صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان . - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         فتاوى الشيخ مصطفى العدوى من خلال صفحته على الفيس ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1845 - عددالزوار : 303091 )           »          موسى عليه السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 1505 )           »          نبذة عن موسى عليه السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          صبر عروة بن الزبير رضي الله عنه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          بيت ابن أبي شيبة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          أوليات: أبو بكر الصديق رضي الله عنه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          النصر الحاسم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          خيول طائرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          اغتنام الأوقات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          فانظروا عمن تأخذون دينكم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام > ملتقى أعلام وشخصيات
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 11-03-2025, 09:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



الإمام سفيان الثوري
شريف عبدالعزيز الزهيري
(11)



من أهم مهمات العلماء الربانيين في الأمة الإسلامية إرشاد الناس وتعليمهم، وتبصيرهم بالحق، ووعظهم وزجرهم عن الباطل، ولا يزال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم بنود هذه المهمة المقدسة؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو قطب الدين الأعظم، عليه يدور الدين، ومن أجله أرسلت الأنبياء والمرسلين، وقام سوق الجنة والنار، وانقسم به الناس بين دعاة ومدعوين، كما لا يزال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم أسباب المحن والابتلاءات التي تعرض لها كثير من علماء الأمة، خاصة في الفترات التي يحكم فيها الطغاة؛ حيث لا تجد الأمة من يتصدى لهؤلاء الطغاة سوى علمائها، وهذه محنة واحد منهم، بل واحد من أعظمهم.
التعريف به:
• هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، أمير المؤمنين في الحديث، المجتهد المطلق، العابد الزاهد، قدوة العصر، الإمام أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب

الثوري، وُلد سنة 97هـ بالكوفة، في بيت علم وورع وديانة، فأبوه المحدث الثقة: سعيد الثوري وهو طبقة صغار التابعين، وأمه كانت امرأة صالحة، دفعت ولدها منذ صغره نحو طلب العلم، وقالت له: اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي، وكان أبوه فقيرًا مشغولا بالحديث.
• انطلق الثوري كالشهاب يطلب العلم من مشايخ الوقت، وعلماء العراق، وأكثر من ذلك حتى بلغ عدد شيوخه ستمائة شيخ، وعلا ذكره، وطارت شهرته، وعرفه الناس، وهو شاب دون العشرين؛ وذلك لعلو همته، وكثرة رحلته، وشدة زهده وورعه، وفرط ذكائه، وسعة محفوظاته، وما زال أمره في علو ورفعة، وخبره في ذيوع وشهرة، حتى لقب بأمير المؤمنين في الحديث، وكان أحفظ
أهل زمانه، على الرغم من وجود العديد من الحفاظ الأعلام، والأئمة والأثبات في زمانه، إلا أنه يفوقهم جميعًا.
• جمع الثوري بين العلم والعمل، والزهد والورع والعبادة، والجهر بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجافاة السلاطين والأمراء، والفرار من المناصب، والتحرز من الشبهات، حتى صار درة الدهر، وبركة العصر، وحجة الله على الخلق.
ثناء الناس عليه:
• للثوري منزلة خاصة عند المسلمين عامة، وأهل العلم والحديث خاصة؛ فلقد كان الإمام الثوري كلمة إجماع بين العالمين، لم يختلف عليه اثنان، ولم يؤثر عن أحد من المسلمين مهما كان حاله أنه نال الثوري بكلمة ذم أو انتقاص، فهو من سادات المسلمين، ومن الأئمة الأعلام المتبوعين، ولقد ظل مذهبة واختياراته الفقهية والعلمية معمولا بها حينًا من الدهر، ولو وجد الثوري من التلاميذ والأتباع من يقوم بمذهبه وعلمه لظل مذهبه قائمًا حتى الآن، ومن بين المذاهب المتبوعة المعروفة، ولكنه مثل الليث بن سعد، وأبي ثور والأوزاعي، وغيرهم من الأئمة الذين لم يجدوا من يقوم بهم،

وينشر علمهم، وهذه طائفة من كلام وثناء الناس على الإمام الثوري:
• قال شعبة بن الحجاج: سفيان أمير المؤمنين في الحديث، ساد الناس بالورع والعلم.
• قال أبو حنيفة: لو حضر علقمة والأسود من كبار التابعين لاحتاجا إلى سفيان.
• قال سفيان بن عينية: ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري.
• قال الفضيل بن عياض: كان سفيان الثوري - والله - أعلم من أبي حنيفة.
• قال بشر الحافي: كان الثوري عندنا إمام الناس، وسفيان في زمانه كأبي بكر وعمر في زمانهما.
• قال شعيب بن حرب: إني لأحسب أنه يجاء غدًا بسفيان حجة من الله على خلقه، يقول لهم: لم تدركوا نبيكم، قد رأيتم سفيان.
• قال يحيى بن معين: ما خالف أحد سفيان في شيء إلا كان القول قول سفيان.

• قال ابن المبارك: ما نعت لي أحد فرأيته إلا وجدته دون نعته إلا سفيان الثوري.
• قال يوسف بن أسباط: كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم.
• قال الأوزاعي: لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلا يقول فيها بكتاب الله وسنة نبيه لاخترت لهم سفيان الثوري.
• قال الشافعي: ما رأيت بالكوفة رجلا أتبع للسنة، ولا أود أني في مسلاخه من سفيان الثوري.
• قال يحيى القطان: سفيان الثوري فوق مالك في كل شيء.
• قال أحمد بن حنبل: أتدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري، لا يتقدمه أحد في قلبي.
• قال الذهبي: قد كان سفيان رأسًا في الزهد والتأله والخوف، رأسًا في الحفظ، رأسًا في معرفة الآثار، رأسًا في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم، من أئمة الدين.
محنته:

• محنة الإمام سفيان الثوري ترجع في المقام الأول لوجوده في عصرين مختلفين، وشهوده لقيام دولة وانهيار أخرى، ومعاينته للأهوال والملاحم التي وقعت خلال ذلك القيام والانهيار، فآثر ذلك في نفسه بشدة، وكوَّن الإمام رؤيته وحكمه على الدولة الجديدة من خلال الفتن والملاحم التي وقعت، وجعلت الإمام يفر من أية علائق مع تلك الدولة، ويرفض أي منصب تعرضه عليه السلطة الجديدة؛ لاعتراضه بالكامل عليها شكلا وموضوعًا.
• وُلد سفيان الثوري سنة 97هـ بالكوفة كما أسلفنا، ونشأ وترعرع وطلب العلم في عهد الدولة الأموية المجاهدة، وطاف البلاد، ولاقى الشيوخ، ولما صار في سن الكهولة في الخامسة والثلاثين - أي في سنة 132هـ - وقع الزلزال الكبير في الأمة الإسلامية، وقامت الدولة العباسية على أنقاض الدولة الأموية، وذلك بعد سلسلة رهيبة من المعارك الطاحنة، والمجازر المروعة، وكان إعلان قيام الدولة في الكوفة نفسها، ورأى سفيان الثوري ذلك كله، وكان وقتها قد صار من علماء الكوفة وشيوخها المعروفين، إليه يفزع الناس عند النوازل والملمات طلبًا للفتيا والسؤال، وكان سفيان الثوري لا يرى الخروج على الأئمة ولو جاروا؛ من باب درء الفتنة، وارتكاب أخف الضررين من أجل دفع أعظمهما، ومنع المفاسد العظيمة، ولكنه في الوقت نفسه يرى وجوب الإنكار على الملوك والأمراء والسلاطين، والصدع بالحق مهما كان.

• ومن أجل تلك الرؤية والفكرة تعرض الإمام سفيان الثوري للكثير من المحن والفتن، حيث طلبه خلفاء الدولة العباسية الواحد تلو الآخر، وعرضوا عليه منصب القضاء، ولكنه رفض بشدة، وفر منهم؛ فقضى شطر حياته الأخير طريدًا شريدًا، لا يأويه بلد ولا صديق إلا ينتقل منه لآخر، وهكذا.
محنته مع الخليفة أبي جعفر المنصور:
• مر بناء أثناء الحديث عن محنة الإمام أبي حنيفة كيف قام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بالضغط عليه من أجل تولي منصب القضاء؛ فضربه وحبسه وتهدده، والإمام يرفض بكل شدة حتى مات قتيلا في سجون المنصور، وبعد وفاة الإمام أبي حنيفة سأل المنصور عمن يلي الأمر فوصفوا إليه سفيان الثوري، وأخبروه أنه أعلم أهل الأرض، فأرسل في طلبه مرة بعد مرة، وسفيان يرفض
القدوم عليه.
• اشتد أبو جعفر المنصور في طلب سفيان الثوري، والثوري مصر على عدم تولي القضاء، حتى اضطر سفيان للخروج من الكوفة إلى مكة، فأرسل المنصور في الأقاليم بمنادٍ يقول: من جاء بسفيان الثوري فله عشرة آلاف، فاضطر الثوري للخروج من مكة إلى البصرة، وهناك عمل في حراسة أحد البساتين، ولنا أن نتخيل حجم المعاناة النفسية التي تعرض لها إمام العصر، وهو يستخفي من

الناس، ويفر من مكان لآخر.
• لم يلبث الثوري في البصرة كثيرًا حتى عرفه الناس، وهموا به؛ فخرج منها إلى بلاد اليمن، وهناك تعرض الإمام لمحنة أشد وأنكى؛ إذ اتهموه بالسرقة، وكان غير معروف في تلك البلاد البعيدة، ورفعوه إلى الوالي، وهو الأمير معن بن زائدة، وكان مشهورًا بالدهاء والمروءة وكرم الأخلاق، فلما تكلم معه قال له: ما اسمك؟ قال سفيان: عبدالله بن الرحمن، فقال معن: نشدتك الله لما انتسبت، قال الثوري: أنا سفيان بن سعيد بن مسروق، قال الأمير معن: الثوري؟ قال: نعم الثوري. قال معن: أنت بغية أمير المؤمنين، قلت: أجل، فأطرق ساعة، ثم قال: ماشئت فأقم، ومتى شئت فارحل؛ فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها.
• طالت غربة الثوري وتشريده في البلاد أيام الخليفة المنصور، وهو يتنقل من مكان لآخر: تارة بالعراق، وأخرى بالحجاز، وثالثة باليمن، ثم قرر الثوري في النهاية أن يذهب إلى مكة حاجًا وعائدًا، وكان المنصور قد عزم على الحج في نفس السنة 158هـ، وقد وصلت إليه الأخبار أن الثوري بمكة؛ فأرسل إلى واليها يطلب منه القبض على الثوري وصلبه، وبالفعل نصبوا الخشب، وأخذوا في البحث عن الثوري لصلبه، فلما علم الثوري قام وتعلق بأستار الكعبة، وأقسم على الله عز وجل ألا يدخل المنصور مكة، وبالغ في الدعاء والقسم، وبالفعل وقعت كرامة باهرة للثوري؛ إذ مرض

المنصورة بقدرة الله عز وجل، ومات قبل أن يدخل مكة، فعد ذلك من كرامات وبركات الثوري، وهي كرامة ثابتة لا حجة لمن ردها بسبب عدم فهم ألفاظها.
• وكان السر وراء رفض الثوري للمنصب، وإيثاره للفرار، والتشرد في البلاد، أنه كان لا يصبر على أي منكر يراه، وكان يقول عن نفسه: إذا رأيت منكرًا ولم أتكلم بُلْتُ دمًا من شدة الكمد، وهو يعلم أنه سيرى كثيرًا من المنكرات، ولا يستطيع أن يتكلم؛ لذلك فضل الفرار والخوف والتشرد على أن يسكت على المنكر والباطل.
محنته مع الخليفة المهدي:
• ظن الإمام الثوري أن محنته قد انتهت بوفاة الخليفة المنصور، فعاد إلى بلده الكوفة، وبرز للناس، وأخذ في التحديث والتدريس كما هي العادة، ولكنه فوجئ بالخليفة الجديد: وهو محمد المهدي
بن الخليفة المنصور يستدعيه على وجه السرعة، فلما دخل عليه دار هذا الحوار العجيب:
قال الخليفة المهدي: يا أبا عبد الله، هذا خاتمي، فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة.
قال الإمام الثوري: تأذن لي في الكلام يا أمير المؤمنين على أني آمن، قال المهدي: نعم، قال الثوري: لا تبعث إلىَّ حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسالك.
فغضب المهدي، وهمَّ أن يقع به، فقال له كاتبه: أليس قد أمنته؟ قال المهدي: نعم:، ولكن اكتب إليه العهد بالقضاء، فكتبه وأعطاه للثوري رغمًا عنه.

• خرج الثوري من عند الخليفة المهدي ومعه عهد القضاء مختوم بخاتم الخليفة نفسه؛ فلما مر على نهر دجلة رمى العهد في النهر، وكان معه أصحابه فنهوه، ونصحوه بقبول القضاء، والعمل بالكتاب والسنة، فسفه قولهم، واستصغر عقولهم، ثم خرج هاربًا إلى البصرة، واستخفى عند المحدث يحيى بن سعيد القطان، فلما عرف المحدَّثون أخذوا في التوافد إلى بيت يحيى القطان حتى
انكشف أمره، فخرج من البصرة إلى الكوفة، واختبأ في دار عبد الرحمن بن مهدي.
• اشتد الخليفة في طلب الإمام الثوري، ووضع على رأسه جائزة مالية قدرها مائة ألف درهم، خاصة بعد أن عرف أن الثوري قد ألقى كتاب عهده في النهر، وظل الثوري يفر من بلد لآخر، وجنود الخليفة من ورائه، لا يقدرون على الإمساك به، وقضى الإمام العامين الأخيرين من حياته شريدًا طريدًا خائفًا، ومع ذلك لم يفكر للحظة واحدة أن يقبل المنصب، وسبحان الله: الإمام
العلامة، الذي هو أجدر الناس بالمنصب يفر منه، ويحتمل هذه المحن والابتلاءات، وآخرون لا يزن الواحد منهم عند الله عز وجل، ولا عند الناس جناح بعوضة من علم يلهثون وراء أدنى المناصب بكل سبيل.
• ظل الثوري في محنته حتى جاءه الفرج من عند رب السماء، وأنهى الله عز وجل محنته وآلامه وأحزانه، وأكرمه أعظم كرامة بأن توفاه إلى حضرته العلية قبل أن ينال منه من شردوه، وآذوه، والعجيب أن الثوري قد كتب إلى الخليفة المهدي يقول: طردتني وشرَّدتني وخوفتني، والله بيني وبينك، وأرجو أن يخير الله لي قبل مرجوع الكتاب، فرجع الكتاب وقد مات الإمام، وانتهت محنته.

المصادر والمراجع:
• طبقات ابن سعد: (6/ 371).
• تاريخ خليفة: (319).

• تاريخ الرسل والملوك: (8/ 58).
• حلية الأولياء: (6/ 356).
• تاريخ بغداد: (9/ 151).

• الكامل في التاريخ: (5/ 143).
• البداية والنهاية: (9/ 143).
• سير أعلام النبلاء: (7/ 229).
• تذكرة الحفاظ: (1/ 386).
• وفيات الأعيان: (25/ 386).
• شذرات الذهب: (2/ 250).

• صفة الصفوة: (2/ 85).
راجع كتاب: ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، والصادر عن دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 12-03-2025, 10:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



محنة الإمام وكيع بن الجراح
شريف عبدالعزيز الزهيري
(12)



بين يدي المحنة:
من الأصول الثابتة عند أهل العلم عامة، وأئمتهم وكبارهم خاصة، أنهم لا يحدِّثون الناس إلا بقدر ما تفهم عقولهم، وتستوعب مداركهم، لأنهم إذا تجاوزوا هذا الأصل، وعمدوا إلى تحديث الناس بقدر أكبر من عقولهم ومداركهم كان ذلك سببًا مفضيًا لضلال بعضهم، فيكون بعض العلم والعلماء سببًا - من حيث لا يشعرون - إلى فتنة الناس، وعمدة هذا الأصل في الشرع حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه عنه معاذ بن جبل رضي الله عنه في حق الله على العباد، وحق العباد على الله، والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((حَقُّ العِبَادِ على الله عز وجل ألا يُعَذِّبُهُمْ إذا لَمْ يُشْرِكُوا بهِ شَيْئًا))، فقال معاذ: ألا أبشر الناس، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا حَتَّى يَتَّكِلُوا)) وهذا من كمال حكمته صلى الله عليه وسلم، وخبرته بالناس أنهم إذا سمعوا هذه البشارة ربما اتكل بعضهم عليها، وترك العمل، ولم يخبر معاذ بهذا الحديث أحدًا قط إلا في مرض موته، إنما قاله خوفًا من إثم كتم العلم، وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟! وقد أخرجه البخاري تحت باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألا يفهموا، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم، أخرجه مسلم في مقدمة كتابه، والعالم - خاصة إذا كان إمامًا متبوعًا - إذا خالف هذا الأصل ولم يلتزم ربما تسبب في الكثير من الفتن والمحن، ولربما كانت المحن من نصيبه هو، فيكتوي بنارها، ويشنع عليه بسببها، وهو ما جرى بالضبط لصاحبنا.

التعريف به:
هو الإمام المحدث، بحر العلم، وإمام الحفظ والسرد، العالم الجوال، والعابد المجتهد، راهب العراق، وزاهد المصرين [البصرة - الكوفة]، وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، محدث العراق، وأحد أئمة
الأثر المشهورين، وأستاذ الأئمة: الشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، ولد سنة 129هـ في بيت علم ورياسة واحتشام، وأبوه كان من أعيان الكوفة وزعمائها، وكان ممن يتعانى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فوجه ولده وكيعًا لطلب العلم، وسماع الحديث منذ صباه، فسمع من الأعمش، وهشام بن عروة، والأوزاعي وابن جريج، وغيرهم، ثم انقطع إلى إمام الوقت، وبركة الزمان سفيان الثوري، فحمل عنه علمه، وسمع منه كل مروياته، حتى لقب براوية الثوري، وطاف البلاد، وسمع من الأكابر، فاجتمع عنده من أسانيد الأحاديث ورواياته المختلفة ما لم يكن لأحد من معاصريه، حتى إن أستاذه الثوري كان يدعوه وهو غلام حَدَثٌ؛ فيقول: يا رؤاسى! تعال، أي شيء سمعت؟ فيقول: حدثني فلان بكذا، وسفيان يبتسم، ويتعجب من حفظه، ويقول: لا يموت هذا الرؤاسي حتى يكون له شأن، حتى إن سفيان نفسه - على جلالة قدره، وعظم مكانته في الأمة - قد روى عنه الحديث، وصدقت فراسة سفيان رحمه الله؛ ذلك أنه لما مات سفيان الثوري سنة 166هـ جلس وكيع بن الجراح مكانه مجلس تحديثه.
وكان وكيع بن الجراح آية من آيات الله عز وجل في الحفظ والإتقان، فلقد كان مطبوع الحفظ، لا يسمع شيئًا إلا حفظه، ولا يحفظ شيئًا فينساه، أبهر الناس بقوة حفظه، وكان يستعين على ذلك

بترك المعاصي، سأله أحد تلاميذه يومًا وهو على خشرم عن دواء يأخذه حتى يقوى حفظه، فقال له: إن علمتك الدواء استعملته؟ قال: إي والله. قال: ترك المعاصي، ما جربت مثله للحفظ.
وعلى الرغم من شهرة وكيع بن الجراح، وإقبال الطلبة عليه، وتصدره لمجلس تحديث الثوري، إلا أنه كان عابدًا زاهدًا، يديم الصوم في السفر والحضر، لا يتركه أبدًا، يختم القرآن في الأسبوع الواحد
عدة مرات، مدمنًا لقيام الليل، مشتغلا بالأوراد والأذكار لا يضيع لحظة من وقته هدرًا، يقسم يومه على نفع نفسه والناس، فلقد كان يجلس لأصحاب الحديث بكرة إلى ارتفاع النهار، ثم ينصرف فيقيل، ثم يصلي الظهر، ويقصد الطريق إلى المشرعة حيث يتجمع الناس لسقيا دوابهم، فيعلمهم القرآن والفرائض، وسائر ما يحتاجونه من أمور دينهم إلى حدود العصر، ثم يرجع إلى مسجده فيصلي العصر، ثم يجلس يدرس القرآن، ويذكر الله إلى آخر النهار، ثم يدخل منزله، يتناول إفطاره، وبعد صلاة العشاء يصف قدميه لقيام الليل، ثم ينام ويقوم، وهكذا حتى وقت السحر.
ولقد عرض الرشيد منصب القضاء على وكيع عدة مرات فرفض بشدة، وكان منقبضًا عن السلطان ومجالسه مثل أستاذه الثوري، بل كان مجافيًا حتى لمن يتلبس بشيء من أمور السلطان، فلقد هجر أقرب أصدقائه - وهو حفص بن غياث - لما تولى منصب القضاء، وهكذا شأن العلماء الربانيين في كل زمان ومكان.
ثناء الناس عليه:
يتبوأ الإمام الكبير وكيع بن الجراح مكانة خاصة ومميزة في طبقات حفاظ الأمة، وثبت أعلامها، وعلى الرغم من أن العصر الذي كان يعيش فيه وكيع بن الجراح زاخر بالكثير من الحفاظ والأئمة
الأعلام، إلا أن وكيعًا بن الجراح كان علمهم المقدم، وأوفرهم نصيبًا في الثناء والمدح، وهذه طائفة من أقولهم:
قال الإمام أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدًا أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع، وما رأيت مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب، مع خشوع وورع.

هذا على الرغم من أن الإمام أحمد قد شاهد الكبار: مثل هشيم، وابن عيينة، ويحيى القطان، وأمثالهم، ولكن كان أحمد يعظم وكيعًا ويفخمه، وكان أحمد يفضل وكيعًا على ابن مهدي، ويزيد بن
هارون.
قال ابن عمار: ما كان بالكوفة في زمان وكيع أفقه ولا أعلم بالحديث من وكيع، وكان جهبذًا، لا ينظر في كتاب قط، بل يملي من حفظه.
قال عبد الرزاق بن همام: رأيت الثوري وابن عيينة ومعمرًا ومالكًا، ورأيت ورأيت، فما رأيت عيناي قط مثل وكيع.
قال يحيى بن معين: ما رأيت أفضل من وكيع، فقيل له: ولا ابن المبارك؟ قال: قد كان ابن المبارك له فضل، ولكن ما رأيت أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة، ويحفظ حديثه، ويقوم الليل، ويسرد الصوم.
سئل ابن المبارك: مَنْ رجل الكوفة اليوم؟ فقال: رجل المصرين - يعني الكوفة والبصرة - وكيعًا بن الجراح.
سئل أبو داود: أيهما أحفظ: وكيع أو عبد الرحمن بن مهدي؟ قال: وكيع أحفظ وعبد الرحمن أتقن، والتقيا بعد العشاء في المسجد الحرام، فتواقفا حتى سمعا أذان الصبح.
قال الحسين بن محمد: كان وكيع يكونون في مجلسه كأنهم في صلاة، فإن انكسر من أمرهم شيئًا انتعل ودخل داره.

