تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 26 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         أسئلة بيانية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 26 - عددالزوار : 630 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 257 )           »          معنى حديث «من ستر مسلماً ستره الله..» (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          صلاة التراويح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          حمل المأموم للمصحف في صلاة التراويح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          ركعتا تحية المسجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          حكم صيام من دخل بعض الماء إلى جوفه دون قصد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 15 - عددالزوار : 366 )           »          قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك (اخر مشاركة : رضا البطاوى - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4387 - عددالزوار : 836997 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #251  
قديم 07-03-2022, 10:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (249)

سُورَةُ مَرْيَمَ

صـ 359 إلى صـ 364





بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ مَرْيَمَ


قَوْلُهُ تَعَالَى : كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا .

قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ ، كَقَوْلِهِ هُنَا : كهيعص [ 19 \ 1 ] ، فِي سُورَةِ " هُودٍ " فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا . وَقَوْلُهُ : ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ [ 19 \ 2 ] ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ، أَيْ : هَذَا ذِكِرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ، وَقِيلَ : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ ، وَتَقْدِيرُهُ : فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ " كهيعص " ظَاهِرُ السُّقُوطِ لِعَدَمِ رَبْطٍ بَيْنَهُمَا ، وَقَوْلُهُ : ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ لَفْظَةُ " ذِكْرُ " مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ ، وَلَفْظَةُ " رَحْمَةٍ " مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ وَهُوَ " رَبِّكَ " ، وَقَوْلُـهُ : عَبْدَهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ " رَحْمَةِ " الْمُضَافُ إِلَى فَاعِلِهِ ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ :

وَبَعْدَ جَرِّهِ الَّذِي أُضِيفَ لَهْ كَمِّلْ بِنَصْبٍ أَوْ بِرَفْعٍ عَمَلَهْ وَقَوْلُهُ : " زَكَرِيَّا " بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ " عَبْدَهُ " أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ هَذَا الَّذِي يُتْلَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ رَحْمَتَهُ الَّتِي رَحِمَ بِهَا عَبْدَهُ زَكَرِيَّا حِينَ نَادَاهُ نِدَاءً خَفِيًّا أَيْ : دَعَاهُ فِي سِرٍّ وَخُفْيَةٍ ، وَثَنَاؤُهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِ بِكَوْنِ دُعَائِهِ خَفِيًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِخْفَاءَ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهِ وَإِعْلَانِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً الْآيَةَ [ 6 \ 63 ] ، وَقَوْلِـهِ تَعَالَى : ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [ 7 \ 55 ] ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِخْفَاءُ أَفْضَلَ مِنَ الْإِظْهَارِ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ ، وَأَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ ، فَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّ سَبَبَ إِخْفَائِهِ دُعَاءَهُ أَنَّهُ خَوَّفَهُ مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَلُومُوهُ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ ، فِي حَالَةٍ لَا يُمْكِنُ فِيهَا الْوَلَدُ عَادَةً لِكِبَرِ [ ص: 360 ] سِنِّهِ وَسِنِّ امْرَأَتِهِ ، وَكَوْنِهَا عَاقِرًا ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ أَخْفَاهُ ; لِأَنَّهُ طَلَبُ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ ، فَإِنْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِيهِ نَالَ مَا كَانَ يُرِيدُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ أَحَدٌ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ ، كُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالْأَظْهَرِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ السِّرَّ فِي إِخْفَائِهِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْإِخْفَاءِ أَفْضَلَ مِنَ الْإِعْلَانِ فِي الدُّعَاءِ ، وَدُعَاءُ زَكَرِيَّا هَذَا لَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَكَانَهُ وَلَا وَقْتَهُ ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ " فِي قَوْلِهِ : كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [ 3 \ 37 - 38 ] ، فَقَوْلُهُ " هُنَالِكَ " أَيْ : فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَ فِيهِ ذَلِكَ الرِّزْقَ عِنْدَ مَرْيَمَ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : " هُنَالِكَ " أَيْ : فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ هُنَا رُبَّمَا أُشِيرَ بِهَا إِلَى الزَّمَانِ ، وَقَوْلُهُ فِي دُعَائِهِ هَذَا :رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [ 19 \ 4 ] ، أَيْ : ضَعُفَ ، وَالْوَهْنُ : الضَّعْفُ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ضَعْفَ الْعَظْمِ ; لِأَنَّهُ عَمُودُ الْبَدَنِ وَبِهِ قِوَامُهُ ، وَهُوَ أَصْلُ بِنَائِهِ فَإِذَا وَهَنَ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ جَمِيعِ الْبَدَنِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ مَا فِيهِ وَأَصْلَبُهُ ، فَوَهْنُهُ يَسْتَلْزِمُ وَهْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَدَنِ .

الْحَرْفُ الْمُنِيرُ \ سِحْرٌ \ أَضْوَاءُ الْبَيَانِ ج 4 \ مِنْ ص 204 - إِلَى ص 212 وَقَوْلُـهُ : وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ، الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي " الرَّأْسِ " قَامَا مَقَامَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ ، إِذِ الْمُرَادُ : وَاشْتَعَلَ رَأْسِي شَيْبًا ، وَالْمُرَادُ بِاشْتِعَالِ الرَّأْسِ شَيْبًا : انْتِشَارُ بَيَاضِ الشَّيْبِ فِيهِ ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ : شَبَّهَ الشَّيْبَ بِشُوَاظِ النَّارِ فِي بَيَاضِهِ وَإِنَارَتِهِ وَانْتِشَارِهِ فِي الشِّعْرِ وَفُشُوِّهِ فِيهِ ، وَأَخْذِهِ مِنْهُ كُلَّ مَأْخَذٍ بِاشْتِعَالِ النَّارِ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ ، ثُمَّ أَسْنَدَ الِاشْتِعَالَ إِلَى مَكَانِ الشَّعْرِ وَمَنْبَتِهِ وَهُوَ الرَّأْسُ ، وَأَخْرَجَ الشَّيْبَ مُمَيِّزًا ، وَلَمْ يُضِفِ الرَّأْسَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ رَأْسُ زَكَرِيَّا ، فَمِنْ ثَمَّ فَصُحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَشُهِدَ لَهَا بِالْبَلَاغَةِ انْتَهَى مِنْهُ ، وَالظَّاهِرُ عِنْدَنَا كَمَا بَيَّنَّا مِرَارًا : أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ انْتِشَارِ بَيَاضِ الشَّيْبِ فِي الرَّأْسِ ، بِاشْتِعَالِ الرَّأْسِ شَيْبًا أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :


ضَيَّعْتُ حَزْمِي فِي إِبْعَادِي الْأَمَلَا وَمَا ارْعَوَيْتُ وَشَيْبًا رَأْسِيَ اشْتَعَلَا
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ ابْنِ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ .


وَاشْتَعَلَ الْمِبْيَضُ فِي مُوَسَّدِهِ مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَزْلِ الْغَضَا
[ ص: 361 ] وَقَوْلُهُ " شَيْبًا " تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ فِي أَظْهَرِ الْأَعَارِيبِ ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ " وَاشْتَعَلَ " لِأَنَّهُ اشْتَعَلَ بِمَعْنَى شَابَ ، فَيَكُونُ " شَيْبًا " مَصْدَرًا مِنْهُ فِي الْمَعْنَى وَمَنْ زَعَمَ أَيْضًا أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ .

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُنَا عَنْ زَكَرِيَّا فِي دُعَائِهِ مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ جَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ هُنَا : وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [ 19 \ 8 ] ، وَقَوْلِـهِ فِي " آلِ عِمْرَانَ " : وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ الْآيَةَ [ 3 \ 40 ] ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلدَّاعِي إِظْهَارُ الضَّعْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالْخُشُوعِ فِي دُعَائِهِ .

وَقَوْلُـهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [ 19 \ 4 ] ، أَيْ : لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ شَقِيًّا ، أَيْ : لَمْ تَكُنْ تُخَيِّبُ دُعَائِي إِذَا دَعَوْتُكَ ، يَعْنِي أَنَّكَ عَوَّدْتَنِي الْإِجَابَةَ فِيمَا مَضَى ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ : شَقِيَ بِذَلِكَ إِذَا تَعِبَ فِيهِ وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ ، وَرُبَّمَا أَطْلَقْتَ الشَّقَاءَ عَلَى التَّعَبِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [ 20 \ 117 ] ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي ضِدِّ السَّعَادَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ مِنَ السَّعَادَةِ ، فَيَكُونُ عَدَمُ إِجَابَتِهِ مِنَ الشَّقَاءِ .
قوله تعالى : وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا ، يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا .

معنى قوله : خفت الموالي [ 19 \ 5 ] ، أي : خفت أقاربي وبني عمي وعصبتي : أن يضيعوا الدين بعدي ، ولا يقوموا لله بدينه حق القيام ، فارزقني ولدا يقوم بعدي بالدين حق القيام ، وبهذا التفسير تعلم أن معنى قوله " يرثني " أنه إرث علم ونبوة ، ودعوة إلى الله والقيام بدينه ، لا إرث مال ، ويدل لذلك أمران :

أحدهما : قوله : ويرث من آل يعقوب [ 19 \ 5 ] ، ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان ، فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدين .

والأمر الثاني : ما جاء من الأدلة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال ، وإنما يورث عنهم العلم والدين ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا نورث ، ما تركنا صدقة " ، ومن ذلك أيضا ما رواه الشيخان أيضا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير وسعد ، وعلي ، والعباس رضي الله عنهم : أنشدكم الله [ ص: 362 ] الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نورث ما تركنا صدقة " ، قالوا : نعم ، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن ، فقالت عائشة : أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما تركنا صدقة " ، ومن ذلك ما رواه الشيخان أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقتسم ورثتي دينارا ، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة " وفي لفظ عند أحمد : " لا تقتسم ورثتي دينارا ولا درهما " ، ومن ذلك أيضا ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ، عن أبي هريرة : أن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه : من يرثك إذا مت ؟ قال : ولدي وأهلي ، قالت : فما لنا لا نرث النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن النبي لا يورث " ، ولكن أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله ، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق .

فهذه الأحاديث وأمثالها ظاهرة في أن الأنبياء لا يورث عنهم المال بل العلم والدين ، فإن قيل : هذا مختص به صلى الله عليه وسلم ; لأن قوله " لا نورث " يعني به نفسه ، كما قال عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح المشار إليه عنه آنفا : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نورث ما تركنا صدقة " يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ، فقال الرهط : قد قال ذلك الحديث ، ففي هذا الحديث الصحيح أن عمر قال : إن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " لا نورث " نفسه ، وصدقه الجماعة المذكورون في ذلك ، وهذا دليل على الخصوص فلا مانع إذن من كون الموروث عن زكريا في الآية التي نحن بصددها هو المال ؟ فالجواب من أوجه :

الأول : أن ظاهر صيغة الجمع شمول جميع الأنبياء ، فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر إلا بدليل من كتاب أو سنة ، وقول عمر لا يصح تخصيص نص من السنة به ; لأن النصوص لا يصح تخصيصها بأقوال الصحابة على التحقيق كما هو مقرر في الأصول .

الوجه الثاني : أن قول عمر " يريد صلى الله عليه وسلم نفسه " لا ينافي شمول الحكم لغيره من الأنبياء ، لاحتمال أن يكون قصده يريد أنه هو صلى الله عليه وسلم يعني نفسه فإنه لا يورث ، ولم يقل عمر إن اللفظ لم يشمل غيره ، وكونه يعني نفسه لا ينافي أن غيره من الأنبياء لا يورث أيضا .

الوجه الثالث : ما جاء من الأحاديث صريحا في عموم عدم الإرث المالي في جميع الأنبياء ، وسنذكر طرفا من ذلك هنا إن شاء الله تعالى .

قال ابن حجر في فتح الباري ما نصه : وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول [ ص: 363 ] وغيرهم بلفظ " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " فقد أنكره جماعة من الأئمة ، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ " نحن " لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد بلفظ " إنا معاشر الأنبياء لا نورث . " الحديث ، وأخرجه عن محمد بن منصور ، عن ابن عيينة عنه ، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة ، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه ، وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور ، وأخرجه الطبراني في الأوسط بنحو اللفظ المذكور ، وأخرجه الدارقطني في العلل من رواية أم هانئ عن فاطمة رضي الله عنها ، عن أبي بكر الصديق بلفظ " إن الأنبياء لا يورثون " انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر ، وقد رأيت فيه هذه الطرق التي فيها التصريح بعموم الأنبياء ، وقد قال ابن حجر : إن إنكار الحديث المذكور غير مسلم إلا بالنسبة لخصوص لفظ " نحن " وهذه الروايات التي أشار لها يشد بعضها ، وقد تقرر في الأصول أن البيان يصح بكل ما يزيل الإشكال ولو قرينة أو غيرها كما قدمناه موضحا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، وعليه فهذه الأحاديث التي ذكرنا تبين أن المقصود من قوله في الحديث المتفق عليه " لا نورث " أنه يعني نفسه ، كما قال عمر وجميع الأنبياء كما دلت عليه الروايات المذكورة ، والبيان إرشاد ودلالة يصح بكل شيء يزيل اللبس عن النص من نص أو فعل أو قرينة أو غير ذلك ، قال في مراقي السعود في تعريف البيان وما به البيان : .

تصيير مشكل من الجلي وهو واجب على النبي إذا أريد فهمه وهو بما من الدليل مطلقا يجلو العما وبهذا الذي قررنا تعلم : أن قوله هنا يرثني ويرث من آل يعقوب ، يعني وراثة العلم والدين لا المال ، وكذلك قوله : وورث سليمان داود الآية [ 27 \ 16 ] ، فتلك الوراثة أيضا وراثة علم ودين ، والوراثة قد تطلق في الكتاب والسنة على وراثة العلم والدين ، كقوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا الآية [ 35 \ 32 ] ، وقولـه : وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب [ 42 \ 14 ] ، وقولـه : فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب الآية [ 7 \ 169 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

ومن السنة الواردة في ذلك ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " العلماء ورثة الأنبياء " ، وهو في المسند والسنن ، قال صاحب ) تمييز الطيب من [ ص: 364 ] الخبيث ، فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث ( : رواه أحمد وأبو داود والترمذي وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعا بزيادة " إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم " وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما انتهى منه بلفظه ، وقال صاحب ) كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس ( : " العلماء ورثة الأنبياء " رواه أحمد والأربعة وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعا بزيادة " إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم . " الحديث ، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما ، وحسنه حمزة الكناني وضعفه غيرهم لاضطراب سنده لكن له شواهد ، ولذا قال الحافظ : له طرق يعرف بها أن للحديث أصلا ، ورواه الديلمي عن البراء بن عازب بلفظ الترجمة ا هـ محل الغرض منه ، والظاهر صلاحية هذا الحديث للاحتجاج لاعتضاد بعض طرقه ببعض ، فإذا علمت ما ذكرنا من دلالة هذه الأدلة على أن الوراثة المذكورة في الآية وراثة علم ودين لا وراثة مال فاعلم أن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال : الأول : هو ما ذكرنا ، والثاني : أنها وراثة مال ، والثالث : أنها وبالنسبة لآل يعقوب في قوله " ويرث من آل يعقوب " وراثة علم ودين .

وهذا اختيار ابن جرير الطبري ، وقد ذكر من قال : إن وراثته لزكريا وراثة مال حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه قال : " رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته " أي : ما يضره إرث ورثته لماله ، ومعلوم أن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والأرجح فيما يظهر لنا هو ما ذكرنا من أنها وراثة علم ودين ; للأدلة التي ذكرنا وغيرها مما يدل على ذلك ، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره هنا ما يؤيد ذلك من أوجه ، قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى : وإني خفت الموالي من ورائي [ 19 \ 5 ] ، وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفا سيئا فسأل الله ولدا يكون نبيا من بعده ; ليسوسهم بنبوته بما يوحى إليه فأجيب في ذلك ; لا أنه خشي من وراثتهم له ماله ; فإن النبي أعظم منزلة ، وأجل قدرا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده ، وأن يأنف من وراثة عصباته له ، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم وهذا وجه .

الثاني : أنه لم يذكر أنه كان ذا مال ; بل كان نجارا يأكل من كسب يديه ، ومثل هذا لا يجمع مالا ، ولا سيما الأنبياء ، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #252  
قديم 07-03-2022, 10:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (250)

سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 365 إلى صـ 370



الثالث : أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نورث ما تركنا صدقة " وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح " نحن معشر الأنبياء لا نورث " وعلى هذا فتعين حمل قوله : فهب لي من لدنك وليا يرثني [ 19 \ 6 ] ، [ ص: 365 ] على ميراث النبوة ، ولهذا قال ويرث من آل يعقوب ; كقوله : وورث سليمان داود [ 27 \ 16 ] ، أي : في النبوة ، إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك ، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة ، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل : أن الولد يرث أباه ، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها ، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة " ا هـ محل الغرض من كلام ابن كثير ، ثم ساق بعد هذا طرق الحديث الذي أشرنا له " يرحم الله زكريا وما كان عليه من ورثة ماله " الحديث ، ثم قال في أسانيده : وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح .

واعلم أن لفظ " نحن معاشر الأنبياء " ولفظ " إنا معاشر الأنبياء " مؤداهما واحد ، إلا أن " إن " دخلت على " نحن " فأبدلت لفظة " نحن " التي هي المبتدأ بلفظة " نا " الصالحة للنصب ، والجملة هي هي إلا أنها في أحد اللفظين أكدت بـ " إن " كما لا يخفى ، وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : فهب لي من لدنك وليا ، يعني بهذا الولي الولد خاصة دون غيره من الأولياء ، بدليل قوله تعالى في القصة نفسها هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة الآية [ 3 \ 38 ] ، وأشار إلى أنه الولد أيضا بقوله : وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين [ 21 \ 89 ] ، فقوله " لا تذرني فردا " ، أي : واحدا بلا ولد .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة ، عن زكريا : وإني خفت الموالي من ورائي ، أي : من بعدي إذا مت أن يغيروا في الدين ، وقد قدمنا أن الموالي الأقارب والعصبات ، ومن ذلك قوله تعالى : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون الآية [ 4 \ 33 ] ، والمولى في لغة العرب : يطلق على كل من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به ، وكثيرا ما يطلق في اللغة على ابن العم ; لأن ابن العم يوالي ابن عمه بالقرابة العصبية ، ومنه قول طرفة بن العبد :


واعلم علما ليس بالظن أنه إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
يعني إذا ذلت بنو عمه فهو ذليل ، وقول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب :


مهلا ابن عمنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وكانت امرأتي عاقرا ، ظاهر في أنها كانت عاقرا في زمن شبابها ، والعاقر : هي العقيم التي لا تلد وهو يطلق على الذكر والأنثى ; [ ص: 366 ] فمن إطلاقه على الأنثى هذه الآية ، وقوله تعالى عن زكريا أيضا : وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر [ 3 \ 40 ] ، ومن إطلاقه على الذكر قول عامر بن الطفيل :


لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جبانا فما عذري لدى كل محضر
وقد أشار تعالى إلى أنه أزال عنها العقم ، وأصلحها ، فجعلها ولودا بعد أن كانت عاقرا في قوله عز وجل : فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه [ 21 \ 90 ] ، فهذا الإصلاح هو كونها صارت تلد بعد أن كانت عقيما ، وقول من قال : إن إصلاحها المذكور هو جعلها حسنة الخلق بعد أن كانت سيئة الخلق لا ينافي ما ذكر لجواز أن يجمع له بين الأمرين فيها ، مع أن كون الإصلاح هو جعلها ولودا بعد العقم هو ظاهر السياق ، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير ، ومجاهد وغيرهم ، والقول الثاني يروى عن عطاء .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة عن زكريا واجعله رب رضيا [ 19 \ 6 ] ، أي : مرضيا عندك وعند خلقك في أخلاقه وأقواله وأفعاله ودينه ، وهو فعيل بمعنى مفعول .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : فهب لي من لدنك ، أي : من عندك ، وقولـه جل وعلا في هذه الآية الكريمة يرثني ويرث من آل يعقوب [ 19 \ 6 ] ، قرأه أبو عمرو والكسائي بإسكان الثاء المثلثة من الفعلين ، أعني يرثني ويرث من آل يعقوب وهما على هذه القراءة مجزومان لأجل جواب الطلب الذي هو " هب لي " والمقرر عند علماء العربية ، أن المضارع المجزوم في جواب الطلب مجزوم بشرط مقدر يدل عليه فعل الطلب ، وتقديره في هذه الآية التي نحن بصددها ، إن تهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ، وقرأ الباقون يرثني ويرث من آل يعقوب ، يرفع الفعلين على أن الجملة نعت لقوله " وليا " أي : وليا وارثا لي ، ووارثا من آل يعقوب ، كما قال في الخلاصة :

ونعتوا بجملة منكرا فأعطيت ما أعطيته خبرا وقراءة الجمهور برفع الفعلين أوضح معنى ، وقرأ ابن كثير بفتح الياء من قوله : من ورائي وكانت امرأتي ، والباقون بإسكانها ، وقرأ " زكريا " بلا همزة بعد الألف حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، والباقون قرءوا " زكرياء " بهمزة بعد الألف ، وبه تعلم أن المد في قوله : " وزكرياء إذ نادى " ، منفصل على قراءة حمزة والكسائي وحفص ، ومتصل [ ص: 367 ] على قراءة الباقين ، والهمزة الثانية على قراءة الجمهور التي هي همزة " إذا " مسهلة في قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو ، ومحققة في قراءة ابن عامر وشعبة عن عاصم ، وقراءة خفت الموالي بفتح الخاء والفاء المشددة بصيغة الفعل الماضي بمعنى أن مواليه خفوا أي : قلوا شاذة لا تجوز القراءة بها وإن رويت عن عثمان بن عفان ، ومحمد بن علي بن الحسين ، وغيرهم رضي الله عنهم ، وامرأة زكريا المذكورة قال القرطبي : هي إيشاع بنت فاقوذ بن قبيل ، وهي أخت حنة بنت فاقوذا ، قاله الطبري ، وحنة : هي أم مريم ، وقال القتبي : امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران ، فعلى هذا القول يكون يحيى بن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة ، وعلى القول الأول يكون ابن خالة أمه ، وفي حديث الإسراء قال عليه الصلاة والسلام : " فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى " شاهدا للقول الأول ا هـ ، منه ، والظاهر شهادة الحديث للقول الثاني لا للأول ، خلافا لما ذكره رحمه الله تعالى ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا

، في هذه الآية الكريمة حذف دل المقام عليه ، وتقديره : فأجاب الله دعاءه فنودي : يازكريا الآية [ 19 \ 7 ] ، وقد أوضح جل وعلا في موضع آخر هذا الذي أجمله هنا ، فبين أن الذي ناداه بعض الملائكة ، وأن النداء المذكور وقع وهو قائم يصلي في المحراب ، وذلك قوله تعالى : فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين [ 3 \ 39 ] ، وقولـه تعالى : فنادته الملائكة ، قال بعض العلماء : أطلق الملائكة وأراد جبريل ، ومثل به بعض علماء الأصول العام المراد به الخصوص قائلا : إنه أراد بعموم الملائكة خصوص جبريل ، وإسناد الفعل للمجموع مرادا بعضه قد بينا فيما مضى مرارا .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : اسمه يحيى ، يدل على أن الله هو الذي سماه ، ولم يكل تسميته إلى أبيه ، وفي هذا منقبة عظيمة ليحيى .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : لم نجعل له من قبل سميا ، اعلم أولا أن السمي يطلق في اللغة العربية إطلاقين : الأول قولهم : فلان سمي فلان أي : مسمى باسمه ، فمن كان اسمهما واحدا فكلاهما سمي الآخر ، أي : مسمى باسمه .

والثاني : إطلاق السمي يعني المسامي ، أي : المماثل في السمو والرفعة [ ص: 368 ] والشرف ، وهو فعيل بمعنى مفاعل من السمو بمعنى العلو والرفعة ، ويكثر في اللغة إتيان الفعيل بمعنى المفاعل ، كالقعيد والجليس بمعنى المقاعد والمجالس ، والأكيل والشريب بمعنى المؤاكل والمشارب ، وكذلك السمي بمعنى المسامي ، أي : المماثل في السمو ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله هنا : لم نجعل له من قبل سميا [ 19 \ 7 ] ، أي : لم نجعل من قبله أحدا يتسمى باسمه ، فهو أول من كان اسمه يحيى ، وقول من قال : إن معناه لم نجعل له سميا ، أي : نظيرا في السمو والرفعة غير صواب لأنه ليس بأفضل من إبراهيم وموسى ونوح ، فالقول الأول هو الصواب ، وممن قال به ابن عباس وقتادة والسدي وابن أسلم وغيرهم ، ويروى القول الثاني عن مجاهد وابن عباس أيضا ، وإذا علمت أن الصواب أن معنى قوله : لم نجعل له من قبل سميا ، أي : لم نسم أحدا باسمه قبله فاعلم أن قوله : رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا [ 19 \ 65 ] ، معناه : أنه تعالى ليس له نظير ولا مماثل يساميه في العلو والعظمة والكمال على التحقيق ، وقال بعض العلماء : وهو مروي عن ابن عباس هل تعلم له سميا ، هل تعلم أحدا يسمى باسمه الرحمن جل وعلا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن زكريا لما بشر بيحيى قال : رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا [ 19 \ 8 ] ، وهذا الذي ذكر أنه قاله هنا ذكره أيضا في " آل عمران " في قوله : قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر [ 3 \ 40 ] ، وقولـه في هذه الآية الكريمة وقد بلغت من الكبر عتيا [ 19 \ 8 ] ، قرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " عتيا " بكسر العين اتباعا للكسرة التي بعدها ، ومجانسة للياء وقرأه الباقون " عتيا " بضمها على الأصل . ومعنى قوله : وقد بلغت من الكبر عتيا ، أنه بلغ غاية الكبر في السن ، حتى نحل عظمه ويبس ، قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية : يقول وقد عتوت من الكبر فصرت نحيل العظام يابسها ، يقال منه للعود اليابس : عود عات وعاس ، وقد عتا يعتو عتوا وعتيا ، وعسا يعسو عسيا وعسوا ، وكل متناه إلى غاية في كبر أو فساد أو كفر فهو عات وعاس .
[ ص: 369 ] تنبيه

فإن قيل : ما وجه استفهام زكريا في قوله : أنى يكون لي غلام ، مع علمه بقدرة الله تعالى على كل شيء .

فالجواب من ثلاثة أوجه قد ذكرناها في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عند آيات الكتاب ( في سورة " آل عمران " وواحد منها فيه بعد وإن روي عن عكرمة والسدي وغيرهما .

الأول : أن استفهام زكريا استفهام استخبار واستعلام ; لأنه لا يعلم هل الله يأتيه بالولد من زوجة العجوز على كبر سنهما على سبيل خرق العادة ، أو يأمره بأن يتزوج شابة ، أو يردهما شابين ؟ فاستفهم عن الحقيقة ليعلمها ، ولا إشكال في هذا ، وهو أظهرها .

الثاني : أن استفهامه استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى .

الثالث : وهو الذي ذكرنا أن فيه بعدا هو ما ذكره ابن جرير عن عكرمة والسدي : من أن زكريا لما نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى ، قال له الشيطان : ليس هذا نداء الملائكة ، وإنما هو نداء الشيطان ، فداخل زكريا الشك في أن النداء من الشيطان ، فقال عند ذلك الشك الناشئ عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من الله : أنى يكون لي غلام [ 19 \ 8 ] ، ولذا طلب الآية من الله على ذلك بقوله : رب اجعل لي آية الآية [ 19 \ 10 ] ، وإنما قلنا : إن هذا القول فيه بعد ; لأنه لا يلتبس على زكريا نداء الملائكة بنداء الشيطان .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : " عتيا " أصله عتوا ، فأبدلت الواو ياء ، ومن إطلاق العتي الكبر المتناهي قول الشاعر :


إنما يعذر الوليد ولا يع ذر من كان في الزمان عتيا
وقراءة " عسيا " بالسين شاذة لا تجوز القراءة بها ، وقال القرطبي : وبها قرأ ابن عباس ، وهي كذلك في مصحف أبي .
قوله تعالى : قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا .

هذا الذي ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ذكره أيضا في " آل عمران " في قوله : قال كذلك الله يفعل ما يشاء [ 3 \ 40 ] ، وقولـه في هذه الآية الكريمة " كذلك " للعلماء في إعرابه أوجه :

[ ص: 370 ] الأول : أنه خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره ، الأمر كذلك ، ولا محالة أن تلد الغلام المذكور ، وقيل ، الأمر كذلك أنت كبير في السن ، وامرأتك عاقر ، وعلى هذا فقوله : قال ربك [ 19 \ 9 ] ، ابتداء كلام :

الوجه الثاني : أن " كذلك " في محل نصب بـ " قال " وعليه فالإشارة بقوله " ذلك " إلى مبهم يفسره قوله : هو علي هين ، ونظيره على هذا القول قوله تعالى : وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين [ 15 \ 66 ] ، وغير هذين من أوجه إعرابه تركناه لعدم وضوحه عندنا ، وقوله : هو علي هين ، أي : يسير سهل .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا أي : ومن خلقك ولم تك شيئا فهو قادر على أن يرزقك الولد المذكور كما لا يخفى ، وهذا الذي قاله هنا لزكريا : من أنه خلقه ولم يك شيئا أشار إليه بالنسبة إلى الإنسان في مواضع أخر ، كقوله : أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 67 ] ، وقولـه تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا [ 76 \ 1 ] .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : ولم تك شيئا ، دليل على أن المعدوم ليس بشيء ، ونظيره قوله تعالى : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] ، وهذا هو الصواب ، خلافا للمعتزلة القائلين : إن المعدوم الممكن وجوده شيء ، مستدلين لذلك بقوله تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] ، قالوا : قد سماه الله شيئا قبل أن يقول له كن فيكون ، وهو يدل على أنه شيء قبل وجوده ، ولأجل هذا قال الزمخشري في تفسير هذه الآية : لأن المعدوم ليس بشيء ، أو ليس شيئا يعتد به ، كقولهم : عجبت من لا شيء ، وقول الشاعر :


وضاقت الأرض حتى كان هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
لأن مراده بقوله : غير شيء ، أي : إذا رأى شيئا تافها لا يعتد به كأنه لا شيء لحقارته ظنه رجلا ; لأن غير شيء بالكلية لا يصح وقوع الرؤية عليه ، والتحقيق هو ما دلت عليه هذه الآية وأمثالها في القرآن : من أن المعدوم ليس بشيء ؟ والجواب عن استدلالهم بالآية : أن ذلك المعدوم لما تعلقت الإرادة بإيجاده ، صار تحقق وقوعه كوقوعه بالفعل ، كقوله : أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] ، وقولـه : ونفخ في الصور [ 18 \ 99 ] ، وقولـه : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين الآية [ 39 \ 69 ] ، [ ص: 371 ] وقولـه : وسيق الذين كفروا الآية [ 39 \ 73 ] ، وقولـه : وسيق الذين اتقوا ربهم ، وأمثال ذلك ، كل هذه الأفعال الماضية الدالة على الوقوع بالفعل فيما مضى أطلقت مرادا بها المستقبل ; لأن تحقق وقوع ما ذكر صيره كالواقع بالفعل ، وكذلك تسميته شيئا قبل وجوده لتحقق وجوده بإرادة الله تعالى .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : وقد خلقتك من قبل ، قرأه عامة السبعة ما عدا حمزة والكسائي " خلقتك " بتاء الفاعل المضمومة التي هي تاء المتكلم ، وقرأه حمزة والكسائي " وقد خلقناك " بنون بعدها ألف ، وصيغة الجمع فيها للتعظيم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #253  
قديم 19-03-2022, 09:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (251)

سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 371 إلى صـ 376



قوله تعالى : قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا .

المراد بالآية هنا العلامة ، أي : اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به من الولد ، قال بعض أهل العلم : طلب الآية على ذلك لتتم طمأنينته بوقوع ما بشر به ، ونظيره على هذا القول قوله تعالى عن إبراهيم : قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي [ 2 \ 260 ] ، وقيل : أراد بالعلامة أن يعرف ابتداء حمل امرأته ; لأن الحمل في أول زمنه يخفى .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا أي : علامتك على وقوع ذلك ألا تكلم الناس ، أي : أن تمنع الكلام فلا تطيقه ثلاث ليال بأيامهن في حال كونك سويا ، أي : سوي الخلق ، سليم الجوارح ، ما بك خرس ولا بكم ولكنك ممنوع من الكلام على سبيل خرق العادة ، كما قدمنا في " آل عمران " ، أما ذكر الله فليس ممنوعا منه بدليل قوله في " آل عمران " : واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار [ 3 \ 41 ] ، وقول من قال : إن معنى قوله تعالى ، ثلاث ليال سويا ، أي : ثلاث ليال متتابعات غير صواب ، بل معناه هو ما قدمنا من كون اعتقال لسانه عن كلام قومه ليس لعلة ولا مرض حدث به ، ولكن بقدرة الله تعالى وقد قال تعالى هنا " ثلاث ليال " ولم يذكر معها أيامها ، ولكنه ذكر الأيام في " آل عمران " ، في قوله : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام [ 3 \ 41 ] ، فدلت الآيتان على أنها ثلاث ليالي بأيامهن .

وقولـه تعالى في هذه الآية : ألا تكلم الناس ، يعني إلا بالإشارة أو الكتابة ، كما دل عليه قوله هنا : فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا [ 19 \ 11 ] ، وقولـه في " آل [ ص: 372 ] عمران " : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام [ 3 \ 41 ] ; لأن الرمز : الإشارة والإيماء بالشفتين والحاجب ، والإيحاء في قوله : فأوحى إليهم أن سبحوا الآية ، قال بعض العلماء : هو الإشارة وهو الأظهر بدليل قوله " إلا رمزا " كما تقدم آنفا ، وممن قال بأن الوحي في الآية الإشارة : قتادة ، والكلبي ، وابن منبه ، والعتبي ، كما نقله عنهم القرطبي وغيره ، وعن مجاهد ، والسدي " فأوحى إليهم " ، أي : كتب لهم في الأرض ، وعن عكرمة : كتب لهم في كتاب ، والوحي في لغة العرب يطلق على كل إلقاء في سرعة وخفاء ، ولذلك أطلق على الإلهام ، كما في قوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل الآية [ 16 \ 68 ] ، وعلى الإشارة كما هو الظاهر في قوله تعالى : فأوحى إليهم أن سبحوا الآية [ 19 \ 11 ] ، ويطلق على الكتابة كما هو القول الآخر في هذه الآية الكريمة ، وإطلاق الوحي على الكتابة مشهور في كلام العرب ، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته :


فمدافع الريان عري رسمها خلقا كما ضمن الوحي سلامها
فقوله " الوحي " بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء ، جمع وحي بمعنى الكتابة .

وقول عنترة :


كوحي صحائف من عهد كسرى فأهداها لأعجم طمطمي
وقول ذي الرمة :


سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها بقية وحي في ون الصحائف
وقول جرير :


كأن أخا الكتاب يخط وحيا بكاف في منازلها ولام
قوله تعالى : فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن زكريا خرج على قومه من المحراب فأشار إليهم ، أو كتب لهم : أن سبحوا الله أول النهار وآخره ، فالبكرة أول النهار ، والعشي آخره ، وقد بين تعالى في " آل عمران " أن هذا الذي أمر به زكريا قومه بالإشارة أو الكتابة من التسبيح بكرة وعشيا أن الله أمر زكرياء به أيضا ، وذلك في قوله : واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار [ 3 \ 41 ] ، والظاهر أن هذا المحراب الذي خرج منه على قومه هو المحراب الذي بشر بالولد وهو قائم يصلي فيه المذكور في قوله تعالى : [ ص: 373 ] فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب [ 3 \ 39 ] ، قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية : والمحراب : أرفع المواضع ، وأشرف المجالس ، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض ا هـ ، وقال الجوهري في صحاحه : قال الفراء : المحاريب : صدور المجالس ، ومنه سمي محراب المسجد ، والمحراب : الغرفة ، قال وضاح اليمن :


ربة محراب إذا جئتها لم ألقها أو أرتقي سلما
ومن هذا المعنى قوله تعالى : كلما دخل عليها زكريا المحراب الآية [ 3 \ 37 ] . ؤتنبيه

أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة : مشروعية ارتفاع الإمام على المأمومين في الصلاة ; لأن المحراب موضع صلاة زكريا ، كما دل عليه قوله : وهو قائم يصلي في المحراب [ 3 \ 39 ] ، والمحراب أرفع من غيره ، فدل ذلك على ما ذكر ، قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره : هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعا عندهم ، وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار ، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره ، متمسكا بقصة المنبر ، ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير ، وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام .

قلت : وهذا فيه نظر ، وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام : أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه ، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا ، أو ينهى عن ذلك ؟ قال بلى ، ذكرت ذلك حين مددتني ، وروي أيضا عن عدي بن ثابت الأنصاري قال : حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن ، فأقيمت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر ، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة ، فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم " أو نحو ذلك ؟ فقال عمار : لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي .

قلت : فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك ، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر ، فدل على أنه منسوخ ، ومما يدل على نسخه : أن فيه عملا زائدا في الصلاة وهو النزول والصعود ، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام ، وهذا أولى مما [ ص: 374 ] اعتذر به أصحابنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما من الكبر ; لأن كثيرا من الأئمة يوجدون لا كبر عندهم ، ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرا ، والله أعلم ، انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى .

قال مقيده عفا الله عنه : سنتكلم هنا إن شاء الله تعالى على الأحاديث المذكورة ، ونبين أقوال العلماء في هذه المسألة ، وأدلتهم وما يظهر رجحناه بالدليل .

أما الحديثان اللذان ذكرهما القرطبي عن أبي داود فقد ساقهما أبو داود في سننه : حدثنا أحمد بن سنان وأحمد بن الفرات أبو مسعود الرازي المعنى قال : ثنا يعلى ، ثنا الأعمش عن إبراهيم عن همام : أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه إلى آخر الحديث ، ثم قال أبو داود رحمه الله : حدثنا أحمد بن إبراهيم ثنا حجاج عن ابن جريج ، أخبرني أبو خالد عن عدي بن ثابت الأنصاري ، حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن ، إلى آخر الحديث ، ولا يخفى أن هذا الحديث الأخير ضعيف ; لأن الراوي فيه عن عمار رجل لا يدرى من هو كما ترى ، وأما الأثر الأول فقد صححه غير واحد ، وروي مرفوعا صريحا ، قال ابن حجر في ) التلخيص ( في الكلام على الأثر والحديث المذكورين : ويعارضه ما رواه أبو داود من طريق همام : أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه ، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك ؟ قال بلى ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، وفي رواية للحاكم التصريح برفعه ، ورواه أبو داود من وجه آخر ، وفيه أن الإمام كان عمار بن ياسر ، والذي جبذه حذيفة ، وهو مرفوع لكن فيه مجهول ، والأول أقوى ، ويقويه ما رواه الدارقطني من وجه آخر عن همام عن أبي مسعود : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه أسفل منه ، ا هـ من التلخيص ، وقال النووي في شرح المهذب ، في الكلام على حديث صلاة حذيفة على الدكان وجبذ أبي مسعود له المذكور : رواه الشافعي وأبو داود والبيهقي ، ومن لا يحصى من كبار المحدثين ومصنفيهم ، وإسناده صحيح ، ويقال جذب وجبذ ، لغتان مشهورتان ا هـ منه ، وأما قصة المنبر التي أشار لها القرطبي ، وقال : إنها حجة من يجيز ارتفاع الإمام على المأموم ، فهي حديث سهل بن سعد : أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر في أول يوم وضع ، فكبر وهو عليه ثم ركع ثم نزل القهقرى فسجد وسجد الناس معه ، ثم عاد حتى فرغ ، فلما انصرف قال : " أيها الناس ، إنما فعلت هذا لتأتموا بي ، ولتعلموا صلاتي " متفق عليه ، أما أقوال الأئمة في هذه [ ص: 375 ] المسألة : فمذهب الشافعي فيها هو كراهة علو الإمام على المأموم ، وكذلك عكسه إلا إذا كان ذلك لغرض صحيح محتاج إليه ، كارتفاع الإمام ليعلم الجاهلين الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على المنبر ، وبين أنه فعل ذلك لقصد التعليم ، وكارتفاع المأموم ليبلغ غيره من المأمومين تكبيرات الإمام فإن كان ارتفاع أحدهما لنحو هذا الغرض استحب له الارتفاع لتحصيل الغرض المذكور .

قال النووي في شرح المهذب : هذا مذهبنا ، وهو رواية عن أبي حنيفة ، وعنه رواية ، أنه يكره الارتفاع مطلقا ، وبه قال مالك والأوزاعي ، وحكى الشيخ أبو حامد عن الأوزاعي : أنه قال تبطل به الصلاة .

وأما مذهب مالك في المسألة ففيه تفصيل بين علو الإمام على المأموم وعكسه ، فعلو المأموم جائز عنده ، وقد رجع إلى كراهته ، وبقي بعض أصحابه على قوله بجوازه ، وعلو الإمام لا يعجبه ، وفي المدونة قال مالك : لا بأس في غير الجمعة أن يصلي الرجل بصلاة الإمام على ظهر المسجد والإمام في داخل المسجد ، ثم كرهه ، وأخذ ابن القاسم بقوله الأول ، انتهى بواسطة نقل المواق في الكلام على قول خليل بن إسحاق في مختصره عاطفا على ما يجوز ، وعلو مأموم ولو بسطح ، وفي المدونة أيضا قال مالك : إذا صلى الإمام بقوم على ظهر المسجد والناس خلفه أسفل من ذلك فلا يعجبني ، انتهى بواسطة نقل المواق أيضا ، وقوله " يعجبني " ظاهر في الكراهة ، وحمله بعضهم على المنع ، وفي وجوب إعادة الصلاة قولان .

ومحل الخلاف ما لم يقصد المرتفع بارتفاعه التكبر على الناس ، فإن قصد ذلك بطلت صلاته عندهم إماما كان أو مأموما ، وهذه المسألة ذكرها خليل بن إسحاق في مختصره في قوله : وعلو مأموم ولو بسطح لا عكسه ، وبطلب بقصد إمام ومأموم به الكبر إلا بكشبر ا هـ ، وقولـه " إلا بكشبر " يعني إلا أن يكون الارتفاع بكشبر ، ونحو الشبر عظم الذراع عندهم ، ومحل جواز الارتفاع اليسير المذكور ما لم يقصد به الكبر ، فقوله " إلا بكشبر " مستثنى من قوله " لا عكسه " لا من مسألة قصده الكبر فالصلاة فيها باطلة عندهم مطلقا : قال المواق في شرحه لكلام خليل المذكور من المدونة : كره مالك وغيره أن يصلي الإمام على شيء أرفع مما يصلي عليه من خلفه ، مثل الدكان يكون في المحراب ونحوه ، قال ابن القاسم : فإن فعل أعادوا أبدا ، لأنهم يعبثون إلا أن يكون ذلك دكانا يسير الارتفاع مثل ما كان عندنا بمصر فتجزئهم الصلاة ، قال أبو محمد : مثل الشبر وعظم الذراع إلى أن قال : وانظر إذا صلى المقتدي كذلك أعني على موضع مرتفع قصدا [ ص: 376 ] إلى التكبر عن مساواة الإمام ، قال ابن بشير : صلاته أيضا باطلة ، ا هـ محل الغرض منه ، وقول ابن القاسم " لأنهم يعبثون " يعني برفع ذلك البنيان الذي يصلي عليه الإمام ، كما قال تعالى عن نبيه هود مخاطبا لقومه عاد : أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 26 \ 128 - 129 ] ، وإذا ارتفعت مع الإمام طائفة من المصلين سائر الناس ، أعني ليست من أشراف الناس وأعيانهم ، ففي نفي الكراهة بذلك خلاف عندهم وإليه أشار خليل في مختصره بقوله : وهل يجوز إن كان مع الإمام طائفة كغيرهم تردد ، هذا هو حاصل مذهب مالك في هذه المسألة .

وأما مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة : فهو أن ارتفاع كل من الإمام والمأموم على الآخر مكروه ، وقال الطحاوي : لا يكره علو المأموم على الإمام ، ومحل الكراهة عند الحنفية في الارتفاع غير اليسير ، ولا كراهة عندهم في اليسير : وقدر الارتفاع الموجب للكراهة عندهم قدر قامة ، ولا بأس بما دونها ، ذكره الطحاوي ، وهو مروي عن أبي يوسف : وقيل هو مقدر بقدر ما يقع عليه الامتياز ، وقيل : مقدر بقدر ذراع اعتبارا بالسترة ، قال صاحب تبيين الحقائق ، وعليه الاعتماد ، وإن كان مع الإمام جماعة في مكانه المرتفع ، وبقية المأمومين أسفل منهم فلا يكره ذلك على الصحيح عندهم انتهى بمعناه ) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ( .

وأما مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة : فهو التفصيل بين علو الإمام على المأموم ، فيكره على المشهور من مذهب أحمد ، وبين علو المأموم الإمام فيجوز ، قال ابن قدامة في المغني : المشهور في المذهب أنه يكره أن يكون الإمام أعلى من المأمومين ، سواء أراد تعليمهم الصلاة ، أو لم يرد ، وهو قول مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي ، وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكره ا هـ محل الغرض منه ، وقال في المغني أيضا : فإن صلى الإمام في مكان أعلى من المأمومين فقال ابن حامد : لا تصح صلاتهم ، وهو قول الأوزاعي ; لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ، وقال القاضي : لا تبطل ، وهو قول أصحاب الرأي ا هـ محل الغرض منه .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #254  
قديم 19-03-2022, 09:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (252)

سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 377 إلى صـ 382


فإذا عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في هذه المسألة فاعلم أن حجة من كره علو الإمام على المأموم أو منعه هي ما قدمنا في قصة جبذ أبي مسعود لحذيفة لما أم الناس ، وقام يصلي على دكان ، الحديث المتقدم ، وقد بينا أقوال أهل العلم في الحديث المذكور . وحجة من أجاز ذلك للتعليم حديث سهل بن سعد المتفق عليه في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 377 ] على المنبر ، وجواب المخالفين عن صلاته على المنبر ، بأنه ارتفاع يسير ، وذلك لا بأس به ، أو بأنه منسوخ كما تقدم في كلام القرطبي ، وحجة من أجاز على المأموم على الإمام ما روي عن أبي هريرة : أنه صلى بصلاة الإمام وهو على سطح المسجد .

قال ابن حجر " في التلخيص " : رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد قال حدثني صالح مولى التوءمة أنه رأى أبا هريرة يصلي فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام في المسجد ، ورواه البيهقي من حديث القعنبي عن ابن أبي ذئب عن صالح ، ورواه سعد بن منصور ، وذكره البخاري تعليقا . انتهى محل الغرض من كلامه ، فقد رأيت مذاهب العلماء في المسألة وأدلتهم .

قال مقيده عفا الله عنه : والذي يظهر والله تعالى أعلم وجوب الجمع بين الأدلة المذكورة ، وأن علو الإمام مكروه لما تقدم ، ويجمع بينه وبين قصة الصلاة على المنبر بجوازه للتعليم دون غيره ، ويدل لهذا إخباره صلى الله عليه وسلم أنه إذا ارتفع رأوه وإذا نزل لم يره إلا من يليه ، وجمع بعضهم بأن ارتفاعه على المنبر ارتفاع يسير وهو مغتفر ، أما علو المأموم فقد تعارض فيه القياس مع فعل أبي هريرة ; لأن القياس يقتضي كراهة ارتفاع المأموم قياسا على ارتفاع الإمام وهو قياس جلي ، وإذا تعارض القياس مع قول الصحابي فمن الأصوليين من يقول بتقديم القياس ، وهو مذهب مالك وجماعة ، ومنهم من يقول بتقديم قول الصحابي ، ولا شك أن الأحوط تجنب علو كل واحد من الإمام والمأموم على الآخر ، والعلم عند الله تعالى .

و " أن " في قوله : فأوحى إليهم أن سبحوا [ 19 \ 11 ] ، هي المفسرة ، والمعنى أن ما بعدها يفسر الإيحاء المذكور قبلها ، فهذا الذي أشار لهم به هو الأمر بالتسبيح بكرة وعشيا ، وهذا هو الصواب ، ويحتمل أن تكون مصدرية بناء على أن " أن " المصدرية تأتي مع الأفعال الطلبية ، وعليه فالمعنى : أوحى إليهم أي : أشار إليهم بأن سبحوا ، أي : بالتسبيح أو كتب لهم ذلك بناء على القول بأن المراد به الكتابة ، وكونها مفسرة هو الصواب ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا .

[ ص: 378 ] اعلم أولا : أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر شيئا مع بعض صفاته وله صفات أخر مذكورة في موضع آخر ، فإنا نبينها ، وقد مر فيه أمثلة كثيرة من ذلك ، وأكثرها في الموصوفات من أسماء الأجناس لا الأعلام ، وربما ذكرنا ذلك في صفات الأعلام كما هنا فإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة بعض صفات يحيى ، وقد ذكر شيئا من صفاته أيضا في غير هذا الموضع ، وسنبين إن شاء الله المراد بالمذكور منها هنا ، والمذكور في غير هذا الموضع .

اعلم أنه هنا وصفه بأنه قال له : يايحيى خذ الكتاب بقوة [ 19 \ 12 ] ، ووصفه بقوله : وآتيناه الحكم إلى قوله : ويوم يبعث حيا ، فقوله : يايحيى خذ الكتاب مقول قول محذوف ، أي : وقلنا له يايحيى خذ الكتاب بقوة ، والكتاب : التوراة ، أي : خذ التوراة بقوة ، أي : بجد واجتهاد ، وذلك بتفهم المعنى أولا حتى يفهمه على الوجه الصحيح ، ثم يعمل به من جميع الجهات ، فيعتقد عقائده ، ويحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويتأدب بآدابه ، ويتعظ بمواعظه ، إلى غير ذلك من جهات العمل به ، وعامة المفسرين على أن المراد بالكتاب هنا : التوراة ، وحكى غير واحد عليه الإجماع ، وقيل : هو كتاب أنزل على يحيى ، وقيل : هو اسم جنس يشمل الكتب المقدمة ، وقيل : هو صحف إبراهيم ، والأظهر قول الجمهور : إنه التوراة كما قدمنا .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : وآتيناه الحكم ، أي : أعطيناه الحكم ، وللعلماء في المراد بالحكم أقوال متقاربة ، مرجعها إلى شيء واحد ، وهو أن الله أعطاه الفهم في الكتاب ، أي : إدراك ما فيه والعمل به في حال كونه صبيا ، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : وآتيناه الحكم صبيا ، أي : الفهم والعلم والجد والعزم ، والإقبال على الخير والإكباب عليه ، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث ، قال عبد الله بن المبارك قال معمر : قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب ، فقال : ما للعب خلقنا فلهذا أنزل الله وآتيناه الحكم صبيا ، وقال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : وآتيناه الحكم صبيا ، يقول تعالى ذكره : وأعطيناه الفهم بكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال ، وقد حدثنا أحمد بن منيع قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال : أخبرني معمر ولم يذكره عن أحد في هذه الآية : وآتيناه الحكم صبيا ، قال بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى : اذهب بنا نلعب ، فقال : [ ص: 379 ] ما للعب خلقنا ، فأنزل الله وآتيناه الحكم صبيا ، وقال الزمخشري في الكشاف : وآتيناه الحكم ، أي : الحكمة ، ومنه قول نابغة ذبيان :


واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام سراع وارد الثمد
وقال أبو حيان في البحر في تفسير هذه الآية : والحكم النبوة ، أو حكم الكتاب ، أو الحكمة ، أو العلم بالأحكام ، أو اللب وهو العقل ، أو آداب الخدمة ، أو الفراسة الصادقة ، أقوال .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي هو أن الحكم يعلم النافع والعمل به ، وذلك بفهم الكتاب السماوي فهما صحيحا ، والعمل به حقا ، فإن هذا يشمل جميع أقوال العلماء في الآية الكريمة ، وأصل معنى " الحكم " المنع ، والعلم النافع ، والعمل به يمنع الأقوال والأفعال من الخلل والفساد والنقصان .

وقولـه تعالى : صبيا ، أي : لم يبلغ ، وهو الظاهر ، وقيل : صبيا ، أي : شابا لم يبلغ سن الكهولة ذكره أبو حيان وغيره ، والظاهر الأول ، قيل ابن ثلاث سنين ، وقيل ابن سبع ، وقيل ابن سنتين ، والله أعلم .

وقولـه في هذه الآية الكريمة وحنانا ، معطوف على الحكم ، أي : وآتيناه حنانا من لدنا ، والحنان : هو ما جبل عليه من الرحمة ، والعطف والشفقة ، وإطلاق الحنان على الرحمة والعطف مشهور في كلام العرب ، ومنه قولهم : حنانك وحنانيك يا رب ، بمعنى رحمتك ، ومن هذا المعنى قول امرئ القيس :


أبنت الحارث الملك بن عمرو له ملك العراق إلى عمان
ويمنحها بنو شمجى بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان
يعني : رحمتك يا رحمن ، وقول طرفة بن العبد :


أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقول منذر بن درهم الكلبي :


وأحدث عهد من أمينة نظرة على جانب العلياء إذ أنا واقف
فقالت حنان ما أتى بك هاهنا أذو نسب أم أنت بالحي
عارف فقوله " حنان " أي : أمري حنان ، أي رحمة لك ، وعطف وشفقة عليك [ ص: 380 ] وقول الحطيئة أو غيره :

تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا وقولـه تعالى : من لدنا ، أي : من عندنا ، وأصح التفسيرات في قوله " وزكاة " أنه معطوف على ما قبله ، أي : أو أعطيناه زكاة ، أي : طهارة من أدران الذنوب والمعاصي بالطاعة ، والتقرب إلى الله بما يرضيه : وقد قدمنا في سورة " الكهف " الآيات الدالة على إطلاق الزكاة في القرآن بمعنى الطهارة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية " وزكاة " الزكاة : التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير ، أي : جعلناه مباركا للناس يهديهم ، وقيل المعنى : زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكي الشهود إنسانا ، وقيل " زكاة " صدقة على أبويه ، قاله ابن قتيبة انتهى كلام القرطبي ، وهو خلاف التحقيق في معنى الآية ، والتحقيق فيه إن شاء الله هو ما ذكرنا ، من أن المعنى : وأعطيناه زكاة ، أي : طهارة من الذنوب والمعاصي بتوفيقنا إياه للعمل بما يرضي الله تعالى ، وقول من قال من العلماء : بأن المراد بالزكاة في الآية العمل الصالح ، راجع إلى ما ذكرنا ; لأن العمل الصالح هو الذي به الطهارة من الذنوب والمعاصي .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : وكان تقيا ، أي : ممتثلا لأوامر ربه مجتنبا كل ما نهى عنه ، ولذا لم يعمل خطيئة قط ، ولم يلم بها ، قاله القرطبي وغيره عن قتادة وغيره ، وفي نحو ذلك أحاديث مرفوعة ، والظاهر أنه لم يثبت شيء من ذلك مرفوعا ، إما بانقطاع ، وإما بعنعنة مدلس : وإما بضعف واو ، كما أشار له ابن كثير وغيره ، وقد قدمنا معنى " التقوى " مرارا وأصل مادتها في اللغة العربية .

