الجانب الأسطوري في كتابات الرحالة الأوروبيين عن الشرق: الأسطـورة والخيال - ملتقى الشفاء الإسلامي

اخر عشرة مواضيع :         انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 28 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859007 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393384 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215694 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 67 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 53 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 30-06-2021, 03:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي الجانب الأسطوري في كتابات الرحالة الأوروبيين عن الشرق: الأسطـورة والخيال

الجانب الأسطوري في كتابات الرحالة الأوروبيين عن الشرق: الأسطـورة والخيال
د. عبدالقادر شريف بموسى





كان الشّرق مصدر إشعاع حضاري منذ القديم، فقد بزغت على أرضه وبين شعوبه أهـمّ الحضارات القديمة (الفرعونية والبابلية وحضارات بلاد الرافدين). ولعلّ من أهمّ هذه الحضارات الّتي أضاءت بنورها العالم بما فيه الغرب نفسه، الحضارة العربية الإسلامية، إذ كـان لها فضل كبير على تقدّم الغرب وتطوّره حيث أخرجته من ظلام الجهل والهمجية الّذي كان يعيش فيهما إلى نور العلم والمدنية.



ويُعدُّ احتكاك الأوروبيين بالحضارة الإسلامية في كلٍّ من إسبانيا وصقيلية وجنوبي إيطاليا من الدّلائل القاطعة الّتي تبرهن على مدى تأثير المسلمين في أوروبا ومدى فضلهم على تقدُّمها.لكن، وبدلاً من أن يردّ الغرب الجميل للشرق ولحضارته، ناصبه العداء، بل وأطلق عليه اسم ذ. إنّ أوّل ما يقوم به قومٌ حين يسكنون أرضا جديدة، إنّهم يقومون برسم حدود بين أرضهم والجوار المباشر، وبين المناطق الّتي تقع وراء ذلك والّتي يُسمّونها منذ ذلك الحين "أرض البـرابرة"[1]؛ وهذا ما قام به الغرب عند احتكاكه بالشّرق (ممثّلا في الحضارة العربية الإسلامية)، إذ رسم حدودا بينهما، فأطلق لفظة "غرب" على أراضيه والمناطق المجاورة لها، وفي الوقت ذاته أطلق لفظـة "شرق" على كلّ المناطق الّتي تقع وراء ذلك. فالشّرق من ابتداع الغرب، بل يكوِّن ثُنـائيا معه، فهو عكسه ونقيضه وهو في الوقت نفسه تجسيدٌ لمخاوف الغرب وإحساسه بالتّفوّق.



إنّ من الطبيعة البشرية أنّ الشيء المجهول والغامض يثير مخاوفها ويفزعها، فهي إمّا أن تستسلم له وتذعن، وهذا ما حدث مع الإنسان القديم حينما لم يستطع إدراك حوادث الطبيعة ومعرفة كُنهِها، فكانت البراكين والزلازل والصّواعق... تثير مخاوفه ورعبه ممّا دفعه إلى أن يُـؤلِّه هذا المجهول ويُذعن له؛ فجعل للزلازل إلها وللفيضانات إلها آخر يتقرّب إليها بالقرابين والصّلوات.



أمّا الطريقة الأخرى للنّفس البشرية الّتي تسلكها تُجاه هذا الشيء المجهول، فهي أن تناصبه العداء، بل وقد تحاول مهاجمته إن قدرت على ذلك، حتّى تحمي نفسها منه وتحسّ بالأمان والطمأنينة؛ وهذا ما حدث مع شعوب أوروبا حين احتكّت بالشّرق وخصوصا بعد أن أحسّت بتهديده لها من خلال فتوحات المسلمين لإسبانيا وصقلية وجنوب إيطاليا.



