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ï´¾ [الحشر: 7].

[1] نقض مدني 28/4/1966 طعن رقم 280/32 ق منشور بمجموعة أحكام النقض المكتب الفني السنة 17 العدد الثاني ص 948 رقم 130.

[2] العقود الصغيرة لمحمد علي عرفة ص323.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 174.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 170.25 كيلو بايت... تم توفير 4.48 كيلو بايت...بمعدل (2.57%)]