|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#231
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 231) من صــ 161 الى صـ 170 وروى سفيان عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: لما نزلت هذه الآية: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء حتى نزلت {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} الآية. ونزلت فيهم أيضا {ومن أحسن دينا} الآية. وقد روي عن مجاهد قال قالت قريش: لا نبعث أو لا نحاسب وقال أهل الكتاب: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} فأنزل الله عز وجل: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} وهذا يقتضي أنها خطاب للكفار من الأميين وأهل الكتاب؛ لاعتقادهم أنهم لا يعذبون العذاب الدائم والأول أشهر في النقل وأظهر في الدليل؛ لأن السورة مدنية بالاتفاق فالخطاب فيها مع المؤمنين كسائر السور المدنية. وأيضا: فإنه قد استفاض من وجوه متعددة أنه لما نزل قوله تعالى {من يعمل سوءا يجز به} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن مصائب الدنيا من الجزاء وبها يجزى المؤمن؛ فعلم أنهم مخاطبون بهذه الآية لا مجرد الكفار. وأيضا قوله بعد هذا: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} الآية. وقوله: {ومن أحسن دينا}يدل على أن هناك تنازعا في تفضيل الأديان لا مجرد إنكار عقوبة بعد الموت. وأيضا: فما قبلها وما بعدها خطاب مع المؤمنين وجواب لهم فكان المخاطب في هذه الآية هو المخاطب في بقية الآيات. فإن قيل: الآية نص في نفي دين أحسن من دين هذا المسلم لكن من أين أنه ليس دين مثله؟ فإن الأقسام ثلاثة: إما أن يكون ثم دين أحسن منه. أو دونه أو مثله وقد ثبت أنه لا أحسن منه فمن أين في الآية أنه لا دين مثله؟ ونظيرها قوله: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين} قيل: لو قلنا في هذا المقام: إن الآية لم تدل إلا على نفي الأحسن لم يضر هذا؛ فإن الخطاب له مقامات قد يكون الخطاب تارة بإثبات صلاح الدين إذا كان المخاطب يدعي أو يظن فساده ثم في مقام بأن يقع النزاع في التفاضل فيبين أن غيره ليس أفضل منه. ثم في مقام ثالث يبين أنه أفضل من غيره. وهكذا إذا تكلمنا في أمر الرسول ففي مقام نبين صدقه وصحة رسالته. وفي مقام بأن نبين أن غيره ليس أفضل منه وفي مقام ثالث نبين أنه سيد ولد آدم؛ وذلك أن الكلام يتنوع بحسب حال المخاطب. ثم نقول: يدل على أن هذا الدين أحسن وجوه: " أحدها " أن هذه الصيغة وإن كانت في أصل اللغة لنفي الأفضل لدخول النفي على أفعل فإنه كثيرا ما يضمر بعرف الخطاب يفضل - المذكور المجرور بمن مفضلا عليه في الإثبات فإنك إذا قلت: هذا الدين أحسن من هذا كان المجرور بمن مفضلا عليه والأول مفضلا فإذا قلت لا أحسن من هذا أو من أحسن من هذا؟ أو ليس فيهم أفضل من هذا أو ما عندي أعلم من زيد أو ما في القوم أصدق من عمرو أو ما فيهم خير منه فإن هذا التأليف يدل على أنه أفضلهم وأعلمهم وخيرهم؛ بل قد صارت حقيقة عرفية في نفي فضل الداخل في أفعل وتفضيل المجرور على الباقين وأنها تقتضي نفي فضلهم وإثبات فضله عليهم وضمنت معنى الاستثناء كأنك قلت: ما فيهم أفضل إلا هذا أو ما فيهم المفضل إلا هذا كما أن (إن) إذا كفت بما النافية صارت متضمنة للنفي والإثبات. وكذلك الاستثناء. وإن كان في الأصل للإخراج من الحكم فإنه صار حقيقة عرفية في مناقضة المستثنى منه فالاستثناء من النفي إثبات،ومن الإثبات نفي واللفظ يصير بالاستعمال له معنى غير ما كان يقتضيه أصل الوضع. وكذلك يكون في الأسماء المفردة تارة ويكون في تركيب الكلام أخرى ويكون في الجمل المنقولة كالأمثال السائرة جملة فيتغير الاسم المفرد بعرف الاستعمال عما كان عليه في الأصل إما بالتعميم وإما بالتخصيص وإما بالتحويل؛ كلفظ الدابة والغائط والرأس. ويتغير التركيب بالاستعمال عما كان يقتضيه نظائره كما في زيادة حرف النفي في الجمل السلبية وزيادة النفي في كاد وبنقل الجملة عن معناها الأصلي إلى غيره كالجمل المتمثل بها كما في قولهم: " يداك أوكتا وفوك نفخ " و " عسى الغوير أبؤسا ". " الوجه الثاني " أنه إذا كان لا دين أحسن من هذا فالغير إما أن يكون مثله أو دونه ولا يجوز أن يكون مثله؛ لأن الدين إذا ماثل الدين وساواه في جميع الوجوه كان هو إياه وإن تعدد الغير لكن النوع واحد فلا يجوز أن يقع التماثل والتساوي بين الدينين المختلفين فإن اختلافهما يمنع تماثلهما؛ إذ الاختلاف ضد التماثل فكيف يكونان مختلفين متماثلين؟ واختلافهما اختلاف تضاد لا تنوع؛ فإن أحد الدينين يعتقد فيه أمور على أنها حق واجب والآخر يقول إنها باطل محرم. فمن المحال استواء هذين الاعتقادين. وكذلك الاقتصادان فإن هذا يقصد المعبود بأنواع من المقاصد والأعمال والآخر يقصده بما يضاد ذلك وينافيه وليس كذلك تنوع طرق المسلمين ومذاهبهم؛ فإن دينهم واحد كل منهم يعتقد ما يعتقده الآخر ويعبده بالدين الذي يعبده ويسوغ أحدهما للآخر أن يعمل بما تنازع فيه من الفروع فلم يختلفا؛ بل نقول أبلغ من هذا أن القدر الذي يتنازع فيه المسلمون من الفروع لا بد أن يكون أحدهما أحسن عند الله فإن هذا مذهب جمهور الفقهاء الموافقين لسلف الأمة على أن المصيب عند الله واحد في جميع المسائل فذاك الصواب هو أحسن عند الله وإن كان أحدهما يقر الآخر. فالإقرار عليه لا يمنع أن يكون مفضولا مرجوحا وإنما يمنع أن يكون محرما. وإذا كان هذا في دق الفروع فما الظن بما تنازعوا فيه من الأصول؟ فإنه لا خلاف بين المسلمين ولا بين العقلاء أن المصيب في نفس الأمر واحد وإنما تنازعوا في المخطئ هل يغفر له أو لا يغفر وهل يكون مصيبا بمعنى أداء الواجب؟ وسقوط اللوم لا بمعنى صحة الاعتقاد؟ فإن هذا لا يقوله عاقل: أن الاعتقادين المتناقضين من كل وجه يكون كل منهما صوابا. فتلخيص الأمر أن هذا المقام إنما فيه تفضيل قول وعمل على قول وعمل فالأقوال والأعمال المختلفة لا بد فيها من تفضيل بعضها على بعض عند جمهور الأمة؛ بل ومن قال بأن كل مجتهد مصيب قد لا ينازع أن أحدهما أحسن وأصوب ولا يدعي تماثلهما. وإن ادعاه فلم يدعه إلا في دق الفروع مع أن قوله ضعيف مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف. وأما الحل فلم يدع مدع تساوي الأقسام فيه وهذا بخلاف التنوع المحض مثل قراءة سورة وقراءة سورة أخرى وصدقة بنوع وصدقة بنوع آخر. فإن هذا قد يتماثل؛ لأن الدين واحد في ذلك من كل وجه وإنما كلامنا في الأديان المختلفة وليس هنا خلاف بحال. وإذا ثبت أن الدينين المختلفين لا يمكن تماثلهما لم يحتج إلى نفي هذا في اللفظ لانتفائه بالعقل. وكذلك لما سمعوا قوله: {ولا تكن كصاحب الحوت} كان في هذا ما يخاف انتقاصهم إياه. هذا مع أن نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة شاهدة بتفضيل بعض النبيين على بعض وبعض الرسل على بعض قاضية لأولي العزم بالرجحان شاهدة بأن محمدا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأكرم الخلق على ربه؛ لكن تفضيل الدين الحق أمر لا بد من اعتقاده؛ ولهذا ذكره الله في الآية. وأما تفضيل الأشخاص فقد لا يحتاج إليه في كل وقت فالدين الواجب لا بد من تفضيله؛ إذ الفضل يدخل في الوجوب وإذا وجب الدين به دون خلافه فلأن يجب اعتقاد فضله أولى. وأما الدين المستحب فقد لا يشرع اعتقاد فعله إلا في حق من شرع له فعل ذلك المستحب وإلا فمن الناس من يضره إذا سلك سبيلا من سبل السلام الإسلامية أن يرى غيره أفضل منها؛ لأنه يتشوف إلى الأفضل فلا يقدر عليه والمفضول يعرض عنه. وكما أنه ليس من مصلحته أن يعرف أفضل من طريقته إذا كان يترك طريقته ولا يسلك تلك فليس أيضا من الحق أن يعتقد أن طريقته أفضل من غيرها؛ بل مصلحته أن يسلك تلك الطريقة المفضية به إلى رحمة الله تعالى فإن بعض المتفقهة يدعون الرجل إلى ما هو أفضل من طريقته عندهم وقد يكونون مخطئين فلا سلك الأول ولا الثاني وبعض المتصوفة المريد يعتقد أن شيخه أكمل شيخ على وجه الأرض وطريقته أفضل الطرق. وكلاهما انحراف؛ بل يؤمر كل رجل أن يأتي من طاعة الله ورسوله بما استطاعه ولا ينقل من طاعة الله ورسوله بطريقته وإن كان فيها نوع نقص أو خطأ ولا يبين له نقصها إلا إذا نقل إلى ما هو أفضل منها وإلا فقد ينفر قلبه عن الأولى بالكلية حتى يترك الحق الذي لا يجوز تركه ولا يتمسك بشيء آخر. وهذا باب واسع ليس الغرض هنا استقصاؤه وهو مبني على أربعة أصول: " أحدها " معرفة مراتب الحق والباطل والحسنات والسيئات والخير والشر؛ ليعرف خير الخيرين وشر الشرين. " الثاني " معرفة ما يجب من ذلك وما لا يجب وما يستحب من ذلك وما لا يستحب ". الثالث " معرفة شروط الوجوب والاستحباب من الإمكان والعجز وأن الوجوب والاستحباب قد يكون مشروطا بإمكان العلم والقدرة. " الرابع " معرفة أصناف المخاطبين وأعيانهم؛ ليؤمر كل شخص بما يصلحه أو بما هو الأصلح له من طاعة الله ورسوله وينهى عما ينفع نهيه عنه ولا يؤمر بخير يوقعه فيما هو شر من المنهي عنه مع الاستغناء عنه. وهذا القدر الذي دلت عليه هذه الآية - من أن دين من أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم هو أحسن الأديان أمر متفق عليه بين المسلمين - معلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛بل من يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. ولكن كتاب الله هو حاكم بين أهل الأرض فيما اختلفوا فيه ومبين وجه الحكم؛ فإنه بين بهذه الآية وجه التفضيل بقوله: {أسلم وجهه لله} وبقوله: {وهو محسن} فإن الأول بيان نيته وقصده ومعبوده وإلهه وقوله: {وهو محسن} فانتفى بالنص نفي ما هو أحسن منه وبالعقل ما هو مثله فثبت أنه أحسن الأديان. " الوجه الثالث " أن النزاع كان بين الأمتين أي الدينين أفضل؟ فلم يقل لهما: إن الدينين سواء ولا نهوا عن تفضيل أحدهما؛ لكن حسمت مادة الفخر والخيلاء والغرور الذي يحصل من تفضيل أحد الدينين؛ فإن الإنسان إذا استشعر فضل نفسه أو فضل دينه يدعوه ذلك إلى الكبر والخيلاء والفخر؛ فقيل للجميع: {من يعمل سوءا يجز به} سواء كان دينه فاضلا أو مفضولا؛ فإن النهي عن السيئات والجزاء عليها واقع لا محالة، قال تعالى {والذاريات ذروا} إلى قوله: {لواقع}.
__________________
|
#232
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 232) من صــ 171 الى صـ 180 فلما استشعر المؤمنون أنهم مجزيون على السيئات ولا يغني عنهم فضل دينهم وفسر لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الجزاء قد يكون في الدنيا بالمصائب بين بعد ذلك فساد دين الكفار من المشركين وأهل الكتاب بقوله: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى} الآية. فبين أن العمل الصالح إنما يقع الجزاء عليه في الآخرة مع الإيمان وإن كان قد يجزى به صاحبه في الدنيا بلا إيمان فوقع الرد على الكفار من جهة جزائهم بالسيئات ومن جهة أن حسناتهم لا يدخلون بها الجنة إلا مع الإيمان ثم بين بعد هذا فضل الدين الإسلامي الحنفي بقوله: {ومن أحسن دينا} فجاء الكلام في غاية الإحكام. ومما يشبه هذا من بعض الوجوه نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يفضل بين الأنبياء التفضيل الذي فيه انتقاص المفضول والغض منه كما قال صلى الله عليه وسلم {لا تفضلوا بين الأنبياء} وقال: {لا تفضلوني على موسى} بيان لفضله وبهذين يتم الدين. فإذا كان الله هو المعبود وصاحبه قد أخلص له وانقاد وعمله فعل الحسنات فالعقل يعلم أنه لا يمكن أن يكون دين أحسن من هذا؛ بخلاف دين من عند غير الله وأسلم وجهه له أو زعم أنه يعبد الله لا بإسلام وجهه؛ بل يتكبر كاليهود ويشرك كالنصارى أو لم يكن محسنا بل فاعلا للسيئات دون الحسنات وهذا الحكم عدل محض وقياس وقسط دل القرآن العقلاء على وجه البرهان فيه. وهكذا غالب ما بينه القرآن فإنه يبين الحق والصدق ويذكر أدلته وبراهينه؛ ليس يبينه بمجرد الإخبار عن الأمر كما قد يتوهمه كثير من المتكلمة والمتفلسفة أن دلالته سمعية خبرية وأنها واجبة لصدق المخبر؛ بل دلالته أيضا عقلية برهانية وهو مشتمل من الأدلة والبراهين على أحسنها وأتمها بأحسن بيان لمن كان له فهم وعقل؛ بحيث إذا أخذ ما في القرآن من ذلك وبين لمن لم يعلم أنه كلام الله أو لم يعلم صدق الرسول أو يظن فيه ظنا مجردا عن ما يجب من قبول قول المخبر كان فيه ما يبين صدقه وحقه ويبرهن عن صحته. (فصل في معنى الخليل) والخليل هو الذي تخللت محبة خليله قلبه، فلم يكن فيه مسلك لغيره كما قيل: قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا وقد قيل: إنه مأخوذ من الخليل، وهو الفقير، مشتق من الخلة بالفتح. كما قيل: وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم والصواب أنه من الأول، وهو مستلزم للثاني فإن كمال حبه لله هو محبة عبودية وافتقار، ليست كمحبة الرب لعبده، فإنها محبة استغناء وإحسان. ولهذا قال - تعالى -: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} [سورة الإسراء: 111]. فالرب لا يوالي عبده من ذل، كما يوالي المخلوق لغيره، بل يواليه إحسانا إليه، والولي من الولاية، والولاية ضد العداوة. وأصل الولاية الحب، وأصل العداوة البغض، وإذا قيل: هو مأخوذ من الولي، وهو القرب. فهذا جزء معناه، فإن الولي يقرب إلى وليه، والعدو يبعد عن عدوه. ولما كانت الخلة تستلزم كمال المحبة واستيعاب القلب، لم يصلح للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخالل مخلوقا، بل قال: " «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله» ". (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ... (127) وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله -: عن صغيرة دون البلوغ مات أبوها: هل يجوز للحاكم أو نائبه أن يزوجها أم لا؟ وهل يثبت لها الخيار إذا بلغت أم لا؟ فأجاب: إذا بلغت تسع سنين فإنه يزوجها الأولياء - من العصبات والحاكم ونائبه - في ظاهر مذهب أحمد وهو مذهب أبي حنيفة وغيرهما كما دل على ذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} وأخرجا في الصحيحين عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله عز وجل: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} قالت؛ يا ابن أختي هذه اليتيمة في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها؛ فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها؛ فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن على سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن؛ فأنزل الله عز وجل: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن} الآية. قالت عائشة والذي ذكر الله أنه {يتلى عليكم في الكتاب} الآية الأولى التي قالها الله عز وجل؛ {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} قالت عائشة: وقول الله عز وجل في الآية الأخرى: {وترغبون أن تنكحوهن} رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حيث تكون قليلة المال والحال. وفي لفظ آخر: إذا كانت ذات مال وجمال رغبوا في نكاحها في إكمال الصداق؛ وإذا كانت مرغوبا عنها في قلة المال والجمال رغبوا عنها؛ وأخذوا غيرها من النساء. قال: فكما يتركونها حتى يرغبوا عنها؛ فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها؛ إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها من الصداق. فهذا يبين أن الله أذن لهم أن يزوجوا اليتامى من النساء إذا فرضوا لهن صداق مثلهن؛ ولم يأذن لهم في تزويجهن بدون صداق المثل؛ لأنها ليست من أهل التبرع؛ ودلائل ذلك متعددة. ثم الجمهور الذين جوزوا إنكاحها لهم قولان: " أحدهما " وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين: أنها تزوج بدون إذنها؛ ولها الخيار إذا بلغت. و " الثاني " وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره: أنها لا تزوج إلا بإذنها؛ ولا خيار لها إذا بلغت. وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة كما روى أبو هريرة؛ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {تستأذن اليتيمة في نفسها؛ فإن سكتت فهو إذنها؛ وإن أبت فلا جواز عليها} رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي. وعن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فقد أذنت؛ وإن أبت فلا جواز عليها}. فهذه السنة نص في القول الثالث الذي هو أعدل الأقوال أنها تزوج؛ خلافا لمن قال: إنها لا تزوج حتى تبلغ فلا تصير " يتيمة ". والكتاب والسنة صريح في دخول اليتيمة قبل البلوغ في ذلك؛ إذ البالغة التي لها أمر في مالها يجوز لها أن ترضى بدون صداق المثل؛ ولأن ذلك مدلول اللفظ وحقيقته ولأن ما بعد البلوغ وإن سمي صاحبه يتيما مجازا فغايته أن يكون داخلا في العموم. وأما أن يكون المراد باليتيمة البالغة دون التي لم تبلغ: فهذا لا يسوغ حمل اللفظ عليه بحال. والله أعلم. (فصل: الظلم نوعان) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: والظلم نوعان: تفريط في الحق وتعد للحد. فالأول ترك ما يجب للغير مثل ترك قضاء الديون وسائر الأمانات وغيرها من الأموال. والثاني الاعتداء عليه مثل القتل وأخذ المال وكلاهما ظلم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع} فجعل مجرد المطل الذي هو تأخير الأداء مع القدرة ظلما فكيف بالترك رأسا. وقد قال تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} إلى قوله: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط}. قالت عائشة رضي الله عنها هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيريد أن يتزوجها بدون أن يقسط لها في مهرها. فسمى الله تكميل المهر قسطا؛ وضده الظلم. وهذا في الجملة ظاهر متفق عليه بين المسلمين: أن العدل قد يكون أداء واجب وقد يكون ترك محرم وقد يجمع الأمرين وأن الظلم أيضا قد يكون ترك واجب وقد يكون فعل محرم وقد يجمع الأمرين. فإذا عرف هذا؛ وقد عرف أن العدل والظلم يكون في حق نفس الإنسان ويكون في حقوق الناس - كما تقدم وقد كتبت فيما تقدم من " القواعد " وفي آخر " مسودة الفقه " كلاما كليا في أن جميع الحسنات تدخل في العدل وجميع السيئات تدخل في الظلم. (ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ... (135) يقال: لوى يلوي لسانه: فيخبر بالكذب. والإعراض: أن يكتم الحق؛ فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس. ومن مال مع صاحبه - سواء كان الحق له أو عليه - فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله والواجب على جميعهم أن يكونوا يدا واحدة مع المحق على المبطل فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله بحسب ما يرضي الله ورسوله لا بحسب الأهواء؛ فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد؛ ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه. فهذا هو الأصل الذي عليهم