ومنذ هذه اللّحظة، أصبح الغرب "يرى في الشّرق مكاناً خطِراً يتنامى فيه الإسلام وتتكاثر الأجناس الشريرة، وأمّا المسلمون فهم سُودٌ ذَوُو هيئات بشعة. وقد أدّت هذه البغضاء إلى خلق عداوة للإسلام أتاحت حماية عقول المسيحيين من الارتداد عن دينهم وحقنت المسيحية بشعورٍ من الاحترام للذات من خلال تعاملها مع مدنية أرقى منها في أَوْجُهٍ كثيرة"[2] . فحينما أحسّ الغرب بتفوّق الحضارة العربية الإسلامية عليه في كلّ المجالات، بما فيها التعاليم الدينية والقيَم الأخلاقية الّتي جاء بها الإسلام، أصابه خوف شديد على دينه المسيحي من أن يَرتدَّ عنه كلّ من يتّصل بالشّرق (الحضارة الإسلامية)؛ ممَّا دفعه إلى ابتداع صورة أخرى للشّرق مخالفة لِما هو عليه في الحقيقة. فأصبح المسلمون - في عيون أوروبا – سـوداً ذوي هيـئات بشعة ومفزعة. فقد استطاع بهـذا أن يكوِّن خلفية فكرية مشوَّهة للإنسان الغربي عن الشّرق وذلك حتّى يضمن (الغرب) عدم الارتداد عن الدين المسيحي الّذي يُعتـبر - ولا يزال – الدّعـامة الأساسية الّتي ترتكز عليها أوروبا في مواجهة العالم الإسلامي.



إنّ التعصّب الأعمى لدى أوروبا في القرون الوسطى لكلّ ما هو غربي ومسيحي، دفع بها - حينما رأت نفوذ الإسلام يزداد وحضارته تنتشر في ربوعها على الرّغم منها - إلى أن تجهـر بالعداوة والبغضاء للحضارة الإسلامية من أجل الحدّ من انتشارها؛ بل وأصبحت ترى في الدولة الإسلامية خصمها اللّدود. "ومن هنا أصبح يُنظر للإسلام على أنّه إلغاءٌ للمسيحية وأنّ رسوله محمدا هو عدوٌّ للمسيح، وكان الغرب يرى في العالم الإسلامي عالما مضادا لأوروبا وبذلك أصبح موضع الشّكّ والرّيبـة "[3] .



ولعلّ من أهمّ مظاهر هذا العداء والتعصّب، الحروب الصّليبية على العالم الإسلامي والّتي دامت أكثر من قرنين حيث تجلّت فيها روح الحقد والكره للمسلمين وللإسلام بشكل سـافر. وحتّى بعد ذلك بقرون عديدة، لم تستطع أوروبا التّخلّص من هذا العداء والحقد الدفينين اللّذين تُكِنُّهما للشّرق والعالم الإسلامي على الخصوص؛ "ولهذا كان من السّهولة بمكان أن تتحوّل رغبتها القديمة في الوقوف في وجه خصمها الإسلامي إلى تصميمٍ على السّيطرة، هذا التّصميم الّذي كان الأسـاس النفسي للإمبرياليين منذ نابليون"[4] أثناء حملته على مصر سنة 1798م.



لقد أدّت الحملات الصليبية إلى تواتر الأخبار عن الشّرق وارتسام عددٍ من التّصوّرات المبالَغ فيها والمنسجمة مع المعطيات الثقافية المحلّية. ولعلّ من النتائج المباشرة لذلك، ظهورعدد من القصص الّتي عُرفت بـ"الرومانس"، إضافة إلى أعمال شعرية ملحمية يمكن اعتبارها إرهاصات لاستشراق أدبي سيستمر حتّى القرن العشرين. وقد انقسمت تلك الأعمال- المتولّدة عن الاحتكاك بالشّرق العربي الإسلامي- إلى قسمين رئيسـين: هما الأعمال القائمة على الغرائبية أو الفانتازية (Le Fantastique) الّتي تصوِّر الشّرق بصور يغلب عليها عنصر الإثارة والتّشويق غير الواقعي؛ والأعمال الّتي تعكس الرّوح القتالية أو التعبوية، كما في الملاحم. ولعلّ أشهر هذه الملاحم المعروفة عند الغربيين والّتي تعود إلى بداية القرن الثاني عشر الميلادي "أنشـودة رولانـد - La Chanson De Roland" والّتي تصوِّر مشاهد من الصراع الإسلامي- المسيحي في إسبانيا مبرزة المسلمين بوصفهم أعداءً وثنيين يعبدون ثلاثة آلهة منهم الرسول محمد عليه الصلاة والسلام الذي وصلهم أنّ اسمه "مـاهـون"[5].