وقولـه تعالى : وبرا بوالديه [ 19 \ 14 ] ، البر بالفتح هو فاعل البر بالكسر كثيرا أي : وجعلناه كثير البر بوالديه ، أي : محسنا إليهما ، لطيفا بهما ، لين الجانب لهما ، وقولـه " وبرا " معطوف على قوله " تقيا " ، وقوله : ولم يكن جبارا عصيا ، أي : لم يكن مستكبرا عن طاعة ربه وطاعة والديه ، ولكنه كان مطيعا لله ، متواضعا لوالديه ، قاله ابن جرير ، والجبار : هو كثير الجبر ، أي : القهر للناس ، والظلم لهم ، وكل متكبر على الناس يظلمهم : فهو جبار ، وقد أطلق في القرآن على شديد البطش في قوله تعالى : وإذا بطشتم بطشتم جبارين [ 26 \ 130 ] ، وعلى من يتكرر منه القتل في [ ص: 381 ] قوله : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض الآية [ 28 \ 19 ] ، والظاهر أن قوله : " عصيا " فعول قلبت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء على القاعدة التصريفية المشهورة : التي عقدها ابن مالك في الخلاصة بقوله :


إن يسكن السابق من واو ويا واتصلا ومن عروض عريا
فياء الواو اقلبن مدغما وشذ معطى غير ما قد رسما
فأصل " عصيا " على هذا " عصويا " كصبور ، أي : كثير العصيان ، ويحتمل أن يكون أصله فعيلا وهي من صيغ المبالغة أيضا ، قاله أبو حيان في البحر .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا [ 19 \ 15 ] ، قال ابن جرير : وسلام عليه ، أي : أمان له ، وقال ابن عطية : والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة ، فهي أشرف من الأمان ; لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهو أقل درجاته ، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة ، وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول .

انتهى كلام ابن عطية بواسطة نقل القرطبي في تفسير هذه الآية ، ومرجع القولين إلى شيء واحد ; لأن معنى سلام ، التحية ، الأمان ، والسلامة مما يكره ، وقول من قال : هو الأمان ، يعني أن ذلك الأمان من الله ، والتحية من الله معناها الأمان والسلامة مما يكره ، والظاهر المتبادر أن قوله : وسلام عليه يوم ولد ، تحية من الله ليحيى ومعناها الأمان والسلامة ، وقولـه : وسلام عليه مبتدأ ، وسوغ الابتداء به وهو نكرة أنه في معنى الدعاء ، وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة بالسلام التي هي وقت ولادته ، ووقت موته ، ووقت بعثه ، في قوله : يوم ولد ويوم يموت الآية ; لأنها أوحش من غيرها ، قال سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن : يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم ، قال : فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه فيها ، رواه عنه ابن جرير وغيره ، وذكر ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية بإسناده عن الحسن رحمه الله قال : إن عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى : استغفر لي ، أنت خير مني ، فقال الآخر : استغفر لي ، أنت خير مني ، فقال عيسى : أنت خير مني ، سلمت على نفسي وسلم الله عليك ، وقد نقل القرطبي هذا الكلام الذي رواه ابن جرير عن الحسن البصري رحمه الله تعالى ، ثم قال : انتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى بأن قال إدلاله [ ص: 382 ] في التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكي في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه ، قال ابن عطية : ولكل وجه ، انتهى كلام القرطبي ، والظاهر أن سلام الله على يحيى في قوله : وسلام عليه يوم ولد الآية [ 19 \ 15 ] ، أعظم من سلام عيسى على نفسه في قوله : والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا [ 19 \ 33 ] ، كما هو ظاهر . تنبيه

الفتحة في قوله : يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا [ 19 \ 15 ] ، يحتمل أن تكون في الظروف الثلاثة فتحة إعراب نصبا على الظرفية ، ويحتمل أن تكون فتحة بناء لجواز البناء في نحو ذلك ، والأجود أن تكون فتحة يوم ولد فتحة بناء ، وفتحة ويوم يموت ويوم يبعث فتحة نصب ; لأن بناء ما قبل الفعل الماضي أجود من إعرابه وإعراب ما قبل المضارع والجملة الاسمية أجود من بنائه ، كما عقده في الخلاصة بقوله :


وابن أو أعرب ما كإذ قد أجريا واختر بنا متلو فعل بنيا وقبل فعل معرب أو مبتدا
أعرب ومن بنى فلن يفندا
والأحوال في مثل هذا أربعة : الأول أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء أصليا وهو الماضي ; كقول نابغة ذبيان :


على حين عاتبت المشيب على الصبا فقلت ألما أصح والشيب وازع
فبناء الظرف في مثل ذلك أجود ، وإعرابه جائز .

الثاني : أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء عارضا ، كالمضارع المبني لاتصاله بنون النسوة ، كقول الآخر :


لأجتذبن منهن قلبي تحلما على حين يستصبين كل حليم
وحكم هذا كما قبله .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #255  
قديم 19-03-2022, 09:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (253)

سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 383 إلى صـ 388


قوله تعالى : ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من حكم خلقه عيسى من امرأة بغير زوج ليجعل ذلك آية للناس ، أي علامة دالة على كمال قدرته ، وأنه تعالى يخلق ما يشاء كيف [ ص: 389 ] يشاء : إن شاء خلقه من أنثى بدون ذكر كما فعل بعيسى ، وإن شاء خلقه من ذكر بدون أنثى كما فعل بحواء ، كما نص على ذلك في قوله : وخلق منها زوجها [ 4 \ 1 ] ، أي : خلق من تلك النفس التي هي آدم زوجها حواء ، وإن شاء خلقه بدون الذكر والأنثى معا كما فعل بآدم ، وإن شاء خلقه من ذكر وأنثى كما فعل بسائر بني آدم ، فسبحان الله العظيم القادر على كل شيء ، وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كونه جعل عيسى آية حيث ولدته أمه من غير زوج ، أشار له أيضا في " الأنبياء " بقوله : وجعلناها وابنها آية للعالمين [ 21 \ 91 ] ، وفي " الفلاح " بقوله : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما الآية [ 23

] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولنجعله آية للناس [ 19 \ 21 ] ، فيه حذف دل المقام عليه ، قال الزمخشري في الكشاف : ولنجعله آية للناس تعليل معلله محذوف ، أي : ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك ، أو هو معطوف على تعليل مضمر ، أي : لنبين به قدرتنا ولنجعله آية ، ونحوه : وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت [ 45 \ 22 ] ، وقوله : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه [ 12 \ 21 ] اهـ .

وقوله في هذه الآية : ورحمة منا ، أي : لمن آمن به ، ومن كفر به فلم يبتغ الرحمة لنفسه ، كما قال تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] .

وقوله تعالى : وكان أمرا مقضيا [ 19 \ 21 ] ، أي : وكان وجود ذلك الغلام منك أمرا مقضيا ، أي : مقدرا في الأزل ، مسطورا في اللوح المحفوظ لا بد من وقوعه ، فهو واقع لا محالة .
قوله تعالى : فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن مريم حملت عيسى ، فقوله : فحملته ، أي : عيسى فانتبذت به ، أي : تنحت به وبعدت معتزلة عن قومها مكانا قصيا ، أي : في مكان بعيد ، والجمهور على أن المكان المذكور بيت لحم ، وفيه أقوال أخر غير ذلك . وقوله : فأجاءها المخاض ، أي : ألجأها الطلق إلى جذع النخلة ، أي : جذع نخلة في ذلك المكان ، والعرب تقول : جاء فلان ، و : أجاءه غيره : إذا حمله على المجيء ، [ ص: 390 ] ومنه قول زهير :


وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء
وقول حسان رضي الله عنه :


إذ شددنا شدة صادقة فاجأناكم إلى سفح الجبل والمخاض
: الطلق ، وهو وجع الولادة ، وسمي مخاضا من المخض ، وهو الحركة الشديدة لشدة تحرك الجنين في بطنها إذا أراد الخروج .

وقوله : قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا [ 19 \ 23 ] ، تمنت أن تكون قد ماتت قبل ذلك ولم تكن شيئا يذكر ، فإذا عرفت معنى هاتين الآيتين فاعلم أنه هنا لم يبين كيفية حملها به ، ولم يبين هل هذا الذي تنحت عنهم من أجله ، وتمنت من أجله أن تكون ماتت قبل ذلك وكانت نسيا منسيا ، وهو خوفها من أن يتهموها بالزنى ، وأنها جاءت بذلك الغلام من زنى - وقعت فيه أو سلمت منه ، ولكنه تعالى بين كل ذلك في غير هذا الموضع ، فأشار إلى أن كيفية حملها أنه نفح فيها فوصل النفخ إلى فرجها فوقع الحمل بسبب ذلك ، كما قال : ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا [ 66 \ 12 ] ، وقال : والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا الآية [ 21 \ 91 ] ، والذي عليه الجمهور من العلماء : أن المراد بذلك النفخ نفخ جبريل فيها بإذن الله فحملت ، كما تدل لذلك قراءة الجمهور في قوله : إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا [ 19 \ 18 ] ، كما تقدم ، ولا ينافي ذلك إسناد الله جل وعلا النفخ المذكور لنفسه في قوله : فنفخنا لأن جبريل إنما أوقعه بإذنه وأمره ومشيئته ، وهو تعالى الذي خلق الحمل من ذلك النفخ ، فجبريل لا قدرة له على أن يخلق الحمل من ذلك النفخ ومن أجل كونه بإذنه ومشيئته وأمره تعالى ، ولا يمكن أن يقع النفخ المذكور ولا وجود الحمل منه إلا بمشيئته جل وعلا - أسنده إلى نفسه ، والله تعالى أعلم .

وقول من قال : إن فرجها الذي نفخ فيه الملك هو جيب درعها ظاهر السقوط ، بل النفخ الواقع في جيب الدرع وصل إلى الفرج المعروف فوقع الحمل .

وقد بين تعالى في مواضع أخر ، أن ذلك الذي خافت منه وهو قذفهم لها بالفاحشة قد وقعت فيه ، ولكن الله برأها ، وذلك كقوله عنهم : قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، يعنون الفاحشة ، وقوله عنهم ، ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا [ 19 \ 28 ] ، [ ص: 391 ] يعنون فكيف فجرت أنت وجئت بهذا الولد ؟ وكقوله تعالى وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] .

وقوله : مكانا قصيا ، القصي : البعيد ، ومنه قول الراجز :


لتقعدن مقعد القصي مني ذي القاذورة المقلي
أو تحلفي بربك العلي أني أبو ذيالك الصبي
وهذا المكان القصي قد وصفه الله تعالى في غير هذا الموضع بقوله : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين [ 23

] ، وقوله في هذه الآية الكريمة : فانتبذت به ، أي : انتبذت وهو في بطنها ، والإشارة في قوله " هذا " إلى الحمل والمخاض الذي أصابها للوضع .

وقوله في هذه الآية الكريمة عنها : وكنت نسيا منسيا ، النسي والنسي بالكسر وبالفتح : هو ما من حقه أن يطرح وينسى لحقارته ، كخرق الحيض ، وكالوتد والعصا ، ونحو ذلك ، ومن كلام العرب إذا ارتحلوا عن الدار قولهم : انظروا أنساءكم . جمع نسي أي الأشياء الحقيرة التي من شأنها أن تترك وتنسى كالعصا والوتد ، ونحو ذلك ، فقولها " وكنت نسيا " أي شيئا تافها حقيرا من حقه أن يترك وينسى عادة ، وقولها " منسيا " تعني أن ذلك الشيء التافه الذي من عادته أن يترك وينسى قد نسي وطرح بالفعل فوجد فيه النسيان الذي هو حقه ، وأقوال المفسرين في الآية راجعة إلى ما ذكرنا ، ومن إطلاق النسي على ما ذكرنا قول الكميت :


أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في معد ولا دخل
فقوله " بنسي " أي : شيء تافه منسي ، وقول الشنفرى :


كأن لها في الأرض نسيا تقصه على أمها وإن تحدثك تبلت
فقوله " نسيا " أي : شيء تركته ونسيته ، وقوله " تبلت " بفتح التاء وسكون الباء الموحدة وفتح اللام بعدها تاء التأنيث ، أي : تقطع كلامها من الحياء ، والبلت في اللغة : القطع .

وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي " ياليتني مت " بكسر الميم ، وقرأ الباقون " مت " بضم الميم ، وقرأ حفص عن عاصم ، وحمزة " وكنت نسيا " بفتح النون ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان فصيحتان ، وقراءتان صحيحتان .
[ ص: 392 ] تنبيه

قراءة " مت " بكسر الميم كثيرا ما يخفى على طلبة العلم وجهها ; لأن لغة " مات يموت " لا يصح منها " مت " بكسر الميم ، ووجه القراءة بكسر الميم أنه من مات يمات ، كخاف يخاف ، لا من مات يموت ، كقال يقول . فلفظ " مات " فيها لغتان عربيتان فصيحتان ، الأولى منهما موت بفتح الواو فأبدلت الواو ألفا على القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة :
من ياء أو واو بتحريك أصل ألفا ابدل بعد فتح متصل
إن حرك الثاني . . . إلخ ،ومضارع هذه المفتوحة " يموت " بالضم على القياس وفي هذه ونحوها إن أسند الفعل إلى تاء الفاعل أو نونه سقطت العين بالاعتلال وحركت الفاء بحركة تناسب العين ، والحركة المناسبة للواو هي الضمة ، فتقول " مت " بضم الميم ، ولا يجوز غير ذلك .

الثانية أنها " موت " بكسر الواو ، أبدلت الواو ألفا للقاعدة المذكورة آنفا ، ومضارع هذه " يمات " بالفتح ; لأن " فعل " بكسر العين ينقاس في مضارعها بـ " فعل " بفتح العين ، كما قال ابن مالك في اللامية :


وافتح موضع الكسر في المبني من فعلا
ويستثنى من هذه القاعدة كلمات معروفة سماعية تحفظ ولا يقاس عليها ، والمقرر في فن الصرف أن كل فعل ثلاثي أجوف - أعني معتل العين - إذا كان على وزن فعل بكسر العين ، أو فعل بضمها ، فإنه إذا أسند إلى تاء الفاعل أو نونه تسقط عينه بالاعتلال وتنقل حركة عينه الساقطة بالاعتلال إلى الفاء فتكسر فاؤه إن كان من فعل بكسر العين ، وتضم إن كان من فعل بضمها ، مثال الأول " مت " من مات يمات ; لأن أصلها " موت " بالكسر وكذلك خاف يخاف ، ونام ينام ، فإنك تقول فيها " مت " بكسر الميم ، و " نمت " بكسر النون ، " وخفت " بكسر الخاء ; لأن حركة العين نقلت إلى الفاء وهي الكسرة ، ومثاله في الضم " طال " فأصلها " طول " بضم الواو فتقول فيها " طلت " بالضم لنقل حركة العين إلى الفاء ، أما إذا كان الثلاثي من فعل بفتح العين كمات يموت ، وقال يقول ، فإن العين تسقط بالاعتلال وتحرك الفاء بحركة مناسبة للعين الساقطة فتضم الفاء إن كانت العين الساقطة واوا كمات يموت ، وقال يقول ، فتقول مت وقلت ، بالضم . وتكسر الفاء إن [ ص: 393 ] كانت العين الساقطة ياء ، كباع وسار ، فتقول : بعت وسرت بالكسر فيهما ، وإلى هذا أشار ابن مالك في اللامية بقوله :


وانقل لفاء الثلاثي في شكل عين إذا اعتلت
وكان بـ " نا " الإضمار متصلا أو نونه وإذا فتحا يكون منه
اعتض مجانس تلك العين منتقلا
واعلم أن مات يمات ، من فعل بالكسر يفعل بالفتح لغة فصيحة ، ومنها قول الراجز :


بنيتي سيدة البنات عيشي ولا نأمن أن تمات
وأما مات يميت فهي لغة ضعيفة ، وقد أشار إلى اللغات الثلاث - الفصيحتين والردية - بعض أدباء قطر شنقيط في بيت رجز هو قوله :


من منعت زوجته منه المبيت مات يموت ويمات ويميت
وأقوال العلماء في قدر المدة التي حملت فيها مريم بعيسى قبل الوضع لم نذكرها ; لعدم دليل على شيء منها ، وأظهرها أنه حمل كعادة حمل النساء وإن كان منشؤه خارقا للعادة ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ، اعلم أولا أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين : قرأه نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي فناداها من تحتها [ 19 \ 24 ] ، بكسر الميم على أن " من " حرف جر ، وخفض تاء " تحتها " لأن الظرف مجرور بـ " من " وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم " فناداها من تحتها " بفتح ميم " من " على أنه اسم موصول هو فاعل " نادى " أي ناداها الذي تحتها ، وفتح " تحتها " فعلى القراءة الأولى ففاعل النداء ضمير محذوف ، وعلى الثانية فالفاعل الاسم الموصول الذي هو " من " .

وإذا عرفت هذا فاعلم أن العلماء مختلفون في هذا المنادي الذي ناداها المعبر عنه في إحدى القراءتين بالضمير ، وفي الثانية بالاسم الموصول من هو ؟ فقال بعض العلماء : هو عيسى ، وقال بعض العلماء : هو جبريل ، وممن قال : " إن الذي نادى مريم هو جبريل " ابن عباس ، وعمرو بن ميمون الأودي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وسعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه ، وأهل هذا القول قالوا : لم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها .

[ ص: 394 ] وممن قال إن الذي ناداها هو عيسى عندما وضعته أبي ، ومجاهد ، والحسن ، ووهب بن منبه ، وسعيد بن جبير في الرواية الأخرى عنه وابن زيد .