اعتماده. وحينئذ فلا حاجة إلى تفرقهم وتشيعهم؛ فإن الله تعالى يقول: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}. وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}. (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) وقد اتفق العلماء على أن اسم المسلمين في الظاهر يجري على المنافقين لأنهم استسلموا ظاهرا؛ وأتو بما أتوا به من الأعمال الظاهرة بالصلاة الظاهرة والزكاة الظاهرة والحج الظاهر والجهاد الظاهر كما كان النبي يجري عليهم أحكام الإسلام الظاهر واتفقوا على أنه من لم يكن معه شيء من الإيمان فهو كما قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} وفيها قراءتان (درك ودرك قال أبو الحسين ابن فارس: الجنة درجات والنار دركات. قال الضحاك: الدرج: إذا كان بعضها فوق بعض. والدرك: إذا كان بعضها أسفل من بعض فصار المظهرون للإسلام بعضهم في أعلى درجة في الجنة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في الحديث الصحيح: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة} وقوله: صلى الله عليه وسلم {وأرجو أن أكون} مثل قوله: {إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده} ولا ريب أنه أخشى الأمة لله وأعلمهم بحدوده. وكذلك قوله: {اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا}. وقوله: {إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة} وأمثال هذه النصوص وكان يستدل به أحمد وغيره على الاستثناء في الإيمان كما نذكره في موضعه. والمقصود أن خير المؤمنين في أعلى درجات الجنة والمنافقون في الدرك الأسفل من النار وإن كانوا في الدنيا مسلمين ظاهرا تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة؛ فمن كان فيه إيمان ونفاق يسمى مسلما إذ ليس هو دون المنافق المحض وإذا كان نفاقه أغلب لم يستحق اسم الإيمان بل اسم المنافق أحق به فإن ما فيه بياض وسواد وسواده أكثر من بياضه هو باسم الأسود أحق منه باسم الأبيض كما قال تعالى: {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} وأما إذا كان إيمانه أغلب ومعه نفاق يستحق به الوعيد لم يكن أيضا من المؤمنين الموعودين بالجنة وهذا حجة لما ذكره محمد بن نصر عن أحمد ولم أره أنا فيما بلغني من كلام أحمد ولا ذكره الخلال ونحوه. وقال محمد بن نصر: وحكى غير هؤلاء عن أحمد أنه قال: من أتى هذه الأربعة: الزنا والسرقة وشرب الخمر والنهبة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم ولا أسميه مؤمنا ومن أتى دون الكبائر نسميه مؤمنا ناقص الإيمان فإن صاحب هذا القول يقول: لما نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان نفيته عنه كما نفاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة هي مكفرة عنه بفعله للحسنات واجتنابه للكبائر لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر فما أتى بالإيمان الواجب ولكن خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها ونقصت بذلك درجته عمن لم يأت بذلك. (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما (148) وقد نزلت فيمن ضاف قوما فلم يقروه، لأن قرى الضيف واجب، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فلما منعوه حقه كان له ذكر ذلك، وقد أذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعاقبهم بمثل قراه في زرعهم ومالهم، وقال: " نصره واجب على كل مسلم " لأنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: " «انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قلت: يا رسول الله، أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه» ". وأما الحاجة فمثل استفتاء هند بنت عتبة، كما ثبت في الصحيح أنها «قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وبني ما يكفيني بالمعروف. فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» " أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة، فلم ينكر عليها قولها، وهو من جنس قول المظلوم. وأما النصيحة فمثل «قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها فقالت: خطبني أبو جهم ومعاوية. فقال: " أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " وفي لفظ: " يضرب النساء "، " انكحي أسامة» " فلما استشارته حتى تتزوج ذكر ما تحتاج إليه. وكذلك من استشار رجلا فيمن يعامله. والنصيحة مأمور بها ولو لم يشاوره ; فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " «الدين النصيحة، الدين النصيحة» " ثلاثا. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ". وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تعمد الكذب عليه، أو على من ينقل عنه العلم. وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية ; فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة، فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة، فهذا يجب بيان أمره للناس، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق. وحكم المتكلم باجتهاده في العلم والدين حكم أمثاله من المجتهدين. ثم قد يكون مجتهدا مخطئا أو مصيبا، وقد يكون كل من الرجلين المختلفين باللسان أو اليد مجتهدا يعتقد الصواب معه، وقد يكونان جميعا مخطئين مغفورا لهما، كما ذكرنا نظير ذلك مما كان يجري بين الصحابة. ولهذا ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة أو ممن بعدهم، فإذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلاما بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان، لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة. لكن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أعظم حرمة، وأجل قدرا، وأنزه أعراضا. وقد ثبت من فضائلهم خصوصا وعموما ما لم يثبت لغيرهم، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثما من الكلام في غيرهم. فإن قيل: فأنتم في هذا المقام تسبون الرافضة وتذمونهم وتذكرون عيوبهم. قيل: ذكر الأنواع المذمومة غير ذكر الأشخاص المعينة ; فإنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن أنواعا كثيرة، كقوله: " «لعن الله الخمر وشاربها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها وآكل ثمنها» " و " «لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه» "، و " «لعن الله من غير منار الأرض» " وقال: " «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» ". وقال: " «لعن الله من عمل عمل قوم لوط» " وقال: " «لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء» " وقال: " «من ادعى إلى غير أبيه،أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» ". وقال الله تعالى في القرآن: {أن لعنة الله على الظالمين - الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا} [سورة الأعراف: 44 - 45]. فالقرآن والسنة مملوءان من ذم الأنواع المذمومة وذم أهلها ولعنهم، تحذيرا من ذلك الفعل، وإخبارا بما يلحق أهله من الوعيد. ثم المعاصي التي يعرف صاحبها أنه عاص يتوب منها، والمبتدع الذي يظن أنه على حق كالخوارج والنواصب الذي نصبوا العداوة والحرب لجماعة المسلمين فابتدعوا بدعة، وكفروا من لم يوافقهم عليها، فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة، الذين يعلمون أن الظلم محرم، وإن كانت عقوبة أحدهم في الآخرة لأجل التأويل قد تكون أخف، لكن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، ونهى عن قتال الأمراء الظلمة، وتواترت عنه بذلك الأحاديث الصحيحة. فقال: في الخوارج: " «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم» ". وقال في بعضهم: " «يقتلون أهل الإيمان: ويدعون أهل الأوثان» ". (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: والأنبياء كلهم دينهم واحد وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم وكذلك التكذيب والمعصية: لا يجوز أن يكذب نبي نبيا بل إن عرفه صدقه وإلا فهو يصدق بكل ما أنزل الله مطلقا وهو يأمر بطاعة من أمر الله بطاعته. ولهذا كان من صدق محمدا فقد صدق كل نبي؛ ومن أطاعه فقد أطاع كل نبي ومن كذبه فقد كذب كل نبي؛ ومن عصاه فقد عصى كل نبي قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا} {أولئك هم الكافرون حقا} وقال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون}. ومن كذب هؤلاء تكذيبا بجنس الرسالة فقد صرح بأنه يكذب الجميع؛ ولهذا يقول تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين} ولم يرسل إليهم قبل نوح أحدا وقال تعالى: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم}. وكذلك من كان من الملاحدة والمتفلسفة طاعنا في جنس الرسل كما قدمنا بأن يزعم أنهم لم يعلموا الحق أو لم يبينوه فهو مكذب لجميع الرسل كالذين قال فيهم: {الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون} {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون} {في الحميم ثم في النار يسجرون} وقال تعالى: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين} {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} وقال تعالى عن الوليد: {إنه فكر وقدر} {فقتل كيف قدر} {ثم قتل كيف قدر} {ثم نظر} {ثم عبس وبسر} {ثم أدبر واستكبر} {فقال إن هذا إلا سحر يؤثر} {إن هذا إلا قول البشر}.
__________________
|
#233
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 233) من صــ 186 الى صـ 200 وأهل الكتاب منهم من يؤمن بجنس الرسالة لكن يكذب بعض الرسل كالمسيح ومحمد فهؤلاء لما آمنوا ببعض وكفروا ببعض كانوا كافرين حقا وكثير من الفلاسفة والباطنية وكثير من أهل الكلام والتصوف لا يكذب الرسل تكذيبا صريحا ولا يؤمن بحقيقة النبوة والرسالة بل يقر بفضلهم في الجملة مع كونه يقول: إن غيرهم أعلم منهم؛ أو أنهم لم يبينوا الحق أو لبسوه؛ أو إن النبوة هي فيض يفيض على النفوس من العقل الفعال من جنس ما يراه النائم ولا يقر بملائكة مفضلين ولا بالجن ونحو ذلك فهؤلاء يقرون ببعض صفات الأنبياء دون بعض؛ وبما أوتوه دون بعض ولا يقرون بجميع ما أوتيه الأنبياء وهؤلاء قد يكون أحدهم شرا من اليهود والنصارى الذين أقروا بجميع صفات النبوة لكن كذبوا ببعض الأنبياء؛ فإن الذي أقر به هؤلاء مما جاءت به الأنبياء أعظم وأكثر؛ إذ كان هؤلاء يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ويقرون بقيام القيامة ويقرون بأنه تجب عبادته وحده لا شريك له ويقرون بالشرائع المتفق عليها. وأولئك يكذبون بهذا وإنما يقرون ببعض شرع محمد صلى الله عليه وسلم. ولهذا كان اليهود والنصارى أقل كفرا من الملاحدة الباطنية والمتفلسفة ونحوهم لكن من كان من اليهود والنصارى قد دخل مع هؤلاء فقد جمع نوعي الكفر؛ إذ لم يؤمن بجميع صفاتهم ولا بجميع أعيانهم وهؤلاء موجودون في دول الكفار كثيرا كما يوجد أيضا في المنتسبين إلى الإسلام من هؤلاء وهؤلاء إذ كانوا في دولة المسلمين. وأهل الكتاب كانوا منافقين فيهم من النفاق بحسب ما فيهم من الكفر والنفاق يتبعض والكفر يتبعض ويزيد وينقص كما أن الإيمان يتبعض ويزيد وينقص قال الله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} وقال: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} وقال: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا} وقال: {وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا} وقال: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} وقال: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} وقال: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا}. وكثير من المصنفين في الكلام لا يردون على أهل الكتاب إلا ما يقولون: إنه يعلم بالعقل مثل تثليث النصارى ومثل تكذيب محمد ولا يناظرونهم في غير هذا من أصول الدين وهذا تقصير منهم ومخالفة لطريقة القرآن؛ فإن الله يبين في القرآن ما خالفوا به الأنبياء ويذمهم على ذلك والقرآن مملوء من ذلك؛ إذ كان الكفر والإيمان يتعلق بالرسالة والنبوة فإذا تبين ما خالفوا فيه الأنبياء ظهر كفرهم. وأولئك المتكلمون لما أصلوا لهم دينا بما أحدثوه من الكلام كالاستدلال بالأعراض على حدوث الأجسام ظنوا أن هذا هو أصول الدين ولو كان ما قالوه حقا لكان ذلك جزءا من الدين فكيف إذا كان باطلا؟ وقد ذكرت في الرد على النصارى من مخالفتهم للأنبياء كلهم مع مخالفتهم لصريح العقل ما يظهر به من كفرهم ما يظهر. [فصل: الرد على النصارى في قولهم السنة الجديدة المختارة هي السنة التي تسلمناها من يدي الرسل الأطهار] وأما قولكم: السنة الجديدة المختارة هي السنة التي تسلمناها من يدي الرسل الأطهار، على ما تسلموها هم من المسيح عليه السلام. فيقال: لو كنتم على تلك السنة لم تغيروها، لم ينفعكم المقام عليها إذا كذبتم الرسول النبي الأمي الذي بعث إليكم وإلى سائر الخلق بسنة أخرى أكمل من السنن التي كانت قبله، كما لم ينفع اليهود، ولو تمسكوا بسنة التوراة، ولم يتبعوا سنة المسيح الذي أرسل إليهم، بل من كذب برسول واحد فهو كافر. كما قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا} [النساء: 150]. فإنه، وإن كانت السنة التي جاء بها المسيح عليه السلام حقا، وكل من كان متبعا له فهو مؤمن مسلم من أولياء الله، من أهل الجنة الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كما قال تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62]. وقال تعالى: {كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14]. فمن اتبع المسيح كان مؤمنا، ومن كفر به كان كافرا. وقال تعالى: {ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} [آل عمران: 55] (55) {فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين} [آل عمران: 56] (56) {وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين} [آل عمران: 57]. لكن غيرتموها وبدلتموها قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، (فصرتم كفارا بتبديل شريعة المسيح، وتكذيب شريعة محمد صلى الله عليه وسلم)، كما كفرت اليهود بتبديل شريعة التوراة، وتكذيب شريعة الإنجيل، ثم كفروا بتكذيب شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى سائر رسل الله أجمعين. فإن المسيح لم يسن لكم التثليث والقول بالأقانيم، ولا القول بأنه رب العالمين، ولا سن لكم استحلال الخنزير وغيره من المحرمات، ولا ترك الختان، ولا الصلاة إلى المشرق، ولا اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ولا الشرك واتخاذ التماثيل والصليب، ودعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والصالحين وغيرهم، وسؤالهم الحوائج، ولا الرهبانية، وغير ذلك من المنكرات التي أحدثتموها، ولم يسنها لكم المسيح، ولا ما أنتم عليه هي السنة التي تسلمتموها من رسل المسيح. بل عامة ما أنتم عليه من السنن أمور محدثة مبتدعة بعد الحواريين، كصومكم خمسين يوما زمن الربيع، واتخاذكم عيدا يوم الخميس والجمعة والسبت، فإن هذا لم يسنه المسيح ولا أحد من الحواريين، وكذلك عيد الميلاد والغطاس، وغير ذلك من أعيادكم. بل عيد الصليب إنما ابتدعته (هيلانة) الحرانية القندقانية أم قسطنطين، فأنتم تقولون: إنها هي التي أظهرت الصليب وصنعت لوقت ظهوره عيدا، وذلك بعد المسيح والحواريين بمدة طويلة زمن الملك قسطنطين بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة. وفي ذلك الزمان أحدثتم الأمانة لنصوص الأنبياء في غير موضع، وأظهرتم استحلال الخنزير وعقوبة من لم يأكله، وابتدعتم في ذلك الزمان تعظيم الصليب، وغير ذلك من بدعكم، وكذلك كتب القوانين التي عندكم جعلتموها سنة وشريعة فيها شيء عن الأنبياء والحواريين، وكثير مما فيها ابتدعه من بعدهم لا ينقلونه لا عن المسيح ولا عن الحواريين، فكيف تدعون أنكم على السنة والشريعة التي كان عليها المسيح عليه السلام وهذا مما يعلم بالاضطرار والتواتر أنه كذب بين. (وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (155) و " الغلف ": جمع أغلف وهو ذو الغلاف الذي في غلاف مثل الأقلف كأنهم جعلوا المانع خلقة أي خلقت القلوب وعليها أغطية فقال الله تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم} و {طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}. (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158) [فصل: رد عقيدة النصارى في الصلب والفداء] ومعلوم أن إبراهيم كان أبوه كافرا ولم يؤاخذه الله بذنب أبيه فكيف يؤاخذه بذنب آدم وهو أبوه الأبعد، هذا لو قدر أن آدم لم يتب فكيف وقد أخبر الله عنه بالتوبة؟ ثم يزعمون أن الصلب الذي هو من أعظم الذنوب والخطايا به خلص الله آدم وذريته من عذاب الجحيم وبه عاقب إبليس مع أن إبليس ما زال عاصيا لله مستحقا للعقاب من حين امتنع من السجود لآدم ووسوس لآدم إلى حين مبعث المسيح والرب قادر على عقوبته وبنو آدم لا عقوبة عليهم في ذنب أبيهم فمن كان قولهم مثل هذه الخرافات التي هي مضاحك العقلاء والتي لا تصلح أن تضاف إلى أجهل الملوك وأظلمهم فكيف يدعون مع هذا أنهم يصفون الله بالعدل ويجعلون من عدله أنه لا يأمر الإنسان بتعلم ما يقدر على تعلمه وفيه صلاح معاشه ومعاده ويجعلون مثل هذا موجبا لتكذيب كتابه ورسله والإصرار على تبديل الكتاب الأول وتكذيب الكتاب الآخر وعلى أنه يتضمن مخالفة موسى وعيسى وسائر الأنبياء والرسل؟. والنصارى يقولون: إن المسيح الذي هو عندهم اللاهوت والناسوت جميعا إنما مكن الكفار من صلبه ليحتال بذلك على عقوبة إبليس قالوا: فأخفى نفسه عن إبليس لئلا يعلم ومكن أعداءه من أخذه وضربه والبصاق في وجهه ووضع الشوك على رأسه وصلبه وأظهر الجزع من الموت وصار يقول يا إلهي لم سلطت أعدائي علي ليختفي بذلك عن إبليس فلا يعرف إبليس أنه الله أو ابن الله ويريد إبليس أن يأخذ روحه إلى الجحيم كما أخذ أرواح نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء والمؤمنين فيحتج عليه الرب حينئذ ويقول بماذا استحللت يا إبليس أن تأخذ روحي؟ فيقول له إبليس: بخطيئتك فيقول: ناسوتي لا خطيئة له كنواسيت الأنبياء، فإنه كان لهم خطايا استحقوا بها أن تؤخذ أرواحهم إلى جهنم وأنا لا خطيئة لي. وقالوا فلما أقام الله الحجة على إبليس جاز للرب حينئذ أن يأخذ إبليس ويعاقبه ويخلص ذرية آدم من إذهابهم إلى الجحيم وهذا الكلام فيه من الباطل ونسبة الظلم إلى الله ما يطول وصفه فمن هذا قوله: فقد قدح في علم الرب وحكمته وعدله قدحا ما قدحه فيه أحد وذلك من وجوه. أحدها: أن يقال إبليس إن كان أخذ الذرية بذنب أبيهم فلا فرق بين ناسوت المسيح وغيره وإن كان بخطاياهم فلم يأخذهم بذنب أبيهم وهم قالوا إنما أخذهم بذنب آدم. الثاني: أن يقال من خلق بعد المسيح من الذرية كمن خلق قبله فكيف جاز أن يمكن إبليس من الذرية المتقدمين دون المتأخرين وكلهم بالنسبة إلى آدم سواء وهم أيضا يخطئون أعظم من خطايا الأنبياء المتقدمين فكيف جاز تمكين إبليس من عقوبة الأنبياء المتقدمين ولم يمكن من عقوبة الكفار والجبابرة الذين كانوا بعد المسيح؟. الوجه الثالث: أن يقال أخذ إبليس لذرية آدم وإدخالهم جهنم إما أن يكون ظلما من إبليس وإما أن يكون عدلا، فإن كان عدلا فلا لوم على إبليس ولا يجوز أن يحتال عليه ليمتنع من العدل الذي يستحقه بل يجب تمكينه من المتأخرين والمتقدمين. وإن كان ظلما فلم لا يمنعه الرب منه قبل المسيح؟. فإن قيل لم يقدر فقد نسبوه إلى العجز وإن قيل قدر على دفع ظلم إبليس ولم يفعله فلا فرق بين دفعه في زمان دون زمان إن جاز ذلك جاز في كل زمان وإن امتنع امتنع في كل زمان. الوجه الرابع: أن إبليس إن كان معذورا قبل المسيح فلا حاجة إلى عقوبته ولا ملام عليه وإن لم يكن معذورا استحق العقوبة ولا حاجة إلى أن يحتال عليه بحيلة تقام بها الحجة عليه. الوجه الخامس: إنه بتقدير أنه لم يقم عليه الحجة قبل الصلب فلم يقم عليه حجة بالصلب، فإنه يمكنه أن يقول أنا ما علمت أن هذا الناسوت هو ناسوت الرب وأنت يا رب قد أذنت لي أن آخذ جميع ذرية آدم فأوديهم إلى الجحيم فهذا واحد منهم وما علمت أنك أو ابنك اتحد به ولو علمت ذلك لعظمته، فأنا معذور في ذلك فلا يجوز أن تظلمني. الوجه السادس: أن نقول: أن إبليس يقول حينئذ يا رب فهذا الناسوت الواحد أخطأت في أخذ روحه لكن سائر بني آدم الذين بعده لي أن أحبس أرواحهم في جهنم كما حبست أرواح الذين كانوا قبل المسيح إما بذنب أبيهم وإما بخطاياهم أنفسهم وحينئذ، فإن كان ما يقوله النصارى حقا فلا حجة لله على إبليس. الوجه السابع: أن يقال هب أن آدم أذنب وبنوه أذنبوا بتزيين الشيطان فعقوبة بني آدم على ذنوبهم هي إلى الله أو إلى إبليس؟ فهل يقول عاقل أن إبليس له أن يغوي بني آدم بتزيينه لهم ثم له أن يعاقبهم جميعا بغير إذن من الله في ذلك وهل هذا القول إلا من قول المجوس الثنوية الذين يقولون إن كل ما في العالم من الشر من الذنوب والعقاب وغير ذلك هو من فعل إبليس لم يفعل الله شيئا من ذلك ولا عاقب الله أحدا على ذنب. ولا ريب أن هذا القول سرى إلى النصارى من المجوس لهذا لا ينقلون هذا القول في كتاب منزل ولا عن أحد من الحواريين ولهذا كان المانوية دينهم مركبا من دين النصارى والمجوس وكان رأسهم ماني نصرانيا مجوسيا فالنسب بين النصارى والمجوس بل وسائر المشركين نسب معروف. الوجه الثامن: أن يقال إبليس عاقب بني آدم وأدخلهم جهنم بإذن الله أو بغير إذنه. إن قالوا: بإذنه فلا ذنب له ولا يستحق أن يحتال عليه ليعاقب ويمتنع وإن كان بغير إذنه فهل جاز في عدل الله أن يمكنه من ذلك أم لم يجز، فإن جاز ذلك في زمان جاز في جميع الأزمنة وإن لم يجز في زمان لم يجز في جميع الأزمنة فلا فرق بين ما قبل المسيح وما بعده. الوجه التاسع: أن يقال هل كان الله قادرا على منع إبليس وعقوبته بدون هذه الحيلة وكان ذلك عدلا منه لو فعله أم لا، فإن كان ذلك مقدورا له وهو عدل منه لم يحتج أن يحتال على إبليس ولا يصلب نفسه أو ابنه ثم إن كان هذا العدل واجبا عليه وجب منع إبليس وإن لم يكن واجبا جاز تمكينه في كل زمان فلا فرق بين زمان وزمان. وإن قيل لم يكن قادرا على منع إبليس فهو تعجيز للرب عن منع إبليس وهذا من أعظم الكفر باتفاق أهل الملل من جنس قول الثنوية الذين يقولون لم يكن يقدر النور أن يمنع الظلمة من الشر ومن جنس قول ديمقراطيس والحنانين الذين يقولون لم يمكن واجب الوجود أن يمنع النفس من ملابسة الهيولي بل تعلقت النفس بها بغير اختياره. الوجه العاشر: أن ما فعله به الكفار اليهود الذين صلبوه طاعة لله أو معصية، فإن كان طاعة لله استحق اليهود الذين صلبوه أن يثيبهم ويكرمهم على طاعته كما يثيب سائر المطيعين له والنصارى متفقون على أن أولئك من أعظم الناس إثما وهم من شر الخلق وهم يستحلون من دمهم ولعنتهم ما لا يستحلونه من غيرهم بل يبالغون في طلب اليهود وعقوبتهم في آخر صومهم الأيام التي تشبه أيام الصليب وإن كان أولئك اليهود عصاة لله فهل كان قادرا على منعهم من هذه المعصية أم لا، فإن لم يكن قادرا لم يكن قادرا على منع إبليس من ظلم الذرية في الزمن المستقبل وإن كان قادرا على منعهم من المعاصي ولم يمنعهم كان قادرا على منع إبليس بدون هذه الحيلة وإذا كان حسنا منه تمكينهم من هذه المعصية كان حسنا منه تمكين إبليس من ظلم الذرية في الماضي والمستقبل فلا حاجة إلى الحيلة عليه. واعلم أن الوجوه الدالة على فساد دين النصارى كثيرة جدا وكلما تصور العاقل مذهبهم وتصور لوازمه تبين له فساده لكن المقصود هنا بيان تناقضهم في أنهم يقيمون عذر أنفسهم في ترك الإيمان بكتابه ورسوله ودينه لكونه سبحانه عدلا لا يأمر الناس بما يعجزون عنه وهو سبحانه لم يأمرهم إلا بما يقدرون عليه وقد نسبوا إليه من الظلم ما لم ينسبه إليه أحد من بني آدم يوضح هذا.
__________________
|
#234
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 234) من صــ 201 الى صـ 215 الوجه الحادي عشر: وهو أنه إما أن يقال في الظلم بقول الجهمية المجبرة الذين يقولون يفعل ما يشاء بلا حكمة ولا سبب ولا مراعاة عدل وإما أن يقال بقول القدرية أنه يجب عليه العدل الذي يجب على المخلوقين وإما أن يقال هو عادل منزه عن الظلم، ولكن ليس عدله كعدل المخلوق فهذه أقوال الناس الثلاثة. فإن قيل بالأول جاز أن يسلط إبليس على جميع الذرية بلا ذنب وأن يعاقبهم جميعا بلا ذنب ولا حاجة حينئذ إلى الحيلة على إبليس. وإن قيل بالثاني: فمعلوم أن الواحد من الناس لو علم أن بعض مماليكه أمر غيره بذنب يكرهه السيد ففعله كان العدل منه أن يعاقب الآمر والمأمور جميعا. وأما تسليطه للآمر على عقوبة المأمور فليس من العدل وكذلك تسليط الآمر الظالم على جميع ذرية المأمور الذين لم يذنبوا ذنب أبيهم ليس من العدل. وإن قيل: بل هو استحق أن يستعبدهم لكون أبيهم أطاعه قيل: فحينئذ يستحق أن يأسر الأولين والآخرين فلا يجوز أن يمنع من حقه بالاحتيال عليه. وإن قيل: إنما يستحق أخذهم خطاياهم قيل فله أن يأخذ الأولين والآخرين. وإن قيل: هو لما طلب أخذ روح ناسوت المسيح منع بهذا الذنب قيل: هذا إن كان ذنبا فهو أخف ذنوبه، فإنه لم يعلم أنه ناسوت الإله وإذا استحق الرجل أن يسترق أولاد غيره فطلب رجلا ليسترقه لظنه أنه منهم ولم يكن منهم لم يكن هذا ذنبا يمنع استرقاق الباقين. وإن قيل إن عدل الرب ليس كعدل المخلوقين بل من عدله أن لا ينقص أحدا من حسناته ولا يعاقبه إلا بذنبه لم يجز حينئذ أن يعاقب ذرية آدم بذنب أبيهم ولم يجز أن يعاقب الأنبياء الذين ليس لهم ذنب إلا ذنب تابوا منه بذنب غيرهم، فإن الأنبياء معصومون أن يقروا على ذنب فكل من مات منهم مات وليس له ذنب يستحق عليه العقوبة فكيف يعاقبون بعد الموت بذنب أبيهم إن قدر أنه مات مصرا على الذنب مع أن هذا تقدير باطل ولو قدر أن الأنبياء لهم خطايا يستحقون بها العقوبة بعد الموت وتسليط إبليس على عقوبتهم مع أن هذا تقدير باطل فمن بعد المسيح من غير الأنبياء أولى بذلك فكيف يجوز في العدل الذي يوجب التسوية بين المتماثلين عقوبة الأنبياء ومنع عقوبة من هو دونهم بل من هو من الكفار. الوجه الثاني عشر: أن الرب إذا قصد بهذا دفع ظلم إبليس فهلا اتحد بناسوت بعض أولاد آدم ليحتال على إبليس فيمنعه من ظلم من تقدم، فإن المنع من الشر الكثير أولى من المنع من الشر القليل أتراه ما كان يعلم أن إبليس يعمل هذا الشر كله فهذا تجهيل له أو كان يعرف وعجز عن دفعه فهذا تعجيز له ثم ما الفرق بين زمان وزمان أم كان ترك منعه عدلا منه فهو عدل في كل زمان. [فصل: الرد على النصارى في دعواهم بأن المسلمين يقولون أن التحريف وقع بعد مبعث النبي محمد] فقال الحاكي عنهم: فقلت لهم: إن قال قائل: إن التبديل والتغيير يجوز أن يكون بعد هذا القول فقالوا: إنا نعجب من هؤلاء القوم على علمهم وذكائهم ومعرفتهم كيف يحتجون علينا بمثل هذا القول وذلك أنا أيضا إذا احتججنا عليهم بمثل هذا القول وقلنا: إن الكتاب الذي في أيديهم يومنا هذا قد غيروه وبدلوه وكتبوا فيه ما أرادوا واشتهوا هل كانوا يجوزون كلامنا؟ قال الحاكي عنهم: فقلت لهم: هذا مما لا يجوز ولا يمكن أحدا أن يقوله، ولا يمكن أن يتغير منه إلى آخر الفصل وسيأتي بألفاظ بعد هذا. والجواب أن هذا السائل النصراني الذي ذكر عن المسلمين سؤالا لا يقولونه وعن علماء النصارى جوابه هو وهم بنوا كلامهم على أصلين فاسدين. أحدهما: أن الرسول ثبت ما معهم ونفى عن كتبهم التي بين أيديهم التهم والتبديل والتغيير لها ومقصودهم بذلك لا يتم إلا إذا نفى التبديل عن لفظها ومعناها وهذا مما يعلم كل عاقل أن الرسول لم ينفه عنها بل النقل المتواتر عنه بنقيض ذلك وهم أيضا وكل عاقل يعلم أن الكتب التي بأيديهم في تفسيرها من الاختلاف والاضطراب بين فرق النصارى وبين النصارى واليهود ما يوجب القطع بأن كثيرا من ذلك مبدل محرف وكذلك وقع في تغيير شرائع هذه الكتب، فإن الكتب تضمنت أصلين: الإخبار والأمر. والإيمان بها لا يتم إلا بتصديقها فيما أخبرت وإيجاب طاعتها فيما أوجبته. وأهل الكتاب يكذبون بكثير مما أخبرت ولا يوجبون طاعتها في كثير مما أوجبته وأمرت به وكل فرقة منهم تشهد على الفرقة الأخرى بمثل ذلك. والنصارى لهم سبع مجامع مشهورة عندهم وهم في كل مجمع يلعنون طائفة منهم كبيرة ويكفرونهم ويقولون عنهم أنهم كذبوا ببعض ما في تلك الكتب ولم يوجبوا طاعة بعض أمرها وتلك الطائفة تشهد على الأخرى بأنها كذبت ببعض ما فيها، ثم فرقهم الثلاثة المشهورة النسطورية والملكية واليعقوبية كل طائفة تكفر الأخرى وتلعنها وتشهد عليها أنها مكذبة ببعض ما في النبوات غير موجبة لطاعة بعض ما فيها بل اختلافهم في نفس التوحيد والرسالة فزعم كل فريق منهم أن المسيح جاء بما هم عليه والمسيح - عليه السلام - وجميع الرسل بريئون من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وبريئون ممن يقول على الله غير الحق أو يقول على الله ما لا يعلم وبريئون من كل قول باطل يقال على الله - عز وجل - وإن كان قائله مخطئا لم يتعمد الكذب. وفي مقالات النصارى من هذه الأنواع ما يطول وصفه وقد بسط في غير هذا الموضع. وإذا عرفت أن جميع الطوائف من المسلمين واليهود والنصارى يشهدون أنه قد وقع في هذه الكتب تحريف وتبديل في معانيها وتفاسيرها وشرائعها فهذا القدر كاف وهم من حين بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - صار كل من لم يؤمن به كافرا بخلاف حال النصارى قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان فيهم من هو متبع لدين المسيح والمسلمون وإن كان فيهم من حرف الدين وبدله فجمهورهم خالفوا هؤلاء فلا يزال فيهم طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم وخذلهم حتى تقوم الساعة بخلاف النصارى، فإنهم كفروا جميعهم ; كما كفرت اليهود بتكذيب المسيح. والمسلمون يثبتون بالدلائل الكثيرة أنهم بدلوا معاني التوراة والإنجيل والزبور وغيرهم من نبوات الأنبياء وابتدعوا شرعا لم يأت به المسيح ولا غيره ولا يقول عاقل مثل زعمهم أن جميع بني آدم من الأنبياء والرسل وغيرهم كانوا في الجحيم في حبس الشيطان لأجل أن أباهم آدم أكل من الشجرة وأنهم إنما تخلصوا من ذلك لما صلب المسيح. فإن هذا الكلام لو نقله ناقل عن بعض الأنبياء لقطعنا بكذبه عليهم فكيف وهذا الكلام ليس منقولا عندهم عن أحد من الأنبياء وإنما ينقلونه عمن ليس قوله حجة لازمة، فإن كثيرا من دينهم مأخوذ عن رؤوسهم الذين ليسوا بأنبياء. فإذا قطعنا بكذب من ينقله عن الأنبياء فكيف إذا لم ينقله عنهم وذلك أن الأنبياء - عليهم السلام - يخبرون الناس بما تقصر عقولهم عن معرفته لا بما يعرفون أنه باطل ممتنع فيخبرونهم بمحيرات العقول لا محالات العقول وآدم - عليه السلام - وإن كان أكل من الشجرة فقد تاب الله عليه واجتباه وهداه. قال - تعالى -: {وعصى آدم ربه فغوى - ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} [طه: 121 - 122] وقال - تعالى -: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} [البقرة: 37] وليس عند أهل الكتاب في كتبهم ما ينفي توبته وإنما قد يقول قائلهم إنا لا نعلم أنه تاب أو ليس عندنا توبته وعدم العلم بشيء ليس علما بعدمه وعدم وجود الشيء في كتاب من كتب الله لا ينفي أن يكون في كتاب آخر ففي التوراة ما ليس في الإنجيل وفيهما ما ليس في الزبور وفي الإنجيل والزبور ما ليس في التوراة وفي سائر النبوات ما لا يوجد في هذه الكتب والقرآن لو كان دون التوراة والإنجيل والزبور والنبوات أو كان مثلها لأمكن أن يكون فيه ما ليس فيها فكيف إذا كان أفضل وأشرف وفيه من العلم أعظم مما في التوراة والإنجيل وقد بين الله تعالى فضله عليهما في غير موضع كقوله - تعالى -: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه} [الزمر: 23] وقال - تعالى -: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} [يوسف: 3] وقال - تعالى -: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48] وسواء تاب آدم أو لم يتب فكيف يجوز أن يكون رسل الله الذين هم أفضل منه محبوسين في حبس الشيطان في جهنم بذنبه؟ وإبراهيم خليل الرحمن كان أبوه كافرا ولم يؤاخذه الله بذنبه فكيف يجعله في جهنم في حبس الشيطان بسبب ذنب أبيه الأقصى آدم؟ مع أنه كان نبيا ونوح - عليه السلام - قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده وأغرق الله أهل الأرض بدعوته وجعل ذريته هم الباقين فكيف يكون في جهنم في حبس الشيطان لأجل ذنب آدم؟. وموسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما وأظهر على يديه من البراهين والآيات ما لم يظهر مثله على يدي المسيح وقتل نفسا لم يؤمر بقتلها فغفر الله له ذلك وله من المنزلة عند الله والكرامة ما لا يقدر قدره فكيف يكون في جهنم في حبس الشيطان. ثم أي مناسبة بين الصلب الذي هو من أعظم الذنوب سواء صلبوا المسيح أو المشبه به وبين تخليص هؤلاء من الشيطان، فإن الشيطان إن فعل ذلك بالذرية كان ظالما معتديا والله - عز وجل - قادر على منعه من ظلمهم بل وعلى عقوبته إذا لم ينته عن ظلمهم. فلماذا أخر منعه من ظلمهم إلى زمن المسيح؟ وهو سبحانه ولي المؤمنين وناصرهم ومؤيدهم وهم رسله الذين نصرهم على من عاداهم بل أهلك أعداءهم الذين هم جند الشيطان فكيف لا يمنع الشيطان بعد موتهم أن يظلمهم ويجعل أرواحهم في جهنم هذا إن قدر أن الشيطان كان قادرا على ذلك وكيف يجوز أن يجعل الشيطان بعد موت أنبيائه وأوليائه وسقوط التكليف عنهم واستحقاقهم كرامته وإحسانه وجنته بحكم وعده ومقتضى حكمته فجعله مسلطا على حبسهم في جهنم؟!. وإن قالوا: الرب - عز وجل - ما كان يقدر على تخليصهم من الشيطان مع علمه بأنه ظالم معتد عليهم بعد الموت إلا بأن يحتال عليه بإخفاء نفسه ليتمكن الشيطان منه ; كما يزعمون فهذا مع ما فيه من الكفر العظيم وجعل الرب سبحانه عاجزا ; كما جعلوه أولا ظالما فيه من التناقض ما يقتضي عظيم جهلهم الذي جعلوا به الرب جاهلا، فإنهم يقولون أنه احتال على الشيطان ليأخذه بعدل ; كما احتال الشيطان على آدم بالحية فاختفى منه لئلا يعلم أنه ناسوت الإله وناسوت الإله لم يعمل خطيئة قط بخلاف غيره. فلما أراد الشيطان أخذ روحه ليحبسه في جهنم كسائر من مضى وهو لم يعمل خطيئة استحق الشيطان أن يأخذه الرب ويخلص الذرية من حبسه. وهذا تجهيل منهم للرب - سبحانه وتعالى - عما يقولون مع تعجيزه وتظليمه، فإنه إن كان هو سلط الشيطان على بني آدم كما يقولون. فلا فرق بين ناسوت المسيح وغيره إذ الجميع بني آدم، وأيضا فإذا قدر أن الناسوت يدفع الشيطان عن نفسه بحق، فإنهم يقولون أنه دخل الجحيم وأخرج منه ذرية آدم. فيقال: إن كان تسلط الشيطان على حبسهم في الجحيم بحق لأجل ذنوبهم مع ذنب أبيهم لم يجز إخراجهم لأجل سلامة ناسوت المسيح من الذنب وإن كانوا مظلومين مع الشيطان وجب تخليصهم قبل صلب الناسوت ولم يجز تأخير ذلك فليس في مجرد سلامة المسيح من الذنوب ما يوجب سلامة غيره وإن قالوا إنه كان بدون تسلطه على صلبه عاجزا عن دفعه فهو مع تسلطه على صلبه أعجز وأعجز. الأصل الثاني: الفاسد الذي بنوا عليه سؤالهم الذي جعلوه من جهة المسلمين وجوابهم ظنهم أن المسلمين يقولون: إن هذه الكتب حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة منها بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهذا مما لا يقوله المسلمون، ولكن قد يقول بعضهم: أنه حرف بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ بعض النسخ، فإن الجمهور الذين يقولون إن بعض ألفاظها حرفت منهم من يقول كان هذا قبل المبعث. ومنهم من يقول كان بعده ومنهم من يثبت الأمرين أو يجوزهما، ولكن لا يقول: إنه حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة في مشارق الأرض ومغاربها، كما حكاه هذا الحاكي عنهم، ولكن علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب متفقون على وقوع التحريف في المعاني والتفسير. وإن كانت كل طائفة تزعم أن الأخرى هي التي حرفت المعاني. وأما ألفاظ الكتب فقد ذهبت طائفة من علماء المسلمين إلى أن ألفاظها لم تبدل ; كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكتاب. وذهب كثير من علماء المسلمين وأهل الكتاب إلى أنه بدل بعض ألفاظها. وهذا مشهور عند كثير من علماء المسلمين وقاله أيضا كثير من علماء أهل الكتاب. حتى في صلب المسيح ذهبت طائفة من النصارى إلى أنه إنما صلب الذي شبه بالمسيح ; كما أخبر به القرآن وإن الذين أخبروا بصلبه كانوا قد أخبروا بظاهر الأمر، فإنه لما ألقي شبهه على المصلوب ظنوا أنه هو المسيح أو تعمدوا الكذب، ثم هؤلاء منهم الذين يقولون: إن في ألفاظ الكتب ما هو مبدل. وفيهم من يجعل المبدل من التوراة والإنجيل كثيرا منهما وربما جعل بعضهم المبدل أكثرهما لا سيما الإنجيل، فإن الطعن فيه أكثر وأظهر منه في التوراة. ومن هؤلاء من يسرف حتى يقول: أنه لا حرمة لشيء منهما بل يجوز الاستنجاء بهما. ومنهم من يقول الذي بدلت ألفاظه قليل منهما وهذا أظهر. والتبديل في الإنجيل أظهر، بل كثير من الناس يقول هذه الأناجيل ليس فيها من كلام الله إلا القليل. والإنجيل الذي هو كلام الله ليس هو هذه الأناجيل. (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا (159) [فصل: تكريم الإسلام للمسيح عبد الله ورسوله] قالوا: ولما تقدم به القول لأنه غير لائق عند ذوي الألباب أن نهمل روح القدس وكلمة الله الذي شهد لهما في هذا الكتاب بالعظائم، فقال عن كلمة الله: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} [النساء: 159]. والجواب: إن الله - تعالى - لم يبعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بإهمال ما يجب من حق المسيح - عليه السلام -، بل أمره بالإيمان بالمسيح وبما جاء به، كما أمره بالإيمان بموسى وبما جاء به وكما أمر المسيح بالإيمان بموسى وبما جاء به ولكنه أمر بإهمال ما ابتدع من الدين الذي لم يشرعه الله على لسان المسيح - عليه السلام -، وما نسخه الله من شرعه على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيهمل المبدل والمنسوخ كما أمر الله المسيح أن يهمل ما ابتدعته اليهود من الدين الذي لم يشرعه، وما نسخه من شرع موسى. فكما أمر المسيح أن يهمل المبدل والمنسوخ من التوراة التي جاء بها موسى - عليه السلام -، ولم يكن في ذلك إهمال لما يجب من حق التوراة وموسى - عليه السلام -، فكذلك إذا أهمل المبدل والمنسوخ من دين أهل الإنجيل، لم يكن في ذلك إهمال لما يجب من حق الإنجيل والمسيح، بل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - يتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل، وأن لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون كما قال - تعالى -: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136]. والنصارى كاليهود، آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فأيما هو اللائق عند أولي الألباب، أن نؤمن بجميع كتب الله ورسله، أو نؤمن ببعض ونكفر ببعض وأيما هو اللائق عند أولي الألباب أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، ونعبده بما شرعه على لسان رسوله، أو نبتدع من الشرك والعبادات المبتدعة ما لم ينزل به الله كتابا ولا بعث به رسولا ونضاهي المشركين عباد الأوثان؟