فهناك رؤية ما تكوّنت في أوروبا تجاه الشّرق. وقد وضعت الصّورة الأساسية لتلك الرّؤية في القرن الثاني عشر،- إبّان الحروب الصليبية - ثم توسّعت في القرنين الثالث عشر والرّابع عشر، لتمتدّ حتّى العصر الاستعماري. هذه الرّؤية تنطلق من عداءٍ واسعٍ للرّسول محمّد عليه الصّلاة والسّلام الّذي أوقف بنبوءته الكاذبة - كما يزعمون - تطوّر الإنسانية باتّجاه المسيحية "بطبعتها الأوروبية طبعاً"؟!. وقد تطوّرت بعد ذلك النظرة الأوروبية "الغربية" إلى الإسلام، وإلى الشّرق، فأصبحت أكثر مباشرة، حيث غـدَا مفهوم الشّرق (الفـارسي/التـركي..) يعني حضارة مغايرة - بغضّ النظر عن القيمة التي تُعطى لها- وصارت النظرة العامّة "الشعبيـة"، تتراوح بين الشّرق المدهش والفنان، "شرق ألف ليلة وليلة"، وبين الشّرق المتوحش، البربري، الفظّ، العنيف. ولم تتغيّر النظرة الأوروبية إلى الإسلام، باعتباره ديناً متعصِّباً، عدوانياً، بسيطاً وبدائيّا[6].



وحتّى تستطيع أن تستعمر شعوب الشّرق دون أن تجد عراقيل من داخلها، أرسلت أوروبا الرّحّالين إلى الشّرق ليزوّدوها بمعلومات عنه وأخبار تكون ذريعة لها لاحتلاله وتزيد في الوقت نفسه من تعميق ذلك الكره والعداوة في نفوس الشعوب الغربية تجاه العالم الإسلامي بخاصّ، والشعوب الشّرقية بعامّة. وحتّى تجعل الشّرق كبش فداء، كان لا بدّ لها من أن تُلصق به صفات قبيحة وشرّيرة من أجل تبرير استعماره واضطهاده. فجاءت الرّوايات عن الشّرق لِتُركّز تركيزاً متعمَّداً على تلك السّمات الّتي تجعل هذا الشّرق مختلفا عن الغرب بل وتنفيه إلى عالم (الآخر) وتخفضه إلى مرتبة (الغير) الّذي لا صلاح له[7]. فمن بين الصّفات القبيحة والشّريرة الّتي وُصف بها الشّرق، صفة الخمول والفسق والعنف وعدم القدرة على أن يحكم نفسه بنفسه. كلّ هذه الصفات جعلت للغرب الإمبريالي مبرّرات تسمح له بالتّدخل فيه والتّحكم به، إذ تجعله يظهر وكأنّه منقـذ الشّرق من الجهل والهمجية، وأنّه ما جاء إلى داره إلاّ ليحمل له الحضارة والمدنية.



ولعلّ من أهمّ الملاحظات الّتي تُلفت النظر بخصوص هذه الروايات الأوروبية عن ذلك الشّرق (الآخر)، مقولتـان: إحداهما تتمثّل في الإلحاح على الادّعاء بأنّ الشّرق هو مكان الفسـق والملـذّات، والأخرى تتمثّل في أنّ هذا الشّرق هو عالم العنف المتأصّل[8]. وهاتان المقولتان كان لهما تأثيرهما الخطير على عقول الشعوب الأوروبية، إذ رسّختا فيها - ولا تزال إلى حدّ الآن - مفهوما مشوَّها عن الإسلام والمسلمين. فالمقولة الأولى تحاول إفهامهم (الغربيين) بأنّ الدين الإسلامي ليس دينا سماويا منزّلا من عند الله مثل الدين المسيحي، لأنّه يدعو إلى الفسق ويشجّع على طلب الملذّات، وهذا ما يخالف كلّ ما جاءت به الديانات السماوية؛ بينما تحاول المقولة الثانية - الّتي تركّز عليها هذه الروايات - أن تُنشئ في الذهنية الغربية صورةً مشوَّهة عن الشّرق، والعالم الإسلامي على وجه الخصوص. فهي تُظهر الإسلام على أنّه يدعو للعنف وأنّ المسلمين ما هم في الحقيقة إلاّ همجيون وبرابرة يبحثون عن دماء البشر في كلّ مكان، ولا يتلذّذون إلاّ بسفك الدّماء، فهم أصل العنف ومصدره. فالإسلام دين عنف على خلاف الديانة المسيحية الّتي تدعو إلى السّلام والمحبّة، وبهذا فإنّه ليس دينا سماويا ولا ينبغي أن يدخل فيه النّاس؛ بل من المفروض أن يُحارب حتّى يُقضى على العنف المتأصّل فيه وعلى الفسق المنتشر فيه، ويُستبدَل بتعاليم المسيحية السّمحاء المسالمة وقيمها الأخلاقية الطاهرة. وفي سبيل القضاء على ذلك لا بُـدّ من استعمال بعض العنف من الغرب تجاه الشّرق حتّى تنعَم البشرية بالأمان والسّلام وتنتشر بين ظهرانيها سمـات المحبة والفضيلة.