قال سلم بن جنادة: جالست وكيعًا سبع سنين، فما رأيته بزق، ولا مس حصاة، ولا جلس مجلسًا فتحرك، وما رأيته إلا مستقبل القبلة، وما رأيته يحلف بالله.
قال مروان بن محمد: ما رأيت فيمن رأيت أخشع من وكيع، وما وصف لي أحد قط إلا رأيته دون الوصف إلا وكيعًا، رأيته فوق ما وُصِفَ لي.
قال إسحاق بن راهويه: حفظي وحفظ ابن المبارك تكلف، وحفظ وكيع أصلي، قال وكيع فاستند، وحدث بسبعمائة حديث حفظًا.
محنته:
المحنة التي تعرض لها وكيع بن الجراح محنة غريبة، تورط فيها بمخالفته من حيث لا يدري للأصل الذي قررناه في مقدمة الكلام، ألا وهو مخاطبة الناس على قدر عقولهم وفهومهم، وإن كان لم يُرِدْ إلا الخير، وأصل هذه المحنة يرجع إلى السنة التي حج فيها وكيع بن الجراح، فلما علم الناس في مكة بمجيئه، وهو حافظ العراق، اجتمعوا عليه، وعقدوا له مجلسًا في الحديث، فأخذ وكيع في تحديثهم، فلما وصل إلى الحديث الذي رواه عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله البهي عن أبي بكر الصديق أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فأكب عليه، فقبله، وقال: بأبي وأمي، ما أطيب حياتك وميتتك، ثم قال عبد الله البهي: وكان ترك يومًا وليلة حتى ربا بطنه، وانثنت خنصراه، وهذا الحديث قد حكم عليه أهل العلم بأنه منقطع ومنكر، وعلته عبد الله البهي، وهو مصعب بن الزبير، وهو لم يدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
فلما سمعت قريش هذا الحديث هاجت وماجت، وظن أهلها أن الحديث ينتقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع رجالات قريش عند واليها - وهو العثماني - وقرروا طلب وكيع بن

الجراح وقتله، وقد حبسوه استعدادًا لذلك، وقيل إن الخليفة هارون الرشيد كان حاجًا هذا العام، فلما علم بالخبر استفتى العلماء في شأنه، فأفتى ابن أبي رواد بقتله، واتهم وكيعًا بالنفاق، والغش للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الإمام سفيان بن عيينة قال: لا قتل عليه، رجل سمع حديثًا فرواه، فتركوا وكيعًا وخلوا سبيله.
خرج وكيع من مكة متجهًا إلى المدينة، وندم العثماني والي مكة على تركه بشدة، وقرر أن يقتل وكيعًا بأي سبيل، فأرسل أهل مكة إلى أهل المدينة بالذي كان من وكيع، وقالوا: إذا قدم عليكم، فلا تتكلوا على الوالي، وارجموه حتى تقتلوه، فلما عرف بعض علماء المدينة مثل سعيد بن منصور هذا الخبر، وعزم أهل المدينة على قتل وكيع - أرسل إليه بريدًا عاجلا أن لا يأتي المدينة - ويغير مساره إلى طريق الربذة، فلما وصل البريد إلى وكيع، وكان على مشارف المدينة، عاد إلى الكوفة.
بعد هذه الحادثة لم يستطع وكيع بن الجراح أن يذهب إلى الحج مرة أخرى، وحيل بينه وبين مكة والمدينة، وخاض بعض الجهال في حقه، واتهموه بالتشيع والرفض، ولكنه تجاسر سنة 197هـ، وحج بيت الله الحرام؛ فقدر الله عز وجل وفاته بعد رجوعه من الحج مباشرة؛ فمات ودفن بفيد على طريق الحج بين مكة والكوفة.

هذه المحنة التي تعرض لها وكيع بن الجراح، وكادت تودي بحياته، وأثرت على سمعته، وأدت لمنعه من إتيان مكة والمدينة سنوات كثيرة، إنما حدثت له بسبب زلة الإمام العالم نفسه، فما كان لوكيع بن الجراح أن يروى هذا الخبر المنكر المنقطع الإسناد، والقائمون عليه معذورون، ولربما كانوا مأجورين، لأنهم تخيلوا من إشاعة هذا الخبر المردود انتقاصًا من قدر النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد

كان وكيع يتأول هذا الخبر قائلا: إن عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - منهم عمر بن الخطاب - قالوا لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد الله أن يريهم آية الموت، ولو على فرض صحة الخبر فليس فيه قدح بمقام النبوة، فعند التأمل فيه نجد أن الحي قد يربو جوفه، وتسترخي مفاصله تحت تأثير الأمراض، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يوعك كرجلين من الناس، وكانت الشقيقة تأخذ رأسه فيمكث اليوم واليومين لا يخرج للناس من شدة الوجع، وكما جاء في الخبر الصحيح: ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبيَاءَ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَل))، والمحذور والممنوع في حق النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء تغير أجسادهم ورائحتهم، وأكل الأرض لأجسادهم بعد موتهم، بل هم في أطيب ريح من المسك، وهو وسائر إخوانه من الأنبياء أحياء في قبورهم.
وما سقناه من دفاع في الاعتذار عن إمام من أئمة المسلمين، إنما نقلناه بتصرف من دفاع إمام الحجاز سفيان بن عيينة، والحافظ الذهبي في سيره، وهذا لا يغير من حقيقة ثابتة على كل إمام وداعية وعالم أن يراعيها عند احتكاكه مع الناس، وتصديه للدعوة والإرشاد، والإفتاء والتعليم وهي مراعاة عقول الناس عند الخطاب، لذلك كره أهل العلم رواية الأثار والأحاديث التي تؤدي إلى سوء فهم، أو تكريس بدعة عند أصحابها، فكرهوا رواية أحاديث الكبائر وسلب الإيمان عن مرتكبها عند الخوارج؛ لأنهم يفهمون الأحاديث على وجه الخطأ، ولا يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم، فيتخذون تلك الأحاديث ذريعة ودليلا على تكفيرهم للمسلمين، وكذا الأمر مع أحاديث الرجاء والمغفرة، وفضل كلمة التوحيد عند المرجئة، والأمثلة على هذه القاعدة كثيرة، والعالم عندما لا يلتزم بتلك القاعدة فإنه يجر على نفسه، وعلى غيره الكثير من المحن والبلايا.

المصادر والمراجع:
• طبقات ابن سعد: (6/ 394).
• تاريخ خليفة: (467).
• سير أعلام النبلاء: (9/ 140).
• تاريخ بغداد: (13/ 466).
• البداية والنهاية: (10/ 261).
• حلية الأولياء: (8/ 368).
• تذكرة الحفاظ: (1/ 306).

• صفة الصفوة: (2/ 98).
• النجوم الزاهرة: (2/ 153).

• شذرات الذهب: (1/ 349).
ترويض المحن: دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009م





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 13-03-2025, 10:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



الإمام البخاريُّ (1/2) حياتُه وأثرُه العلميُّ ومحنتُه
شريف عبدالعزيز
(13)



التعريف به
كبيرُ الحفَّاظ وإمام الأئمَّة, أمير المؤمنين في الحديث, الحافظ الحفيظ الشَّهير, المميز الناقد البصير, فخر الأمة, الإمام الهمام الذي شهدت بحفظه العلماء الأثبات, واعترف بضبطه المشايخ الثّقات, حجة الإسلام وعلمه المقدم, العالم العامل الكامل أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاريِّ.
وُلِدَ الإمام البخاريُّ يومَ الجمعة بعدَ الصلاة لثلاث عشرة ليلةٍ خلت من شوال سنة 194هـ بمدينة بخارى, وكان أسمرَ نحيف الجسد ليس بالطويل ولا بالقصير.
بيئته العلمية وأثرها عليه
البخاريُّ كما قال عنه القسطلانيُّ أحدُ شراح صحيحه: "قد ربا في حجر العلم، حتى ربا, وارتضع ثدي الفضل, فكان على هذا اللبا".
فلا شكَّ أنَّ طيب أصل البخاريِّ وبيئته العلميَّة الخالصة كان له أثرٌ كبير وخطير في توجه البخاري في حياته, فأبوه إسماعيل بن إبراهيم كان من الثِّقات، سمع من مالك وحمَّاد بن زيد وابن المبارك,
وأمُّه كانت من العابدات الصالحات, صاحبةَ كرامات عظيمة, فقد كفَّ بصرُ البخاريِّ وهو طفل صغير، فقامت تدعو وتُصلِّي وتبكي وتبتهل, حتى رد الله -عزَّ وجلَّ- بصر ولدها، وذلك من كمال حكمته -عزَّ وجلَّ- لما كان ينتظر هذا الصبيَّ من مستقبلٍ مبهر في سماء العلوم والمعارف.

وقد مات أبوه وهو في ريعان شبابه, فنشأ البخاريُّ يتيماً في حجر أمه, وكانت أمه عاقلة صالحة فدفعت به إلى طريق العلم والحديث منذ نعومة أظافره, وقد لاحظت أمُّه أنه يمتلك حافظة فريدة, فدفعت به إلي حِلَق السَّماع وهو في سن السابعة, وقيل وهو في سن العاشرة, فكان يجلسُ إلى المعلم في الكُتَّاب حتى العصر، بعدها ينطلقُ إلي مجلس الإمام الداخليِّ من كبار محدثي بخارى، ليسمع منه الحديث ويكتبه.
ظهرت أولى علامات نبوغه ونجابته المبكرة، وهو في سن الحادية عشرة عندما أصلح رواية حديثٍ لشيخه الدَّاخلي, ورجع الداخليُّ لقوله, ولما بلغ السادسة عشر كان قد حفظ كتبَ ابن المبارك
ووكيع.
رحلاته العلمية
الرحلة في اصطلاح المحدِّثين: هي السَّفر الذي يَخرج فيه الطالبُ, لطلب حديث, أو علوِّ إسناد, وكان الصحابةُ هم القدوة في ذلك, فقد سافر جابرُ بن عبد الله -رضى الله عنهما- شهراً لطلب علوِّ إسناد حديث, من عبد الله بن أنيس, وعلى هذا الهدى سار التابعون, قال أبو العالية: "كنَّا نسمع الراوية من البصرة عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما نرضى حتى ركبنا
إلي المدينة, فسمعناها من أفواههم", ومن آداب الرحلة أن يبدأ طالبُ العلم بشيوخ بلده فيكتبَ عنهم, حتى يُحكمَ حديثهم, ثم يرحلَ إلى الأمصار, يُشافه الشيوخ.
البخاريُّ شأنه في طلب العلم شأن أهل عصره, فقد خرج لطلب العلم سنه 210هـ أي في السادسة عشرة, عندما خرج إلى الحجِّ مع أمِّه وأخيه, وعاد أخوه بأمِّه إلي بخارى, وبقي هو لطلب العلم, وظلَّ بمكة قرابة العامين؛ ليسمع الحديث من علماء مكة وشيوخها, ثم توجه إلي المدينة سنة 212هـ وسمع من علمائها, ثم توجه إلى البصرة, وقد تكررت رحلته إلي البصرة أربع مرات,

وكذلك الكوفة دخلها عدة مرات ثم دخل بغداد ومنها إلى الشام ثم إلى مصر, قال الخطيبُ البغداديُّ: "رحل البخاريُّ إلي محدِّثي الأمصار, وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق كلها، والحجاز والشام ومصر، وورد بغداد دفعاتٍ". حتى وصل عددُ شيوخه الَّذين كتب عنهم زيادةً عن ألف شيخ, قسمهم في كتبه إلى خمس طبقات.
براعته العلميَّة
- تميّز الإمام البخاريُّ بالعديد من المواهب العلمية الفذَّة، التي جعلته أمير المؤمنين في الحديث، وأشهرَ علماء الإسلام فيه بلا منازعة، وصاحبَ الختم في صناعة الحديث كما قال المستشرقون, من
أهمِّ هذه المواهب:
قوةُ حفظه

فلقد رزق الله -عزَّ وجلَّ- البخاريَّ حافظةً فريدة من نوعها ندر أن يُوجد مثلها بين البشر، فلقد كان يحفظ مئات الآلاف من الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة, وذلك وهو في صدر شبابه, فلقد قال عنه أقرانه في السَّماع: "كان البخاريُّ يختلف معنا إلى السماع, وهو غلام لا يكتب, حتى أتى على ذلك أيامٌ, وكنا نقول له فى ذلك, فقال: إنَّكم قد أكثرتم عليَّ, فاعرضوا عليَّ ما كتبتم, فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسةَ عشر ألف حديث, فقرأها كلَّها عن ظهر قلب, حتى جعلنا نُحكم كتبنا من حفظه, ثم قال: أترونَ أنِّي أختلف هدراً, وأضيع أيامي؟".
ومن أوضح الأمثلة على قوة حفظه ما فعله مع خُذّاق المحدِّثين في بغداد، عندما اجتمع عليه عشرةٌ منهم، وقلب كلُّ واحد منهم أسانيد عشرة أحاديث، وأدخلوا المتون والأسانيد في بعضهما البعض, فقام البخاريُّ بإصلاح الأحاديث من حفظه, وردِّ الأسانيد الصحيحة إلى متونها الأصليَّة, والعجبُ لم يكن في أصلاحه للخطأ وردِّه للصواب, ولكن العجب في حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقَوه عليه مرةً واحدة, ثم إصلاحه للخطأ كله جميعاً في مجلس واحد، كأنَّه حاسوب ذو ذاكرة جبارة، وقد تكرر الموقف معه في سمرقند وكانوا هذه المرة أربعمائة محدِّث, وقاموا بإدخال

إسناد الشام في إسناد العراق, وإسناد اليمن في إسناد الحجاز, فما تعلَّقوا منه بسقطة.
وكان من قوة حفظه يسمعُ الحديث في البصرة ويكتبه في الشام, ويسمعه في الشام ويكتبه في مصر, وكان يأخذ الكتاب فيطَّلع عليه مرة واحدة فيحفظه عن ظهر قلب، وكان أهل المعرفة في البصرة يَعدون خلفه في طلب الحديث، وهو شابٌّ حتى يغلبوه على نفسه, ويُجلسوه في بعض الطريق, فيجتمعَ عليه ألوف، أكثرُهم ممن يكتب عنه, وكان وقتَها شاباً لم ينبت شعرُ وجهه.

2- براعته في معرفة العلل

العلة اصطلاحاً: هي سببٌ غامضٌ خفيٌّ يقدح في صحة الحديث, مع أنَّ الظاهر السلامة منه, ومعرفة العلل من أشرف وأدقِّ علوم الحديث, ولا يقدر عليها إلا الجهابذة من العلماء, فهذا الإمامُ الكبير عبدُ الرحمن بن مهديّ شيخ الشافعيّ، يقول: "لئن أعرف علَّة حديث, هو عندي أحبُّ إليَّ من أن أكتب عشرين حديث ليس عندي".
وهذا الفنُّ الدقيق من فنون مصطلح الحديث، لم يبرع فيه إلا قلة نادرة من العلماء, رأسُ هؤلاء الجهابذة؛ الإمامُ البخاريُّ الذي لم يُلحق شأوه في هذا المضمار.
قال الإمام الترمذيُّ: "لم أرَ أحداً في العراق ولا بخراسان، في معرفة العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد, أعلم من محمد بن إسماعيل".
وقال أحمد بن حمدون الحافظ: "رأيت البخاريَّ في جنازةٍ، ومحمد بن يحيى الذُّهليُّ, يسأله عن الإسناد والعلل, والبخاريُّ يمرُّ فيه مثل السهم، كأنه يقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص:1]".
وكان الإمام مسلم يقول له: "دعني أُقبِّلْ رجليكَ يا أستاذَ الأستاذين, وسيِّدَ المحدِّثين, وطبيب الحديث في علله".

3- احتياطه في نقد الرجال
- نقد الرجال أو جرح الرُّواة من الأمور الصعبة في علم الحديث, إذ به ينقسم الحديث إلى صحيح وضعيف, وهو يحتاجُ إلى أقصى درجات التَّديُّن والتَّقوى والورع والتَّحرُّز والاحتياط والتَّجرُّد من الهوى, وعلم الجرح والتعديل من أهمِّ علوم الحديث وأكثرها شهرةً وإثارةً للجدل بين العلماء من السَّلف والخلف, والناس في غالب العصورلم يفهموا هذا العلم جيّداً, وعدُّوه من قبيل الاغتياب والخوض في الأعراض, قال ابنُ خلاد للإمام يحيى بن سعيد القطَّان: "أما تخشى أن يكونَ هؤلاء الَّذين تركت حديثَهم خصماءك عند الله يومَ القيامة, فقال: لئن يكونوا خصمائي, أحبُّ إلى من
أن يكون خصمي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لي: لِمَ لَمْ تذُبَّ الكذبَ عن حديثي؟!".
- ولقد اتَّبع البخاريُّ منهجاً راقياً فريداً في نقد الرجال، دلَّ على منزلته العليا في الديانة والإخلاص والورع, فلقد كان ينتقي ألفاظ نقده بأدقِّ الكلمات التى تُحقق المراد، ولا تقدحُ في الهيئات, مثلُ أن يقولَ فيمن ترك الراويةَ عنه كلماتٍ من عينة: أنكره الناس, المتروك, السَّاقط, فيه نظرٌ, سكتوا عنه, تركوه، وهكذا. .. ومن النادر جداً أن يثبت عن البخاريِّ أنه قال عن رجلٍ بأنَّه وضَّاع,
أو كذَّاب, ومن أشدِّ كلمات الجرح عند البخاريِّ أن يقول: مُنكر الحديث.
وقد قال له محمد بن أبي حاتم الورَّاق: "إنَّ بعض الناس يَنقمون عليك في كتاب (التاريخ) ويقولون: فيه اغتيابُ الناس", فقال: "إنَّما روينا ذلك روايةً لم نقُله من أنفسنا, ولا يكون لي خصمٌ في الآخرة, فما اغتبتُ أحداً منذ علمي أنَّ الغيبة تضرُّ أهلها".

4- فقهه
- الإمام البخاريُّ لم يكن مجرَّد صاحبِ حديثٍ فحسب, بل كان من فقهاء الأمة المعدودين، وتراجمُ كتابه الأشهر (الصحيح) خيرُ دليلٍ على فقهه, حتى اشتهر من قول العلماء: فقه البخاريِّ في تراجمه, والبعضُ ينسبه إلى مدرسة الشَّافعيِّ في الفقه, ولكن الحقَّ الذي لا مِراء فيه أنَّه مجتهدٌ مطلَق قد استكمل أدواته, واختياراتُهُ العلميَّة والفقهيَّة جديرة بأن تكون مذهباً مستقلاً في الفقه, ولكنها أُلحقت بمدرسة فقهاء الأثر وأصحاب الحديث.

- وقد بلغت براعةُ البخاريِّ الفقهية مبلغاً كبيراً، بحيث إنَّه قُرن بالأئمة الكبار مثل مالك وأحمد والشَّافعيِّ وإسحاق, قال بندارُ: "هو أفقهُ خلقِ الله في زماننا", وقد سُئل قتيبة عن طلاق السَّكران, فدخل محمد بن إسماعيل، فقال قُتيبة للسائل: "هذا أحمدُ بن حنبل, وإسحاق بن راهويه, وعليُّ بن المديني, قد ساقهمُ الله إليك", وأشار إلى البخاريِّ, وقال أبو مصعب الزُّهريِّ: "محمد بن إسماعيل أفقهُ عندَنا وأبصرُ, من أحمد بن حنبل", فقيل له: جاوزت الحدَّ, فقال: "لو أدركتَ مالكاً ونظرتَ إلى وجهه ووجه محمد بن إسماعيل, لقلت: كلاهما واحدٌ في الفقه والحديث".
وكان أهلُ المعرفة في خراسان ونيسابور يعُدُّون محمد بن إسماعيل أفقه من إسحاق بن راهويه.
أخلاقه وعبادته
من الأمور الثَّابتة في سجل علماء الأمة الربَّانيِّين, أن لن تجد أحداً منهم مسرفاً على نفسه, أو مفرطاً في حق ربِّه, أو سيئ الأخلاق مع الناس, فعلماءُ الأمة الكبار وأئمَّتها الأعلام قد كمُل حالهم علماً وعملاً وخلقاً وديانة, والبخاريُّ على نفس الدرب يسير, فلقد كان زاهداً عابداً كريماً سمحاً متواضعاً شديد الورع.