__________________
|
#235
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 235) من صــ 220 الى صـ 230 قال - تعالى -: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30]. وقال - تعالى -: {قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64]. فالمسلمون لم يهملوا روح القدس، وكلمة الله، وقد قال - تعالى - عن كلمة الله: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} [النساء: 159]. ، بل هم الذين اتبعوا دينه ودين الرسل قبله فإن دين الأنبياء - عليهم السلام - جميعهم واحد كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد. وقد قال - تعالى -: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13]. فدين المرسلين كلهم دين واحد، ويتنوع شرعهم ومناهجهم كتنوع شريعة الرسول الواحد، فإن دين المسيح هو دين موسى، وهو دين الخليل قبلهما، ودين محمد بعدهما، مع أن المسيح كان على شريعة التوراة ثم نسخ الله على لسانه ما نسخ منها وهو قبل النسخ وبعده دينه دين موسى ولم يهمل دين موسى. كذلك المسلمون هم على دين المسيح وموسى وإبراهيم وسائر الرسل وهم الذين اتبعوا المسيح ولهذا جعلهم الله فوق النصارى إلى يوم القيامة. والنصارى الذين بدلوا دين المسيح وكذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بريئون من دين المسيح والمسيح بريء منهم، كبراءة موسى ممن بدل وغير دينه وكذب المسيح. والمسلمون أشد تعظيما للمسيح - عليه السلام - واتباعا له بالحق ممن بدل دينه وخالفه من النصارى، فإن المسلمين يصدقونه في كل ما أخبر به عن نفسه ولا يحرفون ما قاله عن مواضعه، ولا يفسرون كلامه بغير مراده، وكلام غيره من الأنبياء كما فعلت النصارى، فإنهم نقلوا عن المسيح أنه قال عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس، وهذا إذا قاله المسيح فإنه يفسر بلغته وعادته في خطابه وعادة سائر الأنبياء، (وليس في كلام المسيح ولا في كلام سائر الأنبياء ولا كلام غيرهم أن كلمة الله) القائمة بذاته سبحانه و - تعالى - تسمى ابنا، ولا روح قدس، ولا تسمى صفته القديمة ابنا، ولا روح قدس، ولا يوجد قط في كلام الأنبياء اسم الابن واقعا إلا على مخلوق. والمراد في تلك اللغة أنه مصطفى محبوب لله، كما ينقلونه أنه قال لإسرائيل: (أنت ابني بكري)، ولداود (أنت ابني وحبيبي)، وأن المسيح قال للحواريين (أبي وأبيكم)، فجعله أبا للجميع، وهم كلهم مخلوقون فيكون اسم الابن واقعا على المسيح الذي هو ناسوت مخلوق، فعمد هؤلاء الضلال فجعلوا اسم الابن واقعا على اللاهوت، قديم أزلي مولود غير مخلوق. وزعموا أن الابن يراد به الابن بالوضع، وهو المخلوق، وهو الابن بالطبع، وهو القديم الأزلي المولود غير المخلوق، وهذا التفريق هم أحدثوه وابتدعوه ولا يوجد قط في كلام المسيح ولا غيره أنه سمى القديم الأزلي ابنا، ولا جعل له ابنا قديما مولودا غير مخلوق، ولا سمى شيئا من صفات الله قط ابنا. وكذلك لفظ روح القدس موجود في غير موضع من كلام الأنبياء - عليهم السلام - لا يراد بهذا قط حياة الله ولا صفة قائمة به. وإنما يراد به ما أيد الله به الأنبياء والأولياء، ويجعله في قلوبهم من هداه ونوره ووحيه وتأييده، ومما ينزل بذلك من الملائكة، وهذا الذي تسميه الأنبياء روح القدس لم يختص به المسيح، باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل قد أنزله على غيره من الأنبياء والصالحين كما هو موجود في كتبهم: إن روح القدس كانت في داود وغيره، وكانت أيضا عندهم في الحواريين. وهكذا خاتم الرسل، كان يقول لحسان بن ثابت: «إن روح القدس معك ما دمت تدافع عن نبيه»، ويقول «اللهم أيده بروح القدس». وقد قال الله - تعالى - عن عباده المؤمنين: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22]. فروح القدس لا اختصاص للمسيح - عليه السلام - بها، بل ما يفسر به اسم الابن واسم روح القدس، وغير ذلك مما وصف به المسيح فهو مشترك بينه وبين غيره من الرسل، وإذا فسروا الحلول بظهور نور الله وعلمه وهداه في الأنبياء فهذا حق وهو مشترك بين المسيح وغيره. فأما نفس ذات الله فلم تحل في أحد من البشر. والمسلمون مع شهادتهم للمسيح بأنه عبد الله ورسوله يقولون: إنه مؤيد منصور عصمه الله من أعدائه وطهره منهم، ولم يسلطهم عليه. والنصارى يدعون أن اسم المسيح اسم اللاهوت والناسوت وأنه إله تام وإنسان تام، وهذا يمتنع شرعا وعقلا ثم يصفونه بالصفات المتناقضة، يصفونه بأن طائفة من أشرار اليهود وضعوا الشوك على رأسه وبصقوا في وجهه، وأهانوه وصلبوه وفعلوا به ما لا يفعل بأخس الناس، ويقولون مع هذا: إنه رب السماوات والأرض وما بينهما. (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا (160) (فصل) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: وكذلك من قال من العلماء: إنه حرم على جميع المسلمين ما تستخبثه العرب وأحل لهم ما تستطيبه. فجمهور العلماء على خلاف هذا القول كمالك وأبي حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه ولكن الخرقي وطائفة منهم وافقوا الشافعي على هذا القول وأما أحمد نفسه فعامة نصوصه موافقة لقول جمهور العلماء وما كان عليه الصحابة والتابعون أن التحليل والتحريم لا يتعلق باستطابة العرب ولا باستخباثهم؛ بل كانوا يستطيبون أشياء حرمها الله؛ كالدم والميتة؛ والمنخنقة والموقوذة؛ والمتردية والنطيحة؛ وأكيلة السبع؛ وما أهل به لغير الله وكانوا - بل خيارهم - يكرهون أشياء لم يحرمها الله حتى لحم الضب كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه وقال: {لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه} وقال مع هذا: " إنه ليس بمحرم " وأكل على مائدته وهو ينظر وقال فيه: " لا آكله ولا أحرمه ". وقال جمهور العلماء: الطيبات التي أحلها الله ما كان نافعا لآكله في دينه والخبيث ما كان ضارا له في دينه. وأصل الدين العدل الذي بعث الله الرسل بإقامته فما أورث الأكل بغيا وظلما حرمه كما حرم كل ذي ناب من السباع. لأنها باغية عادية والغاذي شبيه بالمغتذي فإذا تولد اللحم منها صار في الإنسان خلق البغي والعدوان. وكذلك الدم يجمع قوى النفس من الشهوة والغضب فإذا اغتذى منه زادت شهوته وغضبه على المعتدل ولهذا لم يحرم منه إلا المسفوح بخلاف القليل فإنه لا يضر. ولحم الخنزير يورث عامة الأخلاق الخبيثة؛ إذ كان أعظم الحيوان في أكل كل شيء لا يعاف شيئا والله لم يحرم على أمة محمد شيئا من الطيبات وإنما حرم ذلك على أهل الكتاب كما قال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} وقال تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون}. وأما المسلمون فلم يحرم عليهم إلا الخبائث كالدم المسفوح فأما غير المسفوح كالذي يكون في العروق فلم يحرمه بل ذكرت عائشة أنهم كانوا يضعون اللحم في القدر فيرون آثار الدم في القدر؛ ولهذا عفا جمهور الفقهاء عن الدم اليسير في البدن والثياب إذا كان غير مسفوح وإذا عفي عنه في الأكل ففي اللباس والحمل أولى أن يعفى عنه. (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا (163) ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (164) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق-: وقد فرق سبحانه بين إيحائه إلى غير موسى وبين تكليمه لموسى في قوله تعالى {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح} إلى قوله: {حجة بعد الرسل} فرق سبحانه بين تكليمه لموسى وبين إيحائه لغيره ووكد تكليمه لموسى بالمصدر وقال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} إلى قوله: {بروح القدس} وقال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا} إلى آخر السورة. فقد بين سبحانه أنه لم يكن لبشر أن يكلمه الله إلا على أحد الأوجه الثلاثة: إما وحيا وإما من وراء حجاب وإما أن يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء؛ فجعل الوحي غير التكليم والتكليم من وراء حجاب كان لموسى. وقد أخبر في غير موضع أنه ناداه كما قال: {وناديناه من جانب الطور} الآية. وقال: {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن} الآية. و " النداء " باتفاق أهل اللغة لا يكون إلا صوتا مسموعا فهذا مما اتفق عليه سلف المسلمين وجمهورهم. وأهل الكتاب يقولون: إن موسى ناداه ربه نداء سمعه بأذنه وناداه بصوت سمعه موسى والصوت لا يكون إلا كلاما والكلام لا يكون إلا حروفا منظومة وقد قال تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} وقال: {حم} {تنزيل من الرحمن الرحيم} وقال: {حم} {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} فقد بين في غير موضع أن الكتاب والقرآن العربي منزل من الله. وهذا معنى قول السلف: منه بدأ قال أحمد بن حنبل رحمه الله منه بدأ أي هو المتكلم به فإن الذين قالوا إنه مخلوق قالوا خلقه في غيره فبدا من ذلك المخلوق فقال السلف: منه بدأ أي هو المتكلم به لم يخلقه في غيره فيكون كلاما لذلك المحل الذي خلقه فيه فإن الله تعالى إذا خلق صفة من الصفات في محل كانت الصفة صفة لذلك المحل ولم تكن صفة لرب العالمين فإذا خلق طعما أو لونا في محل كان ذلك المحل هو المتحرك المتلون به وكذلك إذا خلق حياة أو إرادة أو قدرة أو علما أو كلاما في محل كان ذلك المحل هو المريد القادر العالم المتكلم بذلك الكلام ولم يكن ذلك المعنى المخلوق في ذلك المحل صفة لرب العالمين وإنما يتصف الرب تعالى بما يقوم به من الصفات لا بما يخلقه في غيره من المخلوقات فهو الحي العليم القدير السميع البصير الرحيم المتكلم بالقرآن وغيره من الكلام بحياته وعلمه وقدرته وكلامه القائم به لا بما يخلقه في غيره من هذه المعاني. ومن جعل كلامه مخلوقا لزمه أن يقول المخلوق هو القائل لموسى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} وهذا ممتنع لا يجوز أن يكون هذا كلاما إلا لرب العالمين وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن والتوراة وغير ذلك من الكتب بمعانيها وألفاظها المنتظمة من حروفها لم يكن شيء من ذلك مخلوقا؛ بل كان ذلك كلاما لرب العالمين. وقد قيل للإمام أحمد بن حنبل: إن فلانا يقول لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت: لا أسجد حتى أؤمر فقال: هذا كفر. فأنكر على من قال إن الحروف مخلوقة؛ لأنه إذا كان جنس الحروف مخلوقا لزم أن يكون القرآن العربي والتوراة العبرية وغير ذلك مخلوقا وهذا باطل مخالف لقول السلف والأئمة مخالف للأدلة العقلية والسمعية كما قد بسط في غير هذا الموضع. (فصل) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: ومن قال إن جبريل أخذ القرآن من الكتاب لم يسمعه من الله كان هذا باطلا من وجوه: " منها " أن يقال إن الله سبحانه وتعالى قد كتب التوراة لموسى بيده فبنو إسرائيل أخذوا كلام الله من الكتاب الذي كتبه هو سبحانه وتعالى فيه فإن كان محمد أخذه عن جبريل وجبريل عن الكتاب كان بنو إسرائيل أعلى من محمد بدرجة. وكذلك من قال إنه ألقى إلى جبريل المعاني وأن جبريل عبر عنها بالكلام العربي فقوله يستلزم أن يكون جبريل ألهمه إلهاما وهذا الإلهام يكون لآحاد المؤمنين. كما قال تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} وقال: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} وقد أوحى إلى سائر النبيين فيكون هذا الوحي الذي يكون لآحاد الأنبياء والمؤمنين أعلى من أخذ محمد القرآن عن جبريل؛ لأن جبريل الذي علمه لمحمد هو بمنزلة الواحد من هؤلاء؛ ولهذا زعم ابن عربي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء وقال: لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول. فجعل أخذه وأخذ الملك الذي جاء إلى الرسول من معدن واحد وادعى أن أخذه عن الله أعلى من أخذ الرسول للقرآن ومعلوم أن هذا من أعظم الكفر وأن هذا القول من جنسه. وأيضا فالله تعالى يقول: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} إلى قوله: {وكلم الله موسى تكليما} ففضل موسى بالتكليم على غيره ممن أوحى إليهم وهذا يدل على أمور: على أن الله يكلم عبده تكليما زائدا عن الوحي الذي هو قسيم التكليم الخاص فإن لفظ التكليم والوحي كل منهما ينقسم إلى عام وخاص فالتكليم هو المقسوم في قوله: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا} والتكليم المطلق هو قسيم الوحي الخاص ليس هو قسما منه وكذلك لفظ الوحي قد يكون عاما فيدخل فيه التكليم الخاص كما في قوله لموسى: {فاستمع لما يوحى} وقد يكون قسيم التكليم الخاص كما في سورة الشورى وهذا يبطل قول من يقول الكلام معنى واحد قائم بالذات فإنه حينئذ لا فرق بين التكليم الذي خص به موسى والوحي العام الذي يكون لآحاد العباد. ومثل هذا قوله في الآية الأخرى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} فإنه فرق بين الإيحاء وبين التكليم من وراء الحجاب وبين إرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء فدل على أن التكليم من وراء حجاب - كما كلم موسى - أمر غير الإيحاء. وأيضا فقوله: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} وقوله: {حم} {تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} وقوله: {حم} {تنزيل من الرحمن الرحيم} وأمثال ذلك يدل على أنه منزل من الله لا من غيره. وكذلك قوله {بلغ ما أنزل إليك من ربك} فإنه يدل على إثبات أن ما أنزل إليه من ربه وأنه مبلغ مأمور بتبليغ ذلك. وأيضا فهم يقولون: إنه معنى واحد فإن كان موسى سمع جميع المعنى فقد سمع جميع كلام الله وإن سمع بعضه فقد تبعض وكلاهما ينقض قولهم؛ فإنهم يقولون: إنه معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض فإن كان ما يسمعه موسى والملائكة هو ذلك المعنى كله كان كل منهم علم جميع كلام الله وكلامه متضمن لجميع خبره وجميع أمره فيلزم أن يكون كل واحد ممن كلمه الله أو أنزل عليه شيئا من كلامه عالما بجميع أخبار الله وأوامره وهذا معلوم الفساد بالضرورة. وإن كان الواحد من هؤلاء إنما يسمع بعضه فقد تبعض كلامه وذلك يناقض قولهم. وأيضا فقوله: {وكلم الله موسى تكليما} وقوله: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} وقوله: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا} وقوله: {فلما أتاها نودي يا موسى} {إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى} {وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى} الآيات. دليل على تكليم سمعه موسى. والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة ومن قال إنه يسمع فهو مكابر ودليل على أنه ناداه والنداء لا يكون إلا صوتا مسموعا ولا يعقل في لغة العرب لفظ النداء بغير صوت مسموع لا حقيقة ولا مجازا. وأيضا فقد قال تعالى: {فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين} وقوله: {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} وقال: {هل أتاك حديث موسى} {إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى} وقال: {فلما أتاها نودي يا موسى} {إني أنا ربك} وفي هذا دليل على أنه حينئذ نودي ولم يناد قبل ذلك؛ ولما فيها من معنى الظرف كما في قوله: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} ومثل هذا قوله: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} فإنه وقت النداء بظرف محدود فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره من الظروف وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه. ومثل هذا قوله تعالى {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} وقوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين فإن الكلابية ومن وافقهم من أصحاب الأئمة الأربعة يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته؛ بل الكلام المعين لازم لذاته كلزوم الحياة لذاته. ثم من هؤلاء من قال إنه معنى واحد؛ لأن الحروف والأصوات متعاقبة يمتنع أن تكون قديمة. ومنهم من قال: بل الحروف والأصوات قديمة الأعيان وأنها مترتبة في ذاتها متقاربة في وجودها لم تزل ولا تزال قائمة بذاته والنداء الذي سمعه موسى قديم أزلي لم يزل ولا يزال. ومنهم من قال: بل الحروف قديمة الأعيان بخلاف الأصوات وكل هؤلاء يقولون: إن التكليم والنداء ليس إلا مجرد خلق إدراك المخلوق بحيث يسمع ما لم يزل ولا يزال لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته ولا تكليم؛ بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعا لما كان موجودا قبل سمعه بمنزلة جعل الأعمى بصيرا لما كان موجودا قبل رؤيته من غير إحداث شيء منفصل عن الأعمى. فعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم لا أنه حينئذ نودي. ولهذا يقولون: إنه يسمع كلامه لخلقه يدل عن قول الناس إنه يكلم خلقه وهؤلاء يردون على الخلقية الذين يقولون القرآن مخلوق ويقولون عن أنفسهم إنهم أهل السنة الموافقون للسلف الذين قالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق وليس قولهم قول السلف؛ لكن قولهم أقرب إلى قول السلف من وجه وقول الخلقية أقرب إلى قول السلف من وجه. أما كون قولهم أقرب فلأنهم يثبتون لله كلاما قائما بنفس الله وهذا قول السلف؛ بخلاف الخلقية الذين يقولون: ليس كلامه إلا ما خلقه في غيره فإن قول هؤلاء مخالف لقول السلف.