ولقد كان لهاتان المقولتان تأثيرهما الخطير ليس على عقول العامّة من الغربيين وحسب، وإنّما تعدّى خطرهما إلى الجيل الثاني والثالث من الرّحّالة الأوروبيين والمستشرقين إبّان العصر الرّومانسي ومابعده؛ هؤلاء لم يستطيعوا الفكاك من الخلفية المشوّهة [بكسر الواو وفتحها معا] للشّرق الّتي زرعها الرّحالة الأوائل. فلا أحد يستطيع أن ينكر بأنّ الشّرق قد احتلّ مكانة أسطورية في جماليات العصر الرومانسي، كما كان خلفية شائعة تنطلق منها الروايات القوطية، أمّا حريم الشّرق أو نساء السّلطان وجواريه في الشّرق، فقد صُوِّرت في شكل غريب ومثير بقصد تسلية الجمهور الغربي. وقد تجسّد هذا الأسلوب في لوحة أوجان دي لاكـروا - Eugène Delacroix ، 1798- 1863 "مـوت سـاردانا بـالو" (1827-1828) [9] LaMort de Sardanapale والّتي استوحاها من قصيدة لبيرون تحمل الاسم نفسه. وقد صُدم المجتمع الأوروبي الّذي كان موجودا في الشّرق من جرّاء ما قرأ عن العنف والخسّة والبذاءة الّتي وضعت الشّرق في هذا السّياق. وقد كان لنقاد القرن العشرين مآخذ على الاستشراق لكونه مرآة إمبريالية مشوِّهة للشرق، حيث إنّها عكسٌ للثقـافة الأوروبية لا لحقيقة الشّرق[10].



إنّ المقولة الأوروبية الّتي تركّز على فسق الشّرق ووَلَعه بالجنس لم تكن وليـدة الرّحلات الأوروبـية بل قد "تَرافَق الشّرق دائما في الذهن الأوروبي بالتَّوقُّعَات الجنسية إذ كان يَبرز في ثنايا النّصوص اللاّهوتية والأسطورية القديمة نموذج المرأة الغاوية: فهنـاك (ديدو Dido) في رواية "فيرجيل" تستقبل (إيناس Aeneas) في فراشها كما استقبلت كليوباترا أنطونيو في سريرها، وهناك (ميديا Medea) المتطرّفة في عواطفها وعنفها، إنّها الشّرقية، الهمجية الّتي تغوي وتصدّ في اللحظة الواحدة"[11].



ولقد جاء بعد ذلك الرّحّالة الأوروبيون ليركّزوا على أسطورة " الشّـرق الجنسي". ويُعدّ (ريتشارد بورتون Richard Burton) واحدا من هؤلاء، فقد كان "الشّرق في نظره: مجالا محرّما حيث النساء جوارٍ يمنحن ملذّات جنسية"[12]. ومن بين الرّحلات الأخرى الّتي تعتبر أُنموذجا لهذا التشويه - والّتي تصوّر الشّرقي على أنّه مَثارٌ للسخرية ومدعاةٌ للتّسلية والازدراء معاً، وتصوّره ذليلا دائما ومستسلما لمن هو أقوى منه - رحلة (كنغليك Kinglake) إذ يقول عن الشّرقي (الآسيوي): «... يبدو أنّ الآسيوي يُكنّ شعورا بالاحترام العميق الّذي يصل غالبا إلى درجة العبادة، لكلّ من أسـاؤوا إليـه بقسوة عنيفة... ولهذا كنتُ أرى كيف أنّ استسلامه وانصياع عقله كانـا بلا حدود أمام فكرة القـوّة"[13].