فإذا علمت ذلك فاعلم أن من قال إنه الملك يقول : فناداها جبريل من مكان تحتها ; لأنها على ربوة مرتفعة ، وقد ناداها من مكان منخفض عنها ، وبعض أهل هذا القول يقول : كان جبريل تحتها يقبل الولد كما تقبله القابلة ، والظاهر الأول على هذا القول ، وعلى قراءة " فناداها من تحتها " بفتح الميم وتاء " تحتها " عند أهل هذا القول ، فالمعنى فناداها الذي هو تحتها ، أي : في مكان أسفل من مكانها ، أو تحتها يقبل الولد كما تقبل القابلة ، مع ضعف الاحتمال الأخير كما قدمنا ، أي : وهو جبريل فعلى القراءة الأولى على هذا القول " فناداها " هو ، أي : جبريل من تحتها ، وعلى القراءة الثانية " فناداها من تحتها " أي : الذي تحتها وهو جبريل ، وأما على القول بأن المنادي هو عيسى ، فالمعنى على القراءة الأولى : فناداها هو ، أي : المولود الذي وضعته من تحتها ; لأنه كان تحتها عند الوضع ، وعلى القراءة الثانية : " فناداها من تحتها " أي : الذي تحتها وهو المولود المذكور الكائن تحتها عند الوضع ، وممن اختار أن الذي ناداها هو عيسى : ابن جرير الطبري في تفسيره ، واستظهره أبو حيان في البحر ، واستظهر القرطبي أنه جبريل .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي أن الذي ناداها هو ابنها عيسى ، وتدل على ذلك قرينتان : الأولى أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور إلا بدليل صارف عن ذلك يجب الرجوع إليه ، وأقرب مذكور في الآية هو عيسى لا جبريل ; لأن الله قال : فحملته ، يعني عيسى فانتبذت به ، أي بعيسى .

ثم قال بعده : " فناداها " فالذي يظهر ويتبادر من السياق أنه عيسى .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #256  
قديم 19-03-2022, 09:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (254)

سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 389 إلى صـ 394


قوله تعالى : ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من حكم خلقه عيسى من امرأة بغير زوج ليجعل ذلك آية للناس ، أي علامة دالة على كمال قدرته ، وأنه تعالى يخلق ما يشاء كيف [ ص: 389 ] يشاء : إن شاء خلقه من أنثى بدون ذكر كما فعل بعيسى ، وإن شاء خلقه من ذكر بدون أنثى كما فعل بحواء ، كما نص على ذلك في قوله : وخلق منها زوجها [ 4 \ 1 ] ، أي : خلق من تلك النفس التي هي آدم زوجها حواء ، وإن شاء خلقه بدون الذكر والأنثى معا كما فعل بآدم ، وإن شاء خلقه من ذكر وأنثى كما فعل بسائر بني آدم ، فسبحان الله العظيم القادر على كل شيء ، وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كونه جعل عيسى آية حيث ولدته أمه من غير زوج ، أشار له أيضا في " الأنبياء " بقوله : وجعلناها وابنها آية للعالمين [ 21 \ 91 ] ، وفي " الفلاح " بقوله : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما الآية [ 23

] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولنجعله آية للناس [ 19 \ 21 ] ، فيه حذف دل المقام عليه ، قال الزمخشري في الكشاف : ولنجعله آية للناس تعليل معلله محذوف ، أي : ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك ، أو هو معطوف على تعليل مضمر ، أي : لنبين به قدرتنا ولنجعله آية ، ونحوه : وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت [ 45 \ 22 ] ، وقوله : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه [ 12 \ 21 ] اهـ .

وقوله في هذه الآية : ورحمة منا ، أي : لمن آمن به ، ومن كفر به فلم يبتغ الرحمة لنفسه ، كما قال تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] .

وقوله تعالى : وكان أمرا مقضيا [ 19 \ 21 ] ، أي : وكان وجود ذلك الغلام منك أمرا مقضيا ، أي : مقدرا في الأزل ، مسطورا في اللوح المحفوظ لا بد من وقوعه ، فهو واقع لا محالة .
قوله تعالى : فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن مريم حملت عيسى ، فقوله : فحملته ، أي : عيسى فانتبذت به ، أي : تنحت به وبعدت معتزلة عن قومها مكانا قصيا ، أي : في مكان بعيد ، والجمهور على أن المكان المذكور بيت لحم ، وفيه أقوال أخر غير ذلك . وقوله : فأجاءها المخاض ، أي : ألجأها الطلق إلى جذع النخلة ، أي : جذع نخلة في ذلك المكان ، والعرب تقول : جاء فلان ، و : أجاءه غيره : إذا حمله على المجيء ، [ ص: 390 ] ومنه قول زهير :


وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء
وقول حسان رضي الله عنه :


إذ شددنا شدة صادقة فاجأناكم إلى سفح الجبل والمخاض
: الطلق ، وهو وجع الولادة ، وسمي مخاضا من المخض ، وهو الحركة الشديدة لشدة تحرك الجنين في بطنها إذا أراد الخروج .

وقوله : قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا [ 19 \ 23 ] ، تمنت أن تكون قد ماتت قبل ذلك ولم تكن شيئا يذكر ، فإذا عرفت معنى هاتين الآيتين فاعلم أنه هنا لم يبين كيفية حملها به ، ولم يبين هل هذا الذي تنحت عنهم من أجله ، وتمنت من أجله أن تكون ماتت قبل ذلك وكانت نسيا منسيا ، وهو خوفها من أن يتهموها بالزنى ، وأنها جاءت بذلك الغلام من زنى - وقعت فيه أو سلمت منه ، ولكنه تعالى بين كل ذلك في غير هذا الموضع ، فأشار إلى أن كيفية حملها أنه نفح فيها فوصل النفخ إلى فرجها فوقع الحمل بسبب ذلك ، كما قال : ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا [ 66 \ 12 ] ، وقال : والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا الآية [ 21 \ 91 ] ، والذي عليه الجمهور من العلماء : أن المراد بذلك النفخ نفخ جبريل فيها بإذن الله فحملت ، كما تدل لذلك قراءة الجمهور في قوله : إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا [ 19 \ 18 ] ، كما تقدم ، ولا ينافي ذلك إسناد الله جل وعلا النفخ المذكور لنفسه في قوله : فنفخنا لأن جبريل إنما أوقعه بإذنه وأمره ومشيئته ، وهو تعالى الذي خلق الحمل من ذلك النفخ ، فجبريل لا قدرة له على أن يخلق الحمل من ذلك النفخ ومن أجل كونه بإذنه ومشيئته وأمره تعالى ، ولا يمكن أن يقع النفخ المذكور ولا وجود الحمل منه إلا بمشيئته جل وعلا - أسنده إلى نفسه ، والله تعالى أعلم .

وقول من قال : إن فرجها الذي نفخ فيه الملك هو جيب درعها ظاهر السقوط ، بل النفخ الواقع في جيب الدرع وصل إلى الفرج المعروف فوقع الحمل .

وقد بين تعالى في مواضع أخر ، أن ذلك الذي خافت منه وهو قذفهم لها بالفاحشة قد وقعت فيه ، ولكن الله برأها ، وذلك كقوله عنهم : قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، يعنون الفاحشة ، وقوله عنهم ، ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا [ 19 \ 28 ] ، [ ص: 391 ] يعنون فكيف فجرت أنت وجئت بهذا الولد ؟ وكقوله تعالى وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] .

وقوله : مكانا قصيا ، القصي : البعيد ، ومنه قول الراجز :


لتقعدن مقعد القصي مني ذي القاذورة المقلي
أو تحلفي بربك العلي أني أبو ذيالك الصبي
وهذا المكان القصي قد وصفه الله تعالى في غير هذا الموضع بقوله : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين [ 23

] ، وقوله في هذه الآية الكريمة : فانتبذت به ، أي : انتبذت وهو في بطنها ، والإشارة في قوله " هذا " إلى الحمل والمخاض الذي أصابها للوضع .

وقوله في هذه الآية الكريمة عنها : وكنت نسيا منسيا ، النسي والنسي بالكسر وبالفتح : هو ما من حقه أن يطرح وينسى لحقارته ، كخرق الحيض ، وكالوتد والعصا ، ونحو ذلك ، ومن كلام العرب إذا ارتحلوا عن الدار قولهم : انظروا أنساءكم . جمع نسي أي الأشياء الحقيرة التي من شأنها أن تترك وتنسى كالعصا والوتد ، ونحو ذلك ، فقولها " وكنت نسيا " أي شيئا تافها حقيرا من حقه أن يترك وينسى عادة ، وقولها " منسيا " تعني أن ذلك الشيء التافه الذي من عادته أن يترك وينسى قد نسي وطرح بالفعل فوجد فيه النسيان الذي هو حقه ، وأقوال المفسرين في الآية راجعة إلى ما ذكرنا ، ومن إطلاق النسي على ما ذكرنا قول الكميت :


أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في معد ولا دخل
فقوله " بنسي " أي : شيء تافه منسي ، وقول الشنفرى :


كأن لها في الأرض نسيا تقصه على أمها وإن تحدثك تبلت
فقوله " نسيا " أي : شيء تركته ونسيته ، وقوله " تبلت " بفتح التاء وسكون الباء الموحدة وفتح اللام بعدها تاء التأنيث ، أي : تقطع كلامها من الحياء ، والبلت في اللغة : القطع .

وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي " ياليتني مت " بكسر الميم ، وقرأ الباقون " مت " بضم الميم ، وقرأ حفص عن عاصم ، وحمزة " وكنت نسيا " بفتح النون ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان فصيحتان ، وقراءتان صحيحتان .
[ ص: 392 ] تنبيه

قراءة " مت " بكسر الميم كثيرا ما يخفى على طلبة العلم وجهها ; لأن لغة " مات يموت " لا يصح منها " مت " بكسر الميم ، ووجه القراءة بكسر الميم أنه من مات يمات ، كخاف يخاف ، لا من مات يموت ، كقال يقول . فلفظ " مات " فيها لغتان عربيتان فصيحتان ، الأولى منهما موت بفتح الواو فأبدلت الواو ألفا على القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة :
من ياء أو واو بتحريك أصل ألفا ابدل بعد فتح متصل
إن حرك الثاني . . . إلخ ،ومضارع هذه المفتوحة " يموت " بالضم على القياس وفي هذه ونحوها إن أسند الفعل إلى تاء الفاعل أو نونه سقطت العين بالاعتلال وحركت الفاء بحركة تناسب العين ، والحركة المناسبة للواو هي الضمة ، فتقول " مت " بضم الميم ، ولا يجوز غير ذلك .

الثانية أنها " موت " بكسر الواو ، أبدلت الواو ألفا للقاعدة المذكورة آنفا ، ومضارع هذه " يمات " بالفتح ; لأن " فعل " بكسر العين ينقاس في مضارعها بـ " فعل " بفتح العين ، كما قال ابن مالك في اللامية :


وافتح موضع الكسر في المبني من فعلا
ويستثنى من هذه القاعدة كلمات معروفة سماعية تحفظ ولا يقاس عليها ، والمقرر في فن الصرف أن كل فعل ثلاثي أجوف - أعني معتل العين - إذا كان على وزن فعل بكسر العين ، أو فعل بضمها ، فإنه إذا أسند إلى تاء الفاعل أو نونه تسقط عينه بالاعتلال وتنقل حركة عينه الساقطة بالاعتلال إلى الفاء فتكسر فاؤه إن كان من فعل بكسر العين ، وتضم إن كان من فعل بضمها ، مثال الأول " مت " من مات يمات ; لأن أصلها " موت " بالكسر وكذلك خاف يخاف ، ونام ينام ، فإنك تقول فيها " مت " بكسر الميم ، و " نمت " بكسر النون ، " وخفت " بكسر الخاء ; لأن حركة العين نقلت إلى الفاء وهي الكسرة ، ومثاله في الضم " طال " فأصلها " طول " بضم الواو فتقول فيها " طلت " بالضم لنقل حركة العين إلى الفاء ، أما إذا كان الثلاثي من فعل بفتح العين كمات يموت ، وقال يقول ، فإن العين تسقط بالاعتلال وتحرك الفاء بحركة مناسبة للعين الساقطة فتضم الفاء إن كانت العين الساقطة واوا كمات يموت ، وقال يقول ، فتقول مت وقلت ، بالضم . وتكسر الفاء إن [ ص: 393 ] كانت العين الساقطة ياء ، كباع وسار ، فتقول : بعت وسرت بالكسر فيهما ، وإلى هذا أشار ابن مالك في اللامية بقوله :


وانقل لفاء الثلاثي في شكل عين إذا اعتلت
وكان بـ " نا " الإضمار متصلا أو نونه وإذا فتحا يكون منه
اعتض مجانس تلك العين منتقلا
واعلم أن مات يمات ، من فعل بالكسر يفعل بالفتح لغة فصيحة ، ومنها قول الراجز :


بنيتي سيدة البنات عيشي ولا نأمن أن تمات
وأما مات يميت فهي لغة ضعيفة ، وقد أشار إلى اللغات الثلاث - الفصيحتين والردية - بعض أدباء قطر شنقيط في بيت رجز هو قوله :


من منعت زوجته منه المبيت مات يموت ويمات ويميت
وأقوال العلماء في قدر المدة التي حملت فيها مريم بعيسى قبل الوضع لم نذكرها ; لعدم دليل على شيء منها ، وأظهرها أنه حمل كعادة حمل النساء وإن كان منشؤه خارقا للعادة ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ، اعلم أولا أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين : قرأه نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي فناداها من تحتها [ 19 \ 24 ] ، بكسر الميم على أن " من " حرف جر ، وخفض تاء " تحتها " لأن الظرف مجرور بـ " من " وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم " فناداها من تحتها " بفتح ميم " من " على أنه اسم موصول هو فاعل " نادى " أي ناداها الذي تحتها ، وفتح " تحتها " فعلى القراءة الأولى ففاعل النداء ضمير محذوف ، وعلى الثانية فالفاعل الاسم الموصول الذي هو " من " .

وإذا عرفت هذا فاعلم أن العلماء مختلفون في هذا المنادي الذي ناداها المعبر عنه في إحدى القراءتين بالضمير ، وفي الثانية بالاسم الموصول من هو ؟ فقال بعض العلماء : هو عيسى ، وقال بعض العلماء : هو جبريل ، وممن قال : " إن الذي نادى مريم هو جبريل " ابن عباس ، وعمرو بن ميمون الأودي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وسعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه ، وأهل هذا القول قالوا : لم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها .

[ ص: 394 ] وممن قال إن الذي ناداها هو عيسى عندما وضعته أبي ، ومجاهد ، والحسن ، ووهب بن منبه ، وسعيد بن جبير في الرواية الأخرى عنه وابن زيد .

فإذا علمت ذلك فاعلم أن من قال إنه الملك يقول : فناداها جبريل من مكان تحتها ; لأنها على ربوة مرتفعة ، وقد ناداها من مكان منخفض عنها ، وبعض أهل هذا القول يقول : كان جبريل تحتها يقبل الولد كما تقبله القابلة ، والظاهر الأول على هذا القول ، وعلى قراءة " فناداها من تحتها " بفتح الميم وتاء " تحتها " عند أهل هذا القول ، فالمعنى فناداها الذي هو تحتها ، أي : في مكان أسفل من مكانها ، أو تحتها يقبل الولد كما تقبل القابلة ، مع ضعف الاحتمال الأخير كما قدمنا ، أي : وهو جبريل فعلى القراءة الأولى على هذا القول " فناداها " هو ، أي : جبريل من تحتها ، وعلى القراءة الثانية " فناداها من تحتها " أي : الذي تحتها وهو جبريل ، وأما على القول بأن المنادي هو عيسى ، فالمعنى على القراءة الأولى : فناداها هو ، أي : المولود الذي وضعته من تحتها ; لأنه كان تحتها عند الوضع ، وعلى القراءة الثانية : " فناداها من تحتها " أي : الذي تحتها وهو المولود المذكور الكائن تحتها عند الوضع ، وممن اختار أن الذي ناداها هو عيسى : ابن جرير الطبري في تفسيره ، واستظهره أبو حيان في البحر ، واستظهر القرطبي أنه جبريل .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي أن الذي ناداها هو ابنها عيسى ، وتدل على ذلك قرينتان : الأولى أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور إلا بدليل صارف عن ذلك يجب الرجوع إليه ، وأقرب مذكور في الآية هو عيسى لا جبريل ; لأن الله قال : فحملته ، يعني عيسى فانتبذت به ، أي بعيسى .

ثم قال بعده : " فناداها " فالذي يظهر ويتبادر من السياق أنه عيسى .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #257  
قديم 19-03-2022, 09:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (255)

سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 395 إلى صـ 400



والقرينة الثانية أنها لما جاءت به قومها تحمله ، وقالوا لها ما قالوا أشارت إلى عيسى ليكلموه ، كما قال تعالى عنها : فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا [ 19 \ 29 ] ، وإشارتها إليه ليكلموه قرينة على أنها عرفت قبل ذلك أنه يتكلم على سبيل خرق العادة لندائه لها عندما وضعته ، وبهذه القرينة الأخيرة استدل سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه على أنه عيسى ، كما نقله عنه غير واحد ، و " أن " في قوله " ألا تحزني " هي المفسرة ، فهي بمعنى أي ، وضابط " أن " المفسرة أن يتقدمها معنى القول دون حروفه كما هنا ، فالنداء فيه بمعنى القول دون حروفه ومعنى كونها مفسرة : أن الكلام الذي بعدها هو معنى ما [ ص: 395 ] قبلها ، فالنداء المذكور قبلها هو : لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا .

واختلف العلماء في المراد بالسري هنا ، فقال بعض العلماء : هو الجدول وهو النهر الصغير ; لأن الله أجرى لها تحتها نهرا ، وعليه فقوله تعالى : فكلي أي : من الرطب المذكور في قوله : تساقط عليك رطبا جنيا [ 19 \ 25 ] ، واشربي [ 19 \ 26 ] ، أي : من النهر المذكور في قوله : قد جعل ربك تحتك سريا ، وإطلاق السري على الجدول مشهور في كلام العرب ، ومنه قول لبيد في معلقته :


فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورة متجاورا قلامها
وقول لبيد أيضا يصف نخلا نابتا على ماء النهر :


سحق يمتعها الصفا وسريه عم نواعم بينهن كروم
وقول الآخر : .


سهل الخليقة ماجد ذو نائل مثل السري تمده الأنهار
فقوله " سريا " ، وقولهما " السري " بمعنى الجدول ، وكذلك قول الراجز :


سلم ترى الدالي منه أزورا إذا يعب في السري هرهرا
وقال بعض أهل العلم : السري هو عيسى ، والسري هو الرجل الذي له شرف ومروءة ، يقال في فعله سرو " بالضم " وسرا " بالفتح " يسرو سروا ، فيهما ، وسري " بالكسر " يسري سرى وسراء وسروا : إذا شرف ، ويجمع السري هذا على أسرياء على القياس ، وسرواء وسراة بالفتح ، وعن سيبويه أن السراة بالفتح اسم جمع لا جمع ، ومنه قول الأفوه الأودي :


لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
ويجمع السراة على سروات ، ومنه قول قيس بن الحطيم :


وعمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها
ومن إطلاق السري بمعنى الشريف قول الشاعر :


تلقى السري من الرجال بنفسه وابن السري إذا سرا أسراهما
وقوله " أسراهما " ، أي : أشرفهما ، قاله في اللسان .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي أن السري في الآية النهر [ ص: 396 ] الصغير ، والدليل على ذلك أمران :

أحدهما : القرينة من القرآن ، فقوله تعالى : فكلي واشربي ، قرينة على أن ذلك المأكول والمشروب هو ما تقدم الامتنان به في قوله : قد جعل ربك تحتك سريا [ 19 \ 24 ] ، وقوله : تساقط عليك رطبا جنيا [ 19 \ 25 ] ، وكذلك قوله تعالى : وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين [ 23 \ 25 ] ; لأن المعين الماء الجاري ، والظاهر أنه الجدول المعبر عنه بالسري في هذه الآية ، والله تعالى أعلم .