قال ابنُ مجاهد: "ما رأيتُ بعينيَّ منذ ستين سنةً أفقهَ, ولا أورعَ ولا أزهدَ في الدنيا من محمد بن إسماعيل", فقد كان البخاريُّ يأتي عليه النهار, فلا يأكل فيه شيئاً سوى لوزتين أو ثلاثة, كان ذات مرةٍ بالبصرة فنفدت أمواله، فمكث في بيته عدة أيام لم يخرج، لأنه لم يجد ما يسترُ به بدنه, ورغم زهده ورقَّة حاله، إلا أنه كان جواداً سمحاً كثير الصَّدقة, واسعَ الصَّدر, عظيم الاحتمال, سهل الجناب, يُقابل الإساءة بالإحسان, يترك كثيراً من الحلال خشية الشُّبهة والوقوع في الحرام, والأمثلة على ذلك كثيرةٌ، ومنها:
أنَّه كان في بيته ذاتَ مرَّة, فجاءت جاريتُه، وأرادت دخولَ المنزل, فعثرت على محبرة بين يديه, فقال لها كيف تمشين؟ قالت: إذا لم يكن طريق, كيف أمشي؟ فبسط يديه, وقال: اذهبي, فقد أعتقتك, فقيل له: يا أبا عبد الله, أغضبتك الجارية؟ فقال: إن كانت أغضبتني, فقد أرضيتُ نفسي بما فعلت.
قال البخاريُّ يوماً لأبي معشر الضَّرير: اجعلني في حِلٍّ يا أبا معشر, فقال: من أيِّ شيءٍ؟ فقال: رويتُ حديثاً, فنظرتُ إليك وقد أعجبتَ به وأنت تُحرِّك رأسك ويديك، فتبسَّمتُ من ذلك, قال: أنتَ في حِلٍّ, يرحمُك اللهُ يا أبا عبد الله.
قام يُصلِّي يوماً فلدغه زنبور سبعةَ عشر مرة, فلم يَقطع صلاته ولمَّا عوتب في ذلك، قال: كنت في سورةٍ, فأحببتُ أن أُتِمَّها, وكان يُصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة, أما في رمضان فكان له نهجُه التعبديُّ الخاص به, فقد كان يجتمع إليه أصحابه, فيُصلي بهم, ويقرأُ في كل ركعة عشرين آية, وكذلك إلى أن يختم القرآن, وكان يقرأ في السَّحر, ما بين النِّصف إلى الثُّلث من القرآن,

فيختم عند السَّحر, في كلِّ ثلاث ليال, وكذلك يختمُ بالنَّهار في كل يومٍ ختمة, ويكون ختمُه عند الإفطار كلَّ ليلة، ويقول: عند كلِّ ختمةٍ دعوةٌ مستجابة.
كان البخاريُّ رغم مكانته العلمية السامقة، وانشغاله الدائم بالدرس والعلم والرحلة، إلا أنه كان يشترك في أمور المسلمين العامَّة وشئونهم الهامَّة, فلقد كان يُرابط بالثُّغور وينتظم في حلقات الرِّماية, ويحملُ فوق رأسه الآجُرَّ في بناء الربط.

ثناء العلماء عليه
وكما رزق اللهُ -عزَّ وجلَّ- الإمام البخاريَّ فتوحاً ربَّانيَّة في العلم والحفظ والفهم والفقه والزُّهد والورع والعبادة, فقد رزقه محبَّةً وقَبولاً كبيرين في قلوب العباد, فكان البخاريُّ كلَّما حلَّ ببلد أو مدينة, ازدحم عليه النَّاسُ بصورةٍ تفوق الوصفَ والبيان, وكان يخرجُ إليه عامَّة أهل البلاد, ويَنثرون عليه الورد والدراهم, ولما رجع البخاريُّ إلي بلدته بعد رحلته الدِّراسيَّة, نُصبت له القباب على فرسخ من البلد, وخرجُ إليه أهل البلد جميعاً.
وهذه طائفةٌ من ثناء العلماء على مرِّ العصور على الإمام البخاريِّ:
قال قتيبةُ بن سعيد: "جالست الفقهاء, والزُّهَّاد, والعُبَّاد, فما رأيتُ منذ عقلتُ مثل محمد بن إسماعيل, وهو في زمانه؛ كعمر في الصَّّحابة".
قال أبو حاتم الرازيُّ: "لم تُخرج خراسانُ قط, أحفظَ من محمد بن إسماعيل, ولا قَدِم منها إلى العراقِ أعلمُ منه".

قال الإمام الدَّارميُّ: "قد رأيتُ العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق, فما رأيتُ فيهم أجمعَ من محمد بن إسماعيل, فهو أعلمُنا وأفقُهنا وأكثرنا طلباً".
قال ابنُ خزيمة: "ما تحتَ أديم السَّماء أعلمُ بالحديث من محمد بن إسماعيل".
قال أبو عمر الخفاف: "هو أعلمُ بالحديث من أحمد وإسحاق وغيرهما بعشرين درجة, ومن قال فيه شيئاً فعليه منِّي ألفُ لعنة, فإنَّك لو دخلتَ عليه وهو يُحدِّث لملئت منه رعباً، فمحمدٌ هو التَّقيُّ النَّقيُّ".
قال أبو سهل الشّافعي: "دخلتُ البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها, كلَّما جرى ذكرُ محمد بن إسماعيل فضَّلوه على أنفسهم, وقد سمعتُ أكثر من ثلاثين عالماً من علماء مصر يقولون: حاجتُنا من الدُّنيا النظر في تاريخ محمد بن إسماعيل".
قال الإمام مسلم للبخاريِّ يوماً: "دعني أُقبِّل رِجليك يا أستاذَ الأستاذين, وسيدَ المحدِّثين, وطبيبَ الحديث في علله".
قال سليم بن مجاهد: "لو أنَّ وكيعاً وابن عيينة وابن المبارك كانوا في الأحياء، لاحتاجوا إلى محمد بن إسماعيل".
قال الإمامُ التِّرمذيُّ: "لم أرَ بالعراق ولا بخراسانَ في معنى العِلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد، أعلمَ من محمد بن إسماعيل".

قال عبدُ الله بن حماد: "وَدِدْتُ أنِّي شعرةٌ في صدر محمد بن إسماعيل".
قال الحافظُ ابن حجر: "ولو فتحتُ باب ثناء الأئمة, ممَّن تأخر عن عصره, لفني القرطاس, ونفدت الأنفاس, فذاك بحرٌ لا ساحل له".
قال العلامة العينيُّ الحنفيُّ: "الحافظ الحفيظُ الشهير, المميز الناقد, البصير, الذي شهدَتْ بحفظه العلماءُ الثقات, واعترف بضبطه المشايخ الأثبات, ولم يُنكر فضله علماء هذا الشأن, ولا تنازَع في صحة تنقيده اثنان, الإمام الهمام, حجةُ الإسلام, أبو عبد الله؛ محمد بن إسماعيل البخاريُّ".
قال الشيخُ نور الحق الدهلويُّ: "ما كان له مثيلٌ في عصره في حفظ الأحاديث، وإتقانها، وفهم معاني الكتاب والسنة, وحِدَّة الذِّهن, وجودة القريحة, ووفور العفَّة, وكمال الزُّهد, وغاية الروع, وكثرة الاطِّلاع على طرق الحديث وعللها, ودقَّة النَّظر, ورقَّة الاجتهاد, واستنباط الفروع من الأصول".
قال النوويُّ في خاتمة ترجمة البخاريِّ: "فهذه أحرفٌ من عيون مناقبه وصفاته, ودرر شمائله وحالاته, أشرتُ إليها إشارات, لكونها من المعروفات الواضحات, ومناقبُه لا تُستقصى؛ لخروجها على أن تُحصى, وهي منقسمةٌ إلى حفظ ودراية, واجتهادٍ في التَّحصيل ورواية, ونُسك وإفادة, وورع وزِهادة, وتحقيقٍ وإتقانٍ وتمكُّن وعرفان, وأحوال وكرامات وغيرها من أنواع الكرامات".
قال ابنُ كثير: "البخاريُّ الحافظ, إمامُ أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه, والمقدم على سائر أترابه وأقرانه, وكتابه الصَّحيح يُستقى بقراءته الغمام –وهو أمرٌ محدث في القرون المتأخرة–

وأجمع العلماء على قبوله, وصحة ما فيه, وكذلك سائر أهل الإسلام, ولو استقصينا ثناءَ العلماء عليه في حفظه وإتقانه وعلمه وفقهه وورعه وزهده وعبادته, لطال علينا؛ فقد كان في غاية الحياء والشَّجاعة والسَّخاء والورع والزُّهد في الدُّنيا, دار الفناء, والرَّغبة في الآخرة دار البقاء".
قال القسطلانيُّ: "هو الإمام, حافظ الإسلام, خاتمة الجهابذة, النقاد والأعلام, شيخ الحديث, وطبيب علله في القديم والحديث, وإمام الأمة عجماً وعرباً, ذو الفضائل التي سارت السّراة بها شرقاً وغرباً, الحافظ الذي لا تغيب عنه شاردة, والضابط الذي استوى لديه الطارفة والتالدة".
وخلاصة هذه الأقوال ما قال الشيخُ عبد السلام المباركفوريُّ: "إنَّ الاستدلال على تبحُّر إمام المحدثين في العلم وذكائه وقوة اجتهاده وسيلان ذهنه, بأقوال المتأخِّرين, كرفع السِّراج أمام الشمس".
البخاريُّ وكتابه الجامع الصَّحيح
للبخاريّ مؤلفاتٌ كثيرة في الحديث والتاريخ والفقه والعقيدة، وغيرها من فروع العلم، غير أنَّ أشهر كتبه على الإطلاق، بل أشهرُ ما ألفه عالمٌ مسلم، وأصحُّ كتاب على وجه الأرض، بعد القرآن الكريم، هو صحيحُ البخاريِّ الذي أصبح رمزاً للصحة وعنواناً للكمال والدِّقَّة بين المسلمين أجمعين على مرِّ العصور.
ذكر الحافظُ ابن حجر في مقدمة كتابه فتح الباري أسباباً ثلاثة، دعت الإمامَ البخاريَّ رحمه الله إلى تأليف كتابه الجامع الصَّحيح:


أحدها: أنه وجد الكتب التي أُلِّفت قبله بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التَّصحيح والتَّحسين، والكثير منها يشمله التَّضعيف فلا يقال لغثِّه سمين, قال: فحرك همته لجمع الحديث الصحيح، الذي لا يرتاب في صحته أمين.
الثاني: قال: وقوّى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه أميرِ المؤمنين في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظليّ، المعروف بابن راهوية، وساق بسنده إليه أنه قال: "كنَّا عند إسحاق بن راهوية، فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الصَّحيح".
الثالث: قال: ورَوينا بالإسناد الثابت عن محمد بن سليمان بن فارس، قال سمعت البخاريَّ يقول: رأيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وكأنِّي واقف بين يديه، وبيدي مروحةٌ أذُبُّ بها عنه, فسألتُ بعض المعبِّرين، فقال لي: "أنتَ تَذُبُّ عنه الكذبَ، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصَّحيح".
ولم يألُ البخاريَّ -رحمه الله- جهداً في العناية بهذا المؤلف العظيم. يتَّضح مدى هذه العناية مما نقله العلماء عنه فنقل الفربري عنه أنه قال: "ما وضعتُ في كتابي الصَّحيح حديثاً إلا اغتسلتُ قبل ذلك وصليتُ ركعتين"، ونقل عمر بن محمد البحيريُّ عنه أنه قال: "ما أدخلتُ فيه -يعني الجامع الصحيح- حديثاً إلا بعد ما استخرتُ الله تعالى وصليتُ ركعتين وتيقَّنت صحته". ونقل عنه عبدُ الرحمن بن رساين البخاريّ، أنه قال: "صنَّفت كتابي الصَّحيح لست عشرة سنة، خرَّجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى".



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 14-03-2025, 11:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



الإمام البخاريُّ (2/2) محنة البخاريِّ ووفاته
شريف عبدالعزيز
(14)



الكلام عن محنة البخاري يُثير في القلب شُجونًا وأحزانًا وآلامًا كثيرة؛ ذلك لأنَّ هذه المحنة بالذات ما زالت أصداؤها تتردَّد لوقتنا الحاضر، ولكن بصورة مختلفة وبأوجه جديدة، وما زالت ضروبُ هذه المحنة وأقرانها تقع كلَّ يوم وفي كل عصر وجيل، ولُبُّ هذه المحنة وأساسها الغيرة والحسد بين الأقران، فهي -كما قال البخاريُّ رحمه الله نفسه في وصيته-: "لا يسلم عالمٌ متقدِّم على أقرانه من ثلاثة أمور: طعنُ الجهلاء وملامةُ الأصدقاء وحسدُ العلماء، وهو عينُ ما جرى للبخاريِّ في محنته".
وبدأت فصول محنة البخاريِّ عندما توجه إلى مدينة نيسابور، وهي من المدن الكبيرة في خراسان، فلمَّا وصل إليها خرج إليه أهلُها عن بكرة أبيهم، فلقد استقبله أربعةُ آلاف رجل رُكبانًا على الخيل سوى من ركب بغلاً أو حمارًا، وسوى الرِّجال، وخرج الوُلاة والعلماء كافة لاستقباله قبل أن يدخل المدينة بمرحلتين أو ثلاثة [قرابة المائة كيلو متر مربع] وبالغوا في إكرامه بصورةٍ لم تكن لأحد قبله ولا حتى بعده.

ومن روعة الاستقبال وعظيم التقدير والاحترام الَّذي وجده البخاريُّ بنيسابور، قرَّر المقام فيها لفترةٍ طويلة واتَّخذ فيها دارًا، وأخذ علماءُ نيسابور في حضِّ طلبة العلم على السَّماع من البخاريِّ،

وكان رأسُ علماء نيسابور وقتها الإمامُ محمد بن يحيى الذهلي، وكان رأسًا متبوعًا مطاعًا ليس في نيسابور وحدها بل في خراسان كلِّها، الناسُ يطيعونه أكثر من طاعتهم للخليفة والوالي، وكان الذُّهليُ ممن حض الناس على الجلوس للبخاريِّ وحضور مجالسه ودروسه، والذُّهليُّ نفسه كان ممن استفاد كثيرًا من البخاريِّ، حتى إنه كان يمشي خلف البخاريِّ في الجنائز، يسأله عن الأسامي والكُنى والعِلل، والبخاريُّ يمرُّ فيه مثل السَّهم.
ومع استقرار البخاريِّ في نيسابور، أخذت مجالسُ التحديث تخلو شيئًا فشيئًا من طلاب الحديث لصالح مجلس البخاريِّ حتى ظهر الخلل في مجلس كبير علماء نيسابور محمد بن يحيى الذُّهلي نفسه، عندها تحرَّكت النوازعُ البشرية المركوزة في قلوب الأقران، فدبَّ الحسد في قلب الذُّهليِّ وتسلَّلت الغيرةُ المذمومة إلى نفسه شيئًا فشيئًا، حتى وصل الأمر به لأن يخوضَ في حقِّ البخاري ويتكلمَ
فيه ويرميه بتُهمةٍ البخاريُّ بريءٌ منها، فما هذه التُّهمة يا تُرى والتي كانت سبب محنة البخاريِّ؟
هذه التهمةُ هي تهمة اللفظية، وهي تعني قول القائل: أنَّ لفظي بالقرآن مخلوق، فقد قال لأصحاب الحديث إنَّ البخاريَّ يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق، فامتحنوه في المجلس، فلما حضر الناسُ مجلس البخاريِّ، قام إليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله ما تقولُ في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرضَ عنه البخاريُّ ولم يُجبه، فأعاد الرجل السؤال ثلاث مرات، فالتفت إليه البخاريُّ،
وقال: "القرآنُ كلام الله غيرُ مخلوق، وأفعال العباد مخلوقةٌ، والامتحان بدعة"، أي: إنَّ البخاريَّ قد أدرك مغزى السؤال، وعلم أنه من جنس السؤالات التي لا يُراد بها وجه الله -عزَّ وجلَّ-، وإنَّما يُراد بها امتحانُ العلماء وإثارة الفتن والفرقة بين الناس، فشغب الرجل السائل على مجلس البخاريِّ، فقام الإمام منه.

بعد هذه الحادثة أخذ الذُّهليُّ في التشنيع على البخاريِّ، واتهمه بالتجهم، وقال: قد أظهر البخاريُّ قول اللَّفظيَّة واللفظيَّة عندي شرٌّ من الجهميَّة، ومَن ذهب بعد إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه، ثم تمادى الذُّهليُّ في التشنيع والهجوم على البخاريِّ، ونادى عليه في الناس ومنع طلبة الحديث من الجلوس إليه، ثم ألزم كلَّ من يحضر مجلسه ألا يجلس للبخاريِّ، فقال يومًا: ألا من قال باللفظ فلا يحلُّ له أن يحضر مجلسنا، وكان في المجلس وقتَها الإمامُ الكبيرُ مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة، فقام الاثنان من مجلس الذُّهليِّ، وهذا الأمر جعل الذُّهليَّ يزداد في هجومه على البخاري، ويصل لأعلى درجات الغلوِّ والغيرة المذمومة، إذ قال بعد حادثة خروج الإمام مسلم من مجلسه: "لا يُساكنني هذا الرجلُ [يعني البخاري] في البلد" وأخذ الجهالُ والسفهاءُ يتعرَّضون للبخاريِّ في الطريق يؤذونه بالقول والفعل، مما أُجبر معه البخاريُّ في النِّهاية لأن يخرج من البلد.
وبالنظر لما قام به الذُّهليُّ بحق البخاريِّ، نجد أن الذهليَّ قد تدرج في التشنيع والهجوم على الإمام البخاريّ، للوصول لغاية محددة منذ البداية، ألا وهي إخراج البخاريِّ من نيسابور حسدًا منه على مكانة البخاريِّ العلميَّة، وحتى لا ينسحبَ بساط الرياسة العلمية منه لصالح البخاري، وهذا ما فهمه البخاريُّ منذ البداية، وقاله لتلامذته ومن سأله عن هذه النازلة، فهذا تلميذه محمد بن شاذل،
يقول: "دخلتُ على البخاري لمَّا وقع فيه محمد بن يحيى، فقلت: يا أبا عبد الله، ما الحيلةُ لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى، كلُّ من يختلف إليك يُطرد؟ فقال البخاريُّ: كم يعتري محمد بن يحيى من الحسد في العلم، والعلمُ رزق الله يُعطيه من يشاء"، وقال أحمد بن سلمة: "دخلتُ على البخاريِّ فقلت: يا أبا عبد الله هذا رجلٌ مقبول بخراسان خصوصًا في هذه المدينة، وقد لجَّ في هذا

الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يُكلمه فيه فما ترى؟ فقبض البخاريُّ على لحيته ثم قرأ: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر: 44]، اللهمَّ إنك تعلم أنِّي لم أُرد المقام بنيسابورَ أشرًا ولا بطرًا ولا طلبًا للرياسة، وقد قصدني هذا الرجل [يقصد الذُّهليّ] حسدًا لما آتاني الله لا غير، ثم قال لي: يا أحمدُ إني خارجٌ غدًا لتتخلَّصوا من حديثه لأجلي، فقال أحمد بن سلمة: فأخبرت جماعة من أصحابنا بخروج الإمام، فوالله ما شيَّعه غيري، وكنت معه حين خرج من البلد.
وبالفعل خرج البخاريُّ من نيسابور، واتجه إلى مرو من أعمال خراسان؛ ليواصل رحلته العلميَّة، فإذا بالذُّهليِّ يواصل هجومه الشَّرس على البخاريِّ، حتى بعد خروجه من نيسابور، حيثُ أخذ في
الكتابة لسائر بلاد ومدن خراسانَ يحذِّرهم من البخاريِّ، وأنه يتبنَّى قول اللفظيَّة، وقد آتت هذه الحملة أُكُلها السّيّء، فكلما توجه البخاريُّ إلى بلد في خراسان وجد الناس ثائرين عليه، وكُتب الذُّهليُّ في حقه تنهال على علماء المدن وأمرائها فتُوغر الصدور وتُحرِّك الشكوك وتُسيء الظنون، حتى وصلت حدَّة الحملات التشويهية ضد البخاري، لأن يقدم رجلان من أكبر علماء الرجال في الحديث، وهما أبو حاتم وأبو زُرعة لأن يقولا: "إنَّ البخاريَّ متروكٌ"، ولا يكتبانِ حديثه بسبب مسألة اللَّفظ، وسبحانَ الله! لا أدري كيف أقدم أبو حاتم وأبو زُرعة على مثل هذه المقولة؟ وكيف تجاسرا عليه؟ والبخاريُّ حامل لواء الصناعة، ومقدم أهل السنة والجماعة، والبخاريُّ أعلى منهما كعبًا في كل باب في الحديث والفقه والحفظ، قال الذَّهبيُّ في السير: "كلامُ الأقران بعضهم في

بعض لا يُعبأ به، لاسيما إذا لاح لك أنَّه لعداوةٍ أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمتُ أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين".
وكان البخاريُّ يؤكد في كلِّ مكان أنه لم يقل إنَّ لفظه بالقرآن مخلوق، فعندما سأله الحافظُ أبو عمرو الخفاف عن هذه المسألة، فقال له: "يا أبا عمرٍو، احفظ ما أقولُ لك: مَن زعم مِن أهل
نَيسابورَ وقوس والرِّي وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة، أنِّي قلت: لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو كذَّاب، فإني لم أقله، إلا أنِّي قلت: أفعال العباد مخلوقة"، ومعنى هذا التصريح أنَّ الذُّهليَّ الذي خاض في حقِّ البخاريِّ وشوَّه سيرته ومكانته، قد بنى حملته على البخاريّ على لازم قول البخاريِّ أنَّ الأفعال مخلوقة، فقال الذهبيُّ: إنَّ البخاري يقول: إنَّ ألفاظنا من أفعالنا وأفعالنا مخلوقة، إذًا هو يقول إن لفظي بالقرآن مخلوق، ولازمُ القول ليس بلازم، كما هو مذهب جمهور المحققين من العلماء، إلا إذا التزمه صاحب القول، أما إذا نفاه وتبرأ منه فلا يلزمه ولا يشنع عليه بسببه، قال الذَّهبيُّ: ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نُكفِّر مسلمًا موحدًا بلازم قوله وهو يفر من ذلك اللازم ويُنَزِّه ويعظم الرب، لذلك كان البخاريُّ ينفي في كلِّ موطن هذه التهمة عن نفسه ويبرأ منها.
وفاته

ظل البخاريُّ ينتقل من بلد لآخر، وكلَّما حلَّ ببلد طاردته الشائعاتُ، وكتب الذُّهليُّ تلاحقه في كلِّ مكان نزل به، حتى اضطرَّ في النهاية للنزول عند أحد أقاربه ببلدة خرتنك، الواقعة بين بخارى
وسمرقند، لتنالَ هذه البلدة شرفاً عظيماً بأن قضى بها الإمامُ آخر أيام حياته، وقد ضاقت عليه الدنيا بما لاقاه من أهلها، وخاصة من رفقاء الدرب وأصحاب الحديث الَّذين حسدوه، وكان في شهر رمضانَ من سنة 256 هجريَّة، فقضى ليالي رمضانَ الأخيرة في القيام والدُّعاء والمناجاة والشَّكوى لربِّ الأرض والسَّموات، وكان غالبُ دعائه في تلك الليالي: "اللَّهمَّ إنَّ الأرض قد ضاقت عليَّ، فاقبضني إليك يا ربَّ العالمين".
وفي ليلة الفطر من سنة 256 هجرية، صعدت الروح الطاهرة إلى بارئها بعد صلاة العشاء، فدُفن من صبيحة الفطر، وقد فاحت رائحةٌ رائعة لم يَشَمَّ الناس مثلها من قبل من قبره، ظَلَّت تفوحُ لفترة طويلة، كما ما زال علمه يفوح ويروح في كل مكان في العالم، فأين حسَّادُهُ؟ وأين الوشاة والساعون فيه؟ طواهم النسيان، وقتلتهم أحقادهم، وبقي ذكر البخاري إلي اليوم، وحتى تقوم الساعة، فهنيئاً له على ما قدَّم للأمة الإسلامية، وسلامٌ عليه إلي يوم الدين.