لقد كان لهؤلاء الرّحّالة النصيب الأوفـر في إبراز الصّورة المشوَّهة للشرقي، كما كان لهم التأثير الكبير في زرع هذه الصّورة في الذهنية الغربية. فهاهو الرّحّالة (بورتون Burton) يصف أحد أبناء السّند (الهند وباكستان حاليا) بقوله: "...إنّه كسول ولا مبال، وقذر، ومدمن، ومعروف بجُبنه في أوقات الخطر، في حين أنّه يصبح وقحا عندما لا يكون ثمّة ما يخشاه، وليس لديه أيّة فكرة عن الصدق"[14].



إنّ الاتّهام الخطير الّذي يوجّهه الرّحّالة الإنكليز إلى الشّرقيين يخصّ إفساد الأخلاق: "فكلّ الشّرقيين يُعتبرون مولعين بالنقائص والآفات الأكثر انحطاطا. ويُعتبر العرب أناسا شهوانيين وفُسّاقا حتّى داخل الأماكن المقدّسة في الإسلام، وهذا ما يُعدّ تدنيسا للمقدّسات وانتهاكا للحرمات. ففي حوالي سنة 1820 وَسَمَ بعض الرّحّالة العربَ بالشذوذ الجنسي...إضافة إلى أنّه حتّى الخاصية الّتي أُسندت إلى الإسلام تفضّل اللاأخلاقـية: فعلى حسب الرّحّالـة ليس الدين هو الّذي يربّي الإنسان"[15].



فهذه الروايات عن الشّرق للرّحّالة الأوروبيين، جاءت في معظمها مشوِّهة لصورة الشعوب الشّرقية، تُصوّرها على أنّها مخلوقات همجية تُحرّكها الغريزة وتُسيّرها النّزعات الجنسية والعدوانية، وأنّها ذات بشرة داكنة ومفزعة، وهي لا تستطيع أن تصل إلى ذلك الصّفاء والنقـاء اللّذين وصل إليهما العرق الأبيض (الأوروبي طبعا)؛ بل إنّ هذه الروايـات زادت في ترسيخ بربرية الإنسان الشّرقي وحيوانيته داخل المجتمعات الأوروبية من خلال التركيز على شدّة الاختلاف بينهما، ممّا يسمح لها باعتبار الشّرقي نوعا آخر من الكائنات؛ فهو أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان.



وإذا ما استثنينا بعض الرّحّالة النّزهاء والّذين حاولوا تقـديم صورة نزيهة وحقيقية عن الشّرق، فإنّ معظم روايات الرّحّالة الأوروبيين أنتجت صورة بشـعة للـشرق كان من شأنها أن عزّزت السلطة السياسية بمختلف بنياتها داخل المجتمعات الغربية؛ وبالشكـل نفسـه عملت هذه السلطات السياسية على تعزيز هذه الصّورة وترسيخها لدى العامّة من الغربيين، وحتّى لدى المثقفين والرّحّالين أنفسهم. ولعلّ ما ذهبت إليه االدكتورة "رنا قباني"، يصف وصفا دقيقا الحالة الّتي كانت عليها كتابات الرّحّالة الأوروبيين في تلك العصور(عصر النهضة الأوروبية) من تأثّرها بثقـافة العصر المهيمنة إذ تقول: "ولكنّ هذا لا يعني أنّ جميع الرّحّالة الّذين تحدّثوا عن الشّرق قد أساؤوا تصويره، وإنّما يعني أنّ سوء التّصوير هو الّذي طغى وهو الّذي أسر خيال عامّـة النّـاس في الغرب. إنّ قصص الرّحلات كانت على كلّ حال جزءا من الاستـشراق الّذي حرّض على قيـام الإمبراطورية "[16]. ثمّ تضيف بأنّ "القوّة تحتاج دائما إلى المعرفة. ومن هنا تأطّرت الثقـافة الأوروبية ضمن صورة مشوّهة عن الشّرق باعتبـار أنّ الذوق المهيمن وغريزة الأسطورة كانت لهما الغلبة في نهاية المطاف"[17].



فلابدّ للاستعمار الأوروبي الإمبريالي - قبل أن يقوم باحتلال الشّرق - أن يكون مزوّدا بكلّ المعلومات عن هذا الشّرق في مختلف ميادين الحياة، بـدءا بطريقة أكل شعوبه ولَهوها وكيفية عيشها، ووصولا إلى طريقة الحكم عنده وأخبار حكّامه وخلافاتهم وحروبهم وإسرافهم وملذّاتهم.