الأمر الثاني : حديث جاء بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : وقد جاء بذلك حديث مرفوع ، قال الطبراني : حدثنا أبو شعيب الحراني ، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي ، حدثنا أيوب بن نهيك ، سمعت عكرمة مولى ابن عباس ، سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن السري الذي قال الله لمريم : قد جعل ربك تحتك سريا ، نهر أخرجه الله لها لتشرب منه " وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه ، وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلي ، قال فيه أبو حاتم الرازي : ضعيف ، وقال أبو زرعة : منكر الحديث ، وقال أبو الفتح الأزدي : متروك الحديث . انتهى كلام ابن كثير ، وقال ابن حجر رحمه الله في " الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف " في الحديث المذكور : أخرجه الطبراني في الصغير ، وابن عدي من رواية أبي سنان سعيد بن سنان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : قد جعل ربك تحتك سريا ، قال : " السري : النهر " ، قال الطبراني : لم يرفعه عن أبي إسحاق إلا أبو سنان ، رواه عنه يحيى بن معاوية وهو ضعيف ، وأخرجه عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن أبي إسحاق عن البراء موقوفا ، وكذا ذكره البخاري تعليقا عن وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، ورواه ابن مردويه من طريق آدم ، عن إسرائيل كذلك وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن أبي إسحاق موقوفا ، وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " إن السري الذي قاله لمريم نهر أخرجه الله لتشرب منه " ، أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية في ترجمة عكرمة عن ابن عمر ، وراويه عن عكرمة أيوب بن نهيك ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة ، انتهى .

فهذا الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت طرقه لا يخلو شيء منها من ضعف أقرب إلى الصواب من دعوى أن السري عيسى بغير دليل يجب الرجوع إليه ، وممن اختار أن السري المذكور في الآية النهر : ابن جرير في تفسيره ، وبه قال البراء بن عازب ، وعلي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وعمرو بن ميمون ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، [ ص: 397 ] والضحاك ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، والسدي ، ووهب بن منبه وغيرهم ، وممن قال إنه عيسى : الحسن ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن عباد بن جعفر ، وهو إحدى الروايتين عن قتادة ، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قاله ابن كثير وغيره .
قوله تعالى : وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا ، لم يصرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة ببيان الشيء الذي أمرها أن تأكل منه ، والشيء الذي أمرها أن تشرب منه ، ولكنه أشار إلى أن الذي أمرها أن تأكل منه هو : " الرطب الجني " المذكور ، والذي أمرها أن تشرب منه هو النهر المذكور المعبر عنه " بالسري " كما تقدم ، هذا هو الظاهر .

وقال بعض العلماء : إن جذع النخلة الذي أمرها أن تهز به كان جذعا يابسا ; فلما هزته جعله الله نخلة ذات رطب جني ، وقال بعض العلماء : كان الجذع جذع نخلة نابتة إلا أنها غير مثمرة ، فلما هزته أنبت الله فيه الثمر وجعله رطبا جنيا ، وقال بعض العلماء : كانت النخلة مثمرة ، وقد أمرها الله بهزها ليتساقط لها الرطب الذي كان موجودا ، والذي يفهم من سياق القرآن : أن الله أنبت لها ذلك الرطب على سبيل خرق العادة ، وأجرى لها ذلك النهر على سبيل خرق العادة ، ولم يكن الرطب والنهر موجودين قبل ذلك ، سواء قلنا إن الجذع كان يابسا أو نخلة غير مثمرة ، إلا أن الله أنبت فيه الثمر وجعله رطبا جنيا ، ووجه دلالة السياق على ذلك أن قوله تعالى : فكلي واشربي وقري عينا ، يدل على أن عينها إنما تقر في ذلك الوقت بالأمور الخارقة للعادة ; لأنها هي التي تبين براءتها مما اتهموها به ، فوجود هذه الخوارق من تفجير النهر ، وإنبات الرطب ، وكلام المولود - تطمئن إليه نفسها وتزول به عنها الريبة ، وبذلك يكون قرة عين لها ; لأن مجرد الأكل والشرب مع بقاء التهمة التي تمنت بسببها أن تكون قد ماتت من قبل وكانت نسيا منسيا ، لم يكن قرة لعينها في ذلك الوقت كما هو ظاهر ، وخرق الله لها العادة بتفجير الماء ، وإنبات الرطب ، وكلام المولود لا غرابة فيه ، وقد نص الله جل وعلا في " آل عمران " على خرقه لها العادة في قوله : كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب [ 3 \ 37 ] ، قال العلماء : كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، وإجراء النهر وإنبات الرطب ليس أغرب من هذا المذكور في سورة " آل عمران " .
[ ص: 398 ] مسألة

أخذ بعض العلماء من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وهزي إليك بجذع النخلة الآية ، أن السعي والتسبب في تحصيل الرزق أمر مأمور به شرعا وأنه لا ينافي التوكل على الله جل وعلا ، وهذا أمر كالمعلوم من الدين بالضرورة أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا أمر مأمور به شرعا لا ينافي التوكل على الله بحال ; لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالا لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه ، فهو متوكل على الله ، عالم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر ، ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف .

ومن أصرح الأدلة في ذلك قوله تعالى : قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم الآية [ 21 \ 69 ] ، فطبيعة الإحراق في النار معنى واحد لا يتجزأ إلى معان مختلفة ، ومع هذا أحرقت الحطب فصار رمادا من حرها في الوقت الذي هي كائنة بردا وسلاما على إبراهيم ، فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السماوات والأرض ، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب ، وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا .

ومن أوضح الأدلة في ذلك : أنه ربما جعل الشيء سببا لشيء آخر مع أنه مناف له ، كجعله ضرب ميت بني إسرائيل ببعض من بقرة مذبوحة سببا لحياته ، وضربه بقطعة ميتة من بقرة ميتة مناف لحياته ؛ إذ لا تكسب الحياة من ضرب بميت ، وذلك يوضح أنه جل وعلا يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب ، ولا يقع تأثير ألبتة إلا بمشيئته جل وعلا .

ومما يوضح أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله قوله تعالى عن يعقوب : وقال يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة [ 12 \ 67 ] ، أمرهم في هذا الكلام بتعاطي السبب ، وتسبب في ذلك بالأمر به ; لأنه يخاف عليهم أن تصيبهم الناس بالعين لأنهم أحد عشر رجلا أبناء رجل واحد ، وهم أهل جمال وكمال وبسطة في الأجسام ، فدخولهم من باب واحد مظنة لأن تصيبهم العين فأمرهم بالتفرق والدخول من أبواب متفرقة تعاطيا للسبب في السلامة من إصابة العين ; كما قال غير واحد من علماء السلف ، ومع هذا التسبب فقد قال الله عنه : [ ص: 399 ] وقال يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون [ 12 \ 67 ] ، فانظر كيف جمع بين التسبب في قوله : لا تدخلوا من باب واحد ، وبين التوكل على الله في قوله : عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ، وهذا أمر معلوم لا يخفى إلا على من طمس الله بصيرته ، والله جل وعلا قادر على أن يسقط لها الرطب من غير هز الجذع ، ولكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع ، وقد قال بعضهم في ذلك :


ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب ولو شاء أن تجنيه من غير هزه
جنته ولكن كل شيء له سبب
وقد أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن خير ما تطعمه النفساء الرطب ، قالوا : لو كان شيء أحسن للنفساء من الرطب لأطعمه الله مريم وقت نفاسها بعيسى ، قاله الربيع بن خثيم وغيره ، والباء في قوله : وهزي إليك بجذع النخلة [ 19 \ 25 ] ، مزيدة للتوكيد ; لأن فعل الهز يتعدى بنفسه ، وزيادة حرف الباء للتوكيد قبل مفعول الفعل المتعدي بنفسه كثيرة في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن قوله هنا وهزي إليك بجذع النخلة ; لأن المتبادر من اللغة أن الأصل : وهزي إليك جذع النخلة ، وقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ 2 \ 195 ] ، وقوله : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم الآية [ 22 \ 25 ] ، وقوله : فستبصر ويبصرون بأييكم المفتون الآية [ 68 \ 5 - 6 ] ، وقوله : " تنبت بالدهن " ، على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم التاء وكسر الباء مضارع " أنبت " الرباعي ; لأن الرباعي الذي هو " أنبت ينبت " بضم الياء المثناة وكسر الباء الموحدة يتعدى بنفسه دون الحرف ، فالباء مزيدة للتوكيد كما رأيت في الآيات المذكورة ، ونظير ذلك من كلام العرب قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :


إذ يسفون بالدقيق وكانوا قبل لا يأكلون خبزا فطيرا
لأن الأصل : يسفون الدقيق ، فزيدت الباء للتوكيد .

وقول الراعي :


هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المحاجر لا يقرأن بالسور
فالأصل : لا يقرأن السور ، فزيدت الباء لما ذكر .

وقول يعلى الأحول اليشكري أو غيره :

[ ص: 400 ]
بواد يمان ينبت السدر صدره وأسفله بالمرخ والشبهان
فالأصل : وأسفله المرخ ; أي : وينبت أسفله المرخ ، فزيدت الباء لما ذكر .

وقول الأعشى :


ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ملء المراجل والصريح الأجردا
فالأصل : ضمنت رزق عيالنا .

وقول الراجز :


نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أي : نرجو الفرج .

وقول امرئ القيس :


فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
فالأصل : هصرت غصنا ; لأن هصر تتعدى بنفسها .

وأمثال هذا كثيرة في كلام العرب .

وفي قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : " تساقط " تسع قراءات ، ثلاث منها سبعية ، وست شاذة ، أما الثلاث السبعية فقد قرأه حمزة وحده من السبعة " تساقط " بفتح التاء وتخفيف السين وفتح القاف ، وأصله : تتساقط ; فحذفت إحدى التاءين ، وعلى هذه القراءة فقوله " رطبا " تمييز محول عن الفاعل ، وقرأه حفص وحده عن عاصم " تساقط " بضم التاء وكسر القاف وتخفيف السين ، مضارع ساقطت تساقط ، وعلى هذه القراءة فقوله " رطبا " مفعول به للفعل الذي هو : تساقط هي ، أي النخلة ، رطبا ، وقرأه بقية السبعة " تساقط " بفتح التاء والقاف وتشديد السين ، أصله : تتساقط ; فأدغمت إحدى التاءين في السين ، وعلى قراءة الجمهور هذه فقوله " رطبا " تمييز محول عن الفاعل كإعرابه على قراءة حمزة .

وغير هذا من القراءات شاذ .

وقوله في هذه الآية الكريمة : رطبا جنيا الجني : هو ما طاب وصلح لأن يجنى فيؤكل ، وعن أبي عمرو بن العلاء : أن الجني هو الذي لم يجف ولم ييبس ، ولم يبعد عن يدي متناوله .
قوله تعالى : فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ، قائل هذا الكلام لمريم : هو الذي ناداها من تحتها ألا تحزني ، وقد قدمنا الخلاف فيه ; هل هو عيسى أو جبريل ، وما يظهر رجحانه عندنا من ذلك .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #258  
قديم 19-03-2022, 09:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (256)

سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 401 إلى صـ 406



[ ص: 401 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : فقولي إني نذرت للرحمن صوما [ 19 \ 21 ] ، قيل أمرت أن تقول ذلك باللفظ ، وقيل أمرت أن تقوله بالإشارة ، وكونها أمرت أن تقوله باللفظ هو مذهب الجمهور ; كما قاله القرطبي وأبو حيان ، وهو ظاهر الآية الكريمة ; لأن ظاهر القول في قوله تعالى : فقولي إني نذرت الآية ، أنه قول باللسان ، واستدل من قال : إنها أمرت أن تقول ذلك بالإشارة بأنها لو قالته باللفظ أفسدت نذرها الذي نذرته ألا تكلم اليوم إنسيا ، فإذا قالت لإنسي بلسانها : إني نذرت للرحمن صوما ، فقد كلمت ذلك الإنسي فأفسدت نذرها ، واختار هذا القول الأخير لدلالة الآية عليه ابن كثير رحمه الله ، قال في تفسير هذه الآية : فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ، المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك لا أن المراد القول اللفظي لئلا ينافي فلن أكلم اليوم إنسيا ، وأجاب المخالفون عن هذا بأن المعنى فلن أكلم اليوم إنسيا بعد قولي : إني نذرت للرحمن صوما فقد رأيت كلام العلماء في الآية ، وأن القول الأول يدل عليه ظاهر السياق ، وأن الثاني يدل عليه قوله : فلن أكلم اليوم إنسيا لأنه يدل على نفي الكلام للإنسي مطلقا ، قال أبو حيان في البحر : وقوله " إنسيا " لأنها كانت تكلم الملائكة ، ومعنى كلامه أن قوله " إنسيا " له مفهوم مخالفة ، أي : بخلاف غير الإنسي كالملائكة فإني أكلمه ، والذي يظهر لي أنه لم يرد في الكلام إخراج المفهوم عن حكم المنطوق ، وإنما المراد شمول نفي الكلام لكل إنسان كائنا من كان .
مسألة .

اعلم أنه على هذا القول الذي اختاره ابن كثير أن المراد بقوله : فقولي إني نذرت للرحمن صوما ، أي : قولي ذلك بالإشارة - يدل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام ; لأنها في هذه الآية سميت قولا على هذا الوجه من التفسير ، وسمع في كلام العرب كثيرا إطلاق الكلام على الإشارة ، كقوله :


إذا كلمتني بالعيون الفواتر رددت عليها بالدموع البوادر
وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى ما يدل من النصوص على أن الإشارة المفهمة تنزل منزلة الكلام ، وما يدل من النصوص على أنها ليست كالكلام ، وأقوال العلماء في ذلك .

اعلم أنه دلت أدلة على قيام الإشارة المفهمة مقام الكلام ، وجاءت أدلة أخرى يفهم [ ص: 402 ] منها خلاف ذلك ، فمن الأدلة الدالة على قيام الإشارة مقام الكلام قصة الأمة السوداء التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين الله " ؟ فأشارت إلى السماء ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أعتقها فإنها مؤمنة " فجعل إشارتها كنطقها في الإيمان الذي هو أصل الديانات ، وهو الذي يعصم به الدم والمال ، وتستحق به الجنة ، وينجى به من النار ، والقصة مشهورة مروية عن جماعة من الصحابة ، منهم أبو هريرة ، وابن عباس ، ومعاوية بن الحكم السلمي ، والشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنهم ، وفي بعض رواياتهم أنها أشارت إلى السماء ، قال أبو داود في سننه : حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، ثنا يزيد بن هارون ، قال أخبرني المسعودي عن عون بن عبد الله ، عن عبد الله بن عتبة ، عن أبي هريرة : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال : يا رسول الله ، إن علي رقبة مؤمنة . فقال لها : " أين الله فأشارت إلى السماء بإصبعها فقال لها : " فمن أنا " ؟ فأشارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى السماء ، يعني أنت رسول الله ، فقال : " أعتقها فإنها مؤمنة " ، والظاهر حمل الروايات التي فيها أنه لما قال لها أين الله قالت في السماء من غير ذكر الإشارة ، على أنها قالت ذلك بالإشارة ; لأن القصة واحدة ، والروايات يفسر بعضها بعضا . قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره في سورة " آل عمران " في الكلام على قوله تعالى : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا [ 3 \ 41 ] ، ما نصه : في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام ، وذلك موجود في كثير من السنة ، وآكد الإشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها : " أين الله " ؟ فأشارت برأسها إلى السماء ، فقال : " أعتقها فإنها مؤمنة " فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الدين الذي يحرز به الدم والمال ، وتستحق به الجنة وينجى به من النار ، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك ، فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة ، وهو قول عامة الفقهاء .

وروى ابن القاسم عن مالك : أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه ، وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه : فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق ، وقال أبو حنيفة : ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف ، وإن شك فيها فهذا باطل ، وليس ذلك بقياس ، وإنما هو استحسان ، والقياس في هذا كله أنه باطل ; لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته . انتهى محل الغرض من كلام القرطبي رحمه الله .

وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة تدل على قيام الإشارة مقام الكلام في أشياء متعددة ، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، أن [ ص: 403 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه فقال : " الشهر هكذا وهكذا وهكذا - ثم عقد إبهامه في الثالثة - فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين " هذا لفظ مسلم في صحيحه وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم نزل إشارته بأصابعه إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما ، وقد يكون ثلاثين منزلة نطقه بذلك ، وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على هذا الحديث : وفي هذا الحديث جواز اعتماد الإشارة المفهمة في مثل هذا ، وحديث ابن عمر هذا أورده البخاري في باب ) اللعان ( مستدلا به على أن الإشارة كاللفظ ، وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه أحاديث كثيرة تدل على جعل الإشارة كالنطق ، قال رحمه الله تعالى : ) باب الإشارة في الطلاق والأمور ( وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم ، " لا يعذب الله بدمع العين ولكن يعذب بهذا " فأشار إلى لسانه ، وقال كعب بن مالك : أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلي ، أي : خذ النصف ، وقالت أسماء : صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف ، فقلت لعائشة : ما شأن الناس ؟ وهي تصلي ، فأومأت برأسها إلى الشمس ، فقلت : آية ؟ فأومأت برأسها أن نعم ، وقال أنس : أومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم ، وقال ابن عباس : أومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده لا حرج ، وقال أبو قتادة : قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصيد للمحرم : " أحدكم أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ " قالوا لا ، قال : " فكلوا " حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو ، حدثنا إبراهيم ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير ، وكان كلما أتى على الركن أشار إليه وكبر ، وقالت زينب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وهذه " وعقد تسعين .