المراجع والمصادر
سير أعلام النبلاء.
طبقات الحفاظ.
تذكرة الحفاظ.

صفة الصفوة.
البداية والنهاية.
مقدمة الفتح.

نخبة الفكر.
وفيات الأعيان.
تاريخ بغداد.
تهذيب الأسماء واللغات.
تاريخ بغداد.

شذرات الذهب.
النجوم الزاهرة.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 15-03-2025, 10:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



سيرة العز بن عبد السلام
شريف عبدالعزيز الزهيري
(15)



صلاح الدنيا بصلاح الرؤساء والأمراء، وصلاح الرؤساء والأمراء بصلاح العلماء؛ لذلك العلاقة بين الصنفين علاقة خاصة ومتشابكة، لا يستغني أحدهما عن الآخر، ومتى أصبحت هذه العلاقة متضادة أو مختلفة أدى ذلك لكثير من المحن والابتلاءات، وتفسد الدنيا، وتضطرب الأحوال، ومتى كان العلماء صادعين بالحق، ثابتين على الشرع صلحت الدنيا والآخرة، ونهضت الأمة، وصمدت أمام أعدائها، ومتى نسي العلماء دورهم الريادي في إرشاد الأمراء والحكام، ونصحهم وتوجهيهم ضاعت الأمة، وصارت في مهب الريح، لا تعرف الحلال من الحرام، ولا العدو من الصديق.
التعريف به:
• سلطان العلماء، وبائع الملوك والأمراء، العالم الفذ، والشيخ العلامة، والمجتهد المطلق، شيخ الإسلام، وأحد الأئمة الأعلام، صاحب التصانيف النافعة، والمواقف السائرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كبير الشافعية، المفتي الكبير، الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي، المشهور بالعز بن عبد السلام.

• وُلد سنة 577هـ بمدينة دمشق حاضرة الشام، وكانت وقتها قلب الإسلام النابض، وعاصمة الجهاد ضد الصليبين تحت حكم الناصر صلاح الدين الأيوبي، وكانت دمشق وقتها زاخرة بالعلماء والشيوخ والمجاهدين، وفي ذلك الجو العلمي والإيماني والجهادي نشأ الإمام العز بن عبد السلام، وبدأ في طلب العلم متأخرًا على خلاف عادة العلماء الكبار؛ فجلس إلى علماء الوقت بدمشق: مثل فخر الدين بن عساكر، وسيف الدين الآمدي، وابن الحافظ، وجعل يجتهد ويتبحر في العلوم، خاصة في الفقه الشافعي، حتى صار شيخ الشافعية في دمشق، وقد اشتهر بجودة ذهنه، وسلامة
بحثه، ودقة فتواه.

• جمع الإمام العز بن عبد السلام بين العلم والعمل، فلقد كان مشهورًا بالزهد والورع وشدة التحري، ومحاربة البدع والمخالفات الشرعية، محترزًا عن مواطن الشبهات، آية من آيات الله في الصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يهاب أحدًا في الله عز وجل، له كثير من المواقف المشهورة التي جلبت عليه كثيرًا من المتاعب والمحن، التي جعلته رأس العلماء وإمامهم في زمانه.
ثناء الناس عليه:
رغم أن العصر الذي نشأ فيه العز بن عبد السلام كان زاخرًا بالعلماء والشيوخ والأعلام إلا أن العز بن عبد السلام كان شامتهم ورأسهم، ومقدمهم في كل فن، واعترف معاصروه ومن جاء بعده بإمامته وفضله وعلمه، وهذه طائفة من أقوالهم:
• قال عنه تاج الدين السبكي: شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها، ولم ير مثل نفسه، ولا رأى من رآه مثله علمًا وورعًا وقيامًا في الحق، وشجاعة، وقوة جنان، وسلاطة لسان.
• قال عنه تلميذه أبو شامة: كان أحق الناس بالخطابة والإمامة، وأزال كثيرًا من البدع التي كان الخطباء يفعلونها: من دق السيف على المنبر، وأبطل صلاتي الرغائب، ونصف شعبان.
• قال عز الدين الحسيني: كان علم عصره في العلم، جامعًا لفنون متعددة، مضافًا إلى ما جبل عليه من ترك التكليف، مع الصلابة في الدين.
• قال الذهبي: بلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رياسة المذهب، مع الزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلابة في الدين.
• قال ابن كثير: العز بن عبد السلام شيخ المذهب، ومفيد أهله، وله مصنفات حسان، وبرع في المذهب، وجمع علومًا كثيرة، وأفاد الطلبة، ودرَّس بعده مدارس، وانتهت إليه رياسة الشافعية، وقُصِدَ بالفتاوى من الآفاق.

• قال جلال الدين السيوطي: الشيخ عز الدين أبو محمد، شيخ الإسلام، سلطان العلماء، أخذ الأصول، وسمع الحديث، وبرع في الفقه والأصول والعربية، وقدم مصر فأقام بها أكثر من عشرين عامًا ناشرًا للعلم، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، يغلظ على الملوك فمن دونهم، وله من المصنفات والكرامات الكثير، ثم كان في آخر عمره لا يتقيد بالمذهب - يقصد الشافعي - بل اتسع نطاقه، وأفتى بما أدى إليه اجتهاده.
• قال عنه ابن شاكر الكتبي: شيخ الإسلام، بقية الأعلام، الشيخ عز الدين، سمع وتفقه ودرس وأفتى، وبرع في المذهب، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصده الطلبة من البلاد، وتخرج به أئمة، وله الفتاوى السديدة، وكان ناسكًا ورعًا، أمَّارًا بالمعروف، نهَّاءً عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم.
• قال عنه العلَّامة اليافعي: سلطان العلماء، وفحل النجباء، المقدم في عصره على سائر الأقران، بحر العلوم والمعارف، والمعظم في البلدان، ذو التحقيق والإتقان والعرفان والإيقان، وهو من الذين قيل فيهم: علمهم أكثر من تصانيفهم، لا من الذين عبارتهم دون درايتهم، ومرتبته في العلوم الظاهرة مع السابقين في الرعيل الأول.
• قال العلَّامة الإسنوي: الشيخ عز الدين كان رحمه الله شيخ الإسلام علمًا وعملا وورعًا، وتصانيف وتلاميذ، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، يهين الملوك فمن دونهم، ويغلظ القول، وكان فيه مع ذلك حسن محاضرة بالنوادر والأشعار.

• قال الداودي: كان كل أحد يضرب به - يقصد العز بن عبد السلام - في الزهد والعلم.
مصنفاته:
لم يكن للشيخ العز بن عبد السلام مصنفات كثيرة تناسب حجمه العلمي، ومكانته في علماء الأمة، ولكنه ترك مصنفات نافعة عظيمة، مازال الناس ينتفعون بها، ومن أمثلة مصنفات الشيخ رحمه الله ما يلي:

1- القواعد الكبرى المعروف، بقواعد الأحكام، وهو من أشهر كتبه، وأكثرها نفعًا وتداولا بين الناس حتى وقتنا الحاضر.
2- شجرة المعارف.
3- الدلائل المتعلقة.

4- تفسير مختصر للقرآن.
5- مختصر صحيح مسلم.
6- الغاية في اختصار النهاية.
7- بداية السول في تفضيل الرسول.
8- الفتاوى الموصلية والمصرية.

9- بيان أحوال الناس يوم القيامة.
فوائد البلوى والمحن، وفيه يذكر من الآيات والأحاديث ما يصبر به أهل المحن والبلاء ويسليهم به، وقد كتبه بعد سلسلة المحن التي تعرض لها في الشام، وأجبرته على الرحيل إلى مصر.
محنته:
• محنة الإمام العز بن عبد السلام ترجع في الأساس لإدراكه لمهمة العلماء الربانيين، ودورهم في صيانة المجتمعات المسلمة، خاصة وقت الأزمات والنوازل، محنة العز بن عبد السلام التي تعرض لها في كل مكان حط فيه، ورحل إليه، ترجع في الأساس لشعوره الدائم والحي بأن العلماء هم أولو الأمر الحقيقيون للأمة، ولا بد من أخذ رأيهم، والعمل بمشورتهم لضمان مشروعية العمل، وسلامته
من المخالفات والبدع، فلقد أراد العز أن يجعل من العلم والعلماء أئمة يسير ورائهم الناس، ويقتفون آثارهم، ويعملون بأقوالهم؛ لذلك أطلق عليه أهل العلم ومعاصروه لقب سلطان العلماء.
محنته في الشام:
• وُلد العز بن عبد السلام بدمشق أيام حكم الناصر صلاح الدين، ونشأ وترعرع في أيام العزة والكرامة والنصر، واسترجاع بيت المقدس، وشهد العز انحسار الوجود الصليبي بالشام، وشهد أيضًا الحملة الصليبية الخامسة والسادسة على العالم الإسلامي، والبطولات العظيمة التي أبداها المسلمون في صد تلك الحملات البربرية، ثم شهد الإمام التراجعات التي حصلت على مستوى القيادة في العالم الإسلامي، والصراع الشرس الذي حدث بين أمراء الأسرة الأيوبية على أماكن النفوذ في مصر والشام، الذي هوى ببعضهم - وهو الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق - لأحد دركات الأخلاق والدين؛ حيث تحالف مع الصليبين ضد ابن أخيه الملك نجم الدين أيوب صاحب مصر، وذلك من أجل الاستيلاء على حكم مصر.

• ففي سنة 639هـ تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين ضد ابن أخيه نجم الدين أيوب، وأعطاهم نظير ذلك مدينة صيدا الساحلية، وقلعة الشقيف، وأباح لهم دخول دمشق؛ وذلك لأول مرة
منذ اشتعال الحملات الصليبية، وأباح لهم شراء السلاح والمؤن، وكان العز بن عبد السلام وقتها خطيب الجامع الأموي، ومفتي الشافعية، ورأس علماء دمشق، فصعد الشيخ العز على منبر الجامع يوم الجمعة، وألقى خطبة نادرة من العيار الثقيل: أفتى فيها بحرمة البيع والشراء مع الصليبين، وشدد على التحريم، وأنكر على الصالح إسماعيل فعلته، وفي آخر الخطبة ترك الدعاء للصالح إسماعيل كما هي العادة، وقال بدلاً من ذلك قولته الشهيرة التي صارت مثلاً سائرًا، ودعاءً متداولاً: اللهم أبرم لهذه الأمَّة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.
• كان قطع الدعاء في الخطبة للصالح إسماعيل بمثابة إعلان خلعٍ وعزلٍ من قبل العز بن عبد السلام، فاستشاط الصالح إسماعيل غضبًا، وقامت قيامته، وعزل الشيخ العز عن الخطابة والإفتاء، وأمر باعتقاله، فأخذ الغضب يسري في أوساط الشعب الدمشقي الذي كره الصالح إسماعيل وجرائمه، وكان للصالح إسماعيل وزير سوء يزين له كل جرائمه - وهو غزال المسلماني - فنصحه باستمالة الشيخ العز بن عبد السلام، وإغرائه بإرجاعه لكافة مناصبه الدينية من خطابة وإفتاء، مع امتيازات أخرى، وذلك نظير خضوع العز بن عبد السلام للصالح إسماعيل، وتقبيله ليده في محضر عام من الناس.
• فلما جاء الرسول للشيخ العز بن عبد السلام برسالة الصالح إسماعيل جاءت إجابته غرة على جبين العلم والعلماء، ومفخرة لكل عالم رباني عبر العصور تتناقلها الأجيال، حيث قال للرسول: يا

مسكين، ما أرضاه أن يُقَبلَ يدِي فضلاً أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به. وعندها أمر الصالح إسماعيل باعتقاله مرة أخرى، والتشديد عليه.
• استعد الصالح إسماعيل للخروج من دمشق بصحبة الصليبين للهجوم على مصر، وأخذها من ابن أخيه نجم الدين أيوب، ولكنه خاف من وجود الشيخ العز في دمشق، وتخوف من قيام الناس بإخراجه من السجن، وثورتهم عليه، فاصطحب الشيخ العز معه في معسكره مع الصليبين، وفي الطريق وقعت عدة كرامات للشيخ، وأثنى عليه الصليبيون كثيرًا، حتى قال كبيرهم للصالح إسماعيل:
لو كان هذا الشيخ قسيسنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها.
• وبعد أن أعيت الصالح إسماعيل السبل، وفشلت كل ضغوطه على الشيخ العز بن عبد السلام، قرر أن ينفيه عن بلاد الشام كلها، فخرج الشيخ العز بن عبد السلام، ومعه أبو عمرو الحاجب شيخ المالكية، وكان مثله في العلم والصدع بالحق، وتوجه الإمامان إلى بلاد مصر ليبدآ فصلا جديدًا من العزة، وأيضًا المحنة.
محنته في مصر:
• خرج الشيخ العز بن عبد السلام من دمشق باتجاه مصر، فلما مر بمدينة الكرك تلقاه صاحبها "الناصر داود"، وطلب منه الإقامة عنده فقال له الشيخ العز: بلدك صغير على علمي، وهكذا يبرهن الشيخ العز على مدى اعتزازه بعلمه، وبمنزلة العلماء وقدرهم؛ فهو كما قلنا كان يؤكد في كل مرة، وفي كل موطن على مكانة العلم والعلماء، وقيادتهم للأمة.
• توجه الشيخ إلى القاهرة، وهناك تلقاه السلطان نجم الدين أيوب، وأحسن استقباله وقدَّر مواقفه التي أبداها بالشام، وولاه خطابة جامع عمرو بن العاص وقضاء الوجه القبلي، وانبسط الشيخ،

وأخذ في التدريس والإفتاء، وكان أول من تصدى لعمل التفسير في الجامع على شكل دروس يومية، والتف حوله الناس وطلبة العلم والعلماء، والشيخ مستمر على حاله: من الصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتساب على السلطان نفسه فما دونه، حتى هابه الجميع.
• شيئًا فشيئًا ثَقلت وطأة الشيخ العز على الأمراء والأعيان، ورجال الدولة الذين لم يعجبهم وجود مثل ذلك الشيخ، الذي أحيا شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس؛ ووصلت قوة
الشيخ وجرأته في الحق إلى أن يسقط عدالة وشهادة نائب السلطان: الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، بسبب قيامه ببناء طبلخانة - دار للطبول التي تدق أوقات الصلوات، وخروج السلطان - على ظهر جامع بالقاهرة، وقد ظل الأمير فخر الدين ساقط الشهادة حتى مات، حتى إن الخليفة العباسي المستعصم ببغداد رفض رسالة جاءته من السلطان نجم الدين أيوب بسبب أن مؤدي الرسالة هو الأمير فخر الدين، وبعد تلك الحادثة عزل الشيخ نفسه عن القضاء.
• ثم وقعت حادثة أخرى، وهي الأشهر في تاريخ الشيخ، والتي تدل على مدى عزته ومكانته، وهي حادثة بيعه للأمراء المماليك، فقد ثبت عنده أن معظم هؤلاء الأمراء ما زالوا رقيقًا لا يصح لهم أي تعامل من أي نوع، فاستشاط الأمراء غضبًا، وأوغروا صدر السلطان على الشيخ العز؛ فاستدعاه، وأغلظ له القول، فما كان من الشيخ العز إلا أن حمل متاعه على حمار، وأركب عائلته على حمار آخر، وخرج من مصر؛ فمشى خلفه رجال ونساء، وخرج معه العلماء والصالحون والتجار، فبلغ الخبر السلطان، وقيل له: متى خرج الشيخ العز ذهب ملكك، فركب السلطان بنفسه
واسترضاه وطيب قلبه، وترجاه من أجل العودة.

• عاد الشيخ للقاهرة بشرط أن يتم بيع الأمراء والأرقاء، فوافق السلطان، فلما علم كبير الأمراء بذلك حاول استمالة الشيخ ليرجع عن رأيه، ولكن الشيخ صمم، فانزعج كبير الأمراء بشدة، وقرر قتل الشيخ بنفسه، وذهب إلى دار الشيخ في جماعة من فرسانه، وأحاطوا بالدار، وسيوفهم مشهرة، فلما رآهم عبد اللطيف ابن الشيخ العز ارتعد فزعًا، ودخل على أبيه يخبره، فما اكترث لذلك، ولا تغير، وقال كلمته الشهيرة: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل عليهم؛ فحين وقع بصره على الأمير يبست يد النائب، وسقط السيف منها، وارتعدت مفاصله وبكى، وسأل الشيخ أن يدعو له، ووافق على أن يباع هو وزملاؤه الأمراء، وتم ما أراد الشيخ، ونادى على الأمراء واحدًا واحدًا، وغالى في ثمنهم، وقبضه، وصرفه في وجوه الخير.
• ولما تولى سيف الدين قطز السلطنة، والتتار على أبواب الشام ومصر، وجمع قطز العلماء والفقهاء واستشارهم في جمع الأموال من الناس لتمويل الجيش ضد التتار؛ فما تكلم أحد من الحاضرين مهابة من السلطان غير الشيخ العز الذي قال: لا يجوز ذلك إلا بعد أن ينفق السلطان والأمراء وقادة الجند ما في قصورهم من كنوز وأموال حتى يستووا مع سائر الناس في المأكل والملبس والسلاح، عندها يجوز للسلطان أن يأخذ من أموال الشعب للتمويل الحربي.
• بالجملة كانت حياة الشيخ العز بن عبد السلام عبارة عن سلسلة متواصلة من الصدع بالحق، والثبات على الدين، والتصدي للباطل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما جعل حياة الشيخ
مقترنة بالمحن والابتلاءات والتهديدات الدائمة، ومع ذلك لم يهادن ولم يداهن، ولم يتراجع، بل ثبات حتى الممات، لذلك استحق لقب سلطان العلماء.
المصادر والمراجع:

• طبقات الشافعية: (8/ 214).
• البداية والنهاية: (13/ 264).

• العبر للذهبي: (5/ 260).
• شذرات الذهب: (5/ 302).
• حسن المحاضرة: (1/ 343).
• طبقات المفسرين: (1/ 312).
• العز بن عبد السلام/ للدكتور الزحيلي.

• تراجم أعلام السلف: (621).
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009م





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 16-03-2025, 10:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



محنة الإمام ابن القيم
شريف عبدالعزيز الزهيري
(16)



بين يدي المحنة:
الإسلام هو دين الفطرة الذي اختاره الله عز وجل للبشرية كلها، فيه سعادتها وراحتها، فيه الإجابة على كل سؤالات البشر، وفيه مواءمة طلباتهم الكثيرة والمتغيرة، لذلك كان الاجتهاد من أهم آليات وأدوات هذه الموائمة، وجعل الله عز وجل للمجتهد الأجر والثواب على كل حال، أصاب أم أخطأ، ولا يزال للاجتهاد والمجتهدين على مر العصور الأعداء والعقبات التي تعيق حركة هذا الدين ومرونته، ويعتبر التقليد والتعصب المذهبي من أشد أعداء الاجتهاد - وباسمه على يد أتباعه وحراسه وسدنته - نال المجتهدون على مر العصور الكثير من المحن والابتلاءات، وهذه محنة واحدة منهم.
التعريف به:
هو الإمام الفذ، والعلم المتبحر، والمفسر المحدث، طبيب القلوب وعللِها، وخبير النفوس وآفاتها، صاحب التصانيف الرائعة، والمصنفات النافعة، الإمام أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر أيوب بن سعد بن حريز بن مكي الزرعي الدمشقي الحنبلي، المشهور بابن قيم الجوزية، أو ابن القيم، نسبة إلى أبيه الذي كان قَيمًا - ناظرًا - على المدرسة الجوزية (إحدى مدارس الفقه الحنبلي بدمشق).

ولد سنة 691هـ بدمشق - على الراجح من كلام المؤرخين - في أسرة علمية خالصة؛ إذ كان أبوه الشيخ أبو بكر قَيمًا على المدرسة الجوزية، فانتظم ابن القيم في الدرس، وطلب العلم وهو في السابعة، فدرس على يدي مدرسي الجوزية وغيرهم، وظهرت منه مثابرة عظيمة في طلب العلم، ورغبة صادقة في النبوغ والألمعية، حتى إنه قد أتقن علومًا عدة وهو دون العشرين من العمر، ولم يكتف بطلب العلم من مشايخ الحنابلة الذين ينتمي إلى مذهبهم، ولكن طلبه من سائر الشيوخ، وأرباب المذاهب؛ فلقد درس على يد العلامة ابن الزملكاني الشافعي، والحافظ المزي الشافعي،
ومجد الدين التونسي المالكي، والصفي الهندي الحنفي، وهكذا طاف على شيوخ المذاهب، وحتى من بساتين علومهم، حتى صار من العلماء المتبحرين الموسوعيين في تلك الفترة الزاخرة بالعلماء والأعلام.