__________________
|
#236
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 236) من صــ 231 الى صـ 245 وأما كون قول الخلقية أقرب فلأنهم يقولون إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته وهذا قول السلف وهؤلاء عندهم لا يقدر الله على شيء من كلامه وليس كلامه بمشيئته واختياره بل كلامه عندهم كحياته وهم يقولون: الكلام عندنا صفة ذات لا صفة فعل. والخلقية يقولون صفة فعل لا صفة ذات ومذهب السلف أنه صفة ذات وصفة فعل معا فكل منهما موافق للسلف من وجه دون وجه. واختلافهم في كلام الله تعالى شبيه اختلافهم في أفعاله تعالى ورضاه وغضبه وإرادته وكراهته وحبه وبغضه وفرحه وسخطه ونحو ذلك. فإن هؤلاء يقولون هذه كلها أمور مخلوقة بائنة عنه ترجع إلى الثواب والعقاب. والآخرون يقولون بل هذه كلها أمور قديمة الأعيان قائمة بذاته. ثم منهم من يجعلها كلها تعود إلى إرادة واحدة بالعين متعلقة بجميع المخلوقات. ومنهم من يقول: بل هي صفات متعددة الأعيان لكن يقول: كل واحدة واحدة العين قديمة قبل وجود مقتضياتها كما قالوا مثل ذلك في الكلام والله تعالى يقول: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه} فأخبر أن أفعالهم أسخطته قال تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} أي أغضبونا. وقال تعالى: {ادعوني أستجب لكم} إلى أمثال ذلك مما يبين أنه سخط على الكفار لما كفروا ورضي عن المؤمنين لما آمنوا. [فصل: بيان معنى قوله وكلم الله موسى تكليما] قالوا: وقال أيضا: {وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 164]. فيقال لهم: وأي حجة لكم في هذا، وإنما هو حجة عليكم، فإنه قد ثبت أن الله كلم موسى تكليما، وكلام الله الذي سمعه منه موسى عليه السلام، ليس هو المسيح فعلم أن المسيح ليس هو كلام الله، وعندهم هو كلمة الله، وهو علم الله، وهو الله. ومعلوم أن كلام الله كثير كالتوراة والإنجيل والقرآن، وغير ذلك من كلامه، وليس المسيح شيئا من ذلك، والمسيح عندهم خالق، ولو كان المسيح نفس كلام الله لم يكن خالقا ولا معبودا، فإن كلام الله لم يخلق السماوات والأرض، ولا كلام الله هو الإله المعبود، بل كلامه كسائر صفاته مثل حياته وقدرته، ولا يقول أحد: يا علم الله اغفر لي، ولا يا كلام الله اغفر لي، وإنما يعبد ويدعى الإله الموصوف بالعلم، والقدرة، والكلام الذي كلم به موسى تكليما. (ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: وأما قوله - تعالى -: {ولا تقولوا ثلاثة} [النساء: 171] وقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73]. فقد فسروه بالتثليث المشهور عنهم المذكور في أمانتهم ومن الناس من يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم قول اليعقوبية وقولهم ثالث ثلاثة هو قول النصارى الذين يقولون بالآب والابن والروح القدس وهم قد جعلوا الله فيها ثالث ثلاثة وسموا كل واحد من الثلاثة بالإله والرب وقد فسره طائفة بجعلهم عيسى وأمه إلهين يعبدان من دون الله. قال السدي في قوله - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73]. قال: قالت النصارى إن الله هو المسيح وأمه فذلك قوله: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116] وقد قيل قول ثالث أغرب من ذلك عن أبي صخر قال {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] قال: هو قول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله فجعلوا الله ثالث ثلاثة وهذا ضعيف وقد ذكر سعيد بن البطريق في أخبار النصارى أن منهم طائفة يقال لهم المريميون يقولون إن مريم إله وإن عيسى إله. وأما الأول فمتوجه، فإن النصارى المتفقين على الأمانة كلهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة والله تعالى قد نهاهم عن أن يقولوا ذلك فقال - تعالى -: {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171] فذكر سبحانه في هذه الآية التثليث والاتحاد ونهاهم عنهما وبين أن المسيح إنما هو رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. وقال: {فآمنوا بالله ورسله} [النساء: 171] ثم قال {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171]لم يذكر هنا أمه. وقوله - تعالى -: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171] قال: معمر عن قتادة وكلمته ألقاها إلى مريم هو قوله: كن فكان. وكذلك قال: قتادة ليس الكلمة صار عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى. وكذلك قال: الإمام أحمد في مصنفه الذي صنفه في كتابه في الرد على الجهمية وذكره عنه الخلال والقاضي أبو يعلى قال: أحمد ثم إن الجهم ادعى أمرا فقال: إنا وجدنا في كتاب الله آية تدل على أن القرآن مخلوق قلنا: أي آية قال: قول الله {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته} [النساء: 171] فقلنا: إن الله منعكم الفهم في القرآن عيسى - عليه السلام - تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن ; لأن عيسى يجري عليه نسمة ومولود وطفل وصبي وغلام يأكل ويشرب وهو يخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال عيسى؟ ولكن المعنى في قوله - جل ثناؤه - {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171] فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال: له كن فكان عيسى بـ كن وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان فالكن من الله قوله: وليس الكن مخلوقا وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله وكلمته ; لأن الكلمة مخلوقة. وقالت النصارى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال هذه الخرقة من هذا الثوب وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة. قال أحمد وأما قوله - جل ثناؤه - {وروح منه} [النساء: 171] يقول من أمره كان الروح فيه كقوله: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} [الجاثية: 13] يقول من أمره، وتفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله خلقهم الله كما يقال: عبد الله وسماء الله، وفي نسخة روح يملكها الله خلقها الله. وقال: الشعبي في قوله - تعالى -: {وكلمته ألقاها إلى مريم} [النساء: 171] الكلمة حين قال: له كن فكان عيسى بـ " كن " وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان. وقال: ليث عن مجاهد روح منه قال: رسول منه يريد مجاهد قوله: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17] (17) {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [مريم: 18] (18) {قال إنما أنا رسول ربك} [مريم: 19] والمعنى أن عيسى خلق من الروح وهو جبريل روح القدس سمي روحا كما سمي كلمة ; لأنه خلق بالكلمة والنصارى يقولون في أمانتهم تجسد من مريم ومن روح القدس ; لأنه كذلك في الكتب المتقدمة لكن ظنوا أن روح القدس هو صفة لله وجعلوها حياته وقدرته وهو رب، وهذا غلط منهم، فإنه لم يسم أحد من الأنبياء حياة الله ولا قدرته ولا شيئا من صفاته روح القدس، بل روح القدس في غير موضع من كلام الأنبياء - عليهم السلام - يراد بها ما ينزله الله على قلوب الأنبياء كالوحي والهدى والتأييد ويراد بها الملك وهكذا في تفسير ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه فلما سمع عيسى ذلك قال اللهم أنت ربي وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتني ولم آتهم من تلقاء نفسي وذكر تمام الحديث. وقد قال - تعالى -: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء: 91] وقال - تعالى -: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} [التحريم: 12] فهذا يوافق قوله - تعالى -: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17] {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [مريم: 18] {قال إنما أنا رسول ربك} [مريم: 19]. [فصل: بيان المعنى الصحيح لروح الله] قالوا: وقوله: على لسان أيوب الصديق روح الله خلقني وهو يعلمني. فيقال هذا لا حجة فيه لأنكم ادعيتم أن الأنبياء سمت حياة الله روح القدس، وهذا لم يقل روح القدس، بل قال روح الله. وروح الله يراد بها الملك الذي هو روح اصطفاه الله فأحبها، كما قال في القرآن: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17] (17) {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [مريم: 18] (18) {قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا} [مريم: 19]. فقد أخبر أنه أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا، وتبين أنه رسوله. فعلم أن المراد بالروح ملك، هو روح اصطفاها فأضافها إليه، كما يضاف إليه الأعيان التي خصها بخصائص يحبها. كقوله: {ناقة الله وسقياها} [الشمس: 13]. وقوله: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} [الحج: 26]. وقوله: {عينا يشرب بها عباد الله} [الإنسان: 6]. والمضاف إلى الله إن كان صفة لم تقم بمخلوق كالعلم والقدرة والكلام والحياة، كان صفة له، وإن كان عينا قائمة بنفسها أو صفة لغيره، كالبيت والناقة والعبد والروح، كان مخلوقا مملوكا مضافا إلى خالقه ومالكه، ولكن الإضافة تقتضي اختصاص المضاف بصفات تميز بها عن غيره، حتى استحق الإضافة، كما اختصت الكعبة والناقة والعباد الصالحون بأن يقال فيهم (بيت الله) و (ناقة الله) و (عباد الله)، كذلك اختصت الروح المصطفاة بأن يقال لها روح الله. بخلاف الأرواح الخبيثة كأرواح الشياطين والكفار، فإنها مخلوقة لله، ولا تضاف إليه إضافة الأرواح المقدسة، كما لا تضاف إليه الجمادات كما تضاف الكعبة، ولا نوق الناس، كما تضاف ناقة صالح التي كانت آية من آياته. كما قال - تعالى -: {هذه ناقة الله لكم آية} [الأعراف: 73]. وإذا كان كذلك فهذا اللفظ إن كان ثابتا عن النبي وترجم ترجمة صحيحة، فقد يكون معناه أن الملك صورني في بطن أمي، وهو يعلمني، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أو أنثى، فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقول ربك ما يشاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزاد على أمر ولا ينقص» رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري. وقد يقال: من هذا قوله في الزبور في مزمور الخليقة: ترسل روحك فيخلقون، وفي المزمور أيضا هو قال: فكانوا وأمر فخلقوا فقد يضاف الخلق إلى الملك. ومن هذا الباب قوله - تعالى -: {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله} [آل عمران: 49]. فأخبره أنه يخلق من الطين كهيئة الطير طيرا بإذن الله، وكذلك الملك يخلق النطفة في الرحم بإذن الله. ولا يجوز أن يريد به أن حياة الله خلقتني وتعلمني، فإن الصفة لا تخلق ولا تعلم، إنما يخلق ويعلم الرب الموصوف الذي خلق الإنسان من علق، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، ولكن هو سبحانه يخلق بواسطة الملائكة، فإن الملائكة رسل الله في الخلق، فجاز أن يضاف الفعل إلى الوسائط تارة، وإلى الرب أخرى، وهذا موجود في الكتب الإلهية في غير موضع كما في القرآن: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42]. وفي موضع آخر: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} [الأنعام: 61]. وفي موضع ثالث: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون} [السجدة: 11]. والجميع حق، فإذا وجد لفظ له معنى في كلام بعض الأنبياء، ولم يوجد له معنى يخالف ذلك من كلامهم، كان حمله على ذلك المعنى أولى من حمله على معنى يخالف كلامهم، ولا يوجد في كلامهم أن حياة الله تسمى روحا، ولا أن صفات الله تخلق المخلوقات. [فصل: بيان المعنى الصحيح لكلمة الله] قالوا: وقوله: على لسان أشعيا النبي: (ييبس القتاد، ويجف العشب، وكلمته باقية إلى الأبد). فيقال: إما أن يريد بكلمة الله علمه، أو كلمة معينة، أو تكون كلمة الله اسم جنس، وعلى التقديرات الثلاثة لا حجة لكم في ذلك، فإنه إن كان كلمة الله اسم جنس لكل ما تكلم الله به كما قال: {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا} [التوبة: 40]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم: - «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» ولهذا جمعها في قوله - تعالى -: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام: 115]. وفي قوله: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} [الكهف: 109]. فالمراد بذلك أن ما قاله الله فهو حق ثابت لا يبطل. كما قال - تعالى -: {وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} [الأعراف: 137]. يعني بتمامها نفاذ ما وعدهم به من النصر على فرعون، وإهلاكه، وإخراجهم إلى الشام. وقال - تعالى -: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام: 115]. ومنه قوله: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته} [الكهف: 27].