حدثنا مسدد ، حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : " في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيرا إلا أعطاه " وقال بيده ، ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر ، قلنا : يزهدها . وقال الأويسي : حدثنا إبراهيم بن سعد عن شعبة بن الحجاج عن هشام بن يزيد عن أنس بن مالك قال : عدا يهودي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جارية فأخذ أوضاحا كانت عليها ، ورضخ رأسها ، فأتى به أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق وقد أصمتت ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قتلك ، فلان ؟ " لغير الذي قتلها ، فأشارت برأسها أن لا ، قال : فقال لرجل آخر غير الذي قتلها ، فأشارت أن لا ، فقال : " فلان ؟ " لقاتلها ، فأشارت أن نعم ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين ، حدثنا قبيصة ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن [ ص: 404 ] دينار ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الفتنة من هنا " وأشار إلى المشرق ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن أبي إسحاق الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلما غربت الشمس قال لرجل : " انزل فاجدح لي " قال : يا رسول الله ، لو أمسيت . ثم قال : انزل فاجدح " قال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لو أمسيت إن عليك نهارا ، ثم قال : " انزل فاجدح " فنزل فجدح له في الثالثة فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أومأ بيده إلى المشرق فقال : " إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم " ، حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا يزيد بن زريع ، عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعن أحدا منكم نداء بلال - أو قال : أذانه من سحوره - فإنما ينادي - أو قال : يؤذن - ليرجع قائمكم وليس أن يقول . كأنه يعني الصبح أو الفجر . وأظهر يزيد يديه ثم مد إحداهما من الأخرى ، وقال الليث : حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز ، سمعت أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثدييهما إلى تراقيهما ، فأما المنفق فلا ينفق شيئا إلا مادت على جلده حتى تجن بنانه وتعفو أثره ، وأما البخيل فلا يريد ينفق إلا لزمت كل حلقة موضعها ، فهو يوسعها فلا تتسع " ، ويشير بأصبعه إلى حلقه ، انتهى من صحيح البخاري .

فهذه أحاديث دالة على قيام الإشارة مقام النطق في أمور متعددة ، وقال ابن حجر في الفتح في هذا الباب : ذكر فيه عدة أحاديث معلقة وموصولة أولها قوله : وقال ابن عمر . هو طرف من حديث تقدم موصولا في الجنائز ، وفيه قصة لسعد بن عبادة ، وفيها : " ولكن الله يعذب بهذا " وأشار إلى لسانه .

ثانيها : وقال كعب بن مالك . هو أيضا طرف من حديث تقدم موصولا في الملازمة . وفيها وأشار إلي أن خذ النصف . ثالثها : وقالت أسماء هي بنت أبي بكر : صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف ، الحديث تقدم موصولا في كتاب الإيمان بلفظ : فأشارت إلى السماء ، وفيه : فأشارت برأسها ، أي : نعم ، وفي صلاة الكسوف بمعناه ، وفي صلاة السهو باختصار . إلى آخر كلامه ، وبالجملة فجميع الأحاديث التي ذكرها البخاري في الباب المذكور كلها ثابتة في الصحيح موصولة ، أما ما جاء منها موصولا في الباب المذكور فأمره واضح ، وأما ما جاء منها معلقا في الباب المذكور فقد جاء موصولا في محل آخر من [ ص: 405 ] البخاري .

والحديث الأول دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل إشارته إلى اللسان أن الله يعذب به كنطقه بذلك .

والحديث الثاني جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارته إلى كعب بن مالك أن يسقط نصف ديته عن ابن أبي حدرد ويأخذ النصف الباقي منه كنطقه بذلك .

والحديث الثالث جعلت فيه عائشة إشارتها لأختها أن الكسوف آية من آيات الله هي السبب في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، كنطقها بذلك .

والحديث الرابع : جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارته إلى أبي بكر رضي الله عنه أن يتقدم كنطقه له بذلك ، وإيضاح ذلك هو ما رواه البخاري عن أنس في باب ) أهل العلم والفضل أحق بالإمامة ) .

قال أنس : لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا ، فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه فلما وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا ، فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم ، وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات . اهـ . هذا لفظ البخاري .

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث في مرض موته وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم بقليل إشارته إلى أبي بكر أن يتقدم ليصلي بالناس كنطقه له بذلك ; لأن أبا بكر رضي الله عنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كشف الحجاب نكص على عقبيه ليصل الصف ، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة كما ثبت في صحيح البخاري في الباب المذكور آنفا من حديث أنس ، فأشار إليه أن يتقدم ، وقامت الإشارة مقام النطق .

والحديث الخامس جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الفتيا بإشارة اليد كالفتيا بالنطق ، وإيضاحه هو ما رواه البخاري في كتاب العلم ) في باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس ( حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال حدثنا وهيب ، قال حدثنا أيوب ، عن عكرمة عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في حجته فقال : " ذبحت قبل أن أرمي فأومأ بيده قال : ولا حرج ، قال : حلقت قبل أن أذبح ، فأومأ بيده ولا حرج " ، ومن أمثلة الفتيا بإشارة اليد ما رواه البخاري في هذا الباب المذكور آنفا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن ، ويكثر الهرج " قيل : يا رسول الله ، وما الهرج ! فقال هكذا بيده ، فحرفها كأنه يريد القتل . اهـ .

فجعل صلى الله عليه وسلم إشارته بيده كنطقه ، بأن [ ص: 406 ] المراد بالهرج القتل .

والحديث السادس جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارة المحرم إلى الصيد لينبه إليه المحل كأمره له باصطياده بالنطق ، وقد قدمنا هذا الحديث في سورة " المائدة " .

والحديث السابع جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة إلى الركن في طوافه كاستلامه وتقبيله بالفعل .

والحديث الثامن جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارته بأصابعه كعقد التسعين لبيان القدر الذي فتح من ردم يأجوج ومأجوج كالنطق بذلك .

والحديث التاسع فيه أنه جعل وضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر ، مشيرا بذلك لقلة زمن الساعة التي يجاب فيها الدعاء بالخير يوم الجمعة ، أو مشيرا بذلك لوقتها عند من قال : إن وضع الأنملة في وسط الكف يراد به الإشارة إلى أن ساعة الجمعة في وسط يوم الجمعة ، ووضعها على الخنصر يراد به أنها في آخر النهار ; لأن الخنصر آخر أصابع الكف كالنطق بذلك ، وذكر ابن حجر عن بعض أهل العلم ، أن هذه الإشارة باليد لساعة الجمعة من فعل بشر بن المفضل راوي الحديث عن سلمة بن علقمة كما تقدم في إسناد الحديث ، وعليه ففي سياق هذا الحديث عند البخاري إدراج .

والحديث العاشر جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارة الجارية التي قتلها اليهودي كنطقها بأن اليهودي قتلها ، وأن من سمي لها غيره لم يكن هو الذي قتلها ، وقد قدمنا هذا الحديث في سورة " بني إسرائيل " وبينا هنالك أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان جعل إشارة الجارية كنطقها لم يقتل اليهودي بإشارة الجارية القائمة مقام نطقها بمن قتلها ، ولكنه اعترف بأنه قتلها فثبت عليه القتل باعترافه واقتص لها منه بذلك .

والحديث الحادي عشر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الفتنة من هنا " وأشار إلى المشرق ، فجعل إشارته إلى المشرق كنطقه بذلك .

والحديث الثاني عشر فيه أنه صلى الله عليه وسلم أومأ بيده إلى المشرق فقال : " إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم " فجعل إشارته بيده إلى المشرق كنطقه بلفظ المشرق .

والحديث الثالث عشر جعل فيه الإشارة باليد إلى الفرق بين الفجر الكاذب والفجر الصادق بذلك .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #259  
قديم 19-03-2022, 10:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (257)

سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 407 إلى صـ 412



والحديث الرابع عشر : قال فيه صلى الله عليه وسلم : " فهو يوسعها ولا تتسع " ، ويشير بإصبعه إلى [ ص: 407 ] حلقه ، فجعل إشارته إلى أن درع الحديد المضروب بها المثل للبخيل ثابتة على حلقه لا تنزل عنه ولا تستر عورته ولا بدنه كالنطق بذلك .

فهذه أربعة عشر حديثا أوردها البخاري رحمه الله في الباب المذكور ، وسقناها هنا ، وبينا وجه الدلالة على أن الإشارة كالنطق في كل واحد منها ، مع ما قدمنا من الأحاديث الدالة على ذلك زيادة على ما ذكره البخاري هنا .

وقد ذكر البخاري رحمه الله في أول باب ) اللعان ( خمسة أحاديث أيضا كل واحد منها فيه الدلالة على أن الإشارة كالنطق ولم نذكرها هنا لأن فيما ذكرنا كفاية .

وقال ابن حجر في ) الفتح ( في آخر كلامه على أحاديث الباب المذكورة : قال ابن بطال : ذهب الجمهور إلى أن الإشارة المفهمة تنزل منزلة النطق ، وخالفه الحنفية في بعض ذلك ، ولعل البخاري رد عليهم بهذه الأحاديث التي جعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة قائمة مقام النطق ، وإذا جازت الإشارة في أحكام مختلفة في الديانة فهي لمن لا يمكنه النطق أجوز .

وقال ابن المنير : أراد البخاري أن الإشارة بالطلاق وغيره من الأخرس وغيره التي يفهم منها الأصل والعدد نافذة كاللفظ . اهـ .

ويظهر لي أن البخاري أورد هذه الترجمة وأحاديثها توطئة لما يذكره من البحث في الباب الذي يليه ، مع من فرق بين لعان الأخرس ، وطلاقه ، والله أعلم .

فهذه الأحاديث وأمثالها هي حجة من قال : إن الإشارة المفهمة تقوم مقام اللفظ ، واحتج من قال بأن الإشارة ليست كاللفظ بأن القرآن العظيم دل على ذلك ، وذلك في قوله تعالى في الآية التي نحن بصددها : فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا [ 19 \ 26 ] ، فإن في هذه الآية التصريح بنذرها الإمساك عن كلام كل إنسي ، مع أنه تعالى قال : فأشارت إليه [ 19 \ 29 ] ، أي : أشارت لهم إليه أن كلموه يخبركم بحقيقة الأمر ، فهذه إشارة مفهمة ، وقد فهمها قومها فأجابوها جوابا مطابقا لفهمهم ما أشارت به : قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا [ 19 \ 29 ] ، وهذه الإشارة المفهمة لو كانت كالنطق لأفسدت نذر مريم ألا تكلم إنسيا ، فالآية صريحة في أن الكلام باللفظ يخل بنذرها ، وأن الإشارة ليست كذلك ، فقد جاء الفرق صريحا في القرآن بين اللفظ والإشارة ، وكذلك قوله تعالى : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا [ 3 \ 41 ] ، فإن الله جعل له آية على ما بشر به وهي منعه من الكلام ، مع أنه لم يمنع من الإشارة بدليل قوله : [ ص: 408 ] إلا رمزا ، وقوله : فأوحى إليهم أن سبحوا الآية [ 19 \ 11 ] ، فدل ذلك على أن الإشارة ليست كالكلام ، والآية الأولى أصرح في الدلالة على أن الإشارة ليست كاللفظ ; لأن الآية الثانية محتملة لكون الإشارة كالكلام ; لأن استثناءه تعالى قوله : إلا رمزا ، من قوله : ألا تكلم الناس ، يفهم منه أن الرمز الذي هو الإشارة نوع من جنس الكلام استثني منه ; لأن الأصل في الاستثناء الاتصال ، والله تعالى أعلم .

فإذا علمت أدلة الفريقين في الإشارة ، هل هي كاللفظ أو لا ؟ فاعلم أن العلماء مختلفون في الإشارة المفهمة ، هل تنزل منزلة اللفظ أو لا ، وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى جملا من أقوال أهل العلم في ذلك ، وما يظهر رجحانه بالدليل .

قال ابن حجر رحمه الله تعالى في ) فتح الباري ( في آخر باب الإشارة في الطلاق والأمور ، ما نصه : وقد اختلف العلماء في الإشارة المفهمة ، فأما في حقوق الله فقالوا : تكفي ولو من القادر على النطق ، وأما في حقوق الآدميين كالعقود والإقرار والوصية ونحو ذلك ، فاختلف العلماء في من اعتقل لسانه ، ثالثها عن أبي حنيفة إن كان ميئوسا من نطقه ، وعن بعض الحنابلة إن اتصل بالموت ، ورجحه الطحاوي ، وعن الأوزاعي إن سبقه كلام ، ونقل عن مكحول ، إن قال : فلان حر ، ثم أصمت فقيل له : وفلان ؟ فأومأ صح ، وأما القادر على النطق فلا تقوم إشارته مقام نطقه عند الأكثرين واختلف هل يقوم منه مقام النية ، كما لو طلق امرأته فقيل له : كم طلقة ؟ فأشار بأصبعه . انتهى منه .

وقال البخاري في أول باب اللعان ، ما نصه : فإذا قذف الأخرس امرأته بكتابة أو إشارة أو إيماء معروف فهو كالمتكلم ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز الإشارة في الفرائض ، وهو قول بعض أهل الحجاز وأهل العلم ، وقال تعالى : فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ، وقال الضحاك : إلا رمزا إشارة ، وقال بعض الناس : لا حد ولا لعان ، ثم زعم أنه إن طلق بكتاب أو إشارة أو إيماء جائز وليس بين الطلاق والقذف فرق ، فإن قال : القذف لا يكون إلا بكلام قيل له : كذلك الطلاق لا يجوز إلا بكلام وإلا بطل الطلاق والقذف وكذلك العتق ، وكذلك الأصم يلاعن ، وقال الشعبي وقتادة : إذا قال أنت طالق فأشار بأصابعه تبين منه بإشارته ، وقال إبراهيم : الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه ، وقال حماد : الأخرس والأصم إن قال برأسه جاز . انتهى محل الغرض من كلام البخاري رحمه الله .

[ ص: 409 ] ومذاهب الأئمة الأربعة متقاربة في هذه المسألة ، وبينهم اختلاف في بعض فروعها .

فمذهب مالك رحمه الله : أن الإشارة المفهمة تقوم مقام النطق ، قال خليل بن إسحاق في مختصره الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى ، يعني في مذهب مالك : الكلام على الصيغة التي يحصل بها الطلاق : ولزم بالإشارة المفهمة . يعني أن الطلاق يلزم بالإشارة المفهمة مطلقا من الأخرس والناطق وقال شارحه المواق رحمه الله من المدونة : ما علم من الأخرس بإشارة أو بكتاب من طلاق أو خلع أو عتق أو نكاح ، أو بيع أو شراء أو قذف - لزمه حكم المتكلم ، وروى الباجي : إشارة السليم بالطلاق برأسه أو بيده كلفظه ، لقوله تعالى : ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا [ 3 \ 41 ] انتهى منه ، ورواية الباجي هذه عليها أهل المذهب ، ومذهب أبي حنيفة رحمه الله : أن إشارة الأخرس تقوم مقام كلام الناطق في تصرفاته ، كإعتاقه وطلاقه ، وبيعه وشرائه ، ونحو ذلك ، أما السليم فلا تقبل عنده إشارته لقدرته على النطق ، وإشارة الأخرس بقذف زوجته لا يلزم عنده فيها حد ولا لعان ; لأن الحدود تدرأ بالشبهات ، وعدم التصريح شبهة عنده ; لأن الإشارة قد تفهم ما لا يقصد المشير ، ولأن أيمان اللعان لها صيغ لا بد منها ولا تحصل بالإشارة وكذلك عنده إذا كانت الزوجة المقذوفة خرساء فلا حد ولا لعان عنده ، لاحتمال أنها لو نطقت لصدقته ، ولأنها لا يمكنها الإتيان بألفاظ الأيمان المنصوصة في آية اللعان ، وكذلك عنده القذف لا يصح من الأخرس ; لأن الحدود تدرأ بالشبهات .

وقال بعض العلماء من الحنفية : إن القياس منع اعتبار إشارة الأخرس ; لأنها لا تفهم كالنطق في الجميع ، وأنهم أجازوا العمل بإشارة الأخرس في غير اللعان والقذف على سبيل الاستحسان ، والقياس المنع مطلقا ، ومذهب الشافعي في هذه المسألة اعتبار إشارة الأخرس في اللعان وغيره ، وعدم اعتبار إشارة السليم .

وأما مذهب الإمام أحمد فظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى أنه لا لعان إن كان أحد الزوجين أخرس ، كما قدمنا توجيهه في مذهب أبي حنيفة ، وقال القاضي أبو الخطاب : إن فهمت إشارة الأخرس فهو كالناطق في قذفه ولعانه ، وأما طلاق الأخرس ونكاحه وشبه ذلك فالإشارة كالنطق في مذهب الإمام أحمد ، وأما السليم فلا تقبل عنده إشارته بالطلاق ونحوه .

هذا حاصل كلام الأئمة وغيرهم من فقهاء الأمصار في هذه المسألة ، وقد رأيت ما جاء فيها من أدلة الكتاب والسنة .

[ ص: 410 ] قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي رجحانه في المسألة : أن الإشارة إن دلت على المعنى دلالة واضحة لا شك في المقصود معها أنها تقوم مقام النطق مطلقا ، ما لم تكن في خصوص اللفظ أهمية مقصودة من قبل الشارع ، فإن كانت فيه فلا تقوم الإشارة مقامه كأيمان اللعان ، فإن الله نص عليها بصورة معينة ، فالظاهر أن الإشارة لا تقوم مقامها وكجميع الألفاظ المتعبد بها فلا تكفي فيها الإشارة ، والله جل وعلا أعلم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إني نذرت للرحمن صوما ، أي : إمساكا عن الكلام في قول الجمهور ، والصوم في اللغة : الإمساك ، ومنه قول نابغة ذبيان :


خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
فقوله : " خيل صيام " أي : ممسكة عن الجري ، وقيل عن العلف " وخيل غير صائمة " أي : غير ممسكة عما ذكر .

وقول امرئ القيس :


كأن الثريا علقت في مصامها بأمراس كتان إلى صم جندل
فقوله : " في مصامها " أي : مكان صومها ، يعني إمساكها عن الحركة ، وهذا القول هو الصحيح في معنى الآية ، أن المراد بالصوم الإمساك عن الكلام ، بدليل قوله بعده : فلن أكلم اليوم إنسيا ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وقال ابن حجر ) في الفتح في باب اللعان ( وقد ثبت من حديث أبي بن كعب وأنس بن مالك : أن معنى قوله تعالى : إني نذرت للرحمن صوما أي : صمتا ، أخرجه الطبراني وغيره . اهـ . وقال بعض العلماء : المراد بالصوم في الآية : هو الصوم الشرعي المعروف المذكور في قوله تعالى : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم [ 2 \ 183 ] ، وعليه فالمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم حرم عليهم الكلام كما يحرم عليهم الطعام ، والصواب في معنى الآية الأول ، وعليه فهذا النذر الذي نذرته ألا تكلم اليوم إنسيا كان جائزا في شريعتهم ، أما في الشريعة التي جاءنا بها نبينا صلى الله عليه وسلم فلا يجوز ذلك النذر ولا يجب الوفاء به ، قال البخاري في صحيحه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وهيب ، حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال : بينا النبي يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، " مره فليتكلم ، وليستظل وليقعد وليتم صومه " قال عبد الوهاب : حدثنا أيوب عن عكرمة عن [ ص: 411 ] النبي صلى الله عليه وسلم . اهـ .