كان ابن القيم كعادة العلماء الربانيين في الأمة يجمع بين العلم والعمل، فهو ليس كمن بليت بهم الأمة - أمة الإسلام - ممن ينتسب إلى العلم زورًا، فيقول ولا يعمل، وينصح ولا يرتدع، ويعظ ولا يتعظ، فلقد كان ابن القيم رحمه الله ذا عبادة وزهادة، وتهجد واجتهاد، سائرًا في مدارج الربانيين، دائم الذكر، طويل الفكر، يطيل الصلاة بصورة لم يقو على مثلها أشد أهل زمانه عبادة، حتى إن الناس كانوا يلومونه على طولها، ويقعون فيه بسبب ذلك، وهو لا يرجع عن طريقته تلك، التي هي من طراز السابقين الأولين.
وبجانب عبادته واجتهاده - الذي لم يلحق شأوه فيها أحد - كان ابن القيم سمح الأخلاق، كبير الاحتمال، سريع العفو، كثير التودد، وأوذي كثيرًا، فلم تسمع منه كلمة واحدة في حق من آذاه،
عفا عمن ظلمه، وجعل أجره على الله عز وجل، على الرغم من كثرة الوشايات والسعايات في عصره، إلا أنه لم يتلوث بشيء منها قط؛ لذلك طوى الزمان ذكر خصومه وأعدائه، على الرغم من كون بعضهم من العلماء الكبار، فلم يعد يعرفهم أحد، ورفع ذكره فصار أستاذا، وقدوة للسالكين حتى وقتنا الحاضر.
ثناء الناس عليه:
ثناء الناس وأهل العلم على ابن القيم رحمه لله - خاصة من معاصريه، ومن جاء بعده - أصدق شهادة على مكانة هذا الإمام الفذ، الذي اجتهد خصومه من أرباب التصوف الكاذب، والمقلدة
والمتعصبة والحسدة في طمس حسناته ومكانته وتشويه سيرته، ولكن كما قيل: كفا بالحاسد والحاقد عقوبة من نفسه، وثناء الناس وأهل العلم على ابن القيم من جملة عقوبة الله عز وجل لهؤلاء الحسدة والمتعصبة، وهذا طرفٌ من ثناء الناس على هذا الإمام الفذ:
قال عنه ابن رجب الحنبلي - وهو من أخص تلاميذه -:
تفقه في المذهب، وبرع وأفتى، ولازم الشيخ تقي الدين بن تيمية، وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفًا في التفسير، لا يجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيه المنتهي، والحديث، ومعانيه، وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية، وله فيها اليد الطولي، وعلم الكلام والنحو، وغير ذلك، وكان عالما بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف وإشاراتهم ودقائقهم، له في كل فن من هذه الفنون اليد الطولي.

قال ابن ناصر الدمشقي: وكان ذا فنون من العلوم، وخاصة التفسير والأصول من المنطق والمفهوم.
وقال عنه ابن كثير: سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، لا سيما علم التفسير والحديث والأصلين، ولما عاد شيخ الإسلام من الديار المصرية سنة 712هـ لازمه حتى مات الشيخ، فأخذ عنه علمًا جمًا جمع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريدًا في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطلب ليلا ونهارًا، وقال لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه.
قال عنه القاضي الزرعي: ما تحت أديم السماء أوسع علمًا منه.
قال عنه الشوكاني: برع في شتى العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف.
قال الحافظ ابن ناصر الدين الشافعي: الشيخ الإمام العلامة شمس الدين، أحد المحققين، عَلَمُ المصنفين، نادرة المفسرين، له التصانيف الأنيقة، والتآليف التي فيها علوم الشريعة والحقيقة.
قال عنه ابن رجب في موضع آخر: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله، والانكسار له، ولم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علمًا، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله.
قال عنه الحافظ السيوطي: وصار من الأئمة الكبار في التفسير والحديث والفروع والأصلين والعربية.
وقال عنه القاضي عبد الرحمن التفهني الحنفي في معرض سياقه لترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية: وتلميذه ابن قيم الجوزية الذي سارت تصانيفه في الآفاق، ولو لم يكن له - أي ابن تيمية - من آثار إلا ما اتصف به تلميذه ابن القيم من العلم لكفى.

مصنفاته:
أهم ما يميز هذا الإمام الفذ ابن القيم هو تراثه العلمي والفكري الذي تركه للأمة، وأثرى به المكتبة الإسلامية؛ فلقد رزقه الله عز وجل ذهنا سيالا، وقلما دفاقًا، وبركة في أوقاته التي كانت عامرة
كلها بالنافع والصالح لنفسه، وللأمة كلها، ورغم تبحره في علوم كثيرة، وتأليفه في شتى أبواب العلم، خاصة في الأصول والعقائد والحديث إلا أن أكثر ما يميزه كتاباته ومؤلفاته في علم السلوك والرقائق، وأدواء النفوس، ومقامات الإيمان، وله في ذلك المصنفات الرائعة الفائقة، والتي أربى فيها على المتقدمين، ولم يلحقه أحد من المتأخرين، والتي صارت بمثابة العلامات المضيئة في تاريخ التصنيف والتأليف في باب الرقائق، والتي جعلت الإمام ابن القيم يتبوأ مكانة ساحقة كواحد من أفضل من كتب في أحوال القلوب والنفوس، ومن أهم مصنفات الإمام ابن القيم، وكلها بفضل الله عز وجل مطبوعة ومتداولة - ما يلي:
أولا: مصنفاته في العقائد:
1- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية.
2- الرسالة التبوكية.

3- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل.
4- هداية الحياري في أجوبة اليهود والنصارى.
5- الكافية الشافية (النونية).

ثانيا: مصنفاته في الأصول والفقه:

1- إعلام الموقعين عن رب العالمين.
2- أحكام أهل الذمة.
3- إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان.
4- تحفة المودود في أحكام المولود.
5- حكم تارك الصلاة.
1- الطرق الحكمية في السياسية الشرعية.

ثالثا: مصنفاته في السلوك والرقائق وأحوال القلوب - وهي الأشهر-:
1- مدارج السالكين، وهو أشهر كتبه، وأكثرها تأثيرًا.
2- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان.
3- بدائع الفوائد.

4- حادى الأرواح.
5- الداء والدواء.
6- روضة المحبين.
رابعا: مصنفاته في الحديث والسيرة وغير ذلك:

1- تهذيب مختصر سنن أبي داود.
2- زاد المعاد في هدي خير العباد.
3- التبيان في أقسام القرآن.

4- جلاء الأفهام.
5- الطب النبوي.
6- عدة الصابرين.

7- الفروسية الشرعية.
8- الكلم الطيب والعمل الصالح، المشهور باسم الوابل الصيب.
9- مفتاح دار السعادة.
10- المنار المنيف في الصحيح والضعيف.
محنته:
من لطف الله عز وجل وتقديره لابن القيم أنه التقى بشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فلقد كان مع ابن القيم في بداياته صوفيًّا، مشغولا بما هم عليه من عوايد وطرق، حتى التقى مع ابن تيمية سنة 712هـ عند عودته من مصر مظفرًا مرفوع الرأس؛ بعد أن نصره الله عز وجل على خصومه الصوفية هناك بعد محن طويلة، وفصول عريضة، وكان لقاؤه مع ابن تيمية نقطة فاصلة في حياته؛ إذ
انتقل من التصوف إلى الحق والسنة، وطريقة السلف الصالح في العقائد والأصول، وقد أخذ ابن تيمية بمجامع قلب ابن القيم، وأصبح مرشده العلمي والدعوي، وأصبح ابن القيم من أخص وأنجب تلاميذ ابن تيمية، وأصبح كلاهما يعبر عن الآخر، وكذلك أصبح ابن القيم امتداد لابن تيمية، وقد لزم أقواله وآراءه وأفكاره، ولم يخرج عنها، وبالتالي تعرض ابن القيم لنفس المحن التي تعرض لها ابن

تيمية، وكان شريكه وقرينه فيها.
محنته مع شيخ الإسلام ابن تيمية:
قلنا من قبل أن حياة ابن تيمية كانت مسلسلا متواصلا من المحن والابتلاءات، وكانت بداية العلاقة بين ابن القيم وابن تيمية سنة 712هـ بعد عودته من مصر منتصرًا على خصومه من الصوفية، وقد شهدت هذه الفترة من سنة 712هـ إلى سنة 720هـ هدنة من المحن في حياة ابن تيمية مكنته من نشر أفكاره وفتاواه وعلمه، وتهيئته لمجموعة من التلاميذ الذين سيحملون المنهج السلفي، وينشرونه بين الناس، ومن هؤلاء - بل وعلى رأسهم - الإمام ابن القيم.
في سنة 725هـ خرج ابن القيم حاجًّا، وأثناء عودته عقد درسًا للوعظ والتفسير بالمسجد الأقصى، تكلم فيه عن مسألة الزيارة، وشد الرحال لزيارة قبر الخليل بفلسطين وأنكرها؛ فهاج عليه الناس وثاروا، ورفعوه إلى قاضي القضاة؛ فحكم بردته وقتله.
وانظر كيف وصل الحال بالتعصب والجهل، يهدر دم امرئ مسلم، بل عالم رباني على فتوى صحيحة، واستطال الأمر، وعظمت المحنة، وانتهز خصوم ابن تيمية من الصوفية والأشاعرة، وغيرهم
الفرصة، وألبوا الفقهاء والعلماء والسلطة على ابن تيمية، وكل من ينتمي إلى مدرسته، فقبضوا على ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، والكتبي، والبرزالي، وغيرهم، وآذوهم بشدة، وشهروهم في دمشق، وكان لابن القيم النصيب الأوفر؛ إذ ضرب بين يدي القاضي والأمير، وأهين بشدة، ثم حمل على حمار مقلوبًا، وطيف به في أنحاء دمشق كما يفعل مع السراق والمفسدين، ثم ألقوا به في

السجن مع شيخه ابن تيمية، ولكن بصورة انفرادية، وظل رهين حبسه حتى مات شيخه ابن تيمية سنة 728هـ، وخلال تلك الفترة الطويلة انشغل ابن القيم بالذكر والمناجاة والدعاء، وقراءة القرآن؛ ففتح الله عز وجل له أبوابًا كثيرة من العلم والتدبر والفهم، والمواجد الصحيحة، وقد بان أثر ذلك في كتاباته بعدها؛ فجاءت من قلم مجرب، وقلب متبتل، ومعايشة محنة، وبعد وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية أفرجوا عن ابن القيم.
محنته مع قاضي القضاة السبكي:
بعد خروج الإمام ابن القيم من سجنه ومحنته أخذ على عاتقه نشر أفكار شيخ الإسلام ابن تيمية، والمحافظة على منهجه ومدرسته التي أرسى دعائمها بكثير من الجهد والنصب والمحن، حتى مات من أجلها في سجون الظالمين، وقد أصبح ابن القيم هو رائد المدرسة التجديدية بعد رحيل ابن تيمية، لذلك كان من الطبيعي أن يتعرض ابن القيم لنفس الحملات التشويهية والتعريضية التي سبق وأن تعرض لها شيخه.
اجتهد الإمام ابن القيم كثيرًا لرد أهل عصره لهدي القرون الأولى، والتصدي للبدع التي تسربت لحياة المسلمين، والتي ليست من الدين في شيء، وكان الأشاعرة وقتها من أشد خصوم ابن تيمية
ومنهجه السلفي، وكل من ينتمي إلى السلفية، وكانت الدولة للأشاعرة؛ فاستخدموا نفوذهم، ومساندة السلطة لهم في قمع أتباع المنهج السلفي، وكان قاضي القضاة في بلاد الشام تقي الدين السبكي: وهو واحد من أسرة عريقة في العلم وفي القضاء، وأيضًا من أشهر الأسر تمسكا بالمذهب الأشعري، وكان للسبكية صولات وجولات مع أتباع المنهج السلفي، وبالأخص تقي الدين

السبكي كان أشدهم قسوة ونقدًا وتحاملا على ابن تيمية وتلاميذه.
تولى تقي الدين السبكي منصب قاضي القضاة بالشام سنة 739هـ، وابن القيم وقتها يعتبر علم المدرسة السلفية، فتحامل عليه بشدة، وصار يتتبعه في فتاواه وآرائه، وينتقده، ويؤلب عليه السلطة، حتى إن السبكي قد عقد له مجلسًا بسبب فتواه بجواز المسابقة بغير محلل، وأجبره على التراجع عنها، ثم سعى في سجنه بسبب تصديه لمسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، وهي الفتوى التي سبق وأن أفتاها ابن تيمية، وأوذي بسببها، وبالفعل تسبب السبكي في سجن ابن القيم فترة من الوقت، ومن شدة تضييق تقي الدين السبكي على الإمام ابن القيم اضطره للرحيل إلى مكة؛ حيث جاور هناك فترة طويلة من الزمن، استغلها في العبادة والإقبال على الله عز وجل، والتأليف والتصنيف، فألف في تلك الفترة أروع كتبه مثل: بدائع الفوائد، ومدارج السالكين، وزاد المعاد، ومفتاح دار السعادة.
ورغم كثرة المحن والابتلاءات التي تعرض لها الإمام ابن القيم، والإهانة والضرب والجبس الذي تعرض له: صغيرًا وكبيرًا، تلميذًا وإمامًا، إلا أنه لم يغير موقفه وآراءه، ومنهجه ودعوته، وظل على
طريقه ودربه سائرًا، ينفع الناس، ويحارب البدع والخرافات والأفكار المخالفة للإسلام، وقد جعل هدفه في الحياة العودة بالناس لمنابع الدين الصافية النقية؛ لذلك لما رحل عن دنيانا في رجب 751هـ خرجت دمشق عن بكرة أبيها لتودع هذا الإمام الفذ العلامة، وقد تأسف الجميع لرحيله، حتى خصومه؛ لما كان عليه من العلم والفضل، والأخلاق الحسنة، ولم تنل المحنة منه، ولم تؤثر على مكانته ودرجته، وظل لوقتنا الحاضر يتبوأ منزلة ساحقة في تاريخ علماء الأمة وأعلامها.

المصادر والمراجع
• الدرر الكامنة: (4/ 21).
• البدر الطالع: (2/ 113).
• المختار المصون: (184).
• البداية والنهاية: (14/ 252).
• تراجم أعلام السلف: (695).
• ذيل طبقات الحنابلة: (20/ 448).

• شذرات الذهب: (3/ 168).
• النجوم الزاهرة: (10/ 249).
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009م











__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 17-03-2025, 10:40 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



الإمام أبو الفرج ابن الجوزي
شريف عبدالعزيز الزهيري
(17)


طريق العلماء الربانيين مليء بالابتلاءات والمحن، وهم يعرفون ذلك جيدًا، ولكن بعض البلايا والمحن تكون أشد وقعًا وأثرًا من غيرها، فمثلاً إذا كانت المحنة من أقارب العالم وأهله فهي أشد وقعًا من غيرها، وإذا كانت المحنة عند تقدم السن، واشتعال الرأس فهي أشد وقعًا من غيرها، وإذا كانت المحنة ستشرد صاحبها وتنفيه وحيدًا عن أهله وبلده فهي أشد وقعًا من غيرها، وإذا كانت المحنة ستنقل صاحبها من المكانة والشهرة والإمامة إلى الهجر والنسيان والإهانة فهي أشد وقعًا من غيرها، وأما إذا اجتمعت كل هذه الشروط والعناصر في المحنة والبلية، ثم يروضها صاحبها، ويستفيد منها، ويحولها إلى منحة عظيمة؛ فهذا أمر جدير بالكتابة، والاستفادة منه.
التعريف به:

هو الشيخ الإمام العلامة، الحافظ المفسر، شيخ صناعة الوعظ، درة المجالس، وجامع الفنون، وصاحب التصانيف الكثيرة، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن الجوزي، ينتهي نسبه إلى أمير المؤمنين، وخليفة رسول صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ولد ابن الجوزي سنة 510هـ ببغداد، ومات أبوه وله ثلاثة أعوام، فتولت عمته تربيته لزواج أمه، فنشأ ابن الجوزي يتيمًا: يتنقل بين أقاربه الذين كانوا يعملون في تجارة معدن النحاس، فلما أنست
منه عمته عزوفًا عن اللهو والتجارة دفعت به إلى طريق العلم، فلزم مسجد محمد بن ناصر الحافظ، وجلس لسماع الدروس والحديث، ثم لزم حلقة الشيخ ابن الزغواني شيخ حنابلة العراق، فظهر نجمه، وتقدم على أقرانه، وكان وهو صبي دينًا مجموعًا على نفسه لا يخالط أحدًا، ولا يجاري أترابه في لهوهم ولعبهم.
كان ابن الجوزي طموحًا، فيه بهاء وترفع في نفسه، دفعه لأن يطلب الجلوس مكان شيخه الزاغوني بعد وفاته، وكان وقتها شابًا دون العشرين، فأنكروا عليه ذلك؛ فاشتغل بالوعظ، وكان فنًّا رائجًا،
وبضاعة نافقة في تلك الأيام، وبغداد زاخرة بالوعاظ: الكبار منهم والصغار؛ فبذ الجميع، وتفرد بفن الوعظ، الذي لم يُسْبَقْ إليه، ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته، وجمال عباراته، ورائع تشبيهاته، وغوصه في المعاني البديعة، وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية، بأيسر وأوجز عبارة، حتى صار إمام صناعة الوعظ والتذكير، ومفخرة بغداد بلا نظير، وتهافت الناس على حضور مجالسه، وحضرها الخلفاء والوزراء، والكبراء والأمراء، والعلماء، والأغنياء والفقراء، كل على حد السواء، حتى عد عشرات الألوف من الناس في المجلس الواحد من مجالسه، وله العبارات المأثورة، والكلمات المؤثرة المشهورة.
ورغم تفرده وإمامته لفن الوعظ إلا أن له مشاركات كثيرة في فنون شتى، وله اليد الطولى في فن التفسير والتاريخ والفقه، ودون ذلك في الحديث والحساب والفلك والطب، وله في كل فن عدة مصنفات، حتى صار رأس علماء العراق في زمانه، وهذا التقدم والرياسة والاحتشام والسؤدد، جلب عليه كثيرًا من عداوة الخصوم والأقران، وأتباع المذاهب الأخرى، وكان له دور ظاهر في تأجيج
تلك العداوات بحدة لسانه، وهجومه اللاذع على الصوفية والفقراء، وبعض معاصريه.
ثناء الناس عليه:

لم يكن ابن الجوزي مثل غيره من كبار علماء الأمة، الذين كانوا كلمة إجماع بين الناس، ولم يخض في حقهم أحد، ذلك أن لابن الجوزي عداوات كثيرة، وخصومات عديدة أزكاها بحدة لسانه، وقوة نقده، وجهره بآرائه، واعترازه الشديد بنفسه، ولكن لا يقلل ذلك كله من تقدير الناس لعلمه وإمامته، وتبحره في فنون شتى، وهذه طائفة من أقوال الناس عنه، وثنائهم عليه:
قال الإمام الذهبي: كان رأسًا في التذكير بلا مدافعة، يقول النظم الرائق، والنثر الفائق بديهًا، ويسهب، ويعجب، ويطرب، ويطنب، لم يأت قبله ولا بعده مثله؛ فهو حامل لواء الوعظ، والقيِّم بفنونه، مع الشكل الحسن، والصوت الطيب، والوقع في النفوس، وحسن السيرة، وكان بحرًا في التفسير، علامة في السير والتاريخ، موصوفًا بحسن الحديث، ومعرفة فنونه، فقيهًا، عليمًا بالإجماع والاختلاف، جيد المشاركة في الطب، ذا تفنن وفهم وذكاء، وحفظ واستحضار....
قال أبو عبد الله الدبيثي في تاريخه: شيخنا جمال الدين صاحب التصانيف في فنون العلوم: من التفسير والفقه والحديث والتواريخ وغير ذلك، وإليه انتهت معرفة الحديث وعلومه، والوقوف على صحيحه من سقيمه، وكان من أحسن الناس كلامًا، وأتمهم نظامًا، وأعذبهم لسانًا، وأجودهم بيانًا، وبورك له في عمره وعمله.
قال الموفق عبد اللطيف المقدسي: كان ابن الجوزي لطيف الصورة، حلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون الحركات والنغمات، لذيذ المفاكهة، يحضر مجلسه مائة ألف أو يزيدون، لا يضيع من زمانه شيئًا، يكتب في اليوم أربع كراريس، وله في كل علم مشاركة، لكنه كان في التفسير من الأعيان، وفي الحديث من الحفاظ، وفي التاريخ من المتوسعين، ولديه فقه كاف، وأما السجع الوعظي فله فيه ملكة قوية.
قال الإمام ابن قدامة المقدسي: ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ، وصنف في فنون العلم تصانيف حسنة، وكان صاحب فنون، كان يصنف في الفقه، ويدرس وكان حافظًا للحديث، إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنة، ذلك أن ابن الجوزي قد خالف الحنابلة في الكثير من مسائل الاعتقاد، حتى جلب على نفسه كثيرًا من المشاكل.
مصنفاته:

يعتبر الإمام ابن الجوزي من العلماء الموسوعيين الكبار في أمة الإسلام؛ فلقد كان متبحرًا في فنون كثيرة، له فيها مشاركات ومصنفات فائقة، ومؤلفات رائقة زادت على الثلاثمائة مصنف، كثير منها في فن الوعظ والتذكير، والأخلاق والرقائق، وله في كل فن عدة كتب، ومن أشهر مصنفاته كتاب زاد المسير في التفسير، وهو مطبوع متداول، وكتاب المنتظم في التاريخ، وهو من كتب التاريخ المشهورة والشاملة، أكمل كتاب تاريخ الرسل والملوك للطبري، وله كتاب الموضوعات في الحديث؛ وهو أول من أفرد الأحاديث الموضوعة بمصنف، وعلى منواله نسج من جاء بعده، وكتاب صفة الصفوة في أخبار الصحابة والتابعين، ومن جاء بعدهم من طبقات القرون الثلاث الفاضلة، وكتاب تلبيس إبليس في كشف فضائح الصوفية، وصيد الخاطر في اللطائف والإشارات، ومنهاج القاصدين؛ وهو مختصر لطيف لكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وله سلسلة المناقب والفضائل للنبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة والصالحين والأئمة والعلماء، وكثير من كتبه قد ضاعت في محنته؛ إذ تسلط عليها ابنه العاق أبو القاسم عليٌّ فباعها بالأحمال بيع العبيد لمن يزيد، ولكن معظم إنتاجه العلمي مطبوع متداول بفضل الله عز وجل، ومازال الناس ينتفعون به ويدرسونه، وما من خطيب ولا واعظ إلا ولابن الجوزي عليه فضل الاقتباس من كلامه، وكتبه الفائقة.
محنته:

رغم أن المحنة التي تعرض لها الإمام ابن الجوزي كانت في آخر عمره، إلا إن أسباب تلك المحنة كانت قديمة، وبعيدة الجذور، وذلك لأمرين: أولهما متعلق بالأجواء السائدة في بغداد خلال القرن
السادس الهجري، وثانيهما متعلق بطبيعة شخصية ابن الجوزي، والتي أورثته خصومة وعداوة الكثيرين.
فبغداد، ومنذ سيطرة الدولة السلجوقية على مقدرات الخلافة العباسية، وظهور شخصية الوزير الشهير نظام الملك، أخذ أتباع المذهب الشافعي، والعقيدة الأشعرية في الظهور والتحكم في الساحة العلمية لبغداد عاصمة الخلافة، والسيطرة على حلق العلم والمدارس الفقهية، ومحاريب الجوامع، وكانت تلك المكانة من قبل بيد أتباع المذهب الحنبلي، والعقيدة السلفية، فلما ظهر الشافعية استطالوا بشدة على الحنابلة، وضيقوا عليهم في المجالس والمدارس، ودخلوا معهم في مهاترات حامية بسبب العقائد، وشنعوا عليهم، وظل الأمر على ما هو عليه فترة طويلة، حتى ظهرت شخصية الإمام ابن الجوزي، الذي استطاع أن يستقطب الناس إلى مجالس وعظه، ويبهرهم بفريد عباراته، وفائق تذكيراته، فحضر مجالسه عشرات الآلاف من الكبار والصغار، والرجال والنساء، وحضرها الخليفة العباسي نفسه، والسلطان السلجوقي، والوزراء والأمراء والكبراء، والأغنياء والفقراء، حتى كان يحضرها الشيعة الذين بهرهم رائع بيانه، خاصة وابن الجوزي كان من يداري ويهادن، ولا يخوض في الخلافيات، بالجملة أصبح ابن الجوزي حديث الناس، وأشهر علماء بغداد والعراق، وقد أدى ذلك لارتفاع مكانة الحنابلة، وإقبال الناس على شيوخ المذهب، وذلك الأمر أغاظ أتباع باقي المذاهب عامة، والشافعية خاصة.
وفي سنة 550هـ استوزر الخليفة العباسي المقتفي بالله الوزير عون الدين بن هبيرة، وكان من خيار الوزراء، وأفاضل العلماء، وكان حنبليًّا سلفيًّا، وقد اجتهد ذلك الوزير الصالح في إقامة الدولة

العباسية، واستعادة هيبة الخلافة، وحسم مادة ملوك السلاجقة، وكان ذلك الوزير مصاحبًا لابن الجوزي قبل ذلك، فلما صار في الوزارة قرب ابن الجوزي واصطفاه لمجالسه ومشورته، وارتفعت مكانة ابن الجوزي أكثر مما قبل، وكذلك الحنابلة، وقد استمر ذلك الوزير في منصبه خلافة المقتفي، ثم ولده المستنجد، وكان له كثير من الخصوم لصلاحه، وكفاءته في الإدارة، والإخلاص للدولة العباسية، ومن كان خصمًا لابن هبيرة كان خصمًا لابن الجوزي معه للصداقة التي بينهما، وقد قتل ذلك الوزير الصالح بالسم سنة 560هـ، ولم يعلم قاتله، وبموته أخذ أعداء ابن الجوزي في التربص به، والكيد له.
هذا الشق كان فيما يتعلق بالأمر الأول، والمتعلق بأحوال الخلافة والأجواء السائدة في بغداد، أما فيما يتعلق بالأمر الثاني؛ وهو طبيعية شخصية ابن الجوزي نفسه، فإن ابن الجوزي كان مفخرة العراق في وقته، ودرة بغداد في زمانه، شهرته طغت على علماء الوقت، فحسدوه، وغاروا من إقبال الناس عليه، وقابل ذلك هو بمزيد من الاعتداد بالنفس، والاعتزاز بالقدر حتى داخله نوع من
العجب والغرور، كما أنه كان شديدًا في نقده، حادًا في ملاحظاته، لاذعًا في تعليقاته، خاصة على الوعاظ والعلماء من الشافعية والأحناف، لا يبالي بمكانة وقدر من ينتقد ويجرح، حتى خرج بنقده إلى نوع من التحامل والتعصب، وهي أمور كلها قد أورثته عداوة وخصومة الكثيرين، حتى من أصحابه الحنابلة، الذين غضبوا من انتقاده للشيخ الرباني عبد القادر الجيلاني، وكان رأس الوعاظ في العراق قبل ظهور ابن الجوزي، وفي نفس الوقت شيخ الحنابلة بالعراق.
محنة آخر العمر:

ظل ابن الجوزي على مكانته ومنزلته حتى تولى الخلافة الناصر لدين الله العباسي سنة 575هـ، وكان يخالف سيرة أبائه وأجداده، فقد كان أول وآخر خليفة عباسي يتشيع، ويتظاهر بذلك، ويجهر به، وقد عمل على تقريب الشيعة، فاستخدمهم في أعماله وشئونه، وبالطبع أخذت الأضواء تنحسر عن رجال أهل السنة وعلمائهم، ومنهم ابن الجوزي؛ فاستغل خصوم الرجل ذلك الأمر، وخططوا للإيقاع به.
كان ألد أعداء الشيخ ابن الجوزي رجل اسمه الركن عبد السلام بن عبد الوهاب، وهو حفيد الشيخ عبد القادر الجيلاني، وكان أبناء الشيخ عبد القادر وأحفاده يبغضون ابن الجوزي بشدة بسبب رأيه في الشيخ عبد القادر، وانتقاده الدائم له، وكان الركن عبد السلام ذلك أشدهم كراهية لابن الجوزي، ولكن لسبب آخر؛ وهو أنه كان رجلا رديء المعتقد على مذهب الفلاسفة، شروًبا للخمر، فأفتي ابن الجوزي بحرق كتبه؛ فأحرقت ومنعت، ثم أخذت منه مدرسة جدهم الشيخ عبد القادر الجيلاني، وأعطيت لابن الجوزي، فاغتم الركن لذلك، وقرر الإيقاع بالشيخ ابن الجوزي.

العجيب أن الذي تآمر مع الركن عبد السلام في مؤامرته ضد ابن الجوزي هو أقرب الناس لابن الجوزي، ولده الكبير أبو القاسم على، وكان ماجنًا فاسقًا نديم الركن في مجالس الخمر والفجور، وكان عاقًا لأبيه، وقد هجره أبوه وإخوته لسوء أخلاقه وأفعاله؛ فتآمر أبو القاسم عليّ مع الركن عبد السلام للنيل من الشيخ ابن الجوزي.
تولى الوزارة في تلك الفترة رجل شيعي اسمه ابن القصاب، وكان صديقًا للركن عبد السلام للموافقة في الاعتقاد، فسعى عنده للإيقاع بالشيخ عند الخليفة الناصر العباسي، فقال الوزير الرافضي

للخليفة العباسي: أين أنت من ابن الجوزي الناصبي؟ وهو أيضًا من أولاد أبي بكر الصديق، ثم ما زال بالخليفة حتى غير قلبه على ابن الجوزي، وفوض الأمر إليه في التصرف معه، وذلك سنة 590هـ، وكان ابن الجوزي وقتها في الثمانين من العمر؛ ففوض الوزير ابن القصاب الركن عبد السلام في التصرف مع الشيخ ابن الجوزي؛ فذهب إلى داره بنفسه، ومعه الكثير من الحراس، وأبناء الشيخ عبد القادر؛ فشتموه وأهانوه، وجذبوه بشدة من بين عياله، وكان عليه ملابس خفيفة بلا سراويل، وختموا على داره، ووضعوه في سفينة صغيرة، ونفوه إلى مدينة واسط، وهناك حبسوه في بيت ضيق بلا أحد يخدمه، وكان شيخًا مسنًا قد جاوز الثمانين، فبقي وحده يطبخ لنفسه، ويغسل ثيابه لنفسه، ممنوع عليه الاجتماع مع الناس، أو الجلوس للوعظ كما هي عادته، ولاقى ضروبًا من المحن والهم والتعب طيلة خمس سنوات في النفي.
لم يكتف الركن عبد السلام بما فعله مع الشيخ ابن الجوزي من الإهانة والنفي والتشريد، والسجن الانفرادي، بل حاول التوصل إلى والي مدينة واسط، وكان شيعيًا أيضًا ليقتل ابن الجوزي، فقال
الوالي للركن: يا زنديق، أفعل هذا بمجرد قولك؟ هات خط أمير المؤمنين، والله لو كان على مذهبي لبذلت روحي في خدمته، فخاب سعي الركن، وفشلت خطته، ولكن لم يمنع ذلك من التضييق على ابن الجوزي وحبسه.
تلك المحنة الكبيرة التي نزلت بالشيخ ابن الجوزي وهو في أواخر عمره، وبعد أن جاوز الثمانين قد زاد من ألمها جناية ولده أبي القاسم عليٌّ على تراث أبيه العلمي، ونتاجه الـتأليفي، إذ تسلط ذلك

الولد العاق الفاسق على كتب أبيه، وكانت مئات المجلدات في شتي الفنون، وباعها بالأحمال، وشرب بثمنها الخمر، وتجاهر بذلك الفحش والخسة، والأب يعاني في غربته ووحدته مرارة ذلك الجحود والنكران.
ظل الشيخ ابن الجوزي في محنته بين النفي والسجن والإهمال والإهانة خمس سنوات كاملة كانت كفيلة بتحطيم عزيمة أي رجل قوي، وليس شيخًا طاعنًا في السن، ولكن الشيخ العلامة ابن الجوزي، الذي طالما وعظ الناس، وذكرهم وصبرهم، ورغبهم ورهبهم، حول محنته إلى محنة عظيمة، وروض تلك المحنة الأليمة، فاستغل تلك السنوات الخمس في قراءة كتب الحديث، والتلاوة بالعشر قراءات للقرآن على يد الشيح ابن الباقلاني، وأبدى همة عالية في ذلك، حتى أتم حفظ القراءات العشر وهو في الرابعة والثمانين من العمر.
وفي سنة 595هـ أذن له الله عز وجل في رفع المحنة، وفك الكربة، وذلك بشفاعة أم الخليفة الناصر العباسي، وعاد ابن الجوزي من منفاه في واسط إلى بغداد، وأذن له في الوعظ كما كان، وعاد
إلى مكانته وعزه وسؤدده، وحضر الخليفة العباسي بنفسه أول مجالس وعظه، وكانت كلمات ابن الجوزي مؤثرة، ملهبة، وقد خرجت من قلب احترق بالمحن، حتى خرج نقيًا من كل شائبة، وبعد ذلك بقليل مرض ابن الجوزي، ثم مات في منتصف شهر رمضان سنة 597هـ فرحمة الله عليه، وتجاوز عنه، وغفر له ما خاض فيه من تأويل، وغير ذلك.

المصادر والمراجع:
• سير أعلام النبلاء: (21/ 365).

• البداية والنهاية: (13/ 35).
• الكامل في التاريخ: (10/ 276).
• وفيات الأعيان: (3/ 140)
• تذكرة الحفاظ: (4/ 1342).
• ذيل طبقات الحنابلة: (1/ 399).
• تراجم أعلام السلف: (597).

• شذرات الذهب: (2/ 329).
• النجوم الزاهرة: (6/ 174).
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009م


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 18-03-2025, 10:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



الإمام جمال الدين القاسمي
شريف عبدالعزيز الزهيري
(18)


كلما بعدت الأمة عن منهج النبوة، وكلما تقادم عهد منابع الدين النقية الصافية وقعت في هوة سحيقة من الجمود والتخلف والضعف، وهذه الأدواء كلها تطيح بالأمة عن مقدمة الركب إلى ذيلة، وهذا ظاهر في فترات ضعف الأمة؛ حيث ترى العديد من السمات والظواهر لتلك الفترات: فترى انتشارًا للخرافات والبدع، وترى جمودًا عمليًا، وتقليدًا أعمي، وركودًا فكريًا، وتعصبًا مذمومًا، وترى أو السنة قد أصبحت بدعة، والبدعة أصحبت سنة، ويصبح الاجتهاد والتجديد تهمة خطيرة يستحق صاحبها النفي والقتل والتنكيل حتى يكون عبرة لغيره ممن تسول له نفسه أن
يجتهد، أو يجدد، أو يصلح من أمور المسلمين.
التعريف به:

هو الإمام الكبير، العالم المفسر المحدث، علامة الشام، المجدد المجتهد، صاحب التصانيف الكثيرة الباهرة، العلامة الشيخ أبو الفرج محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن إسماعيل بن أبي بكر المعروف بالقاسمي نسبة إلى جده قاسم الملقب بالحلاق.

ولد القاسمي في جمادي الأولى سنة 1283هـ - 1866م بدمشق حاضرة الديار الشامية، في بيت دين وورع، وخلق كريم، وعلم وأدب، فأبوه كان من الفقهاء الأدباء، له كتاب طريف في باب اسمه (قاموس الصناعات الشامية)، وفي ذلك الجو العابق بجلال الدين والعلم، ورقة الأدب وتهذيبه نشأ الإمام القاسمي نشأة حسنة صالحة، وأقبل على طلب العلم منذ صباه ونعومة أظافره، وقد حرص أبوه على أن يعهد به إلى الأئمة والأعلام في كل فن، فحفظ القرآن وجوده على يد شيخ قراء الشام الشيخ الحلواني، ثم انتقل إلى مكتب المدرسة الظاهرية؛ فتعلم التوحيد وعلوم اللغة والفقه
والحديث والأصول،؛ فنال إجازات عالية في كل هذه الفنون ولما يبلغ الثامنة عشرة، ولم يترك إمامًا بارزًا، أو شيخًا معروفًا إلا جلس إليه، وأخذ عنه إجازة بعلومه.
كان الإمام القاسمي صاحب عزيمة جبارة، ومثابرة عجيبة في طلب العلم، ومطالعة الكتب، والمدارسة والتحصيل والتحقيق، وكان شديد الحرص على أوقاته، وأضن بلحظات حياته من الدينار والدرهم، لا يضيع شيئًا منها سدى، وتلك المحافظة قد مكنته من مطالعة ما لا يحصى من الكتب الكبار والصغار، ينجز الدواوين الكبيرة مطالعة وبحثًا في أيام معدودات، وتلك الهمة العالية
دفعت به لمصاف كبار العلماء وهو شاب في شرخ الشباب، وكان دائمًا يقول: (المكسال شيخ في شبابه؛ لأن دقيقة البطالة أطول من ساعة العمل).
ولقد اتصف القاسمي رحمه الله بصفات العلماء الربانيين، فقد كان سليم القلب، عفيف النفس واللسان، واسع الحلم، جم التواضع، سخيًا على ضيق حاله، حلو المعاشرة والمجالسة، وأوقاته عامرة كلها بالنفع العام والخاص، عازفًا عن المناصب، مجانبًا للسلطة وأربابها، ولقد عرض عليه منصب قاضي العسكر براتب مغر فأعرض لعلمه بتبعات المناصب وضريبتها.

ولقد ظل الإمام القاسمي محافظًا على نفسه وأوقاته طوال حياته، لم يضع منها ساعة في لهو أو بطالة؛ لذلك بارك الله عز وجل في عمره القصير، وأنجز فيه ما لا يفعله إلا مثله من أفذاذ العلماء من سلف هذه الأمة، فلقد كان رحمه الله إمامًا وخطيبًا في دمشق، ومدرسًا يلقي عدة دروس في اليوم الواحد للعامة وطلاب العلم، له مشاركات فعالة في الحياة الاجتماعية بدمشق، ويتصدى للبدع والخرافات، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وهكذا ديدن حياته، حتى صار علامة الشام المقدم بلا منازع.

مصنفاته:

عاش الإمام القاسمي حياة قصيرة من حيث عدد سنواتها، 49 عامًا، ولكنها كانت عريضة طويلة، وغنية بالعلم والعمل النافع والصالح، فلقد كان الإمام حريضًا على وقته أيما حرص، واجتمع عنده من أدوات التصنيف ما أهل لإخراج تلك الحصيلة الرائعة والنافعة من المؤلفات والمصنفات التي أثرت المكتبة الإسلامية في شتى الفنون، وقد بدأ التصنيف وهو في سن المراهقة، وقد ساعدته همته العالية، وحرصه على وقته بكل سبيل، على التأليف والتحقيق والترجيح والمناقشة للأقوال في مؤلفاته؛ فجاءت كاملة في معناها، شاملة في بابها، وكان اهتمامه بالتأليف والتصنيف كبيرًا جدًا؛
لعلمه بأهمية الكتاب في نقل الأفكار، ونشر العلوم، وكان دائمًا يقول: (كتاب يطبع خير من ألف داعية وخطيب، لأن الكتاب يقرؤه الموافق والمخالف)، ولقد ترك ثروة علمية كبيرة، زيادة عن مائة مؤلف ومصنف: بين كبير، ومتوسط، وصغير من أهمها:
1- تفسيره الشهير للقرآن الكريم المسمى (محاسن التأويل) وهو من أجل مصنفاته، وهو من أفضل التفاسير المعاصرة وأنفعها، خاصة في باب الرد على أهل البدع، والفرق والضالة.

2- كتاب دلائل التوحيد، وكان القاسمي سلفيًا في عقيدته كما هو ظاهر من كتبه.
3- إصلاح المساجد من البدع والعوائد.
4- قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث.

5- تعطير المشام في مآثر دمشق الشام.
6- شمس الجمال على منتخب كنز العمال.
وله أيضًا شذرة من السيرة النبوية، ورسالة الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس، ميزان الجرح والتعديل، جوامع الآداب في أخلاق الإنجاب، حياة البخاري، وغيرها من الكتب: منها المطبوع، ومنها
المخطوط الذي يحتاج لجهد المحققين لإخراجه إلى النور حتى ينتفع به الناس.

ثناء الناس عليه:
ظهر القاسمي في فترة مضطربة من حياة الأمة الإسلامية، كانت تعاني فيها من تسلط خارجي، وضعف داخلي، وقد وقعت معظم بلاد الإسلام - ومنها الشام - فريسة للاحتلال الصليبي؛ فكان من الطبيعي أن يضعف الاهتمام بالعلم والعلماء لانشغال الناس بما وقع ونزل ببلادهم، لذلك كان الثناء على علماء الزمان قليلا ونادرًا، ولكن لا يمنع ذلك من ثناء الناس على الإمام القاسمي،
ومن ذلك:
قال عنه أمير البيان شكيب أرسلان: وإني لأوصي جميع الناشئة الإسلامية التي تريد أن تفهم الشرع فهمًا ترتاح إليه ضمائرها، وتنعقد عليه خناصرها، ألاَّ تقدم شيئًا على قراءة تصانيف المرحوم الشيخ جمال القاسمي.
قال عنه الشيخ محمد رشيد رضا: هو علامة الشام، ونادرة الأيام، والمجدد لعلوم الإسلام، محيي السنة بالعلم والعمل، والتعليم والتهذيب والتأليف، وأحد حلقات الاتصال بين هدي السلف، والارتقاء المدني الذي يقتضيه الزمن.
محنته:

دائمًا ما يكون للعصر الذي يحيا فيه الإمام الذي نروى محنته دور كبير في تلك المحنة؛ فلقد ولد القاسمي ونشأ وترعرع في فترة بالغة الاضطراب، في أواخر الحكم العثماني الذي أوشكت شمسه على
الغروب، وكانت الأوضاع السياسية شديدة الاضطراب، والأعداء يحيطون بالدولة من كل اتجاه، والاستبداد الداخلي قد كمم الأفواه ووأد الطموحات، والأمة تشهد تراجعًا وتدهورًا كبيرًا في شتى المجالات، ومنها المجال الديني الذي شهد جمودًا، وانشغالا بالقشور والمتون والحواشي، والتفريعات النظرية، والافتراضات الوهمية، وغرق أهل العلم وقتها في أتون التعصب والتقليد والمذهبية المقيتة، حتى صار العلم مرادفًا للتحجر والتجمد والغيبوبة، وبالتالي أثر ذلك على الناس بشدة، فلم تستضئ حياتهم بنور العلم الساطع، والفهم الصحيح المثمر للدين، وصار كل من يحاول كسر ذلك الجمود العلمي، ويحرك ركود الحياة العلمية آنذاك مارقًا مبتدعًا، تجب محاكمته وردعه.
كان العلامة القاسمي معنيًا بأحوال الأمة الإسلامية، يسوءُه ما يراه من تدهورها وتراجعها أمام أعدائها، وبالأخص كانت تسوءه الحالة المزرية التي وصلت إليها الأوضاع الدينية والعلمية ببلاد الإسلام، وذلك الجمود والتحجر الذي أصابها، ومهد السبيل معه لدخول البدع والخرافات والتعصب والتفرق، فبدأ دعوته الشهيرة لنبذ التعصب والتقليد، وتنقية العقيدة من الدخن الذي أصابها،
ودعا الناس للعودة إلى منابع الدين الأولى بصفائها ونقائها، كما دعا إلى فتح باب الاجتهاد من جديد بعد أن أغلقه المتفقهة والمتعصبة، وسدنة المذاهب بأقفال كبيرة منذ سنوات بعيدة، ووقفوا على باب التقليد مدافعين ومنافحين بكل ما أوتوا من قوة.
كان القاسمي صاحب عقل نير، وفكر وفهم ناضج، استفاد من قراءته التاريخية لسير المجددين والمجتهدين؛ فعمل على تكوين جبهة متحدة ممن هو على شاكلته من أهل العلم الغيورين المصلحين،
فأنشأ جمعية المجتهدين مع زملائه: عبدالرازق البيطار، وسعيد الفرا، ومصطفى الحلاق، وغيرهم، وعقدت الجمعية حلقات بحث دورية لقراءة ومناقشة أهم الكتب، والتباحث في أحوال المسلمين، وسبل النهوض بهم.

أثار تكوين مثل تلك الجمعيات، وما يجري فيها من مناقشة أوضاع المسلمين: كل من السلطة الدينية، والدنيوية: فلقد اعتبر مفتي الشام وقتها أن أمثال تلك الجمعيات والدعوات لفتح باب
الاجتهاد من قبيل الابتداع في الدين، والهرطقة والخروج عن الجماعة والمألوف، في حين اعتبر والي الشام عثمان نوري باشا تلك الجمعية ورجالها من المحرضين والساعين لتقويض الدولة العثمانية، ولنا أن نتفهم طبيعية الدوافع الحقيقية للرجلين: فالأول يخاف على منصبه ونفوذه الديني، ومكتسباته التي ينالها باسم الدين، والثاني شأنه شأن كل الطغاة والظلمة الحريصين على تخلف شعوبهم، وركودهم وسباتهم، حتى لا يُطالِبُوا بحق أو عدل، أو يتكلموا عن حلال وحرام، وهكذا.
وفي سنة 1313هـ - 1895م تم تقديم الشيخ القاسمي ورفاقه للمحاكمة بأعجب وأغرب تهمة على مر العصور، ألا وهي تهمة الاجتهاد وابتداع مذهب جديد في الدين أسموه المذهب الجمالي - نسبة لجمال القاسمي - وشكلوا له هيئة قضاء من شيوخ المذاهب من أرباب التقليد، وسدنة الجمود، تحت قيادة مثير المحنة مفتي الشام وقتها - وكان عمر الشيخ القاسمي وقتها ثلاثين سنة - فقام القاسمي للدفاع عن نفسه وإخوانه، وألقى محاضرة رائعة في بيان منهجه ودعوته وآرائه، دحض بها افتراءات المقلدين والمتحجرين، ومن روعة بيانه، وقوة حجته لم يجد: لا الوالي، ولا المفتي، ولا
أي أحد ممن تصدي لمحنته سبيلا للنيل منه، وتم الإفراج عنه وعن إخوانه بعد إن كانت أبواب السجن مفتحة لهم، وسياط الجلاد مشرعة لإلهاب ظهورهم، وقد نظم شعرًا رائعًا في تلك المحنة نختار منه بعض الأبيات:
زعم الناس بأني مذهبي يدعى الجمالي

وإليه حينما أفتى الورى أعزو مقالي
لا وعمر الحق إني سلفي الإنتحالِ
مذهبي ما في كتاب الله ربي المتعالِ
ثم ما صح من الأخبار لا قيل وقالِ
أقتفي الحق ولا أرضى بآراء الرجالِ
ولقد أدت تلك المحنة، والتي كادت أن تؤدي بحياة ذلك الإمام العلامة: لرفع قدره ومنزلته بين الناس، وإقبالهم على كتبه ومصنفاته، وحلق دروسه وفتاواه حتى إنه لما زار مصر بعد ذلك بعدة سنوات أطلق عليه الشيخ رشيد رضا لقب علامة الشام، وكان وقتها في السابعة والثلاثين فقط من العمر، فسبحان من بارك في أعمار هؤلاء الأعلام فصاروا مثل نجوم السماء وهم في شرخ الشباب، وكم من محنة جلبت منحة، وكم من بلاء قاد إلى علاء.
المصادر والمراجع:
جل الترجمة مأخوذة من مقدمة كتابه الشهير:

• محاسن التأويل.
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 19-03-2025, 10:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



محنة الإمام الشافعي
شريف عبدالعزيز الزهيري
(19)



بين يدي المحنة:
العلم والفهم من أعظم نعم الله عز وجل على عبده، وكلما ازداد العبد علمًا وفهمًا ترقي في سلم الإمامة حتى يصل إلى العلا؛ حيث محبة الخالق، ومحبة المخلوقين، والعلم والفهم رزق يسوقه الله عز وجل لمن يشاء من عباده، فلربما يكون عند ذلك العالم ما ليس عند غيره من
العلماء في العلم والفهم، والناس على مر العصور يتنافسون في الرزق، ويتحاسدون عليه، ومما تحاسد الناس عليه سلفًا وخلفًا المكانة والمنزلة التي ينالها بعض العلماء عند الأمة، ولو فتشت عن كثير من المحن والابتلاءات التي تعرض لها كبار علماء الأمة لوجدت الحسد والغيرة تقف خلفها، فهي سنة ماضية، وأمر مقدور، لا يخلو منه عصر من العصور.
التعريف به:

فقيه الأمة، وعلمها المقدم، الإمام الفذ العبقري، ناصر الحديث، أستاذ الفنون، الأصولي اللغوي البديع، الشريف النسيب، العالم الكبير أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن
عثمان بن شافع بن السائب الهاشمي المطلبي القرشي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• ولد في غزة بفلسطين سنة 150هـ، ويقال: إنه ولد في نفس اليوم الذي مات فيه الإمام أبو
حنيفة، وقد مات أبوه إدريس شابًا، والإمام مازال في المهد، فانتقلت أمه إلى اليمن؛ لأنها كانت من الأزد، وهم من أكبر بطون اليمن، وظلت باليمن عدة سنوات؛ فخافت عليه ضيعة نسبه الشريف، فتحولت به إلى مكة، فنشأ بها وترعرع، وأقبل على الرمي حتى صار من أمهر الرماة، ثم أقبل على العربية والشعر، ثم ألقى الله عز وجل في قلبه حب العلم والفقه، وذلك من تقادير الله عز وجل له، وإرادة الخير به وبالأمة، فأقبل على العلوم ينهل منها بكل فروعها.
• جلس الشافعي إلى علماء مكة، وتفقه عليهم حتى صار أهلاً للفتوى، وأذن له شيوخه: مثل
مسلم بن خالد الزنجي بذلك، والشافعي وقتها في سن المراهقة، وقد قرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين، وتنقل في البادية لفترة طويلة حتى أتقن لهجات العرب وأشعارها؛ فلما جاوز العشرين رحل إلى المدينة، وجلس للإمام مالك رحمه الله، وقرأ عليه كتابه الموطأ من حفظه، فانبهر الإمام مالك بقوة حفظه وفهمه، وتفرس فيه النجابة والعلم؛ فأوصاه بوصايا نافعة يحتاجها أي عالم يريد أن يسلك سبيل الربانية.
• يعتبر الإمام الشافعي ناشر مذهبه؛ فلقد طاف البلاد والأقاليم، فقد دخل العراق مرتين
واليمن ومصر عدة مرات، وقد استقر بها في النهاية، واختص به أهل مصر دون غيرهم، ولقد صنف التصانيف، ودون العلم، ورد على الأئمة متبعًا الأثر، وبعد صيته، وتكاثر عليه الطلبة، فلم يُعلم أحد من الأئمة له تلاميذ وطلبة نجباء مثل الإمام الشافعي؛ فتلاميذه ملأ السمع والبصر، كفي أن نذكر منهم الإمام أحمد بن حنبل والبويطي وأبو ثور، وغيرهم كثير.
• أما عن منهجه ومذهبه الذي اتبعه الإمام الشافعي في تقرير قواعد مذهبه، فلقد كان أثريًا سلفيًا يعتمد على الوحيين: القرآن والسنة، ثم القياس والإجماع، وكان يقول: كل متكلم على
الكتاب والسنة هو الجد، وما سواه هو الهذيان، ويقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط، أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا فلم أقل به؟
• وهذا الاتباع للحديث، والعمل بالأثر جعل الإمام الشافعي يرجع عن كثير من أقواله بعد أن دخل مصر، وسمع ما عند المصريين من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار في

المذهب قولان: القديم وهو في العراق حتى سنة 198هـ، الجديد وهو في مصر حتى وفاته سنة 204هـ، وهذا الرجوع للحديث والأثر والعمل به لا يقدم عليه إلا العلماء العاملون المخلصون الربانيون، وكم من فقيه ومتعالم يتبع رأي إمامه، ولا يخالفه أبدًا، ولو إلى الحق والثابت من الحديث والآثار؛ فيكون بذلك قد قدم رأي إمامه على قول الله ورسوله، وهذه المشاركة تحديدًا كانت من أسباب المحنة التي تعرض لها الإمام الشافعي رحمه الله.
• أما عن عقيدة الشافعي رحمه الله، فلقد كان الإمام من كبار علماء أهل السنة والجماعة،
رأسًا من رءوسهم الأعلام، انتدب للرد على المبتدعة والزنادقة خاصة المعتزلة والجهمية، وكان رحمه الله من أشد الناس فيهم؛ لذلك لم يجرؤ أحد من هؤلاء الضلال على أن يرفع رأسه أيام الإمام مالك ثم الشافعي، وكان ينهي أصحابه عن الخوض في كلام المبتدعة، وينهي عن الصلاة خلف الرافضي والمرجئي والقدري المعتزلي، وأفتي بكفر من يقول بخلق القرآن.
• أما عن عبادته وأخلاقه؛ فعلى الرغم من انشغاله الكبير بالعلم الشرعي والدرس والبحث، وعلى الرغم من أنه كان يقول: قراءة الحديث خير من صلاة التطوع، وقوله: طلب العلم أفضل
من صلاة النافلة، إلا إنه كان عابدًا ربانيًا زاهدًا، مقبلا على شأنه وآخرته، ليس للدنيا عليه سبيل، قال عنه راويته الربيع بن سليمان: كان الشافعي قد جزأ الليل: فثلثه الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام. وكانت تمر عليه آية العذاب، أو حديث الترهيب فيخر مغشيًا عليه من رقة قلبه، وكان مشهورًا بتلاوة القرآن، تواتر عن أصحابه أنه كان يختم في كل ليلة ختمة في شهر رمضان يختم ستين ختمة، وهذا أظنه من المبالغات التي لا تصح، ولا يسمح الوقت بوقوعها، وعادة ما تكون التراجم والطبقات مليئة بالأخبار المبالغ فيها في شأن هؤلاء الأئمة الأعلام، وهذه الأخبار والآثار تحتاج لجهد مجموعة من العلماء والمتخصصين لتمحيصها، وتنقية كتب التراجم والسير منها، أما عن أخلاقه رحمه الله فلقد كان الشافعي شريف النفس والنسب، كريمًا سخيًا، شديد البذل والعطاء على ضيق ذات يده، لا يرد سائلا قط، تاركًا للمراء والجدل، مخلصًا ناصحًا للأمة، ويود لكافه المسلمين الخير، وكان يقول عن نفسه: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم - يعني كتبه - على أن لا ينسب إلى منه شيء، فأين هؤلاء الذي يضنون بعلمهم، ويتاجرون به بيعًا وشراءً من هذا الإمام الفذ العظيم.

مصنفاته:
• لم يكن عصر الإمام الشافعي عصر التدوين والتصنيف، فلقد كان العلم مازال وقتها ينتقل ويتعلم بالتلقي والدروس المباشرة، وأضف إلى ذلك انشغال الشافعي نفسه بنشر مذهبه والتنقل في البلاد من أجل لقاء العلماء والمشايخ، ولكن لم تصنع هذه المهام كلها الشافعي
عن التدوين والتأليف، وإن كان علمه أكبر بكثير من كتبه ومؤلفاته.
• يعتبر الشافعي واضع علم أصول الفقه، وذلك في كتابه الشهير: (الرسالة) الذي كتبه عملا بنصيحة شيخه عبد الرحمن بن مهدي، ويعتبر كتاب الرسالة اللبنة الأولى في علم الأصول،
وقد ألفه الشافعي وهو شاب في الثلاثينيات، ووضع فيه حجة الإجماع، ومعاني القرآن، والناسخ والمنسوخ، وقبول الأخبار.
• وللشافعي أيضًا كتاب: (الأم) الذي جمع فيه مسائله وأقواله وفتاواه، وله كتب أخرى، كتبها
الشافعي بلغة سهلة يفهمها الجميع، على الرغم من بلاغته الفائقة، وفصاحته في المناظرة، والتي لم يقم له فيها أحد من أهل زمانه، وقد عد بعض أهل العلم للشافعي أكثر من مائة كتاب في علوم القرآن والسنن والمسانيد، وشتى فروع العلم، تسابق على حفظها وجمعها واقتنائها العلماء والأئمة، حتى إن إسحاق بن راهويه تزوج امرأة بمرو لم يتزوجها إلا لأنها أرملة رجل كانت عنده كتب الشافعي، وقال الجاحظ الأديب: نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا في العلم، فلم أر أحسن تآليفًا من المطلبي - يقصد الشافعي - لأن لسانه ينظم الدرر.
ثناء الناس عليه:

• يعتبر الإمام الشافعي من أكثر علماء الإسلام الذين نالوا التقدير والثناء الوافر من الناس عالمهم وعاميهم، فلقد كان الإمام - وعلى مر العصور - كلمة إجماع بين الناس، وهو أكثر علماء الأمة الذين كتب في مناقبهم وفضائلهم كتب ومؤلفات، من أشهر مناقب الشافعي
للبيهقي، ومناقبه للخطيب البغدادي، وتوالي التأسيس لابن حجر.
وهذه طائفة من ثناء معاصريه عليه:
• قال عنه الإمام أحمد:
كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، وإني لأدعو له في كل سحر، وما أحد مس محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعي في عنقه منة، ولقد كان أفصح الناس، وما عرفنا العموم من الخصوص، وناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعي، وصاحب الحديث لا يشبع من كتب الشافعي.
قال عنه عبد الرحمن مهدي وهو شيخه: ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها.
قال يونس بن عبد الأعلى: كانت ألفاظ الشافعي مثل السكر؛ فلقد أوتي عذوبة منطق، وحسن بلاغة، وفرط ذكاء، وسيلان ذهني، وكمال فصاحة، وحضور حجة.
وقال ابن عبد الحكم: ما رأيت الشافعي يناظر أحدًا إلا رحمته، ولو رأيت الشافعي يناظرك لظننت أنه سبع يأكلك، وهو الذي علم الناس الحجج.
قال عن أبي ثور الكلبي: كان الشافعي من معادن الفقه، ونقاد المعاني، وجهابذة الألفاظ.
قال عنه المبرد: كان الشافعي من أشهر الناس، وآدب الناس، وأعرفهم بالقراءات.
قال عنه يحيى القطان: ما رأيت أعقل ولا أفقه من الشافعي.
وورد عن جمع أهل العلم أنهم كانوا يخصون الشافعي بالدعاء في صلواتهم: منهم على سبيل المثال أحمد بن حنبل، وعبد الرحمن مهدي، ويحيى بن سعيد، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور،
وغيرهم.

قال عنه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: الإمام الكامل، العالم العامل، ذو الشرف المنيف، والخلق الظريف، له السخاء والكرم، وهو الضياء في الظلم، أوضح المشكلات، وأفصح عن المعضلات.
أما الحديث الذي رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وفيه: ((لا تَسبُّوا قُرَيْشًا؛ فإن عَالِمَهَا يَمْلأ الأَرْضَ عِلْمًا))، والذي حمله كثير من أهل العلم على الإمام الشافعي؛ فهو حديث ضعيف آفته
النضر بن حميد فهو متروك، ويرويه عن أبي الجارود، وهو مجهول.
محنته:
أصدق وصف، وأدق تعبير لأصل المحنة التي تعرض لها الإمام الشافعي ما قاله تلميذه الأنجب الإمام أحمد بن حنبل عندما سأله بعض الناس عن سبب هجوم بعض أهل العلم على
الإمام، إذ قال: لقد من الله علينا به، لقد كنا تعلمنا كلام القوم، وكتبا كتبهم، حتى قدم علينا؛ فلما سمعنا كلامه، علمنا أنه أعلم من غيره، وقد جالسناه الأيام والليالي، فما رأينا منه إلا كل خير، واعلموا حكم الله تعالى أن الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئًا من العلم، وحُرِمَهُ قرناؤه وأشكاله، حسدوه فرموه بما ليس فيه، وبئست الخصلة في أهل العلم.

وحقًا كان الإمام الشافعي رحمه الله كما وصفه الإمام أحمد، فلقد رزقه الله عز وجل علمًا وفهمًا ومواهب لدنية كثيرة لم تكن عند غالبية أقرانه، بل لا نكون مجازفين إذا قلنا: إنه لم يكن في عصر الشافعي من هو مثله في العلم والفهم، وجودة الذهن، وحدة الذكاء، وذلك كله في إطار كبير من الأخلاق النبيلة والفضائل الكثيرة، أضف لذلك شرف النسب، وكرامة المحتد، مع جميل الصورة، وبهاء الطلعة؛ لذلك تعرض الإمام لمحن متتالية مردها وأساسها الحسد والغيرة.
نشأ الشافعي يتيمًا فقيرًا، كثير التنقل، ولم يكن عند أمه من النفقة ما تعطيه للمعلم، فكان الشافعي يقوم ببعض الأعمال المساعدة لمعلمه: مثل قيامه على صبيان الحلقة حال غيابه
نظير تعليمه مجانًا، وكان الشافعي لا يجد ما يكتب فيه؛ فكان يكتب في الأكتاف والظهور، ويذهب إلى ديوان البلد يستوهب منهم الأوراق المستعملة ليكتب على ظهرها.
بسبب ذلك الفقر اضطر الشافعي لأن يطلب العمل في القضاء، لينفق على نفسه وأمه
ورحلته في طلب العلم، وكان وقتها قد تأهل للفتيا، وجالس الأكابر، وسمع من الأعلام: مثل مالك وابن عيينة، وغيرهم، وبالفعل استطاع أحد أقاربه؛ وهو (مصعب بن عبد الله) أن يلحقه بالعمل قاضيًا باليمن.
استلم الشافعي عمله بالقضاء في بلاد اليمن، فكان شعلة نشاط وذكاء، يتوقد ذهنه بالعلم والفهم؛ فأحبه الناس ورضوا به، وكان الشافعي بجانب عمله في القضاء، يعمل على نشر العلم والفقه، فجالس العلماء والمحدثين، وعلا قدره، وظهر أمره، وتكلم عن فضله وشأنه في أهل اليمن كلهم، وذلك كله وهو في أوائل الثلاثينيات، عندها تحركت نوازع النفس البشرية، وبدأت علامات الحسد والغيرة تظهر عند أقرانه.

كانت بلاد اليمن في تلك الفترة البقاع التي يكثر فيها المنتسبون لفرقة الشيعة الضالة، ذلك لوجود الكثير من آل أبي طالب بها منذ أيام الحسين بن علي رضي الله عنهما، كما لا ننسي مؤسس فكر التشيع الأول هو اليمني الضال ابن سبأ الصنعاني الملقب بابن السوداء؛ لذلك كانت بلاد اليمن من المناطق التي توليها الدولة العباسية عناية خاصة، خوفًا من عبث الشيعة والروافض بأهلها؛ وذلك منذ أيام حركة النفس الزكية سنة 145هـ، وكان بنو العباس شديدي التوجس والحذر من بني عمومتهم الطالبيين، لعلمهم بأنهم يرون أنفسهم أحق بالخلافة منهم؛ لذلك كان بنو العباس يشتدون في مقابلة أدني تهمة بهذا الخصوص.
استغل خصوم الشافعي وحساده تلك السياسة العباسية في معاملة خصومهم السياسيين؛ فأسرع أحدهم واسمه (مطرف بن مازن). وكتب إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة 184هـ: إن أردت اليمن لا يفسد عليك، ولا يخرج من يدك، فأخرج عنه محمد بن إدريس الشافعي، وذكر أقوامًا من الطالبيين، حتى تكون المكيدة محكمة، والوشاية ليست بالشافعي وحده، وتخرج في إطار خطة ومؤامرة يدبرها الشيعة بقيادة الشافعي.
كانت تهمة قيادة تنظيم شيعي لقلب نظام الحكم في تلك الفترة، وفي غيرها من الفترات،
من أشد التهم خطورة، وأوخمها عاقبة؛ لذلك أسرع الخليفة العباسي هارون الرشيد بإرسال والٍ جديد لبلاد اليمن وهو (حماد البربري)، الذي ألقى القبض على الإمام الشافعي، وكل من ورد اسمه في وشاية الحاسد (مطرف بن مازن)، وأوثقهم في الحديد، وحملوهم بهذه الصورة المؤلمة من بلاد اليمن إلى (الرقة) في شمال بلاد العراق؛ حيث مقر إقامة الخليفة العباسي: (هارون الرشيد).
ولنا أن نتخيل حجم المعاناة والألم البدني والنفسي الشديد الذي وقع على الإمام الشافعي،
عالم قاضٍ، ومن نسب شريف، وبريء لا ذنب له، ورحلة طويلة وشاقة من أقصى البلاد جنوبا لأقصاها شمالا، وهو مكبول في الحديد، وفرية كاذبة، ليست تقدح في مهنته كقاضي، ولكن في سمعته كإمام ومحدث وفقيه.

ولكن رجل كامل مثل الإمام الشافعي لم تكن تلك المحنة لتنال من همته وإرادته ومكانته، فلقد استعد لمواجهة كافة التهم الموجهة إليه، وانتضى سيف بلاغته، وركب فرس حجته، وما أن أدخل على الخليفة هارون الرشيد، وسأله الرشيد عما نسب إليه من تشيع وتآمر، حتى رد
الإمام الشافعي ردًا بلغيًا مقنعًا، دحض به أباطيل التهم الكاذبة، ثم ختم دفاعه البليغ بجملة خلبت لب الخليفة الرشيد؛ إذ قال له: [أأدع من يقول أنه ابن عمي: (يقصد هارون الرشيد)، وأتولى من يقول أنه خالقي ورازقي: (يقصد إمام الشيعة الروافض، الذي يسبغون على أئمتهم صفات وخصائص لا تكون إلا لله عز وجل وحده: مثل علم الغيب، وتقدر المقادير، وغير ذلك)].
انشرح صدر الخليفة الرشيد؛ فلقد كان يحب العافية، ويكره أن يزج بطالبي آخر في السجون،
وقد مات في العام الماضي 183هـ الإمام موسى الملقب بالكاظم - وهو من أبناء عمه- في السجن بسبب الوشايات والسعايات، وكان حاضرًا لمجلس الشافعي مع الرشيد الإمام محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة، فأحب الرشيد أن يتعرف على مكانة الشافعي العلمية، فطرح مسألة للمناظرة بين الإمامين: الشافعي ومحمد بن الحسن، فأبان الشافعي عن قوة علمية باهرة أذهلت الحاضرين، فازداد سرور هارون الرشيد، وعرف قدر الإمام؛ فأمر له بجائزة خمسة ألاف دينار، كانت بمثابة رد اعتبار لذلك الإمام، وتبرئة لساحته أمام الناس.
كانت تلك المحنة فاتحة خير للإمام الشافعي؛ فلقد مكث بالعراق، ولم يعد إلى بلاد اليمن بعدها إلا لجلب أهله وحاجاته وكتبه، بعدها مكث بالعراق عدة سنين، يفتي ويناظر ويعلم الناس، فانتشر ذكره بين الناس، فأقبلوا عليه، وتكونت مدرسته الفقهية في العراق، واعتني
بالحديث والأثر، واتبعهما كمنهج في الرد على المخالفين؛ لذلك أطلقوا عليه في بغداد لقب ناصر الحديث، وصنف التصانيف، ودون العلم، ورد على الأئمة متبعًا الأثر، وتكاثر عليه الطلبة، فأين حاسده ومبغضه الذي أراد إسكات صوته، وخنق علمه وفقهه في بلاد اليمن؟ فأعلى الله عز وجل ذكره في الأرض كلها، ونشر علمه في المشرق والمغرب، وكبت خصومه وحساده كما كبت كل حاسد وحاقد لأهل العلم الربانيين على مر العصور.

اجتمع عنده علم أهل الرأي أخذه من محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، وعلم أهل الأثر أخذه من الإمام مالك بن أنس في المدينة، فمزج بين المدرستين، حتى أصل الأصول، وقعد القواعد، وأذعن لعلمه وفضله الموافق والمخالف، وانتقل إلى مصر سنة 198هـ، فلما استوطنها أتاه جلة أصحاب الإمام مالك، وأقبلوا عليه، فلما أن رأوه يخالف مالكًا، وينقض عليه كثيرًا من مسائله، أعرضوا عنه، وتنكروا له، حتى إنهم كانوا يدعون عليه في صلواتهم بالموت! حتى لا تندثر مدرسة الإمام مالك، وذلك من جملة المحن التي عاني منها الإمام الشافعي، فكم أعمي الحسد والتعصب من بصيرة؟ وكم طمس من فضل وعلم ورجال كبار؟
بجانب ما كان يعانيه الإمام الشافعي من محن بسبب الحسد والغيرة، وآثار التهمة القديمة بالتشيع والرفض؛ كان الشافعي يعاني من محنة من طراز آخر، محنة قدرية لا اختيار فيها، ولا سبيل لدفعها، بل هي علامة من علامات مرضاة الله عز وجل، كان الشافعي مريضًا بالبواسير
مرضًا مزمنًا، عاني منه أشد المعاناة، حتى إنه كان ينزف معظم الوقت، ولا يركب ولا يجلس إلى على لبد حتى يشرب الدم الذي ينزف بواسيره، حتى إنه كان يحدث ويعلم ويؤلف ويقرأ القرآن وتحته طست من شدة النزف، بل إنه ذلك المرض الشديد حرمه من لذة الجماع، ولم يولد له ولد إلا في أواخر حياته، بسبب عدم قدرته على الجماع من شدة البواسير.
وظل مرضه وسقمه يتعالى عليه حتى إنه لم يكد يقوى على الوقوف أو الجلوس، وكان يدخل عليه تلميذه يونس بن عبد الأعلى - وكان حسن الصوت - فيأمره الشافعي أن يقرأ عليه آيات
الصبر على البلاء، ليتقوى بها، ويقول له: يا يونس لا تغفل عني بقراءتك فإني مكروب؛ وذلك من شدة آلامه وأوجاعه، حتى مات صابرًا محتسبًا وهو في الرابعة والخمسين من عمره، فرحمه الله عز وجل رحمة واسعة، وأجزل له المثوبة.

المصادر والمراجع:
• سير أعلام النبلاء: (10/ 5).
• حلية الأولياء: (9/ 63).
• تاريخ بغداد: (2/ 56).
• البداية والنهاية: (10/ 274).
• الكامل في التاريخ: (5/ 453).
• وفيات الأعيان: (4/ 163).

• تذكرة الحفاظ: (4/ 361).
• طبقات للشافعية ص1 كله.
• شذرات الذهب: (2/ 9)

• صفة الصفوة: (1/ 433).
• النجوم الزاهرة: (2/ 176).
• طبقات الحفاظ: (152).
• تراجم أعلام السلف: (305).
ترويض المحن: دراسة تحليلية لأهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة
دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 20-03-2025, 10:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .



محنة الإمام النسائي: عدوان الجهل والتعصب
شريف عبدالعزيز
(20)



لا يزال الجهل والتعصب أعدى أعداء العلم والعلماء؛ فهما نقيضان متضادان، كلاهما حرب على الآخر، كلاهما في حالة صراع قائمة ومستمرة عبر التاريخ، فالعلم نور وحق وبيان والعلماء أهله وحراسه ومناصروه، والجهل ظلم وظلام وباطل وبهتان والجهلاء أهله وحراسه ومناصروه، الجهل داء والعلم دواء، الجهل سقام القلوب والنفوس والعقول والعلم شفاؤها، لذلك فإن الله -عز وجل- قد أعلى من شأن العلم والعلماء وجعلهم ورثة الأنبياء، وجعل فضل العالم على العابد كفضل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أدنى المسلمين، وعلى مر التاريخ عانى علماء الأمة الربانيون من سفاهة الجهلاء وحماقة المتعصبين الكثير من الويلات والمحن، بل إن بعضهم قد راح ضحية الجهل والتعصب، ففقدت الأمة العديد من كبار الأئمة والعلماء بسبب ذلك، وعلى رأس هؤلاء العلماء الذين راحوا ضحية الجهل والجهلاء الإمام (النسائي) صاحب السنن -رحمه الله.
ترجمة الإمام النسائي:

هو الإمام الحافظ الحجة الثبت، شيخ الإسلام، ناقد الحديث، وبحر العلوم، وواحد من كبار علماء الأمة، وصاحب السنن المشهورة، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر النسائي، ولد سنة 215هـ بمدينة نسا من أعمال خراسان - بين إيران وأفغانستان الآن - طلب العلم صغيرًا وقد ملك حب الحديث وطلبه والرحلة إليه مجامع فؤاده، فارتحل لطلب الحديث سنة 230هـ أي وهو في الخامسة عشر، فرحل أولاً إلى
المحدث الشهير (قتيبة بن سعيد) ومكث عنده عامًا كاملاً، سمع خلاله مروياته كلها، ثم انطلق بعدها يجول في طلب العلم والحديث في خراسان والحجاز ومصر والعراق والجزيرة والشام والثغور، ثم استوطن مصر، وصارت الرحلة إليه، وإليه ضربت أكباد الإبل، وارتحل إليه الحفاظ، ولم يبق له نظير في هذا الشأن.
أما عن شيوخه وتلاميذه، فقد سمع من: إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار، ومحمد بن النضر بن مساور، وسويد بن نصر، وعيسى بن حماد زغبة، وأحمد بن عبدة الضبي، وأبي الطاهر بن السرح، وأحمد بن منيع،
وإسحاق بن شاهين، وبشر بن معاذ العقدي، وبشر بن هلال الصواف، وتميم بن المنتصر، والحارث بن مسكين، والحسن بن صباح البزار، وحميد بن مسعدة، وزياد بن أيوب، وزياد بن يحيى الحساني، وغيرهم كثير، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: "سمع من خلائق لا يحصون".

وحدث عنه: أبو بشر الدولابي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو علي النيسابوري، وحمزة بن محمد الكناني، وأبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس النحوي، وأبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد الشافعي، وعبد الكريم بن أبي عبد الرحمن النسائي، وأبو بكر أحمد بن محمد بن السني، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ومحمد بن معاوية بن الأحمر الأندلسي، والحسن بن رشيق، ومحمد بن عبد الله بن حويه النيسابوري، ومحمد بن موسى المأموني، وأبيض بن محمد بن أبيض، وخلق كثير.
أما عن صفاته الخلقية، فقد قال الذهبي: كان شيخنا مهيباً، مليح الوجه، ظاهر الدم، حسن الشيبة، وكان نضر الوجه مع كبر السن، كأن في وجهه قنديل، يؤثر لباس البرود النوبية والخضر، ويكثر الاستمتاع، له أربع
زوجات، فكان يقسم لهن، ومع ذلك فكان يصوم صوم داود ويتهجد ويكثر من تلاوة القرآن مع عذوبة معلومة في صوته شهد لها الجميع.
أما عن عقيدته (وهي مربط الفرس في محنته والسبب الرئيسي لمصرعه): قال قاضي مصر أبو القاسم عبد الله بن محمد بن أبي العوام السعدي: حدثنا أحمد بن شعيب النسائي، أخبرنا إسحاق بن راهويه، حدثنا محمد بن أعين قال: قلت لابن المبارك: إن فلانا يقول: من زعم أن قوله تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) [طه: 14] مخلوق، فهو كافر. فقال ابن المبارك: صدق، قال النسائي: بهذا أقول.

وأما ما رمي به من التشيع والانحراف عن المتعصبين جهلاً لمعاوية ضد علي -رضي الله عنهما-، فبسبب تأليفه لكتاب خصائص علي -رضي الله عنه-، فمن أحسن ما يعتذر له به ما قاله هو لما سُئل عن ذلك: قال الوزير ابن حنزابة: سمعت محمد بن موسى المأموني صاحب النسائي قال: سمعت قوما ينكرون على أبي عبد الرحمن النسائي كتاب: (الخصائص) لعلي -رضي الله عنه-، وتركه تصنيف فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك، فقال: دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، فصنفت كتاب: (الخصائص)، رجوت أن يهديهم الله –تعالى-. وبالنسبة لمذهبه الفقهي فقد قال ابن الأثير في أول (جامع الأصول): كان شافعياً، له مناسك على مذهب الشافعي، وكان ورعاً متحرياً.
مكانته العلمية وثناؤهم عليه:

يحتل النسائي مكانة سامقة في ثبت علماء الأمة، فهو يقف في مصاف كبار علماء الأمة، وإمامًا من أكبر أئمة الحديث، حتى إن السيوطي -رحمه الله- قد قال عنه: (النسائي مجدد المائة الثالثة). وثناء الناس عليه وإقرارهم بإمامته وريادته مذكور في كل كتب التراجم التي ترجمت كحياة هذا الإمام الكبير وهذه طائفة منتقاة من أقوالهم:

قال الحافظ أبو علي النيسابوري: "أبو عبد الرحمن النسائي الإمام في الحديث بلا مدافعة"، وقال الإمام الدار قطني: "أبو عبد الرحمن النسائي مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره"، وقال محمد بن المظفر الحافظ: "سمعت مشايخنا بمصر يصفون اجتهاد النسائي في العبادة بالليل والنهار، وأنه خرج إلى الفداء مع أمير مصر، فوصف من شهامته وإقامته السنن المأثورة في فداء المسلمين، واحترازه عن مجالس السلطان الذي خرج معه"، وقال أبو بكر بن الحداد الفقيه: "رضيت بالنسائي حجة بيني وبين الله –تعالى-"، وقال أبو سعيد بن يونس: "كان أبو عبد الرحمن النسائي إمامًا حافظًا ثبتًا"، وقال الإمام الذهبي: "كان من بحور العلم، مع الفهم، والإتقان، والبصر، ونقد الرجال، وحسن التأليف، جال في طلب العلم في خراسان، والحجاز، ومصر، والعراق، والجزيرة، والشام، والثغور، ثم استوطن مصر، ورحل الحفاظ إليه، ولم يبق له نظير في هذا الشأن"، وقال أيضاً: "ولم يكن أحد في رأس الثلاث مائة أحفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم، ومن أبي داود، ومن أبي عيسى، وهو جار في مضمار البخاري، وأبي زرعة"، وقال الإمام الطحاوي: "أبو عبد الرحمن النسائي إمام من أئمة المسلمين"، وقال مأمون المصري المحدث: "خرجنا إلى طرسوس مع النسائي، فاجتمع جماعة من الأئمة: عبد الله بن أحمد بن حنبل، ومحمد بن إبراهيم، وأبو الآذان، وأبو بكر الأنماطي، فتشاوروا: من ينتقي لهم على الشيوخ؟ فأجمعوا على أبي عبد الرحمن النسائي، وكتبوا كلهم بانتخابه"، وقال ابن الأثير في مقدمة كتابه (جامع الأصول): "النسائي من أئمة الحديث والفقه الشافعي، له مناسك على مذهبه، وكان ورعًا متحريًا، شديد التحري والضبط لرواياته حتى إنه قد أتى أحد رواة الحديث المشهورين وهو (الحارث بن مسكين) وكان الحارث خائفًا من أمور تتعلق بالسلطان، فخاف من النسائي أن يكون عينًا عليه، فمنعه من دخول بيته، فكان النسائي يجيء فيقعد خلف الباب ويسمع، وكان بعدها إذا روى الحديث عن الحارث لا يقول: حدثنا حارث، إنما يقال: قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، من شدة تحريه وصدقه وضبطه لألفاظ الرواية".
نقل الذهبي عن الحافظ بن طاهر أنه سأل سعد بن الزنجاني عن رجل فوثقه، فلما ذكر له أن النسائي قد ضعفه قال: "يا بنيّ إن لأبي عبد الرحمن شروطاً في الرجال، أشد من شروط البخاري ومسلم".
ويصادق الذهبي على كلام ابن طاهر فيقول:" قلت: صدق، فإنه قد ليَّنَ (أي ضعّف) جماعة من رجال صحيحي البخاري ومسلم". لقد كان هذا الإمام علماً في الحديث، حتى لم يكن أحد في زمانه.
محنة الإمام النسائي:

الإمام النسائي من كبار علماء الحديث في الإسلام، ومن دأب علماء الحديث الارتحال من بلد لآخر من أجل سماع الحديث وإسماعه، ونشر العلم بين المسلمين، وهذا هو حال العلماء الصالحين المصلحين الذين يحرصون على نشر العلم وبذر بذوره الطيبة في كل مكان؛ ليستفيد أكبر قدر من المسلمين.
طاف النسائي معظم أقاليم الإسلام، واستقر في مصر فترة طويلة، ارتفع بها شأنه وعلا ذكره، وأقبل عليه طلبة العلم والمحدثون وعموم الناس لسماع مجالسه، وهذا الأمر مجلبة للحسد والغيرة عند ذوي النفوس المريضة. بدأت محنة النسائي عندما بلغ أعلى المكانات العلمية في عصره وصارت الرحلة إليه وعيَّنه أمير مصر قاضيًا على عموم البلاد، وخرج معه للجهاد والفداء، وعندها حسده الأقران، وظهر ذلك منهم في قسمات وجوههم وفلتات ألسنتهم، وهذا الحسد أزعج النسائي وضاقت به نفسه حتى عزم على الخروج من البلد كلها، قال الإمام الدارقطني: "كان النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح من السقيم من الآثار، وأعرفهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ، حسدوه، فخرج إلى الرملة بفلسطين وذلك في أواخر سنة 302هـ.
خرج النسائي إلى الشام وفي نيته نشر العلم النافع، ورد ما غالى من أهلها على أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-، فلما وصل إلى الرملة بفلسطين، عقد مجلسًا للتحديث بجامعها الكبير، وأخذ في رواية الأحاديث في فضل علي -رضي الله عنه- وآل البيت وفي باقي الصحابة، وكانت بلاد الشام معقل الأسرة الأموية وقاعدة ملك بني أمية ودمشق ظلت عاصمة الخلافة الأموية وعاصمة الدولة الإسلامية، طوال حكم الأمويين، فلما أخذ النسائي في رواية أحاديث فضل الصحابة، طلبوا منه أن يروي حديثًا في فضل معاوية -رضي الله عنه-، فامتنع النسائي من ذلك؛ لأنه وبمنتهى البساطة لم يخرّج حديثًا في فضل معاوية، ومروياته كلها ليس فيها
حديث واحد في ذلك، فألحوا عليه، فرفض بشدة وكان كما قلنا ضابطًا متقنًا شديد التحري لألفاظه ورواياته للأحاديث، فألحوا عليه أكثر وشتموه، فرد عليهم بكلام شديد أحفظهم، إذ قال لهم:" أي شيء أخرج؟ حديث اللهم: لا تشبع بطنه"، وهو حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وكذلك أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، ولكن ليس للنسائي سند في مروياته ليخرجه به ويحدثه للناس.
ولأن الجهل والتعصب يعمي البصائر، ويسوّد النفوس، فقد اعتبر الجهلة والمتعصبة لبني أمية أن النسائي شيعياً رافضياً، فسبوه وشتموه، وقاموا بجره من رجليه لخارج المسجد، وكان شيخاً كبيراً جاوز الثمانين، فلم يحتمل مثل هذه الإهانة الجسدية والنفسية، ومما زاد الطين بلة، ما ورد عن قيام بعض الجهلة والمتعصبة بضربه في خصيته ضربة مميتة، فحُمل الإمام النسائي مريضاً مدنفاً، فلما أفاق قال لمن معه: "احملوني إلى مكة كي أموت بها، ولكن القدر كان أسرع من مراده وبغيته، فمات في 13 صفر سنة 303هـ، فرزقه الله -عز وجل- حياة هنية وميتة سوية، وختم حياته بصيانة علمه وأحاديثه، وعده كثير من أهل العلم من الشهداء، ونعم الشهيد هو الذي يموت على يد الجهال والدهماء والأغبياء المتعصبة الذين لا يعرفون الحق من الباطل والعالم من الظالم.
هل كان الإمام النسائي شيعياً؟

من خلال البحث والدراسة لحياة المحدث النسائي وتراثه العلمي ومؤلفاته ومشايخه، لا يستطيع الباحث أن يقف عن أي دليل يقود إلى شبهة اتهام الإمام العظيم بالتشيع.
فمشايخه الذين تلقى عنهم العلم والحديث، أو الذين اتصل بهم من غير أساتذته من زملائه وأقرانه ليس فيهم من عرف بالتشيع أو كان شيعياً، حتى يظهر أثره في نفس النسائي بوضوح، كما أنه شافعي المذهب كما جاءت به النصوص التاريخية، وذكره تاج الدين السبكي في الطبقة الثالثة من طبقات الشافعية الكبرى وسبقه إلى هذا غيره من المؤرخين دون استثناء.

علماء الشيعة لهم موقف معروف من مرويات الصحابة -رضوان الله عليهم-، فهم يرفضونها جملةً وتفصيلاً، ولا يعتدون إلا بمرويات آل البيت من وجهة نظرهم فلا يوجد عالم حديث شيعي بالمعنى الاصطلاحي عند أهل السنّة. وكتب النسائي ومؤلفاته كلها مروية عن الصحابة جميعاً دون استثناء بمن فيهم معاوية -رضي الله عنه-، فكيف يقبل القول فيه بالتشيع حتى يتهم به، بل ويقتل بها.
موقف الإمام النسائي من معاوية -رضي الله عنه- غير ما هو ما يعتقده كثير من الجهلة والمتعصبة، فهو يحترم الصحابة جميعاً بمن فيهم معاوية، ففي "تاريخ ابن عساكر" لما سئل عن معاوية، قال: "الإسلام كدار لها باب فباب الإسلام الصحابة فمن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام، كمن نقر الباب إنما يريد الدخول، قال: فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة".
لماذا وصف بعض مؤرخي الإسلام النسائي بالتشيع؟

ورد وصف النسائي بالتشيع اليسير في عدد من كتب التاريخ والسير والتراجم منها:
قال ابن كثير: قيل عنه: "إنه كان ينسب إليه شيء من التشيع"، وقال الذهبي: "إلا أن فيه قليل تشيع وانحراف عن خصوم الإمام علي، كمعاوية وعمرو، والله يسامحه"، وقال ابن خلكان: "إن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره، وخرج إلى دمشق، فسئل عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأساً برأس، حتى يفضل وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا لا أشبع الله بطنك. وكان يتشيع"، وقال ابن تيمية: "وتشيع بعض أهل العلم بالحديث، كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما لا يبلغ إلى تفضيل علي على أبي بكر وعمر، ولا يعرف في أهل الحديث من يقدمه عليهما".
مناقشة هذه الدعوى:
قول ابن كثير عنه:" إنه كان ينسب إليه شئ من التشيع"، عبارة تشير الى تضعيف التهمة أو عدم ثبوتها لأن كلمة (قيل) من كلمات التضعيف أو عدم ثبوت الخبر وعبارة (شيء من التشيع) عبارة تفيد التقليل وليس المذهب أو الالتزام بمذهب الشيعة. وربما كان الشيء اليسير من التشيع هو موقف سياسي في تلك الفترة التي سيطر فيها أنصار معاوية -رضي الله عنه- على مقاليد السلطة فكانت التهمة بالتشيع تطلق لتصنيف المعارضين حتى ولو لم يلتزم بمنهج الشيعة.
قول الإمام الذهبي: "إلا أن فيه قليل تشيع وانحراف عن خصوم الإمام علي، كمعاوية وعمرو، والله يسامحه". الإمام الذهبي في تراجمه يذكر عبارة (فيه قليل تشيع) كثيراً عندما يترجم لكثير من العلماء في تلك الفترة والتي كانت قمة الصراع بين الطائفتين، وهي عبارة لا تضفي على من أطلقت عليه، قصة التشيع بمعناها المذهبي وإليك بعضاً من كبار العلماء السنة الذين أطلق عليهم الذهبي هذه العبارة:
ترجم للحاكم أبي عبد الله النيسابوري وجاء في ترجمته (وكان فيه تشيُّع وحطّ على معاوية. وهو ثقة حجة. توفي في صفر". وترجم لطاووس ابن كيسان فقال في ترجمته: "قلت: إن كان فيه تشيع، فهو يسير لا يضر إن شاء الله "، وترجم منصور بن المعتمر من ثقات التابعين فقال: "تشيع قليل وكان قد عمش من البكاء. قلت: تشيعه حب وولاء فقط."، وترجم لشيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين سفيان الثوري فقال:
"من أئمة الدين، واغتفر له غير مسألة اجتهد فيها، وفيه تشيع يسير".

وغيرهم الكثير من كبار العلماء الذين أطلق الذهبي عليهم هذه العبارة، ومع أخذنا بالاعتبار إنصاف وعدل الذهبي في ترجمته نأخذ العبارة على (الحب والولاء فقط) وليس للمذهب الشيعي. ومما يؤكد ما ذهبت إليه عبارة ابن تيمية المذكورة أعلاه حيث قال:" وتشيع بعض أهل العلم بالحديث، كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما لا يبلغ الى تفضيل علي على أبي بكر وعمر، ولا يعرف في أهل الحديث من يقدمه عليهما". وعبارة ابن تيمية مستند براءة لنفي التشيع بمعناه المذهبي عن النسائي.
الفرق بين التشيع والرفض:
التشيع بمعناه المعروف عند سلف الأمة ليس مرادفاً للرفض، فالتشيع وجد عند بعض علماء السلف وأئمتهم، والتشيع عندهم كان على معنيين: الأول: غض الطرف عن ذكر معاوية -رضي الله عنه- بالكلية لا سلباً ولا إيجاباً، ومنهم النسائي وابن عبد البر والحاكم وغيرهم. والثاني: تقديم علي على عثمان -رضي الله عنهما-، مثل الثوري ووكيع وعبد الرازق وكثير من علماء الكوفة واليمن، وليس أحد منهم قاطبة يفضل علياً على أبي بكر وعمر -رضي الله عن الجميع-.
أما الرفض فكله ذم وشر وبدع وزندقة وانحلال وخروج عن الإسلام، بل يكاد أن يكون ديناً مستقلاً تماماً، ولا يوجد أحد من علماء الإسلام ينسب إلى الرفض.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 247.27 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 241.46 كيلو بايت... تم توفير 5.81 كيلو بايت...بمعدل (2.35%)]