__________________
|
#237
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ النساء المجلد السادس الحلقة( 237) من صــ 246 الى صـ 260 وقوله: {سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل} [الفتح: 15]. ومن هذا الباب قول المسيح السماء والأرض يزولان، وكلامي لا يزول، فإن أراد علم الله، فعلم الله باق سواء أراد به علمه القائم بذاته أو معلومه الذي أخبر ببقائه فلا حجة لكم فيه، وكذلك إن أراد كلمة معينة فإن المسيح عندكم ليس كلمة معينة من كلامه، بل هو عندكم هو الكلمة وهو الله الخالق وليس في هذا اللفظ ما يدل على أنه أراد بالكلمة المسيح والمسيح عندكم أزلي أبدي لا يوصف بالبقاء دون القدم ولو قدر أنه أراد بالكلمة المسيح فنحن لا ننكر أنه يسمى بالكلمة، لأنه قال له: كن فكان، كما سيأتي بيان ذلك، ويريد بذلك إما بقاؤه إلى أن ينزل إلى الأرض، وإما أن يريد بقاء ذكره والثناء عليه، ولسان صدق له إلى آخر الزمان. ومما يوضح هذا وأنه ليس المراد به ما يدعونه، أنه قال: وكلمة الله باقية إلى الأبد فوصفها بالبقاء دون القدم. وعندهم أن الكلمة المولودة من الأب قديمة أزلية لم تزل ولا تزال ومثل هذا لا يحتاج أن يوصف بالدوام والبقاء، بخلاف ما وعد به من النعيم والرحمة والثواب، فإنه يوصف بالبقاء والدوام كما في القرآن: {أكلها دائم} [الرعد: 35] وقوله: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} [ص: 54]. وفي الزبور: اعترفوا للرب، فإنه صالح، وإنه إلى الأبد رحمته. [فصل: نقض دعواهم أن القرآن أثبت في المسيح اللاهوت والناسوت] قالوا: وقد جاء في هذا الكتاب الذي جاء به هذا الإنسان يقول: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171] . وهذا يوافق قولنا: إذ قد شهد أنه إنسان مثلنا، أي بالناسوت الذي أخذ من مريم، وكلمة الله وروحه المتحدة فيه، وحاشا أن تكون كلمة الله وروحه الخالقة مثلنا نحن المخلوقين، وأيضا قال في سورة النساء: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} [النساء: 157] . فأشار بهذا القول إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله التي لم يدخل عليها ألم ولا عرض، وقال أيضا: {ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} [آل عمران: 55] . وقال في سورة المائدة عن عيسى أنه قال: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 117]. فأعنى بموته عن موت الناسوت الذي أخذ من مريم العذراء. وقال أيضا في سورة النساء: {وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه} [النساء: 157]. فأشار بهذا إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله الخالقة، وعلى هذا القياس نقول: إن المسيح صلب وتألم بناسوته، ولم يصلب ولا تألم بلاهوته. والجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: دعواهم على محمد صلى الله عليه وسلم أنه أثبت في المسيح اللاهوت والناسوت، كما يزعمه هؤلاء النصارى فيه، هو من الكذب الواضح المعلوم على محمد صلى الله عليه وسلم الذي يعلم من دينه بالاضطرار، كما يعلم من دينه تصديق المسيح عليه السلام وإثبات رسالته، فلو ادعى اليهود على محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان يكذب المسيح ويجحد رسالته، كان كدعوى النصارى عليه أنه كان يقول: إنه رب العالمين، وأن اللاهوت اتحد بالناسوت، ومحمد صلى الله عليه وسلم قد أخبر فيما بلغه عن الله عز وجل بكفر من قال ذلك، وبما يناقض ذلك في غير موضع كقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة: 17]. وقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار - لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم - أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم - ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون - قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم - قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 72 - 77] . وقال تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون - اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون - يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون - هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون - ياأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة: 30 - 34]. وقال تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون - وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون - إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل - ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون - وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم - ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين - ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون - إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم - فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم} [الزخرف: 57 - 65] وقال تعالى: {وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب - ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 116 - 117] فأخبر عن المسيح أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به، بقوله: أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكان عليهم شهيدا ما دام فيهم، وبعد وفاته كان الله هو الرقيب عليهم، فإذا كان بعضهم قد غلط في النقل عنه أو في تفسير كلامه، أو تعمد تغيير دينه لم يكن على المسيح عليه السلام من ذلك درك، وإنما هو رسول عليه البلاغ المبين. وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن أول ما تكلم به المسيح أنه قال: {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا - وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا - وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا} [مريم: 30 - 32]. ثم طلب لنفسه السلام فقال: {والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} [مريم: 33]. والنصارى يقولون: (علينا منه السلام) كما تقوله الغالية فيمن يدعون فيه الإلآهية كالنصيرية في علي، والحاكمية في الحاكم. الوجه الثاني: أن يقال: إن الله لم يذكر أن المسيح مات ولا قتل إنما قال: {ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} [آل عمران: 55] وقال المسيح: {فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 117] وقال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا - وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما - وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا - بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما - وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا - فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا - وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما} [النساء: 155 - 161]. فذم الله اليهود بأشياء منها: قولهم على مريم بهتانا عظيما ; حيث زعموا أنها بغي، ومنها: قولهم: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} [النساء: 157]. قال تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} [النساء: 157]. وأضاف هذا القول إليهم وذمهم عليه. ولم يذكر النصارى ; لأن الذين تولوا صلب المصلوب المشبه به هم اليهود، ولم يكن أحد من النصارى شاهدا هذا معهم، بل كان الحواريون خائفين غائبين، فلم يشهد أحد منهم الصلب، وإنما شهده اليهود وهم الذين أخبروا الناس أنهم صلبوا المسيح، والذين نقلوا أن المسيح صلب من النصارى وغيرهم، إنما نقلوه عن أولئك اليهود وهم شرط من أعوان الظلمة، لم يكونوا خلقا كثيرا يمتنع تواطؤهم على الكذب. قال تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} [النساء: 157]. فنفى عنه القتل، ثم قال: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} [النساء: 159]. وهذا عند أكثر العلماء معناه قبل موت المسيح، وقد قيل قبل موت اليهودي وهو ضعيف، كما قيل: أنه قبل موت محمد صلى الله عليه وسلم وهو أضعف، فإنه لو آمن به قبل الموت لنفعه إيمانه به، فإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. وإن قيل: المراد به الإيمان الذي يكون بعد الغرغرة، لم يكن في هذا فائدة، فإن كل أحد بعد موته يؤمن بالغيب الذي كان يجحده فلا اختصاص للمسيح به، ولأنه قال قبل موته، ولم يقل بعد موته، ولأنه لا فرق بين إيمانه بالمسيح وبمحمد صلوات الله عليهما وسلامه واليهودي الذي يموت على اليهودية يموت كافرا بمحمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام ولأنه قال: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} [النساء: 159] وقوله: {ليؤمنن به} [النساء: 159] فعل مقسم عليه، وهذا إنما يكون في المستقبل، فدل ذلك على أن هذا الإيمان بعد إخبار الله بهذا، ولو أريد به قبل موت الكتابي لقال: وإن من أهل الكتاب إلا من يؤمن به، لم يقل: {ليؤمنن به} [النساء: 159] وأيضا فإنه قال " وإن من أهل الكتاب " وهذا يعم اليهود والنصارى فدل ذلك على أن جميع أهل الكتاب اليهود والنصارى يؤمنون بالمسيح قبل موت المسيح وذلك إذا نزل آمنت اليهود والنصارى بأنه رسول الله ليس كاذبا كما تقول اليهود ولا هو الله كما تقوله النصارى. والمحافظة على هذا العموم أولى من أن يدعى أن كل كتابي ليؤمنن به قبل أن يموت الكتابي، فإن هذا يستلزم إيمان كل يهودي ونصراني، وهذا خلاف الواقع، وهو لما قال: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته دل على أن المراد بإيمانهم قبل أن يموت هو، علم أنه أريد بالعموم عموم من كان موجودا حين نزوله ; أي لا يتخلف منهم أحد عن الإيمان به، لا إيمان من كان منهم ميتا. وهذا كما يقال: إنه لا يبقى بلد إلا دخله الدجال إلا مكة والمدينة، أي من المدائن الموجودة حينئذ، وسبب إيمان أهل الكتاب به حينئذ ظاهر، فإنه يظهر لكل أحد أنه رسول مؤيد ليس بكذاب ولا هو رب العالمين. فالله تعالى ذكر إيمانهم به إذا نزل إلى الأرض، فإنه تعالى لما ذكر رفعه إلى الله بقوله: {إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55] وهو ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ويموت حينئذ أخبر بإيمانهم به قبل موته، كما قال تعالى في آية أخرى: {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل - ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون - وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم - ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين - ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون - إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم - فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم} [الزخرف: 59 - 65]. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، وإماما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية». " وقوله تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا - بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 157 - 158]. بيان أن الله رفعه حيا وسلمه من القتل، وبين أنهم يؤمنون به قبل أن يموت. وكذلك قوله: ومطهرك من الذين كفروا. ولو مات لم يكن فرق بينه وبين غيره. ولفظ التوفي في لغة العرب معناه: الاستيفاء والقبض، وذلك ثلاثة أنواع: أحدها: توفي النوم، والثاني: توفي الموت، والثالث: توفي الروح والبدن جميعا، فإنه بذلك خرج عن حال أهل الأرض الذين يحتاجون إلى الأكل والشرب واللباس والنوم، ويخرج منهم الغائط والبول، والمسيح عليه السلام توفاه الله وهو في السماء الثانية إلى أن ينزل إلى الأرض، ليست حاله كحالة أهل الأرض في الأكل والشرب واللباس والنوم، والغائط والبول، ونحو ذلك. الوجه الثالث: قولهم: إنه عني بموته عن موت الناسوت، كان ينبغي لهم أن يقولوا على أصلهم: عني بتوفيته عن توفي الناسوت، وسواء قيل موته أو توفيته فليس هو شيئا غير الناسوت، فليس هناك شيء غيره لم يتوف، والله تعالى قال:{إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55] فالمتوفى هو المرفوع إلى الله، وقولهم: إن المرفوع هو اللاهوت، مخالف لنص القرآن، لو كان هناك موت فكيف إذا لم يكن، فإنهم جعلوا المرفوع غير المتوفى، والقرآن أخبر أن المرفوع هو المتوفى. وكذلك قوله في الآية الأخرى: {وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه} [النساء: 157]. هو تكذيب لليهود في قولهم: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} [النساء: 157]. واليهود لم يدعوا قتل لاهوت، ولا أثبتوا لله لاهوتا في المسيح، والله تعالى لم يذكر دعوى قتله عن النصارى حتى يقال: إن مقصودهم قتل الناسوت دون اللاهوت، بل عن اليهود الذين لا يثبتون إلا الناسوت. وقد زعموا أنهم قتلوه، فقال تعالى: {وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه} [النساء: 157]. فأثبت رفع الذي قالوا إنهم قتلوه، وإنما هو الناسوت، فعلم أنه هو الذي نفي عنه القتل. وهو الذي رفع، والنصارى معترفون برفع الناسوت، لكن يزعمون أنه صلب، وأقام في القبر إما يوما وإما ثلاثة أيام، ثم صعد إلى السماء، وقعد عن يمين الرب الناسوت مع اللاهوت.
__________________
|
#238
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ المائدة المجلد السادس الحلقة( 238) من صــ 261 الى صـ 280 وقوله تعالى: {وما قتلوه يقينا} [النساء: 157] معناه: أن نفي قتله هو يقين لا ريب فيه، بخلاف الذين اختلفوا فإنهم في شك منه من قتله وغير قتله فليسوا مستيقنين أنه قتل ; إذ لا حجة معهم بذلك. ولذلك كانت طائفة من النصارى يقولون: لم يصلب، فإن الذين صلبوا المصلوب هم اليهود، وكان قد اشتبه عليهم المسيح بغيره، كما دل عليه القرآن، وكذلك عند أهل الكتاب أنه اشتبه بغيره فلم يعرفوا من هو المسيح من أولئك حتى قال لهم بعض الناس: أنا أعرفه فعرفوه، وقول من قال: معنى الكلام ما قتلوه علما بل ظنا قول ضعيف. الوجه الرابع: أنه قال - تعالى: {إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} [آل عمران: 55]. فلو كان المرفوع هو اللاهوت، لكان رب العالمين قال لنفسه أو لكلمته: " إني أرفعك إلي "، وكذلك قوله: بل رفعه الله إليه فالمسيح عندهم هو الله. ومن المعلوم أنه يمتنع رفع نفسه إلى نفسه، وإذا قالوا: هو الكلمة فهم يقولون مع ذلك إنه الإله الخالق، لا يجعلونه بمنزلة التوراة والقرآن ونحوهما، مما هو من كلام الله الذي قال فيه: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] بل عندهم هو الله الخالق الرازق رب العالمين، ورفع رب العالمين إلى رب العالمين ممتنع. الوجه الخامس: قوله: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} [المائدة: 117] دليل على أنه بعد توفيته لم يكن الرقيب عليهم إلا الله دون المسيح، فإن قوله كنت أنت يدل على الحصر، كقوله: {إن كان هذا هو الحق} [الأنفال: 32] ونحو ذلك، فعلم أن المسيح بعد توفيته ليس رقيبا على أتباعه، بل الله هو الرقيب المطلع عليهم المحصي أعمالهم المجازي عليها، والمسيح ليس برقيب فلا يطلع على أعمالهم ولا يحصيها ولا يجازيهم بها. سورة المائدة وقال شيخ الإسلام - قدس الله روحه -: فصل: سورة المائدة أجمع سورة في القرآن لفروع الشرائع من التحليل والتحريم والأمر والنهي؛ ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {هي آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها} ولهذا افتتحت بقوله: {أوفوا بالعقود} والعقود هي العهود وذكر فيها من التحليل والتحريم والإيجاب ما لم يذكر في غيرها والآيات فيها متناسبة مثل قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}. وقد اشتهر في التفسير أن هذه الآية نزلت بسبب الذين أرادوا التبتل من الصحابة مثل عثمان بن مظعون والذين اجتمعوا معه. وفي الصحيحين {حديث أنس في الأربعة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم لا أفطر. وقال الآخر: أما أنا فأقوم لا أنام. وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني} فيشبه والله أعلم أن يكون قوله: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} فيمن حرم الحلال على نفسه بقول أو عزم على تركه مثل الذي قال: لا أتزوج النساء ولا آكل اللحم وهي الرهبانية المبتدعة فإن الراهب لا ينكح ولا يذبح. وقوله: {ولا تعتدوا} فيمن قال: أقوم لا أنام وقال أصوم لا أفطر؛ لأن الاعتداء مجاوزة الحد فهذا مجاوز للحد في العبادة المشروعة كالعدوان في الدعاء في قوله: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم {سيكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور} فالاعتداء في " العبادات وفي الورع " كالذين تحرجوا من أشياء ترخص فيها النبي صلى الله عليه وسلم وفي " الزهد " كالذين حرموا الطيبات وهذان القسمان ترك فقوله: " {ولا تعتدوا} " إما أن يكون مختصا بجانب الأفعال العبادية وإما أن يكون العدوان يشمل العدوان في العبادة والتحريم وهذان النوعان هما اللذان ذم الله المشركين بهما في غير موضع حيث عبدوا عبادة لم يأذن الله بها وحرموا ما لم يأذن الله به فقوله: {لا تحرموا} {ولا تعتدوا} يتناول القسمين. والعدوان هنا كالعدوان في قوله: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} إما أن يكون أعم من الإثم وإما أن يكون نوعا آخر وإما أن يكون العدوان في مجاوزة حدود المأمورات واجبها ومستحبها ومجاوزة حد المباح وإما أن يكون في ذلك مجاوزة حد التحريم أيضا فإنها ثلاثة أمور: مأمور به ومنهي عنه ومباح. ثم ذكر بعد هذا قوله: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته} الآية ذكر هذا بعد النهي عن التحريم ليبين المخرج من تحريم الحلال إذا عقد عليه يمينا بالله أو يمينا أخرى وبهذا يستدل على أن تحريم الحلال يمين. ثم ذكر بعد ذلك ما حرمه من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام فبين به ما حرمه فإن نفي التحريم الشرعي يقع فيه طائفة من الإباحية كما يقع في تحريم الحلال طائفة من هؤلاء يكونون في حال اجتهادهم ورياضتهم تحريمية ثم إذا وصلوا بزعمهم صاروا إباحية وهاتان آفتان تقعان في المتعبدة والمتصوفة كثيرا وقرن بينهما حكم الأيمان فإن كلاهما يتعلق بالفم داخلا وخارجا كما يقرن الفقهاء بين كتاب الأيمان والأطعمة وفيه رخصة في كفارة الأيمان مطلقا خلافا لما شدد فيه طائفة من الفقهاء من جعل بعض الأيمان لا كفارة فيها فإن هذا التشديد مضاه للتحريم فيكون الرجل ممنوعا من فعل الواجب أو المباح بذلك التشديد وهذا كله رحمة من الله بنا دون غيرنا من الأمم التي حرم عليهم أشياء عقوبة لهم ولا كفارة في أيمانهم ولم يطهرهم من الرجس كما طهرنا فتدبر هذا فإنه نافع. (ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد (1) وقال - رحمه الله -: في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} قد قيل: إنها ما أمر الله به ورسوله. فإن هذه الآية كتبها النبي صلى الله عليه وسلم في أول الكتاب الذي كتبه لعمرو بن حزم لما بعثه عاملا على نجران وكتاب عمرو فيه الفرائض والديات والسنن الواجبة بالشرع. وقوله للمؤمنين: {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا} وقد ذكر أهل التفسير أن سبب نزولها مبايعته للأنصار ليلة العقبة فكان النبي صلى الله عليه وسلم واثقهم على ما هو واجب بأمر الله من السمع له والطاعة وذكرهم الله ذلك الميثاق ليوفوا به مع أنه لم يوجب إلا ما كان واجبا بأمر الله. وهذه الآية أمرهم فيها بذكر نعمته عليهم وذكر ميثاقه. فذكر سببي الوجوب؛ لأن الوجوب الثابت بالشرع ثابت بإيجاب الربوبية وهي إنعامه عليهم؛ ولهذا جاء في الحديث: {أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه}. ولهذا كان عادة المصنفين في " أصول الدين " أول ما يذكرون أول نعمة أنعمها الله على عباده وأول ما وجب على عباده ويذكرون " مسألة وجوب شكر المنعم " هل وجب مع الشرع بالعقل أم لا ولهذا كانت طريقة القرآن تذكير العباد بآلاء الله عليهم فإن ذلك يقتضي شكرهم له وهو أداء الواجبات الشرعية. وقوله: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا} الآية. إلى قوله: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية} والميثاق على ما هو واجب عليهم من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالرسل وتعزيرهم. وقد أخبر أنه بنقضهم ميثاقهم لعناهم وأقسى قلوبهم؛ لا بمجرد المعصية للأمر فكان في هذا أن عقوبة هذه الواجبات الموثقة بالعهود من جهة النقض أوكد. وقوله: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به} والأمر فيهم كذلك. وقوله تعالى {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} {فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} فإن كونه في الصالحين واجب والصدقة المفروضة واجبة وقد روي أنها هي المنذورة. وهذا نص في أنه يجب بالنذر ما كان واجبا بالشرع فإذا تركه عوقب لإخلاف الوعد الذي هو النذر فإن النذر وعد مؤكد هكذا نقل عن العرب وهذه الآية تسمى النذر وعدا. وقوله: {لن أرسله معكم حتى تؤتوني موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل} ورده إلى أبيه كان واجبا عليهم بلا موثق. ومن الحرب المباحة دفع الظالم عن النفوس والأموال والأبضاع المعصومة. وإنما جاءت الرخصة في السلم والحرب خاصة لأن هذين الموطنين مبناهما على تأليف القلوب وتنفيرها فإذا تألفت فهي المسالمة وإذا تنافرت فهي المحاربة والتأليف والتنفير يحصل بالتوهمات كما يحصل بالحقائق؛ ولهذا يؤثر قول الشعر في التأليف والتنفير بحيث يحرك النفوس شهوة ونفرة تحريكا عظيما وإن لم يكن الكلام منطبقا على الحق؛ لكن لأجل تخييل أو تمثيل. فلما كانت المسالمة والمحاربة الشرعية يقوم فيها التوهم لما لا حقيقة له مقام توهم ما له حقيقة ولم يكن في المعارض إلا الإيهام بما لا حقيقة له والناطق لم يعن إلا الحق صار ذلك حقا وصدقا عند المتكلم وموهما للمستمع توهما يؤلفه تأليفا يحبه الله ورسوله أو ينفره تنفيرا يحبه الله ورسوله بمنزلة تأليفه وتنفيره بالأشعار التي فيها تخييل وتمثيل وبمنزلة الحكايات التي فيها الأمثال المضروبة. فإن الأمثال المنظومة والمنثورة إذا كانت حقا مطابقا فهي من الشعر الذي هو حكمة وإن كان فيها تشبيهات شديدة وتخييلات عظيمة أفادت تأليفا وتنفيرا. (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2) (فصل: هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة) قال الشيخ - رحمه الله -: وأما قوله: هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة؟ فهذه " المسألة " وإن كان الناس يتنازعون فيها؟ إما نزاعا كليا وإما حاليا. فحقيقة الأمر: أن " الخلطة " تارة تكون واجبة أو مستحبة والشخص الواحد قد يكون مأمورا بالمخالطة تارة وبالانفراد تارة. وجماع ذلك: أن " المخالطة " إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات: كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله. وكذلك الاختلاط بهم في الحج وفي غزو الكفار والخوارج المارقين وإن كان أئمة ذلك فجارا وإن كان في تلك الجماعات فجار وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانا: إما لانتفاعه به وإما لنفعه له ونحو ذلك. ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه؛ إما في بيته، كما قال طاوس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه، وإما في غير بيته. فاختيار المخالطة مطلقا خطأ واختيار الانفراد مطلقا خطأ. وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا وما هو الأصلح له في كل حال فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم. وكذلك " السبب وترك السبب ": فمن كان قادرا على السبب ولا يشغله عما هو أنفع له في دينه فهو مأمور به مع التوكل على الله وهذا خير له من أن يأخذ من الناس ولو جاءه بغير سؤال، وسبب مثل هذا عبادة الله، وهو مأمور أن يعبد الله ويتوكل عليه فإن تسبب بغير نية صالحة أو لم يتوكل على الله فهو غير مطيع في هذا وهذا، وهذه غير طريق الأنبياء والصحابة. وأما من كان من الفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف فهذا إما أن يكون عاجزا عن الكسب أو قادرا عليه بتفويت ما هو فيه أطوع لله من الكسب ففعل ما هو فيه أطوع هو المشروع في حقه وهذا يتنوع بتنوع أحوال الناس. وقد تقدم أن الأفضل يتنوع " تارة " بحسب أجناس العبادات كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء. و " تارة " يختلف باختلاف الأوقات كما أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة. و " تارة " باختلاف عمل الإنسان الظاهر كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة وكذلك الذكر والدعاء في الطواف مشروع بالاتفاق وأما القراءة في الطواف ففيها نزاع معروف. و " تارة " باختلاف الأمكنة: كما أن المشروع بعرفة ومزدلفة وعند الجمار وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون الصلاة ونحوها، والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلاة، والصلاة للمقيمين بمكة أفضل. و " تارة " باختلاف مرتبة جنس العبادة: فالجهاد للرجال أفضل من الحج وأما النساء فجهادهن الحج، والمرأة المتزوجة طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لأبويها؛ بخلاف الأيمة فإنها مأمورة بطاعة أبويها. و " تارة " يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه: فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس ويتبعون أهواءهم. فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبة له ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربه يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس ويأمرهم بمثل ذلك. والله بعث محمدا بالكتاب والحكمة وجعله رحمة للعباد وهديا لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له فعلى المسلم أن يكون ناصحا للمسلمين يقصد لكل إنسان ما هو أصلح له. وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية - كالصلاة والصيام - أفضل له والأفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبي صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا. فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم. (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ... (3) وسئل - رحمه الله -: عن " الغنم والبقر " ونحو ذلك إذا أصابه الموت وأتاه الإنسان هل يذكي شيئا منه وهو متيقن حياته حين ذبحه وأن بعض الدواب لم يتحرك منه جارحة حين ذكاته: فهل الحركة تدل على وجود الحياة وعدمها يدل على عدم الحياة أم لا؟ فإن غالب الناس يتحقق حياة الدابة عند ذبحها وإراقة دمها ولم تتحرك فيقول: إنها ميتة فيرميها؟ وهل الدم الأحمر الرقيق الجاري حين الذبح يدل على أن فيها حياة مستقرة والدم الأسود الجامد القليل دم الموت أم لا؟ وما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " {ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا}؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم}. وقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} عائد إلى ما تقدم: من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع: عند عامة العلماء؛ كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم فما أصابه قبل أن يموت أبيح. لكن تنازع العلماء فيما يذكى من ذلك. فمنهم من قال: ما تيقن موته لا يذكى كقول مالك ورواية عن أحمد. ومنهم من يقول: ما يعيش معظم اليوم ذكي. ومنهم من يقول: ما كانت فيه حياة مستقرة ذكي كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد. ثم من هؤلاء من يقول: الحياة المستقرة ما يزيد على حركة المذبوح. ومنهم من يقول: ما يمكن أن يزيد على حياة المذبوح. والصحيح: أنه إذا كان حيا فذكي حل أكله ولا يعتبر في ذلك حركة مذبوح؛ فإن حركات المذبوح لا تنضبط؛ بل فيها ما يطول زمانه وتعظم حركته. وقد قال صلى الله عليه وسلم " {ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا} فمتى جرى الدم الذي يجري من المذبوح الذي ذبح وهو حي حل أكله. والناس يفرقون بين دم ما كان حيا ودم ما كان ميتا؛ فإن الميت يجمد دمه ويسود؛ ولهذا حرم الله الميتة؛ لاحتقان الرطوبات فيها؛ فإذا جرى منها الدم الذي يخرج من المذبوح الذي ذبح وهو حي حل أكله؛ وإن تيقن أنه يموت؛ فإن المقصود ذبح ما فيه حياة فهو حي وإن تيقن أنه يموت بعد ساعة. فعمر بن الخطاب رضي الله عنه تيقن أنه يموت وكان حيا جازت وصيته وصلاته وعهوده. وقد أفتى غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم بأنها إذا مصعت بذنبها أو طرفت بعينها أو ركضت برجلها بعد الذبح؛ حلت؛ ولم يشرطوا أن تكون حركتها قبل ذلك أكثر من حركة المذبوح. وهذا قاله الصحابة لأن الحركة دليل على الحياة والدليل لا ينعكس فلا يلزم إذا لم يوجد هذا منها أن تكون ميتة؛ بل قد تكون حية وإن لم يوجد منها مثل ذلك. والإنسان قد يكون نائما فيذبح وهو نائم ولا يضطرب وكذلك المغمى عليه يذبح ولا يضطرب وكذلك الدابة قد تكون حية فتذبح ولا تضطرب لضعفها عن الحركة وإن كانت حية؛ ولكن خروج الدم الذي لا يخرج إلا من مذبوح وليس هو دم الميت دليل على الحياة. والله أعلم. [فصل: ما ذبح على النصب] وأيضا، فإنه سبحانه حرم ما ذبح على النصب، وهي كل ما ينصب ليعبد من دون الله تعالى. وأما احتجاج أحمد على هذه المسألة بقوله تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121] فحيث اشترطت التسمية في ذبيحة المسلم؛ هل تشترط في ذبيحة الكتابي؟ على روايتين: وإن كان الخلال هنا قد ذكر عدم الاشتراط، فاحتجاجه بهذه الآية يخرج على إحدى الروايتين. فلما تعارض العموم الحاظر، وهو قول الله تعالى: {وما أهل به لغير الله} [البقرة: 173] والعموم المبيح، وهو قوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة: 5] اختلف العلماء في ذلك. والأشبه بالكتاب والسنة: ما دل عليه أكثر كلام أحمد من الحظر، وإن كان من متأخري أصحابنا من لم يذكر هذه الرواية بحال؛ وذلك لأن عموم قوله تعالى: {وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] عموم محفوظ لم تخص منه صورة، بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب، فإنه يشترط له الذكاة المبيحة فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته، ولأن غاية الكتابي: أن تكون ذكاته كالمسلم، والمسلم لو ذبح لغير الله، أو ذبح باسم غير الله لم يبح، وإن كان يكفر بذلك، فكذلك الذمي؛ لأن قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} [المائدة: 5] سواء، وهم وإن كانوا يستحلون هذا، ونحن لا نستحله فليس كل ما استحلوه حل ولأنه قد تعارض دليلان، حاظر ومبيح، فالحاظر: أولى. ولأن الذبح لغير الله، وباسم غيره، قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام، فهو من الشرك الذي أحدثوه، فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم، منتف في هذا. والله أعلم. فإن قيل: أما إذا سموا عليه غير الله بأن يقولوا: باسم المسيح ونحوه، فتحريمه ظاهر، أما إذا لم يسموا أحدا، ولكن قصدوا الذبح للمسيح،أو للكوكب ونحوها، فما وجه تحريمه؟ قيل: قد تقدمت الإشارة إلى ذلك. وهو أن الله سبحانه قد حرم ما ذبح على النصب، وذلك يقتضي تحريمه، وإن كان ذابحه كتابيا، لأنه لو كان التحريم لكونه وثنيا، لم يكن فرق بين ذبحه على النصب وغيرها، ولأنه لما أباح لنا طعام أهل الكتاب، دل على أن طعام المشركين حرام، فتخصيص ما ذبح على الوثن يقتضي فائدة جديدة. وأيضا: فإنه ذكر تحريم ما ذبح على النصب، وما أهل به لغير الله؛ وقد دخل فيما أهل به لغير الله ما أهل به أهل الكتاب لغير الله فكذلك كل ما ذبح على النصب، فإذا ذبح الكتابي على ما قد نصبوه من التماثيل في الكنائس، فهو مذبوح على النصب، ومعلوم أن حكم ذلك لا يختلف بحضور الوثن وغيبته، فإنما حرم لأنه قصد بذبحه عبادة الوثن وتعظيمه، وهذه الأنصاب قد قيل: هي من الأصنام، وقيل: هي غير الأصنام. قالوا: كان حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا، كان أهل الجاهلية يذبحون عليها، ويشرحون اللحم عليها، وكانوا يعظمون هذه الحجارة، ويعبدونها، ويذبحون عليها، وكانوا إذا شاءوا بدلوا هذه الحجارة بحجارة هي أعجب إليهم منها. ويدل على ذلك قول أبي ذر في حديث إسلامه: "حتى صرت كالنصب الأحمر " يريد أنه كان يصير أحمر من تلوثه بالدم.
__________________
|
#239
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ المائدة المجلد السادس الحلقة( 239) من صــ 281 الى صـ 295 وفي قوله: {وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] قولان: أحدهما: أن نفس الذبح كان يكون عليها، كما ذكرناه، فيكون ذبحهم عليها تقربا إلى الأصنام، وهذا على قول من يجعلها غير الأصنام، فيكون الذبح عليها لأجل أن المذبوح عليها مذبوح للأصنام، أو مذبوح لها، وذلك يقتضي تحريم كل ما ذبح لغير الله، ولأن الذبح في البقعة لا تأثير له إلا من جهة الذبح لغير الله، كما كرهه النبي صلى الله عليه وسلم من الذبح في مواضع أصنام المشركين، وموضع أعيادهم، وإنما يكره المذبوح في البقعة المعينة؛ لكونها محل شرك، فإذا وقع الذبح حقيقة لغير الله؛ كانت حقيقة التحريم قد وجدت فيه. والقول الثاني: أن الذبح على النصب، أي: لأجل النصب، كما قيل: أولم على زينب بخبز ولحم وأطعم فلان على ولده، وذبح فلان على ولده، ونحو ذلك، ومنه قوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185] وهذا ظاهر على قول من يجعل النصب نفس الأصنام، ولا منافاة بين كون الذبح لها، وبين كونها كانت تلوث بالدم، وعلى هذا القول فالدلالة ظاهرة. واختلاف هذين القولين في قوله تعالى {على النصب} [المائدة: 3] نظير الاختلاف في قوله: {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 34] وقوله تعالى {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 28]. فإنه قد قيل: المراد بذكر اسم الله عليها، إذا كانت حاضرة. وقيل: بل يعم ذكره لأجلها في مغيبها وشهودها، بمنزلة قوله تعالى {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185]. وفي الحقيقة: مآل القولين إلى شيء واحد في قوله تعالى: {وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] كما قد أومأنا إليه. وفيها قول ثالث ضعيف: أن المعنى على اسم النصب. وهذا ضعيف؛ لأن هذا المعنى حاصل من قوله تعالى: {وما أهل لغير الله به} [المائدة: 3] فيكون تكريرا. لكن اللفظ يحتمله، كما روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة عن سالم «عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح وذلك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة في لحم. فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه». وفي رواية له: " وإن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: " الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض الكلأ، ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله؟! إنكارا لذلك وإعظاما له. وأيضا فإن قوله تعالى: {وما أهل لغير الله به} [المائدة: 3] ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقال: هذا ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود: فسواء لفظ به أو لم يلفظ. وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح، ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: باسم الله، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فكذلك الشرك بالصلاة لغيره والنسك لغيره أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور. فإذا حرم ما قيل فيه: باسم المسيح، أو الزهرة؛ فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح والزهرة أو قصد به ذلك، أولى. وهذا يبين لك ضعف قول من حرم ما ذبح باسم غير الله، ولم يحرم ما ذبح لغير الله، كما قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم، بل لو قيل بالعكس لكان أوجه، فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله. وعلى هذا: فلو ذبح لغير الله متقربا به إليه لحرم وإن قال فيه: بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى والكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان. [عودة إلى تفصيل القول فيما ذبح على النصب] وروينا في تفسير مجاهد المشهور عنه الصحيح من رواية ابن أبي نجيح في قوله تعالى: {وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] قال: " كانت حجارة حول الكعبة يذبح لها أهل الجاهلية، ويبدلونها إذا شاءوا بحجارة أعجب إليهم منها ". وروى ابن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن أشعث، عن الحسن، في قوله تعالى {وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] قال: " هو بمنزلة ما ذبح لغير الله ". وفي تفسير قتادة المشهور عنه: " وأما ما ذبح على النصب: فالنصب حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها، فنهى الله عن ذلك ". وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: " النصب أصنام كانوا يذبحون ويهلون عليها ". فإن قيل: فقد نقل إسماعيل بن سعيد قال: سألت أحمد عما يقرب لآلهتهم يذبحه رجل مسلم. قال: " لا بأس به ". قيل: إنما قال أحمد ذلك؛ لأن المسلم إذا ذبحه سمى الله عليه، ولم يقصد ذبحه لغير الله، ولا يسمي غيره، بل يقصد ضد ما قصده صاحب الشاة، فتصير نية صاحب الشاة لا أثر لها، والذابح هو المؤثر في الذبح، بدليل أن المسلم لو وكل كتابيا في ذبيحة، فسمى عليها غير الله لم تبح. ولهذا لما كان الذبح عبادة في نفسه كره علي -رضي الله عنه- وغير واحد من أهل العلم -منهم أحمد في إحدى الروايتين عنه- أن يوكل المسلم في ذبح نسيكته كتابيا؛ لأن نفس الذبح عبادة بدنية، مثل الصلاة، ولهذا تختص بمكان وزمان ونحو ذلك، بخلاف تفرقة اللحم، فإنه عبادة مالية، ولهذا اختلف العلماء في وجوب تخصيص أهل الحرم بلحوم الهدايا المذبوحة في الحرم، وإن كان الصحيح تخصيصهم بها، وهذا بخلاف الصدقة، فإنها عبادة مالية محضة، فلهذا قد لا يؤثر فيها نية الوكيل، على أن هذه المسألة منصوصة عن أحمد محتملة. فهذا تمام الكلام في ذبائحهم لأعيادهم. (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (3) [فصل البرهان الثالث " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " والجواب عليه] فصل قال الرافضي: " البرهان الثالث: قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [سورة المائدة: 3] روى أبو نعيم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الناس إلى غدير خم، وأمر بإزالة ما تحت الشجر من الشوك، فقام فدعا عليا، فأخذ بضبعيه فرفعهما، حتى نظر الناس إلى [بياض] إبطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [سورة المائدة: 3]. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الرب برسالتي، وبالولاية لعلي من بعدي. ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» ". والجواب من وجوه: أحدها: أن المستدل عليه بيان صحة الحديث. ومجرد عزوه إلى رواية أبي نعيم لا تفيد الصحة باتفاق الناس: علماء السنة والشيعة ; فإن أبا نعيم روى كثيرا من الأحاديث التي هي ضعيفة، بل موضوعة باتفاق علماء أهل الحديث: السنة والشيعة. وهو وإن كان حافظا كثير الحديث واسع الرواية، لكن روى، كما عادة المحدثين أمثاله يروون جميع ما في الباب ; لأجل المعرفة بذلك، وإن كان لا يحتج من ذلك إلا ببعضه. والناس في مصنفاتهم: منهم من لا يروي عمن يعلم أنه يكذب، مثل مالك، وشعبة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل ; فإن هؤلاء لا يروون عن شخص ليس بثقة عندهم، ولا يروون حديثا يعلمون أنه عن كذاب، فلا يروون أحاديث الكذابين الذين يعرفون بتعمد الكذب، لكن قد يتفق فيما يروونه ما يكون صاحبه أخطأ فيه. وقد يروي الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما أحاديث تكون ضعيفة عندهم ; لاتهام رواتها بسوء الحفظ ونحو ذلك، ليعتبر بها ويستشهد بها، فإنه قد يكون لذلك الحديث ما يشهد له أنه محفوظ، وقد يكون له ما يشهد بأنه خطأ وقد يكون صاحبها كذبها في الباطن، ليس مشهورا بالكذب، بل يروي كثيرا من الصدق، فيروى حديثه. وليس كل ما رواه الفاسق يكون كذبا، بل يجب التبين من خبره كما قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [سورة الحجرات: 6] فيروى لتنظر سائر الشواهد: هل تدل على الصدق أو الكذب؟. وكثير من المصنفين يعز عليه تمييز ذلك على وجهه، بل يعجز عن ذلك، فيروي ما سمعه كما سمعه، والدرك على غيره لا عليه، وأهل العلم ينظرون في ذلك وفي رجاله وإسناده. الوجه الثاني: أن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالموضوعات. وهذا يعرفه أهل العلم بالحديث، والمرجع إليهم في ذلك. ولذلك لا يوجد هذا في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها أهل العلم بالحديث. الوجه الثالث: أنه قد ثبت في الصحاح والمساند والتفسير أن هذه الآية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة، «وقال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرءونها ; لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك [اليوم] عيدا. فقال له عمر: وأي آية هي؟ قال: قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [سورة المائدة: 3] فقال عمر: إني لأعلم أي يوم نزلت، وفي أي مكان نزلت. نزلت يوم عرفة بعرفة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفة». وهذا مستفيض من زيادة وجوه أخر. وهو منقول في كتب المسلمين: الصحاح والمساند والجوامع والسير والتفسير وغير ذلك. وهذا اليوم كان قبل غدير خم بتسعة أيام، فإنه كان يوم الجمعة تاسع ذي الحجة، فكيف يقال: إنها نزلت يوم الغدير؟!. الوجه الرابع: أن هذه الآية ليس فيها دلالة على علي ولا إمامته بوجه من الوجوه، بل فيها إخبار الله بإكمال الدين وإتمام النعمة على المؤمنين، ورضا الإسلام دينا. فدعوى المدعي أن القرآن يدل على إمامته من هذا الوجه كذب ظاهر. وإن قال: الحديث يدل على ذلك. فيقال: الحديث إن كان صحيحا، فتكون الحجة من الحديث لا من الآية. وإن لم يكن صحيحا فلا حجة في هذا ولا في هذا. فعلى التقديرين لا دلالة في الآية على ذلك. وهذا مما يبين به كذب الحديث، فإن نزول الآية لهذا السبب، وليس فيها ما يدل عليه أصلا، تناقض. الوجه الخامس: أن هذا اللفظ، وهو قوله: " «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» " كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث. وأما قوله: " «من كنت مولاه فعلي مولاه» " فلهم فيه قولان، وسنذكره - إن شاء الله - في موضعه. الوجه السادس: أن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مجاب، وهذا الدعاء ليس بمجاب، فعلم أنه ليس من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه من المعلوم أنه لما تولى كان الصحابة وسائر المسلمين ثلاثة أصناف: صنف قاتلوا معه، وصنف قاتلوه، وصنف قعدوا عن هذا وهذا. وأكثر السابقين الأولين كانوا من القعود. وقد قيل: إن بعض السابقين الأولين قاتلوه. وذكر ابن حزم أن عمار بن ياسر قتله أبو الغادية، وأن أبا الغادية هذا من السابقين، ممن بايع تحت الشجرة. وأولئك جميعهم قد ثبت في الصحيحين أنه لا يدخل النار منهم أحد. ففي صحيح مسلم وغيره عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ". وفي الصحيح «أن غلام حاطب بن أبي بلتعة قال: يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار. فقال: " كذبت ; إنه شهد بدرا والحديبية» ". وحاطب هذا هو الذي كاتب المشركين بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبسبب ذلك نزل: {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} [سورة الممتحنة: 1] الآية، وكان مسيئا إلى مماليكه، ولهذا قال مملوكه هذا القول، وكذبه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: " إنه شهد بدرا والحديبية " وفي الصحيح: " «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ". وهؤلاء فيهم ممن قاتل عليا، كطلحة والزبير، وإن كان قاتل عمار فيهم فهو أبلغ من غيره. وكان الذين بايعوه تحت الشجرة نحو ألف وأربعمائة، وهم الذين فتح الله عليهم خيبر، كما وعدهم الله بذلك في سورة الفتح، وقسمها بينهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ثمانية عشر سهما ; لأنه كان فيهم مائتا فارس، فقسم للفارس ثلاثة أسهم: سهما له، وسهمين لفرسه، فصار لأهل الخيل ستمائة سهم، ولغيرهم ألف ومائتا سهم. هذا هو الذي ثبت في الأحاديث الصحيحة، وعليه أكثر أهل العلم، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وقد ذهب طائفة إلى أنه أسهم للفارس سهمين، وأن الخيل كانت ثلاثمائة، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة. وأما علي فلا ريب أنه قاتل معه طائفة من السابقين الأولين، كسهل بن حنيف، وعمار بن ياسر. لكن الذين لم يقاتلوا معه كانوا أفضل، فإن سعد بن أبي وقاص لم يقاتل معه، ولم يكن قد بقي من الصحابة بعد علي أفضل منه. وكذلك محمد بن مسلمة من الأنصار، وقد جاء في الحديث: " «أن الفتنة لا تضره» " فاعتزل. وهذا مما استدل به على أن القتال كان قتال فتنة بتأويل، لم يكن من الجهاد الواجب ولا المستحب. وعلي - ومن معه - أولى بالحق من معاوية وأصحابه، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق» " فدل هذا الحديث على أن عليا أولى بالحق ممن قاتله ; فإنه هو الذي قتل الخوارج لما افترق المسلمون، فكان قوم معه وقوم عليه. ثم إن هؤلاء الذين قاتلوه لم يخذلوا، بل ما زالوا منصورين يفتحون البلاد ويقتلون الكفار. وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة» " قال: " معاذ بن جبل: " وهم بالشام ". وفي مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «لا يزال أهل الغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة» ". قال أحمد بن حنبل وغيره: " أهل الغرب هم أهل الشام ".