وقال ابن حجر " في الفتح " في الكلام على هذا الحديث وفي حديثه أن السكوت عن المباح ليس من طاعة الله ، وقد أخرج أبو داود من حديث علي " ولا صمت يوم إلى الليل " وتقدم في السيرة النبوية قول أبي بكر الصديق إن هذا - يعني الصمت - من فعل الجاهلية ، وفيه أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلا مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة ، كالمشي حافيا ، والجلوس في الشمس ليس هو من طاعة الله ، فلا ينعقد به النذر ، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا إسرائيل بإتمام الصوم دون غيره ، وهو محمول على أنه علم أنه لا يشق عليه ، وأمره أن يقعد ويتكلم ويستظل ، قال القرطبي : في قصة أبي إسرائيل : هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة على من نذر معصية ، أو ما لا طاعة فيه ، قال مالك لما ذكره : ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالكفارة ، انتهى كلام صاحب ) فتح الباري ( وقد قال الزمخشري في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها : وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت ، فقال ابن حجر في ) الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ( : لم أره هكذا ، وأخرج عبد الرزاق من حديث جابر بلفظ " لا صمت يوم إلى الليل " وفيه حزام بن عثمان وهو ضعيف ، ولأبي داود من حديث علي مثله ، وقد تقدم في تفسير سورة " النساء " .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فإما ترين ، معناه فإن تري من البشر أحدا ، فلفظة " إما " مركبة من " إن " الشرطية و " ما " المزيدة لتوكيد الشرط ، والأصل ترأيين على وزن تفعلين ، تحركت الياء التي هي لام الكلمة وانفتح ما قبلها وجب قلبها ألفا فصارت ترآين ، فحذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الراء ; لأن اللغة الفصحى التي هي الأغلب في كلام العرب حذف همزة رأى في المضارع والأمر ، ونقل حركتها إلى الراء فصارت تراين ، فالتقى الساكنان فحذف الأول وهو الألف ، فصار ترين فدخلت عليه نون التوكيد الثقيلة فحذفت نون الرفع من أجلها هي ، والجازم الذي هو " إن " الشرطية ; لأن كل واحد منهما بانفراده يوجب حذف نون الرفع ، فصار ترين ، فالتقى ساكنان هما الياء الساكنة والنون الأولى الساكنة من نون التوكيد المثقلة ; لأن كل حرف مشدد فهو حرفان ، فحركت الياء بحركة تناسبها وهي الكسرة فصارت ترين ، كما أشار إلى هذا ابن مالك في الخلاصة بقوله :


واحذفه من رافع هاتين وفي واو ويا شكل مجانس قفي
نحو اخشين يا هند بالكسر ويا قوم اخشون واضمم وقس مسويا
[ ص: 412 ] وما ذكرنا من أن همزة " رأى " تحذف في المضارع والأمر هو القياس المطرد في كلام العرب وبقاؤها على الأصل مسموع ، ومنه قول سراقة بن مرداس البارقي الأصغر :


أري عيني ما لم ترأياه كلانا عالم بالترهات
وقول الأعلم بن جرادة السعدي ، أو شاعر من تيم الرباب :


ألم ترأ ما لاقيت والدهر أعصر ، ومن يتمل الدهر يرأ ويسمع
وقول الآخر :
أحن إذا رأيت جبال نجد ولا أرأى إلى نجد سبيلا
ونون التوكيد في العمل المضارع بعد " إما " لازمة عند بعض علماء العربية ، وممن قال بلزومها بعد " إما " كقوله هنا : فإما ترين من البشر أحدا ، : المبرد والزجاج ، ومذهب سيبويه والفارسي وجماعة أن نون التوكيد في الفعل المضارع بعد " إما " غير لازمة ، ويدل له كثرة وروده في شعر العرب ، كقول الأعشى ميمون بن قيس :


فإما تريني ولي لمة فإن الحوادث أردى بها
وقول لبيد بن ربيعة :


فإما تريني اليوم أصبحت سالما فلست بأحيا من كلاب وجعفر
وقول الشنفرى :


فإما تريني كابنة الرمل ضاحيا على رقة أحفي ولا أتنعل
وقول الأفوه الأودي :


إما تري رأسي أزرى به مأسر زمان ذي انتكاس مئوس
وقول الآخر :


زعمت تماضر أنني إما أمت يسدد بنيوها الأصاغر خلتي
وقول الآخر :


يا صاح إما تجدني غير ذي جدة فما التخلي عن الخلان من شيمي
وأمثال هذا كثيرة في شعر العرب .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #260  
قديم 19-03-2022, 10:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (258)

سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 413 إلى صـ 418


والمبرد والزجاج يقولان : إن حذف النون في الأبيات المذكورة ونحوها إنما هو لضرورة الشعر ، ومن خالفهم كسيبويه والفارسي [ ص: 413 ] يمنعون كونه للضرورة ، ويقولون : إنه جائز مطلقا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ، لما اطمأنت مريم بسبب ما رأت من الآيات الخارقة للعادة التي تقدم ذكرها آنفا أتت به ) أي بعيسى ( قومها تحمله غير محتشمة ولا مكترثة بما يقولون ، فقالوا لها : يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، قال مجاهد وقتادة وغير واحد : " فريا " ، أي : عظيما ، وقال سعيد بن مسعدة : " فريا " أي : مختلقا مفتعلا ، وقال أبو عبيدة والأخفش : " فريا " أي : عجيبا نادرا .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يفهم من الآيات القرآنية أن مرادهم بقولهم لقد جئت شيئا فريا ، أي : منكرا عظيما ; لأن " الفري " فعيل من الفرية ، يعنون به الزنى ; لأن ولد الزنى كالشيء المفترى المختلق ; لأن الزانية تدعي إلحاقه بمن ليس أباه ، ويدل على أن مرادهم بقولهم " فريا " الزنى قوله تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] ، لأن ذلك البهتان العظيم الذي هو ادعاؤهم أنها زنت ، وجاءت بعيسى من ذلك الزنى ) حاشاها وحاشاه من ذلك ( هو المراد بقولهم لها : لقد جئت شيئا فريا ، ويدل لذلك قوله تعالى بعده : ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ، والبغي الزانية كما تقدم ، يعنون كان أبواك عفيفين لا يفعلان الفاحشة ، فما لك أنت ترتكبينها ! ومما يدل على أن ولد الزنى كالشيء المفترى قوله تعالى : ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن [ 60 \ 12 ] ، قال بعض العلماء : معنى قوله تعالى : ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ، أي : ولا يأتين بولد زنى يقصدن إلحاقه برجل ليس أباه ، هذا هو الظاهر الذي دل عليه القرآن في معنى الآية ، وكل عمل أجاده عامله فقد فراه لغة ، ومنه قول الراجز وهو زرارة بن صعب بن دهر :


وقد أطعمتني دقلا حوليا مسوسا مدودا حجريا قد كنت تفرين به الفريا
يعني : تعملين به العمل العظيم ، والظاهر أنه يقصد أنها تؤكله أكلا لما عظيما .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ياأخت هارون ، ليس المراد به هارون بن [ ص: 414 ] عمران أخا موسى ، كما يظنه بعض الجهلة ، وإنما هو رجل آخر صالح من بني إسرائيل يسمى هارون ، والدليل على أنه ليس هارون أخا موسى ما رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، وأبو سعيد الأشج ، ومحمد بن المثنى العنزي - واللفظ لابن نمير - قالوا : حدثنا ابن إدريس عن أبيه ، عن سماك بن حرب ، عن علقمة بن وائل ، عن المغيرة بن شعبة قال : لما قدمت نجران سألوني فقالوا : إنكم تقرءون : ياأخت هارون ، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال : " إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم " اهـ ، هذا لفظ مسلم في الصحيح ، وهو دليل على أنه رجل آخر غير هارون أخي موسى ، ومعلوم أن هارون أخا موسى قبل مريم بزمن طويل ، وقال ابن حجر في ) الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ( في قول الزمخشري : إنما عنوا هارون النبي ، ما نصه : لم أجده هكذا إلا عند الثعلبي بغير سند ، ورواه الطبري عن السدي قوله ، وليس بصحيح ، فإن عند مسلم والنسائي والترمذي عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا لي : أرأيتم شيئا تقرءونه " ياأخت هارون " وبين موسى وعيسى ما شاء الله من السنين ، فلم أدر ما أجيبهم . فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " هلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قبلهم " وروى الطبري من طريق ابن سيرين : نبئت أن كعبا قال : إن قوله تعالى ياأخت هارون ، ليس بهارون أخي موسى ، فقالت له عائشة : كذبت . فقال لها : يا أم المؤمنين ، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قال فهو أعلم ، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة . انتهى كلام ابن حجر .

وقال صاحب الدر المنثور في قوله تعالى : ياأخت هارون : أخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد وعبد بن حميد ، ومسلم والترمذي والنسائي ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن حبان والطبراني ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران . . . ، إلى آخر الحديث كما تقدم آنفا ، وبهذا الحديث الصحيح الذي رأيت إخراج هؤلاء الجماعة له ، وقد قدمناه بلفظه عند مسلم في صحيحه تعلم أن قول من قال : إن المراد هارون أخو موسى ، باطل سواء قيل إنها أخته ، أو أن المراد بأنها أخته أنها من ذريته ، كما يقال للرجل : يا أخا تميم ، والمراد يا أخا بني تميم ; لأنه من ذرية تميم ، ومن هذا القبيل قوله : واذكر أخا عاد [ 46 \ 21 ] ; لأن هودا إنما قيل له أخو عاد لأنه من ذريته ، فهو أخو بني عاد ، وهم المراد بعاد في الآية ; لأن [ ص: 415 ] المراد بها القبيلة لا الجد ، وإذا حققت أن المراد بهارون في الآية غير هارون أخي موسى ، فاعلم أن بعض العلماء ، قال : إن لها أخا اسمه هارون ، وبعضهم يقول : إن هارون المذكور رجل من قومها مشهور بالصلاح ، وعلى هذا فالمراد بكونها أخته أنها تشبهه في العبادة والتقوى ، وإطلاق اسم الأخ على النظير المشابه معروف في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن قوله تعالى : وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها الآية [ 43 \ 48 ] ، وقوله تعالى : إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين الآية [ 7 \ 27 ] ، وقوله تعالى : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] ، ومنه في كلام العرب قوله :


وكل أخ يفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
فجعل الفرقدين أخوين .

وكثيرا ما تطلق العرب اسم الأخ على الصديق والصاحب ، ومن إطلاقه على الصاحب قول القلاخ بن حزن :


أخا الحرب لباسا إليها جلالها وليس بولاج الخوالف أعقلا
فقوله : " أخا الحرب " يعني صاحبها .

ومنه قول الراعي ، وقيل لأبي ذؤيب :


عشية سعدى لو تراءت لراهب بدومة تجر دونه وحجيج
قلى دينه واهتاج للشوق إنها على النأي إخوان العزاء هيوج
فقوله " إخوان العزاء " يعني أصحاب الصبر .
قوله تعالى : فأشارت إليه .

معنى إشارتها إليه : أنهم يكلمونه فيخبرهم بحقيقة الأمر ، والدليل على أن هذا هو مرادها بإشارتها إليه قوله تعالى بعده : قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا [ 19 \ 29 ] ، فالفعل الماضي الذي هو " كان " بمعنى الفعل المضارع المقترن بالحال كما يدل عليه السياق ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى :

قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .

[ ص: 416 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أول كلمة نطق لهم بها عيسى وهو صبي في مهده أنه عبد الله ، وفي ذلك أعظم زجر للنصارى عن دعواهم أنه الله أو ابنه أو إله معه وهذه الكلمة التي نطق بها عيسى في أول خطابه لهم ذكرها الله جل وعلا عنه في مواضع أخر ، كقوله تعالى : وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم [ 5 \ 72 ] ، وقوله في " آل عمران " : إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم [ 3 \ 51 ] ، وقوله في " الزخرف " فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم [ 43 \ 62 - 64 ] ، وقوله هنا في سورة " مريم " : وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم [ 19 \ 39 ] ، وقوله : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله في هذه الآية الكريمة : آتاني الكتاب وجعلني نبيا ، التحقيق فيه إن شاء الله : أنه عبر بالماضي عما سيقع في المستقبل تنزيلا لتحقق الوقوع منزلة الوقوع ، ونظائره في القرآن كثيرة ، كقوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] ، وقوله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت إلى قوله : وسيق الذين كفروا [ 39 \ 68 - 71 ] ، وقوله تعالى : وسيق الذين اتقوا ربهم [ 39 \ 73 ] .

فهذه الأفعال الماضية المذكورة في الآيات بمعنى المستقبل ، تنزيلا لتحقق وقوعه منزلة الوقوع بالفعل ، ونظائرها كثيرة في القرآن ، وهذا الذي ذكرنا من أن الأفعال الماضية في قوله تعالى : آتاني الكتاب . . . إلخ ، بمعنى المستقبل هو الصواب إن شاء الله ، خلافا لمن زعم أنه نبئ وأوتي الكتاب في حال صباه لظاهر اللفظ ، وقوله : وجعلني مباركا ، أي : كثير البركات ; لأنه يعلم الخير ويدعو إلى الله ، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية : مباركا أين ما كنت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : نفاعا حيث كنت ، وقال ابن حجر في ) الكافي الشافي ( : أخرجه أبو نعيم ) في الحلية ( في ترجمة يونس بن عبيد عن الحسن عن أبي هريرة بهذا وأتم ، وقال : تفرد به هشيم عن يونس ، وعنه شعيب بن محمد الكوفي ، ورواه ابن مردويه من هذا الوجه . اهـ .

وقوله في هذه الآية الكريمة وبرا بوالدتي قال الحوفي وأبو البقاء : هو [ ص: 417 ] معطوف على قوله : وجعلني مباركا ، وقال أبو حيان ) في البحر ( : وفيه بعد للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة التي هي " أوصاني " ومتعلقها ، والأولى أنه منصوب بفعل مضمر ، أي : وجعلني برا بوالدتي ، ولما قال بوالدتي ولم يقل بوالدي علم أنه أمر من قبل الله ، كما ذكره القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقد قدمنا معنى " الجبار والشقي " وقال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية : " شقيا " أي : خائبا من الخير ، وقال ابن عباس : عاقا ، وقيل عاصيا لربه ، وقيل : لم يجعلني تاركا لأمره فأشقى كما شقي إبليس . انتهى كلام القرطبي .
تنبيه

احتج مالك رحمه الله بهذه الآية على القدرية ، قال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية : ما أشدها على أهل القدر ! أخبر عيسى عليه السلام بما قضي من أمره وبما هو كائن إلى أن يموت . اهـ .
قوله تعالى : ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ، اعلم أن هذا الحرف فيه قراءتان سبعيتان : قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي " قول الحق " [ 19 \ 34 ] بضم اللام ، وقرأه ابن عامر وعاصم قول الحق بالنصب .

والإشارة في قوله " ذلك " راجعة إلى المولود المذكور في الآيات المذكورة قبل هذا ، وقوله " ذلك " مبتدأ ، " وعيسى " خبره ، و " ابن مريم " نعت لـ " عيسى " وقيل : بدل منه ، وقيل : خبر بعد خبر .

وقوله : قول الحق على قراءة النصب مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، وإلى نحوه أشار ابن مالك بقوله في الخلاصة :


والثاني كابني أنت حقا صرفا
وقيل : منصوب على المدح . وأما على قراءة الجمهور بالرفع فـ " قول الحق " خبر مبتدأ محذوف - أي : هو - أي : نسبته إلى أمه فقط قول الحق ، قاله أبو حيان ، وقال الزمخشري : وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر ، أو بدل ، أو خبر مبتدأ محذوف .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : اعلم أن لفظة " الحق " في قوله هنا " قول الحق " فيها للعلماء وجهان :

[ ص: 418 ] الأول : أن المراد بالحق ضد الباطل بمعنى الصدق والثبوت ، كقوله : وكذب به قومك وهو الحق ، وعلى هذا القول فإعراب قوله " قول الحق " على قراءة النصب أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كما تقدم ، وعلى قراءة الرفع فهو خبر مبتدأ محذوف كما تقدم ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى في " آل عمران " في القصة بعينها : الحق من ربك فلا تكن من الممترين [ 3 \ 60 ] .

الوجه الثاني : أن المراد بالحق في الآية الله جل وعلا ; لأن من أسمائه " الحق " كقوله : ويعلمون أن الله هو الحق المبين [ 24 \ 25 ] ، وقوله : ذلك بأن الله هو الحق الآية [ 22 \ 62 ] ، وعلى هذا القول فإعراب قوله تعالى قول الحق [ 19 \ 34 ] على قراءة النصب أنه منصوب على المدح ، وعلى قراءة الرفع فهو بدل من " عيسى " أو خبر ، وعلى هذا الوجه فـ " قول الحق " ، هو " عيسى " كما سماه الله كلمة في قوله : وكلمته ألقاها إلى مريم [ 4 \ 171 ] ، وقوله : إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح الآية [ 3 \ 45 ] ، وإنما سمي " عيسى " كلمة لأن الله أوجده بكلمته التي هي " كن " فكان ، كما قال : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن [ 3 \ 59 ] ، والقول والكلمة على هذا الوجه من التفسير بمعنى واحد .

وقوله : الذي فيه يمترون أي : يشكون ، فالامتراء افتعال من المرية وهي الشك ، وهذا الشك الذي وقع للكفار نهى الله عنه المسلمين على لسان نبيهم في قوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين [ 3 \ 59 - 60 ] ، وهذا القول الحق الذي أوضح الله به حقيقة الأمر في شأن عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بعد نزوله على نبينا صلى الله عليه وسلم أمره ربه أن يدعو من حاجه في شأن عيسى إلى المباهلة ، ثم أخبره أن ما قص عليه من خبر عيسى هو القصص الحق ، وذلك في قوله تعالى : فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق الآية [ 3 \ 61 - 62 ] ، ولما نزلت ودعا النبي صلى الله عليه وسلم وفد نجران إلى المباهلة خافوا الهلاك وأدوا [ الجزية ] كما هو مشهور .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 400.66 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 394.60 كيلو بايت... تم توفير 6.06 كيلو بايت...بمعدل (1.51%)]