وهذه المعلومات مهمّة جدّا للقادة الأوروبيين حتّى يكونوا على علم ودراية بكلّ ما يجري فوق الأرض الّتي ستطؤها أقدامهم. وكي تصل إليهم هذه المعلومات كان لا بدّ من بعث رحّالة من بني جنسهم إلى هذه الأقطار البعيدة والشاسعة حتّى يزوّدونهم بكلّ ما يحتاجونه عن الشّرق الغامض والمُبهَم.



وكي ينال هؤلاء الرّحّالة استحسان دولهم الّتي أمدّتهم بالمال وسهّلت لهم مهمَّتهم، كان لابدّ لكتاباتهم أن تتضمّن تلك الصور المشوّهة للشرق والّتي تُبرزه همجيّا وبدائيا وغريزيا حتّى يكون ذلك مبرّرا لقادتهم الغربيين في احتلاله ذات يوم تحت شعار "تقديم الحضارة إلى شعب متخلّف". بل إنّهم - الرّحّالة الأوروبيين - مضطرّون إلى تأكيد هذه الصّورة المشوّهة الّتي جاء بها من قبلهم الرّحّالة الأوائل، والّتي رسخت في أذهـان الشعوب الغربية حتّى أصبحت هي الذّوق المسيطِر عليهم. لأنّه إذا ما حاول بعضهم مخالفة ما أَلِفهُ النّاس عن الشّرق منذ مدّة، وأن يكون نزيها في كتاباته، فسيكون مصير ما ألَّفه، الإهمال والاستهجان وربّما السّجن أو الموت، متّهمين إيّاه بالعمالة للشرق. ولهذا فإنّ بعضهم كان مضطرّا لتلفيق الأكاذيب عن الشعوب الشّرقية وطريقة حياتها، هذه الأكاذيب ما هي إلاّ نسخة طبق الأصل مع قليل من التغيير للكتابات والأساطير الّتي جاء بها الأوائل عن الشّرق. إذ من المألوف دائما أن يُقال بصدد الاستشراق أنّ الغرب يعرف عن الشّرق أكثر ممّا يعرف هذا الشّرق عن نفسه، الأمر الّذي من شأنه أن يفتح مجرًى محدَّدا سلفا للكتابة، ممّا يؤدّي إلى تقييد المراقب الغربي بل وجعله في كثير من الحالات أسيرَ ما قرأ[18].



فإذا كان هؤلاء الرّحّالة مقيَّدين بآراء من سبقهم وبالثقافة السائدة في عصرهم، فهم - ومن ورائهم الغرب وإلى حدّ القرن الثامن عشر على الأقلّ كما بيّن ذلك بلباقة (R.W.Southern) - كانت لديهم فكرة معقّدة ومبهمة عن أحد أشكال الثقـافة الشّرقية والّتي هي الثقافـة الإسلامية، لأنّ مفهوم الشّرق يجتذب دائما على ما يبدو، تداعيات من الأفكار الّتي لم تكن محدّدة، لا من طرف ذلك الجهل المطلق عن الشّرق ولا من طرف المعلومات الأحادية المصدر الّتي كانوا يتحصّلون عليها[19].



ولقد كان أحد التطوّرات الهامّة في استشراق القرن التّاسع عشر يتمثّل في تكرير الأفكار الجوهرية حول الشّرق، حواسّيته وميله إلى الطغيان، تخلّفه ولاعقلانيته، وعادة غياب التّنظيم والدّقة لديه، وترسيخ هذه الأفكار إلى الحدّ الّذي صار معه استخدام كاتب للفظة "شـرقي" إشعاراً كافياً يحدّد للقارىء الغربي هويّة جسد معيّن من المعلومات حول الشّرق. هذه المعلومات جاءت من خلال المضامين الّتي كانت تتوارى في ثنايا كتب الرّحّالة الأوروبيين والكتب الاستشراقية الغربية الّتي أُلِّفت في الآداب والعلوم، والّتي يتصوَّر فيها الشّرق على نحوٍ خيالي خرافي، يُظهره بأنّه متخلّف، ميّالٌ إلى الطّغيان، ذو عقلية منحرفة، وعرق دوني، وإنّه غير جدير بالحياة الحرّة، وينبغي على الغرب أن يستحوذ عليه ويأسره ويسوده[20].

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 112.39 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 110.66 كيلو بايت... تم توفير 1.73 كيلو بايت...بمعدل (1.54%)]