__________________
|
#240
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ المائدة المجلد السادس الحلقة( 240) من صــ 286 الى صـ 310 وهذا كما ذكروه ; فإن كل بلد له غرب وشرق، والاعتبار في لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بغرب مدينته، ومن الفرات هو غرب المدينة، فالبيرة ونحوها على سمت المدينة، كما أن حران والرقة وسميساط ونحوها على سمت مكة. ولهذا يقال: إن قبلة هؤلاء أعدل القبل، بمعنى أنك تجعل القطب الشمالي خلف ظهرك، فتكون مستقبل الكعبة، فما كان غربي الفرات فهو غربي المدينة إلى آخر الأرض، وأهل الشام أول هؤلاء. والعسكر الذين قاتلوا مع معاوية ما خذلوا قط، بل ولا في قتال علي. فكيف يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " «اللهم اخذل من خذله وانصر من نصره» " [والذين قاتلوا معه لم ينصروا على هؤلاء، بل الشيعة الذين تزعمون أنهم مختصون بعلي ما زالوا مخذولين مقهورين لا ينصرون إلا مع غيرهم: إما مسلمين وإما كفار، وهم يدعون أنهم أنصاره]، فأين نصر الله لمن نصره؟! وهذا وغيره مما يبين كذب هذا الحديث. (فصل في أن الحسنات سبب للتحليل دينا وكونا والسيئات سبب للتحريم دينا وكونا) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: الوجه الثاني والعشرون: أن الحسنات سبب للتحليل دينا وكونا والسيئات سبب للتحريم دينا وكونا؛ فإن التحريم قد يكون حمية؛ وقد يكون عقوبة والإحلال قد يكون سعة؛ وقد يكون عقوبة وفتنة قال تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم} فأباح بهيمة الأنعام في حال كونهم غير محلي الصيد وهو اعتقاد تحريم ذلك واجتنابه. وقال: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} إلى قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} وقد ثبت أنها نزلت عشية عرفة في حجة الوداع فأكمل الله الدين بإيجابه لما أوجبه من الواجبات التي آخرها الحج وتحريمه للمحرمات المذكورة في هذه الآية هذا من جهة شرعه ومن جهة الفعل الذي هو تقويته وإعانته ونصره يئس الذين كفروا من ديننا وحج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الإسلام فلما أكملوا الدين قال عقب ذلك: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين} إلى قوله: {اليوم أحل لكم الطيبات} فكان إحلاله الطيبات يوم أكمل الدين فأكمله تحريما وتحليلا لما أكملوه امتثالا. وقال: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية وهي بينة في الإصلاح والتقوى والإحسان موجبة لرفع الحرج وإن المؤمن العامل الصالحات المحسن لا حرج عليه ولا جناح فيما طعم فإن فيه عونا له وقوة على الإيمان والعمل الصالح والإحسان: ومن سواهم على الحرج والجناح؛ لأن النعم إنما خلقها الله ليستعان بها على الطاعة والآية مدنية وهي من آخر ما نزل من القرآن وقال تعالى عن إبراهيم: {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} وقال: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} وقال: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}. وقال. {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم} {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}. وأما الطرف الآخر فقال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا} {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل} وقال: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} إلى قوله: {ذلك جزيناهم ببغيهم} وقال تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت} إلى آخر الآيات. وأما كون الإحلال والإعطاء فتنة فقوله: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} {لنفتنهم فيه} {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} {فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} الآيات {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} {يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم} إلى قوله: {كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى}. ويختلف التحليل والتحريم باعتبار النية كما قال تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا} وقال: {من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار}. (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (5) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: {والمحصنات من المؤمنات} الحرائر وعن ابن عباس: هن العفائف. فقد نقل عن ابن عباس تفسير {المحصنات} بالحرائر. وبالعفائف وهذا حق. فنقول مما يدل على ذلك قوله تعالى {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب} {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين}. " المحصنات " قد قال أهل التفسير: هن العفائف. هكذا قال الشعبي والحسن والنخعي والضحاك والسدي. وعن ابن عباس: هن الحرائر ولفظ المحصنات إن أريد به " الحرائر " فالعفة داخلة في الإحصان بطريق الأولى؛ فإن أصل المحصنة هي العفيفة التي أحصن فرجها قال الله تعالى: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها} وقال تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} وهن العفائف قال حسان بن ثابت: حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل ثم عادة العرب أن الحرة عندهم لا تعرف بالزنا؛ وإنما تعرف بالزنا الإماء ولهذا {لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم هند امرأة أبي سفيان على ألا تزني قالت: أوتزني الحرة} فهذا لم يكن معروفا عندهم. والحرة خلاف الأمة صارت في عرف العامة أن الحرة هي العفيفة؛ لأن الحرة التي ليست أمة كانت معروفة عندهم بالعفة وصار لفظ الإحصان يتناول الحرية مع العفة؛ لأن الإماء لم تكن عفائف وكذلك الإسلام هو ينهى عن الفحشاء والمنكر وكذلك المرأة المتزوجة زوجها يحصنها لأنها تستكفي به ولأنه يغار عليها. فصار لفظ " الإحصان " يتناول: الإسلام والحرية والنكاح. وأصله إنما هو العفة؛ فإن العفيفة هي التي أحصن فرجها من غير صاحبها كالمحصن الذي يمتنع من غير أهله وإذا كان الله إنما أباح من المسلمين وأهل الكتاب نكاح المحصنات " والبغايا " لسن محصنات: فلم يبح الله نكاحهن. ومما يدل على ذلك قوله: {إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} والمسافح الزاني الذي يسفح ماءه مع هذه وهذه وكذلك المسافحة والمتخذة الخدن الذي تكون له صديقة يزني بها دون غيره فشرط في الحل أن يكون الرجل غير مسافح ولا متخذ خدن. فإذا كانت المرأة بغيا وتسافح هذا وهذا لم يكن زوجها محصنا لها عن غيره؛ إذ لو كان محصنا لها كانت محصنة وإذا كانت مسافحة لم تكن محصنة. والله إنما أباح النكاح إذا كان الرجال محصنين غير مسافحين وإذا شرط فيه ألا يزني بغيرها - فلا يسفح ماءه مع غيرها - كان أبلغ وأبلغ. وقال أهل اللغة: " السفاح " الزنا. قال ابن قتيبة {محصنين} أي متزوجين {غير مسافحين} قال: وأصله من سفحت القربة إذا صببتها. فسمى " الزنا " سفاحا؛ لأنه يصب النطفة وتصب المرأة النطفة. وقال ابن فارس: " السفاح " صب الماء بلا عقد ولا نكاح فهي التي تسفح ماءها. وقال الزجاج: {محصنين} أي عاقدين التزوج. وقال غيرهما: متعففين غير زانين وكذلك قال في النساء {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} ففي هاتين الآيتين اشترط أن يكون الرجال محصنين غير مسافحين بكسر الصاد. " والمحصن " هو الذي يحصن غيره؛ ليس هو المحصن بالفتح الذي يشترط في الحد. فلم يبح إلا تزوج من يكون محصنا للمرأة غير مسافح ومن تزوج ببغي مع بقائها على البغاء ولم يحصنها من غيره - بل هي كما كانت قبل النكاح تبغي مع غيره - فهو مسافح بها لا محصن لها. وهذا حرام بدلالة القرآن. فإن قيل: إنما أراد بذلك أنك تبتغي بمالك النكاح لا تبتغي به السفاح فتعطيها المهر على أن تكون زوجتك ليس لغيرك فيها حق بخلاف ما إذا أعطيتها على أنها مسافحة لمن تريد وأنها صديقة لك تزني بك دون غيرك فهذا حرام؟ قيل: فإذا كان النكاح مقصوده أنها تكون له؛ لا لغيره وهي لم تتب من الزنا: لم تكن موفية بمقتضى العقد؟ فإن قيل: فإنه يحصنها بغير اختيارها فيسكنها حيث لا يمكنها الزنا؟ قيل: أما إذا أحصنها بالقهر فليس هو بمثل الذي يمكنها من الخروج إلى الرجال ودخول الرجال إليها؛ لكن قد عرف بالعادات والتجارب أن المرأة إذا كانت لها إرادة في غير الزوج احتالت إلى ذلك بطرق كثيرة وتخفى على الزوج وربما أفسدت عقل الزوج بما تطعمه وربما سحرته أيضا وهذا كثير موجود: رجال أطعمهم نساؤهم وسحرتهم نساؤهم حتى يمكن المرأة أن تفعل ما شاءت؛ وقد يكون قصدها مع ذلك أن لا يذهب هو إلى غيرها؛ فهي تقصد منعه من الحلال أو من الحرام والحلال. وقد تقصد أن يمكنها أن تفعل ما شاءت فلا يبقى محصنا لها قواما عليها؛ بل تبقى هي الحاكمة عليه. فإذا كان هذا موجودا فيمن تزوجت ولم تكن بغيا: فكيف بمن كانت بغيا؟ والحكايات في هذا الباب كثيرة. ويا ليتها مع التوبة يلزم منه دوام التوبة: فهذا إذا أبيح له نكاحها وقيل له: أحصنها واحتفظ أمكن ذلك. أما بدون التوبة فهذا متعذر أو متعسر. وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: وقوله تعالى {ولا متخذي أخدان} حرم به أن يتخذ صديقة في السر تزني معه لا مع غيره وقد قال سبحانه في آية الإماء {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} فذكر في " الإماء " {محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان} وأما " الحرائر " فاشترط فيهن أن يكون الرجال محصنين غير مسافحين وذكر في المائدة {ولا متخذي أخدان} لما ذكر نساء أهل الكتاب وفي النساء لم يذكر إلا غير مسافحين؛ وذلك أن الإماء كن معروفات بالزنا دون الحرائر فاشترط في نكاحهن أن يكن محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فدل ذلك أيضا على أن الأمة التي تبغي لا يجوز تزوجها إلا إذا تزوجها على أنها محصنة يحصنها زوجها فلا تسافح الرجال ولا تتخذ صديقا. وهذا من أبين الأمور في تحريم نكاح الأمة الفاجرة مع ما تقدم. وقد روي عن ابن عباس {محصنات} عفائف غير زوان {ولا متخذات أخدان} يعني أخلاء: كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي. وعنه رواية أخرى: " المسافحات " المعلنات بالزنا " والمتخذات أخدان " ذوات الخليل الواحد. قال بعض المفسرين: كانت المرأة تتخذ صديقا تزني معه ولا تزني مع غيره. فقد فسر ابن عباس هو وغيره من السلف المحصنات بالعفائف وهو كما قالوا وذكروا أن الزنا في الجاهلية كان نوعين: نوعا مشتركا ونوعا مختصا. والمشترك ما يظهر في العادة؛ بخلاف المختص فإنه مستتر في العادة. ولما حرم الله المختص وهو شبيه بالنكاح؛ فإن النكاح تختص فيه المرأة بالرجل: وجب الفرق بين النكاح الحلال والحرام من اتخاذ الأخدان؛ فإن هذه إذا كان يزني بها وحدها لم يعرف أنها لم يطأها غيره ولم يعرف أن الولد الذي تلده منه ولا يثبت لها خصائص النكاح. فلهذا كان عمر بن الخطاب يضرب على " النكاح السر " فإن نكاح السر من جنس اتخاذ الأخدان شبيه به لا سيما إذا زوجت نفسها بلا ولي ولا شهود وكتما ذلك: فهذا مثل الذي يتخذ صديقة ليس بينهما فرق ظاهر معروف عند الناس يتميز به عن هذا فلا يشاء من يزني بأمرة صديقة له إلا قال: تزوجتها. ولا يشاء أحد أن يقول لمن تزوج في السر: إنه يزني بها إلا قال ذلك فلا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق مبين قال الله تعالى: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} وقال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} فإذا ظهر للناس أن هذه المرأة قد أحصنها تميزت عن المسافحات والمتخذات أخدانا وإذا كان يمكنها أن تذهب إلى الأجانب لم تتميز المحصنات كما أنه إذا كتم نكاحها فلم يعلم به أحد لم تتميز من المتخذات أخدانا. (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (5) (فصل: فيما يتناوله لفظ " الكفر " و " النفاق " إذا افترقا وإذا اجتمعا، ما يتناوله كل منهما - لفظ " المشركين " قد يقرن بأهل الكتاب فقط، وقد يقرن بالملل الخمس) قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: ومن هذا الباب لفظ " الكفر " و " النفاق " فالكفر إذا ذكر مفردا في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون كقوله: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين}. وقوله: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا}. وقوله: {لا يصلاها إلا الأشقى} {الذي كذب وتولى} وقوله: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير} {قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} وقوله: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} {قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين}. وقوله: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين}. وقوله: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا} {قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} {وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} وقوله: منفكين حتى تأتيهم البينة}. وقوله: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية}. وقوله تعالى {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ}. وليس أحد بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلا من الذين أوتوا الكتاب أو الأميين، وكل أمة لم تكن من الذين أوتوا الكتاب فهم من الأميين؛ كالأميين من العرب ومن الخزر والصقالبة والهند والسودان وغيرهم من الأمم الذين لا كتاب لهم فهؤلاء كلهم أميون، والرسول مبعوث إليهم كما بعث إلى الأميين من العرب. وقوله: {وقل للذين أوتوا الكتاب} - وهو إنما يخاطب الموجودين في زمانه بعد النسخ والتبديل - يدل على أن من دان بدين اليهود والنصارى فهو من الذين أوتوا الكتاب لا يختص هذا اللفظ بمن كانوا متمسكين به قبل النسخ والتبديل ولا فرق بين أولادهم وأولاد غيرهم؛ فإن أولادهم إذا كانوا بعد النسخ والتبديل ممن أوتوا الكتاب فكذلك غيرهم إذا كانوا كلهم كفارا وقد جعلهم الذين أوتوا الكتاب بقوله: {وقل للذين أوتوا الكتاب} وهو لا يخاطب بذلك إلا من بلغته رسالته؛ لا من مات؛ فدل ذلك على أن قوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب} يتناول هؤلاء كلهم كما هو مذهب الجمهور من السلف والخلف وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته لم يختلف كلامه إلا في نصارى بني تغلب، وآخر الروايتين عنه: أنهم تباح نساؤهم وذبائحهم؛ كما هو قول جمهور الصحابة. وقوله في " الرواية الأخرى ": لا تباح؛ متابعة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن لأجل النسب؛ بل لكونهم لم يدخلوا في دين أهل الكتاب إلا فيما يشتهونه من شرب الخمر ونحوه ولكن بعض التابعين ظن أن ذلك لأجل النسب كما نقل عن عطاء وقال به الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد وفرعوا على ذلك فروعا كمن كان أحد أبويه كتابيا والآخر ليس بكتابي ونحو ذلك حتى لا يوجد في طائفة من كتب أصحاب أحمد إلا هذا القول؛ وهو خطأ على مذهبه مخالف لنصوصه لم يعلق الحكم بالنسب في مثل هذا ألبتة كما قد بسط في موضعه. ولفظ " المشركين " يذكر مفردا في مثل قوله: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} وهل يتناول أهل الكتاب؟ فيه " قولان " مشهوران للسلف والخلف. والذين قالوا: بأنها تعم؛ منهم من قال: هي محكمة كابن عمر والجمهور الذين يبيحون نكاح الكتابيات؛ كما ذكره الله في آية المائدة وهي متأخرة عن هذه. ومنهم من يقول: نسخ منها تحريم نكاح الكتابيات. ومنهم من يقول: بل هو مخصوص لم يرد باللفظ العام، وقد أنزل الله تعالى بعد صلح الحديبية قوله: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}. وهذا قد يقال: إنما نهى عن التمسك بالعصمة من كان متزوجا كافرة ولم يكونوا حينئذ متزوجين إلا بمشركة وثنية؛ فلم يدخل في ذلك الكتابيات.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |